العلويون بين الاسطورة والحقيقة

العلويون بين الاسطورة والحقيقة15%

العلويون بين الاسطورة والحقيقة مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 368

  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 104582 / تحميل: 13432
الحجم الحجم الحجم
العلويون بين الاسطورة والحقيقة

العلويون بين الاسطورة والحقيقة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفِرقُ الإسلامية والاختلاف حولها

(افترَقَت أُمّة موسى على إحدى وسبعين فرقة، فرقةٌ ناجية والباقون في النار، وافترَقت أُمّة عيسى على اثنين وسبعين فرقة، فرقة ناجية، والباقون في النار، وستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة واحدة ناجية، والباقون في النار، قيل: مَن الناجية يا رسول الله؟ قال: ما أنا وأصحابي عليه اليوم).

هذا الحديث، كان نقطةُ البدء في تقسيم أُمّة الإسلام إلى فرقٍ كثيرة جداً، إذ استغلّه أصحاب الأهواء والنزعات، لِبَثّ الفرقة بين أبناء الأُمّة الواحدة، وكان هدف هؤلاء - على ما يبدو - تفريغ الدين الإسلامي القويم من خاصيّته، وإظهاره بصورة آراء متنافرة متضاربة، لا اتّفاق بينها، ولا انسجام.

ومن الملاحظ، أنّ الكتابة عن الفِرق الإسلامية في آثار الأقدَمين التي وصلت إلينا، جاءت على شكلين:

الأوّل:

عرَضيّاً في سياق الحديث عن موضوعٍ من المواضيع، فدراسة الفِرق في هذه الحالة لم تكن مقصودة لذاتها، وهذا ما نلمسه عند:

٢١

الجاحظ في(الحيوان) ، ابن قتيبة في(المعارف) ، الرازي في(الزينة) ، البلخي في(البدء والتاريخ) ، المسعودي في(مروج الذهب) ، ابن عبد ربّه في(العقد الفريد) ، المقدسي في(أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) ، ابن الجوزي في(تلبيس إبليس) ، المقريزي في(الخطط المقريزية)، وغيرهم... وغيرهم...

الثاني:

دراسة الفِرَق مقصودة بذاتها، مستقلّة عن أيّ موضوع آخَر، وهذا ما نَجده في:

(فِرَق الشيعة) للنوبختي، و(التنبيه والرد على أهل الأهواء والبِدع) للملطي، و(الفَرق بين الفِرَق) للبغدادي، و(الفصل في المِلل والأهواء والنِحل) لابن حزم الأندلسي، و(مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين) للأشعري، و(التبصير في الدين وتمييز الفِرَق الناجية عن الفِرَق الهالكين) للأسفرايني، و(المِلل والنِحل) للشهرستاني، و(اعتقادات فِرَق المسلمين والمشركين) لفخر الدين الرازي و... و... وغيرهم وغيرهم...

وكل مَن يمعن النظر في كتابات أصحاب الفِرق يجد أنّهم قد اختلفوا فيما بينهم في:١ - عدد الفِرق ٢ - وفي أسمائها ٣ - وفي نسبتها ٤ - وفي مقالاتها.

أوّلاً - عددُ الفِرَق:

لم يتّفق كُتّاب الفِرَق على عدد هذه الفِرَق، فابن قتيبة في(المعارف) لم يذكر غير إحدى عشرة فرقة، على حين أنّ بعض كتّاب الفِرق تجاوزوا في العدد رقم (٧٣)، والبعض منهم عدّ أكثر من ثلاثمئة فرقة، ومنهم مَن جعلَ فِرق الشيعة وحدها أكثر من ثلاثمئة فرقة.

حتى أنّ بعضهم - المقريزي - جعلَ عدد فِرق الرافضة ثلاثمئة فرقة.

٢٢

وقد برّرَ فخر الدين الرازي الزيادة في عدد الفِرق بقوله: (فإن قيل: إنّ هذه الطوائف التي عددهم أكثر من ثلاث وسبعين، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يُخبِر بأكثر، فكيف ينبغي أن يعتقد في ذلك؟

والجواب عن هذا: أنّه يجوز أن يكون مرادهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذكر الفِرق، الفِرَق الكبار، وما عَدَدْنا من الفِرق ليست من الفِرق العظيمة، وأيضاً فإنّه أخبرَ أنّهم يكونون على ثلاث وسبعين فرقة لم يجز أن يكونوا أقل، وأمّا إذا كانت أكثر فلا يضرّ ذلك، وكيف لم نذكر في هذا المختصر كثيراً من الفِرق المشهورة، ولو ذكرناها كلّها مستقصاة لجازَ أن يكون أضعاف ما ذكرنا، بل ربّما وجِد في فرقة من فِرق الروافض - وهم الإمامية - ثلاث وسبعون فرقة).

ثانياً - أسماءُ الفِرَق:

ومن جهة أُخرى ؛ فإنّ كل واحد من الذين تصدّوا للكتابة عن الفِرق الإسلامية، ذَكر فِرَقاً لم يذكرها غيره.

فالنوبختي في(فِرَق الشيعة) ذكرَ: الماصرية، والحسينية، والنفيسية.. ولم يذكرها غيره.

والرازي في(الزينة) ذكر: الشمرية، والطاحنية، والنهدية، ولم نَجد لها ذكراً عند غيره.

والبلخي في(البدء والتاريخ) ذكرَ: الكرنبية، واليعفورية، والقحطبية، والطيارة، والخشعبية، ولم يذكرها غيره.

والملطي في(التنبيه والرد) ذكر: الجمهورية، والسرية، والضررية، والتغلبية، والنجرانية، والعطوية، والجعدية، ولم نجدها عند غيره.

والمقدسي المعروف بالبشاري في(أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) ذكر: المنذرية، والراهوية، والعطائية، والأبيضية، والسرخسية، والكلابية، والشفعوية، والداودية، ولم يذكرها سواه.

٢٣

وابن الجوزي في(تلبيس إبليس) ذكر: الكنزية، والأحمرية، والوهمية، والناكثية، والقاسطية، والملتزقة، والواردية، والمخلوقية، والفانية، والقبرية، واللفظية، والتاركية، والراجية، والمنقوصية، والمستثنية، والآمرية، واللاعنة، والمتربّصة، والمضطربة، والأفعالية، والمفروغية، والحبية، والخوفية، والفكرية، والمعية، والمتأنية، ولم يذكرها غيره.

وفخر الدين الرازي في(اعتقادات فِرَق المسلمين والمشركين) ذكرَ: الأخشيدية، والناموسية، والعمادية، والعسكرية، والبنانية، والخالدية، واليونانية، والسورمية، والحوارية، والسبعية، والأزلية، والحماقية، ولم يذكرها غيره.

والمقريزي في(الخطط) ذكر: المزدارية، والجولقية، والبطيخية، والصباحية، والمجدرية، والزيادية، والبسلمية، والأهومية، ولم نجد لها ذكراً عند غيره.

والجيلاني في(توفيق التطبيق) ذكر: المرتاضون، والمشاؤون، ولم يذكرها سواه. إلخ... إلخ...

ثالثاً - نسبةُ الفِرَق:

ثمّة فِرَق عديدة اختلفَ أصحاب الفِرق في نسبتها، منها على سبيل المثال:

البيانية:

نَسَبَها كلٌ من النوبختي والرازي إلى بيان النهدي.

أمّا الملطي، فقال: سُموا بيانية ببيانٍ قالوا...

بينما نَسبها البغدادي، ومثله الإسفرايني والشهرستاني إلى بيان بن سمعان التميمي.

٢٤

الحارثية:

قال الرازي، ومثله النوبختي: إنّها تنتسب إلى عبد الله بن الحارث.

البغدادي، ومثله الإسفرايني ذكر: أنّهم أتباع حارث بن مزيد الأباضي.

العجلية:

النوبختي والرازي ينسبونها إلى هارون بن سعيد العجلي.

والشهرستاني ينسبها إلى عمير بن بيان العجلي.

أمّا البغدادي، فيُطلق على أتباع عمير بن بيان العجلي اسم (العجرية).

البشرية:

قال النوبختي: إنّهم أصحاب محمد بن بشير.

وأمّا البغدادي، ومثله الشهرستاني، وفخر الدين الرازي، فقالوا: إنّهم أتباع بِشر بن المعتمر.

الأزارقة:

قال كلٌ من الرازي، والإسفرايني، والبغدادي، والشهرستاني: إنّهم أصحاب نافع الأزرق.

أمّا الملطي، فقال: إنّهم أصحاب عبد الله بن الأزرق.

بينما قال فخر الدين الرازي: أتباع أبي نافع راشد الأزرق.

رابعاً - مقالاتُ الفِرق:

الأهمّ من الاختلاف في عدد الفِرق، وفي نسبتها: الاختلاف في مقالات تلك الفِرق، وهذا الاختلاف جاء على أحد شكلين:

٢٥

جزئي: يتمثّل في إضافاتٍ قليلة على قول الفرقة الواحدة، ذكرها كاتب دون أن يذكرها الآخر.

كلّي: بحيث يتضاد قول الواحد من أصحاب الفِرق، مع ما ذكره غيره عن نفس الفرقة.

والفِرق التي اختلفوا في مقالاتها كثيرةً جداً جداً، منها على سبيل المثال:

الخطّابية : يذكر النوبختي في(فِرَق الشيعة) : وأمّا أصحاب أبي الخطّاب محمد بن أبي زينب الأجدع الأسدي، ومَن قال بقولها، فإنّهم افترقوا لمـّا بلغهم أنّ أبا عبد الله جعفر بن محمدعليه‌السلام لعنَه، وبريء منه ومن أصحابه، فصاروا أربعَ فِرق، وكان أبو الخطاب يدّعي أنّ أبا عبد الله جعفر بن محمّدعليه‌السلام جعله قيّمه ووصيّه من بعده، وعلّمه اسم الله الأعظم، ثمّ ترقّى إلى أن ادّعى النبوّة، ثمّ ادّعى أنّه من الملائكة، وأنّه رسول الله إلى أهل الأرض والحجّة عليهم.

أمّا الرازي في(الزينة) فيقول: الخطّابية نُسبوا إلى أبي الخطّاب، واسمه محمد بن زينب الأسدي الأجدع، وكان يقول بإمامة إسماعيل بن جعفر في حياة أبيه جعفر، فلمّا مات إسماعيل رجعوا إلى القول بإمامة جعفر، وغَلَوا في القول غُلواً شديداً، وخرجَ أبو الخطّاب في حياة جعفر بالكوفة في المسجد، في زمن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن العباس، وأظهرَ الدعوة إلى جعفر، فتبرّأ منه جعفر ولعنهُ ودعا عليه، وقُتل هو وأصحابه كلّهم.

وكان أبو الخطّاب يقول بإلوهية جعفر، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً، وثبتَ قومٌ من أهل مقالته بعده على القول بذلك، وقالوا في الأئمة كلّهم بالغلو الشديد، وخرَجت فِرقة منهم إلى القول بإمامة محمد بن إسماعيل بعد أبيه إسماعيل، وزعموا أنّ أبا الخطّاب أمرَهم بذلك، ودلّهم عليه.

الملطي في(التنبيه والرد) يقول: وهُم يزعمون أنّ أبا بكر وعمر

٢٦

(رضي الله عنهما) الجبت والطاغوت، وكذلك الخمر والميسر عليهم لعنة الله، وقد فسّروا في كتاب الله أشياءً كثيرةً ما يشبه هذا.

وعن الخطّابية يقول الشهرستاني في(المِلل والنحل): أصحاب أبي الخطّاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع، مولى بني سعد.

زعمَ أبو الخطّاب أنّ الأئمة أنبياء، ثمّ آلهة، وقال بإلهية جعفر بن محمد، وإلهية آبائه رضي الله عنهم، وهم أبناء الله وأحبّاؤه.

والإلهية نورٌ في النبوّة، والنبوّة نورٌ في الإمامة، ولا يخلو العالَم من هذه الآثار والأنوار، وزعمَ أنّ جعفراً هو الإله في زمانه، وليس هو المحسوس الذي يرونه، ولكن لمـّا نزلَ إلى هذا العالَم لَبس تلك الصورة فرآه الناس فيها.

وعن هذه الفرقة، يقول فخر الدين الرازي في(اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين): وهُم يزعمون أنّ الله تعالى حلّ في علي، ثمّ في الحسن، ثمّ في الحسين، ثمّ في زين العابدين، ثمّ في الباقر، ثمّ في الصادق، وتوجّه هؤلاء إلى مكّة زمن جعفر الصادق وكانوا يعبدونه، فلمّا سمعَ الصادق بذلك، فأبلغَ ذلك أبا الخطّاب، وهو رئيسهم، فزعمَ: أنّ الله تعالى قد انفصلَ عن جعفر، وحلّ فيه، وأنّه هو أكمل من الله تعالى، ثمّ إنّه قُتل.

الخلفية: وهي إحدى فِرق (العجاردة):

يقول عنها البغدادي في(الفَرق بين الفِرق) : لا يرون القتال إلاّ مع إمامٍ منهم، وقد كفّوا أيديهم عن القتال ؛ لفَقدهم مَن يصلح للإمامة منهم.

وصارت الخلفية إلى قول الأزارقة في شيءٍ واحد، وهو: دعواهم أنّ أطفال مخالفيهم في النار.

ومثل هذا القول، نقلَ الأسفرايني في(التبصير في الدين) : أمّا الشهرستاني، فقال في(المِلل والنحل): خالَفوا الخمرية في القولِ بالقدر، وأضافوا القَدر خَيره وشَرّه إلى الله تعالى، وسلكوا في ذلك مسلك أهل السنّة، وقالوا: الخمرية ناقضوا، حيث قالوا: لو عذّب الله العباد على أفعالٍ قدّرها عليهم، أو على ما لم يفعلوه، كان ظالماً، وقضَوا بأنّ أطفال

٢٧

المشركين في النار، ولا عملَ لهم ولا تَرك، وهذا من أعجب ما يعتقد من التناقض. ابن الجوزي في(تلبيس إبليس) يقول عن الخلفية: زعموا أنّ مَن تركَ الجهاد من ذكر وأنثى، فقد كَفر.

وعنها يقول فخر الدين الرازي في(اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين) : وهُم لا يرون أنّ الخير والشر من الله تعالى.

* * *

إنّ اختلاف كتّاب الفِرق، في عدد الفِرق، وفي أسمائها، وفي نسبتها، وفي مقالاتها، ذلك الاختلاف البيّن يجعلنا نشكّ في وجود هذه الفِرق أصلاً، خاصّةً وأنّه قد ثبتَ بالتدقيق أنّ ثمّة فِرقاً كثيرة مُبتَدعة لا وجود لها في دنيا الواقع: كالكيسانية، والكرنبية، والحارثية، والمعمرية، والمزيغية، والراوندية، والأبي مُسلمية، والأبي هريرية(١) ... كما ثبتَ أيضاً: أنّ ثمّة شخصيات زعموا أنّ لها تأثيراً كبيراً في الفِرق ومقالاتها، كانت مختلقة، لا مكان لها بين البشر، كعبد الله بن سبأ مثلاً.

وما يهمّنا في هذا المقام: هو المبحث عمّا إذا كان هنالك فرقة تسمّى بالنصيرية، أمْ أنّ هذا الاسم هو واحدٌ من أسماء عديدة، أُطلقت على فرقةٍ واحدة، خاصّةً وأنّ كتُب الفِرق حَملت إلينا أكثر من اسم لبعض الفِرق، مثالُ ذلك: يذكر أبو حاتم الرازي في(الزينة) : إنّ للمارقة خمسة ألقاب، يقال لهم: المارقة، والشراة، والخوارج، والحرورية، والمحكمة.

وفي حديثه عن السبأية يذكر: (ولهم في كلِ بلدٍ (لقب) يُلقّبون به، وهُم يسمّون ببلاد أصبهان الخرمية والكوذلية، وبالري وغيرها من أرض الجبال المزادكة والسنباذية وبالماهين المحمرة، وبأذربيجان الدقولية).

كما يذكر الغزالي في(المستظهري) ، وابن الجوزي في(المنتظم)

____________________

(١) عبد الواحد الأنصاري: مذاهب ابتدعتها السياسة في الإسلام.

٢٨

وآخَرون غيرهما: أنّ ألقاب الإسماعيلية التي تداولتها الألسنة على اختلاف الأمصار والأزمنة، هي: الإسماعيلية، والباطنية، والقرامطة، والخرمية، والبابكية، والمحمرة، والسبعية، والتعليمية...

٢٩

أصلُ التسمية

ليس من السهل معرفة أصل تسمية (نصيرية)، ولا من أين جاء ذلك ؛ لأنّ الأقوال فيها متناقضة، وهي إلى جانب تناقضها لا تستند إلى دليلٍ مُقنع، ولا تخرج عن نطاق التخمين والتكهّنات.

الأكثرون يُرجعونها إلى محمد بن نصير، أحد دُعاة، أو أشياع، أو أصحاب، أو بوّاب الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ، لكنّ أصحاب هذا الرأي يختلفون فيها بينهم اختلافاً كبيراً حول اسم محمد بن نصير وكُنيته.

وها هي أسماء الرجل وكُناه، كما وردتنا على ألسِنتهم:

محمد بن نصير.

محمد بن نصير النميري.

أبو شعيب محمد بن نصير البصري النميري.

محمد بن نصير الكوفي.

أبو شعيب بن نصير البصري النميري.

ابن نصير.

محمد بن شعيب البصري.

محمد بن نصير الفهري أو النميري.

أبو شعيب محمد بن نصير العبدي البكري النميري.

٣٠

وهناك مَن يشكّك في نسبة هذه التسمية إلى محمد بن نصير، دون أن يبيّن سبب تشكّكه مصرّحاً بأنّه لا يوجد ما يثبت هذا القول(١) .

ونحن مع هذا الرأي ؛ لجملة من الأسباب هي:

أوّلاً : كُتّاب الفِرق الأقدمون لم ينسبوا هذه الفرقة إلى محمد بن نصير، كما أنّهم لم ينسبوها إلى شخصٍ معيّن بالذات.

ثانياً : محمد بن نصير - كما تذكر كتب التراجم - توفي سنة ٢٥٩هـ/ ٨٧٣م، بينما اصطلاح النصيرية وردَ ذكره أوّل مرّة - في أوائل المئة الرابعة للهجرة - على لسان حمزة بن علي، أحد مؤسّسي المذهب الدرزي، في(الرسالة الدامغة في الرد على الفاسق النصيري)، وعلى لسان أبي العلاء المعري في(رسالة الغفران) ، و(اللزوميات) .

ثالثاً: أتباع محمد بن نصير يسمّون بالنميرية، على ما يذكر النوبختي المتوفّى سنة ٢٨٨هـ، إذ يقول:

(وقد شذّت فِرقة من القائلين بإمامة علي بن محمد في حياته، فقالت: بنبوّة رجلٍ يقال له محمد بن نصير، وكان يدَّعي أنّه نبيٌ بعثه أبو الحسن العسكريعليه‌السلام ، وكان يقول بالتناسخ والغلو في أبي الحسن، ويقول فيه بالربوبية، ويقول بالإباحة للمحارم، ويحلّل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم، ويزعم أنّ ذلك من التواضع والتذلّل، وأنّه إحدى الشهوات والطيّبات، وأنّ الله عزّ وجل لم يحرّم شيئاً من ذلك، وكان يقوّي أسباب هذا النميري محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، فلمّا توفي قيل له في علّته - وكان اعتقلَ لسانه -: لِمَن هذا الأمر من بعدك؟ فقال: لأحمد، فلم يدروا مَن هو؟ فافترقوا ثلاث فِرق:

(فرقة) قالت: إنّه أحمد ابنه، و(فرقة) قالت: هو أحمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، و(فرقة) قالت: أحمد بن أبي الحسين محمد بن محمد بن بشر بن زيد، فتفرّقوا فلا يرجعون إلى شيء،

____________________

(١) عارف تامر: الإمامة في الإسلام.

٣١

وادّعى هؤلاء النبوّة عن أبي محمد، فسمّيت النميرية)(١) .

رابعاً: إذا أمعَنا النظر في ما كَتبه الشهرستاني عن النصيرية، نَجد أنّه استعملَ صيغة الجمع، (لهم جماعة ينصرون مذهبهم، ويذبّون عن أصحاب مقالاتهم)، بحيث يُفهم من ذلك أنّ أصحاب مقالة النصيرية أكثر من شخصٍ واحد.

ثمّة آراء أُخرى قليلة ترى أنّ تسمية نصيرية، نسبةً إلى نصير غلام الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويبدو لنا خطل هذه الآراء، إذا عَلمنا أنّ أيّاً من كُتب التاريخ أو سواها، لم تذكر أنّ للإمام علي غلاماً يسمّى نصيراً.

ومن بين الآراء المطروحة رأيٌ مفرد، يعزو هذه التسمية إلى تغلب اسم الجبل على هذه الفئة(٢) ، والمقصود بالجبل:جبل النصيرية .

ويبدو أنّ هذا الاسم قد حرِّف إلى نصيرية.

والذي يُعزّز القناعة بصحة هذا الرأي هو: أنّ إطلاق اسم نصيرية على هذا الجبل، لم يظهر إلاّ أثناء الحَملات الصليبية، أي بعد عام ٤٨٨هـ (١٠٩٦م)، أي ما قبل هذا التاريخ، فكان الاسم الشائع لهذا الجبل هو جبل اللكام.

يقول الاصطخري: (وكورة الشام هي من حدّ فلسطين، وحدّ الشام، وثغور الجزيرة جبل اللكام، وهو الفاصل بين الثغرين، وجبل اللكام داخل في بلد الروم، وينتهي إلى نحو مئتي فرسخ، ويظهر في بلاد الإسلام من مرعش والهارونية وعين زربة، فيسمّى لكام إلى أن يجاوز اللاذقية)(٣) .

فإذا كانت الحروب الصليبية بدأت سنة ٤٨٨هـ وانتهت سنة ٦٩٠هـ، وإذا كان الشهرستاني ولِد سنة ٤٦٩هـ وتوفّي سنة ٥٤٨هـ، كان معنى ذلك: أنّ اسم نصيرية قد تغلّب على اسم الجبل في زمن

____________________

(١) فِرَق الشيعة.

(٢) محمد كرد علي: خطط الشام.

(٣) كتاب الأقاليم.

٣٢

الشهرستاني.

وترجع أسباب تسميةNazarie على ما نرى، إلى وجود الطائفة الإسماعيلية النزارية في أماكن معيّنة من هذا الجبل - مصياف - قدموس - سلمية -، والدّور الهامّ الذي لعبتهُ مصياف منذ أن انتزَعها الإسماعيليون من بني منقذ سنة ٥٣٥هـ، وكذلك إلى الدّور الهامّ الذي قامَ به شيخ الجبل سنان راشد الدين، زعيم الطائفة الإسماعيلية النزارية في مصياف وفدائييه، أثناء الحروب الصليبية، ممّا جعلَ اسم هذه الطائفة على كلِ شفةٍ ولسان.

وهناك نقطة أُخرى مهمّة تتعلّق بأصل التسمية، من الضروري الوقوف عندها قليلاً، وهي: ما ذكره بعض المؤرّخين المحدَثين، من أنّ العلويين تسمّوا نصيرية أوّلاً، ثمّ أُطلق عليهم - حسب إرادتهم - اسم العلويين في أيّام الانتداب الفرنسي(١) ، ولم يقدّموا أي دليل يدعم أقوالهم.

والحقيقة: أنّه وجِدت فِرقة من الشيعة تسمّى بالعلوية، عُرفت بهذا الاسم منذ القديم، ذكرها كلٌ من: المسعودي في(مروج الذهب) ، وياقوت الحموي في(معجم البلدان) .

يقول المسعودي: (والغلاة أيضاً ثمان فِرق: المحمدية منهم أربع، والمعتزلة أربع، وهُم العلوية).

كما ذكرَ ياقوت الحموي عند حديثه عن مدينة قاشان ما نصّه: (مدينة قرب أصبهان، تُذكر مع قُم، وأهلها كلّهم شيعة إمامية.

قرأتُ في كتاب ألّفه أبو العباس أحمد بن علي بن بابه القاشي، وكان رجلاً أديباً، قَدِم مرو وأقام بها إلى أن مات بعد الخمسمئة، ذَكر في كتابٍ ألّفه في فِرق الشيعة إلى أن انتهى إلى ذكر المنتظر، ومن عجائبه ما يذكر ما شاهدته في بلادنا قومٌ من العلوية من أصحاب التنايات يعتقدون هذا المذهب).

____________________

(١) يوسف الحكيم: سورية والعهد العثماني، ص (٦٨)، ود. صبحي محمصاني: فلسفة التشريع في الإسلام، ص(٨٥)، ومحمد كرد علي: خطط الشام، ص (١١٢).

٣٣

وهذا دليل على أنّ أصل التسمية هو (العلوية)، لكن تبدّلت التسمية مع الزمن إلى (نصيرية) لأسباب سياسية، أمْلَتها ظروف معيّنة.

تاريخ ظهور النصيرية:

تحديد تاريخ ظهور النصيرية على وجه الدقّة، أمرٌ من الصعوبة بمكان كبير ؛ لكثرة الأقوال وتناقضها، ثمّ ابتعادها عن بعضها بعضاً ابتعاداً عظيماً.

فنحن إذا أخذنا بالرأي القائل: إنّ أصل تسمية نصيرية، جاءت من نصير مولى الإمام عليعليه‌السلام ، كان معنى ذلك: أنّ تاريخ ظهور النصيرية هو زمن الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، أي ما بين سنة ٢٣/ قبل الهجرة و٤٠هـ.

أمّا إذا مِلْنا إلى الرأي الآخَر، الذي يقول: إنّ أصل التسمية نسبةً إلى محمد بن نصير،.... المتوفّى سنة ٢٥٩هـ، كان معنى ذلك: أنّ تاريخ ظهور النصيرية بين سَنَتَي ٢٣٢هـ، و٢٥٩هـ، وكما هو واضح ؛ فإنّ بين هذا التاريخ وذاك مدىً زمنياً واسعاً شاسعاً.

ثمّة نفر من المؤرّخين جعلَ تاريخ ظهور النصيرية - على وجه العموم - دون تحديد لسَنةٍ معيّنة (في القرن الثالث الهجري)(١) ، أو (في النصف الثاني من القرن الثالث)(٢) ، وهناك مَن يقول: إنّ المذهب النصيري أو العلوي، معاصر للدعوة الدرزية(٣) .

وأوّل إشارة إلى ظهور النصيرية وصَلت إلينا، ما كَتبه أبو الفرج الملطي في (تاريخ الدول السرياني) في أخبار سنة ٨٩١م = ٢٧٨هـ، وهي:

____________________

(١) الدكتور صبحي المحمصاني: فلسفة التشريع في الإسلام.

(٢) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوّف والتشيّع.

(٣) عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي.

٣٤

(رغبَ الكثيرون أن يعرفوا مَن هم النصيريون؟ فنقول: في السنة ١٢٠٢ لليونان (٨٩١م)، ظهرَ شيخ في أطراف الكوفة بقرية الناصرية، كان يُكثر من الصوم والصلاة ويتظاهر بالزهد، وتبعهُ كثيرون من أهل البلد.

واصطفى اثني عشر رجلاً بعدد الرسل، وأوصاهم أن يبثّوا بين الناس تعليماً غريباً، ولمـّا اطّلع حاكم البلد على خبره أرسل فقُبض عليه، وحبسهُ في إحدى غرف داره، وأقسم أنّه صباح الغد يشنقه، وشربَ الحاكم تلك الليلة خمراً حتى سكر، وفرشوا له لينام.

فطلبَ مفتاح الغرفة التي حُبس فيها الشيخ، ووضعهُ تحت وسادته، وغرقَ في النوم، وكان للحاكم خادمة تنام عنده، سبقت فاطّلعت على صوم الشيخ وصلاته، فأخذَتها الشفقة عليه، وقصَدت مولاها وهو غارق في سباتٍ عميقٍ، والتقفت المفتاح، وذهبت فأطلقت الشيخ، ثمّ أغلقت الباب، وردّت المفتاح إلى مكانه.

ولمـّا أفاقَ الحاكم تناولَ المفتاح، وفتحَ باب الغرفة فلم يجد فيها أحداً، فأخذه الدهش، وتخوّفت الخادمة أن تُعلمه بأنّها هي التي فتحت وأطلقته، وهكذا ذاعَ الخبر بأنّ الشيخ خرجَ والأبواب مغلقة.

وما عتمَ أن شاهدَ الشيخ اثنين من تلامذته يسوقان فداناً في أراضٍ بعيدة عن القرية، فقصدَ نحوهما، وأكّد لهما أنّ الملائكة أطلقوه وجعلوه في البرية، ثمّ كَتب كتاب مذهبه، ودَفعه إليهما ليُعلما الناس بموجبه، وقد أثبتَ فيه ما يلي: إنّي أنا فلان الذي يُظنّ أنّه ابن عثمان من قرية الناصرية، قد ظهرَ لي في الرؤية المسيح يسوع الكلمة الهادئ، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، من ولدِ علي، وهو جبرائيل الملاك، وقال لي:

إنّك أنت الداعي، أنت الحق، أنت جمل يحقد على غير المؤمنين، أنت بهيمة حاملة ثقل المؤمنين، أنت روح، أنت يوحنا بن زكريا، فانذرْ الناس ليجثوا أربع ركعات في صلاتهم، ركعتين قبل بزوغ الشمس، وركعتين قبل الغروب، شطر أورشليم، ويقولون في كل مرّة هذه العبارات الثلاث: الله السامي على الكل، الله الأعظم من الكل، الله الأكبر من الكل، وأن لا يشتغلوا في يَومي الاثنين والجمعة، وأن يصوموا يَومين في السنة، وأن يقلّلوا من غسل أعضاء التناسل، ولا يشربوا المسكر، بل يشربوا ما أرادوا

٣٥

من الخمر، ولا يأكلوا لحوم الحيوانات الضارية. وبعدما لقّنهم تعليماً مثل هذا سقيماً سخيفاً، انتقلَ إلى فلسطين، وجعلَ يلقّن الناس الجَهلة القرويين، ثمّ اختفى من هناك، ولم يوقَف على مكانه حتى اليوم).

بحسب هذه الرواية، يكون تاريخ ظهور النصيرية هو سنة ٢٧٨هـ في الكوفة، وهذا التاريخ هو عينه مبدأ ظهور القرامطة.

وما ذكرهُ الملطي يشابه إلى حدٍ بعيد، ما رواه ثابت بن سنان بن قرّة الصابئ (ت ٣٦٥هـ)، في تاريخه عن بدء ظهور القرامطة:

(في سنة مئتين وثمانية وسبعين من الهجرة، فيها تحرّك بسواد الكوفة قومٌ يُعرفون بالقرامطة، وكان ابتداء أمرِهم - فيما ذكر - أنّ زعيم هذه الطائفة قَدِم من بلدةِ خوزستان إلى عاصمة الكوفة، فنزلَ بموضعٍ يقال له النهرين، وتظاهرَ بالزهد والورع والتقشّف، وكان يسف الخوص، ويأكل من كسب يده، ويكثر من الصلاة.

وأقامَ على ذلك زمناً كبيراً، وكان إذا جاءه شخص وجلسَ معه تحدّث معه في أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأخبرهُ أنّ الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يومٍ وليلة، حتى فشا ذلك عنه بموضعه، ثمّ أعلَمهم أنّه يدعو إلى إمامٍ من أهل البيت، فأقامَ على الدعاية حتى اجتمعَ حوله جمعٌ كبير.

واصطحبَ برجلٍ بقّال، وكان يكثر الجلوس على باب حانوته، فجاء يوماً قومٌ إلى البقّال، وطلبوا منه رجلاً يحفظ عليهم ما حُرموا من نخلهم، فدلّهم عليه، وقال لهم: (إن أجابكم إلى حفظ تَمْركم فإنّه بحيث تحبّون)، فكلّموه في ذلك، فأجابهم إلى ذلك بأجرٍ معلوم.

فكان يحفظ لهم ويصلّي أكثر نهاره ويصوم، ويأخذ عند إفطاره رطلاً من التمر من البقّال فيأكله، ويجمع النوى ويعطيه البقّال، فلمّا حَمل التجّار تَمْرَهم عند البقّال ودفعوا إليه أجرته، وحاسب الأجير البقّال على ما أخذه من التمر، ودفعَ له ثمن النوى، فسمعَ أصحاب التمر محاسبته للبقّال بثمن النوى فضربوه، وقالوا له: (لم ترضَ بأكل تَمْرِنا، حتى بعتَ النوى)، فقال لهم البقّال: (لا تفعلوا)، وقصّ عليهم القصّة، فندموا على ضربه

٣٦

، واستحلّوا منه، ففعل، وازدادَ بذلك نُبلاً عند أهل القرية، لمـّا وقفوا من زهده. ثمّ مَرض فمكثَ على الطريق مطروحاً، وكان في القرية رجل يُدعى (كرميته) ؛ لحمرة عينيه، وهو بالنبطية أحمر العينين، يحمل على أثوار له، فكلّم البقّال في حمل المريض إلى بيته، فحَمله وأقام حتى بريء.

ودعا أهل القرية إلى اعتناق مذهبه فأجابوه، وكان يأخذ من كلِ رجلٍ ديناراً، ويزعم أنّه للإمام، واتّخذ منهم اثني عشر نقيباً، وأمَرَهم أن يدعوا الناس إلى نِحلته، وقال لهم: أنتم كحواريي عيسى.

فاشتغلَ أهل كور عن أعمالهم بما رسمَ لهم من الصلوات، وكان للهيصم ضياع، فرأى تقصير أهل القرية في عمارتها، فسألَ عن ذلك، فأُخبر بخبر القرمطي، فأخذهُ وحبسه، وحلفَ أن يقتله ؛ لِمَا اطّلع على مذهبه، وأغلق باب البيت عليه، وجعلَ مفتاح البيت تحت وسادته، واشتغلَ بالشرب.

فسمعَ بعض مَن في الدار من الجواري بقصّته، فرقّت للرجل، فأخذت المفتاح - حين نام سيّدها - وفتحت الباب وأخرجته، ووضَعت المفتاح مكانه، فلمّا أصبح الهيصم فتحَ الباب ليقتله فلم يجده، وشاعَ ذلك في الناس، فافتتنَ به خلقٌ كثير من تلك القرية، وقالوا: رُفع.

ثمّ ظهرَ في ناحية أُخرى، واجتمعَ بأصحابه وغيرهم، وسألوه عن أمره، فأخبرَ أنّه لا يمكن أحداً أن يصل إليه بسوء، فعظمَ من ذاك الوقت في أعينهم، ثمّ خافَ على نفسه، فخرجَ إلى ناحية الشام، فلم يوقَف له على أثَر.

وسمّى نفسه باسم الرجل الذي كان في داره (كرميته، صاحب الأثوار)، ثمّ خُفّف فقيل: قرمط. هكذا ذَكر أصحاب زكرويه عنه.

وقيل: إنّ قرمط لقب رجل بسواد الكوفة، كان يحمل غلّته على أثوارٍ له، واسمه حمدان.

ثمّ فشا مذهب القرامطة بسواد الكوفة، ووقفَ الطائي أحمد بن محمد على أمرهم، فجعلَ على الرجلِ منهم ديناراً في العام، فقَدِم قومٌ من الكوفة، فرفعوا أمرَ القرامطة والطائي إلى السلطان، وأخبروه أنّهم أحدثوا ما ليس في دين الإسلام، وأنّهم يرون السيف على أُمّة محمد (صلّى الله عليه وسلّم) إلاّ مَن بايعهم، فلم يلتفت إليهم، ولم يسمع منهم.

٣٧

وفيما حُكي عن القرامطة من مذهبهم: أنّهم جاؤوا بكتاب فيه (بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان، وهو من قريةٍ يقال لها نصرانة، داعية المسيح وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدي، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو جبريل.

وذكرَ أنّ المسيح تَصوّر له في جسم إنسان، وقال له: أنت الداعية، وإنّك الحجّة، وإنّك الناقة، وإنّك الدابّة، وإنّك يحيى، وإنّك روح القدس، وأخبرهُ أنّ الصلاة أربع ركعات، ركعتان قبل الشروق، وركعتان بعد الغروب، ويقيم الأذان في كلّ صلاة، يكبّر ثلاثاً (أشهد أن لا إله إلاّ الله مرّتين، أشهد أنّ آدم رسول الله، أشهد أنّ نوحاً رسول الله، أشهد أنّ إبراهيم رسول الله، أشهد أنّ موسى رسول الله، أشهد أنّ عيسى رسول الله، أشهد أنّ محمداًَ رسول الله، وأشهد أنّ أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله، ويقرأ في كلّ ركعة الاستفتاح المـُنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية، والقبلة إلى بيت المقدس، وأنّ الجمعة يوم الاثنين، لا يُعمل فيه شيء، والسورة:

(الحمد لله بكلمته، وتعالى باسمه، المتّخذ لأوليائه بأوليائه، قل إنّ الأهلّة مواقيتُ للناس، ظاهرها ليعلم عدد السِنين والحساب والشهور والأيّام، وباطنها أوليائي الذين عَرّفوا عبادي سبيلي، اتّقوني يا أُولي الألباب، وأنا الذي لا أُسأل عمّا أفعل، وأنا العليم الحكيم، وأنا الذي أبلو عبادي وأمتحن خلقي، فمَن صبرَ على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنّتي وأخلدتهُ في نعمتي، ومَن زالَ عن أمري وكذّب رسلي أخذتهُ مهاناً في عذابي، وأتممتُ أجَلي، وأظهرت أمْري على ألسِنة رُسلي، وأنا الذي لم يعلُ عليّ جبّار إلاّ وضعتهُ، ولا عزيز إلاّ أذللته، وليس الذي أصرّ على أمره ودامَ على جهالته، وقالوا: لن نبرحَ عليه عاكفين وبه موقنين أولئك الكافرون، ثمّ يركع ويقول في ركوعه: سبحان ربّي ربّ العزّة وتعالى عمّا يَصف الظالمون)، يقولها مرّتين، فإذا سجدَ قال: (الله أعلى) مرّتين، (الله أعظم) مرّتين.

ومن شريعته الصوم يومين في السنة، وهما المهرجان، والنبيذ حرام والخمر حلال، وألاّ يغتسلوا من الجنابة إلاّ الوضوء كوضوء الصلاة، وأنّ مَن حاربهُ وجبَ قتله، ومَن لم يحاربه ممّن خالفهُ وجبَ عليه الجزية، ولا يأكل كلّ ذي ناب ولا كلّ ذي مخلب).

٣٨

يستفاد من ذلك: أنّ الملطي - المعروف بابن العبري، المتوفّى سنة ٦٨٥هـ - اعتبرَ النصيرية هم القرامطة، وهذا خطأ.

ثمّ إنّه ناقضَ نفسه بنفسه، في كتابه(تاريخ مختصر الدول) عند حديثه عن القرامطة ؛ إذ ذَكر عنهم نفس ما قاله عن النصيرية، في روايته التي بيّناها، وإذاً فإنّ تحديد تاريخ ظهور النصيرية بسنة ٢٧٨هـ، أخذاً بما ذَكره الملطي، في غير محلّه.

ويبقى أقرب الأقوال إلى الصواب القول: بأنّ ظهور النصيرية هو النصف الثاني من القرن الثالث ؛ لأنّه عندما كتبَ حمزة بن علي رسالته في الردّ على النصيري بين عامي ٤٠٨ و٤١٠هـ، كانت الفرقة النصيرية موجودة ومعروفة، وهذا يعني أنّ وجودها سابق لهذا التاريخ، لكنّ تحديد ظهورها بسنةٍ معيّنة، أمر من الصعوبة بمكان كبير ؛ لعدم وجود الدليل القاطع.

***

٣٩

مَوطِن النصيرية

يُفهم من الآثار التي وصلت إلينا: أنّ النصيرية تنتشر في أماكن وأقاليم متعدّدة، عربية وأجنبية.

في سورية أطلقَ المؤرّخون على أماكن تواجد النصيرية أسماء كثيرة: جبال اللاذقية، جبال النصيرية، بلاد العلويين، منطقة العلويين، منطقة اللاذقية، الجبل العلوي، جبل الشام، جبل اللكام، إلخ...

ومن الأسماء التي ذُكرت أيضاً، جبل السمان (اتخذوا جبل السمان، الذي يسمّى الآن جبل النصيرية)(١) .

ولم نعثر في الكتب على أيّ ذِكر لهذا الاسم، الذي انفردَ به شيخنا محمد أبو زهرة دون سواه، ولعلّ الشيخ يقصد جبل السماق، وهو كما ذَكر ياقوت الحموي في معجم البلدان(٢) ، جبل عظيم من أعمال حلب الغربية.

وثمّة مَن ذَكر اسماً آخَر، بعيد كل البُعد عن الأسماء المألوفة المتداولة، وهو جبل بلاطنس(٣) .

أمّا الاختلاف الذي يُذكر فهو في تحديد موقع جبل اللكام ؛ لأنّ

____________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلامية: الجزء ١، ص٦٣.

(٢) الجزء ٢، ص١٠٠.

(٣) أبو الفداء: المختصر في تاريخ البشر.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وما ورد من الآيات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل الله ووصف الحاكم بغير ما أنزل الله بالكفر والفسق والظلم(١) ومن المعلوم لزوم مكافحة الكفر والفسق والظلم وهو غير خفيّ على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة.

كما أنّها مدفوعة بما صح عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من الروايات الناهية عن التعاون مع الظالم وإعانته ومساعدته، منها ما ورد عن كعب بن عجرة عن النبيّ أنّه قال: « اسمعُوا سيكُونُ بعدي اُمراءُ فمن دخل عليهم فصدّقهُم بكذبهم وأعانهُم على ظُلمهم فليس منّي ولستُ منهُ وليس بوارد عليّ [ الحوض ] »(٢) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سُلطان جعل الله ذلك السّوط يوم القيامة ثُعباناً من النّار طولُهُ سبعون ذراعاً يُسلّطهُ الله عليه في نار جهنّم وبئس المصير »(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال: « إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوانُ الظلمة ومن لاق لهُم دواة، أو ربط لهُم كيساً، أو مدّ لهُم مدّة قلم، فاحشُرُوهُم معهُم »(٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « من خفّ لسُلطان جائر في حاجة كان قرينهُ في النّار »(٥) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما اقترب عبد من سُلطان جائر إلّا تباعد من الله »(٦) .

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يُعصي الله »(٧) .

__________________

(١) المائدة: ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٢) جامع الأصول ٤: ٧٥، نقلاً عن الترمذيّ والنسائيّ.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به حديث ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١١.

(٥) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١٤.

(٦) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠ حديث ١٢.

(٧) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤، حديث ٥.

٣٢١

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من سُوّد اسمهُ في ديوان الجبّارين حشرهُ الله يوم القيامة حيراناً »(١) .

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من مشى إلى ظالم ليُعينهُ وهو يعلمُ أنّهُ ظالم فقد خرج عن الإسلام »(٢) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام أنّه قال: « ما أحبُّ أنّي عقدت لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يفرغ الله من الحساب »(٣) .

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين ممّا وردت في كتب الحديث، الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر، والحاثّة على زجره ودفعه، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة المتاحة ممّا يدلّ على أنّ الأحاديث التي تحثّ على السكوت عن الحاكم الظالم، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه والرضا بجوره ممّا أوعزت السلطات الحاكمة به في تلك العصور المظلمة، فلفّق البعض هذه الروايات والأحاديث ونسبوها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسّنة.

ولو لم يكن في المقام إلّا قول الإمام عليّعليه‌السلام في خطبته: « وما أخذ الله على العُلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم الخ »(٤) .

لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبما أنّ هذا البحث واضح لكلّ مسلم يحمل بين جنبيه الحريّة ويفكّر في العدل الإسلاميّ طوينا البحث عن بعض ما ورد في هذا المجال.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤ حديث ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٢: ١٣١ حديث ١٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٢٩ حديث ٦.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ٣.

٣٢٢

٣

السلطة القضائيّة

دور القضاء والسلطة القضائيّة :

يحتلّ القضاء، وفصل الخصومات بين الناس دوراً عظيماً، ومكانة حسّاسة في أي مجتمع بشريّ، لأنّ عليه وعلى كيفيّته تتوقّف سلامة المجتمع، واستتباب الأمن، واستقرار العدل، وصيانة الحقوق والحريّات، والحرمات وبالتالي يقوم التوازن الاجتماعيّ.

إنّ القضاء مرتبط بالعدالة، فإن صلح شاعت العدالة وانتعشت، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وصلح أمر الدولة، والناس جميعاً. وإن فسد القضاء اختفت العدالة وباختفائها تعم الفوضى وينتشر الفساد، ولا يأمن الناس على أنفسهم، فتضيع هيبة الدولة، ويتقلّص سلطانها، إنذاراً لها بالنزوال والاندحار.

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام، وفي تحويل التنازع والتصارع إلى التوافق والتقارب الذي يحتاج إليه كلّ مجتمع إنسانيّ ينشد السعادة والطمأنينة والأمن.

٣٢٣

عوامل التنازع وأسبابه :

لم يزل المجتمع البشريّ ـ منذ تكوّنه وانضمام فرد إلى فرد آخر ـ تلازم حياته التشاجر والاختلاف والتنازع بين أفراده، وقد شهد بذلك التاريخ، وبرهنت عليه الوقائع المحسوسة، ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا ينشأ ـ غالباً ـ إلّا من أمرين :

١. الحرص الشديد على جلب الأموال والمنافع والحقوق، الذي يلازم البعد عن المعنويّات والمثل الإنسانيّة، فإنّ حرص كلّ واحد من أفراد النوع الإنسانيّ على أن يجلب المنافع العاجلة العابرة لنفسه ينسيه الجوانب المعنويّة والمثل النبيلة وذلك بدوره يجرّ إلى التعدّي على مصالح الآخرين وحقوقهم ومنافعهم حيث لا إيمان يردع عن ذلك، ولا مكارم أخلاق تحدّ من تلك النزعة الجامحة.

٢. الاختلاف في تشخيص الحقّ، فربّما يتنازع فردان لا للحرص الشديد بل للاختلاف في تشخيص ( الحقّ ) فكلّ واحد منهما يعتقد ـ اعتقاداً جازماً ـ بأنّ الحقّ هو ما يراه دون غيره.

وربّما يبلغ الطرفان المختلفان المتنازعان ـ مع ذلك ـ أقصى درجات التقوى وحسن النية والفضيلة، ولكن جهلهما بالحقّ دفعهما إلى ذلك الاختلاف والتنازع، ولا ريب أنّ بقاء الاختلاف في المجتمع يشكّل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره وسلامته ؛ إذ قد يؤدي إلى العدوان، وتأجّج نيران البغضاء والضغينة بين المتخاصمين المختلفين، وربما اُريقت ـ في هذا السبيل ـ دماء كثيرة. واُهدرت أموال طائلة، وضاعت أغراض شريفة ليس إلّا لاُمور حقيرة لا تستأهل كل تلك التبعات والعواقب. ومن أجل ذلك حثّ القرآن الكريم على سدّ باب الاختلاف وقطع دابره من الجذور وحثّ المسلمين على الإصلاح بين المتنازعين إذ قال:( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال: ١ ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام نقلاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقول :

٣٢٤

« صلاحُ ذات البين أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام »(١) .

بيد أنّ حلّ الاختلاف يتصوّر بوجوه هي :

إمّا بإخضاع القضيّة لسلاح القوّة، ومنطق الغلبة الذي عبّر عنه المثل السائر بقوله: ( الحقُ لمن غلب ) فيكون الغالب هو المحقّ ولكن هذا ممّا لا يقبله ذو وجدان سليم ولا يرضاه عقل ولا دين.

أو بإخضاع القضيّة لعامل الدعاية والتبليغ الكاذب، وإرغام الطرف الآخر على القبول بما يخالفه انخداعاً وتضليلاً، وهو كذلك أمر يرفضه الدين.

أو يترك الأمر لعامل الزمن ليتجلّى الحقّ بمرور الأيام وتوالي الشهور ومضي السنين والأعوام وهو أمر لا تحتمله الحياة الاجتماعيّة التي تتطلّب الحلول العاجلة لمشكلاتها والمعالجة السريعة لآلامها

أو يترك الأمر حتّى يتعب المتنازعان فيكفّا عن المطالبة، أو يخلّي أحدهما الآخر، ليبطل الحقّ، ويعود باطلاً، ويعود الباطل حقّاً. وهو أمر يرفضه الإسلام كذلك إذ يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « الحقُّ القديم لا يبطله شيء ».

ولقد اتّخذ الإسلام طريقاً خامساً، وهو الذي ندبت إليه الشرائع السماويّة السابقة وتقتضيه سنّة الحياة وضرورات المجتمع ألا وهو حثّ المتنازعين على الرجوع إلى أهل الصلاح والتحاكم إليهم، والخضوع لقضائهم وحكمهم ليرتفع التنازع ويعود المتخاصمون اخوة متحابّين، ويتخلّص المجتمع من أخطار الاختلاف والتنازع. ولأجل مثل هذا الدور كانت السلطة القضائيّة الركن الثالث والأساسيّ من أركان الحكومات قديماً وحديثاً، وكان لها من الأهميّة والمكانة ما ليس لغيرها من أركان الحكومة.

ولأجل ذلك أيضاً كان للقضاء والسلطة القضائية مكانة مرموقة في النظام

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ قسم الكتب ـ ٤٧.

٣٢٥

الإسلاميّ لم يسبق لها مثيل في العهود والأنظمة السابقة واللاحقة ؛ حيث سنّ له ولها اُصولاً وقواعد واُسساً وبرامج فريدة في نوعها، وعظيمة في محتوياتها.

فلقد وضع القرآن الكريما اُسس القضاء وشيّد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إركانه وبنيانه وبين خلفاؤه المعصومون تفاصيله، وجزئياته، وحدوده وأحكامه.

القضاء والحكومة لله خاصّة

ولمّا كان القضاء ملازماً للتصرّف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم احتاج إلى ولاية حقيقيّة وحيث لم تكن الولاية الحقيقيّة إلّا لله تعالى خاصّة ؛ كان القضاء أحد الحقوق المختصة به سبحانه دون سواه، فلا ولاية لأحد على أحد في هذه الشؤون، ولهذا قال سبحانه:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام: ٥٧ ).

وقال:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ )(١) .

إلى غير ذلك من الآيات التي تحصر حقّ الحكومة ( الشاملة للقضاء وغيره ) بالله سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه دون سواه.

وقد عهد الله سبحانه بممارسة هذا الحق إلى أنبيائه وأوصيائهم سواء أكانوا أوصياء بالاسم والشخص، أم بالرسم والوصف.

فالقضاة المنصوبون من ناحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أوصيائهم قضاة منصوبون بالاسم والشخص وأمّا الذين يتعاهدون القضاء ـ زمن عدم التمكّن من الأوصياء والأئمّة ـ قضاة منصوبون بالرسم والوصف. كما نرى ذلك من رواية مقبولة لعمر بن حنظلة حيث قال الصادق الإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام له: « من تحاكم إليهم(٢) في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغُوت، وما يحكُمُ لهُ فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً لهُ ،

__________________

(١) ولم نذكر الآية المشابهة (٦٧) في تلك السورة لأنّها ناظرة إلى معنى تكوينيّ.

(٢) المراد قضاة الجور.

٣٢٦

لأنّهُ أخذهُ بحُكم الطّاغُوت وما أمر الله أن يُكفر به. قال الله تعالى:( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ) ( النساء: ٦٠ ) ».

ولـمـّا قال: فكيف يصنعان ؟ قالعليه‌السلام : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثناً ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرّادّ على الله وهو على حدّ الشّرك بالله الحديث »(١) .

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام نفسه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال أنّه قال: « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه »(٢) .

هذا وقد كان طبيعياً أن يحكم هؤلاء القضاة العدول ويقضوا ويفصلوا في الخصومات وفق منهج الله تعالى وتعاليمه وأحكامه في مجال القضاء، لا بما تهواه أنفسهم أو ما يشاؤه المتخاصمون المتحاكمون.

ولذلك أنزل الله الشرائع والكتب والرسالات على الأنبياء وأمرهم أن يحكموا بين الناس بما فيها من الحقّ والقسط فقال تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد: ٢٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( المائدة: ٤٤ ).

وقال تعالى ـ وهو يوصي داود نبيّه ـ أن يحكم بالحق:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ (٣) بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: باب ١١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (١).

(٢) وسائل الشيعة ١٨: باب ١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (٥) ويقرب منه ما نقل عنه في الباب ١١ / الحديث (٦).

(٣) المراد من الحكومة أعمّ من الولاية والقضاء.

٣٢٧

يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) ( ص: ٢٦ ).

كما أمر الله تعالى المقتفين أثر المسيح أن يحكموا بما في الانجيل إذ قال:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( المائدة: ٤٧ ).

وبيّن سبحانه أثر الحكم بما في التوراة والانجيل وثمرته بقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) ( المائدة: ٦٦ ).

وقد أمر الله سبحانه نبيّه الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقضاء بالقسط والعدل إذ قال:( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة: ٤٢ ).

وقال سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة: ٤٨ ).

ولم يكتف سبحانه بذلك بل أمر الاُمّة الإسلاميّة ودعاها إلى أن تقضي بالحق والعدل والقسط إذ قال:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء: ٥٨ ).

وأمرها بأن لا يحملها شنآن قوم على التخلّي عن العدل، والتقاعس عن إجرائه إذ قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ٨ ).

بل وأمر المسلمين باتّخاذ جانب العدل ليس في مجالات القضاء وحدها بل في كلّ مجالات الحياة، حتّى في النطق والكلام إذ قال:( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ) ( الانعام: ١٥٢ ).

وصفوة الكلام أنّ الآيات التي مرّت عليك تثبت ـ بجلاء ودون إبهام ـ أنّ

٣٢٨

القضاء حقّ خاصّ بالله سبحانه، وقد عهد به إلى الأنبياء، وأوصيائهم، ومن أقاموه لذلك المنصب، وجعل كتبه ورسالاته مناهج لهم، ليحكموا بما فيها، ويقضوا بين المتنازعين والمتخاصمين على ضوء تعاليمها وأحكامها.

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يمارس القضاء

ولقد عهد الله بالقضاء إلى النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما عهد إليه، كما عرفت ذلك من خلال الآيات التي مرّت عليك آنفاً، وقد تولّىصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه حلّ الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أُنزل إليه من القرآن وأحكامه، بل وعيّن ـ في زمنه ـ رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات، قال الإمام عليّعليه‌السلام : « بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن قاضياً، فقُلتُ يا رسول الله: تُرسلُني وأنا حديثُ السّنّ ولا علم لي بالقضاء ؟

فقال: إنّ الله سيهدي قلبك ويُثبتُ لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلاتقضي حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء.

قال: فما زلت قاضياً. ( أو ) ما شككت في قضاء بعد »(١) .

كما قد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله معاذاً إلى اليمن وقال له: « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ »، قال: أقضي بكتاب الله الى آخر الحديث(٢) .

وبذلك نعلم أنّ ما كتبه بعض المتأخّرين من أنّه لم يعرف القضاء في العهد النبويّ ولا في عهد الخلفاء، بل هو شيء جديد أسّسه الأمويون في الشام، أمّا قبل ذلك فإنّ العرب كانت في خلافاتها ترجع إلى طريقة التحكيم(٣) ، فهو إمّا جهل بتاريخ الإسلام، أو افتراء واضح البطلان يقف عليه كلّ من له أقلّ إلمام بالكتاب والسنّة، وما

__________________

(١) جامع الاُصول ١: ٥٤٩، أخرجه أبو داود والترمذيّ.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٥١

(٣) النظام السياسيّ: ١٢٩، نقلاً عن كتاب عبقريّة الإسلام في اُصول الحكم.

٣٢٩

ورد فيهما من الآيات والأحاديث في مختلف أبواب القضاء بحيث يصعب لنا نقل فهرستها، فضلاً عن ذكر نصوصها(١) .

ثمّ إنّ نظرة واحدة إلى القرآن الكريم تفنّد هذا الزعم الباطل فلاحظ الآيات ٤٠ إلى ٦٠ من سورة المائدة فهي في معرض ذكر الأحكام المتعلّقة بالقضاء والفصل في الخصومات وأحكام القصص والحدود.

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟

إنّ أهمّ أمر في القضاء والسلطة القضائيّة هو أن تحقّق هذه السلطة غرضها وهدفها الأساسيّ في إشاعة العدل وإقامة القسط في المجتمع، بحيث يحسّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأمن على نفسه وماله وعرضه في ظلّ ما توفّره السلطة القضائيّة له من عدالة شاملة لا يشوبها ظلم ولا عدوان ولا يتخلّلها حيف ولا تجاوز.

إنّ وصول السلطة القضائيّة إلى هذا الهدف الأساسيّ يتحقّق بأربعة اُمور :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء.

٢. استقلاله الماليّ والسياسيّ.

٣. رعايته لآداب القضاء.

٤. أن تكون لديه برامج حقوقيّة وجزائيّة عادلة للقضاء وفقها، وهي بأجمعها متوفّرة في النظام الإسلاميّ وإليك تفصيل ذلك :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء

إنّ أهمّ عامل يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الخطير في المجتمع هو

__________________

(١) وقد جمع أحمد بن حنبل في مسنده قضايا النبيّ ٥: ٣٢٦، ونقل جملة منها الجزريّ في كتابه جامع الاُصول ١٠: ٥٦٥.

٣٣٠

صلاحيّة القاضي، وتوفّر الشروط المؤهّلة للقضاء فيه.

ولقد اشترط الإسلام في القاضي شروطاً وأوصافاً لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء وهذه الصفات هي :

١. البلوغ.

٢. العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. طهارة المولد.

٦. العلم بالقانون.

٧. الذكورة.

٨. أن يكون ظابطاً سليم الذاكرة فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه للقضاء(١) .

ولقد شدّد الإسلام على خطورة منصب القضاء، وجسامة مسؤوليّة القاضي ومقامه فقد ورد عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة واثنان في النّار

فأمّا الذّي في الجنّة فرجل عرف الحقّ وقضى به.

ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النّار.

ورجل قضى للنّاس على جهله فهو في النّار »(٢) .

ورفع إلى أبي عبد الله الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « القضاة أربعة، ثلاثة في النّار وواحد في الجنّة :

رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النّار.

__________________

(١) راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحليّ كتاب القضاء في الصفات.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٤٥ نقلاً عن أبي داود.

٣٣١

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام عن من يتصدّى لمقام القضاء وليس له أهل: « ورجل قمش جهلاً، موضع في جهال الاُمّة، غار في أغباش الفتنة، عمّ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً وليس به، بكر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر جلس بين النّاس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشُّبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ »(٢) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مشيراً إلى حراجة موقف القاضي، وصعوبة إجراء الحق والعدل الذي هو هدف القضاء الإساسيّ: « الحقُّ أوسع الأشياء في التّواصف وأضيقها في التناصف »(٣) .

إنّ القضاء ليس شيئاً بسيطاً عادياً بل هو أمر مهمّ حتّى في أبسط الأشياء فقد روي أنّ صبيّين تحاكما إلى الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام في خطّ كتباه وحكّماه في ذلك ليحكم أي الخطّين أجود فبصر به عليّعليه‌السلام فقال: « يا بنيّ انظر كيف تحكم فإنّ هذا حكم، والله سائلك عنه يوم القيامة »(٤) .

وقد وقع نظير هذه القضية للإمام عليّعليه‌السلام نفسه فقد روى الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال: « أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه »(٥) .

__________________

(١ و ٥) وسائل الشيعة ١٨: ١١ و ٥٨٢.

(٢ و ٣) نهج البلاغة: الخطبة ١٧، ٢١٦.

(٤) مجمع البيان٣: ٦٤ في تفسير قوله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ) .

٣٣٢

ولذلك قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لسانُ القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار »(١) .

كما لذلك أيضاً اشترط الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على القاضي شُريح أن لا ينفذ قضاء حتّى يعرضه عليه قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لـمّا ولّى أمير المؤمنينعليه‌السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يعرضهُ عليه »(٢) .

ومن هنا أكد الإمام عليّعليه‌السلام على الأشتر واليه على مصر، في عهده المعروف، أن يختار من يريدهم لمنصب القضاء، اختياراً دقيقاً بقوله: « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشّبهات، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، واُولئك قليل، ثمّ أكثر تعاهد قضائه »(٣) .

ولخطورة مقام القضاء لا يجوز إلّا للنبيّ أو وصيّه، كما قال الإمام عليّعليه‌السلام لشريح: « يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه ( ما جلسه ) إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ »(٤) .

وورد عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام قوله: « اتّقوا الحُكومة ( أي القضاء ) إنّما هي للإمام العادل العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ ( كنبيّ ) أو وصيّ(٥) نبيّ »(٦) .

* * *

٢. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ

إنّ القاضي بما أنّه يتحمّل مسؤوليّة كبيرة وخطيرة لا مشابه لها بين أقرانها من

__________________

(١ و ٢ و ٤) وسائل الشيعة ١٨: ١١، ٦، ٧.

(٣) نهج البلاغة: قسم الكتب ٥٣.

(٥) المراد بالوصيّ هو الأعم من الوصيّ المنصوص عليه بالاسم فيشمل المنصوص عليه بالوصف، أي الذي جمع صفات القاضي المعتبرة في الإسلام.

(٦) وسائل الشيعة ١٨: ٧.

٣٣٣

المسؤوليّات والمناصب الاُخرى، يجب أن يكون مستقلاًّ في عمله غاية الاستقلال، لكي لا يخضع لما يميل به عن العمل بمسؤوليّته ويقتضي ذلك أن يكون مستقلاًّ في اقتصاده عن الآخرين كيلا يقع فريسة الأطماع، ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الحسّاسة فأمر الحكومة الإسلاميّة بالإغداق على القاضي إغداقاً يقطع طمعه عمّا في أيدي الآخرين، يقول الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ في هذا الصدد: « وافسح لهُ ( أي للقاضي ) في البذل ما يزيل علّته، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس »(١) .

ولكنّ هذا الاستقلال لا يكفي إذا لم ينضمّ إليه استقلال القاضي من أي تأثير خارجيّ سياسيّ عليه، ومن أيّة تدخّلات صادرة عن السلطات الاُخرى في عمله القضائي فإنّ القاضي يجب أن يُترك وشأنه حتّى يستجلّي الحقّ بنفسه دون مؤثرات خارجيّة ولا تدخلات في عمله ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ، في هذا الصدد: « واعطه من المنزلة لديك ملا يطمعُ فيه غيرهُ من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال لهُ عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً »(٢) .

والمقصود هو أن يكون للقاضي موضعاً غير متأثّر بأحد ليقضي بالحقّ، ويفصل في الخصومات، ويصدر الأحكام غير متهيّب ولا متأثّر وهذا هو ما يصطلح عليه السياسيّون اليوم باستقلال السلطة القضائيّة، وتفكيكها عن بقية السلطات.

ولقد نبّه إلى هذا فقهاؤنا العظام استلهاماً ممّا لديهم من تعاليم الشريعة المقدّسة في هذا المجال، قال المحقّق النائينيّ ( المتوفّى عام ١٣٥٥ ه‍ ) :

( إنّ ولاية الحاكم ترجع إلى قسمين: الأوّل الاُمور السياسيّة، التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام اُمور العباد، والثاني الإفتاء والقضاء، وكان هذان المنصبان في عصر النبيّ والأميرعليه‌السلام بل في عصر الخلفاء الثلاثة لطائفتين وفي كل بلد أو صقع كان الوالي غير القاضي فصنف كان منصوباً لخصوص القضاء والإفتاء وصنف كان منصوباً لإجراء الحدود ونظم البلاد والنظر في مصالح المسلمين، نعم اتّفق إعطاء كلتا الوظيفتين

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

٣٣٤

لشخص واحد لأهليّته لهما إلّا أنّ الغالب اختلاف الوالي والقاضي )(١) .

ولقد أعطى الإمام عليّعليه‌السلام وهو إمام المسلمين على الإطلاق، والحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة مثلاً عمليّاً على هذا الاستقلال القضائيّ السياسيّ حيث مكّن القاضيّ ـ بفضل هذا السلوك الإسلاميّ ـ من محاكمة حاكم المسلمين وأحد رعاياه في محكمة واحدة وذلك في قضيّة اليهودي مع الإمام عليّعليه‌السلام :

فقد نقل المؤرّخون أنّهعليه‌السلام لـمّا وجد درعه عند يهودي من عامّة الناس فأقبل به إلى أحد القضاة وهو شريح ليخاصمه ويقاضيه، ولـمّا كان الرجلان أمام القاضي قال عليّ: « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ». فسأل القاضي الرجل اليهوديّ ما تقول ؟ فقال اليهوديّ: ما الدرع إلّا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله: هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ وقال « مالي بيّنة » فقضى شريح بالدرع لليهوديّ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلّا أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول :

إمّا أنا فأشهد أنّ هذا أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ثمّ قال: الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت(٢) .

* * *

٣. رعاية آداب القضاء وكيفيّته

إنّ الإسلام لم يكتف بالتشديد على أهميّة القضاء، واعتبار صفات معيّنة في القاضي، بل سنّ للعمل القضائيّ آداباً وسنناً أكّد على القاضي الأخذ بها في قضائه ليسلم من شوائب الظلم والحيف، ويكون أقرب إلى الإنصاف والحقّ والعدل، وقد لخّص فقهاؤنا هذه الآداب التي ذكرتها الأحاديث المتواترة، في كتبهم الفقهيّة نشير إليها.

__________________

(١) راجع منية الطالب ١: ٣٢٥.

(٢) بحار الأنوار ٤١: ٥٦، عليّ وحقوق الإنسان: ٨٧، ٨٨ لجورج جرداق مع اختلاف يسير.

٣٣٥

قال المحقّق في شرائع الإسلام كتاب القضاء :

في الآداب [ أي آداب القضاء ] وهي قسمان مستحبّة ومكروهة، فالمستحبّة :

١. أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في اُمور بلده.

٢. أن يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليّه وروداً متساوياً.

٣. أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه.

٤. أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نهوه لأنّ المصيب عندنا واحد ويخاوضهم [ أي يطرح عليهم القضايا ويتبادل معهم الرأي ] فيما يستبهم من المسائل النظريّة لتقع الفتوى مقرّرة، ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال.

٥. وإذا تعدّى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق.

والآداب المكروهة :

١. أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

٢. أن يقضي وهو غضبان.

٣. وكذا يكره مع كلّ وصف يساوي الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغمّ والفرح والوجع، ومدافعة الأخبثين، وغلبة النعاس

٤. أن يستعمل الانقباض [ والتقطيب في الوجه ] المانع من الإعلان عن الحجّة، وكذا يكره إظهار اللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصوم.

ثمّ ذكر مسائل من شأنها حصول الدقة في العمل القضائيّ كقوله :

إذا أفتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلّا شاهدان عدلان ولا يقتنع بالواحد عملاً بالمتّفق عليه.

وإذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ليؤمن انخداعه، وإن كان فقيهاً كان حسناً.

٣٣٦

ويكره للحاكم أن يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويمة ؛ مثل أن يفرق بينهم لأنّ في ذلك غضّاً منهم، ويستحب ذلك في وضع الريبة.

ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقّبه بل يكفّ عنه حتّى ينهي ما عنده.

ويكره أن يضيف القاضي أحد الخصمين دون صاحبه، لأنّ ذلك يكسب الخصم الضيف شيئاً من القوة.

ثمّ قال عن الرشوة: الرشوة حرام على آخذها، ويأثم الدافع إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل، ولو كان إلى حقّ لم يأثم ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.

ثمّ ذكر المحقّق الحليّ اُموراً في وظائف القاضي فقال: في وظائف القاضي وهي سبع :

الاُولى: التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم.

الثانية: لا يجوز أن يلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

الثالثة: يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمّن من إيحاش الآخر.

الرابعة: إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء، ويستحبّ ترغيبهما في الصلح، فإن أبيا حكم بينهما وإن أشكل أخّر الحكم حتّى يتّضح ولا حدّ للتأخير إلّا الوضوح.

الخامسة: إذا ورد الخصوم [ في المحكمة ] مترتّبين بدأ بالأوّل فالأوّل فإن وردوا جميعاً قيل يقرع بينهم.

السادسة: إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى، لم تسمع حتّى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثمّ يستأنف هو.

٣٣٧

السابعة: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى.

وهناك اُمور ذكرها على صعيد عمل القاضي جديرة بالمطالعة نترك ذكرها رعاية للإختصار.

وما ذكره هذا المحقّق وغيره من الفقهاء في آداب القضاء ووظائف القاضي ؛ خلاصة نصوص صريحة وردت في هذه المجالات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وقد اكتفينا بنقل ما ذكره الفقهاء في كتبهم تاركين نقل النصوص رعاية للإيجاز لكنّنا تيمّناً نذكر بعض هذه الأحاديث :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ابتُلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان »(١) .

وقال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لشريح: « لا تُشاور [ أو لا تسار ] أحداً في مجلسك، وإن غضبت فقم ولا تقضينّ وأنت غضبان »(٢) .

وقالعليه‌السلام : « من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النّظر وفي المجلس »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من الآخر فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء »(٤) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « الرشا في الحكم هو الكفر بالله »(٥) .

إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة على هذا الصعيد.

* * *

٤. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة

إنّ الأمر الرابع الذي يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الحسّاس والخطير في المجتمع هو وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة للقضاء لكي يقضي القاضي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦ ومثله في جامع الاُصول ١٠: ٥٤٩.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ١٨: أبواب آداب القضاء.

٣٣٨

وفقها.

وقد وفّر الإسلام هذه البرامج والقوانين العادلة الصالحة للقاضي وذلك بالتعاليم التي زخر بها الكتاب والسنّة وسيرة الأئمّة الطاهرين، ودوّنها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة المفصّلة بدقّة وعناية وتفصيل. فإنّ القاضي يجد في هذه المصادر والبرامج أدقّ الحقوق والحدود وأعدلها، ولو أخذ العالم في مجال القضاء بهذه البرامج والحقوق والحدود لعمّت العدالة كلّ أرجاء الأرض، ولساد السلام والأمن ولاختفى الظلم والجور والشر.

ولقد أكّد الإسلام على القضاة أن يقضوا على ضوء الكتاب والسنّة، وحرّم عليهم القضاء وفق أهوائهم وآرائهم الخاصّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى البرامج الكليّة في صعيد العمل القضائيّ.

وأمّا تمييز الحق عن الباطل والمحق عن المبطل والمظلوم عن الظالم ومن له الحقّ ومن عليه، فقد اعتمد الإسلام في تشخيصه وتمييزه على أوثق السبل وأكثر الوسائل اطمئناناً، وهو الاستشهاد بالبيّنات والأيمان فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أقضي بينكُم بالبّينات والأيمان »(١) .

نعم إنّ الاعتماد على هذا الأصل في إثبات الحقّ لا يمنع عن الاعتماد على غيرهما ممّا يفيد للقاضي علماً عاديّاً، ولأجل ذلمك قال الفقهاء: ويجوز للقاضي العمل بعلمه.

قال صاحب شرائع الإسلام: « الإمامعليه‌السلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق الله سبحانه على قولين أصحّهما القضاء »(٢) .

الشهادة والشهود

ولقد اشترط الإسلام في الشهود شروطاً من شأنها أن تمنعهم من شهادة الزور

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: أبواب كيفيّة الحكم، الإيمان جمع اليمين أي الحلف والقسم.

(٢) شرائع الإسلام في آداب القضاء.

٣٣٩

والإدلاء بما هو باطل وهذه هي الشروط :

١. البلوغ.

٢. كمال العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. إرتفاع التهمة فلا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً لنفسه.

وإليك نبذة عن الأحاديث في أهميّة وخطورة الشهادة وشروط الشاهد، فقد روي حول أهميّة الشهادة وخطورتها وعظيم مسؤوليّتها أحاديث تفوق الحصر وكلّها تشدّد على أمر الشهادة بالإجماع، ومن ذلك ما عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :

« من كتم شهادةً، أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.

ومن شهد شهادةً حقّ ليحيي بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه »(١) .

ثمّ قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : « ألا ترى أنّ الله عزّ وجلّ يقولُ:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) »(٢) .

وما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : « شاهد الزور لا تزولُ قدماهُ حتّى تجبُ لهُ النّارُ »(٣) .

وما روي عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من شهد شهادة زُور على أحد من النّاس عُلّق بلسانه مع المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار، ومن حبس عن أخيه المسلم شيئاً من

__________________

(١ و ٢ و ٣) وسائل الشيعة ١٨: أبواب الشهادات.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368