شخصيات ومواقف

شخصيات ومواقف0%

شخصيات ومواقف مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 244

  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40314 / تحميل: 7038
الحجم الحجم الحجم
شخصيات ومواقف

شخصيات ومواقف

مؤلف:
العربية

فِتية الكهف

وهذا مُلخَّص قِصَّتهم:

* في (قصص الأنبياء) للراوندي، بإسناده إلى ابن عباس.. إنّ قوماً مِن أحبار اليهود أتَوا عمرَ بن الخطَّاب في عهده، فسألوه أسئلةً فنكس رأسَه، ثمّ قال للإمام عليِّ (عليه السلام): يا أبا الحسن، ما أرى جوابَهم إلاَّ عندك.

فاشترط أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) أنْ إذا أخبرهم بما في التوراة دخلوا في الإسلام، فقالوا: نعم.

فأجابهم، وكانوا ثلاثة، فوثب اثنانِ وقالا: أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله. فوقف الحَبْر الآخر وقال: يا عليّ، لقد وقع في قلبي ما وقع في قلوب أصحابي، ولكنْ بقيَت خِصلة أسألك عنها. فقال (عليه السلام):(سَلْ) . قال: أخبرْني عن قومٍ كانوا في أوَّل الزمان فماتوا ثلاثمائةٍ وتسعَ سنين، ثمَّ أحياهمُ الله.. ما كانت قصَّتُهم؟

فابتدأ علي (عليه السلام) وأراد أنْ يقرأ سورة الكهف، فقال الحَبر: ما أكثرَ

٢١

ما سمعنا قراءتكم! فإنْ كنت عالماً فأخبِرْنا بقِصَّة هؤلاءِ وبأسمائهم وعددهم، واسم كلبهم واسم كهفهم، واسم مَلِكهم، واسم مدينتهم.

فقال عليٌّ (عليه السلام):(لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم! يا أخا اليهود، حدَّثني محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه كان بأرض الروم مدينة يُقال لها: (أقسوس)، وكان لهم مَلِك صالح فمات مَلِكهم، فاختلفت كلمتهم. فسمع مَلك مِن ملوك فارس يُقال له: (دقيوس)، فأقبل في مئة ألفٍ حتَّى فتح مدينة أقسوس، فاتَّخذها دار مملكته واتَّخذ فيها قصراً... ثمَّ علا على السرير فوضع التاج على رأسه .

فوثب اليهوديّ فقال: مِمَّ كان تاجه؟ قال:(مِن الذهب المُشبَّك، له سبعة أركان، على كلِّ ركن لؤلؤة بيضاء كضوء الصبح في الليلة الظلماء... فلمَّا نظر الملِك إلى ذلك عتا وتجبَّر، فادَّعى الربوبيَّة مِن دون الله، ودعا إلى وجوه قومه.. فكلُّ مَن أطاعه إلى ذلك أعطاه وكساه، وكلُّ مَن لم يُبايعه قتله. فاستجابوا له رأساً، واتَّخذ لهم عيداًفي كلِّ سنةٍ مَرَّة .

فبينا هم ذاتَ يومٍ في عيدٍ لهم، والبطارقة عن يمينه والهراقلة عن يساره.. إذ أتاه بطريق فأخبره أنَّ عساكر الفُرس قد غشيتْه، فاغتمَّ لذلك حتَّى سقط التاج عن ناصيته. فنظر إليه أحد الثلاثة الذين كانوا عن يمينه يُقال له :(تلميخا). وكان له غلاماً، فقال في نفسه: لو كان دقيوس إلهاً - كما يزعم - إذنْ ما كان يغتمُّ ولا يفزع ولا يبول ولا

٢٢

يتغوَّط، وما كان ينام.. وليس هذا مِن فعل الإله .

وكان الفتية كلَّ يومٍ عند أحدهم، وكانوا ذلك اليوم عند تلميخا، فاتَّخذ لهم مِن طيِّب الطعام، ثمَّ قال لهم: يا إخوتاه، قد وقع في قلبي شيء منعني الطعام والشراب والمنام، قالوا: وما ذاك - يا تلميخا -؟! قال: أطلت فكري في هذه السماء.. فقلت: مَن رفع سقفها محفوظةً بلا عَمَد ولا علاقة مِن فوقها؟ ومَن أجرى فيها شمساً وقمراً آيتانِ مُبصرتان؟! ومَن زيَّنها بالنجوم؟! ثمَّ أطلت الفكرَ في الأرض، فقلتُ: مَن سطَّحها على صميم الماء الزَخَّار؟! وَمن حبسها بالجبال أنْ تَميد على كلِّ شيء؟ وأطلت فكري في نفسي مَن أخرجني جنيناً مِن بطن أُمِّي؟! ومَن غذَّاني ومَن ربَّاني ؟!

إنَّ لها صانعاً مُدبِّرا غير دقيوس المَلِك. وما هو إلاَّ ملِك الملوك وجبَّار السماوات .

فانكبَّت الفتية على رجلَيهِ يُقبِّلونهما، وقالوا: بك هدانا الله مِن الضَلالة إلى الهُدى، فأشِرْ علينا. فوثب تمليخا فباع تمراً مِن حائط له (١) بثلاثة آلاف درهم، وصرَّها في رُدنه، وركبوا خيولهم وخرجوا مِن المدينة .

فلمَّا ساروا ثلاثة أميال قال لهم تمليخا: يا إخوتاه، جاءت مَسكنة الآخرة وذهب مُلْك الدنيا.. انزلوا عن خيولكم وامشوا على

____________________

١ - أي بُستان.

٢٣

أرجلكم، لعلَّ الله أنْ يجعل لكم مِن أمركم فرَجاً ومَخرجاً. فنزلوا عن خيولهم ومشوا على أرجُلهم سبعة فراسخ في ذلك اليوم، فجعلت أرجلهم تقطر دماً .

فاستقبلهم راعٍ، فقالوا: يا أيُّها الراعي، هلْ شربةِ لبن أو ماء؟ فقال الراعي: عندي ما تُحبُّون، ولكنْ أرى وجوهكم مِن وجوه الملوك، وما أظنُّكم إلاَّ هِراباً مِن دقيانوس المَلك. قالوا: يا أيُّها الراعي، لا يحلُّ لنا الكذب، أفيُنجينا منك الصدق؟ فأخبروه بقصَّتهم، فانكبَّ الراعي على أرجُلهم يُقبِّلها ويقول: يا قوم، لقد وقع في قلبي ما وقع في قلوبكم، ولكنْ أمهلوني حتَّى أردَّ الأغنام على أربابها وألحقَ بكم. فتوقَّفوا له، فردَّ الأغنام وأقبل يسعى يتْبعه الكلب) .

فوثب اليهوديُّ فقال: يا عليّ، ما اسم الكلب وما لونه؟ فقال له عليّ (عليه السلام):(لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم.. أمَّا لون الكلب فكان أبلقَ بسواد، وأمَّا اسم الكلب فـ (قطمير) .

فلمَّا نظر الفتية إلى الكلب قال بعضهم: إنَّا نخاف أنْ يفضحنا الكلب بنباحه. فألحُّوا عليه بالحجارة، فأنطق اللهُ الكلبَ وقال: ذروني حتَّى أحرسَكم مِن عدوِّكم .

فلم يَزلْ الراعي يسير بهم، حتَّى علاهم جبلاً فانحطَّ به على كهفٍ يُقال له: (الوصيد)، فإذا بفِناء الكهف عيونٌ وأشجار مُثمرة، فأكلوا مِن الثمر وشربوا مِن الماء، وجنَّهمُ الليل .

٢٤

فأوحى الله تعالى إلى مَلَك الموت بقبض أرواحهم، ووكَّلَ اللهُ بكلِّ رجلٍ مَلَكينِ يُقلِّبانهِ مِن ذات اليمن إلى ذات الشمال، وأوحى الله إلى خُزَّان الشمس، فكانت تَزاوَرُ كهفهم ذات اليمين وتقرضهم ذات الشمال .

فلمَّا رجع دقيوس مِن عيده سأل عن الفتية، فأُخبر أنَّهم خرجوا هرَباً، فركب.. فلم يزل يقفو أثرهم حتَّى علا فانحطَّ إلى كهفهم. فلمَّا نظر إليهم فإذا هم نيام، فقال المَلك: لو أردت أنْ أُعاقبهم بشيءٍ لَما عاقبتهم بأكثر ممَّا عاقبوا أنفسهم، ولكنِ ائتوني بالبنَّائين. فسدَّ باب الكهف بالكِلْس والحجارة، وقال لأصحابه: قولوا لهم: يقولوا لإلهِهم في السماء: لِيُنجّيَهم، وأنْ يُخرجهم مِن هذا الموضع) .

قال عليٌّ (عليه السلام):(يا أخا اليهود، فمكثوا ثلاثمئة وتسعَ سنين، فلمَّا أنْ أراد الله أنْ يُحيِيهم أمر إسرافيلَ أنْ ينفخ فيهمُ الروح، فنفخ، فقاموا مِن رقدتهم...

فأقبل تمليخا (مِن السوق) حتَّى دخل الكهف، فلمَّا نظروا إليه اعتنقوه وقالوا: الحمد لله الذي نجَّانا مِن دقيوس، قال تمليخا: دعوني عنكم وعن دقيوسكم، كمْ لبثتم؟! قالوا: لبثْنا يوماً أو بعض يوم، قال تمليخا: بلْ لبثتم ثلاثمئة وتسع سنين، وقد مات دقيوس وقرن بعد قرن، وبعث الله نبيَّاً يقال له: (المسيح عيسى بنُ مريم) ورفعه الله إليه ..

٢٥

قالوا: يا تمليخا، أتُريد أنْ تجعلنا فتنةً للعالمين؟! قال تمليخا: فما تُريدون؟ قالوا: ادعُ الله (جلّ ذِكْرهُ) وندعو معك حتَّى يقبضَ أرواحنا. فرفعوا أيديَهم، فأمر الله تعالى بقبض أرواحهم، وطمس اللهُ باب الكهف على الناس...) .

ثمّ قال الإمام عليّ (عليه السلام):(يا يهوديّ، أيوافق هذا ما في توراتِكم؟! قال: ما زدتَ حرفاً ولا نقصت، وأنا أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله) (١) .

هذه قصَّة أصحاب الكهف، الذين وضعونا أمام عِدَّة دروس،

منها: أنَّ أرض الله واسعة، فإنْ امتنع على أحد أنْ يعبد الله في ناحية مِن الأرض، فسَتسَعُه لعبادة الله أرض أُخرى. وقد قال تعالى - في مُحكَم تنزيله الكريم -:( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الملاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) (٢) ، وقال عزَّ مِن قائل:( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِِ ) (٣) .

والمعنى: اعبُدوني وحدي ولا تعبدُوا غيري، فإنْ لم يُمْكِنْكُم

____________________

١ - قَصص الأنبياء، للجزائري (باب في قِصَّة أصحاب الكهف والرقيم) مُختصراً: ٤٤١ - ٤٤٦. وهنالك بحث مُفصَّل حول هذه القصَّة مدعوم بوثائق أثريَّة (جغرافيَّة وتاريخيَّة) تجده في تفسير الميزان ١٣: ٢٧٨-٢٩٩.

٢ - النساء: ٩٧.

٣ - العنكبوت: ٥٦.

٢٦

عبادتي في مكانٍ مِن الأرض، فهاجروا إلى غيرها واعبدوني فيها وحدي.

ومنها: أنَّ الإيمان فتوَّة وحيويَّة. فقد جاء عن سليمان بن جعفر الهمدانيّ أنَّه قال: قال لي جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام):(يا سليمان، مَنِ الفتى؟!) ، فقلت له: جُعلت فِداك، الفتى عندنا الشابُّ. قال لي:(أما علمتَ أنَّ أصحاب الكهف كانوا كُهولاً فسمَّاهم الله فتيةً بإيمانهم؟! يا سليمان، مَن آمنَ بالله واتَّقى فهو الفتى) (١) .

ومنها: أنَّ لكِتمان الإيمان في حال التقيَّة ثوابَه، كما للإيمان ثوابه.

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:(إنَّ أصحابَ الكهف أسرُّوا الإيمانَ وأظهروا الكفر.. فآجَرَهمُ اللهُ مرَّتين) (٢) .

ومِن هنا كان أبو طالب (رضي الله عنه) قد حظي بمنزلةٍ عاليةٍ عند الله، وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، حتَّى روى اليعقوبيُّ قائلاً: لمَّا قيل لرسول الله: إنَّ أبا طالب قد مات.. عظُم ذلك في قلبه واشتدَّ له جزعه، ثمَّ دخل فمسح جبينَه الأيمن أربع مرَّات، وجبينه الأيسر ثلاثَ مرَّات، ثمّ قال:(ياعمُّ، ربَّيت صغيراً، كفلتَ يتيماً، ونصرتَ كبيراً، فجزاك اللهُ عنِّي خيراً) . ومشى بين يدي سريره، وجعل يعرضه ويقول:(وصلتْك

____________________

١ - تفسير العيَّاشيّ - سورة الكهف / آية ١٠.

٢ - تفسير العيَّاشيّ - سورة الكهف / آية ١٠.

٢٧

رَحِمٌ وجُزيتَ خيراً) (١) .

أجل.. فقد كان أبو طالب (رحمه الله) مؤمناً يكتم إيمانه على كفَّار قريش؛ مخافةً على بني هاشم أنْ تنبذهم قريش.

* عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال:(إنَّ مَثَل أبي طالب مَثَلُ أصحاب الكهف، أسرُّوا الإيمان و أظهروا الشرك، فآتاهم اللهُ أجرهم مرَّتين) (٢) .

* وعن عبد الرحمان بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام):(أتى جبرائيل في بعض ما كان عليه، فقال: يا محمّد، إنَّ ربَّك يُقرئك السلام ويقول لك: إنَّ أصحاب الكهف أسرُّوا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرَّتين، وإنَّ أبا طالب أسرَّ الإيمان وأظهر الشرك، فآتاه اللهُ أجره مرَّتين.. وما خرج مِن الدنيا حتَّى أتتْه البشارةُ مِن الله تعالى بالجَنَّة.. وقد نزل جبرائيلُ ليلة مات أبو طالبٍ فقال: يا محمّد، أخرجْ مِن مَكَّة، فمالك بها ناصر بعد أبي طالب) (٣) .

____________________

١ - تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٦، ويُراجَع في ذلك وغيره: دلائل النبوَّة، للبيهقي. وتاريخ بغداد، للخطيب البغدادي ١٣: ١٩٦. ويُراجَع ابن كثير ٣: ١٢٥. وتذكرة خواصِّ الأُمَّة، لسبط ابن الجوزي: ٦.. وغيرها كثير.

٢ - أمالي الصدوق: ٣٦، وروضة الواعظين، لابن فتَّال النيسابوري: ١٢١.

٣ - ضياء العالمين، للفتوني. وتفسير أبي الفتوح الرازي٤: ٢١٢. وبحار الأنوار، للعلاَّمة المجلسي١٩: ١٤.. وغيرها مِن المصادر ذكرها العلاَّمة الأميني في أثره المُبارَك (الغدير)٧: ٣٩٠.

٢٨

سلمان المحمَّدي

وأمَّا في صدر الإسلام.. فشخصيَّة (سلمان الفارسيّ - المحمّدي -) تأتي في طليعة الباحثين عن الحقيقة، والمُقتفين آثارَ النبوَّة عِبر مئات السنين، في رحلةٍ شاقَّةٍ هرب فيها مِن أجواء الشرك. دعونا نقرأ قصَّة سلمان وهو يحكيها لعبد الله بن عبّاس، قائلاً له:

كنت رجلاً مِن أهل أصفهان مِن قريةٍ يُقال لها: (جي)، وكان أبي دهقان قومه(١) ، وكان يُحبُّني حُبَّاً شديداً.. يحبسني في البيت كما تُحبس الجارية. وكنت صبيَّاً لا أعلم مِن أمر الناس إلاَّ ما أرى مِن المجوسيَّة، حتَّى إنَّ أبي بنى بُنياناً وكان ضيعة، فقال: يا بُنيّ، شغلني مِن اطِّلاع الضيعة ما ترى، فانطلقْ إليها ومُرْهم بكذا وكذا، ولا تحبس عنِّي(٢) .

فخرجت أُريد الضيعة، فمررت بكنيسة النصارى فسمعتُ

____________________

١ - الدِّهقان: رئيس القرية، ورئيس الإقليم، ومَن له مال وعقار، والتاجر، ومَن كان قويَّاً على التصرُّف مع شِدَّة خُبرة.

٢ - في نسخة أُخرى: ولا تحتبسْ عنِّي.

٢٩

أصواتَهم، فقلت: ما هذا؟! قالوا: هؤلاء النصارى يُصلُّون، فدخلتُ أنظر، فأعجبني ما رأيت مِن حالهم. فو الله، ما زلت جالساً عندهم حتَّى غربت الشمس، وبعث أبي في طلبي في كلِّ وجه، حتَّى جئتُه حين أمسيت ولم أذهب إلى ضيعته. فقال أبي: أين كنت؟ قلت: مررت بالنصارى فأعجبني صلاتُهم ودعاؤهم. فقال: أيْ بُنيّ، إنَّ دين آبائك خير مِن دينهم، فقلت: لا والله، ما هذا بخير مِن دينهم، هؤلاءِ قوم يعبدون اللهَ ويَدْعونه ويصلُّون له، وأنت إنِّما تعبد ناراً أوقدتَها بيدك، إذا تركتَها ماتت.

فجعل في رُجلي حديداً وحبسني في بيتٍ عنده، فبعثتُ إلى النصارى فقلت: أين أصْل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، قلت: إذا قدِم عليكم مِن هناك ناس فأْذنوني، قالوا: نفعل. فبعثوا بعدُ أنَّه قَدِم تُجَّار، فبعثتُ إذا قضَوا حوائجهم وأرادوا الخروج فأْذنوني به. قالوا: نفعل.

ثمَّ بعثوا إليَّ بذلك، فطرحتُ الحديدَ مِن رُجْلي وانطلقتُ معهم، فلمَّا قدِمتُ إلى الشام قلت: مَن أفضل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف صاحب الكنيسة. فجئت فقلت: إنِّي أحببتُ أنْ أكون معك وأتعلَّمَ منك الخير. قال: فكنْ معي. فكنت معه.. وكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة، فإذا جمعوها اكتنزها ولم يُعطها المساكين منها ولا بعضها. فلم يلبث أنْ مات، فلمَّا جاؤوا أنْ يدفنوه قلتُ: هذا رجل سوء!

٣٠

ونبَّهتُهم على كنزه، فأخرجوا سبع قِلال مملوَّة ذهباً، فصلبوه على خشبة ورمَوه بالحجارة، وجاءوا برجلٍ آخر فجعلوه مكانه.

فلا والله - يا ابن عبّاس - ما رأيت رجلاً قطُّ أفضلَ منه، وأزهدَ في الدنيا، وأشدَّ اجتهاداً منه، فلم أزلْ معه حتَّى حضرتْه الوفاة، وكنت أُحبُّه، فقلت: يا فلان، قد حضرك ما ترى مِن أمر الله، فإلى مَن تُوصي بي؟ قال: أيْ بُنيّ، ما أعلم إلاَّ رجلاً بالموصل، فأْتِه فإنَّك ستجده على مثْل حالي. فلمَّا مات وغُيِّب.. لحقت بالموصل، فأتيته فوجدته على مثل حاله مِن الاجتهاد والزُّهادة، فقلت له: إنَّ فلاناً أوصى بي إليك، فقال: يا بنيّ، كُنْ معي. فأقمتُ عنده حتَّى حضرتْه الوفاة، قلت: إلى مَن توصي بي؟ قال: ما أعلم إلاَّ رجلاً بـ (عَمُّوريَّة) مِن أرض الروم، فأتهِ فإنَّك ستجده على مثل ما كنَّا عليه. فلمَّا واريتُه خرجت إلى (عَمُّوريَّة) فأقمت عنده فوجدته على مثل حالهم، واكتسبتُ غُنيمةً وبقرات، إلى أنْ حضرته الوفاة، فقلت: إلى مَن توصي بي؟ قال: لا أعلم أحداً على مثل ما كنَّا عليه، ولكنْ قد أظلَّك زمانُ نبيٍّ يُبعَث مِن الحرم، مَهاجره بين حرَّتين إلى أرضٍ ذات سبخة ذات نخل، وإنَّ فيه علاماتٍ لا تخفى: بين كتفَيهِ

٣١

خاتَم النبوُّة، يأكل الهديَّة، ولا يأكل الصدقة، فإنْ استطعت أنْ تمضيَ إلى تلك البلاد فافعل.

فلمَّا واريناه أقمت حتَّى مرَّ رجال مِن تُجَّار العرب مِن كلب، فقلت لهم: تحملوني معكم حتَّى تُقدِّموني أرضَ العرب وأُعطيكم غُنيمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم. فأعطيتهم إيَّاها، وحملوني، حتَّى إذا جاءوا بي وادي القُرى ظلموني وباعوني عبداً مِن رجلٍ يهوديٍّ. فواللهِ، لقد رأيت النخل وطمعت أنْ يكون البلدَ الذي نعتَ لي فيه صاحبي. حتَّى قَدِم رجل مِن بني قريظة مِن يهود وادي القُرى، فابتاعني مِن صاحبيَ الذي كنت عنده، فخرج حتَّى قَدِم بيَ المدينة. فوالله، ما هو إلاَّ أنْ رأيتها وعرفت نعتها، فأقمت مع صاحبي، وبعث اللهُ رسولَه بمَكَّة لا يُذكَر لي شيء مِن أمره، مع ما أنا فيه مِن الرِقِّ.

حتَّى قَدِم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قِبا)، وأنا أعمل لصاحبي في نخلٍ له. فوالله، إنِّي لكذلك.. إذ جاء ابن عمٍّ له فقال: قاتل الله بني قيلة(١) . والله، إنَّهم لفي (قِبا) يجتمعون على رجلٍ مِن مَكَّة يزعمون أنَّه نبيٌّ. فواللهِ، ما هو إلاَّ قد سمعتها فأخذتْني الرعدة حتَّى ظننتُ لأسقطنَّ على صاحبي، ونزلتُ أقول: ما هذا الخبر؟! ما هو؟! فرفع مولاي يدَه فلكَمني، فقال: مالك ولهذا؟ أقبِل على عملك.

فلمَّا أمسيت.. وكان عندي شيء مِن طعام، فحملته وذهبتُ إلى

____________________

١ - قيلة: أُمُّ الأوس والخزرج.

٣٢

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بـ (قِبا) فقلت: بلغني أنَّك رجل صالح، وأنَّ معك أصحاباً، وكان عندي شيءٌ مِن الصدقة فها هو ذا، فكُلْ منه. فأمسك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لأصحابه:(كُلوا) . ولم يأكل، فقلت في نفسي: هذه خِلَّة ممَّا وصف لي صاحبي، ثمَّ رجعت وتحوَّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، فجمعت شيئاًً كان عندي، ثمَّ جئتهُ به فقلت: إنِّي قد رأيتك لا تأكل مِن الصدقة، وهذه هديَّة وكرامة ليست مِن الصدقة. فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكل أصحابه، فقلت: هاتان خِلَّتان. ثمَّ جئتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتْبع جَنازة وعليه شَملتان، وهو في أصحابه، فاستدرت به لأنظر إلى الخاتم في ظهره، فلمَّا رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استدبرته عرفَ أنِّي أستثبت شيئاً قد وُصِف لي، فرفع رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتَم بين كَتْفَيهِ كما وصف لي صاحبي، فأكببتُ عليه أُقبِّله وأبكي. فقال: تحوَّلْ يا سلمان هنا. فتحوَّلت وجلست بين يديه، وأحبَّ أنْ يُسمع أصحابُه حديثي عنه، فحدَّثته - يا ابن عبَّاس - كما حدَّثتك..(١) .

ثمَّ كاتبه النبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الرقُّ قد حبس سلمانَ حتَّى فاته مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بدرٌ وأُحد، ثمَّ إذا عُتق لم يفتْه معه مشهد مِن الخندق (معركة الأحزاب) فما بعدها.

وانطلق سلمان (رضي الله عنه) يدعو إلى الإسلام ويُجاهد دونه، ويروي عن

____________________

١ - بحار الأنوار ٢٢: ٣٦٢-٣٦٥، عن قَصص الأنبياء للراوندي.

٣٣

المُصطفى الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ويُبيّن حقائق الدين ومعالمَه. وقد مَثَّل الإنسانَ الباحث عن الحقيقة، والرجلَ الذي شدَّ ركائبه إلى الله تعالى في رحلةٍ روحيَّة، امتدَّت مِن صباه حتَّى كُهولته وحتَّى وفاته.

وكانت عيناه تبحث عن معالم الحقِّ، وكان قلبه يهفو إلى أنوار اليقين، وكانت قدماه في سفرٍ نحو موطن الهُدى، حتَّى التقى بالمُصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.. فآمن به، ولم يؤمن على عَمى، بلْ تقصَّى الأخبار، واقتفى الآثار، وتحقَّق في الأُمور، فإذا تيقَّن انكبَّ على عَتبة الإيمان يتلو: أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله. شهادةً انطلقت مِن أعماق عقله ووسط قلبه، ومِن كلِّ ضميره.

فواكب الرسالة حتَّى انغمر فيها، وصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتَّى أُشرِب مودَّته ومودَّة قُرباه، وتثبَّت على الولاية حتَّى عُدَّ مِن أركان الإسلام مع أبي ذَرٍّ والمُقداد وعمَّار. ولم يخرج مِن الدنيا إلاَّ بسيرة محمودة تتمثَّلها الأجيال إعجاباً واقتداءً، وهو الذي قال فيه نبيُّنا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:(سلمانُ مِنَّا أهل البيت) (١) .

____________________

١ - بحار الأنوار ٢٢: ٣٢٦ عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق. والاحتجاج، لأبي منصور الطبرسيّ: ٢٦٠.

٣٤

السيّد الحِمْيَريّ

والمثال الآخر مِن أمثلة الموفَّقين إلى معرفة الحقِّ، وتمييزه عن الضَّلال والباطل.. الشاعر السيِّد الحِمْيريّ.

تعالوا - أخوتَنا الأفاضل - نتعرَّف عليه.

هو إسماعيل بن محمّد بن يزيد الحميريّ، يُكنَّى بـ (أبي هاشم وأبي عامر)، ويُلقَّب مُنذ صِغَر سِنِّه بـ (السيِّد (. قال الكشِّي في رجاله: رُوي أنَّ أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) لقي السيِّد الحميريّ فقال له:(سمَّتْك أُمُّك سيِّداً، وُفِّقت في ذلك، وأنت سيِّد الشعراء) (١) .

وُلِد بـ (عُمان) سنة ١٠٥ هـ، ونشأ بالبصرة، وقد نظم فأكثر. ذكر ابن المُعتزِّ في (طبقات الشعراء) أنَّه رُؤي حمَّالٌ في بغداد مُثقَل، فسُئل عن حمله فقال: ميميَّات السيِّد. وللسيِّد الحميريّ مُناظرات ومُحاججات مع القاضي سوار وغيره. وكان إذا جلس في مجلس لا يدع أحداً يتكلَّم إلاَّ بفضائل آل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فكان يوماً في مجلسٍ خاضَ فيه الناس في ذِكر النخل والزرع، فغضب السيِّد

____________________

١ - رجال الكشِّيّ: ١٨٦.

٣٥

وقام، فقيل له: مِمَّ القيام يا أبا هاشم؟! فأنشد يقول:

إنِّي لأكره أن أُطيلَ بمجلسٍ لا ذِكْر فيه لآل بيتِ محمّدِ

لا ذِكْرَ فيه لأحمدٍ ووصيِّهِ وبنيهِ ذلك مجلس قَصِفٌ ردي

إنَّ الذي ينساهمُ في مجلسٍ حتَّى يُفارقَه لَغيرُ مُسَدَّدِ

ذكره ابن شهر آشوب في شعراء أهل البيت المُجاهرين. وقد استنفذ شعره في مدحهم، ولم يترك منقبةً لأمير المؤمنين عليّ (صلوات الله عليه) إلاَّ نظم فيها شعراً(١) .

وذكر له العلاَّمة الأمينيّ في (الغدير)(٢) عشر غديريَّات رائعة، امتازت إحداهنَّ بتوفيقٍ خاصٍّ، وهي عينيَّته التي يقول فيها:

لأُمِّ عَمْرٍ باللّوى مَربعُ طامسةٌ أعلامَها بَلقعُ

تروع عنها الطيرُ وحشيَّةً والوحش مِن خيفته تفزعُ

لمَّا وقفتُ العِيسَ في رسمها والعينُ مِن عرفانها تدمعُ

ذكرتُ مَن قد كنتُ ألهو بهِ فبتُّ والقلبُ شَجٌ مُوجَعُ

كأنَّ بالنارِ لِما شفَّني مِن حُبِّ (أروى) كبِدي لُدَّعُ

عجِبتُ مِن قومٍ أتوا أحمداً بخُطَّةٍ ليس لها موضعُ

قالوا له لو شِئتَ أخبرتَنا إلى مَن الغايةُ والمَفزعُ

إذا تُوفِّيتَ وفارقْتَنا وفيهمُ في المُلْك مَن يطمعُ

____________________

١ - يُراجع أدب الطفِّ أو شعراء الحسين (عليه السلام) للسيِّد جواد شُبَّر ١: ٢٠٠- ٢٠٧.

٢ - يُراجع الجزء الثاني منه ص ٢١٣-٢٧٨.

٣٦

فقال لو أعلمتُكم مَفْزَعاً كنتم عَسيتُم فيه أنْ تصنعوا

صنيعَ أهلِ العِجْلِ إذْ فارقوا هارونَ.. فالتَّركُ له أوسعُ

وفي الذي قال بيانٌ لِمَن كان إذا يَعقلُ أو يسمعُ

ثمَّ أتتْه بعدَ ذا عَزْمةٌ مِن ربِّهِ ليس لها مَدفعُ

بلِّغْ.. وإلاَّ لم تكن مُبْلِغاً واللهُ منهم عاصمٌ يمنعُ

فعندها قام النبيُّ الذي كان بما يُؤمرْ به يَصدعُ

يَخطب مأموراً وفي كَفِّهِ كَفُّ عليٍّ ضاهرٌ تلمعُ

رافعُها أكرِمْ بكفِّ الذي يرفعُ والكفِّ التي تُرفَعُ

يقول والأملاكُ مِن حولهِ واللهُ فيهم شاهدٌ يسمعُ

مَن كنتُ مولاهُ فهذا لَهُ مولىً.. فلم يرضَوا ولم يقنعوا

فاتَّهمُوهُ وحنَتْ فيهمُ على خلاف الصادقِ الأضلُعُ

وضلَّ قومٌ غاضهم فعلُه كأنَّما آنافُهم تُجدعُ

حتَّى إذا وارَوه في لحدِهِ وانصرفوا عن دفنِه.. ضيَّعوا

ما قال بالأمس وأوصى بهِ واشترَوُا الضُرَّ بما يَنفعُ

قال العلاَّمة المجلسي(١) : وجدتُ في بعض تأليفات أصحابنا أنَّه رُوي بإسنادٍ عن سهل بن ذبيان، قال: دخلتُ على الإمام عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في بعض الأيَّام، قبل أنْ يدخل عليه أحدٌ مِن الناس، فقال لي:(مرحباً يا ابن ذبيان.. الساعةَ أراد رسولُنا أنْ يأتيَك

____________________

٤ - في بحار الأنوار ٤٧: ٣٢٨.

٣٧

لتحضر عندنا) . فقلت: لماذا - يا ابنَ رسول الله -؟! فقال:(لمَنامٍ رأيته البارحة..) ، فقلت: خيراً يكون إنْ شاء الله تعالى. فقال:(يا ابن ذبيان، رأيت كأنِّي قد نُصب لي سُلَّم فيه مئة مِرقاة، فصعدتُ إلى أعلاه) . فقلتُ: يا مولاي، أُهنِّيك بطول العمر، وربَّما تعيش مئة سنة.. فقال لي (عليه السلام):(ما شاء الله كان - ثمّ قال: -يا ابن ذبيان، فلمَّا صعدت إلى أعلى السُّلَّم رأيت كأنِّي دخلتُ في قُبَّة خضراء، يُرى ظاهرُها مِن باطنها، ورأيت جَدِّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً وإلى يمينه وشماله غلامان حَسَنان يُشرق النور مِن وجوههما، ورأيت امرأةً بهيَّة الخُلْقة، ورأيت بين يديه شخصاً بهيَّ الخُلقة جالساً عنده، ورأيت رجلاً واقفاً بين يديه وهو يقرأ هذه القصيدة :

لأُمّ عَمْرٍ باللوى مَربعُ =

فلمَّا رآني النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: مرحباً بك - يا ولدي - يا عليّ بن موسى الرضا، سَلِّمْ على أبيك عليٍّ. فسلَّمتُ عليه، ثمَّ قال لي: سلِّمْ على أُمِّك فاطمة الزهراء (عليها السلام). فسلّمتُ عليها. فقال لي: وسلِّمْ على أبويك الحسن والحسين. فسلَّمتُ عليهما، ثمَّ قال لي: وسَلِّمْ على شاعرنا ومادحنا في دار الدنيا، السيِّد إسماعيل الحميريّ. فسلَمتُ عليه وجلست، فالتفت النبيُّ إلى السيِّد إسماعيل وقال له: عُدْ إلى ما كنَّا فيه مِن إنشاد القصيدة. فأنشأ يقول :

لأم عَمْرٍ باللوى مربعُ طامسةٌ أعلامها بَلقعُ

٣٨

فبكى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلمَّا بلغ إلى قوله :

(ووجههُ كالشمس إذ تطلعُ)

بكى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة (عليها السلام) ومَن معه، ولمَّا بلغ إلى قوله: قالوا له :

لو شئتَ أعلمتنا = إلى مَن الغايةُ والمفزعُ

رفع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدَيه، وقال: إلهي، أنت الشاهدُ علَيَّ وعليهم أنِّي أعلمتُهم أنَّ الغايةَ والمفزع عليُّ بن أبي طالب. و أشار بيده إليه وهو جالس بين يديه صلوات الله عليه) .

قال عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام):(فلمَّا فرغ السيِّد إسماعيل الحميريّ مِن إنشاد القصيدة التفتَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إليَّ وقال لي: يا عليّ بن موسى، احفظْ هذه القصيدة ومُرْ شيعتنا بحفظها، وأعلمْهُم أنَّ مَن حفظها وأدمن قراءتَها ضمِنتُ له الجنَّةَ على الله تعالى) .

قال الرضا (عليه السلام):(ولم يزل يُكرِّرها عليَّ حتَّى حفظتُها منه) .

والآن.. كيف بلغ السيِّد إسماعيل الحميريّ كلَّ هذا التوفيق؟ ومِن أين انطلق؟ وكيف بدأ؟ وإلى أين انتهى؟

لقد كانت حياة السيِّد الحميري رحلةً عقائديَّة تُرى عليها مسحة التوفيق بوضوح.. ذلك أنَّ أبوي السيِّد كانا أباضيَّين، وكان السيِّد يقول في غرفتهما: طالما سُبَّ أمير المؤمنين في هذه الغرفة. فإذا سُئل عن التشيُّع: أين وقع له؟ قال: غاصت علَيَّ الرحمةُ غوصاً.

٣٩

أجل.. كان أبواه ناصبيَّين يسبُّان الإمامَ عليَّاً (عليه السلام)، فلمَّا عَلِما بمذهب ابنهما إسماعيل همَّا بقتله، فأتى عقبة بن مسلم الهنائي فأخبره بذلك، فأجاره وبوَّأه منزلاً وهبه له، فكان فيه حتَّى ماتا فورثهما(١) .

وروى إسماعيل بن الساحر أنّه قال: كنت أتغدَّى مع السيِّد إسماعيل في منزله، فقال لي: طالما - والله - ما شُتِم أمير المؤمنين (عليه السلام) ولُعن في هذا البيت. قلت: ومَن فعل ذلك؟! قال: أبواي، كانا أباضيِّين. قلت: وكيف صرت شيعيَّاً؟! قال: غاصت عليَّ الرحمةُ فاستنقذَتْني.

وعن أبي حودان قال: شكا إليَّ السيِّد أنَّ أُمَّه كانت توقظه بالليل وتقول له: أنِّي أخاف أنْ تموت على مذهبك فتدخل النار، فقد لهجتَ بعليٍّ ووِلْدِه، فلا دنيا ولا آخرة! ولقد نغَّصتْ علَيَّ مطعمي ومشربي، وقد تركت الدخول إليها(٢) .

وعن محمّد بن زكريَّا العلائيّ، قال: حدَّثتْني (العبّاسةُ) بنت السيّد الحميريّ قالت: قال لي أبي: كنتُ - وأنا صبيّ - أسمع أبوَيَّ يَثْلبانِ أميرَ المؤمنين (عليه السلام)، فأخرج عنهما وأبقى جائعاً، وأُوثر ذلك

____________________

١ - الأغاني، لأبي الفرج ألإصبهانيّ٧: ٢٣٠.

٢ - أخبار شُعراء الشيعة، للمرزبانيّ:١٥٣- ١٥٤، وكذلك مُعجم الشعراء للمرزبانيّ.

٤٠