أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 92122
تحميل: 8329

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92122 / تحميل: 8329
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ضرورة الوجود التي تعطيها العلّة. وإلاّ فالقولان الآخران لا يقومان على أساس إنكار هذه الضرورة )، أم أنَّ أفعال الإنسان تخضع لإرادته خضوعاً تاماً، وليس لها علاقة بأي فاعل وعلة أُخرى، والإنسان حرّ في أفعاله من قيد أي علة خارجية ( هذا هو معنى التفويض، ولا يعني التفويض أنَّ

تكون جميع الوصايا الأخلاقية المرتبطة بترشيد الإرادة والعقل، وخلق ملكة التقوى والشجاعة وغيرها، وصايا عبثية لا فائدة من ورائها ؛ بينا نحس بالضرورة أنَّ هذا الأمر أمر اختياري. وعلى كلّ حال فمذهب هؤلاء الباحثين في فهم نصوص الحكماء خطأ كبير.

أمّا السمة الثانية للأفعال والحركات الخارجية فهي أنَّها تقع مباشرة تحت سيطرة إرادة الإنسان، مثلا حينما أُمسك بهذا القلم وأمارس الكتابة، فهذه الكتابة وعدمها لا ترتبط إلاّ بإرادتي. لكنّ أفعالي النفسية ليست على هذا النحو، أي إذا أردت أن لا تصدر عني أيُّ إرادةٍ لا أخلاقية، فأكون متوفّراً على ملكة التقوى، أو أبتعد عن البخل والحسد والجبن، فلا أستطيع بمحض الإرادة الفعلية أن أتوفّر على هذه الأمور. ولكن عبر ممارسة مقدّمات ترتبط مباشرة باختياري أستطيع تدريجياً أن أُمارس التغيير النفسي انسجاماً مع إرادتي. ومن ثمَّ أستطيع تقوية وترشيد إرادتي والسيطرة عليها إزاء بعض الأفعال. نعم يمكن أن نقول إنَّ التعقّل والتقويم والمقارنة وحدها تقع تحت الاختيار المباشر فقط.

هناك شبهة مشهورة بشأن حرية واختيار الإنسان وهي: على أساس المقدّمات السابقة تكون مقدّمات الأفعال الاختيارية غير اختيارية، وكل شيء تكون مقدّماته غير اختيارية يكون غير اختياري، وكيف يمكن أن نعد الفعل

٢٠١

الاختيار يعني نفي الضرورة ) أم أنَّ أفعال الإنسان تستند إلى إرادته وتستند أيضا إلى علّة أُخرى فوق الإنسان، والإرادة والعلة والأُخرى طوليّتان لا عرضيتان. أي أنَّ العلّة العلوية تريد الفعل الإنساني عن طريق إرادة

اختياريا بينا تنتهي مقدماته إلى أُُمور غير اختيارية ؟!

الإجابة على هذه الشبهة تتركّز على القاعدة الكية للاستدلال الذي طرحته، حيث تقرّر في كبرى القياس: " كلّ شيءٍ تكون مقدّماته غير اختيارية يكون غير اختياري " وهذه الكبرى خاطئة للأسباب التالية:

أوّلاً: نجد في أنفسنا بالوجدان والعيان أنَّنا أحرار في اختيار الفعل، وليست هناك أيّ قوّة خارجية تضطرّنا إلى الفعل. أمّا الإجابة على الإشكال الذي يقرّر أنَّ أفعالنا جزء من سلسلة العلل والمعلولات التي تحكم حوادث الكون وهي سلسلة ضرورية، ومن ثمَّ فمن أين لنا الإرادة والاختيار ضمن هذه السلسلة المتّصلة ؟ فهي: أنَّ إرادتنا واختيارنا وتقويمنا بدورها جزء من حلقات هذه السلسلة المتّصلة ونحن أحد العوامل المؤثّرة في هذا العالم، نتأثّر بالعوامل الخارجية، ونؤثّر بدورنا في غيرنا. ونحن وإرادتنا واختيارنا لم نخلق خارج هذه السلسلة المتّصلة، لكي يمكن أن نكون عوامل غير مؤثّرة في هذه السلسلة.

ثانياً: إذا لم نوافق على النظرية المتقدّمة التي يدعمها البرهان والوجدان معاً، والتي تقوم على أساس قانون العليّة، يلزم سلب سمة الضرورة من أفعال الإنسان، وعندئذٍ فإمّا أن نفسّرها على أساس الصدفة وننكر العلّية بشكل مطلق، وإمّا أن نؤمن بالعلّية وننكر الضرورة والحتمية. وعلى أساس إنكار العلّية والإيمان بالصدفة تنقطع علاقتنا بالأفعال

٢٠٢

الإنسان، والإنسان يختار وينتخب الفعل بواسطة الإرادة، فيوجده بعد توفّر بقية أجزاء العلّة المادّية والصورية والشروط الزمانية والمكاتبة. والعلّة العلوية تخلق الإرادة المختارة في الإنسان ؛ بغية إيجاد الفعل الإنساني. ومن

بشكل تام، وتسلب منّا حرّيتنا، وتمسك بزمام الأفعال الصدفة الصماء العمياء. وعلى أساس إنكار الضرورة والحتمية فسوف ننتهي إلى ما انتهى إليه مذهب الصدفة ؛ لأنَّ إنكار الضرورة يفضي إلى إنكار العلّية والإيمان بالصدفة. نعم يبقى أمامنا فرض آخر وهو أنَّ جميع مقدمات الأفعال الاختيارية اختيارية، ومقدّمات هذه المقدّمات اختيارية أيضاً وهكذا. أي أنَّ جميع هذه المقدّمات تحصل بالإرادة والاختيار، وكلّ إرادة واختيار يحصل بالإرادة والاختيار أيضاً وهكذا... وهذا الفرض إن لم يكن معوّقاً للإرادة والاختيار فهو غير مؤيّد لهما ؛ إذ على أساس هذا الفرض تكون كل إرادة معلولة لإرادة وهذه الإرادة معلولة أيضاً لإرادة أخرى وهكذا... ومن ثمَّ لا يرتبط هذا الفعل بشخصيّتي إطلاقاً وتنقطع علاقته معي بشكل تام ؛ لأنَّ كل إرادة تستند إلى إرادة أٌخرى وليست هناك أي إرادة تنبع من شخصيتي وذاتي، بل الأمر يشبه تماماً وجود أشخاص آخرين يقرّرون أفعالي حسب إرادتهم.

ولهذا نقول: إنَّ الفرض الوحيد الذي يبرّر اختيار وحرية الإنسان هو النظرية التي تقوم على أساس قبول قانون العلّية والمعلولِيّة. أمّا سائر النظريات فهي تتعارض مع الحرية والاختيار الذي يسعى أنصار هذه النظريات إلى إثباته، والذي يحسّه كلّ فرد بالوجدان، مضافاً إلى أنَّ هذه النظريات تستلزم محالاتٍ، نظير الصدفة وتسلسل العِلَل. ومن هنا فالذين لم يقتنعوا بنظريّتنا في مجال الاختيار سوف لن تقنعهم أي نظرية أخرى.

٢٠٣

ثمَّ يختار الإنسان الفعل بإرادته، لكنّه في إرادته يخضع لعلّة خارج ذاته. وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين، النظرية التي تقع بين نظريّتي الجبر والتفويض، ولا يعني الأمر بين الأمرين أنَّ بعض الأفعال لها علّة، وليس

مضافاً إلى أنَّ تسويغ وتبرير التأثير التربوي والأخلاقي ينحصر بهذه النظرية. فأثر وفائدة التربية والأخلاق أمر لا يمكن إنكاره، بينا لا يمكن تبريرها على أساس نظريّات الصدفة، أو فرضية تسلسل العلل، وكذلك النظرية الجبرية، التي تذهب إلى أنَّ أفعال الإنسان تخضع بشكل تام لتأثير العوامل الخارجية. ووفق نظريتنا تكون نتيجة التربية والأخلاق خلق مجموعة من السجايا الأخلاقية، وتفضي هذه السجايا إلى تقوية الإرادة، ورفع مستوى مقاومتها أمام إثارات الغرائز الدانية ؛ أي أنَّ علاقة العلية والمعلولية بين التربية والسجايا الأخلاقية، وبين السجايا الأخلاقية وقدرة الإرادة، وبين قدرة الإرادة وكبح جماح الميول التي تنبعث من الشهوات، أمر قائم بالفعل، أمّا إذا بنينا على عدم وجود علاقة العِلّية والمَعلوليّة ( وفق نظريات الصدفة )، أو آمنا بوجود هذه العلاقة مع الإيمان بأنَّ إرادة الإنسان تابعة تماماً للإثارات الغريزية أو العوامل الخارجية، أو أنَّها تابعة لإرادة أُخرى وهذه الإرادة تابعة لإرادة أخرى وهكذا إلى ما لانهاية، فلا يبقى أي مجال لموضوع التربية والأخلاق.

الجبر والتفويض من زاوية كلامية:

حينما تناول المتكلّمون ـ في مباحث الإلهيات ـ شمول وعموم إرادة الباري تعالى لكلّ حوادث الكون، طرحوا البحث حول شمول الإرادة الإلهية لأفعال الإنسان. وانقسم المتكلّمون حول هذا الموضوع إلى فريقين:

٢٠٤

لبعضها الآخر علّة، كما فسّره بعض المفكّرين المادّيين ونسبوه إلى أصحاب نظرية الأمر بين الأمرين.

في ضوء التحليل المتقدّم يتّضح أنَّ هؤلاء المفكّرين حسبوا أنَّ

الأشاعرة: ذهبوا إلى أنَّ إرادة الباري تعمّ الحوادث، وكلّ حادثة تصدر مباشرة من ذاته، وليس هناك أيّ مؤثر في وجود الحادثة غير إرادته. فإذا رأينا النار تحرق، فليس النار محرقة في واقع الأمر. بل إرادة الله هي التي تخلق الإحراق في بعض الأجسام، التي تقترب من النار، وإذا رأينا أنَّ تَجَرّعَ السم قاتل، وإنَّ الترياق يفرغ السم ويقضي على أثَره، فلا السمّ مؤثّر في القتل ولا الترياق مؤثّر في الشفاء، بل إرادة الله تعالى هي التي تجعل تجرّع السم قاتلاً، وتخلق الشفاء بعد استعمال الترياق. والأسباب والمسبّبات في مفهومها الواقعي لا معنى لها. بل الإرادة الإلهية جرت على أن تحصل الأشياء متتابعة، فنحسب اللاحقة مسبباً والسابقة سبباً. وعلى هذا الأساس ليست هناك علاقة علية ومعلولية وشرطية ومشروطية بين حوادث الكون. وجميع الحوادث ترتبط مباشرة بإرادة ذات الباري. وأفعال الإنسان التي هي جزء من حوادث هذا العالم يشملها هذا الحكم، أي أنَّ الإنسان لا دخل له في الأفعال، بل الأفعال تَنشأ مباشرة من إرادة الباري. وعلى هذا الأساس وَسمَ الأشاعرة بالجبرية.

المعتزلة : نظرية هذا الفريق من المتكلمين تقف مقابل نظرية الأشاعرة تماما. ذهب المعتزلة إلى إنَّ إرادة الله لا دخل لها في حوادث هذا العالم. وينحصر تدخل الإرادة الإلهية بمجرد تكوين هذا العالم ابتداءً. وبعد أن وجد هذا العالم بإرادة الله، فهو يمضي في مسيرته حسب طبعه الذاتي، والحوادث

٢٠٥

المسألتين المتقدّمتين مسألة واحدة. ثمّ استلوا مصطلح الجبر والتفويض من المسألة الثانية عبر تبديل مصطلح التفويض بالاختيار. فوضعوه موضع سمتي المسألة الأُولى، أي الضرورة واللاضرورة، ثمّ وضعوا الحكم

التي تحصل تدريجياً في هذا العالم تنشأ من طبيعة العالم الذاتية. على غرار المعمل الذي ينصبه المهندس، فدور المهندس ينحصر فقط بنصب هذا المعمل وتشغيله، أما حركة المعمل وفعاليته بعد التأسيس فلا علاقة لها بإرادة المهندس. وعلى هذه الأساس فالعالم بعد خلقه من قبل الباري تعالى أُوكلت المهمة وفوُضت إليه. والإنسان أحد موجودات هذا العالم أُوكلت مهمة أفعاله بشكل كامل إليه، وهي حرّة تماماً من تدخّل إرادةِ الباري. ومن هنا توسم هذه النظرية بنظرية التفويض.

طرحت نظرية مقابلة لهاتين النظريتين، تكذّب كلا النظريتين، وهي النظرية التي تقول لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. أي أنَّ أفعال الإنسان وسائر حوادث العالم ليست ناشئة مباشرة من إرادة ذات الباري، لكي تنقطع علاقة السببية بين الأشياء ؛ وليست فعاليات الكون مفوّضة للعالم والإنسان، بل تتدخّل في حوادث الكون وأفعال الإنسان العِلَل والأسباب القريبة، كما تتدخّل إرادة الباري، الذي هو علة العلل.

طرحت هذه النظرية لأوّل مرة من قبل أئمة الدين، ثمّ تناولها الحكماء الإلهيون وفق الموازين العقلية والمنطقية الدقيقة، فوجدوا بعد التعمق في هذا الموضوع الفلسفي أنَّ حكم العقل يتطابق مع هذه النظرية التي تستلهم من مصدر الوحي. وتفصيل البحث في هذا الموضوع يجب تلمسه في المقالة الرابعة عشرة.

٢٠٦

باللاضرورة في المسألة الأُولى، الذي اصطلحوا عليه بالاختيار، وهو أمر منفي، موضع الاختيار في المسألة الثانية، وهو حكم مثبت. ثم انتهوا بعد كل هذه التحويرات والتحويلات إلى:

استحكمت شبهة الجبر لدى فريق آخر عن طريق علم الباري ؛ فبحكم أنَّ علم الباري عام وشامل لكل شيء يستلزم عدم وقوع المعلول تحول علم الله إلى جهل. ومن هنا فإذا عصى العاصي فعصيانه معلوم لله، ومن ثمَّ تسلب إمكانية عدم العصيان. وهذه الشبهة مغالطة لا غير. وجميع هذه المغالطات تنشأ جَرّاء قياس علم الباري وتقديره بالنسبة إلى حوادث العالم على علم الإنسان وتقديره في أفعاله. وسوف نتناول هذا الموضوع تفصيلياً في المقالة الرابعة عشرة. ونكتفي هنا في الإجابة على هذه الشبهة الطفولية بهذا النقض الجدلي: إنَّ الإنسان حرّ ومختار في علم الله فإذا سلبت حرية الاختيار من الإنسان يلزم أن يتحول العلم الإلهي إلى جهل.

الجبر والاختيار والوجدان:

يتمسّك بنظرية الجبر ـ في الأعم الأغلب ـ أولئك الذين يريدون التشبث بوسيلة للتحرّر من التكليف والقانون والأخلاق، ويجدون تسويغاً لكلّ ممارسة يمارسونها، فيتذرّعون أحياناً بحجة أنَّ الله أراد ذلك، ولا يمكن الحيلولة أما إرادته، وأحياناً بحجة أنَّ الظروف الموضوعية اقتضت أفعالهم، ولا يمكن الحيلولة أما جبر التأريخ.

على أنَّ معالجة إشكالية الجبر والاختيار بشكل شمولي من أشد الإشكاليات غموضاً، وندر ـ بين الباحثين ـ أولئك الذين استطاعوا الوصول

٢٠٧

أوّلاً: إنكار الحكم باللاضرورة، أي نسبة المعلول إلى علته الناقصة.

ثانياً: حسبوا أنَّ الاختيار وجميع آثاره لدى الإنسان أمر وهمي.

ثالثاً: أخطأوا في تفسير الأمر بين الأمرين.

إلى معالجة ناجعة. لكن الإدراك الإجمالي لحقيقة حرية واختيار الإنسان، وأنَّه غير مسلوب الإرادة أمام أي عامل طبيعي أو ما ورائي، أمر بديهي ووجداني، لأنَّ الأمر يرتبط بنسق ممارسة الإنسان لأعماله الوجدانية والذهنية. وكل فرد يحس بوجدانه إنَّ الله لم يسلبه حرية الاختيار، كما ادعى الأشاعرة. وإنَّ الظروف المادية وظروف المحيط الموضوعية لا يمكنها أن تحول الإنسان إلى ريشة في مهب الريح، كما ادعى الماديون.

يحس الإنسان بالوجدان أنَّه حر في اختيار الفعل أو الترك تحت ظل مختلف الشروط والظروف. ويحس الإنسان بالوجدان أنَّ لديه قدرة المقاومة أمّا الإغراءات المادية ليحفظ الفضائل الأخلاقية وغيرها. ويحس الإنسان بالوجدان أنَّ لديه استعداد قبول التكليف والمسؤولية والقانون، وعبر هذه السمة يختلف عن الجمادات والنباتات والحيوانات، وكما قال في المتن: "لو كان الإنسان لا يدرك بالفطرة أنَّه مختار فسوف لا يمارس أعماله إطلاقاً على أساس التفكير والتروّي. ولا يقيم مجتمعاً تحكمه الأوامر والنواهي والجزاء والتربية ومستلزماتها ". إنَّ إنكار هذا الموضوع إنكار لأمر بديهي ووجداني، وهو لون من السفسطة. يقول جلال الدين الرومي:

الجبرية أشدّ عاراً من القدرية عند العقل..

لأنَّ الجبري ينكر حسّه..

أمّا رجل القدرية فهو لا ينكر حسه..

٢٠٨

رابعاً: وعبر تصوّر أنَّ الاختيار يعادل الاتّفاق، استلّوا الاتفاق من أبناء ملّتهم ونسبوه إلى الفلاسفة.

خامساً: وعندما وجّه إليهم النقد بأنَّ الأمر والنهي والتربية والدعوة

ففعل الحقّ ليس حسّياً أيها الولد..

بل يحل الإدراك الوجداني محل الحس..

وكلاهما يمضيان في مسير واحد..

وحينما تقول سأعمل هذا أو هذا غداً..

فهذا دليل على الاختيار أيها الصنم..

يريد مولوي من "القدرية " هنا المفوضية، وقد شرحنا مدلول هذا المصطلح. فالقدرية تطلق على المفوضة وتطلق على الجبرية، ولهذا الأمر علة تاريخية.

هذه السفسطات وإنكار البديهيات ذات علّتين بشكل عام: فقدان التوازن الفكري، والأهداف الاجتماعية الفاسدة، فهناك بعض الأفراد فقدوا توازنهم الفكري جرّاء ضعف القوة الفعلية ومواجهة الاستدلالات المعقّدة، فأخذوا بطرح وجهات النظر المخالفة لوجدانهم الفطري، وبعض آخر تدفعه أهداف فاسدة، فتوسّل بالسفسطة لأجل أن يجد عذراً فيما يرتكبه. وطريق علاج الفريق الأوّل هو تنشيط قوة العقل والمران على الاستدلال المنطقي. أمّا الفريق الآخر فلا ينبغي أن يقترح عليه علاج. يقول ابن سينا في الشفاء إنَّ آخر جواب علاجي ينبغي أن يطرح على الفريق الثاني هو أن يتمسّكوا بمنطقهم، ويردوا ميدان العمل، مثلاً: يضربون، ويقال لهم: إنَّ الضرب وعدمه أمر واحد. أو يلقوا في النار، ويقال لهم: إنَّ النار وغيرها أمر واحد، وعندئذٍ

٢٠٩

والتبليغ والجهود والتضحيات لدى الإنسان التي هي آثار للاختيار تتنافى مع الإلغاء الكامل للاختيار. أجابوا: بأنَّ إرادة الإنسان جزء من الفعل، بينا وجّه الناقد نقده مع التسليم بهذه المقدمة. والناقد ـ كما هو واضح ـ لا

تتكلّم فطرتهم الواقعية، ويعترفون بالحقيقة.

وقد نظم هذه الفكرة مولانا جلال الدين الرومي شعراً، فقال:

ذهب أحدهم إلى أعالي الشجرة..

ليقطف بعنفِ السارق ثمرتها..

فجاء صاحب البستان وقال له: أيها الدني..

أما تخجل من الله ؟! أي عمل أنت عامل..

قال: إنَّ عبد الله يأكل من..

بستان الله الذي خلقه عطيةً للناس..

فحمل عليه البستاني وشده على الشجرة بعنف..

وأخذ يضرب بشدة ظهره وأضلاعه بالعصا..

فصاح به: استح من اللّه..

فسوف تقتل هذا البريء، آخ آخ..

فقال له: إنَّ عبد الله يضرب..

ظهر عبده الآخر بعصا الله..

فالعصا لله والظهر والأضلاع..

له وأنا عبدٌ وآلةٌ لأوامره..

فصاح: تبت من الجبر أيها الكيّس..

اختيار اختيار اختيار..

٢١٠

يقول إنَّ الإنسان ليس جزءاً من أجزاء علّة الفعل، بل يقول مع أنَّ الإنسان جزء من أجزاء علّة الفعل، ومع أنَّ الفعل في الخارج يوجد بالضرورة

الجبر والاختيار والأخلاق:

تُقرأ إشكاليات الجبر والاختيار في ضوء التربية والأخلاق من زاوية خاصة، حيث يطرح الاستفهام التالي: هل الصفات النفسية الإنسانية تخضع للتغيير أم لا ؟ إنَّ جميع النظم الأخلاقية، رغم الاختلافات القائمة بينها في تحديد الأهداف والوسائل، تسلّم بحقيقة إمكانية تغيير الصفات الإنسانية، وإنَّ العادة يمكن أن تحل محل الطبع. يقول علماء الأخلاق إنَّ التربية عبارة عن فن تشكيل العادات فتصبح العادة طبيعة ثانية للبشر. وهذا يعني أنَّ البناء الروحي للإنسان مَرِن يتقبل الجديد من السلوك، الذي يتحوّل بالتكرار إلى ملكة راسخة.

وتقف مقابل هذه النظرية نظرية أولئك الذين يذهبون إلى أنَّ طبيعة البشر لا تقبل التحوير والتغيير، ولا أثر للأخلاق والتربية لدى الطباع الخبيثة، بل تربية هذه الطبائع دوران في حلقة مفرغة. يرى هؤلاء أنَّ أشجار الصفصاف لا تعطي ثماراً، وإنَّ قصب البردي لا يعطي سكراً، وإنَّ الأرض السبخة لا تُنتج سُنبلاً، وإنَّ الحديد الرديء لا ينتج سيفاً جيداً، فكذلك الإنسان سَيّء الطبع ورديء الجوهر لا يطهر ولا تسلم نفسه، ولا يضحى مصدراً للأعمال الخيرة، والشخص الذي يُخَلق سَيّء الطبع فسوف لا يغير طبعه.

حصير حظ الشخص إذا حيك أسودا..

لا يمكن أن يَبْيَضَّ بماء زمزم والكوثر..

٢١١

بواسطة اجتماع هذا الجزء مع بقية الأجزاء، فإنَّ الفعل ما لم تكن نسبته إلى الإنسان متساوية الطرفين، أي أنَّ نسبة الفعل للإنسان نسبة الإمكان،

يقول جلال الدين الرومي على لسان منكري دور الأنبياء لإنكارهم أثر التربية والإرشاد:

قال القوم: أيّها الناصحون كفاكم نصحاً..

فما تقولونه معقول..

إذا كان هناك سامع بنسبة واحدة من عشرة..

بهذه الصورة خلقنا المصوّر..

وسوف لا تتغير هذه الصورة بالحوار والكلام..

قل مئة عام للحجر: كن جوهراً..

أو للعتيق: كن جديداً..

أو قل للتراب: خذ صفات الماء..

أو قل للماء: كن عسلاً أو لبناً..

أو قل للنار لتكن نوراً خالصاً..

أو قل للبقّة: أن تطير عكس التيار..

أو قل للقلب: كن ذهباً خالصاً..

أو كن أكسيراً تصنع المعجزات..

فهل تتبدّل أيّ من هذه الصفات ؟!..

متى يصبح الماء عسلاً أيها المحترم ؟..

٢١٢

بحيث يمكن أن يصدر من الفاعل ويمكن أن لا يصدر، فسوف لا يكون أي معنى للأمر والنهي والجزاء والحساب والتعليم والتربية والدعوة

ثمّ يجيب عليهم بلسان الأنبياء فيقول مولانا جلال الدين الرومي:

قال الأنبياء: نعم، لقد خلق الباري..

صفاتٍ لا يمكن التخلّي عنها..

وخلق صفات عارضة..

تحول المبغوض مرضياً أحياناً..

لقد خلق آلاماً لا علاج لها..

كالتخلف العقلي والفطس والعمى..

وخلق آلاماً لها علاج..

كالقوة ووجع الرأس..

بل أغلب الآلام لها علاج..

تجده إذا كنت جاداً في البحث..

لقد خلق هذه العلاجات لتلائمها..

وليست هذه الآلام والعلاجات اعتباطية..

وبغض النظر عن أنَّ موضوع الطبع الحسن والرديء لا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع الجبر والاختيار بمفهومه الفلسفي، فإنَّ هذا الموضوع غير مقبول من الناحية العلمية. فإذا قرأنا هذا الموضوع من زاوية علمية يلزمنا الرجوع إلى قانون الوراثة البايلوجي فقد ثبت في البايلوجيا أنَّ الصفات الأخلاقية، رغم انتقالها من جيل إلى جيل كما تنتقل السمات النوعية، لكنّها لا تتمتّع بالثبات الموجود في المواصفات النوعية، بل تقبل التغيير

٢١٣

والتضحية. ففي هذه الحالة ألا تكون الإجابة على هذا الناقد بأنَّ الإنسان أحد أجزاء علّة فعله، وأنَّ الفعل الإنساني بدون الإنسان لا يتوفّر على وجود

والتحوير والزيادة والنقصان، جَرّاء العوامل التربوية والأخلاقية. ومضافاً إلى أنّنا نحسّ ونجد بالوجدان أثر التربية في الأفراد والشعوب. إنَّ أهم ظاهرة تلفت نظر علماء الاجتماع اليوم هي ظاهرة النظم التربوية والأخلاقية للشعوب والأُمم.

الأمر بين الأمرين من زاوية فلسفية وكلامية وأخلاقية:

اتّضح في ضوء ما تقدّم أنَّ النظرية السليمة في قضية الجبر والاختيار ـ سواء عالجنا الموضوع من زاوية فلسفية أو كلامية أو أخلاقية ـ هي نظرية الأمر بين الأمرين ؛ إذ لاحظنا أنَّ الأفعال الصادرة من الإنسان من زاوية فلسفية ممكنة الوقوع وعدم الوقوع، هذا من جانب، ومن جانب آخر فما هو واقعٌ واقعٌ، وما هو غير واقع غير واقع. أي لا الضرورة المطلقة حاكمة ولا الإمكان بشكل تام، بل هو أمر بين أمرين. أي الضرورة حاكمة من زاوية والإمكان حاكم من زاوية أخرى ؛ وحينما يدرس الموضوع من زاوية كلامية نلاحظ أنَّ الأفعال ليست مستندة بشكل محض لإرادة الباري، وليس للإنسان أي دور فيها، ولا هي مستندة بشكل محض لإرادة الإنسان، وليس للفعل أي علاقة بإرادة الباري. بل هي أمر بين أمرين، فالفعل في نفس الوقت الذي يستند فيه إلى ذات الإنسان، يستند إلى إرادة الباري أيضاً، على أنَّ الاستناد إلى الإرادتين طولي ( لا عرضي، وعلى نحو الشركة ) ؛ وحينما نقرأ الموضوع من زاوية أخلاقية نلاحظ أيضاً: لا الطبيعة الموروثة ثابتة ولا تقبل التغيير، ولا الطبيعة الأخلاقية الموروثة أمر لا واقع له بالكلية، بل

٢١٤

خارجي، ألا تكون هذه الإجابة مضحكة ؟!

* * *

أمر بين أمرين. أي رغم أنَّ بعض السجايا الأخلاقية تنتقل من جيل إلى جيل عبر العوامل الوراثية، فإنَّها بفعل المؤثرات التربوية ممكنة التغيير والتحوير والضعف والشدة.

بحث مع المادّيين:

الماديون أنصار لمذهب الجبر بشكل كامل، وقد ذهبوا إلى نفي أي لون من ألوان الاختيار والحرية للإنسان مقابل العوامل المادية للمحيط والجبر التاريخي. لقد سعى الماديون أن يصوّروا الإنسان محكوماً للطبيعة وتابعاً لها بشكل مطلق، وإنّها تابع محض في جميع الآثار والأفعال والأفكار والمنهج والمسلك للوضع الخاص المادي الموضوعي. وعلى أساس هذه النظرية المادية فسر الماديون التاريخ الإنساني تفسيراً مادياً، فذهبوا غلى أنَّ كل ظاهرة اجتماعية وكل حركة وتطوّر وثورة تنتج جَرّاء الوضع المادي الموضوعي. وجَرّاء الظروف المادية الموضوعية. ويرى الماديون أنَّ ظهور المذاهب الفكرية والمدارس الفلسفية والفنية والعلمية في كل عصر من العصور انعكاس للوضع الخاص للحاجات المادية في حياة البشر خلال ذلك العصر. وفي المحصلة لا ينحصر دور البطن في الحياة المادية والمعيشية. بل يلعب البطن ونظائره دوراً أساسياً في فكر وعلم وعقل وصنعة وفن وأخلاق وتجليات الإنسان المعنوية والروحية.

لقد تشبث الماديون لإثبات مذهبهم الجبري بسفسطات غريبة، الدكتور

٢١٥

....................................................................................................................................................................................................................................................

آراني في كتيبه " الجبر والاختيار " بعد مقدمة يوضح فيها أنَّ قانون العلية هو القانون الذي يحكم الظواهر والحواث، يقول:

" بيّنا لا تقع أي ظاهرة في الطبيعة بدون علّة، وإنَّ جميع الحوادث تقوم على أساس قوانين معينة ونظم مقررة، وقد أوضحنا مفهوم القانون والناموس، يلزمنا أن نجيب هنا على الاستفهام التالي: هل هذه النواميس جبرية أم اختيارية، أي هل قوانين العالم يجب أن تكون على ما هي عليه، أم من الممكن أن تأتي بشكل آخر، وبعبارة أخرى: هل العالم القائم بالفعل واجب أم ممكن ؟ والجواب على هذا الاستفهام واضح ؛ لأنَّنا حينما نذعن بأنَّ لكل أمرٍ علة، وإنَّ لكل علة معلولاً، أي أنَّها تتعاقب دائماً، وإنَّ كل علل معينة تعطي نتائج معينة، فسوف لا نستطيع أن نتصوّر أن هناك عالماً ممكناً. إذ يلزمنا حينئذ أن نتخيل نقطة معينة تتوقف فيها سلسلة العِلَل والمعلولات. وهذا خلف القاعدة التي آمنا بها سابقاً، إذ لا بد أن نعتبر هذه النقطة المعينة للتوقف معلولاً بلا علة، وهذا مجال منطقياً، إذن نستنتج أنَّ ليس هناك إعجاز في عالم الطبيعية... ".

نلاحظ:

أوّلاً: أنَّ موضوع الجبر والاختيار يرتبط بكيفية صدور الأفعال من الإنسان، وهو موضوع تناوله الفلاسفة بالبحث منذ عشرات القرون، فما هي علاقة هذا الموضوع بموضوع قوانين العالم، وإنَّها هل يجب أن تكون على ما هي عليه، أم من الممكن أن لا تكون ؟

ثانياً: لو فرضنا أنَّنا فهمنا الجبر والاختيار بالمعنى المتقدّم، يبقى لنا أن نتساءل ما هي

٢١٦

....................................................................................................................................................................................................................................................

علاقة هذا الموضوع بالاستفهام السابق: هل العالم الفعلي واجب أم ممكن ؟ وهل هناك منافاة بين أن نؤمن بأنَّ هذا العالم ممكن ونؤمن أيضاً بأنَّ هناك ضرورة ووجوباً عِلّياً ومعلولياً ؟ وقد اشرنا سابقاً إلى أنَّ الماديين لم يستطيعوا أن يفرّقوا بين الوجوب الغيري، الذي هو الوجوب العلي والمعلولي والذي يمكن أن يجتمع مع الإمكان الذاتي، وبين الوجوب الذاتي الذي لا يمكن أن يجتمع إطلاقاً مع الإمكان، وهذا الموضع شاهد على ما ادعيناه.

ثالثاً: ماذا يعني قول الدكتورآراني : إذا قلنا إنَّ هذا العالم عالم ممكن يلزم أن نتوهّم نقطة معينة لتوقّف سلسلة العلل والمعلولات ؟ إذا عنى أنَّه يلزمنا الإيمان بتوقف سلسلة العلل بعلة العلل وواجب الوجوب، فماذا يعني بقوله يلزمنا الإذعان بأنَّ نقطة التوقف معلول بلا علة. وهل معنى واجب الوجود أنَّه معلول بلا علة ؟!!! رابعاً: ماذا يعني في استنتاجه الأخير، حيث قرّر أن ليس هناك إعجاز في عالم الطبيعة ؟ فهل ادعى أنصار الإعجاز أنَّ الأعجاز عبارة عن معلول بلا علة ؟ وإذا كان الإعجاز معلولاً بلا علة فما هي علاقته بمصدر الإعجاز ومبدعه ؟ حقاً أنَّ جمع هذه السفسطات عبر هذه الأسطر أمر مدهش وغريب، والأغرب منه المنطق المستحكم الذي استخدمه الدكتورآراني !! لقد أرادوا إثبات الحتمية المادية، وتفسير التاريخ وفق أهوائهم.

ثم يقول الدكتورآراني بعد بضعة أسطر:

" وهذا الموضوع يصطلح عليه فلسفياً الجبر والاختيار ( التفويض )، ومعالجة هذا الموضوع تشكل أساساً لعامة الفلسفات والمذاهب. ويطلق على الذاهبين إلى حتمية الإرادة الإنسانية ( الجبريّين )، ويوسم مخالفوهم بالمفوضية أو أصحاب مذهب الاختيار ".

٢١٧

....................................................................................................................................................................................................................................................

اتضح في ضوء ما تقدم أنَّ التفويض مصطلح خاص بالمعتزلة. وله مفهوم خاص، ولا يعني التفويض مفهوماً مرادفاً للاختيار الذي نؤمن به، ولا مرادفاً لنفي العلية. وحينما يستخدم مصطلح الجبر مقابل التفويض فله مفهوم خاص أيضاً، أوضحناه سابقاً، ولا علاقة له بمفهوم العِلّية أو مفهوم الوجوب العِلّي والمعلولي.

ويقول أيضاً:

" السبب الرئيسي لظهور هذا الاعتقاد ( الاعتقاد بالاختيار ) ينشأ جَرّاء الخلط في أغلب الأحيان بين تصور استقلال الإرادة، وبين ذات الاستقلال والاختيار. مثلاً أنَّ خطيباً وضع أمامه كوباً من عصير الفواكه وبعد أن تحدث مدة من الزمان تناول جُرعَة من عصير الفواكه. فليس هناك شخص أجبره على تناول العصير بل أنَّه تناول العصير وشربه باختياره، ومن المتيقن أنَّه يحس باختياره بوجدانه. ولكن هل يصبح هذا الاطمئنان الوجداني دليلاً على أنَّه تناول العصير باختياره واقعاً ؟ كلا ؛ لأنَّ كل فرد متأمّل يعرف أنَّ الخطيب تناول عصير الفواكه بهذه الحرارة، لأنَّ حنجرته يبست، وهذه اليبوسة جَرّاء تحدثه، الذي أدى إلى حدوث تغييرات داخلية، دفعته إلى شرب العصير ؛ إذن فعلة هذه الممارسة تغيير فسيولجي ( جسمي وآلي ) حدث لدى الخطيب، وأجبره على تناول العصير ".

نلاحظ:

أوّلاً: إنَّ موضوع حرية واختيارية الإنسان لا علاقة له بموضوع استقلال الإرادة. على أنَّ إرادة الإنسان حادثة من حوادث العالم

٢١٨

....................................................................................................................................................................................................................................................

أيضا وظهورها وحدوثها ينشأ جَرّاء علل معينة. ثانياً ـ أخطأ الدكتورآراني بقوله: " إنَّ التغيير الفسيولوجي للخطيب اجبره على شرب العصير "، إنَّ هذه العوامل تدفع الإنسان صوب الحركة دائماً، لكنّها لا تجبره، أي يبقى الإنسان محتفظاً بقدرة مقاومة هذه العوامل، فإذا تيقّن الإنسان بعد المقارنة والمحاسبة أنَّ ضرر شرب العصير أكثر من فائدته، كما لو قدر الخطيب في المثال المتقدم أنَّ تناول العصير يفضي إلى آثار سيئة فسوف يقمع غريزته، ويقلع عن تناول العصير. إذن ليس هناك إجبار للإنسان حال الإثارات الغريزية، التي تنبع من الطبيعة المادية. فالإنسان ذو شخصية أخلاقية. والشخصية الأخلاقية للإنسان ترتهن بحجم مقاومته أمام إثارات الغرائز، وإذا كان الإنسان خاضعاً تماماً لهذه الإثارات فلا معنى لشخصيته الأخلاقية حينئذٍ.

هناك ملاحظة نفسية حول هذا الموضوع، ذات سر فلسفي هام، وهي أنَّ الإنسان الذي يقاوم الإثارات الغريزية يحس بداخله بشعور الانتصار، وكأنَّه تغلَّب على خصم له. والعكس حينما يتجاوز هدفاً أخلاقياً من أجل هدف غريزي حيث يشعر بالضعف والانكسار، وكأنَّه خسر معركة أمام خصومه. بينا نلاحظ أنَّ الفاعل في الحالتين شخص واحد وإرادة لشخص واحد تبادر للفعل. لقد أشار علماء النفس إلى هذه الملاحظة وهي أمر ممكن لكل شخص أن يجده حينما يراجع ضميره.

إنَّ هذه الملاحظة تؤكد لنا أنَّ الحياة الأخلاقية والمعنوية للإنسان أشد أصالة من الحياة المادية. وإنَّ شخصية الإنسان الواقعية ترتهن بالأهداف المعنوية والأخلاقية، وإنَّ الجوانب الحيوانية والشهوية طفيلية بالنسبة

٢١٩

القضايا التي ثبتت في هذه المقالة:

١ ـ هناك نسبة بين الوقائع الخارجية، تسمّى نسبة الضرورة، مقابل نسبة أخرى تسمّى الإمكان.

٢ ـ كلّ ظاهرة خارجية، ما لم تتوفّر على الضرورة فسوف لا توجد.

٣ ـ كلّ موجود خارجي يتّصف بالضرورة، حال وجوده.

٤ ـ تترشّّح ضرورة وجود كلّ معلول من ضرورة وجود علّته.

٥ ـ كلّ ضرورة بالغير ( أي بواسطة علّة ) تنتهي إلى ضرورة بالذات. أي أنَّ الضرورة على نحوين، بالذات وبالغير.

٦ ـ كلّ سلسلة من الضرورات المترتبة متناهية.

٧ ـ هناك ضرورة أخرى لدينا تسمّى الضرورة بالقياس، تنشأ جَرّاء نسبة المعلول إلى العِلّة، وهناك إمكان أيضاً يسمّى الإمكان بالقياس.

٨ ـ الأمر بين الأمرين هو الموقف المختار بين الجبر والتفويض.

لشخصية الإنسان الواقعية. فإنَّه يحس بالانتصار، لأنَّ شخصيته الواقعية تغلّبت على طفيليات وجوده، ويحس بالانكسار لأنَّ شخصيته الواقعية انهزمت أمام الطفيليات، أي أنَّ الإحساس بالنصر والخسارة ينبع من غريزة حب الذات.

ومن هنا ينبغي أن نفهم إجمالاً أنَّ الحياة المعنوية والأخلاقية للإنسان ليست تابعةً لحياته المادية، بل هي مستقلة، خلاقاً للماديين. وسوف نوضح هذا الموضوع في موضع آخر.

٢٢٠