أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي18%

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
تصنيف: كتب
الصفحات: 303

الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 303 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97372 / تحميل: 9308
الحجم الحجم الحجم
أصول الفلسفة والمنهج الواقعي

أصول الفلسفة والمنهج الواقعي الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة أُمّ القرى للتحقيق والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

مخلوطاً بالظلمة، والمرتبة القوية ليست نوراً وأمراً آخر. بل المرتبة القوية نور فحسب، والمرتبة الضعيفة نور فحسب أيضاً، وكلاهما نور رغم

مبدأ " إنَّ هناك واقعاً موجوداً، وأنَّ العالم ليس خواء ووهماً محضاً ".

وهذا الأصل لا يمكن الشكّ فيه من وجهة نظرنا. وقلنا إنَّ هناك أمراً آخر لا يمكن الشك فيه أيضاً، وهو أنَّ الذهن يعكف على تنويع هذا الواقع فيتوفّر على مظاهر مختلفة وأُمور متكثّرة، نظير " الإنسان، الشجرة، المقدار... وآلاف الأمثلة الأُخرى، التي تقع تحت عنوان الموجود " فيفضي هذا الأصل الأولي " إنَّ هناك موجوداً " إلى قضية أُخرى: " إنَّ هناك موجودات ".

نأتي الآن لنرى: هل الكثرة التي تبدو في الذهن أمر حقيقي أم أمر وهمي ؟ أي: هل الكثرة الذهنية كثرة واقعية للموجودات، أم الذهن هو الذي يفترضها افتراضاً، ولا تمثل هذه الكثرة الذهنية ـ بأي وجه من الوجوه ـ كثرة واقعية.

مع أخذ نظرية أصالة الوجود بنظر الاعتبار يتغيّر طرح هذه المسألة. فقد قلنا في بحث أصالة الوجود: إنَّ الماهيات التي يفترضها الذهن أموراً واقعية ذات وجود، هي أُمور انتزاعية بحتة، والأمر الواقعي الوحيد الذي يملأ عالم الخارج هو الوجود والواقع ذاته. من هنا، فكلّما جرى الحديث عن العينية الخارجية تخرج الماهيات عن دائرة الدراسة والتحقيق، ويضع الوجود قدمه في هذه الدائرة. وحيث نتحدّث هنا عن وحدة وكثرة عالم العينية الخارجية، فمن المحتّم أن يكون الوجود هو موضوع البحث في الوحدة والكثرة.

أمّا إذا اتخذنا الماهيات أُموراً عينية وواقعية وانطلقنا منها في البحث حول هذه المسألة فلا مجال للحديث عن الكثرة الواقعية العينية ؛ إذ الماهيات

٦١

اختلافهما. والأمر كذلك في حقيقة الوجود حينما نلاحظ تجلياته المختلفة فهي كثيرة وواحدة أيضاً.

البادية في أذهاننا متكثّرة ومختلفة ومتباينة بالبداهة، وفرض المسألة هنا أنَّ هذه الأُمور المتكثّرة المتباينة هي التي تشكل الواقع العيني، إذن ؛ فالواقع العيني مؤلّف من هذه الأمور المتكثّرة المتباينة.

أمّا إذا آمنا أنَّ الوجود هو الأمر العيني والأصيل، والماهيات اعتبارات ذهنية فسوف يكون هناك مجال للبحث ؛ إذ ليس للوجود في أذهاننا سوى مفهوم واحد، ومن هنا يلزم التحقيق في: هل حقيقة الوجود، الذي يطرد العدم ويشكل الخارج أمر واحد أم كثير ؟

فإذا كان أمراً واحداً كيف أمكن أن يكون الأمر الواحد من جميع الجهات منشأ لانتزاع الماهيات الكثيرة المتباينة ؟ أيّ ما هي علّة تصوّرنا لأنواع كثيرة وأفراد مختلفة ؟ وإذا كان كثيراً فلماذا لا نمتلك أكثر من مفهوم واحد عن الوجود في أذهاننا ؟

في ضوء الصورة التي تطرح عبرها هذه المسألة، انطلاقا من نظرية أصالة الوجود، وفي ضوء النظريات المطروحة في هذا المجال، يمكن أن نضع هذه المسألة في صيغة الاستفهام التالي:

هل تحكم الواقع " الوجود " الوحدة المحضة، أم الكثرة المحضة، أم الوحدة والكثرة معاً ؟

هناك ثلاث نظريات في الإجابة على هذا الاستفهام:

الأُولى: وحدة الوجود.

الثانية: كثرة وتباين الوجودات.

الثالثة: الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة ( تشكيك الوجود ).

٦٢

على أن لا نحسب هذه الكثرة كثرة عددية ؛ لأنَّ العدد والرقم بدوره تجلّيات مختلفة للوجود أيضاً.

وحدة الوجود:

تنسب هذه النظرية ـ مع أخذ نظرية اعتبارية الماهية بنظر الاعتبار ـ إلى العرفاء. وهم لا يعتمدون الاستدلالات والبراهين العقلية التي يعتمدها الفلاسفة، إنَّما يعدون السبيل الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه هو المكاشفة والشهود الباطني. وعن هذا السبيل يُؤَمنون صحّة نظرياتهم. ولا يهتمّون بعدم تطابق هذه النظريات مع القواعد العقلية، لأنَّهم يعتقدون أنَّ الكشف والشهود مرحلة أعلى من العقل، وعبر هذه المرحلة يمكن تسديد أخطاء العقل. كما هو الحال بالنسبة إلى دور العقل فيما يقع الحسّ فيه من أخطاء لا حصر لها، حيث يقوم العقل بتصحيحها.

على أيّ حال يعتمد العرفاء في نظرية وحدة الوجود على هذه الأُسس، ولا يهتمّون في تطابق نظريّتهم مع القواعد العقلية أو الحسّية. لكنّهم يستخدّمون أحياناً القواعد العقلية الفلسفية، للرد على الفلاسفة ونقض نظريّاتهم وتأييد نظريّتهم.

بل يردون ميدان الجدل أحياناً بأدلّة مفحمة تحرج الفلاسفة. وموضع بحثنا نموذج لهذا الجدل، ولذا طرحنا نظرية العرفاء هنا.

يستدلّ العرفاء على وحدة الوجود عن طريق تساوي الوجود مع الوجوب الذاتي، وتساوي الوجوب الذاتي مع الوحدة من جميع الجهات. ويرجع استدلال العرفاء في الواقع إلى مقدّمتين ونتيجة:

١ ـ الوجود يساوي الوجوب الذاتي.

٢ ـ الوجوب الذاتي يساوي الوحدة من جميع الجهات.

٦٣

٣ ـ الماهيات الحقيقية ( التي أسميناها تجليات مختلفة للواقع الخارجي في الذهن ) في عين كونها أموراً إعتبارية ذهنية لا اثر لها

إذاً الوجود مساوٍ للوحدة من جميع الجهات.

لا شك أنَّ كلتا المقدّمتين تستدعيان التأمل والفحص العميق. سنشير في نهاية المقالة إلى البحث في المقدمة الأُولى وسنتناولها بالتفصيل في المقالة الثامنة، خصوصاً في المقدمة المسهبة التي حرّرناها هناك، وسنتناول بالتحقيق المقدّمة الثانية في المقالة الرابعة عشرة، حينما نتناول بالبحث " توحيد واجب الوجود ".

إنَّ أهم نقاط ضعف استدلال العرفاء سيأتي في المقالة الثامنة، وهو تساوي الوجود مع الوجوب الذاتي. على أنَّ منافذ نقاط ضعف استدلال العرفاء ستتّضح ضمن بيان النظرية الثانية والثالثة.

إنَّ احد الأسباب التي أدت بشيخ الإشراق إلى تبنّي نظرية اعتبارية الوجود هو: إنَّه أراد تهيئة الأرضية للمقدّمة الأُولى من استدلال العرفاء، أي أنَّه وجد الإيمان بأصالة الوجود يحتّم الإيمان بمساواة الوجود للوجوب الذاتي، وحيث أنَّ مساواة الوجود للوجوب الذاتي أمرٌ لا يرتضيه ذهب إلى اعتبارية الوجود، لكن أصالة الوجود أمر يتعذّر إنكاره. وموضوع مساواة الوجود للوجوب الذاتي له معالجة بطريقة أُخرى، سنطرحها بالتفصيل في مقدّمة المقالة الثامنة.

تباين وكثرة الوجودات:

إنَّ نظرية تباين وكثرة الوجودات نظرية يهضمها كل فرد في الوهلة الأُولى. ويرى الحكماء أنَّ العامة من الناس يختارون هذه النظرية بمنظارهم

٦٤

بالنسبة إلى الخارج فهي مختلفة بعضها مع بعضها الآخر، وقد تقدّم إيضاح ذلك. لكن هذا الاختلاف والتباين ينبثق من عالم الخارج، وبما أنَّ الاختلاف

السطحي. وتنسب هذه النظرية عادةً إلى حكماء المشّاء ومدرسة أرسطو. لكن هذه النظرية لم تطرح بصورتها الراهنة من قبل الحكماء المتقدّمين، بل ظهرت بعد طرح نظرية العرفاء، ومن هنا لا يمكن أن نحدّد نسبة قديمة لهذه النظرية. تعثر في كلمات ابن سينا ( الذي يُلقب برئيس المشّائين ) على عبارات تقف موقفاً مناهضاً تماماً لهذه النظرية.

اتّخذت هذه المسألة صورتها النهائية في ضوء أصالة الوجود، ونظرية أصالة الوجود لم تكن مطروحة من قبل الحكماء المتقدّمين، فكيف أمكن نسبة هذه النظرية إلى أولئك الحكماء ؟

على أيّ حال تقرّر هذه النظرية أنَّ الملاء الخارجي يتألّف من " وجودات "، وهناك وجودات بعدد أنواع الماهيات، بل هناك وجودات بعدد أفراد أنواع الماهيات الظاهرة في الذهن. وكل وجود بالذات يباين الوجود الآخر، وليس هناك إمكان للعثور على أي لون من ألوان السنخية والاشتراك بين الموجودات. بل وجه الاشتراك الوحيد هو: إنَّ الذهن ينتزع مفهوماً واحداً " مفهوم الوجود " من بين حقائق الوجود المختلفة، التي ليس بينها أي لون من ألوان السنخية والتجانس.

تستمل هذه النظرية على جانبين:

الأوّل: إنَّ الوجود ليس أمراً واحداً من جميع الجهات، وليست هناك كثرة في ذاته ( خلافاً للنظرية الأولى ). بل هو كثير ومختلف، أي أنَّ عالم الخارج يتألّف من وجودات، لا من الوجود.

الثاني : إنَّ هذه الوجودات الكثيرة متباينة مع بعضها، وليس هناك أي

٦٥

الخارجي أصيل وعين الواقع الخارجي فسوف لا يكون اعتبارياً وذهنياً.

ونلاحظ من زاوية أُخرى أنَّ جميع الماهيات وأحكامها وآثارها ترتد

سنخية بينها، ( خلافاً للنظرية الثالثة ).

أمّا الدليل على الجانب الأوّل لهذه النظرية فهو:

رغم أنَّ الماهيات التي تظهر في أذهاننا كثيرةً أمور اعتبارية، لكن الكثرة الذهنية تمثل كثرة واقعية خارجية حتماً ؛ لأنَّ الماهيات الذهنية تمثل الوجود الخارجي، فكما يستحيل أن لا يكون هناك واقع خارجي، وأن الذهن يخترع تصوّراتٍ عن الواقع الخارجي ـ كما تقدّم في المقالة الرابعة ـ كذلك لا يمكن أن يكون الواقع الخارجي أمراً واحداً محضاً، وينتزع الذهن من هذا الأمر الواحد الحقيقي ماهيات كثيرة.

وإذا كان الوجود الذي هو الحقيقة العينية الوحيدة أمراً واحداً محضاً فسوف تكون التصوّرات الحسّية والعقلية المختلفة أمراً جزافياً ووهميّاً، إذن ؛ فقبول نظرية وحدة الوجود يستلزم تكذيب العقل والحس وإنكار أوضح البديهيات.

أما الدليل على الجانب الثاني فهو بساطة الوجود، إيضاح ذلك: إذا كان هناك بين أمرين أو أكثر وجه مشترك وملاك للوحدة، فمن المحتّم أن يكون هناك وجه للتمايز وملاك للكثرة أيضاً ؛ إذن فهذا الشيء في الحقيقة مؤلّف مما به الاشتراك ومما به الامتياز. على أنّ هذه الفكرة صادقة في الأمور المركبة لا الأمور البسيطة. لكن الثابت بالبرهان ويؤمن به جميع الحكماء هو أنّ الوجود أمر بسيط، ولا يمكن أن يكون مركباً ممّا به الاشتراك وممّا به الامتياز، بل هذه التركيبات من مختصّات الماهيات.

إذن ؛ لا يمكن أن يكون بين وجود ووجود آخر وجه مشترك، إذن ؛

٦٦

للوجود وواقعية الوجود ؛ إذ تضحي الماهية ماهية بواسطة الوجود، ويكون الأثر والحكم أثراً وحكماً بواسطة الوجود، وإلاّ فهو خواء وباطل. وفي

فالحقائق الوجودية البسيطة حقائق مستقلة، وكل منها مباين للآخر، وليس بينها أي لون من السنخية. هذا هو الاستدلال الذي يمكن إقامته على نظرية تباين وكثرة الوجودات.

وهذا الاستدلال سقيم، وستتّضح الإجابة عليه عبر بيان النظرية الثالثة، التي هي النظرية الوحيدة العارية عن الإشكال، وتتمتّع في نفس الوقت بمزيد من العمق والدقة.

الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة:

الوجود ـ وفق هذه النظرية ـ الذي هو الأمر العيني الوحيد والأصيل حقيقة واحدة، ذو درجات ومراتب مختلفة. والماهيات المختلفة والمتكثرة التي تظهر لدى الذهن ليست وهماً وجزافاً، بل تُنتزع من مراتب ودرجات الوجود.

الوجود ليس أمراً واحداً محضاً ( وفق الدليل الذي قرّرناه للنظرية المتقدّمة )، بل هناك " وجودات "، أي أنَّ نظرية العرفاء لا يمكن قبولها. لكن هذه الوجودات ليست متباينة، بل هي مراتب لحقيقةٍ واحدة، ولها وجه مشترك وملاك للوحدة.

لكن التوفّر على وجه مشترك وملاك للوحدة وإن استلزم التوفّر على وجه للامتياز وملاك للكثرة، لكنه لا يستلزم أن يكون وجه الاشتراك مبايناً لوجه الامتياز ؛ لكي يتعارض مع بساطة الوجود، التي هي أمر مسلّم ويقيني، فما به الامتياز في الحقائق الوجودية من سنخ ما به الاشتراك، واختلاف

٦٧

ضوء هذه المقدّمات يجب أن نستنتج:

أوّلاً ـ الماهيّات وأحكامها وآثارها الذهنية لا تصدق بالنسبة للوجود وواقع

الوجودات بعضها مع بعض يرجع إلى شدّة وكمال وضعف ونقص هذه الوجودات. والشدّة والضعف إنّما تصدق في مورد درجات الحقيقة الواحدة، ولا تصدق فيما سوى ذلك.

والواقع أنَّ إدعاء أَنصار النظرية الثانية: ضرورة اختلاف ما به الاشتراك عما به الامتياز ينشأ من قياس الوجود على الماهية. وبعبارة أُخرى أنّه ينشأ جراء قياس الواقع العيني على المفاهيم والمعاني الذهنية. بينا يرجع تحليل المفاهيم إلى ما به الاشتراك وما به الامتياز وتغايرهما إلى سمات الذهن الخاصة، وهو نتيجة قدرة الذهن على التحليل.

إنَّ ميزة الذهن تكمن في تحديد الواقع العيني، ويمكن القول ـ من زاوية من الزوايا ـ إنَّ الإدراك لا يتعدّى تحديد الواقع العيني في أفق الذهن. وقد كرّرنا مراراً أنَّ الدرس الفلسفي للواقع لا يتيسّر قبل معرفة الذهن وأسلوبه في صياغة المفاهيم، أي لا بدّ من تشخيص خصوصية الذهن في تعامله مع المفاهيم أوّلاً، لكي يمكننا في ضوء هذا التشخيص التعرّف على الحقيقة الواقعية. فالذهن على أساس خصوصياته يصوغ مفهوم العدم، وينسب هذا المفهوم إلى الأشياء في عالم الخارج، وتتطابق هذه النسبة مع الواقع ونفس الأمر، بينما نعلم أنَّ العدم لا واقع له في عالم نفس الأمر، إنّما ينتزعه الذهن جراء نسبة مرتبة من مراتب الوجود إلى مرتبة أُخرى غير مرتبة واقعه، وكما قرر في المتن " إنَّ العدم في الخارج أمر نسبي، ويظهر جراء نسبة الوجود في ظرف تحقّقه إلى ظرف آخر " إذن ؛ فالعدم في أُفق الذهن وفي عالم الخارج نحوان ولونان مختلفان.

٦٨

الوجود، نظير أنَّ الماهية بذاتها أمر كلّي، وتصدق على ما لا يتناهى من أفراد فرضية، نظير الإنسان حيث يصدق على كلّ فرد خارجي وفرضي.

وما دام دور الذهن هو تحديد الواقع ورسم حدود للواقعيات، هذه الحدود التي تظهر في الذهن مستقلة متباينة، تحكمها كثرة حقيقية، فماهيات ومفاهيم الذهن على هذا الحال. قال الحكماء: إنَّ الماهيات هي ملاك الكثرة، وتحكمها " بينونة عزلية "، لكن الواقع العيني في عالمه يتوفّر على جميع هذه الأُمور المتباينة بشكلٍ آخر ّ. ويمكن في مقام التشبيه الاستعانة بصورة البحر والأمواج والأشكال التي تظهر على سطحه، فكل شكل من الأشكال التي تظهر على سطح البحر يختلف عن الشكل الآخر، لكن البحر الذي تتجلّى فيه هذه الأشكال والأمواج حقيقة واحدة، وفي نفس الوقت تظهر فيه حركات الجزر والمد والسكون والهيجان.

على أيّ حال نطلق على هذه السمة الوجودية " التشكيك "، وحيث إنَّ هذه السمة من مختصات الوجود، وليس لها مشابه ونظير واقعي نستعين بذكر بعض الأمثلة، التي تقرب تصور ( تسانخ ما به الاشتراك وما به الامتياز ):

المثال الأوّل: نأخذ سلسلة الأعداد، التي تمثّل كثرة لا متناهية، لنتعرّف على ما به الاشتراك وما به الامتياز فيها. فالأعداد من (٢) إلى ما لا نهاية تشترك في العددية، والعدد يعني مجموعة وحدات ؛ إذن كل عدد يشترك مع العدد الآخر في كون كل واحد منهما مؤلّفاً من وحدات. على أنَّ كل عدد يختلف عن العدد الآخر، ويتمايز عنه ؛ إذ من الواضح أنَّ العدد (٤) يختلف عن العدد (٥)، والعدد (٥) يختلف عن العدد (٦) وهكذا... أمّا ما به الامتياز في كلّ عدد فهو ليس مغايراً لما به الاشتراك، أي أنَّهما ليسا من جنسين

٦٩

بينا الأمر ليس كذلك في الوجود. فهو عين الخارجية والشخصية، والوجود أساساً لا يصدق على شيء آخر، ولا يحكي عما وراءه، بل وجود كل شيء

مختلفين ؛ إذ امتياز كل عدد عن الآخر يحصل بإضافة وحدة من الوحدات، أي ما هو ملاك العددية وملاك الاشتراك هو ملاك الاختلاف والكثرة والامتياز بينها.

وعلى أساس هذه الخصوصية تكون الأعداد بالطبع طولية، بعضها مع البعض، وليست عرضية، وكل مرتبة من مراتب الأعداد هي فوق بعضها، وتحت بعضٍ آخر، أي أنَّ أفراد ماهية العدد أفراد طولية لا عرضية ؛ ولو كان ما به الامتياز مغايراً مغايرة سنخية عما به الاشتراك، فليس هناك معنى للأفراد الطولية، بل ليس هناك معنى للكمال والنقص في أفراد النوع الواحد، بل يمكن القول إنَّ الكمال والنقص ليس لهما مصداق في أي مورد.

المثال الثاني : نأخذ مثالاً أقرب، وهو مثال النور القوي والنور الضعيف، فالنور الضعيف والقوي مشتركان في حقيقة النورية، في نفس الوقت الذي يختلفان ويتمايزان فيه. وهذا التمايز في الشدة والضعف، مع أنَّ الشدة والضعف في النور ليس خارجين عن حقيقة النور، أي أنَّ النور لا يشتد أو يضعف جراء اختلاط النور بغيره، فالنور الضعيف ليس مركباً من النور وغيره، والنور الشديد ليس مركباً من النور وغيره، إذن ؛ ما به الاشتراك بين النور القوي والنور الضعيف هو النورية ذاتها، وما به الامتياز هو تراكم وعدم تراكم النور، وتراكم النور ليس أمراً خارجاً عن حقيقة النور.

المثال الثالث: نأخذ مثالاً أفضل من الثاني، وأبعد عن الإشكال، وهو مثال الحركة السريعة والبطيئة، فكل من الحركة السريعة والبطيئة حركة، والوجه المشترك بينهما هو الحركة ذاتها، والسريعة تغاير بالضرورة

٧٠

هو واقعيته وذاته. ونظير أنَّ الماهية الكلّية تنحسر عن كلّيتها وعمومها بضم القيود إليها، كالإنسان والإنسان العالم، والإنسان العالم المؤلّف،

البطيئة، وما به الامتياز بينهما هو السرعة ذاتها. ولكن حينما نأتي إلى تحليل السرعة نلاحظ: أنَّها ليست مغايرة لجنس الحركة، يعني ليست حرارةً، أو بياضاً، أو شكلاً ؛ حيث تلحق الجسم. بل سرعة الحركة تعني زيادة وتراكم الحركة، ومن البديهي أنَّ زيادة الشيء، وإن اختلفت مفهوماً عن الشيء ذاته، ويعدهما الذهن من قبيل الصفة والموصوف، لكنها ليست مصداقاً مغايراً لذات الحركة. ومثال الحركة أقرب التشبيهات لموضوع بحثنا، ويمكن القول إنَّ المثال من جنس المشبه به. وسوف تتّضح هذه الحقيقة بجلاء حينما سنبحث في المقالة العاشرة موضوع الحركة.

من هنا فالدليل الذي أقيم على " تباين الوجودات " انطلاقا من أنَّ جهة الاشتراك يلزم أن تغاير جهة الامتياز دليل خاطئ. وبغض النظر عن عدم سلامة هذا الدليل فهناك أدلة يمكن إقامتها على إبطال فرضية تباين الوجودات. والنظرية الوحيدة التي يمكن قبولها هي النظرية الثالثة. أي النظرية التي أطلقنا عليها الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة " التشكيك الوجودي ". وها هي الأدلّة التي يمكن إقامتها على ذلك:

الدليل الأوّل: إذا كانت الوجودات حقائق متباينة فسوف ينعدم أي ارتباط واقعي بين الوجودات، لأنَّ الوجودات ـ حسب هذا الفرض ـ أجنبية بعضها عن بعض، ونسبة جميع الوجودات إلى بعضها متساوية في عدم وجود ارتباط بينها، بينا لا شكّ في وجود ارتباط واقعي ونظام حقيقي بين الوجودات بعضها مع بعض، وأنَّ هناك ارتباطا بين بعض الوجودات وبعض آخر لا نلحظه بين بعض آخر من الوجودات. فهناك ارتباط علّي ومعلولي

٧١

وكلّما كثرت القيود ضاقت دائرة المفهوم ؛ بينا الأمر ليس كذلك في الوجود ؛ لأنَّه لا يتصوّر ضم قيد خارجي للوجود ـ كما تقدّم ـ.

بين الوجودات، وهذا الارتباط واقعي وليس ذهنياً خارجاً عن وجودات الأشياء، كما سيأتي إيضاح تفصيلي لهذا الموضوع في المقالة التاسعة.

بينا يلزم ـ وفق نظرية تباين الوجودات ـ عدم وجود أي نسبة بين هذه الوجودات ؛ إذن تستلزم نظرية تباين الوجودات إنكار العلاقات السببية بين الأشياء إنكاراً قطعياً.

الدليل الثاني: نقسم الماهيات إلى مقولات عشر أو أكثر أو أقل، أي أنَّنا نجد للماهيات وجهاً مشتركاً أو وجوهاً مشتركة، وكلّ واحدة من المقولات تمثل ما به الاشتراك لعدد كثير من الأجناس والأنواع، كما يمثل كل جنس وجه الاشتراك لعددٍ كثير من الأنواع، ويمثّل كل نوع وجه الاشتراك لعدد كثير من الأفراد.

رغم أنَّ الماهيات نتاج الذهن البشري، ورغم أنَّ تصنيف المقولات نتاج فعاليات الذهن، ولا يمكن أن نحسب الواقع العيني قائماً على أساس هذا التصنيف، لكن تصنيف الماهيات تحت قاسم مشترك ( الجنس ـ الأنواع ـ الأفراد )، ودخول كلّ جنس تحت مقولة من المقولات، ليس وهميّاً واعتباطياً، بل له منشأ خارجي وجودي، وإذا كانت الوجودات متباينة تبايناً خالصاً، يلزم أن تكون جميع الماهيات متباينة بعضها مع بعض، وأن يكون كل مفهوم وماهية مقولة مستقلّة.

وبعبارة أُخرى: تمثل كثرة وتمايز الماهيات عن بعضها لوناً من الكثرة في عالم الوجود، وعلى هذا الأساس ذهبنا إلى إبطال نظرية العرفاء في الوحدة المحضة للوجود. واشتراك واتّحاد الماهيات في جنس واحد ومقولة واحدة يمثل أيضاً لوناً من الاشتراك والوحدة في عالم الوجود والواقع.

٧٢

ونظير تركيب الماهية من الذاتي والعرضي، والجوهر والعرض، والجنس والنوع والفصل... وغيرها، حيث تختص به الماهية، ولا يصدق

على أنَّ طراز الاشتراك والاختلاف في الوجودات يختلف عن طراز الاشتراك والاختلاف في الماهيات، لكن الاشتراك والاختلاف في الوجودات يظهر في الذهن بصورةٍ أُخرى على أساس خصوصية الذهن وميزته.

الدليل الثالث: سيأتي في بحث الحركة أنَّ فرضية أصالة الماهية، وفرضية تباين الوجودات، تتنافيان مع الحركات الاشتدادية والاستكمالية القائمة في الواقع. وحيث إنَّ وقوع الحركة ووقوع الاشتداد والاستكمال في الحركة أمر قطعي لا يعتريه الشك ؛ إذن ففرضية أصالة الماهية وفرضية تباين الوجودات يجب أن نرفع اليد عنهما بشكل تام.

الدليل الرابع: لدينا مفهوم واحد عن الوجود في أذهاننا، يصدق على جميع الوجودات العينية. ومن البديهي أنَّ انطباق مفهوم على مصداق لا يحصل اعتباطا ودون أساس. أي يجب أن تكون هناك جهة في المصداق يتمّ كلّ مصداق، أو عدم صدق أي مفهوم على أي مصداق. ومفهوم الوجود مفهوم صادق بالضرورة على جميع الوجودات العينية، فلو كان لكل موجود من الموجودات حقيقة مباينة تبايناً مطلقاً مع سائر الوجودات الأُخرى، يلزم أن لا تكون هناك جهة مشتركة يتم على أساسها صدق مفهوم الوجود على مفرداته، بينا يصدق مفهوم الوجود على مفرداته بالضرورة.

إذن ؛ في ضوء التحقّيق في وحدة وكثرة الواقع العيني تبقى النظرية الوحيدة، التي يمكن الاعتماد عليها هي نظرية " تشكيك الوجود "، حيث يمكن من خلالها تفسير النظام الخارجي العيني للموجودات، وتفسير النظام الذهني

٧٣

هذا التركيب في الوجود ؛ كما لا يتضمّن الوجود أي لون من ألوان التركيب الخارجي ؛ لأنَّ أي جزء فرضناه للوجود إنّما هو عين الوجود والواقع. وفي ضوء هذه الملاحظة نستنتج: إنَّ الوجود بسيط محض خالص.

للمفاهيم والماهيات أيضاً، فينسجم مع الحس والعقل معاً. وقد أطلقنا على هذه النظرية اسم " الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة " ؛ ويسوّغ لنا هذه التسمية أنَّ ملاك الكثرة ليس خارجاً عن ملاك الوحدة، وملاك الوحدة ليس خارجاً عن ملاك الكثرة. فحقيقة الوجود على أساس هذه النظرية واحد شخصي وكثير شخصي أيضاً، فإذا نظرنا إلى محض الحقيقة السارية في جميع المراتب فهي واحد بالشخص، وإذا نظرنا إلى المراتب والدرجات فهي كثير بالشخص.

* * *

ذكرت اثنتا عشرة مسألة في هذه المقالة تحت عنوان مسائل الوجود، وقد أوضحنا بشكلٍ كاملٍ سبع مسائل منها. والمسألتان المتقدّمتان تحتلان أهمية أساسية في تحديد مصير الفلسفة لا ترقى إليها أي نظرية أُخرى، أَعني مسألتي أصالة الوجود، وتشكيك الوجود. وأهمية المسائل الأُخرى تنشأ جَرّاء تمهيدها لهاتين المسألتين، والمسائل الأُخرى هي: ( بداهة الوجود ـ الوجود والماهية ـ مغايرة مفهوم الوجود لمفهوم الماهية ـ الاشتراك المعنوي لمفهوم الوجود ـ حقيقة الوجود لا تعلم بالعلم الحصولي ).

بقيت خمس مسائل من المسائل الاثنتي عشرة، وهي عبارة عن:

١ ـ الخواص الذهنية للوجود لا تنطبق على الماهيات.

٢ ـ الخواص الخارجية للماهيات من خط الوجود، وتظهر في عالم الوجود بشكل مغاير لظهورها في الذهن.

٧٤

ثانياً ـ إنَّ حقائق الماهيات المختلفة وخواصها وآثارها الخارجية، وإن كانت ترتد حقيقةً إلى الوجود وفي الوجود، لكنّها تتّخذ شكلاً آخر في مرحلة الواقع. مثلاً تحرق النار الخشب، ويبدّل الإنسان التفّاح إلى دم،

٣ ـ الموجود لا يعدم على الإطلاق.

٤ ـ تحقّق العدم في عالم الخارج أمر نسبي.

٥ ـ مطلق الوجود لا يقبل الزوال والعدم.

القارئ المحترم الخبير واقف على ما لهذه المسائل الخمس من أهمية في عالم الفلسفة. فهي بمثابة النتيجة للمسألتين الأساسيتين ( أصالة الوجود ـ تشكيك الوجود )، وعلى وجه الخصوص مسألة أصالة الوجود ؛ فالمسائل الاثنتا عشرة في الواقع تنقسم إلى ما هي تمهيدٌ ومقدّمةٌ لبحث أصالة الوجود، وإلى ما هي نتيجة لهذا البحث. وفي هذا المقطع من البحث نكتفي في إيضاح المسائل الخمس الأخيرة بما جاء في المتن، مضافاً إلى ما أوضحناه ضمن مسألة تشكيك الوجود بشأن طراز صياغة المفهوم الذهني، والاختلاف الحاصل بين المفاهيم ومصاديقها، جَرّاء خصوصية الذهن.

هذا مضافا إلى ما سيأتي من أفكار تساهم في إيضاح هذه المسائل في المقالات الثامنة والتاسعة والعاشرة. خصوصاً في مقدمة المقالة الثامنة، التي تبحث عن الضرورة والإمكان، فسوف نتناول بالبحث تفصيلا المسألتين الأساسيتين من هذه المسائل الخمس، أي " الموجود لا يعدم " و " تحقيق العدم في الخارج أمر نسبي ". ومن هنا نغمض النظر مؤقّتاً عن البحث في هذه المسائل، بغية تجنب تكرار ما سيأتي من أفكار في المقالات القادمة.

إنَّما ينبغي هنا تأكيد التذكير بأنَّ مفتاح معالجة هذه المسائل وبعض المسائل

٧٥

ولكن إذا أغمضنا النظر عن هذه الماهيات ورجعنا إلى متن واقع الوجود نجد أنَّ الواقعة لا تسلب واقعة أُخرى واقعيتها أو تغير واقعيتها ؛ لأنَّ الواقعية لا تسلب عن نفسها، وليس هناك شيء آخر غير والواقع لكي يتحوّّل إليه.

الفلسفية الهامة الأُخرى هو البحث في " أصالة الوجود واعتبارية الماهية ". فهذه المسألة تغيّر نظام الفلسفة العام، وتساهم في معالجة مشكلات كثيرة.

وعلى القارئ المحترم أن يهيئ ذهنه لفهم وهضم هذه المسألة، وأن يتدبّر في مقدّماتها ونتائجها. وسوف نعمد في المقالات القادمة أيضاً إلى تقرير وإيضاح هذه المسألة في كلّ مناسبة نتوفّر عليها ؛ بغية إنارة ذهن القرّاء المحترمين. ونحن على يقين بأنَّ الجهد المبذول في فهم وهضم هذه المسألة ـ مهما ازداد ـ أمر مطلوب. فرائد هذه المسألة " صدر المتألهين " قد كرر في كتبه التذكير بهذه النظرية، وطرح مضمونها وأدلتها في أبواب مختلفة بأشكالٍ مختلفة. وقد جاء في تعليقاته على حكمة الإشراق، بعد أن أسهب بالبحث حول هذه النظرية: " لقد بسطنا البحث في أطراف هذا الموضوع ( رغم أنَّ ما لم نقله أكثر ممّا قلناه ) ؛ لأنَّ هذه المسألة الشريفة المتعالية غامضة، وأهم المقاصد وأشرفها هي أن يُبذل السعي في تحصيلها ". ثم يتمثّل ببيت شعر عربي:

 لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً= على غير ليلى فهو دمع مضيّع

لقد اتّضح للقارئ المحترم في ضوء ما تقدّم أنَّ مسألة أصالة الوجود ذات زاوية نفسية وذات زاوية فلسفية أيضاً ؛ لأنَّها ذات طابع عيني وطابع ذهني معاً، فهي تبحث بشأن الواقع العيني من زاوية، وتبحث من زاوية

٧٦

ثالثاً ـ رغم أنَّ الأشياء الواقعية ( الماهيات الموجودة ) بذاتها مغايرة لواقعية الوجود، ونسبتها للواقعية وارتفاعها ( الوجود والعدم ) على حدٍ سواء، ويمكن أن تتّصف بإحدى الصفتين ( الوجود أو العدم ) فنقول: الإنسان

أُخرى بشأن قوة العقل والإدراك وكيفية تحليل وانتزاع الذهن.

كرّرنا القول إنَّ الدرس الفلسفي للواقع لا يتيسر قبل معرفة الذهن، وكيفية صياغته للمفاهيم، وما لم نتعرّف على الذهن من هذه الناحية لا يمكن أن نتوفّر على الفلسفة، وعلم النفس الحديث ـ في حدود ما اطلعنا عليه من أبحاثه ـ رغم التطوّرات القيمة، التي وصل إليها في فروعه المختلفة، قاصر وضعيف فيما أسميناه حقل علم النفس الفلسفي ؛ وسر هذا الموضوع واضح وهو أنَّ المنهج الذي يفيد منه علم النفس في فروعه المختلفة لا يقع موضع الإفادة فيما نحن فيه. بل يجب هنا إتباع منهج وطراز تحليلي آخر.

ويجد القارئ المحترم نموذجه في هذه المقالة. على أنَّ علم النفس الفلسفي لا يقتصر على مسائل الوجود، بل يشمل سائر الأقسام أيضاً، ويتضح دوره في كل قسم عند موضعه المناسب.

* * *

ليس بعيداً عن السياق أن نلقي في خاتمة هذه المقالة نظرة تأريخية على أبحاث الوجود. لم تألف الدراسات الفلسفية القديمة تناول الجانب التأريخي لقضايا الفلسفة، فتعرض مصادر ظهور النظريات، والتطورات التي طرأت عليها في المراحل المختلفة، خصوصاً في الدراسات الشرقية، حيث اُغفل هذا الجانب بشكلٍ تام. ولا ينحصر هذا الأمر في الفلسفة، بل

٧٧

موجود، والإنسان غير موجود، لكن واقع الوجود ذاته لا يقبل العدم بالذات، فهو لا يتّصف بنقيضه أبداً. أي أنَّ الوجود لا يصير عدماً ( مع حفظ الوحدة في جميع شروطها ).

يشمل سائر أقسام العلوم من المنطق والطب والرياضيات والآداب والفقه والأُصول والحديث أيضاً. فعلماء الشرق يعكفون في دراسة أيّ فنٍّ على الجوانب النظرية، ويغفلون الجوانب التاريخية في أبحاثهم.

من هنا تطرح النظريات في كتبها المقرّرة، ولكن لا يعرف صاحب النظرية، ومَنْ قام بتطويرها وإكمالها. وإذا تعرضوا لذكر الاسم في سياق البحث فلا يعود ذلك إلى تركيزهم على دراسة مبدأ ونشوء ونمو الفكر، بل لغاياتٍ أُخرى لا تخفى على المطّلعين. ومن ثمَّ لا يتّضح تاريخ حياة العلوم والفنون.

أما في التطوّرات الأوربية الحديثة فقد ركز الباحثون على قراءة تاريخ حياة العلوم والفنون، هذه القراءة الحيوية المفيدة. فمضافاً إلى تأليف الدراسات المستقلة في هذا الموضوع يعكف الباحثون في صلب الدراسات العلمية، وحتى الكتب الدراسية المقرّرة، على إيضاح نسبة الأفكار إلى مبدعيها، وتحديد الرواد الذين ساهموا في إكمال وتشييد دعائم الأفكار.

إنَّ إغفال الجوانب التاريخية للأفكار أَفضى إلى غفلة المختصّين وجهلهم في هذا الميدان، ووقوعهم أحياناً في أخطاء جسيمة ؛ مثلاً: إذا راجع أحدنا كتب الفلسفة، كشرح منظومة الحكيم السبزواري وغيرها، واهتم بقراءة مسائل الوجود فسوف يحسب أنَّ مسألة أصالة الوجود طرحت منذ ألفين وأربعمائة سنة، أي حينما تأسّس مذهب المشّاء ومذهب الإشراق، فتبنى المشّائيون أصالة الوجود، وتبنى الإشراقيون أصالة الماهية، ويحسب أيضاً

٧٨

على أنَّنا لا نقصد أنَّ شيئاً ما يوجد يوماً ولا يعدم بعد ذلك، فحوادث العالم مليئة بذلك. بل نقصد أنَّ الشيء، الذي توفّر على واقعية الوجود تحت ظل شروط معيّنة، يستحيل مع حفظ الشروط أن يصبح عدماً. مثلاً: شجرة

أنَّ مسألة الوحدة والكثرة طرحت منذ ذلك الوقت في صورتها الراهنة، أي على أساس أصالة الوجود، فتبنى المشاء نظرية الكثرة، وذهب حكماء إيران القدامى إلى القول بتشكيك الوجود ؛ بينا حينما يراجع الإنسان كتب الفلسفة منذ أربعة قرون وما قبلها فسوف لا يجد ذكراً لأصالة الماهية، وحينما يعثر في بعض الدراسات منذ مرحلة ابن سينا وما بعدها على فكرة اعتبارية الوجود، وأنّه من المعقولات الثانية فهو أمر لا يرتبط ببحث أصالة الوجود وأصالة الماهية، كما سيتضح ذلك قريباً. ولم تتناول المراحل السابقة على هذه المرحلة حتى هذا الموضوع أيضاً.

لقد كانت مسائل الوجود في المراحل الأولى لترجمة الفلسفة من اليونانية إلى العربية محدودة جداً، ولم تطرح المسائل الأساسية فيها. ولا تعثر في " ما وراء الطبيعة " لأرسطو، الذي يُعد المنبع الأساس للفلسفة الأُولى إلاّ على مسألة الاشتراك المعنوي أو اللفظي للوجود، من بين مجموع المسائل المعروفة اليوم.

طرحت مسألة مغايرة الوجود للماهية في رسائل أبي نصر الفارابي، هذه المسألة المعروفة بـ " زيادة الوجود على الماهية ". ويبدو أنَّ بحث الحكماء لزيادة الوجود على الماهية جاء رد فعل على مذهب بعض المتكلّمين بشأن عينية الوجود للماهية. وقد أفضى البحث في زيادة الوجود على الماهية إلى ظهور بحث أصالة الوجود أو الماهية أيضاً.

٧٩

الصفصاف فإذا أخذنا شجرة معينة منها في زمان معين قد وجدت واخضرت فلا يمكن افتراض أن تكون معدومة في ذلك المقطع الزماني مع حفظ بقية الشروط. كما يمكن تطبيق هذه الفكرة على الحوادث الماضية، فنحن نقول بلا تردّد إنَّ الحوادث التي وقعت بالأمس لا يمكن تغييرها أو نقلها من محلّها.

تنسب عينية الوجود للماهية إلى أبي الحسن البصري وأبي الحسن الأشعري من المتكلّمين، وخصوصاً الأخير. إنَّ ما تحت أيدينا من كتب الأشعري لا يتيح لنا تمحيص صحة هذه النسبة، لكن القاضي عضد الدين الإيجي يدّعي أنَّ هذه النسبة غير صحيحة، إنَّما اختلف الأشعري مع الحكماء في مسألة الوجود الذهني، حيث ادّعى أنَّ عين ماهيات الأشياء لا تحصل في الذهن، خلافاً لنظرية الحكماء. إذن فليس هناك في الذهن ماهية ؛ لكي يقرّر مغايرتها للوجود.

على أي حال سواء أصحت نسبة النظرية إلى الأشعري أم لم تصح، فقد جاء بحث الحكماء حول زيادة الوجود على الماهية في الذهن ردة فعل على البحوث الكلامية، التي ذهبت إلى عينية الوجود للماهية في عالم الذهن.

أفضى البحث في هذا الموضوع إلى طرح مسألة أُخرى ؛ فبعد ثبوت أنَّ الوجود في عالم الذهن ليس جزءاً من الماهية، وليس عينها، بل مغاير وزائد عليها، وبعبارة أُخرى عارض على الماهية، طرح الاستفهام التالي: ما هو الحال في عالم الخارج ؟ فهل الوجود في عالم الخارج زائد على الماهية أيضاً أم أنَّه عين الماهية في عالم الخارج ؟ أجاب الحكماء بأنَّ الوجود في عالم الخارج عين الماهية، ولا يمكن تغاير الوجود والماهية في عالم الخارج. ثمّ طرح استفهام آخر: كيف يمكن أن يكون الأمران اللذان هما متغايران في

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الموت والشهادة. بل إنّهم يستلهمون من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه»(١) ويستقبلون الموت في سبيل الهدف برحابة صدر. ولهذا فإنّ أمير المؤمنين حينما تلقّى الضربة السامّة من اللعين الخاسر «عبد الرحمن بن ملجم» لم يقل سوى «فزت وربّ الكعبة».

خلاصة القول : فإنّ الإيمان بالمعاد يجعل من الإنسان الخائف الضائع ، إنسانا شجاعا شهما هادفا ، تمتلئ حياته بالحماسة والتضحية والصدق والتقوى.

٣ ـ الدلائل العقليّة على المعاد :

فضلا عن الدلائل النقلية الكثيرة على المعاد سواء الواردة في القرآن المجيد ، والتي تشمل مئات الآيات بهذا الخصوص ، فإنّ هناك أدلّة عقليّة واضحة أيضا على هذه المسألة ، والتي نحاول ذكرها هنا بشكل مختصر :

أ ـ برهان الحكمة :

إذا نظرنا إلى هذا العالم بدون العالم الآخر ، فسيكون فارغا وبلا معنى تماما ، كما لو افترضنا بوجود الحياة في الأطوار الجنينية بدون الحياة في هذه الدنيا.

فلو كان قانون الخلق يقضي بأنّ جميع المواليد الجدد يختنقون بمجرّد نزولهم من بطون امّهاتهم ويموتون ، فإنّ الدور الجنيني سيكون بلا معنى؟ كذلك لو كانت الحياة في هذا العالم مبتورة عن الحياة في العالم الآخر ، فسنواجه نفس الاضطراب والحيرة ، فما ضرورة أن نعيش سبعين عاما أو أكثر أو أقل في هذه الدنيا وسط كلّ هذه المشكلات؟ فنبدأ الحياة ونحن لا نملك تجربة معيّنة ، وحين بلوغ تلك المرتبة يهجم الموت وينتهي العمر نسعى مدّة لتحصيل العلم والمعرفة ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٥ صفحة ٥٢.

٢٦١

وحينما نبلغ درجة منه بعد اشتعال الرأس شيبا يستقبلنا الموت.

ثمّ لأجل ماذا نعيش؟ الأكل واللبس والنوم والاستيقاظ المتكرّر يوميا ، واستمرار هذا البرنامج المتعب لعشرات السنين ، لماذا؟

فهل حقّا إنّ هذه السماء المترامية الأطراف وهذه الأرض الواسعة ، وكلّ هذه المقدّمات والمؤخّرات وكلّ هؤلاء الأساتذة والمعلّمين والمربّين وكلّ هذه المكتبات الضخمة وكلّ هذه الأمور الدقيقة والأعمال التي تداخلت في خلقنا وخلق باقي الموجودات ، كلّ ذلك لمجرّد الأكل والشرب واللبس والحياة المادية هذه؟

هنا يعترف الذين لا يعتقدون بالمعاد بتفاهة هذه الحياة ، ويقدم بعضهم على الانتحار للتخلّص من هذه الحياة الخاوية ، بل قد يفتخر به.

وكيف يمكن لمن يؤمن بالله وبحكمته المتعالية أن يعتبر هذه الحياة الدنيا وحدها بدون ارتباطها بحياة اخرى ذات قيمة وذات شأن؟

يقول تعالى :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) (١) . أيّ أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى الله ، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث.

نعم فإنّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوما ينسجم مع حكمة الله سبحانه وتعالى عند ما تعتبر هذه : «الدنيا مزرعة للآخرة» و «الدنيا قنطرة» ومكان تعلّم ، وجامعة للاستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم ، تماما كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) في كلماته العميقة المعنى «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عاقبة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتّعظ بها ، مسجد أحبّاء الله ، ومصلّى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ،

__________________

(١) المؤمنون ، ١١٥.

٢٦٢

ومتجر أولياء الله»(١) .

خلاصة القول ، إنّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الاعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) (٢) .

ب ـ برهان العدالة :

التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق ، يستنتج منه أنّ كلّ شيء منها محسوب بدقّة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري ، يحكم نظام عادل دقيق ، بحيث أنّه لو تعرّض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدّى إلى إصابته بالمرض أو حتّى الموت ، حركات القلب ، دوران الدم ، أجفان العين ، وكلّ جزء من خلايا الجسم البشري مشمول بهذا النظام الدقيق ، الذي يحكم العالم بأسره «وبالعدل قامت السموات والأرض»(٣) فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم الواسع؟!

صحيح أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة والإختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظلّ تلك الحرية ويطوي مسير تكامله بنفسه ، ولكن إذا أساء الإنسان الاستفادة من تلك الحرية فما ذا سيكون؟!

ولو أنّ الظالمين الضالّين المضلّين بسوء استفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمرّوا على مسيرهم الخاطئ فما ذا يقتضي العدل الإلهي؟! وصحيح أنّ بعضا من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم ـ على الأقل قسم منهم ـ ولكن المسلّم أنّ جميعهم لا ينال جميع ما يستحقّ. كما أنّ جميع المحسنين الأطياب لا يتلقّون جزاء أعمالهم الطيّبة في الدنيا ، فهل من

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار كلمة ١٣١.

(٢) الواقعة ، ٦٢.

(٣) تفسير الصافي ، المجلّد الخامس ، صفحة ١٠٧.

٢٦٣

الممكن أن تكون كلا المجموعتين في كفّة عدالة الله سواء؟!

ويقول القرآن الكريم :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(١) وفي موضع آخر يقول تعالى :( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .(٢)

على كلّ حال ، فلا شكّ في تفاوت الناس وإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى ، كما أنّ محاكم «القصاص والثواب الدنيوية» و «محكمة الوجدان» و «الآثار الوضعية للذنوب» كلّ ذلك لا يكفي لإقرار العدالة على ما يبدو ، وعليه يجب القبول بأنّه لأجل إجراء العدالة الإلهية يلزم وجود محكمة عدل عامّة تراعي بدقّة الخير أو الشرّ في حساباتها ، وإلّا فإنّ أصل العدالة لا يمكن تأمينه أبدا.

وبناء على ما تقدّم يجب الإقرار بأنّ قبول العدل الإلهي مساو بالضرورة لوجود المعاد والقيامة ، القرآن الكريم يقول :( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(٣)

ويقول :( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .(٤)

ج ـ برهان الهدف :

على خلاف ما يتوهّمه المادّيون ، فإنّ الإلهيين يرون أنّ هناك هدفا من خلق الإنسان ، والذي يعبّر عنه الفلاسفة بـ «التكامل» وفي لسان القرآن والحديث فهو «القرب إلى الله» أو «العبادة»( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .(٥)

فهل يمكن تحقيق هذا الهدف إذا كان الموت نهاية لكلّ شيء؟!

__________________

(١) القلم ، ٣٥ و ٣٦.

(٢) ص ، ٢٨.

(٣) الأنبياء ، ٤٧.

(٤) يونس ، ٥٤.

(٥) الذاريات ، ٥٦.

٢٦٤

يجب أن يكون عالم بعد هذا العالم ويستمرّ فيه سير الإنسان التكاملي ، وهناك يحصد ما زرع في هذا العالم ، وكما قلنا في موضع آخر فإنّه في ذلك العالم الآخر يستمرّ سير الإنسان التكاملي ليبلغ هدفه النهائي.

الخلاصة : أنّ تحقيق الهدف من الخلق لا يمكن بدون الإعتقاد بالمعاد ، وإذا قطعنا الارتباط بين هذا العالم وعالم ما بعد الموت ، فكلّ شيء سيتحوّل إلى ألغاز ، وسوف نفقد الجواب على الكثير من التساؤلات.

د ـ برهان نفي الاختلاف :

لا شكّ أنّنا جميعا نتعذّب كثيرا من الاختلافات بين المذاهب والعقائد في هذا العالم ، وكلّنا نتمنّى أن تحلّ هذه الاختلافات ، في حين أنّ جميع القرائن تدلّل على أنّ هذه الاختلافات هي من طبيعة الحياة. ويستفاد من عدّة دلائل بأنّه حتّى بعد قيام المهديعليه‌السلام ـ وهو المقيم لحكومة العدل العالمية والمزيل لكثير من الاختلافات ـ ستبقى بعض الاختلافات العقائدية بلا حلّ تامّ ، وكما يقول القرآن الكريم فإنّ اليهود والنصارى سيبقون على اختلافاتهم إلى قيام القيامة :( فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(١)

ولكن الله سبحانه وتعالى الذي يقود كلّ شيء باتّجاه الوحدة سينهي تلك الاختلافات حتما ، ولوجود الحجب الكثيفة لعالم المادّة في الدنيا فإنّه لا يمكن حلّ هذا الأمر بشكل كامل فيها ، ونعلم أنّ العالم الآخر هو عالم الظهور والانكشاف ، إذن فنهاية هذه المسألة ستكون نهاية عملية ، وستكون الحقائق جلية واضحة إلى درجة أنّ الاختلافات العقائدية ستحلّ بشكل نهائي تامّ.

الجميل أنّه تمّ التأكيد في آيات متعدّدة من القرآن الكريم على هذه المسألة ، يقول تعالى في الآية (١١٣) من سورة البقرة :( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما

__________________

(١) المائدة ، ١٤.

٢٦٥

كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) وفي الآيات (٣٨) و (٣٩) من سورة النحل يقول تعالى :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ ) .

٤ ـ القرآن ومسألة المعاد :

تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية ، لذا ففي بحوث القرآن الكريم نجد أنّ أكثر الآيات اختصّت ببحث مسألة المعاد ، بعد الكثرة الكاثرة التي اختصّت ببحث مسألة التوحيد.

والمباحث القرآنية حول المعاد تارة تكون بشكل استدلالات منطقية ، واخرى بشكل بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث أنّ سماعها في بعض الأحيان يؤدّي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق ـ كالاستدلالات المنطقية ـ ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.

في القسم الأوّل ، أي الاستدلالات المنطقية ، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد كثيرا على موضوع إمكانية المعاد ، إذ أنّ منكري المعاد غالبا ما يتوهّمون استحالته ، ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام المهترئة والتراب إلى الحياة مرّة اخرى.

ففي هذا القسم ، يلج القرآن الكريم طرقا متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلّها في نقطة واحدة ، وهي مسألة «الإمكان العقلي للمعاد».

فتارة يجسّد للإنسان النشأة الاولى ، وبعبارة وجيزة ومعبّرة واضحة تقول الآية :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .(١)

__________________

(١) الأعراف ، ٢٩.

٢٦٦

وتارة يجسّد حياة وموت النبات ، وبعثه الذي نراه بامّ أعيننا كلّ عام ، وفي الختام يقول إنّ بعثكم تماما كالنبات :( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) .(١)

وفي موضع آخر يقول تعالى :( وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ) .(٢)

وحينا يطرح مسألة قدرة الله سبحانه وتعالى على خلق السموات والأرض فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(٣)

وحينا آخر يعرض عملية انبعاث الطاقة واشتعال الشجر الأخضر كنموذج على قدرته ، وجعل النار في قلب الماء فيقول :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ) .(٤)

وتارة يجسّد أمام ناظري الإنسان الحياة الجنينية فيقول :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) .(٥)

وأخيرا فإنّ القرآن تارة يدلّل على البعث بالنوم الطويل ـ النوم الذي هو قرين الموت وأخوه ، بل إنّه الموت بعينه من بعض الجوانب ـ كنوم أصحاب الكهف الذي استمر ثلاثمائة وتسع سنين ، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول :

__________________

(١) سورة ق ، ٩ ـ ١١.

(٢) فاطر ، ٩.

(٣) الأحقاف ، ٣٣.

(٤) سورة يس ، ٨٠.

(٥) الحجّ ، ٥.

٢٦٧

( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) .(١)

تلك هي الأساليب الستّة المختلفة التي طرحتها آيات القرآن الكريم لبيان إمكانية المعاد. علاوة على قصّة إبراهيم عليه‌السلام والطيور الأربعة (البقرة ـ ٢٦٠) وقصّة عزير (البقرة ـ ٢٥٩) وقصّة الشهادة من بني إسرائيل (البقرة ـ ٧٣) ، والتي تشكّل كلّ واحدة منها نموذجا تأريخيا على هذه المسألة وهي من الشواهد والدلائل الاخرى التي ذكرها القرآن بهذا الخصوص.

خلاصة القول ، إنّ ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة ومعلوماته ونتائجه ، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص ، حيّة ومقنعة بحيث أنّ أيّ إنسان إذا كان لديه ذرّة من الوجدان فإنّه يتأثّر بعمق ما يطرحه القرآن الكريم.

وعلى قول البعض : فإنّ ألفا ومائتي آية من القرآن الكريم تبحث في مسألة المعاد ، لو جمعت وفسّرت لأصبحت وحدها كتابا ضخما.

٥ ـ المعاد الجسماني :

المقصود من المعاد الجسماني ليس إعادة الجسم وحده في العالم الآخر ، بل إنّ الهدف هو بعث الروح والجسم معا ، وبتعبير آخر فإنّ عودة الروح أمر مسلّم به ، والحديث حول عودة الجسم.

جمع من الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون بالمعاد الروحي فقط ، وينظرون إلى الجسد على أنّه مركّب ، يكون مع الإنسان في هذه الدنيا فقط ، وبعد الموت يصبح الإنسان غير محتاج إليه فينزل الجسد ويندفع نحو عالم الأرواح.

ولكن العلماء المسلمين الكبار يعتقدون بأنّ المعاد يشمل الروح والجسم ، وهنا لا يقيّد البعض بعودة الجسم السابق ، ويقولون بأنّ الله قيّض للروح جسدا ، ولكن

__________________

(١) الكهف ، ٢١.

٢٦٨

شخصيّة الإنسان بروحه فإنّ هذا الجسد يعدّ جسده.

في حال أنّ المحقّقين يعتقدون بأنّ هذا الجسد الذي يصبح ترابا ويتلاشى ، يتلبّس بالحياة مرّة اخرى بأمر الله الذي يجمعه ويكسوه بالحياة ، هذه العقيدة نابعة من متون الآيات القرآنية الكريمة.

إنّ الشواهد على المعاد الجسماني في الآيات القرآنية الكريمة كثيرة جدّا ، بحيث يمكن القول قطعا بأنّ الذين يعتقدون باقتصار المعاد على المعاد الروحي فقط لا يملكون أدنى اطّلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد ، وإلّا فإنّ جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شكّ في هذه المسألة.

فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس ، توضّح هذه الحقيقة حيث حينما تساءل الإنسان :( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) أجابه القرآن بصراحة ووضوح :( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

إنّ كلّ تعجّب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضيّة ، وهي كيف يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح ترابا متناثرا وضائعا في هذه الأرض؟( وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(١)

إنّهم يقولون :( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) (٢) . وتعجّبوا من هذه المسألة إلى درجة أنّهم اعتبروا إظهارها دليلا على الجنون أو الكذب على الله( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٣)

لهذا السبب فإنّ استدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموما تدور

__________________

(١) السجدة ، ١٠.

(٢) المؤمنون ، ٣٥.

(٣) سورة سبأ ، ٧.

٢٦٩

حول هذا المحور وهو «المعاد الجسماني» وما عرضناه في الفصل السابق في ستّة طرق كانت دليلا وشاهدا على هذا الادّعاء.

علاوة على أنّ القرآن الكريم يذكر مرارا وتكرارا بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.

والأوصاف التي يذكرها القرآن الكريم عن المواهب المادية والمعنوية للجنّة ، كلّها تدلّل على أنّ المعاد معاد جسمي ومعاد روحي أيضا ، وإلّا فلا معنى للحور والقصور وأنواع الأغذية والنعيم في الجنّة إلى جنب المواهب المعنوية.

على كلّ حال ، فلا يمكن أن يكون الإنسان على جانب يسير من المنطق والثقافة القرآنية وينكر المعاد الجسماني. وبتعبير آخر : فإنّ إنكار المعاد الجسماني بنظر القرآن الكريم مساو لإنكار أصل المعاد.

علاوة على هذه الأدلّة النقلية ، فإنّ هناك أدلّة عقلية بهذا الخصوص لو أردنا إيرادها لاتّسع البحث كثيرا ، لا شكّ أنّ الإعتقاد بالمعاد الجسماني سيثير أسئلة وإشكالات كثيرة ، منها شبهة الآكل والمأكول والتي ردّ عليها العلماء الإسلاميون والتي أوردنا تفصيلا عنها بشكل مختصر في المجلّد الثاني عند تفسير الآية (٢٦٠) من سورة البقرة.

٦ ـ الجنّة والنار

الكثيرون يتوهّمون بأنّ عالم ما بعد الموت يشبه هذا العالم تماما ولكنّه بشكل أكمل وأجمل ، غير أنّ لدينا قرائن عديدة تدلّل على الفروق الكبيرة بين العالمين من حيث الكيفية والكميّة ، لو أردنا تشبيهها بالفروق بين العالم الجنيني وهذه الدنيا لظلّت المقايسة أيضا غير كاملة.

فوفقا لصريح الروايات الواردة في هذا الشأن فإنّ في عالم ما بعد الموت ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على فكر بشر ، القرآن الكريم يقول :( فَلا تَعْلَمُ

٢٧٠

نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) .(١)

الأنظمة الحاكمة في ذلك العالم أيضا تتفاوت تماما مع الأنظمة في هذا العالم ، ففي حين يستفاد في هذا العالم من أفراد يسمّون «الشهود» في المحاكمات ، نرى أنّ هناك تشهد الأيدي والأرجل وحتّى الجلد( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٢) ( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (٣) .

على كلّ حال ، فما قيل عن العالم الآخر لا يرسم أمامنا سوى صورة باهتة ، وعادة فإنّ اللغة التي نتحدّث بها والثقافة التي لدينا غير قادرة جميعها على الوصف الحقيقي لما هو موجود هناك ، ولكن لا يترك الميسور بالمعسور. فالمقدار المتيقّن هو أنّ الجنّة هي مركز كلّ النعم والمواهب الإلهية سواء المادية أو المعنوية ، وجهنّم هي مركز لكلّ أنواع العذاب الأليم المادّي والمعنوي أيضا.

أمّا بخصوص تفصيل ذلك فإنّ القرآن الكريم أورد جزئيات نحن نؤمن بها ، ولكن تفصيلها بدقّة غير ممكن بدون الرؤية والمعاينة. ولنا بحث حول هذا الخصوص في تفسير الآية (٣٣) من سورة آل عمران.

إلهي : آمنّا في الفزع الأكبر.

إلهي : لا تحاسبنا بعدلك ولكن حاسبنا بلطفك وعدلك ، فليس لدينا من الأعمال ما يوجب رضاك.

اللهم افعل بنا ما يرضيك عنّا ويجعلنا من الناجين آمين ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة يس

__________________

(١) السجدة ، ١٧.

(٢) سورة يس ـ ٦٥.

(٣) سورة فصلت ، ٢١.

٢٧١
٢٧٢

سورة

الصّافات

مكيّة

وعدد آياتها مائة واثنان وثمانون آية

٢٧٣
٢٧٤

سورة الصّافات

محتوى سورة الصّافات :

هذه السورة بحكم كونها من السور المكيّة ، فإنّها تمتلك كافّة خصائص السور المكيّة ، فهي تسلّط الأضواء على اصول المعارف والعقائد الإسلامية الخاصّة بالمبدأ والمعاد. وتتوعّد المشركين بأشدّ العقاب وذلك من خلال العبارات الحازمة والآيات القصيرة العنيفة الوقع ، وتوضّح ـ بالأدلّة القاطعة ـ بطلان عقائدهم.

بصورة عامّة يمكن تلخيص محتوى سورة الصافات في خمسة أقسام :

القسم الأوّل : يبحث حول مجاميع من ملائكة الرحمن ، ومجموعة من الشياطين المتمردين ومصيرهم.

القسم الثّاني : يتحدّث عن الكافرين ، وإنكارهم للنبوّة والمعاد ، والعقاب الذي ينتظرهم يوم القيامة ، كما يستعرض الحوار الذي يدور بينهم في ذلك اليوم ، ويحملهم جميعا الذنب ، والعذاب الإلهي الذي سيشملهم ، كما يشرح هذا القسم جوانب من النعم الموجودة في الجنّة إضافة إلى ملذّاتها وجمالها وسرور أهلها.

القسم الثّالث : يشرح بصورة مختصرة تأريخ الأنبياء أمثال (نوح) و (إبراهيم) و (إسحاق) و (موسى) و (هارون) و (إلياس) و (لوط) و (يونس) وبصورة ذات تأثير قوي ، كما يتحدّث هذا القسم بشكل مفصّل عن إبراهيم محطّم الأصنام وعن جوانب مختلفة من حياته ، والهدف الرئيسي من وراء سرد قصص الأنبياء ـ مع ذكر بعض الشواهد العينية من تأريخهم ـ هو تجسيد حوادث تلك القصص

٢٧٥

وتصويرها بشكل محسوس وملموس.

القسم الرّابع : يعالج صورة معيّنة من صور الشرك والذي يمكن اعتباره من أسوأ صور الشرك ، وهو الإعتقاد بوجود رابطة القرابة بين الله سبحانه وتعالى والجنّ والملائكة ، ويبيّن بطلان مثل هذه العقائد التافهة بعبارات قصيرة.

أمّا القسم الخامس والأخير : فيتناول في عدّة آيات قصار انتصار جيوش الحقّ على جيوش الكفر والشرك والنفاق ، وابتلاءهم ـ أي الكافرين والمشركين والمنافقين ـ بالعذاب الإلهي ، وتنزّه آيات هذا القسم الله سبحانه وتعالى وتقدّسه عن الأشياء التي نسبها المشركون إليه ، ثمّ تنتهي السورة بالحمد والثناء على الباريعزوجل .

فضيلة تلاوة سورة الصافات :

في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات اعطي من الأجر عشر حسنات ، بعدد كلّ جنّ وشيطان ، وتباعدت عنه مردة الشياطين ، وبرىء من الشرك ، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات في كلّ جمعة لم يزل محفوظا من كلّ آفة ، مدفوعا عنه كلّ بليّة في حياته الدنيا ، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق ، ولم يصبه الله في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم ، ولا جبّار عنيد ، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه الله شهيدا ، وأماته شهيدا ، وأدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة»(٢) .

الثواب العظيم الذي يناله من يتلو سورة الصافات ، جاء نتيجة لما تحويه هذه

__________________

(١) مجمع البيان ، أوّل تفسير سورة الصافات.

(٢) تفسير مجمع البيان أوّل تفسير سورة الصافات ـ لقد ورد هذا الحديث في تفسير البرهان نقلا عن الشيخ الصدوق ، رحمة الله مع اختلاف بسيط.

٢٧٦

السورة المباركة ، فنحن ندرك أنّ الهدف من التلاوة هو التفكّر ، ومن ثمّ الإعتقاد ، ومن بعد العمل. ومن دون شكّ فإنّ الذي يتلو هذه السورة بتلك الصورة ، سيحفظ من شرّ الشياطين ، ويتطهّر من الشرك ، ويمتلك الإعتقاد الصحيح القوي ، ويمارس أعمالا صالحة ، ويتّعظ من القصص الواقعية للأنبياء والأقوام الماضية ، وإنّه سيحشر مع الشهداء.

وممّا يذكر فإنّ تسمية هذه السورة بالصافات جاءت نسبة إلى الآية الاولى فيها.

* * *

٢٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) )

التّفسير

الملائكة المستعدّة لتنفيذ المهام :

هذه السورة هي أوّل سورة في القرآن الكريم تبدأ بالقسم ، القسم المليء بالمعاني والمثير للتفكّر ، القسم الذي يجوب بفكر الإنسان في جوانب مختلفة من هذا العالم ، ويجعله متهيّئا لتقبّل الحقائق.

من المسلّم به أنّ الله تبارك وتعالى هو أصدق الصادقين ، وليس بحاجة إلى القسم ، إضافة إلى أنّ قسمه إن كان للمؤمنين ، فإنّهم مؤمنون به من دون قسم ، وإن كان للناكرين ، فإنّ أولئك لا يعتقدون بالقسم الإلهي.

ونلفت الانتباه إلى نقطتين لحلّ مشكلة القسم في كلّ آيات القرآن التي سنتناولها من الآن فما بعد.

الاولى : أنّ القسم يأتي دائما بالنسبة إلى امور مهمّة وذات قيمة ، ولذلك فإنّ

٢٧٨

أقسام القرآن تشير إلى عظمة وأهميّة الأشياء المقسم بها. وهذا الأمر يدعو إلى التفكّر أكثر بالشيء المقسم به ، التفكّر الذي يكشف للإنسان عن حقائق جديدة.

الثانية : أنّ القسم يأتي للتأكيد ، وللدلالة على أنّ الأمور التي يقسم من أجلها هي امور جديّة ومؤكّدة.

وعلاوة على ذلك أنّ المتحدّث لو تحدّث بصورة حازمة ومؤكّدة ، فإنّ تأثير كلامه من الناحية النفسية سيكون أوقع على قلب المستمع ، كما أنّه يقوّي المؤمنين ويضعّف الكافرين.

على كلّ حال ، فإنّ بداية هذه السورة تذكر أسماء ثلاثة طوائف أقسم بها الله تعالى(١) .

الأولى :( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) .

الثانية :( فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ) .

الثالثة :( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) .

فمن هي تلك الطوائف الثلاث؟ وعلى من أطلقت تلك الصفات؟ وما الهدف النهائي منها؟

المفسّرون قالوا الكثير بهذا الشأن ، إلّا أنّ المعروف والمشهور هو أنّ هذه الصفات تخصّ طوائف من الملائكة

طوائف اصطفّت في عالم الوجود بصفوف منظمة ، وهي مستعدّة لتنفيذ الأمر الإلهي.

وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن ارتكاب المعاصي والذنوب ، وتحبط وساوس الشياطين في قلوبهم. أو الملائكة الموكّلة بتسيير السحاب في السماء وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها.

وأخيرا طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي

__________________

(١) هذه العبارات الثلاث من جهة هي ثلاثة أقسام ، ومن جهة اخرى هي قسم واحد له ثلاث صفات.

٢٧٩

على الرسل(١) .

وممّا يلفت النظر أنّ «الصافات» هي جمع كلمة «صافّة» وهي بدورها تحمل صفة الجمع أيضا ، وتشير إلى مجموعة مصطفّة ، إذن فـ «الصافات» تعني الصفوف المتعدّدة(٢) .

وأمّا كلمة «الزاجرات» فإنّها مأخوذة من (الزجر) ويعني الصرف عن الشيء بالتخويف والصراخ ، وبمعنى أوسع فإنّها تشمل كلّ منع وطرد وزجر للآخرين.

إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمّتها نهي وصرف وزجر الآخرين.

و «التاليات» من (التلاوة) وهي جمع كلمة (تال) وتعني طوائف مهمّتها تلاوة شيء ما(٣) .

ونظرا لكثرة واتّساع مفاهيم هذه الألفاظ ، فليس من العجب أن يطرح المفسّرون تفاسير مختلفة لها دون أن يناقض بعضها الآخر ، بل من الممكن أيضا أن تجتمع لتوضيح مفهوم هذه الآيات ، فمثلا المقصود من كلمة «الصافات» هو صفوف الملائكة المستعدّة لتنفيذ الأوامر الإلهيّة ، في عالم الخلق ، أو الملائكة النازلون بالوحي إلى الأنبياء في عالم التشريع ، وكذلك صفوف المقاتلين

__________________

(١) بالطبع وردت احتمالات اخرى في تفسير الآيات المذكورة أعلاه ، «منها» ما يشير إلى صفوف جند الإسلام في ساحات الجهاد ، الذين يصرخون بالأعداء ويزجرونهم عن الاعتداء على حرمة الإسلام والقرآن ، والذين يتلون كتاب الله دائما ومن دون أي انقطاع ، وينوّرون قلوبهم وأرواحهم بنور تلاوته ، ومنها : أنّ بعض هذه الأوصاف الثلاثة هو إشارة إلى ملائكة اصطفّت بصفوف منظمة ، والقسم الآخر يشير إلى آيات القرآن التي تنهى الناس عن ارتكاب القبائح ، والقسم الثالث يشير إلى المؤمنين الذين يتلون القرآن في أوقات الصلاة وفي غيرها من الأوقات. ويستبعد الفصل بين هذه الأوصاف ، لأنّها معطوفة على بعضها البعض بحرف (الفاء) ، وهذا يوضّح أنّها أوصاف لطائفة واحدة. وقد ذكر العلّامة «الطباطبائي» في تفسيره الميزان هذا الاحتمال ، في أنّ الأوصاف الثلاثة هي تطلق على ملائكة مكلّفة بتبليغ الوحي الإلهي ، والاصطفاف في طريق الوحي لتوديعه ، وزجر الشياطين التي تقف في طريقه ، وفي النهاية تلاوة آيات الله على الأنبياء.

(٢) ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث «الصافات والزاجرات والتاليات» لأنّ موصوفها الجماعة ، وهي مؤنّث لفظي.

(٣) ممّا يذكر أنّ بعض اللغويين قالوا بأنّ جمع كلمة (تال) هو (تاليات) وجمع (تالية) (توال).

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303