العلويون بين الاسطورة والحقيقة

العلويون بين الاسطورة والحقيقة0%

العلويون بين الاسطورة والحقيقة مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 368

  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102743 / تحميل: 12679
الحجم الحجم الحجم
العلويون بين الاسطورة والحقيقة

العلويون بين الاسطورة والحقيقة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

النوبختي...، قال البرقاني: كان معتزلياً وكان يتشيّع، إلاّ أنّه يتبيّن أنّه صدوق، وقال الأزهري: كان رافضياً رديء المذهب)(1) .

وذكرَ ابن تغري بردي في(النجوم الزاهرة) - عند حديثه عن أخبار سنة 537هـ -: (وفيها توفّي الحسن بن محمد بن علي بن أبي الضوء الشريف أبو محمد الحسيني البغدادي، نقيب مشهد موسى بن جعفر ببغداد، وكان إماماً فاضلاً فصيحاً شاعراً، إلاّ أنّه كان على مذهب القوم، متغالياً في التشيّع)(2) .

ونحبّ أن نشير هنا إلى أنّ موجة الاتّهام، لم تطل الشيعة (عموماً) لوحدهم فحسب، بل شملت فِرقاً ومذاهب أخرى: كالمعتزلة الحنفية، والجهمية، والمشبّهة، والحنابلة، والأشعرية... فعندما أظهرَ الخليفة المأمون القول بخلق القرآن، أرسلَ إلى أبي الحسين إسحاق بن إبراهيم كتاباً يتّهم فيه أهل السنّة بالضَلال، هو:

(أمّا بعد، فإنّ حقّ الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوّة التي أورثهم، وأثَر العلم الذي استودعهم والعمل بالحق في رعيّتهم، والتشمير لطاعة الله فيهم، والله يسأل أمير المؤمنين أن يوفّقه لعزيمة الرشد وصريمته، والإقساط فيما ولاّه الله من رعيّته برحمته ومنّته.

وقد عَرف أمير المؤمنين: أنّ الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشوِ الرعية وسفلة العامّة ممّن لا نظر له، ولا رؤية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، ولا استضاء بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق، أهل جهالة بالله وعمي عنه، وضَلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصور أن يقدّروا الله حقّ قدره، ويعرفوه كُنْه معرفته، ويفرّقوا بينه وبين خلقه، بضعف آرائهم ونقص عقولهم، وخفائهم عن التفكير والتذكّر ؛ وذلك أنّهم ساروا بين الله تبارك

__________________

(1) ج7، ص 258.

(2) ج5، ص 271.

١٠١

وتعالى وبين ما أنزل من القرآن، وأطبقوا مخضعين واتّفقوا غير متجامعين على أنّه قديم أوّل، لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه، وقد قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه، الذي جعلهُ لِمَا في الصدور شفاءً، وللمؤمنين هدىً ورحمةً: ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) فكلّ ما جعلهُ الله فقد خلقه الله، وقال: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) ، وقال عزّ وجلّ:( كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ) ، فأخبرَ أنّه قَصَصَ لأمورٍ أحدثها بعده، وتلا بها فتقدّمها، وقال:( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) .

وكلُ مُحكم مفصّل فله مُحكم مفصّل، والله جلّ وعزّ مُحكِم كتابه ومُفصِّله فهو خالقه ومبتدعه، ثمّ هُم أولئك الذين جادلوا بالباطل إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنّة، وفي كل فصلٍ من كتاب الله قصص من تلاوته مُبطل قولهم، ومُكذّب دعواهم، يردّ عليهم قولهم ونِحلتهم، ثمّ أظهروا مع ذلك أنّهم هُم أهلُ الحقّ والدين والجماعة، وأنّ مَن سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة فاستطالوا بذلك على الناس، وغرّوا به الجهّال حتى مالَ قومٌ من أهل السمت الكاذب والتخشّع لغير الله، والتقشّف لغير الدين إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيء آرائهم ؛ تزيّناً بذلك عندهم وتصنّعاً للرئاسة والعدالة فيهم، فتركوا الحقّ إلى باطلهم، واتّخذوا دون هدى الله وليجة إلى ضَلالتهم فقُبلت - بتزكيتهم لهم - شهاداتهم ونفذت أحكام الكتاب بهم على دغل دينهم، وبطلَ أديمهم وفساد نيّاتهم وتفنّنهم، وكان ذلك غايتهم التي إليها أجروا، وإيّاها طلبوا في متابعتهم، والكذب على مَولاهُم، وقد أخذَ عليهم ميثاق الكتاب ألاّ يقولوا على الله إلاّ الحقّ، ودرسوا ما فيه:( أُولئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمّهُمْ وَأَعْمَى‏ أَبْصَارَهُمْ * أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى‏ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) .

فرأى أمير المؤمنين أنّ أولئك شرّ الأمّة، ورؤوس الضَلالة، والمنقوصون من التوحيد حظّاً، والمخسوسون من الإيمان نصيباً وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه من أهل دين الله، وأحقّ مَن اتّهم في صدقه، وأُطرحَت شهادته، ولم يوثق بقوله ولا عمله، فإنّه لا عمل إلاّ بعدَ يقين، ولا يقين إلاّ بعدَ استكمال

١٠٢

حقيقة الإسلام، وإخلاص التوحيد، ومَن عَمى عن رشده وحفظه من الإيمان بالله وبتوحيده، كان عمّا سوى ذلك من عمله والقصد من شهادته أعمى وأضلُ سبيلاً، ولعمر أمير المؤمنين إنّ أحجى الناس بالكذب في قوله، وتخرّص الباطل في شهادته مَن كَذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حقيقة معرفته، وإنّ أوْلاهم أن يردّ شهادة الله جلّ وعزّ على كتابه، وبهت حقّ الله بباطله، فاجمع مَن بحضرتك من القضاة واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وابدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عمّا يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه.

وأعلِمهم أنّ أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلّده الله واستحفظه في أمور رعيّته مَن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقرّوا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمُرهُم بنظر مَن بحضرتهم من الشهود على الناس، ومساءلتهم عن علمهم في القرآن، وترك الإثبات بشهادة مَن لم يقرّ أنّه مخلوق مُحدث، ولم يروا الامتناع من توقيعها عنده، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك من قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك، ثمّ أشرِف عليهم وتفقّد آثارهم ؛ حتى لا تنفذ أحكام الله إلاّ بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك، وكتب في شهر ربيع الأوّل سنة ثماني عشرة ومئتين)(1) .

كما أنّ الخليفة الراضي بالله أصدر بحقّ الحنابلة كتاباً ينسبهم فيه إلى الكفر والضَلال، ونصّه:

(بسم الله الرحمن الرحيم، مَن نافَق بإظهار الدين وتوثّب على المسلمين، وأكلَ به أموال المعاهدين كان قريباً من سخط ربّ العالمين وغضب الله وهو من الضالّين.

وقد تأمّلَ أمير المؤمنين أمرَ جماعتكم، وكشفت له الخبرة عن مذهب صاحبكم، زيّن لحزبه المحظور ويدلي لهم حبل الغرور، فمِن ذلك تشاغلكم بالكلام في ربّ العزّة تباركت أسماؤه، وفي

____________________

(1) ابن طيفور: بغداد في تاريخ الخلافة العباسية.

١٠٣

نبيه والعرش والكرسي، وطعنكم على خيار الأمّة، ونَسبكم شيعة أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) إلى الكفر والضَلال، وإرصادهم بالمكاره في الطرقات والمحال، ثمّ استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة، التي لا يشهد بها القرآن ولا يقتضيها فرائض الرحمان، وإنكاركم زيارة قبور الأئمة صلوات الله عليهم، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع ؛ وإنّكم - مع إنكاركم ذلك - تتلفّقون وتجتمعون لقصد رجلٍ من العوام ليس بذي شرف، ولا نسب، ولا سبب برسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، وتأمرون بزيارة قبره والخشوع لدى تربته والتضرّع عند حفرته، فلعنَ الله ربّاً حَملكم على هذه المنكرات ما أرداه، وشيطاناً زيّنها لكم ما أغواه، وأمير المؤمنين يُقسم بالله قَسماً جهد ألية يلزمه الوفاء به، لئن لم تنصرفوا عن مذموم مذهبكم ومعوّج طريقتكم ليوسعنّكم ضرباً وتشريداً وقتلاً وتبديلاً، ويستعملنّ السيف في رقابكم والنار في محالّكم ومنازلكم، فليبلّغ الشاهد منكم الغائب، فقد أعذر مَن أنذر، وما توفيق أمير المؤمنين إلاّ بالله عليه يتوكّل وعليه ينيب)(1) .

[نتائج البحث السابق:]

يُستخلص من ذلك: أنّ ما أُلصق بالشيعة من تُهم، كان لغاياتٍ سياسية ؛ إذ اتّخذ الخلفاء من هذا الاتّهام وسيلةً للقضاء على خصومهم من الهاشميين، ولم يقتصر (الأمر على الخلفاء في اتّهام الخصوم بالكفر والرفض و... لأغراض سياسية، بل كان هناك من الوزراء، مَن يتّخذون الاتّهام سبيلاً للكيد والوقيعة بنظرائهم أو خصومهم الذين يحقدون عليهم).

ويُستخلص أيضاً: أنّ كلمة شيعة كانت تعني طوال العهد العباسي (الرفض)، ومن معاني هذه الكلمة في قاموس السياسة: الغلو والكفر.

وعليه، تكون التّهم التي وجِّهت للشيعة عموماً، منذ بدء تكوّن نواة التشيّع، وحتى نهاية الخلافة العباسية، هي: 1 - الإلحاد، 2 - الغلو، 3 - الرفض، 4 - إباحة المحارم، 5 - التناسخ، 6 - الجهل، 7 - شرب الخمر، 8 - ترك الصلاة.

____________________

(1) ابن مسكويه: تجارب الأمم.

١٠٤

وهكذا جعلوا الشيعة = السبأيّة + القرمطة + المجوسية + الدهرية(1) + الباطنية + الحلولية، ولمـّا كانت النصيرية فرقة من فِرق الشيعة، فقد حمّلوها كل هذه التّهم، بالإضافة إلى تّهمٍ أخرى: كممالئة التتار، والإفرنج و... إلخ.

[الاتهامات للشيعة: مسائل خلافية.](*)

ونحن إذا رجعنا إلى خلفيّات هذه الاتّهامات وبحثنا في الجذور، تبيّن لنا أنّها من المسائل الخلافية، التي اشتدّ حولها الجدل بين الفقهاء والمتكلّمين، وانقسمت حولها الآراء، ولم ينتصر رأيٌ على رأي، وتبيّن لنا أنّ الأيدي الخفيّة اختارتها عن قصد للتلبيس على العامّة، وإثارة مشاعرها ؛ لأنّها حمّالة على وجوه، كما سنبيّن ذلك عند وقفتنا القصيرة أمام هذه الاتّهامات.

[1 - ] التناسخ:

التناسخ: هو وصول روح إذا فارقَ البدن إلى جنينٍ قابل للروح، أو هو خروج الروح من جسد وحلولها في جسد آخَر.

والحديث عن التناسخ، يجرّنا إلى الحديث عن المعاد، والقائلون بالمعاد فِرق(2) :

- فرقة تجعل المعاد للأبدان وحدها.

- وفرقة تجعله للنفوس وحدها.

- وفرقة تجعله للنفوس والأبدان جميعاً.

القول بالمعاد للنفوس هو ما يعنينا، والقائلون به فِرق:

____________________

(1) الدهرية: فرقة لا تؤمن بدينٍ ولا إله، وتقول: بقِدَم العالَم، ولا تؤمن إلاّ بالمحسوس، ولا تعتقد بوجود عالَم وراء هذا العالَم المادّي، ولا تؤمن بالبعث والثواب والعقاب.

(2) ابن سينا: رسالة أضحوية في أمر المعاد.

(*) لا نختلف مع الكاتب في أن القضايا التي ذكرها مما اختلاف فيه المسلمون على مذاهب وأقوال كثيرة، ولكن إن كان مقصوده إضفاء الشرعية على القول بها بمجرد وجود الخلاف فيها، أو أن ذلك مما يؤمن به الشيعة عامة، فهو خطأ لا نوافقه عليه، على الأقل لدى المذهب الإمامي الاثني عشري، فقد أجمعت كلمتهم قاطبة على بطلان القول بالتناسخ وقدم العالم (القدم بالذات)، وعلى حرمة تعاطي الخمر والقول بالغلو. ومصنفاتهم معروفة مشهورة في ذلك، يمكن للجميع مراجعتها.[شبكة الإمامين الحسنين عليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي] .

١٠٥

- فرقة تقول بتجسيم النفس.

- وفرقة تعتقدها جوهراً نورانياً من عالَم النور مخالطاً للبدن الذي هو جوهر مظلم، من عالَم الظلمة، وسعادته خلاص النور من الظلمة وخروجه إلى عالم النور، وشقاوته بقاؤه في عالَم الظلمة.

- وفرقة ترى ذلك لها بالكرور في الأبدان، وهُم أهل التناسخ.

- وفرقة ترى لها ذلك بالاحتباس في العالَم العنصري، والانفلات منه.

وفرقة ترى ذلك لها باستكمالها لجوهرها، وخلوصها عن تمكّن آثار الطبيعة فيها، وضدّ ذلك.

وأهل التناسخ أيضاً فِرق:

- فرقة يجوّزون كرور النفس في جميع الأجساد النامية، نباتية كانت أو حيوانية.

- وفرقة يجوّزون ذلك في الأبدان الحيوانية.

- وفرقة لا يجوّزون دخول نفسٍ إنسانية في نوعٍ غير الإنسان أصلاً، وهُم فِرقتان:

* فرقة توجب التناسخ للنفس الشقيّة وحدها، حتى تستكمل وتستعد فتخلص عن المادّة.

* وفرقة توجب ذلك للنفسين جميعاً: الشقيّة، والسعيدة. الشقيّة في أبدانٍ تعبة، والسعيدة في أبدانٍ ذوات نعمة وراحة.

فتكون الروح والحالة هذه، محور نظرية التناسخ.

وقد اتّفق علماء المسلمين على أنّ الأرواح بعد المفارقة عن الأبدان تنتقل إلى جسمٍ آخَر(1) ، بحديث: (إنّ أرواح المؤمنين في أجوافِ طيرٍ خُضرٍ تعلّق من ثمار الجنّة)، ولكنّهم اختلفوا مع الحكماء في نقطة، هي: هل تكون

____________________

(1) الكفوي: الكليات ج2، ص376، والمنّاوي: فيض القدير ج2، ص422.

١٠٦

مدبّرة لذلك الجسم أو لا؟ هُم قالوا: تكون مدبّرة، بدليل آخِر الحديث، وقال الحكماء: لا يصحّ أن تكون مدبّرة لتلك الأبدان. ومن هنا قال مَن قال: ما من مذهب إلاّ وللتناسخ فيه قَدَمٌ راسخ(1) ، وكان ثمّة كثيرون ممّن يميلون أشدّ الميل إلى مذهب التناسخ، ومنهم فلاسفة معروفون كنجم الدين النخجواني، الذي كان ذا يدٍ قوية في الفضائل وعارضة عريضة في علوم الأوائل(2) ، تفلسفَ ببلاده وسار في الآفاق وطوّف وولّي المناصب الكبار، ثمّ كره كدر الولاية ونَصْبَها، فارتحلَ إلى الشام وأقامَ بحلب منقطعاً في دارٍ اتّخذها لسُكناه، لا يمشي إلى مخلوق ولكن يُمشى إليه إلى أن مات بها.

ومنهم أيضاً: محمد بن زكريا الرازي (طبيب المسلمين غير منازع، وأحد المشهورين في علم المنطق والفلسفة وغيرها من العلوم)(3) .

ومذهب التناسخ نشأ في الإسلام من فكرة الرجعة، وإذا علمنا أنّ الاعتقاد في الرجعة هو من متفرّدات الشيعة، وكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تنبذ به الشيعة، ويشنّع به عليهم، إذ اعتبرهُ خصومهم إنكاراً منهم للبعث والنشور، وضحَ لدينا السبب الذي من أجله صار اتّهام الشيعة، وكلّ مَن ينتمي إليها بسبب القول بالتناسخ ؛ لأنّ الرجعة في نظرهم تناسخاً، والتناسخ يعني إنكار البعث والنشور.

ومن جهة أُخرى، إذا كان علماء المسلمين اتّفقوا على أنّ الأرواح بعد مفارقتها الأبدان تنتقل إلى جسمٍ آخَر، وكان انتقال الروح من جسدٍ إلى جسدٍ آخَر، هو التناسخ، فأيّ معنى يبقى لاتّهام الشيعة، أو النصيرية، أو غيرهم من الفِرق، بالقول بالتناسخ؟!

____________________

(1) التفتازاني: شرح العقائد النسفية ص108.

(2) ابن العبري: تاريخ مختصر الدول.

(3) القفطي: أخبار الحكماء.

١٠٧

[2 - ] القول بقِدَم العالَم:

من أيّ شيء خلقَ الله هذا العالَم؟! هل هو شيء حدث بعد أن لم يكن، وخرجَ إلى الوجود بعد العدم؟! أمْ هو أمرٌ كان موجوداً فيما سلف ولم يسبقه العدم بوجهٍ من الوجوه، حول الجواب عن هذا التساؤل، انقسمَ المفكّرون إلى قسمين:

قسمٌ قال: بأنّ العالَم قديمٌ، وهُم الفلاسفة.

وقسمٌ قال: بأنّه مُحدَث، وهُم المتكلّمون.

والحدوث : الخروج من العدم إلى الوجود، أو كون الوجود مسبوقاً بالعدم اللازم للوجود، أو كون الوجود خارجاً من العدم اللازم للوجود، وأظهر التعريفات للحدوث: هو أنّه حصول الشيء بعدما لم يكن(1) ،والحدوث الذاتي عند الحكماء: هو ما يحتاج وجوده إلى الغير، فالعالَم بجميع أجزائه مُحدَث بالحدوث الذاتي عندهم، كما أنّالقِدَم الذاتي : هو أن لا يكون وجود الشيء من الغير وهو الباري جلّ شأنه،والقِدَم المطلق : هو أن لا يكون وجوده مسبوقاً بالعدم.

وأمّا الحدوث الزماني: فهو ما سبقَ العدم على وجوده سبقاً زمانياً، فيجوز قِدَم بعض أجزاء العالَم بمعنى القِدَم الذي بإزاء المـُحدَث بالحدوث الزماني عندهم، ولا منافاة بينهما، ويكون جميع الحوادث بالحدوث الزماني عندهم ما لا أوّل لها، فإنّه لا يوجد لها سبق العدم على وجودها سبقاً زمانياً.

والحدوث الإضافي: هو الذي مضى من وجود الشيء أقلّ ممّا مضى من وجود شيء آخَر، واتّفقوا على أنّ الحادث القائم بذاته يسمّى حادثاً، وما لا يقوم بذاته من الحوادث يسمّى مُحدثاً لا حادثاً.

____________________

(1) الكفوي: الكليات ج2، ص254.

١٠٨

والممكن: إمّا أن يكون مُحدَث الذات والصفات بحدوثٍ زماني، وإليه ذهب أرباب المِلل من المسلمين إلاّ قليلاً، وإمّا أن يكون قديم الذات والصفات بالقِدَم الزماني، وإليه ذهب أرسطو ومتابعوه، وإمّا أن يكون قديم الذات بالقِدَم الزماني مُحدَث الصفات بالحدوث الزماني، وإليه ذهب قدماء الفلاسفة، وأمّا كونه مُحدَث الذات قديم الصفات، فممّا لم يذهب إليه أحد.

وفي الجملة: إنّ الكلّ اتّفقوا على أنّ جميع الموجودات - غير الواجب سبحانه - مُحدَث الذات من غير نكير، وتحيّر البعض في الباقي ولم يجد إليه سبيلاً.

واختلفَ في أنّ افتقار الموجودات إلى المؤثّر هل هو من حيث الحدوث، أو من حيث الإمكان والحدوث جميعاً؟ فإلى الأوّل ذهبَ المتكلّمون، والثاني مختار محقّقي المتكلّمين على خلاف في كون الحدوث شرطاً، أو شطراً في العلّيّة.

قال بعضهم: مسلك الحكماء في إثبات الصانع الإمكان، ومسلك المتكلمين فيه الحدوث، وقال بعضهم: كِلا المسلكين للمتكلّمين، والفلاسفة وافقتهم في مسلك الإمكان، وفي(تلخيص المحصّل) القائلون بكَون الإمكان علّة الحاجة هُم: الفلاسفة والمتأخّرون من المتكلّمين، والقائلون بكَون الحدوث علّيّة هُم: الأقدَمون منهم.

أمّا القديم: فهو عبارة عمّا ليس قبله زماناً شيء، وقد يُطلق على الموجود الذي لا يكون وجوده من الغير، وقد يطلق أيضاً على الموجود الذي ليس وجوده مسبوقاً بالعدم.

والأوّل: هو القديم بالذات (وهو الله سبحانه)، ويقابله الحادث بالذات.

والثاني: هو القديم بالزمان، ويقابله المـُحدَث بالزمان.

وإكفار القائلين بتعدّد القديم بالإجماع، إنّما هو في القِدَم الذاتي بمعنى عدم المسبوقية بالغير لا في القِدَم الزماني ؛ فإنّ قِدَم الصفات زماني.

١٠٩

والكلام في القديم والمـُحدَث من أصعب الأمور عند جلّة الفلاسفة وقُدَمائها، وقد بيّن جابر بن حيّان وجه الصعوبة في ذلك بقوله:

(اعلَم أنّ الكلام في القديم والمـُحدَث - عافاك الله - من أصعب الأمور عند جلّة الفلاسفة وقُدَمائها، ولو قلتُ: إنّ أكثرهم ماتَ بحسرته، لكنتُ صادقاً. فأرباب هذا العلم هم أشدّ الناس تعظيماً لعلمهم هذا، وصيانةً له، وحفظاً من غير مستحقّه، وإن يكن تحصيله سهلاً عليهم، يسيراً لديهم ؛ لأنّهم يدركون الحقيقة بالشهود المباشر، ويفيضون بها فيضاً، فلا يحتاجون في ذلك إلى إعمال فكر في إقامة الدليل على ما قد أدركوا، ولا إلى استعمال لفظٍ في التعبير عمّا قد أدركوا. غير أنّهم وإن كانوا كذلك في شهودهم للحقّ وإدراكهم له، فإنّ علمهم لا ينتقل إلى سواهم إلاّ إذا كان هؤلاء في منزلةٍ قريبةٍ من منزلتهم، فليس الناس في إدراك الحق سواء، بل منهم مَن يحتاج إلى واسطة، ومنهم مَن يتّصل بالحقّ صلةً مباشرة لا واسطة بينه وبينه.

وإذا أدركنا القديم استطعنا أن ندرك خصائص المـُحدَث بالاستدلال ؛ لأنّ القديم والمـُحدَث ضدّان، والعلم بأحد الضدّين علمٌ بالضدّ الآخَر. فطريق الفكر هو من القديم إلى المـُحدَث، ندرك الأوّل إدراكاً مباشراً، ثمّ نستدلّ الثاني معه. وليس العكس، كما ظنّ جهلة المتكلّمين في هذا الباب، إذ استدلّوا على الغائب (القديم) بالشاهد (المـُحدَث)، على بُعدٍ ما بينهما، فكأنّهم استشهدوا بالجزء على وجود الكل، برغم ما في هذا المنطق من فساد.

إنّ أخصّ صفةً (للقديم) هو الوجود الذي يستغني به عن الفاعل، أي أنّه وجودٌ بغير موجِد ؛ وذلك لأنّه موجودٌ أزليٌ. ولو كان موجودٌ بفعل فاعلٍ، لكان هذا الفاعل أسبق منه وجوداً، وأيّ كائنٍ يتقدّمه غيره في الوجود يكون مُحدَثاً وغير أزلي، لكنّه إذا كان الوجودُ صفةٌ من صفات القديم، فهو كذلك صفة من صفات المـُحدَثات، بل إنّ وجود المـُحدَثات ليس عرضاً، بل هو وجود بالضرورة أيضاً ؛ وذلك لأنّ الآثار تكون شبيهةٌ بمؤثّرها. وإذا

١١٠

كان الأمر كذلك، وجبَ الوجود للمـُحدَث عن وجود القديم. والفَرق بين الوجودين هو: أنّ وجود القديم يستغني عن الفاعل، ويكون علّةٌ لوجود غيره. وأمّا وجود المـُحدَث، فهو يحتاج إلى فاعل يكون علّة لغيره.

ومن خواصّ القديم أيضاً: أن تكون جميع المـُحدَثات من فعله وأثره، إذ لابدّ لجميعها من انتهاءٍ إليه، ورجوع إلى كونه علّة لها: إمّا قريبةً، وإمّا بعيدة. فليس للقديم سوى هاتين الخاصّتين، وهما في الحقيقة واحدة ؛ وذلك أنّ الوجود له هذه الصفة التي بها أوجد آثاره، أي أنّ وجوده تضمّن أن يكون علّة لوجود المـُحدَثات)(1) .

وكان أهل السنّة والجماعة، يرونَ أنّ الله سبحانه وتعالى خلقَ العالَم من العدم مرّةً واحدة على ما هو عليه الآن، والله خلقَ هذا العالَم حينما أراد، ولو شاء لأخّر خلقه أو قدّمه، ولو شاء لخلَق معه عالَماً آخَر أو أكثر من عالَم، أو لخلقهُ أكبر ممّا هو عليه أو أصغر، والله قادر على أن يعدم العالَم حينما يشاء.

أمّا الفلاسفة، فيقولون: بقِدَم العالَم، أي بقِدَم المادّة الموجودة من الأزل. وحينما يتكلّمون عن صنع الله سبحانه وتعالى للعالَم، يقولون: إنّ الله هو العلّة الأُولى التي دفعت المادّة الأزليّة في الحركة، حتى تطوّرت تلك المادّة تدريجياً إلى الحال التي نرى العالَم عليها اليوم.

وقد انقسمَ الفلاسفة المسلمون حول القول بقِدَم العالَم وحدوثه، إلى فريقين:

الفريق الأوّل: يقول بأنّ العالَم مُحدَث. ومن أهمّ المدافعين عن هذا القول الغزالي.

والفريق الثاني: يقول بقِدَم العالَم. ومن أهمّ المدافعين عن هذا القول: ابن سينا، وابن رشد.

ولم ينتصر فريقٌ على فريق، على الرغم من أنّ أصحاب مقالة الحدوث هُم الأكثر عدداً.

____________________

(1) كتاب القديم.

١١١

وشنّعَ بعضهم على بعض، فسمّى الحديثون القِدَميين دهرية، وصار من الأسماء الشُّنْعة عند السامعين. يعتقد الجمهور في معناها جحد الخالق، المبدأ الأوّل، ورفعه.

وسمّى أهل القِدم أهل الحدوث مُعطِّلة ؛ لأنّهم قالوا بتعطيل الله تعالى عن وجوده مدّة لا نهاية لها في البداية(1) .

[3 - ] الخمر:

لم يختلف الناس في أمرٍ من الأمور التي وقعَ فيها الحظر والطلاق كاختلافهم في الأشربة، وكيفية ما يحلّ منها وما يحرم. وقد أجمعَ الناس على تحريم الخمر بكتاب الله، إلاّ قوماً قالوا: ليست الخمر محرّمة، وإنّما نهى الله عن شربها تأديباً، كما أنّه أمر في الكتاب بأشياء ونهى فيه عن أشياء، على جهة التأديب، وليس منها فرض.

والخمر التي أجمعوا على تحريمها: هي ما غلا وقذف بالزبد من عصير العنب من غير أن تمسّه النار، وأنّه لا يزال خمراً حتى يصير خلاًّ.

واختلفوا في الحال التي يخرج بها من منزلة الخمر إلى منزلة الخل، فقال بعضهم: هو أن يتناهى في الحموضة حتى لا يبقى فيها مستزاد. وقال آخرون: هو أن تغلب عليها الحموضة وتفارقها النشوة ؛ لأنّ الخمر ليست محرّمة العين كما حرّم عين الخنزير، وإنّما حُرّمت بعرضٍ دخلها. فإذا زايلها ذلك العرض، عادت حلالاً كما كانت قبل الغليان حلالاً. وعينها في كلّ واحدة قائمة، وإنّما انتقلت أعراضها من حلاوةٍ إلى مرارة، ومن مرارةٍ إلى حموضة، كما ينتقل طعم الثمرة إذا أينعت من حموضةٍ إلى حلاوة والعين قائمة، وكما ينتقل طعم الماء بطول المكث، فيتغيّر طعمه وريحه والعين قائمة(2) .

____________________

(1) أبو البركات البغدادي: المعتبر في الحكمة ج3، ص43.

(2) ابن الرقيق: قطب السرور في أوصاف الخمور.

١١٢

وأمّا النبيذ، فاختلفوا في معناه، فقال قوم: هو ماء الزبيب وماء التمر من قبل أن يغليا، فإذا اشتدّ ذلك وصلب فهو خمر، وقالوا: إنّما كان الأوّلون من الصحابة والتابعين يشربون ذلك.

أمّا المسكر، فإنّ فريقاً يذهبون إلى أنّ كل شيء أسْكَرَ كثيره فقليله حرام. فلم يفرّقوا بين ابن ثلاث ليالٍ من نبيذ التمر إذا غلا، وبين ابن ثلاث أحوال من عتيق المسكر وعتيق الخمر. ولا فرّقوا في ذلك بين منفرد وخليطين، ولا بين شديد وسهل، ولا بين ما استخرج بالماء وما استخرج بالنار، وقضوا عليه كلّه بأنّه حرام وبأنّه خمر(1) . وبنظرهم أنّ كل مسكر حرام، أي يقوم مقام الخمر ويكون فيه من الصدّ عن ذكر الله، وفساد العقل ما يكون في الخمر.

والفريق الثاني - وهُم المطلِقون - قالوا: إنّما حُرّمت الخمر التي أجمع الناس على صفتها وكيفيتها بعينها، وما سوى ذلك - كائناً ما كان - فهو نبيذ، ما دون السكر منه حلال. فسوّوا بين النقيع والطبيخ، والحديث والعتيق، والتمر والزبيب، والمفرد والخليطين، والسهل والشديد، وما اتُخذ من عصير العنب إذا ذهبَ منه الثلثان ؛ لأنّه جاء في الحديث أنّ (الثلثين حظّ الشيطان)، ورد عليه الماء.

واحتجّوا من النظر بأنّ الأشياء كلّها حلال إلاّ ما حرّمه الله، قالوا: فلا نزيل يقين الحلال بالاختلاف. وقالوا: وجدنا الناس ثلاثة أصناف: أصحاب الرأي، وهُم جميعاً مجمعون على تحليله. وأصحاب الحديث، وأكثرهم على التحليل. وأصحاب الكلام، وهُم أيضاً على ذلك. وكيف نزيل يقين التحليل بطائفة من الناس.

قالوا: ومثل النبيذ مثل نهر طالوت.

وقالوا: لم يحرّم الله شيئاً إلاّ وقد جعلَ منه عوضاً في مثل معناه. فلو كان النبيذ خمراً، ما كان العوض من الخمر. وإنّما خلقَ الله الأقوات والثمرات قدراً لحاجة الناس إليها.

____________________

(1) ابن قتيبة: الأشربة.

١١٣

وقالوا: والله، لا يحرّم شيئاً إلاّ لعلّة الاستعباد. ولو كان تحريم الخمر للسكر، لم يُطلقها الله تعالى للأنبياء والأُمم قَبْلَنا، فقد شربها نوحعليه‌السلام حين خرجَ من السفينة، واعترس الحبلة حتى سكر منها وبدت فخذه، وشربها لوط، وشربها عيسىعليه‌السلام ليلة رُفع، وشربها المسلمون في صدر الإسلام.

وقالوا: وأمّا قولهم: إنّ الخمر ما خمر، والمسكر مخمر، فهو خمر مثله. فإنّ الأشياء قد تتشاكل في بعض المعاني، فيسمّى بعضها بعلّةٍ فيه وهي في آخَر، ولا يطلق ذلك الاسم على الآخَر ؛ ألا ترى أنّ اللبن يخمر بروبة تُلقى فيه ويُترك حتى يروب، ولا يسمّى اللبن خمراً.

ونتيجةً لاختلاف النظر في الخمر ؛ فقد كان شرب الخمر متفشّياً. وحملت لنا الكتب أخبار مَن حدّوا في الخمر، ومنهم: عبد الرحمان بن عمر بن الخطّاب المعروف بأبي شحمة، وعاصم بن عمر بن الخطّاب. ومنهم - أيضاً -: الوليد بن عتبة، الذي استعملهُ عثمان، وعُزل سنة 29هـ عن الكوفة بسبب أنّه شربَ الخمر، وصلّى بالمسلمين الفجر أربع ركعات وهو سكران، ثمّ التفت إلى الناس، وقال: هل أزيدكم؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا معك في زيادةٍ منذ اليوم.

وفي ذلك يقول الحطيئة:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالعذر

نادى وقد فرغت صلاتهم

أأزيدكم سكراً ولا يدري

ليزيدهم خيراً ولو قبلو

فيه لقادهم على عشر

فأبوا أبا وهب ولو أذّنو

لقرنت بين الشفع والوتر

حبسوا عنانك إذ جريت ولو

حلّوا عنانك لم تَزل تجري

وقال فيه أيضاً:

تكلّم في الصلاة وزادَ فيها

علانية وجاهرَ بالنفاق

ومجّ الخمر عن سُنن المصلّي

ونادى بالجميع إلى افتراق

أزيدكم على أن تحمدوني

فما لكم ومالي من خلاقي

وفي زمن معاوية، بيعت الخمر علناً. وأوّل مَن باعها: سمرة بن

١١٤

جندب، الذي ولّي الكوفة سنة 50هـ. وقد شرب الخمر خلفاء بني أُمية ونساؤهم، ومن أشهرهنّ: أُمّ الحكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص بن أُميّة، التي كانت معاقرة الشراب، مدمنة عليه لا تكاد تفارقه، واشتهرَ كأسها الذي كانت تشرب به بكأس أُمّ حكيم، وفيه يقول الوليد بن يزيد بن عبد الملك:

عللاني بعاتقات الكروم

واسقياني بكأس أُمّ حكيم

إنّها تشرب الرساطون صرفاً

في إناء من الزجاج عظيم

وكان بعض ولاة بني أُميّة يشرب الخمر في الجامع. جاء في الأخبار: أنّ قرة بن شريك القيسي الذي ولّي مصر سنة 90هـ، من قِبَل الوليد بن عبد الملك بن مروان، وكان ظالماً جبّاراً، بنى جامع مصر، وكان إذا انصرفَ الصنّاع من البناء دعا بالخمور والزمور والطبول، فيشرب الخمر في المسجد طول الليل، ويقول: لنا الليل ولهم النهار(1) .

ومثل خلفاء بني أُميّة، شربها خلفاء بني العباس أيضاً، وكثرت في عهدهم الحانات التي تبيعها علناً، وصارت الخمريات فنّاً من فنون الشعر.

وقد وجِد من الحكّام مَن رخّص فيها ببلاده، كسيف الدين غازي بن مودود بن الأتابك زنكي ابن أقسنقر، الذي أدارَ الخمر والفواحش ببلاده(2) .

كما كان يتعاطاها علماء ومشايخ وقضاة مَن عِلْيَة القوم.

ذكرَ الحنبلي في(شذرات الذهب) في أخبار سنة 401هـ ما نصّه: (توفّي فيها أبو عبيد الهروي، أحمد بن محمد بن محمد صاحب الغريبين، غريب القرآن وغريب الحديث، قال ابن خلّكان: كان من العلماء الأكابر، وكان يُنسب إلى تعاطي الخمر)(3) .

____________________

(1) ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة ج1، ص218.

(2) شمس الدين أبو عبد الله: كتاب دول الإسلام.

(3) ج3، ص161.

١١٥

وذَكرَ أيضاً: (كان الشيخ إسماعيل بن يوسف الأنبابي يعمل مَولِد يجتمع فيه من الخلق مَن لا يحصى عددهم، بحيث إنّه وجِد في صبحة المولد سنة 790هـ مئة وخمسين جرّة من جرار الخمر فارغات، إلى ما كان في تلك الليلة من الفساد والزنا واللواط والتجاهر بذلك)(1) .

وذكرَ الثعالبي في(يتيمة الدهر) : أنّه كان جماعة من الكبراء ينادمون الوزير المهلّبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على إطراح الحشمة والتبسّط في القصف والخلاعة، منهم ثلاثة قضاة، هم: ابن قريعة، وابن معروف، والتنوخي، وما منهم إلاّ أبيض اللحية طويلها. فإذا تكاملَ الأُنس وطاب المجلس ولذّ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه، وضعَ في يد كلّ منهم كأس ذهب وزنه ألف مثقال مملوء شراباً قطربيلياً، أو عكبرياً، فيغمس لحيته فيه، بل ينقّعها حتى تشرب أكثره، ويرشّ منه بعضهم على بعض، ويرقصون أجمعهم وعليهم لباس الشراب من المصبغات. فإذا أصبحوا عادوا إلى عادتهم من التزمّت والتوقّر والتحفّظ بأبّهة القضاة وحشمة المشايخ الكبراء.

وقد جرت محاولات كثيرة من بعض الخلفاء وولاتهم لمنع الخمور وإبطالها، دون أن تسفر هذه المحاولات عن أيّة نتيجة: فعلي بن سليمان، الذي ولاّه الخليفة الهادي على مصر سنة 170هـ، منعَ في أيّامه الملاهي والخمور(2) .

وفي أيّام المقتدر بالله سنة 311هـ، عندما ولّى الوزارة علي بن عيسى، سارَ بعفّةٍ وعدلٍ وتقوى، وأبطلَ الخمور(3) .

وفي زمن القاهر بالله سنة 321هـ، نوديَ في بغداد بإبطال القينات

____________________

(1) المرجع السابق ج6، ص311.

(2) ابن تغري بردي - النجوم الزاهرة ج2.

(3) السيوطي، تاريخ الخلفاء.

١١٦

والخمر والمخانيث وكسر آلات الطرب(1) .

وفي أيّام المقتدي بالله سنة 478هـ، أُريقت الخمور وكُسرت الملاهي ونُقضت دور النساء، وفي سنة 479هـ تقدّم الخليفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونوديَ بذلك في الأسواق، وأُريقت الخمور وكُسرت الملاهي ونُقضت دور يلجأ إليها المفسدون.

وفي أيّامه أيضاً - سنة 486هـ، أُريقت الأنبذة والخمور وكُسرت آلات الملاهي.

وفي خلافة المسترشد سنة 514هـ، تقدّم الخليفة بإراقة الخمور التي بسوق السلطان ونقض بيوتهم(2) .

وفي زمن ابن تيمية، كان شرب الخمر متفشّياً ويجري علناً، وقد صدرت مراسيم عديدة بإبطال الخمور دون جدوى.

ففي سنة 663هـ، لمـّا رجعَ الظاهر بيبرس، أخذ يستعد لحروبٍ جديدة وينظّم داخليته، فأبطلَ ضمان المزر وجهاته، وأمرَ بإراقة الخمور وأبطلَ المنكرات(3) .

وفي سنة 665هـ أبطلَ أيضاً ضمان الحشيشة وأمرَ بإحراقها وخرّب بيوت المسكرات، وكسرَ ما فيها من الخمور وأراقها، ومنعَ الحانات من الخواطي، واستتاب العلوق واللواطي، وعمّ هذا الأمر سائر الجهات المصرية، وبرزت المراسيم بمنع ذلك من سائر الجهات الشاميّة، فطهرت في أيّامه سائر البقاع، ومنعَ الناس من ذلك غاية الامتناع، ثمّ أحضروا إليه في أثناء هذه الوقعة شخصاً يسمّى ابن الكازروني وهو سكران، فأمرَ بصلبه، فصُلب بعدَ حدّ عظيم في مستحقّه وعلّقت الجرّة والقدح في عنقه. فلمّا عاينَ أرباب المجون والخلاعة ما جرى لابن الكازروني، امتثلوا أمر السلطان بالسمع والطاعة. وقد قال قائل:

____________________

(1) شمس الدين أبو عبد الله: كتاب دول الإسلام.

(2) ابن الجوزي: المنتظم ج9.

(3) سيد علي الحريري: كتاب الأخبار السنّية في الحروب الصليبية.

١١٧

لقد كان حدّ السكر من قبل صلبه

خفيف الأذى إذ كان في شرعنا جلدا

فلمّا بدا المصلوبُ قلتُ لصاحبي

ألا تب فإنّ الحدّ قد جاوز الحدّا (1)

كما أُريقت في زمنه أيضاً الخمور كلّها من دمشق، أقامَ ذلك شيخ السلطان الشيخ خضر العدوي سنة 668هـ.

وفي زمن الناصر بن قلاوون سنة 717هـ، أُبطلت الفاحشة والقمار والخمور بالسواحل، وقويت بذلك المراسيم(2) .

وقد ذّكر المقدسي في(أحسن التقاسيم) عند حديثه عن مصر: (لا يتورّع مشايخهم عن شرب الخمور، ولا نساؤهم عن الفجور: للمرأة زوجان، وترى الشيخ سكران، وفي المذهب حزبان...).

[4 - ] الغلو:

لكلمة غلو معانٍ كثيرة، منها: مجاوزة الحدّ والإفراط فيه.

أمّا بالاصطلاح السياسي، فكان لهذه اللفظة - في كل عصر ومصر - معنىً مختلفاً. وقد ذكرَ ابن حجر العسقلاني في (لسان الميزان) ما نصّه: (الشيعي الغالي في زمان السلف وعُرفهم هو: مَن تكلّم في عثمان والزبير وطلحة وطائفة ممّن حارب علياً (رضي الله عنه) وتعرّض لسبّهم، والغالي في زماننا وعُرفنا هو: الذي كفّر هؤلاء السادة وتبرّأ من الشيخين أيضاً).

____________________

(1) ابن إياس: بدائع الزهور ج1.

(2) شمس الدين أبو عبد الله: كتاب دول الإسلام ج2.

١١٨

النصيرية عند المؤرّخين المحدَثين

[أ - نوفل نوفل:]

كان كتاب(الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية) لسليمان الأذني أو الأضني، المطبوع سنة 1862م، المعطف الذي خرجَ منه، جميع الذين كتبوا عن النصيرية في العصر الحديث، وخاصّةً نوفل نوفل في(سوسنة سليمان في أصول العقائد والأديان) ، ومحمد بهجت ورفيق التميمي في(ولاية بيروت) ،... وغيرهما.

ونحن نشكّ في وجود شخصٍ باسم سليمان الأذني، ويترجّح لدينا أنّه مختلَق اختلَقه المرسلون الأجانب في بيروت، ووضعوا على لسانه أقوالاً نَسبوها إلى النصيرية. وهناك جملة من الأدلّة تحملنا على الظنّ بعدم وجوده، وبأنّه لم يوجد إلاّ في مخيّلة مختلقيه منها:

أوّلاً: أسطورة حياته. إذ قالوا: إنّه مولودٌ سنة 1832م، وكان نصيرياً ثمّ انسلخَ عنها إلى اليهودية، ثمّ أسلَم ولم يلبث أن انتسبَ إلى البروتستانتية، وألّف كتابه في بيروت وطبعه على عهدته، وقد حنقَ عليه أبناء النصيرية ؛ لأنّه أوّل مَن فضحَ دينهم وأظهره، ففتكوا به في قصبة طرسوس.

لأنّ هذا الكلام، يتناقض مع ما سلف بيانه، من أنّ (لهم خطابٌ بينهم، مَن خاطبوه به لا يعود يرجع عنه ولا يذيعه، ولو ضربت عنقه، وجرّب هذا كثيراً).

١١٩

ثمّ إذا كان هو أول مَن فضح (دين) النصيرية وأظهرهُ، كان معنى ذلك أنّ كلّ ما كُتب عن النصيرية زور وبهتان.

ثانياً: في كتاب (المجموع) - الذي نشره الأذني في (الباكورة) - أكثر من دليل على أنّ هذا الكتاب مختلق، وأنّه مكتوب بعد عام 1828م:

منها : (روى الخبر عن أبي (كذا بالأصل)، شعيب محمد بن نصير العبدي البكري النميري، أنّه قال: مَن أراد النجاة من حرّ النيران فليقول: اللهم العن فئة أسّست الظلم والطغيان: الذين هم التسعة رهط، المفسدين الذين أفسدوا وما أصلحوا بالدين، الذين هم إلى جهنّم سائرين وإليها ضالين، أولهم: أبو بكر اللعين، وعمر بن الخطّاب الضدّ الأثيم، وعثمان بن عفّان الشيطان الرجيم، وطلحة، وسعد، وسعيد، وخالد بن الوليد صاحب العمود الحديد، ومعاوية، وابنه يزيد، والحجاج بن يوسف الثقفي النكيد، وعبد الملك بن مروان البليد، وهارون الرشيد. خَلِّد عليهم اللعنة تخليداً ليوم الوعيد، يوم يقال لجهنّم: هل امتلأت فتقول هل من مزيد.

ثمّ إنّك يا علي بن أبي طالب، تفعل ما تشاء وتحكم بما تريد، وأسألك أن تنزل سخطك وعذابك على إسحاق الأحمر المخذول، وإسماعيل بن خلاّد الجهول، والعن الشيخ أحمد البدوي، والشيخ أحمد الرفاعي، والشيخ إبراهيم الدسوقي، والشيخ محمد المغربي..).

هذا الكلام يفضح نفسه بنفسه.

فمحمد بن نصير توفِّي سنة 259هـ = 873م، والشيخ أحمد الرفاعي توفِّي سنة 1182م، والشيخ أحمد البدوي توفِّي سنة 1276م، والشيخ إبراهيم الدسوقي توفِّي سنة 1277م، والشيخ محمد المغربي توفِّي في اللاذقية سنة 1828م.. فكيف يقول محمد بن نصير بلعن هؤلاء وقد جاءوا بعده بمئات السنين؟!

ثمّ إنّ وجود اسم الشيخ محمد المغربي المتوفّى سنة 1828م، يؤكّد لنا أنّ كتاب (المجموع) مكتوب بعد عام 1828م، أي زمن حياة الشخص الوهمي، سليمان الأذني.

١٢٠