شخصيات ومواقف

شخصيات ومواقف0%

شخصيات ومواقف مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 244

  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40313 / تحميل: 7038
الحجم الحجم الحجم
شخصيات ومواقف

شخصيات ومواقف

مؤلف:
العربية

جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) (١) .

قال الشيخ الطنطاوي: (حمَّالة الحطب) أي حطب جَهنَّم؛ لأنَّها في الدنيا كانت تحمل الأوزار بالسعاية بين الناس، والنميمة، ومُعاداة الرسول (صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم)، وتحمل زوجها على إيذائه، وكانت توقد نار الخصومة.( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) ، أي: حال كونها في عُنقها حبلٌ مِن الحبال المفتولة فتْلاً شديداً، سواء أكان ليفاً أم جلداً أم غيرهما، فهذا معنى المَسَد، وهو ما مُسِّد - أي: فُتِل -. فالمعنى أنَّها تحمل تلك الحزمةَ مِن الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطَّابون؛ تحقيراً لها وتصويراً بصورة الحطَّابات(٢) .

وقال العلاَّمة الطباطبائيّ: التبُّ والتُّباب هو الخُسران والهلاك - على ما ذكره الجواهريّ -، ودوام الخُسران على - ما ذكره الراغب - وقيل: الخَيْبة... وأبو لهب هو عبد العِزَّى بن عبد المُطَّلب عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.. كان شديد المُعاداة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، مُصِرَّاً على تكذيبه، مُبالغاً في إيذائه بما يستطيعه مِن قول وفعل...

( سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ ) ، أيْ: سيدخل ناراً، وهي نار جهنَّم الخالدة، وفي تنكير لَهَب تفخيم له وتهويل.( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) ، عطف على ضمير الفاعل المُستكنِّ في (سيصلى)، والتقدير: وستصلى امرأتُه.. و (حمالةَ الحطب) بالنصب، وصف مقطوع عن الوصفيَّة للذمِّ، أيْ: أذمَّ حمالةَ الحطب، وقيل: حال مِن (امرأته).( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) .. والظاهر أنَّ المُراد أنَّها ستتمثّل في النار التي تصلاها يوم القيامة، في هيئتها التي كانت تتلبَّس بها في الدنيا، وهي أنَّها كانت تحمل أغصان الشوك وغيرها وتطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تُؤذيه بذلك، فتُعذَّب بالنار وهي تحمل الحطب، وفي جيدها حَبْلٌ مِن مَسَد...

وفي (تفسير القُمِّيّ): في قوله تعالى:( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) قال: كانت أُمُّ جميل بنت صخر، وكانت تنمُّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

١ - سورة المَسَد.

٢ - تفسير الجواهر ٢٥: ٢٨٥.

٦١

وتنقل أحاديثه إلى الكُفَّار.

وفي (قُرْب الإسناد) للحميريّ، بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام):(.. ومِن ذلك أنَّ أُمَّ جميل، امرأة أبي لهب، أتتْه حين نزلت سورة (تبَّت) ومع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر بن أبي قحافة، فقال: يا رسولَ الله، هذه أُمُّ جميل مُحفِظة - أي مُغضبة - تُريدك، ومعها حجَر تُريد أنْ ترميَك به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّها لا تراني. فقالت لأبي بكر: أين صاحبُك؟.. جئتُه، ولو أراه لَرميته، فإنَّه هجاني، واللاتِ والعزَّى إنِّي لشاعرة. فقال أبو بكر: يا رسول الله، لَمْ تَرَك؟!

قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا، ضرب اللهُ بيني وبينها حِجاباً) (١) .

وأمَّا زوجة أبي سفيان فهي (هند)، وهي أشهر مِن أنْ تُعرَّف؛ لأنَّها كانت بالفضائح تُعرَف..، فهي في الجاهليَّة مِن ذوات الأعلام، تستقبل كلَّ وارد على أيِّ حال(٢) .

وحينما وُلِد لها مُعاوية تنازع عليها أربعة رجال؛ لأنَّهم كانوا واقعوها في طُهرٍ واحد.

وبعد أنْ جَنَّدت (هند بنت عُتبة) - وهي مِن الشجرة الملعونة في القرآن - كلَّ جهودها، وعبَّأت أُسرتها وقومها ليلاً ونهاراً ضِدَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحاربت الإسلام بجيوش قريش والأحزاب عشرين عاماً

____________________

١ - الميزان ٢٠: ٣٨٤-٣٨٧.

٢ - ناسخ التواريخ، للميرزا محمّد تقيّ لسان الملك سبهر - تاريخ معاوية: ٣٢٩.

٦٢

ـ ثلاثة عشر عاماً قبل الهِجرة بمَكَّة وسبعة أعوام بعد الهِجرة إلى فتح مَكَّة -، وبعد أنْ حرَّضت المُشركين واليهود لشَنِّ الحروب ضِدَّ المسلمين، وبعد أنْ أغرت (وحشيَّاً) بنفسها ومالِها لقتل حمزة سيِّد الشهداء، ثمَّ جاءت فمثَّلت بجسده الزاكي، فشقَّت بطنه ولاكت كبِدَه، وشربت دمه، وقطَّعت أصابع يديه.

وبعد أنْ فُتِحت مَكَّة وخابت قريش.. أتت هند تُبايع النبيَّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على شروط أيةٍ مِن سورة (المُمتَحَنة)(١) .. وهذه رواية البيعة:

* إنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بايعهنَّ، وكان على الصفا وكان عمر أسفلَ منه، وهند بنت عُتبة مُتنكِّرة مع النساء؛ خوفاً مِن أنْ يعرفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(أُبايعكنَّ على أنْ لا تُشركْنَ بالله شيئاً) ، فقالت هند: إنَّك لَتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذتَه على الرجال!. وذلك أنَّه بايع الرجال يومئذٍ على الإسلام والجهاد فقط، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:(ولا تَسرقْن) ، فقالت هند: إنَّ أبا سفيان رجل مُمسِك - أي بخيل - وإنِّي أصبتُ مِن ماله هنات - أي سرقت منه شيئاً -.. فلا أدري أيحلُّ لي أم لا؟! فقال أبو سفيان: ما أصبتِ مِن مالي فيما مضى فهو لكِ حلال. فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرفها، فقال:(وإنَّكِ لَهندُ بنت عتبة؟) ، قالت: نعم، فاعفُ عمَّا سلف يا نبيَّ الله، عفا اللهُ عنك. فقال:(ولا تَزْنينَ) ، فقالت هند: أوَ تزني الحُرَّة؟! فتبسَّم عمرُ بن الخطّاب؛ لِما جرى بينه

____________________

١ - الآية ١٢.

٦٣

وبينها في الجاهليَّة(١) .

وهند هذه.. هي بنتٌ لعتبة بن ربيعة، وبنتُ أخٍ لشيبة بن ربيعة، وأختٌ للوليد بن عتبة. وهؤلاءِ الثلاثة سمَّاهمُ القرآن (مُفسدين) و (فُجَّار).

* روى الحافظ الحاكم الحسكانيّ الحنفيّ بأسانيد عديدة، قال في بعضها: عن ابن عبّاس( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... ) : عليٌّ وحمزة وعبيدةُ بن الحارث( ... كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ... ) : عُتبةُ وشيبةُ والوليد،( ... أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ... ) : عليٌّ وأصحابه( ... كَالْفُجَّارِ... ) عتبة وأصحابه(٢) .

وفي حديث آخر، عن ابن عبّاس أنَّها نزلت في عتبة وشيبة، والوليد بن عتبة(٣) .

في الإسلام:

ويُمكِّن الله تعالى رسولَه صلى الله عليه وآله وسلم مِن طُغاة قريش، وخونة اليهود، وناقضي العهود والمواثيق، وتُفتَح مَكَّة فيُخذَل أبو سفيان وجنوده،

____________________

١ - مجمع البيان، في ظِلِّ آية مُبايعة النساء: المُمتحنة: ١٢، وتذكرة خواصِّ الأُمَّة: ١١٤-١١٧، وجمهرة رسائل العرب: ٥٥٤، وشرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٢: ١٠٢. والفخريّ، لابن الطقطقا: ٧٤، وغير ذلك مِن المصادر.

٢ - شواهد التنزيل ٢: ١١٢ -١١٣، والآية في سورة ص: ٢٨.

٣ - تفسير فرات الكوفيّ: ١٣١.

٦٤

ولم تنظر العيون إلاَّ نظراتِ الدهشة والإعجاب، لمَّا رأت مِن هيبة الإسلام وعظمة رسوله وعِزَّة المؤمنين.

قال العبّاس بن عبد المُطَّلب - وهو يتحدَّث حول فتح مَكَّة -: فلمَّا أصبح غدوتُ به - أي بأبي سفيان - على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلمَّا رآه قال: ويحك - يا أبا سفيان -! ألم يأنِ لك أنْ تعلم أنْ لا إله ألاَّ الله؟ فقال: بأبي أنت وأُمِّي! ما أوصلك وأكرمك، وأرحمك وأحلمك! واللهِ، لقد ظننتُ أنْ لو كان معه إلهٌ لأغنى يوم بدر ويوم أُحد. فقال: ويحك - يا أبا سفيان -! ألَم يأن لك أنْ تعلم أنِّي رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأُمِّي! أمّا هذه.. فإنَّ في النفس منها شيئاً. قال العبّاس: فقلتُ له: ويحك(١) ! اشهدْ بشهادة الحقِّ قبل أنْ يُضرَب عُنقك. فتشهَّد..(٢) .

* وفي روايةٍ أُخرى حول فتح مكَّة أيضاً: سأل أبو سفيان بديلَ بن ورقاء: ما هذه النيران؟ قال: هذه خزاعة. قال: خزاعةُ أقلُّ وأقلُّ مِن أنْ تكون هذه نيرانهم، ولكنْ لعلَّ هذه تميمُ أو ربيعة. قال العبّاس: فعرفت صوت أبي سفيان، فقلت: يا أبا حنظلة، قال: لبَّيك، فمَن أنت؟ قلت: أنا العبّاس. قال: فما هذه النيرانُ؟ فداك أبي وأمي! قلت: هذا رسول الله في عشرة ألاف مِن المسلمين. قال: فما الحيلة؟ قلت: تركب في عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله.

____________________

١ - وفي نسخة أُخرى: ويلك.

٢ - مجمع البيان ١٠: ٥٥٤ -٥٥٧، عنه بحار الأنوار ٢١: ١٠٤.

٦٥

قال العبّاس: فأردفته خَلْفي ثمَّ جئت به. فكلَّما انتهيتُ إلى نار قاموا إليَّ، فإذا رأَوني قالوا: هذا عمُّ رسول الله، خلُّوا سبيله.. فجلست عند رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: بأبي أنت وأُمِّي! أبو سفيان وقد أجَرْتُه. قال: أدخِلْه. فقام بين يديه فقال: وَيْحك - يا أبا سفيان -! أما آنَ لك أنْ تشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنِّي رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأُمِّي! ما أكرمك، وأوصلَك وأحلمك! أما والله، لو كان معه إلهٌ لأغنى يوم بدر ويوم أُحد، وأمَّا أنَّك رسول الله.. فوَ الله، إنَّ في نفسي منها لَشيئاً. قال العبّاس: يُضرَب - واللهِ - عُنُقك في هذه الساعة، أو تشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنَّه رسول الله. قال: فإنِّي أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنَّك لرسول الله. تلجلج بها فوه(١) ..(٢) .

حتَّى إذا أحسّ أبو سفيان بالأمان، عاد يكيد المكائد، لا سِيَّما بعد أنْ ولاَّه أبو بكر، فأظهر كفرَه ونفاقَه مِن جديد، حتَّى اشتهر عنه أنَّه نادى: يا بني أُميَّة، تلاقفوها تلاقف الصبيانِ للكُرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان.. لا جَنَّة ولا نار(٣) .

____________________

٣٥ - في مناقب آل أبي طالب ١: ١٧٧ - ١٨٠: فتلجلج لسانه وعليٌّ يقصده بسيفه، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مُحدق بعليّ. فقال العبّاس: يُضرَب - والله - عُنقك الساعة أو تشهد الشهادتين. فأسلم اضطراراً.

٣٦ - إعلام الورى بأعلام الهُدى، للطبرسيّ: ١١٤والإرشاد، للمُفيد: ٦٠ - ٦٤.

٣٧ - ذكر ابن عبد البرِّ في الاستيعاب بذيل (الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر العسقلانيّ ٤: ٨٧ ما يقرب منه.

٦٦

أي اهجموا على الزعامة والسلطة والحُكم، وهذا ما جابَه بهِ الإمامُ الحسن (عليه السلام) معاوية، في احتجاج كبير اجتمع فيه رؤوس الضلال: عمرو بن عثمان، وعمرو بن العاص، وعتبة بن أبي سفيان، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، والمُغيرة بن شعبة.. وقد تواطئوا على أمرٍ واحدٍ يقوده عليهم معاوية. فتكلَّموا ونضحوا كُفراً ونفاقاً، وكان الإمام الحسن (عليه السلام) يُجابههم بحُجَجٍ دامغة، ويُذكِّرهم مثالبهم في الجاهليَّة والإسلام.. وكان مِن ذلك قوله لمُعاوية:

(.. ثمَّ أُنشدكم بالله، هل تعلمون أنَّ أبا سفيان دخل على عثمان - حين بُويع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا ابن أخي، هل علينا مِن عين؟ (١) قال: لا، فقال أبو سفيان: تداولُوا الخلافة - يا فتيانَ بني أُميَّة -! فو الذي نفسُ أبي سفيان بيده، ما مِن جنَّةٍ ولا نار! وأُنشدُكم بالله، أتعلمونَ أنَّ أبا سفيان أخذ بيد الحسين حين بُويع عثمان وقال: يا ابن أخي، اخرجْ معي إلى بقيع الغرقد. فخرج حتَّى إذا توسَّط القبور اجترَّه فصاح بأعلى صوته: يا أهلَ القبور، الذي كنتم تُقاتلونا عليه (٢) صار بأيدينا وأنتم رميم؟!) (٣) .

قالها صريحة.. كما قاتل الإسلام مِن قبلُ بسيوف صريحة.

____________________

١ - أي: مِن رجلٍ غريب.

٢ - يقصد الحُكم.

٣ - الاحتجاج، للشيخ أبي منصور أحمد بن عليّ الطبرسي: ٢٧٥.

٦٧

فعشرون عاماً كانت تشهد عليه أنَّه أفرز أحقاده على الدين الحنيف وأهله.. حتَّى نزل قولُه تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) (١) ، فرُوي عن مُجاهد قال: نزلت في نفقة أبي سفيان على الكفَّار يوم أُحد(٢) . وحتّى نزل قوله تعالى:( ... فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) (٣) ، فجاء عن مُجاهد وغيره أنَّ الآية نزلت في أبي سفيان وأصحابه.. وتسالم على ذلك غير واحد مِن أهل التفسير والحديث والتاريخ والسيرة(٤) .

ومِن هنا توافرت روايات اللعن على أبي سفيان، أيَّامَ كان في الجاهليَّة يُقاتل دين الله، وأيَّام تظاهر بالإسلام يكيد به وبأهله.

تعالوا نتبيَّنْ ذلك في الأخبار:

* ذكر ابن أبي الحديد المُعتزليّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعنَ أبا سفيان في سبعة مواطن:

الأوَّل: يوم لقيَ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم خارجاً مِن مكَّة إلى الطائف، يدعو ثقيفاً إلى الدين. فوقع برسول الله وسبَّه وشتمه، وكذَّبه

____________________

١ - الأنفال: ٣٦.

٢ - جامع البيان، للطبريّ ١٠: ١٥٩-١٦٠. والكشَّاف، للزمخشريّ ٢: ١٣. وتفسير الرازي ٤: ٣٧٩. وتفسير ابن كثير ٤: ٣٧.. وغيرها

٣ - التوبة:١٢.

٤ - جامع البيان ١٠: ٦٢. وتفسير الخازن، للبغداديّ الصوفيّ ٣: ٥٣، وغيرهما.

٦٨

وتوعَّده وهَمَّ أنْ يبطش به، فلعنه الله ورسوله، وصُرِف عنه.

الثاني: يوم العير، إذ عرض لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي جائية مِن الشام، فطردها أبو سفيان وساحَلَ بها، فلم يطُف المسلمون بها، ولعنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا عليه، فكانت واقعة بدر لأجلها.

الثالث: يوم أُحد.. حيث وقف أبو سفيان تحت الجبل ورسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم في أعلاه، وأبو سفيان يُنادي: (أُعلُ هُبَل، اُعلُ هُبَل - مِراراً -.. فلعنه رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر مرَّات، ولعنه المسلمون.

الرابع: يوم جاء أبو سفيان بالأحزاب، وغطَفان واليهود.. فلعنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابتهل - أيْ: دعا عليه -.

الخامس: يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدُّوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المسجد الحرام، والهَدْيَ معكوفاً أن يَبلُغَ مَحِلَّه، وذلك يومَ الحُديبية، فلعن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا سفيان، ولعن القادةَ والأتْباع، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ملعونونَ كلُّهم، وليس فيهم مَن يؤمن) . فقيل: يا رسول الله، أفما يُرجى الإسلام لأحدٍ منهم؟! فكيف باللعنة؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تُصيبُ اللعنةُ أحداً مِن الأتباع، وأمَّا القادة فلا يُفلح منهم أحد) .

السادس: يوم الجمل الأحمر.

السابع: يوم وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في (العَقَبة) ليستنفروا ناقته، وكانوا اثني عشر رجلاً، منهم أبو سفيان(١) .

____________________

١ - شرح نهج البلاغة ٢: ١٠٢-١٠٢.

٦٩

ولعلَّ هذا الخبر مُستفاد مِن خبرٍ أشرنا إليه آنفاً في احتجاج الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية و أزلامه.. حيث خاطبه بصريح القول وواضح العبارة:

(... أُنشدكم بالله، هل تعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن أبا سفيان في سبعة مواطن ؟:

أوّلُهنَّ: حين خرج مِن مَكَّة إلى المدينة - وأبو سفيان جاءٍ من الشام - فوقع فيه أبو سفيان فسبَّه و أوعده وهَمَّ أنْ يبطش به، ثمَّ صرفه الله عزَّ و جلَّ عنه .

والثاني: يوم العْيِر، حيث طردها أبو سفيان ليُحرزها مِن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

والثالث: يوم أُحد.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهُ مولانا ولا مولى لكم. وقال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فلعنه الله وملائكته ورسوله والمؤمنون أجمعون .

والرابع: يوم حُنين، يوم أبو سفيان بجمع قريش وهوازن، وجاء عُيينةُ بغطفان واليهود، فردَّهمُ الله عزَّ وجَلَّ بغيظهم لو ينالوا خيراً(١) .. هذا قول الله عزَّ وجلَّ له في سورتين في كليتهما يُسمِّي أبا سفيان وأصحابه كفَّاراً، وأنت يا معاوية يومئذ مُشرك على رأي أبيك

____________________

١ - إشارةٌ إلى قوله تعالى:( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيَّاً عَزِيزاً ) الأحزاب: ٢٥.

٧٠

بمَكَّة، وعليٌّ يومئذٍ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى رأيه ودينه .

والخامس: قول الله عزَّ وجلَّ: (... وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ...) (١)، وصددتَ أنت وأبوك ومُشركو قريشٍ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلعنه الله لعنةً شملتْه وذرَّيَّتَه إلى يوم القيامة .

والسادس: يوم الأحزاب، يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش، وجاء عُيينهُ بن حُصين بن بدر بغطفان، فلعن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم القادةَ والأتباع والساقةَ إلى يوم القيامة. فقيل: يا رسول الله، أمَا في الأتباعِ مؤمن؟ فقال: لا تُصيب اللعنةُ مؤمناً مِن الأتباع، أمَّا القادة فليس فيهم مؤمنٌ ولا مُجيبٌ ولا ناجٍ .

والسابع: يوم الثنيَّة، يوم شدَّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر رجلاً، سبعة منهم مِن بني أُميَّة وخمسة مِن سائر قريش. فلعن الله تبارك وتعالى، ورسولُه صلى الله عليه وآله وسلم مَن حلَّ الثنيَّة غيرَ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وسائقِه وقائده...) (٢) .

ومَن لعنه رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم - دعياً مِن الله تعالى أنْ يطرده مِن رحمته، وهو مُستجاب الدعوة - فإنَّ مآله - لا شكَّ ولا ريب - لإلى الهاوية والسعير، وبئس المصير.

____________________

١ - الفتح: ٢٥.

٢ - الاحتجاج: ٢٧٤. وتذكرة خواصِّ الأُمَّة: ١١٤-١١٩. وفي المثالب، لهاشم بن محمّد الكلبيّ تفصيل، فراجع. ولا يفوتنَّ علينا كتاب الفتن مِن بحار الأنوار: ج٢٨.

٧١

مُعاويَة بن أبي سفيان:

وما أدرانا ما معاوية! إنَّه على سِرِّ أبيه في كلِّ شيء، بلْ زاد عليه في كلِّ شيء.. مِن الكفر والنفاق والضلال والإضلال، فهو وصيَّة أبي سفيان أنَّ يواصل دربه في القضاء على الإسلام الأصيل، بطمس معالمه، وتشويه حقائقه، وتحريف شريعته وعقائده.. والقضاء على المسلمين الأحرار، بالقتل والسجن والتشريد، فضلاً عن الإساءة إلى سُمعتهم وكرامتهم.

والأفضل أنْ ندع التاريخ هو المُتحدِّث عن هذه الشخصيَّة، البارزة في السلالة الأُمويَّة، والأُسرة السفيانيَّة، والعائلة الحاكمة في الشام بتمهيدٍ مِن عمر وعثمان.

النَّسَب: أسلفنا مَن هو أُميَّة، ومَن هُمْ بنو أُميَّة.. وتعرَّفنا على الأبوين الشهرين لـ (معاوية): أبي سفيان وهند. وإذا كان قد ثبت أنَّ الأُمَّ هند، فإنَّ الأب يبقى مشكوكاً، فالشعبيّ يرى أنَّ رجال التاريخ يذكرون لمُعاوية أربعة آباءٍ مِن قريش، هُمْ: عمارة بن الوليد المخزوميّ، ومسافر بن أبي عمر، وأبو سفيان، والعبّاس بن عبد المُطَّلب. والزمخشريّ يُضيف إلى شُهرة أبي سفيان أنَّه أبو معاوية أربعةَ رجال آخرين يعدُّهم في كتابه (ربيع الأبرار)، هُمْ: مسافر بن عمر، وعمارة بن الوليد، والعبّاس، ورجل أسود يُدْعى الصبّاح. بينما يرى إسماعيل بن عليّ الحنفيّ في كتاب (مثالب بني أُميَّة) أنَّ مسافر بن عمر جامعَ هندَ بنت عتبة سفاحاً، فحملت منه، وفي أثناء حملها تزوَّجها أبو سفيان، فولدت له معاوية بعد ثلاثة أشهر فقط مِن تاريخ زواجهما.

فمعاوية - إذاً - منسوب إلى أبي سفيان، وخلَّف ذلك عُقدةً في

٧٢

نفسه، فحاول أنْ يُسرِّيّ هذا التلوُّث إلى غيره ويُعطيه طابعاً شرعيَّاً، فاستلحق زياد بن أبيه، الذي كان قد وُلِد على فراش عبيد مولى ثقيف.. وجعله أخاً له لادِّعاء أبي سفيان أنَّه هو الذي قذفه في رحِم أُمِّه سُميَّة (وهي الأُخرى مِن ذوات الأعلام والرايات)(١) .

وصحَّ عند الأُمَّة قول نبيِّها صلى الله عليه وآله وسلم:(مَن ادَّعى أباً في الإسلام غير أبيه - وهو يعلم أنَّه غير أبيه - فالجنَّة عليه حرام) (٢) .

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(مَن ادَّعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المُتتابعة إلى يوم القيامة) (٣) .

حقده على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:

أكثر مواقفه كانت تحكي بغضَه للدين الجديد، وكراهيَّته للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنْ نكتفي بموقفين له:

الأوَّل: ذكَره الإمام الحسن (عليه السلام) في احتجاجه الكبير معه في محضر جلاوزة معاوية، قال في أوَّله - رادَّاً عليهم، ومُناشداً لهم بالحقائق الدامغة -:

____________________

١ - تاريخ ابن عساكر ٥: ٤١٠. والاستيعاب ١: ١٩٥. والعِقد الفريد ٣: ٣. وتاريخ اليعقوبيّ ٢: ١٩٤. ومروج الذهب، للمسعوديّ ٢: ٥٦.. وقد بحث العلاَّمة الأمينيّ هذا الموضوع بتفصيل في سِفْره المُبارك (الغدير) ١٠: ٢١٦-٢٢٧.

٢ - رواه البخاريّ ومسلم وأبو داود وابن ماجة، كما في سُنَن البيهقيّ ٧: ٤٠٣.

٣ - الترغيب والترهيب، للمُنذريّ ٣: ٢٢، عن أبي داود.

٧٣

(الحمد لله الذي هدى أوَّلَكم بأوَّلِنا، وآخركم بآخرنا، وصلَّى الله على جَدِّي محمّدٍ النبيّ وآله وسلَّم .

اسمعوا منِّي مقالتي وأعيروني فهْمَكم. وبك أبدأُ يا معاوية،.. - إلى أنْ قال له بعد عرض لجملةٍ مِن أدلَّة إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ومواقفه الغيورة، ولجملةٍ مِن مخازي معاوية: -أُنشدكمْ بالله.. هل تعلمون أنَّ ما أقول حقَّاً، إنَّه لقيَكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ومعه - أيْ مع الإمام عليّ (عليه السلام) - راية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ومعك - يا معاوية - راية المُشركين وأنت تعبد اللاتَ والعُزَّى، وترى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرضاً واجبا؟ ولقيكم يوم أُحد ومعه راية النبيّ، ومعك - يا مُعاويةُ - راية المُشركين؟ ولقيكم يوم الأحزاب ومعه رايةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعك - يا معاويةُ - راية المُشركين؟ كلُّ ذلك يَفلُج الله حُجَّتَه، ويُحقَّ دعوته، ويصدِّق أُحدوثتَه، وينصر رايتَه.. وكلُّ ذلك كان رسول الله عنه راضياً في المواطن كلِّها، ساخطاً عليك...

ـ ثمَّ قال: -أُنشدكم بالله، هل تعلمون أنَّ ما أقول حقَّاً؟ إنَّك - يا معاويةُ - كنت تسوقُ بأبيك على جمل أحمر يقوده أخوك هذا القاعد - يقصد عتبة بن أبي سفيان - وهذا يوم الأحزاب، فلعن رسولُ اللهِ القائدَ والراكبَ والسائق، فكان أبوك الراكب، وأنت - يا ازرقُ - السائق،

٧٤

وأخوك هذا القاعدُ القائد) (١) .

الثاني: كان قد تظاهر بالإسلام مُضطرَّاً، فلمَّا استقرَّ به مُلكُه في الشام، مكث أربعين جمعةً يُصلِّي بالناس ويخطب فيهم دون أنْ يُصلِّيَ على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله بعض أصحابه عن ذلك فقال: لا يمنعني عن ذكْرِه إلاَّ أنْ تشمخ رجالٌ بآنافها(٢) .

فإذا انبسطت له الأوضاع أفرغ ما في نفسه مِن الحقد على المُصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.. دعونا نُصغي إلى ما رواه مُطرف بن المغيرة بن شعبة، حيث يقول:

وفدتُ مع أبي على معاوية، فكان أبي يتحدَّث عنده ثمَّ ينصرف إليَّ وهو يذكر معاوية وعقله، ويُعجَب بما يرى منه، وأقبل ذات ليلةٍ وهو غضبان، فأمسك عن العشاء، فانتظرتُه ساعةً، وقد ظننت أنَّه لشيءٍ حدث فينا أو في عملنا، فقلت: ما لي أراك مُغتمَّاً مُنذ الليلة؟! قال: يا بُنيّ، جئتك مِن عند أخبث الناس، قلت: ما ذاك؟ قال: خلوتُ بمعاوية فقلت له: إنَّك قد بلغتَ مُناك يا أميرَ المؤمنين، فلو أظهرتَ عدلاً، وبسطتَ خيراً؛ فإنَّك كبرت. ولو نظرتَ إلى إخوتك مِن بني هاشم فوصلتَ أرحامهم، فو الله، ما عندهمُ اليومَ شيءٌ تخافه.

____________________

١ - الاحتجاج: ٢٧٢-٢٧٤. وينظر: شرح نهج البلاغة ٢: ١٠٢. وتذكرة خواصِّ الأمَّة ١١٥. وجمهرة خُطب العرب ١:٤٢٨.

٢ - النصائح الكافية لمَن يتولَّى مُعاوية، للسيِّد محمّد بن عقيل العلويّ: ٩٧.

٧٥

فثار معاوية واندفع يقول: هيهاتَ هيهات! مَلَك أخو تَيم فعدل، وفعل ما فعل. فواللهِ، ما عدا أنْ هلك فهلك ذِكرُه إلاَّ أنْ يقول قائل: أبو بكر. ثمَّ ملَكَ أخو عَدِيٍّ فاجتهد وشمَّر عشر سنين. فوالله، ما عدا أنْ هلك فهلك ذكْرُه إلاَّ أنْ يقول قائل: عمر. ثمَّ ملَك أخونا عثمان.. فعُمِل به ما عُمِل. فواللهِ، ما عدا أنْ هلك فهلك ذكره. وإنَّ أخا هاشم - يقصد النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم - يُصرَخُ به كلَّ يوم خمس مرَّات: أشهد أنَّ محمّداًَ رسولُ الله. فأيُّ عملٍ يبقى بعد هذا - لا أُمَّ لك -؟! واللهِ، سُحقاً سُحقاً، واللهِ دفناً دفناً(١) .

الخلافة:

هنا نتساءل: هذا الذي يتوعَّد بلسان حاقد أنْ يسحق آثار النبوَّة ويدفنها.. أيستحقُّ أنْ يكون خليفة النبيّ ووصيَّه على الأُمَّة؟!

لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى بعين بصيرته الرحمانيَّة ونبوَّته الإلهيَّة أنَّ معاوية رجلٌ يشتهي الرئاسة، وسيانلها فيطغى، فقال في ذلك:(إذا رأيتُم معاوية على منبري فاقتلوه) .

ولعلَّ مُشكِّكاً يقول: ربَّما وضع هذا الحديث أعداءُ معاوية مِن الشيعة وغيرهم! ولكي يزول الشكُّ وتذوب (ربَّما) نوقفه

____________________

١ - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٢: ٢٩٧. والموفَّقيات للزبير بن بكَّار ٥٧٦ _ ٥٥٧. ومروج الذهب ٣: ٤٥٤.

٧٦

على هذه المصادر التي ذكرت هذا الحديث:

١- ميزان الاعتدال، للذهبيّ ٢: ٧.. قال: روى عباد بن يعقوب، عن شريك بن عاصم، عن زرِّ عن عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا رأيتم معاويةَ على منبري فاقتلوه) . وقد صحَّحه الذهبيّ، وهو مِن علماء أهل السُّنَّة المُتشدِّدين في الرواية، ثمَّ رواه مرَّة أُخرى على الصفحة ١٢٩ مِن الجزء نفسه ولكنْ عن طريق أبي سعيد الخدريّ رفعه، ثمَّ ذكر نحوه عن أبي جذعان.

٢- تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلانيّ ٥: ١١٠ في ترجمة عبّاد بن يعقوب الرواجنيّ، فجاء بالسند والحديث. ثمَّ عاد في الجزء السابع مِن الكتاب نفسه، فقال على الصفحة ٣٢٤ في ترجمة عليّ بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة: حدَّث حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيد عن نضرة، عن أبي سعيد، رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا رأيتم معاويةَ على هذه الأعواد فاقتلوه) . ثمَّ قال ابن حجر: وأخرجه الحسن بن سفيان في مُسنده عن إسحاق عن عبد الرزّاق، عن ابن عيينة، عن عليّ بن زيد.. ولكنَّ لفظ ابن عيينة: فارجموه. ثمّ يعود ابن حجر على الحديث نفسه، في الجزء السابع على الصفحة ٧٤، في ترجمة عمرو بن عبيد بن باب، بسندٍ ينتهي إلى أنَّ عَمْراً روى عن الحسن أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:(إذا رأيتم معاويةَ على منبري فاقتلوه) .

٧٧

٣- كنوز الحقائق، للمنَّاويّ: ٩.. ولفظ الحديث:(إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه) . ثمَّ قال المنَّاويّ: أخرجه الديلميّ..

٤- ونقل الحديثَ - أيضاً - جمهرة كبيرة مِن الحُفَّاظ والمُحدِّثين، والمُفسِّرين والمؤرِّخين، جاء في بعضها قول الحسن: فما فعلوا ولا أفلحوا.

يُراجَع: تاريخ الطبريّ، وتاريخ بغداد - للخطيب البغداديّ، وكتاب صِفِّين - لنصر بن مُزاحم، وشرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد، والكامل في التاريخ - لابن الأثير، واللآلي المصنوعة - للسيوطيّ.. وغيرها مِن المصادر.

والآن.. نحن نتساءل: ألَم يرَ المسلمون معاوية وقد ارتقى منبرَ الخلافة. وهو مِنبرُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! وإذا كانوا رأوه فلماذا لم يقتلوه؟!

أهنالك شُبهة أنَّ المقصود مِن المنبر في الحديث، هو عين منبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده بالمدينة المنّورة؟! فإذا كان ذلك قال العلماء: الظاهر أنَّ الحديث يُشير إلى مطلق المنابر التي عليها اسم الإسلام وخلافته وإمارته.. وقد صعد معاوية منبرَ الخلافة في الشام فوجب قتله. أمّا إذا تنزَّلنا وأخذنا الحديثَ المرويَّ عن أبي سعيد:(إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه) ، وأراد المسلمون أنْ

٧٨

يعملوا بظاهره، فإنَّ معاوية قَدِم إلى المدينة المنوَّرة وصعد على منبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحَلف ليَقتُلَنَّ ابنَ عمر. وهذا ما رواه ابن سعد(١) عن إسماعيل بن إبراهيم الأسديّ، عن أيّوب عن نافع. ثمَّ رواه بطريقٍ آخر عن نافع، فراجع.

ثمَّ نقول للمُتسائل المُشكِّك: أين أنت عن قولة عمر بن الخطّاب: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي أحد، ثمَّ في أهل أُحد ما بقي منهم أحد.. ثمَّ في كذا وكذا، وليس فيها لطليق، ولا لولد طليق، ولا لمُسلمةِ الفتح شيء(٢) ؟

بلْ أين عمر بن الخطَّاب نفسه مِن قولته هو نفسه وقد ولَّى مُعاويةَ الشامَ في عهده بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان..(٣) .

وبعد أنْ ولاَّه لم يُحاسبه على صغيرة ولا كبيرة، وعمر هو المعروف بشِدَّته وصرامته في مُحاسبة الولاة؟!

قال عبد الرحمان بن الجوزيّ: ولاَّه عمر بن الخطَّاب مكان أخيه يزيد بن أبي سفيان لمَّا مات، فلم يزل كذلك خلافة عمر، وأمَّره

____________________

١ - الطبقات الكبرى ٤: ١٣٦ - القسم الأوَّل.

٢ - أُسد الغابة ٤: ٣٨٧ - في ترجمة معاوية بن أبي سفيان، والرواية عن عبد الرحمان بن أبزي. وروى الخبر أيضاً ابن سعد في طبقاته ٣: ٢٤٨- القسم الأوَّل.

٣ - وقد جاء لعنه على لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، يُراجَع: كتاب وقعة صِفِّين: ٢٤٧، وتاريخ الطبريّ ١١: ٣٥٧.

٧٩

عثمان وأفرد له جميعَ الشام!!(١) .

ثمَّ أين عمر مِن رأي تلميذه (عبد الرحمان بن غنم الأشعري)، وقد سمع عبد الرحمان الحديثَ مِن عمر بعد أنْ كان صاحبَ مُعاذ بن جبل ومُلازمه، فصار مِن أفقه أهل الشام ففقَّه عامَّة التابعين بالشام، - كما يترجم له ابن عبد البَرِّ فيُضيف: وكانت لعبد الرحمان جلالة وقَدْر، وهو الذي عاتب أبا هُريرة وأبا الدرداء بحمص، إذ انصرفا مِن عند عليّ (عليه السلام) رسولَين لمعاوية، وكان ممَّا قال لهما: عجَباً منكما! كيف جاز عليكما ما جئتما به تدعوانِ عليّاً أنْ يجعلها - أي الخلافة - شورى، وقد علمتما أنَّه قد بايعه المُهاجرون والأنصار وأهل الحجاز وأهل العراق. وأنَّ مَن رضيه خيرٌ ممَّن كرهه، ومَن بايعه خيرٌ ممَّن لم يُبايعه، وأيُّ مدخل لمعاوية في الشورى وهو مِن الطُّلقاءِ(٢) الذين لا تجوز لهم الخلافة، وهو وأبوه مِن رؤوس الأحزاب(٣) ؟ قال: فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه(٤) .

لقد مَلَك مُعاوية فماذا فعل؟ إنَّه لم يستطع أنْ يكتم شهوةَ

____________________

١ - المُنتظم في تاريخ الملوك والأُمَم ٤: ٧ - طبعة دار الفكر - بيروت. ويُراجَع: معاني الأخبار ٣٤٦- ٣٤٧ / ج١.

٢ - بعد فتح مَكَّة، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأهلها:(اذهبوا فأنتمُ الطُلَقاء) .

٣ - الذين تألَّبوا عليه في واقعة الخندق ليقضوا على الإسلام وأهله.

٤ - الاستيعاب ٢: ٤٠٢، وذكر الخبر أيضاً ابن الأثير في أُسد الغابة ٣: ٣١٨ باختلاف يسير.

٨٠