، واستحلّوا منه، ففعل، وازدادَ بذلك نُبلاً عند أهل القرية، لمـّا وقفوا من زهده. ثمّ مَرض فمكثَ على الطريق مطروحاً، وكان في القرية رجل يُدعى (كرميته) ؛ لحمرة عينيه، وهو بالنبطية أحمر العينين، يحمل على أثوار له، فكلّم البقّال في حمل المريض إلى بيته، فحَمله وأقام حتى بريء.
ودعا أهل القرية إلى اعتناق مذهبه فأجابوه، وكان يأخذ من كلِ رجلٍ ديناراً، ويزعم أنّه للإمام، واتّخذ منهم اثني عشر نقيباً، وأمَرَهم أن يدعوا الناس إلى نِحلته، وقال لهم: أنتم كحواريي عيسى.
فاشتغلَ أهل كور عن أعمالهم بما رسمَ لهم من الصلوات، وكان للهيصم ضياع، فرأى تقصير أهل القرية في عمارتها، فسألَ عن ذلك، فأُخبر بخبر القرمطي، فأخذهُ وحبسه، وحلفَ أن يقتله ؛ لِمَا اطّلع على مذهبه، وأغلق باب البيت عليه، وجعلَ مفتاح البيت تحت وسادته، واشتغلَ بالشرب.
فسمعَ بعض مَن في الدار من الجواري بقصّته، فرقّت للرجل، فأخذت المفتاح - حين نام سيّدها - وفتحت الباب وأخرجته، ووضَعت المفتاح مكانه، فلمّا أصبح الهيصم فتحَ الباب ليقتله فلم يجده، وشاعَ ذلك في الناس، فافتتنَ به خلقٌ كثير من تلك القرية، وقالوا: رُفع.
ثمّ ظهرَ في ناحية أُخرى، واجتمعَ بأصحابه وغيرهم، وسألوه عن أمره، فأخبرَ أنّه لا يمكن أحداً أن يصل إليه بسوء، فعظمَ من ذاك الوقت في أعينهم، ثمّ خافَ على نفسه، فخرجَ إلى ناحية الشام، فلم يوقَف له على أثَر.
وسمّى نفسه باسم الرجل الذي كان في داره (كرميته، صاحب الأثوار)، ثمّ خُفّف فقيل: قرمط. هكذا ذَكر أصحاب زكرويه عنه.
وقيل: إنّ قرمط لقب رجل بسواد الكوفة، كان يحمل غلّته على أثوارٍ له، واسمه حمدان.
ثمّ فشا مذهب القرامطة بسواد الكوفة، ووقفَ الطائي أحمد بن محمد على أمرهم، فجعلَ على الرجلِ منهم ديناراً في العام، فقَدِم قومٌ من الكوفة، فرفعوا أمرَ القرامطة والطائي إلى السلطان، وأخبروه أنّهم أحدثوا ما ليس في دين الإسلام، وأنّهم يرون السيف على أُمّة محمد (صلّى الله عليه وسلّم) إلاّ مَن بايعهم، فلم يلتفت إليهم، ولم يسمع منهم.