أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي0%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: الصفحات: 303
المشاهدات: 92123
تحميل: 8329

توضيحات:

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92123 / تحميل: 8329
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مخلوطاً بالظلمة، والمرتبة القوية ليست نوراً وأمراً آخر. بل المرتبة القوية نور فحسب، والمرتبة الضعيفة نور فحسب أيضاً، وكلاهما نور رغم

مبدأ " إنَّ هناك واقعاً موجوداً، وأنَّ العالم ليس خواء ووهماً محضاً ".

وهذا الأصل لا يمكن الشكّ فيه من وجهة نظرنا. وقلنا إنَّ هناك أمراً آخر لا يمكن الشك فيه أيضاً، وهو أنَّ الذهن يعكف على تنويع هذا الواقع فيتوفّر على مظاهر مختلفة وأُمور متكثّرة، نظير " الإنسان، الشجرة، المقدار... وآلاف الأمثلة الأُخرى، التي تقع تحت عنوان الموجود " فيفضي هذا الأصل الأولي " إنَّ هناك موجوداً " إلى قضية أُخرى: " إنَّ هناك موجودات ".

نأتي الآن لنرى: هل الكثرة التي تبدو في الذهن أمر حقيقي أم أمر وهمي ؟ أي: هل الكثرة الذهنية كثرة واقعية للموجودات، أم الذهن هو الذي يفترضها افتراضاً، ولا تمثل هذه الكثرة الذهنية ـ بأي وجه من الوجوه ـ كثرة واقعية.

مع أخذ نظرية أصالة الوجود بنظر الاعتبار يتغيّر طرح هذه المسألة. فقد قلنا في بحث أصالة الوجود: إنَّ الماهيات التي يفترضها الذهن أموراً واقعية ذات وجود، هي أُمور انتزاعية بحتة، والأمر الواقعي الوحيد الذي يملأ عالم الخارج هو الوجود والواقع ذاته. من هنا، فكلّما جرى الحديث عن العينية الخارجية تخرج الماهيات عن دائرة الدراسة والتحقيق، ويضع الوجود قدمه في هذه الدائرة. وحيث نتحدّث هنا عن وحدة وكثرة عالم العينية الخارجية، فمن المحتّم أن يكون الوجود هو موضوع البحث في الوحدة والكثرة.

أمّا إذا اتخذنا الماهيات أُموراً عينية وواقعية وانطلقنا منها في البحث حول هذه المسألة فلا مجال للحديث عن الكثرة الواقعية العينية ؛ إذ الماهيات

٦١

اختلافهما. والأمر كذلك في حقيقة الوجود حينما نلاحظ تجلياته المختلفة فهي كثيرة وواحدة أيضاً.

البادية في أذهاننا متكثّرة ومختلفة ومتباينة بالبداهة، وفرض المسألة هنا أنَّ هذه الأُمور المتكثّرة المتباينة هي التي تشكل الواقع العيني، إذن ؛ فالواقع العيني مؤلّف من هذه الأمور المتكثّرة المتباينة.

أمّا إذا آمنا أنَّ الوجود هو الأمر العيني والأصيل، والماهيات اعتبارات ذهنية فسوف يكون هناك مجال للبحث ؛ إذ ليس للوجود في أذهاننا سوى مفهوم واحد، ومن هنا يلزم التحقيق في: هل حقيقة الوجود، الذي يطرد العدم ويشكل الخارج أمر واحد أم كثير ؟

فإذا كان أمراً واحداً كيف أمكن أن يكون الأمر الواحد من جميع الجهات منشأ لانتزاع الماهيات الكثيرة المتباينة ؟ أيّ ما هي علّة تصوّرنا لأنواع كثيرة وأفراد مختلفة ؟ وإذا كان كثيراً فلماذا لا نمتلك أكثر من مفهوم واحد عن الوجود في أذهاننا ؟

في ضوء الصورة التي تطرح عبرها هذه المسألة، انطلاقا من نظرية أصالة الوجود، وفي ضوء النظريات المطروحة في هذا المجال، يمكن أن نضع هذه المسألة في صيغة الاستفهام التالي:

هل تحكم الواقع " الوجود " الوحدة المحضة، أم الكثرة المحضة، أم الوحدة والكثرة معاً ؟

هناك ثلاث نظريات في الإجابة على هذا الاستفهام:

الأُولى: وحدة الوجود.

الثانية: كثرة وتباين الوجودات.

الثالثة: الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة ( تشكيك الوجود ).

٦٢

على أن لا نحسب هذه الكثرة كثرة عددية ؛ لأنَّ العدد والرقم بدوره تجلّيات مختلفة للوجود أيضاً.

وحدة الوجود:

تنسب هذه النظرية ـ مع أخذ نظرية اعتبارية الماهية بنظر الاعتبار ـ إلى العرفاء. وهم لا يعتمدون الاستدلالات والبراهين العقلية التي يعتمدها الفلاسفة، إنَّما يعدون السبيل الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه هو المكاشفة والشهود الباطني. وعن هذا السبيل يُؤَمنون صحّة نظرياتهم. ولا يهتمّون بعدم تطابق هذه النظريات مع القواعد العقلية، لأنَّهم يعتقدون أنَّ الكشف والشهود مرحلة أعلى من العقل، وعبر هذه المرحلة يمكن تسديد أخطاء العقل. كما هو الحال بالنسبة إلى دور العقل فيما يقع الحسّ فيه من أخطاء لا حصر لها، حيث يقوم العقل بتصحيحها.

على أيّ حال يعتمد العرفاء في نظرية وحدة الوجود على هذه الأُسس، ولا يهتمّون في تطابق نظريّتهم مع القواعد العقلية أو الحسّية. لكنّهم يستخدّمون أحياناً القواعد العقلية الفلسفية، للرد على الفلاسفة ونقض نظريّاتهم وتأييد نظريّتهم.

بل يردون ميدان الجدل أحياناً بأدلّة مفحمة تحرج الفلاسفة. وموضع بحثنا نموذج لهذا الجدل، ولذا طرحنا نظرية العرفاء هنا.

يستدلّ العرفاء على وحدة الوجود عن طريق تساوي الوجود مع الوجوب الذاتي، وتساوي الوجوب الذاتي مع الوحدة من جميع الجهات. ويرجع استدلال العرفاء في الواقع إلى مقدّمتين ونتيجة:

١ ـ الوجود يساوي الوجوب الذاتي.

٢ ـ الوجوب الذاتي يساوي الوحدة من جميع الجهات.

٦٣

٣ ـ الماهيات الحقيقية ( التي أسميناها تجليات مختلفة للواقع الخارجي في الذهن ) في عين كونها أموراً إعتبارية ذهنية لا اثر لها

إذاً الوجود مساوٍ للوحدة من جميع الجهات.

لا شك أنَّ كلتا المقدّمتين تستدعيان التأمل والفحص العميق. سنشير في نهاية المقالة إلى البحث في المقدمة الأُولى وسنتناولها بالتفصيل في المقالة الثامنة، خصوصاً في المقدمة المسهبة التي حرّرناها هناك، وسنتناول بالتحقيق المقدّمة الثانية في المقالة الرابعة عشرة، حينما نتناول بالبحث " توحيد واجب الوجود ".

إنَّ أهم نقاط ضعف استدلال العرفاء سيأتي في المقالة الثامنة، وهو تساوي الوجود مع الوجوب الذاتي. على أنَّ منافذ نقاط ضعف استدلال العرفاء ستتّضح ضمن بيان النظرية الثانية والثالثة.

إنَّ احد الأسباب التي أدت بشيخ الإشراق إلى تبنّي نظرية اعتبارية الوجود هو: إنَّه أراد تهيئة الأرضية للمقدّمة الأُولى من استدلال العرفاء، أي أنَّه وجد الإيمان بأصالة الوجود يحتّم الإيمان بمساواة الوجود للوجوب الذاتي، وحيث أنَّ مساواة الوجود للوجوب الذاتي أمرٌ لا يرتضيه ذهب إلى اعتبارية الوجود، لكن أصالة الوجود أمر يتعذّر إنكاره. وموضوع مساواة الوجود للوجوب الذاتي له معالجة بطريقة أُخرى، سنطرحها بالتفصيل في مقدّمة المقالة الثامنة.

تباين وكثرة الوجودات:

إنَّ نظرية تباين وكثرة الوجودات نظرية يهضمها كل فرد في الوهلة الأُولى. ويرى الحكماء أنَّ العامة من الناس يختارون هذه النظرية بمنظارهم

٦٤

بالنسبة إلى الخارج فهي مختلفة بعضها مع بعضها الآخر، وقد تقدّم إيضاح ذلك. لكن هذا الاختلاف والتباين ينبثق من عالم الخارج، وبما أنَّ الاختلاف

السطحي. وتنسب هذه النظرية عادةً إلى حكماء المشّاء ومدرسة أرسطو. لكن هذه النظرية لم تطرح بصورتها الراهنة من قبل الحكماء المتقدّمين، بل ظهرت بعد طرح نظرية العرفاء، ومن هنا لا يمكن أن نحدّد نسبة قديمة لهذه النظرية. تعثر في كلمات ابن سينا ( الذي يُلقب برئيس المشّائين ) على عبارات تقف موقفاً مناهضاً تماماً لهذه النظرية.

اتّخذت هذه المسألة صورتها النهائية في ضوء أصالة الوجود، ونظرية أصالة الوجود لم تكن مطروحة من قبل الحكماء المتقدّمين، فكيف أمكن نسبة هذه النظرية إلى أولئك الحكماء ؟

على أيّ حال تقرّر هذه النظرية أنَّ الملاء الخارجي يتألّف من " وجودات "، وهناك وجودات بعدد أنواع الماهيات، بل هناك وجودات بعدد أفراد أنواع الماهيات الظاهرة في الذهن. وكل وجود بالذات يباين الوجود الآخر، وليس هناك إمكان للعثور على أي لون من ألوان السنخية والاشتراك بين الموجودات. بل وجه الاشتراك الوحيد هو: إنَّ الذهن ينتزع مفهوماً واحداً " مفهوم الوجود " من بين حقائق الوجود المختلفة، التي ليس بينها أي لون من ألوان السنخية والتجانس.

تستمل هذه النظرية على جانبين:

الأوّل: إنَّ الوجود ليس أمراً واحداً من جميع الجهات، وليست هناك كثرة في ذاته ( خلافاً للنظرية الأولى ). بل هو كثير ومختلف، أي أنَّ عالم الخارج يتألّف من وجودات، لا من الوجود.

الثاني : إنَّ هذه الوجودات الكثيرة متباينة مع بعضها، وليس هناك أي

٦٥

الخارجي أصيل وعين الواقع الخارجي فسوف لا يكون اعتبارياً وذهنياً.

ونلاحظ من زاوية أُخرى أنَّ جميع الماهيات وأحكامها وآثارها ترتد

سنخية بينها، ( خلافاً للنظرية الثالثة ).

أمّا الدليل على الجانب الأوّل لهذه النظرية فهو:

رغم أنَّ الماهيات التي تظهر في أذهاننا كثيرةً أمور اعتبارية، لكن الكثرة الذهنية تمثل كثرة واقعية خارجية حتماً ؛ لأنَّ الماهيات الذهنية تمثل الوجود الخارجي، فكما يستحيل أن لا يكون هناك واقع خارجي، وأن الذهن يخترع تصوّراتٍ عن الواقع الخارجي ـ كما تقدّم في المقالة الرابعة ـ كذلك لا يمكن أن يكون الواقع الخارجي أمراً واحداً محضاً، وينتزع الذهن من هذا الأمر الواحد الحقيقي ماهيات كثيرة.

وإذا كان الوجود الذي هو الحقيقة العينية الوحيدة أمراً واحداً محضاً فسوف تكون التصوّرات الحسّية والعقلية المختلفة أمراً جزافياً ووهميّاً، إذن ؛ فقبول نظرية وحدة الوجود يستلزم تكذيب العقل والحس وإنكار أوضح البديهيات.

أما الدليل على الجانب الثاني فهو بساطة الوجود، إيضاح ذلك: إذا كان هناك بين أمرين أو أكثر وجه مشترك وملاك للوحدة، فمن المحتّم أن يكون هناك وجه للتمايز وملاك للكثرة أيضاً ؛ إذن فهذا الشيء في الحقيقة مؤلّف مما به الاشتراك ومما به الامتياز. على أنّ هذه الفكرة صادقة في الأمور المركبة لا الأمور البسيطة. لكن الثابت بالبرهان ويؤمن به جميع الحكماء هو أنّ الوجود أمر بسيط، ولا يمكن أن يكون مركباً ممّا به الاشتراك وممّا به الامتياز، بل هذه التركيبات من مختصّات الماهيات.

إذن ؛ لا يمكن أن يكون بين وجود ووجود آخر وجه مشترك، إذن ؛

٦٦

للوجود وواقعية الوجود ؛ إذ تضحي الماهية ماهية بواسطة الوجود، ويكون الأثر والحكم أثراً وحكماً بواسطة الوجود، وإلاّ فهو خواء وباطل. وفي

فالحقائق الوجودية البسيطة حقائق مستقلة، وكل منها مباين للآخر، وليس بينها أي لون من السنخية. هذا هو الاستدلال الذي يمكن إقامته على نظرية تباين وكثرة الوجودات.

وهذا الاستدلال سقيم، وستتّضح الإجابة عليه عبر بيان النظرية الثالثة، التي هي النظرية الوحيدة العارية عن الإشكال، وتتمتّع في نفس الوقت بمزيد من العمق والدقة.

الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة:

الوجود ـ وفق هذه النظرية ـ الذي هو الأمر العيني الوحيد والأصيل حقيقة واحدة، ذو درجات ومراتب مختلفة. والماهيات المختلفة والمتكثرة التي تظهر لدى الذهن ليست وهماً وجزافاً، بل تُنتزع من مراتب ودرجات الوجود.

الوجود ليس أمراً واحداً محضاً ( وفق الدليل الذي قرّرناه للنظرية المتقدّمة )، بل هناك " وجودات "، أي أنَّ نظرية العرفاء لا يمكن قبولها. لكن هذه الوجودات ليست متباينة، بل هي مراتب لحقيقةٍ واحدة، ولها وجه مشترك وملاك للوحدة.

لكن التوفّر على وجه مشترك وملاك للوحدة وإن استلزم التوفّر على وجه للامتياز وملاك للكثرة، لكنه لا يستلزم أن يكون وجه الاشتراك مبايناً لوجه الامتياز ؛ لكي يتعارض مع بساطة الوجود، التي هي أمر مسلّم ويقيني، فما به الامتياز في الحقائق الوجودية من سنخ ما به الاشتراك، واختلاف

٦٧

ضوء هذه المقدّمات يجب أن نستنتج:

أوّلاً ـ الماهيّات وأحكامها وآثارها الذهنية لا تصدق بالنسبة للوجود وواقع

الوجودات بعضها مع بعض يرجع إلى شدّة وكمال وضعف ونقص هذه الوجودات. والشدّة والضعف إنّما تصدق في مورد درجات الحقيقة الواحدة، ولا تصدق فيما سوى ذلك.

والواقع أنَّ إدعاء أَنصار النظرية الثانية: ضرورة اختلاف ما به الاشتراك عما به الامتياز ينشأ من قياس الوجود على الماهية. وبعبارة أُخرى أنّه ينشأ جراء قياس الواقع العيني على المفاهيم والمعاني الذهنية. بينا يرجع تحليل المفاهيم إلى ما به الاشتراك وما به الامتياز وتغايرهما إلى سمات الذهن الخاصة، وهو نتيجة قدرة الذهن على التحليل.

إنَّ ميزة الذهن تكمن في تحديد الواقع العيني، ويمكن القول ـ من زاوية من الزوايا ـ إنَّ الإدراك لا يتعدّى تحديد الواقع العيني في أفق الذهن. وقد كرّرنا مراراً أنَّ الدرس الفلسفي للواقع لا يتيسّر قبل معرفة الذهن وأسلوبه في صياغة المفاهيم، أي لا بدّ من تشخيص خصوصية الذهن في تعامله مع المفاهيم أوّلاً، لكي يمكننا في ضوء هذا التشخيص التعرّف على الحقيقة الواقعية. فالذهن على أساس خصوصياته يصوغ مفهوم العدم، وينسب هذا المفهوم إلى الأشياء في عالم الخارج، وتتطابق هذه النسبة مع الواقع ونفس الأمر، بينما نعلم أنَّ العدم لا واقع له في عالم نفس الأمر، إنّما ينتزعه الذهن جراء نسبة مرتبة من مراتب الوجود إلى مرتبة أُخرى غير مرتبة واقعه، وكما قرر في المتن " إنَّ العدم في الخارج أمر نسبي، ويظهر جراء نسبة الوجود في ظرف تحقّقه إلى ظرف آخر " إذن ؛ فالعدم في أُفق الذهن وفي عالم الخارج نحوان ولونان مختلفان.

٦٨

الوجود، نظير أنَّ الماهية بذاتها أمر كلّي، وتصدق على ما لا يتناهى من أفراد فرضية، نظير الإنسان حيث يصدق على كلّ فرد خارجي وفرضي.

وما دام دور الذهن هو تحديد الواقع ورسم حدود للواقعيات، هذه الحدود التي تظهر في الذهن مستقلة متباينة، تحكمها كثرة حقيقية، فماهيات ومفاهيم الذهن على هذا الحال. قال الحكماء: إنَّ الماهيات هي ملاك الكثرة، وتحكمها " بينونة عزلية "، لكن الواقع العيني في عالمه يتوفّر على جميع هذه الأُمور المتباينة بشكلٍ آخر ّ. ويمكن في مقام التشبيه الاستعانة بصورة البحر والأمواج والأشكال التي تظهر على سطحه، فكل شكل من الأشكال التي تظهر على سطح البحر يختلف عن الشكل الآخر، لكن البحر الذي تتجلّى فيه هذه الأشكال والأمواج حقيقة واحدة، وفي نفس الوقت تظهر فيه حركات الجزر والمد والسكون والهيجان.

على أيّ حال نطلق على هذه السمة الوجودية " التشكيك "، وحيث إنَّ هذه السمة من مختصات الوجود، وليس لها مشابه ونظير واقعي نستعين بذكر بعض الأمثلة، التي تقرب تصور ( تسانخ ما به الاشتراك وما به الامتياز ):

المثال الأوّل: نأخذ سلسلة الأعداد، التي تمثّل كثرة لا متناهية، لنتعرّف على ما به الاشتراك وما به الامتياز فيها. فالأعداد من (٢) إلى ما لا نهاية تشترك في العددية، والعدد يعني مجموعة وحدات ؛ إذن كل عدد يشترك مع العدد الآخر في كون كل واحد منهما مؤلّفاً من وحدات. على أنَّ كل عدد يختلف عن العدد الآخر، ويتمايز عنه ؛ إذ من الواضح أنَّ العدد (٤) يختلف عن العدد (٥)، والعدد (٥) يختلف عن العدد (٦) وهكذا... أمّا ما به الامتياز في كلّ عدد فهو ليس مغايراً لما به الاشتراك، أي أنَّهما ليسا من جنسين

٦٩

بينا الأمر ليس كذلك في الوجود. فهو عين الخارجية والشخصية، والوجود أساساً لا يصدق على شيء آخر، ولا يحكي عما وراءه، بل وجود كل شيء

مختلفين ؛ إذ امتياز كل عدد عن الآخر يحصل بإضافة وحدة من الوحدات، أي ما هو ملاك العددية وملاك الاشتراك هو ملاك الاختلاف والكثرة والامتياز بينها.

وعلى أساس هذه الخصوصية تكون الأعداد بالطبع طولية، بعضها مع البعض، وليست عرضية، وكل مرتبة من مراتب الأعداد هي فوق بعضها، وتحت بعضٍ آخر، أي أنَّ أفراد ماهية العدد أفراد طولية لا عرضية ؛ ولو كان ما به الامتياز مغايراً مغايرة سنخية عما به الاشتراك، فليس هناك معنى للأفراد الطولية، بل ليس هناك معنى للكمال والنقص في أفراد النوع الواحد، بل يمكن القول إنَّ الكمال والنقص ليس لهما مصداق في أي مورد.

المثال الثاني : نأخذ مثالاً أقرب، وهو مثال النور القوي والنور الضعيف، فالنور الضعيف والقوي مشتركان في حقيقة النورية، في نفس الوقت الذي يختلفان ويتمايزان فيه. وهذا التمايز في الشدة والضعف، مع أنَّ الشدة والضعف في النور ليس خارجين عن حقيقة النور، أي أنَّ النور لا يشتد أو يضعف جراء اختلاط النور بغيره، فالنور الضعيف ليس مركباً من النور وغيره، والنور الشديد ليس مركباً من النور وغيره، إذن ؛ ما به الاشتراك بين النور القوي والنور الضعيف هو النورية ذاتها، وما به الامتياز هو تراكم وعدم تراكم النور، وتراكم النور ليس أمراً خارجاً عن حقيقة النور.

المثال الثالث: نأخذ مثالاً أفضل من الثاني، وأبعد عن الإشكال، وهو مثال الحركة السريعة والبطيئة، فكل من الحركة السريعة والبطيئة حركة، والوجه المشترك بينهما هو الحركة ذاتها، والسريعة تغاير بالضرورة

٧٠

هو واقعيته وذاته. ونظير أنَّ الماهية الكلّية تنحسر عن كلّيتها وعمومها بضم القيود إليها، كالإنسان والإنسان العالم، والإنسان العالم المؤلّف،

البطيئة، وما به الامتياز بينهما هو السرعة ذاتها. ولكن حينما نأتي إلى تحليل السرعة نلاحظ: أنَّها ليست مغايرة لجنس الحركة، يعني ليست حرارةً، أو بياضاً، أو شكلاً ؛ حيث تلحق الجسم. بل سرعة الحركة تعني زيادة وتراكم الحركة، ومن البديهي أنَّ زيادة الشيء، وإن اختلفت مفهوماً عن الشيء ذاته، ويعدهما الذهن من قبيل الصفة والموصوف، لكنها ليست مصداقاً مغايراً لذات الحركة. ومثال الحركة أقرب التشبيهات لموضوع بحثنا، ويمكن القول إنَّ المثال من جنس المشبه به. وسوف تتّضح هذه الحقيقة بجلاء حينما سنبحث في المقالة العاشرة موضوع الحركة.

من هنا فالدليل الذي أقيم على " تباين الوجودات " انطلاقا من أنَّ جهة الاشتراك يلزم أن تغاير جهة الامتياز دليل خاطئ. وبغض النظر عن عدم سلامة هذا الدليل فهناك أدلة يمكن إقامتها على إبطال فرضية تباين الوجودات. والنظرية الوحيدة التي يمكن قبولها هي النظرية الثالثة. أي النظرية التي أطلقنا عليها الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة " التشكيك الوجودي ". وها هي الأدلّة التي يمكن إقامتها على ذلك:

الدليل الأوّل: إذا كانت الوجودات حقائق متباينة فسوف ينعدم أي ارتباط واقعي بين الوجودات، لأنَّ الوجودات ـ حسب هذا الفرض ـ أجنبية بعضها عن بعض، ونسبة جميع الوجودات إلى بعضها متساوية في عدم وجود ارتباط بينها، بينا لا شكّ في وجود ارتباط واقعي ونظام حقيقي بين الوجودات بعضها مع بعض، وأنَّ هناك ارتباطا بين بعض الوجودات وبعض آخر لا نلحظه بين بعض آخر من الوجودات. فهناك ارتباط علّي ومعلولي

٧١

وكلّما كثرت القيود ضاقت دائرة المفهوم ؛ بينا الأمر ليس كذلك في الوجود ؛ لأنَّه لا يتصوّر ضم قيد خارجي للوجود ـ كما تقدّم ـ.

بين الوجودات، وهذا الارتباط واقعي وليس ذهنياً خارجاً عن وجودات الأشياء، كما سيأتي إيضاح تفصيلي لهذا الموضوع في المقالة التاسعة.

بينا يلزم ـ وفق نظرية تباين الوجودات ـ عدم وجود أي نسبة بين هذه الوجودات ؛ إذن تستلزم نظرية تباين الوجودات إنكار العلاقات السببية بين الأشياء إنكاراً قطعياً.

الدليل الثاني: نقسم الماهيات إلى مقولات عشر أو أكثر أو أقل، أي أنَّنا نجد للماهيات وجهاً مشتركاً أو وجوهاً مشتركة، وكلّ واحدة من المقولات تمثل ما به الاشتراك لعدد كثير من الأجناس والأنواع، كما يمثل كل جنس وجه الاشتراك لعددٍ كثير من الأنواع، ويمثّل كل نوع وجه الاشتراك لعدد كثير من الأفراد.

رغم أنَّ الماهيات نتاج الذهن البشري، ورغم أنَّ تصنيف المقولات نتاج فعاليات الذهن، ولا يمكن أن نحسب الواقع العيني قائماً على أساس هذا التصنيف، لكن تصنيف الماهيات تحت قاسم مشترك ( الجنس ـ الأنواع ـ الأفراد )، ودخول كلّ جنس تحت مقولة من المقولات، ليس وهميّاً واعتباطياً، بل له منشأ خارجي وجودي، وإذا كانت الوجودات متباينة تبايناً خالصاً، يلزم أن تكون جميع الماهيات متباينة بعضها مع بعض، وأن يكون كل مفهوم وماهية مقولة مستقلّة.

وبعبارة أُخرى: تمثل كثرة وتمايز الماهيات عن بعضها لوناً من الكثرة في عالم الوجود، وعلى هذا الأساس ذهبنا إلى إبطال نظرية العرفاء في الوحدة المحضة للوجود. واشتراك واتّحاد الماهيات في جنس واحد ومقولة واحدة يمثل أيضاً لوناً من الاشتراك والوحدة في عالم الوجود والواقع.

٧٢

ونظير تركيب الماهية من الذاتي والعرضي، والجوهر والعرض، والجنس والنوع والفصل... وغيرها، حيث تختص به الماهية، ولا يصدق

على أنَّ طراز الاشتراك والاختلاف في الوجودات يختلف عن طراز الاشتراك والاختلاف في الماهيات، لكن الاشتراك والاختلاف في الوجودات يظهر في الذهن بصورةٍ أُخرى على أساس خصوصية الذهن وميزته.

الدليل الثالث: سيأتي في بحث الحركة أنَّ فرضية أصالة الماهية، وفرضية تباين الوجودات، تتنافيان مع الحركات الاشتدادية والاستكمالية القائمة في الواقع. وحيث إنَّ وقوع الحركة ووقوع الاشتداد والاستكمال في الحركة أمر قطعي لا يعتريه الشك ؛ إذن ففرضية أصالة الماهية وفرضية تباين الوجودات يجب أن نرفع اليد عنهما بشكل تام.

الدليل الرابع: لدينا مفهوم واحد عن الوجود في أذهاننا، يصدق على جميع الوجودات العينية. ومن البديهي أنَّ انطباق مفهوم على مصداق لا يحصل اعتباطا ودون أساس. أي يجب أن تكون هناك جهة في المصداق يتمّ كلّ مصداق، أو عدم صدق أي مفهوم على أي مصداق. ومفهوم الوجود مفهوم صادق بالضرورة على جميع الوجودات العينية، فلو كان لكل موجود من الموجودات حقيقة مباينة تبايناً مطلقاً مع سائر الوجودات الأُخرى، يلزم أن لا تكون هناك جهة مشتركة يتم على أساسها صدق مفهوم الوجود على مفرداته، بينا يصدق مفهوم الوجود على مفرداته بالضرورة.

إذن ؛ في ضوء التحقّيق في وحدة وكثرة الواقع العيني تبقى النظرية الوحيدة، التي يمكن الاعتماد عليها هي نظرية " تشكيك الوجود "، حيث يمكن من خلالها تفسير النظام الخارجي العيني للموجودات، وتفسير النظام الذهني

٧٣

هذا التركيب في الوجود ؛ كما لا يتضمّن الوجود أي لون من ألوان التركيب الخارجي ؛ لأنَّ أي جزء فرضناه للوجود إنّما هو عين الوجود والواقع. وفي ضوء هذه الملاحظة نستنتج: إنَّ الوجود بسيط محض خالص.

للمفاهيم والماهيات أيضاً، فينسجم مع الحس والعقل معاً. وقد أطلقنا على هذه النظرية اسم " الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة " ؛ ويسوّغ لنا هذه التسمية أنَّ ملاك الكثرة ليس خارجاً عن ملاك الوحدة، وملاك الوحدة ليس خارجاً عن ملاك الكثرة. فحقيقة الوجود على أساس هذه النظرية واحد شخصي وكثير شخصي أيضاً، فإذا نظرنا إلى محض الحقيقة السارية في جميع المراتب فهي واحد بالشخص، وإذا نظرنا إلى المراتب والدرجات فهي كثير بالشخص.

* * *

ذكرت اثنتا عشرة مسألة في هذه المقالة تحت عنوان مسائل الوجود، وقد أوضحنا بشكلٍ كاملٍ سبع مسائل منها. والمسألتان المتقدّمتان تحتلان أهمية أساسية في تحديد مصير الفلسفة لا ترقى إليها أي نظرية أُخرى، أَعني مسألتي أصالة الوجود، وتشكيك الوجود. وأهمية المسائل الأُخرى تنشأ جَرّاء تمهيدها لهاتين المسألتين، والمسائل الأُخرى هي: ( بداهة الوجود ـ الوجود والماهية ـ مغايرة مفهوم الوجود لمفهوم الماهية ـ الاشتراك المعنوي لمفهوم الوجود ـ حقيقة الوجود لا تعلم بالعلم الحصولي ).

بقيت خمس مسائل من المسائل الاثنتي عشرة، وهي عبارة عن:

١ ـ الخواص الذهنية للوجود لا تنطبق على الماهيات.

٢ ـ الخواص الخارجية للماهيات من خط الوجود، وتظهر في عالم الوجود بشكل مغاير لظهورها في الذهن.

٧٤

ثانياً ـ إنَّ حقائق الماهيات المختلفة وخواصها وآثارها الخارجية، وإن كانت ترتد حقيقةً إلى الوجود وفي الوجود، لكنّها تتّخذ شكلاً آخر في مرحلة الواقع. مثلاً تحرق النار الخشب، ويبدّل الإنسان التفّاح إلى دم،

٣ ـ الموجود لا يعدم على الإطلاق.

٤ ـ تحقّق العدم في عالم الخارج أمر نسبي.

٥ ـ مطلق الوجود لا يقبل الزوال والعدم.

القارئ المحترم الخبير واقف على ما لهذه المسائل الخمس من أهمية في عالم الفلسفة. فهي بمثابة النتيجة للمسألتين الأساسيتين ( أصالة الوجود ـ تشكيك الوجود )، وعلى وجه الخصوص مسألة أصالة الوجود ؛ فالمسائل الاثنتا عشرة في الواقع تنقسم إلى ما هي تمهيدٌ ومقدّمةٌ لبحث أصالة الوجود، وإلى ما هي نتيجة لهذا البحث. وفي هذا المقطع من البحث نكتفي في إيضاح المسائل الخمس الأخيرة بما جاء في المتن، مضافاً إلى ما أوضحناه ضمن مسألة تشكيك الوجود بشأن طراز صياغة المفهوم الذهني، والاختلاف الحاصل بين المفاهيم ومصاديقها، جَرّاء خصوصية الذهن.

هذا مضافا إلى ما سيأتي من أفكار تساهم في إيضاح هذه المسائل في المقالات الثامنة والتاسعة والعاشرة. خصوصاً في مقدمة المقالة الثامنة، التي تبحث عن الضرورة والإمكان، فسوف نتناول بالبحث تفصيلا المسألتين الأساسيتين من هذه المسائل الخمس، أي " الموجود لا يعدم " و " تحقيق العدم في الخارج أمر نسبي ". ومن هنا نغمض النظر مؤقّتاً عن البحث في هذه المسائل، بغية تجنب تكرار ما سيأتي من أفكار في المقالات القادمة.

إنَّما ينبغي هنا تأكيد التذكير بأنَّ مفتاح معالجة هذه المسائل وبعض المسائل

٧٥

ولكن إذا أغمضنا النظر عن هذه الماهيات ورجعنا إلى متن واقع الوجود نجد أنَّ الواقعة لا تسلب واقعة أُخرى واقعيتها أو تغير واقعيتها ؛ لأنَّ الواقعية لا تسلب عن نفسها، وليس هناك شيء آخر غير والواقع لكي يتحوّّل إليه.

الفلسفية الهامة الأُخرى هو البحث في " أصالة الوجود واعتبارية الماهية ". فهذه المسألة تغيّر نظام الفلسفة العام، وتساهم في معالجة مشكلات كثيرة.

وعلى القارئ المحترم أن يهيئ ذهنه لفهم وهضم هذه المسألة، وأن يتدبّر في مقدّماتها ونتائجها. وسوف نعمد في المقالات القادمة أيضاً إلى تقرير وإيضاح هذه المسألة في كلّ مناسبة نتوفّر عليها ؛ بغية إنارة ذهن القرّاء المحترمين. ونحن على يقين بأنَّ الجهد المبذول في فهم وهضم هذه المسألة ـ مهما ازداد ـ أمر مطلوب. فرائد هذه المسألة " صدر المتألهين " قد كرر في كتبه التذكير بهذه النظرية، وطرح مضمونها وأدلتها في أبواب مختلفة بأشكالٍ مختلفة. وقد جاء في تعليقاته على حكمة الإشراق، بعد أن أسهب بالبحث حول هذه النظرية: " لقد بسطنا البحث في أطراف هذا الموضوع ( رغم أنَّ ما لم نقله أكثر ممّا قلناه ) ؛ لأنَّ هذه المسألة الشريفة المتعالية غامضة، وأهم المقاصد وأشرفها هي أن يُبذل السعي في تحصيلها ". ثم يتمثّل ببيت شعر عربي:

 لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً= على غير ليلى فهو دمع مضيّع

لقد اتّضح للقارئ المحترم في ضوء ما تقدّم أنَّ مسألة أصالة الوجود ذات زاوية نفسية وذات زاوية فلسفية أيضاً ؛ لأنَّها ذات طابع عيني وطابع ذهني معاً، فهي تبحث بشأن الواقع العيني من زاوية، وتبحث من زاوية

٧٦

ثالثاً ـ رغم أنَّ الأشياء الواقعية ( الماهيات الموجودة ) بذاتها مغايرة لواقعية الوجود، ونسبتها للواقعية وارتفاعها ( الوجود والعدم ) على حدٍ سواء، ويمكن أن تتّصف بإحدى الصفتين ( الوجود أو العدم ) فنقول: الإنسان

أُخرى بشأن قوة العقل والإدراك وكيفية تحليل وانتزاع الذهن.

كرّرنا القول إنَّ الدرس الفلسفي للواقع لا يتيسر قبل معرفة الذهن، وكيفية صياغته للمفاهيم، وما لم نتعرّف على الذهن من هذه الناحية لا يمكن أن نتوفّر على الفلسفة، وعلم النفس الحديث ـ في حدود ما اطلعنا عليه من أبحاثه ـ رغم التطوّرات القيمة، التي وصل إليها في فروعه المختلفة، قاصر وضعيف فيما أسميناه حقل علم النفس الفلسفي ؛ وسر هذا الموضوع واضح وهو أنَّ المنهج الذي يفيد منه علم النفس في فروعه المختلفة لا يقع موضع الإفادة فيما نحن فيه. بل يجب هنا إتباع منهج وطراز تحليلي آخر.

ويجد القارئ المحترم نموذجه في هذه المقالة. على أنَّ علم النفس الفلسفي لا يقتصر على مسائل الوجود، بل يشمل سائر الأقسام أيضاً، ويتضح دوره في كل قسم عند موضعه المناسب.

* * *

ليس بعيداً عن السياق أن نلقي في خاتمة هذه المقالة نظرة تأريخية على أبحاث الوجود. لم تألف الدراسات الفلسفية القديمة تناول الجانب التأريخي لقضايا الفلسفة، فتعرض مصادر ظهور النظريات، والتطورات التي طرأت عليها في المراحل المختلفة، خصوصاً في الدراسات الشرقية، حيث اُغفل هذا الجانب بشكلٍ تام. ولا ينحصر هذا الأمر في الفلسفة، بل

٧٧

موجود، والإنسان غير موجود، لكن واقع الوجود ذاته لا يقبل العدم بالذات، فهو لا يتّصف بنقيضه أبداً. أي أنَّ الوجود لا يصير عدماً ( مع حفظ الوحدة في جميع شروطها ).

يشمل سائر أقسام العلوم من المنطق والطب والرياضيات والآداب والفقه والأُصول والحديث أيضاً. فعلماء الشرق يعكفون في دراسة أيّ فنٍّ على الجوانب النظرية، ويغفلون الجوانب التاريخية في أبحاثهم.

من هنا تطرح النظريات في كتبها المقرّرة، ولكن لا يعرف صاحب النظرية، ومَنْ قام بتطويرها وإكمالها. وإذا تعرضوا لذكر الاسم في سياق البحث فلا يعود ذلك إلى تركيزهم على دراسة مبدأ ونشوء ونمو الفكر، بل لغاياتٍ أُخرى لا تخفى على المطّلعين. ومن ثمَّ لا يتّضح تاريخ حياة العلوم والفنون.

أما في التطوّرات الأوربية الحديثة فقد ركز الباحثون على قراءة تاريخ حياة العلوم والفنون، هذه القراءة الحيوية المفيدة. فمضافاً إلى تأليف الدراسات المستقلة في هذا الموضوع يعكف الباحثون في صلب الدراسات العلمية، وحتى الكتب الدراسية المقرّرة، على إيضاح نسبة الأفكار إلى مبدعيها، وتحديد الرواد الذين ساهموا في إكمال وتشييد دعائم الأفكار.

إنَّ إغفال الجوانب التاريخية للأفكار أَفضى إلى غفلة المختصّين وجهلهم في هذا الميدان، ووقوعهم أحياناً في أخطاء جسيمة ؛ مثلاً: إذا راجع أحدنا كتب الفلسفة، كشرح منظومة الحكيم السبزواري وغيرها، واهتم بقراءة مسائل الوجود فسوف يحسب أنَّ مسألة أصالة الوجود طرحت منذ ألفين وأربعمائة سنة، أي حينما تأسّس مذهب المشّاء ومذهب الإشراق، فتبنى المشّائيون أصالة الوجود، وتبنى الإشراقيون أصالة الماهية، ويحسب أيضاً

٧٨

على أنَّنا لا نقصد أنَّ شيئاً ما يوجد يوماً ولا يعدم بعد ذلك، فحوادث العالم مليئة بذلك. بل نقصد أنَّ الشيء، الذي توفّر على واقعية الوجود تحت ظل شروط معيّنة، يستحيل مع حفظ الشروط أن يصبح عدماً. مثلاً: شجرة

أنَّ مسألة الوحدة والكثرة طرحت منذ ذلك الوقت في صورتها الراهنة، أي على أساس أصالة الوجود، فتبنى المشاء نظرية الكثرة، وذهب حكماء إيران القدامى إلى القول بتشكيك الوجود ؛ بينا حينما يراجع الإنسان كتب الفلسفة منذ أربعة قرون وما قبلها فسوف لا يجد ذكراً لأصالة الماهية، وحينما يعثر في بعض الدراسات منذ مرحلة ابن سينا وما بعدها على فكرة اعتبارية الوجود، وأنّه من المعقولات الثانية فهو أمر لا يرتبط ببحث أصالة الوجود وأصالة الماهية، كما سيتضح ذلك قريباً. ولم تتناول المراحل السابقة على هذه المرحلة حتى هذا الموضوع أيضاً.

لقد كانت مسائل الوجود في المراحل الأولى لترجمة الفلسفة من اليونانية إلى العربية محدودة جداً، ولم تطرح المسائل الأساسية فيها. ولا تعثر في " ما وراء الطبيعة " لأرسطو، الذي يُعد المنبع الأساس للفلسفة الأُولى إلاّ على مسألة الاشتراك المعنوي أو اللفظي للوجود، من بين مجموع المسائل المعروفة اليوم.

طرحت مسألة مغايرة الوجود للماهية في رسائل أبي نصر الفارابي، هذه المسألة المعروفة بـ " زيادة الوجود على الماهية ". ويبدو أنَّ بحث الحكماء لزيادة الوجود على الماهية جاء رد فعل على مذهب بعض المتكلّمين بشأن عينية الوجود للماهية. وقد أفضى البحث في زيادة الوجود على الماهية إلى ظهور بحث أصالة الوجود أو الماهية أيضاً.

٧٩

الصفصاف فإذا أخذنا شجرة معينة منها في زمان معين قد وجدت واخضرت فلا يمكن افتراض أن تكون معدومة في ذلك المقطع الزماني مع حفظ بقية الشروط. كما يمكن تطبيق هذه الفكرة على الحوادث الماضية، فنحن نقول بلا تردّد إنَّ الحوادث التي وقعت بالأمس لا يمكن تغييرها أو نقلها من محلّها.

تنسب عينية الوجود للماهية إلى أبي الحسن البصري وأبي الحسن الأشعري من المتكلّمين، وخصوصاً الأخير. إنَّ ما تحت أيدينا من كتب الأشعري لا يتيح لنا تمحيص صحة هذه النسبة، لكن القاضي عضد الدين الإيجي يدّعي أنَّ هذه النسبة غير صحيحة، إنَّما اختلف الأشعري مع الحكماء في مسألة الوجود الذهني، حيث ادّعى أنَّ عين ماهيات الأشياء لا تحصل في الذهن، خلافاً لنظرية الحكماء. إذن فليس هناك في الذهن ماهية ؛ لكي يقرّر مغايرتها للوجود.

على أي حال سواء أصحت نسبة النظرية إلى الأشعري أم لم تصح، فقد جاء بحث الحكماء حول زيادة الوجود على الماهية في الذهن ردة فعل على البحوث الكلامية، التي ذهبت إلى عينية الوجود للماهية في عالم الذهن.

أفضى البحث في هذا الموضوع إلى طرح مسألة أُخرى ؛ فبعد ثبوت أنَّ الوجود في عالم الذهن ليس جزءاً من الماهية، وليس عينها، بل مغاير وزائد عليها، وبعبارة أُخرى عارض على الماهية، طرح الاستفهام التالي: ما هو الحال في عالم الخارج ؟ فهل الوجود في عالم الخارج زائد على الماهية أيضاً أم أنَّه عين الماهية في عالم الخارج ؟ أجاب الحكماء بأنَّ الوجود في عالم الخارج عين الماهية، ولا يمكن تغاير الوجود والماهية في عالم الخارج. ثمّ طرح استفهام آخر: كيف يمكن أن يكون الأمران اللذان هما متغايران في

٨٠