العلويون بين الاسطورة والحقيقة

العلويون بين الاسطورة والحقيقة10%

العلويون بين الاسطورة والحقيقة مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 368

  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 104516 / تحميل: 13415
الحجم الحجم الحجم
العلويون بين الاسطورة والحقيقة

العلويون بين الاسطورة والحقيقة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العلويون بين الاسطورة والحقيقة

هاشم عثمان

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

بين يدي هذه الطبعة الجديدة

هذه الطبعة جديدة بكلّ معنى الكلمة، وهي تختلف عن الطبعة السابقة كثيراً ؛ ذلك أنّا أعَدْنا النظر في مجمل فصول الكتاب، فأضفنا فقرات وحذفنا فقرات، وتناولتْ يد التعديل - بصورة خاصّة - القسم الثاني من الكتاب الذي يبحث عن عقائد النصيرية.

فأعَدنا صياغة هذا القسم من جديد، وعَرَضنا كلّ ما قيل حول النصيرية في القديم والحديث، وقارنّا بين هذه الأقوال وناقشناها مناقشةً هادئةً من واقع التاريخ، وفي المقابل عَرَضنا عقائد العلويين من خلال آثارهم الشِعرية والنثرية، وقدّمنا للقارئ نماذج من آثارِهم التي تُلقي الضوء على حقيقة معتقداتهم، وقد أضفنا إلى هذه الطبعة فصلاً جديداً بعنوان(النصيرية بين الغنوصية والعلي الَّهية والبكتاشية) بيّنا فيه بالأدلّة أنّ النصيرية تبتعد عن الغنوصية والعليالَّهية والبكتاشية كثيراً، لكنّها تقترب بعض الشيء من البكتاشية.

وبشكل عام بقيَ جوهر الكتاب كما هو، لم يطرأ عليه أيّ تغيير، لكنّ التعديل طالَ بعض الفصول من حيث المـَبنى لا المعنى، بحيث يمكن القول: إنّ هذه الطبعة هي طبعة مَزيدة ومنقّحة.

ولَمّا كان مجال القول حول العلويين واسعاً، لا تحيط به دراسة واحدة، فقد تابَعنا الحديث في دراسةٍ ثانية بعنوان(هل العلويون

٥

شيعة؟) (١) ، حيث تعتبر جزءاً من هذه الدراسة لا ينفصل عنها، وسنعقّبها بدراسةٍ ثالثة عن(تاريخ الجبل العلوي) ، عسانا بذلك أن نكون قد بيّنا حقيقة هذه الطائفة، التي اختلفت فيها الأقوال، وكثُر من حولها الهمس والغمز.

والله وليُ التوفيق.

المؤلّف

____________________

(١) صدرَ الكتاب عن مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات في بيروت.

٦

المقدّمة

لا نَعدو الحقيقة إذا قلنا: قليلةٌ هي الطوائف الإسلامية التي اتُّهمت في عقيدتها، مثل: الطائفة العلويّة أو النصيرية، كما يحلو للبعض أن يسمّيها جهلاً وتعصّباً.

والعاقل الأريب ليحار في تعليل تلك الغايات، التي يهدف إليها أُولئك المختلقون في القديم والحديث.

فهذه الطائفة - ككلّ الطوائف الشيعية التي تأخذ بمدرسة أهل البيت - واجهت حرباً شعواء من قِبَل الطواغيت، وطلاّب المـُلك العقيم على مرّ التاريخ، حتى أضحى أتباع هذه المدرسة في فتراتٍ مُظلمةٍ من تاريخنا مجرمون، تنزل بحقّهم أقسا العقوبات وأشدّ أنواع المظالم.

قتلٌ في النفوس، وسلبٌ في الأموال، وحرمان في الحقوق، وتبرئةٌ في الدين، وما لَهُم إلاّ موالاتهم لآل طه ذنبٌ، وقولهم: إنّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام هو صاحب الحقّ الأوّل في زعامة المسلمين الدينية والزمنية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الأحقّ بالخلافة مِن سواه، وأنّه وصيّ النبي ووزيره.

ولإعطاء فكرة عن المظالم التي حاقت بأتباع أهل البيت، أعرِضُ قصّة قنبر مولى الإمام عليعليه‌السلام مع الحجّاج بن يوسف الثفقي.

قال الحجّاج ذات يوم: أُحبّ أنْ أُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب (علي بن أبي طالب)، فأتقرّب إلى اللهِ بدَمه! فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صُحبة لأبي تراب من قنبر مولاه، فبعثَ في طلبه، فأُتي به.

٧

فقال له: أنت قنبر... قال: نعم، قال: أبو همدان... قال: نعم، قال: مولى علي بن أبي طالب، قال: الله مولاي، وأمير المؤمنين علي وليّ نعمتي، قال: اِبرَأ من دينه، قال: فإذا برئتُ من دينه تدلّني على دينٍ غيره أفضل منه،.. قال: إنّي قاتلكَ، فاختَر أيّ قتلة أحبّ إليك،.. قال: صيّرتُ ذلك إليك،.. قال: ولِمَ؟.. قال: لأنّك لا تقتلني قتلةً إلاّ قتلتكَ مثلها، وقد أخبَرني أمير المؤمنين أنّ منيّتي تكون ذَبحاً ظلماً بغير حقّ، فأُمرَ به، فذُبح.

هكذا كان يعامَل أشياع أهل البيت.

وكما تفنّن الحُكّام والولاة - من أمويين وعباسيين - في قَتل الشيعة، وغيرها من الفِرق الإسلامية، التي لا تأخذ بمذهب أهل السنّة الذي يدين به الحُكام، ويتعصّبون له، تفنّن المؤرّخون، وكتّاب الفِرق، وأرباب الأقلام، في تقسيم أُمّة الإسلام إلى فرقٍ كثيرة، وقسّموا الشيعة إلى فرقٍ كثيرةٍ جداً، زادَ عددها عند بعضهم على الثلاثمئة فرقة، وتفنّنوا أيضاً في إلصاق شتّى التّهم بتلك الفِرق، فنسبوا إليها جميعاً الزيغ والضلال، والكفر والزندقة، والمروق من الدين.

وفي الجهة المقابلة، كان جمهورُ المسلمين يتعرّض لمحاولات تعتيم شديدة على كلّ ما يجري حولَه، ويتعرّض لعمليات (غَسل دماغ) مستمرّة، يشترك فيها الحُكام والولاة والموالون لهم من الكتّاب،.. وقد نجحوا في ذلك نجاحاً باهراً، ومن أبلغ الأدلّة على ذلك القصّتين التاليتين:

الأُولى:

إنّه لَمّا حُمل السجّاد مع سائر سبايا أهل البيت إلى الشام، بعد مقتل سبط رسول الله الحسين، وأُوقفوا على مدرج جامع دمشق في محل عَرض السبايا، دَنا منه شيخ، وقال له: الحمد لله الذي قَتلكم وأهلككم، وأراحَ العباد من رجالكم، وأمكَن أمير المؤمنين منكم.

فقال له علي بن الحسين: (يا شيخ، هل قرأتَ القرآن؟).

٨

قال: نعم.

قال: أقرأتَ هذه الآية:( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) ؟

قال الشيخ: قرأتها.

قال: وقرأتَ قوله تعالى:( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى‏ حَقّهُ ) ، وقوله تعالى:( وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ فَأَنّ للّهِ‏ِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ؟

قال الشيخ: نعم.

فقال: نحنُ والله القربى في هذه الآيات، وهل قرأت قوله تعالى:( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ البَيتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ؟

قال: نعم.

قال: نحن أهل البيت الذي خصّنا بآية التطهير.

قال الشيخ: بالله عليكم، أنتم هُم...

قال: وحق جَدِّنا رسول الله إنّا لنحن هم.. من غير شكّ).

فبقيَ الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به، ثمّ رفعَ رأسه إلى السماء، وقال: الّلهم إنّي أتوبُ إليك من بغض هؤلاء، وإنّي أبرأ إليك من عدوّ محمد وآل محمد من الجنّ والإنس(١) .

الثانية:

إنّه لَمّا ظهرت دعوة أبي مسلم الخراساني، أرسلَ نصر بن سيار إليه رجلاً من بني ليث، ورجلاً من باهلة، يسألانه عن حاله، ودَعوته وسبب خروجه، فبعث أبو مسلم إلى سليمان بن كثير ووجوه مَن معه، فلمّا حضروه، قال لهم: إنّ هذين أتياني برسالة نصر، فكرهتُ أن أسمع منهما، أو أُجيبهما بشيء، حتى تحضروا ذلك. وقد حضرهم وقت الصلاة، فأذّنَ

____________________

(١) مقتل الخوارزمي: الجزء ٢، ص٦١، طبعة النجف.

٩

المؤذِّن، فقام أسلم بن أبي سلام، فقال له أبو مسلم: أين؟ قال: أتوضّأ وأعود، فقال لرسولَي نصر: ونحن نريد ذلك، فإن شئتما فأقيما حتى نفرغ من أمر صلاتنا، وإن كانت بِكُما حاجة إلى الوضوء فامضيا مع أسلم، حتى تقضيا حاجتكما ثمّ ننظر ما معه، ونتفرّغ فيما جئتما له.

فنهضا مع أسلم إلى منزله، فقال أحدهما: والله ما كنّا نحسبكم تصلّون! فقال أسلم: وَمن يُقيم الصلاة لحقّها غيرنا؟ ألستما تعرفاني قبل اليوم؟ قالا: بلى، قال: أفتَرياني كنتُ خارجاً عن الإيمان داخلاً في الكفر؟!

لا تغترّا بأقاويل مَن يشنّع علينا، فو الله إن أصبحَ الحقّ في شيء من المواطن يُدار به إلاّ في موضعنا هذا، الذي نحن فيه، فلا تَغبنا حظّكما منه.

فتوضّأ ودعا لهما بوضوء فتوضّيا وصلّيا، ثمّ دعَوا بهما إلى أبي مسلم، فدخلا عليه وهو يصلّي، فكبّرا وجلسا، ونظرَ أحدهما إلى سَنّور يتردّد في البيت، فكبّر.

فلمّا فرغَ أبو مسلم من صلاته، قال لهما: لِمَ كبّرتما؟ قال أحدهما:كان يقال لنا إنّكم لا تصلّون، وإنّكم تعبدون السنانير، فلمّا رأيناك تصلّي، ورأينا السنّور (مهيناً لديكم) عَلمنا أنّ ما يقال فيكم باطل (١) .

من هاتين القصّتين يتبيّن: أنّ جمهور المسلمين كان مُخدّراً تخديراً تامّاً، مأخوذاً بالدعايات المسمومة، التي كان الحُكام وولاتهم، والموالون لهم من الكتّاب ينفثونها، فكان ينظر إلى كلّ معارضٍ على أنّه كافرٌ ملحدٌ، لا يصلّي ولا يصوم، يرتكب الكبائر، ويبيح الحرمات،... وإنّ أمير المؤمنين (وحده) الذائد عن الدين، المتربّص (بالكَفَرة والزنادقة والمارقين).

وهكذا يتبيّن: أنّ دراسة أيّة فِرقة إسلامية بالاستناد إلى ما كتبه مؤرّخو تلك العهود، مسألة في غاية الصعوبة ؛ لضياع الحقيقة في ركام الدسّ والاختلاق التي تحفل به كتب هؤلاء المؤرّخين، بالإضافة إلى ما فيها من تناقضٍ وتضاربٍ في الأقوال والروايات.

وممّا يؤسف له: أنّ مفكّري الشيعة تأثّروا بدَوْرِهم بما كتَبه المؤرّخون

____________________

(١) أخبار الدولة العباسية: مؤلّف مجهول من القرن الثالث الهجري.

١٠

عن النصيرية، ووقَعوا بنفس تناقضاتهم وأخطائهم، ولو تحرّوا الدقّة في تلك الكتابات والأقوال، لَمَا فاتهم إدراك مراميها والقصد منها.

يقول ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) (١) :

ثمّ تفاقَم أمر الغلاة بعد المغيرة، وأمعنوا في الغلو، فادّعوا حلولَ الذات الإلهية المقدّسة في قومٍ من سلالة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقالوا بالتناسخ، وجَحدوا البعث والنشور، وأسقطوا الثواب والعقاب، وقال قومٌ منهم: إنّ الثوابَ والعقاب إنّما هو ملاذُ هذه الدنيا ومشاقّها، وتولّدت من هذه المذاهب القديمة - التي قال بها سلفهم - مذاهب أفحش منها قال بها خَلفهم، حتى صاروا إلى المقالة المعروفة بالنصيرية، وهي التي أحدَثها محمد بن نصير النميري، وكان من أصحاب الحسن العسكريعليه‌السلام .

وكان محمد بن نصير من أصحاب الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، فلمّا ماتَ ادّعى وكالة لابن الحسن، الذي تقول الإمامية بإمامته، ففضحهُ الله تعالى بما أظهره من الإلحاد والغلو والقول بتناسخ الأرواح، ثمّ ادّعى أنّه رسول الله، ونبيٌ من قِبَل الله تعالى، وأنّه أرسله علي بن محمد بن الرضا، وجَحد إمامة الحسن العسكري وإمامة ابنه، وادّعى بعد ذلك الربوبية، وقال بإباحة المحارم.

وقد أخذَ السيد هاشم معروف هذا الكلام، وردّده حرفياً في كتابه الموسوم(عقيدة الشيعة الإمامية)، ولا يخفى أنّ هذا القول يتناقض مع ما ذكره النوبختي في(فِرَق الشيعة) .

وعن النصيرية يقول صاحب العرفانالشيخ أحمد عارف الزين (٢) :

أمّا النصيرية أو العَلوية، فهُم طائفة من الشيعة، غالَوا في الإمام عليعليه‌السلام ، حتى قالوا به ما قالَه النصارى في المسيح، وبقوا في جهلٍ مطبَقٍ

____________________

(١) الجزء ٣ - ص١٢.

(٢) مجلّة العرفان: العدد ٥، المجلّد ٢٠، رجب ١٣٤٩، ك ١، ١٩٣٠.

١١

عدّة قرون، عائشين في عزلةٍ عن الناس، نافرين من غيرهم أشدّ النفور.

أمّا اليوم، فأصبحَ فيهم فريق من العلماء والأدباء، وكثيرٌ منهم يعتقدون العقائد الجعفرية، ومنهم مَن يعملون بها، ومَن يطالع تاريخ العلويين لا يرى فَرقاً بينهم وبين الشيعة الإمامية.

وكَتب الشيخمحمد حسين الزين العاملي يقول(١) :

وفي أيّام الحسن العسكريعليه‌السلام ظهرت (النصيرية)، أتباع محمد بن نصير الفهري أو النميري، وكَثروا بعد وفاة الحسن، ثمّ قلّوا، ولم يزَالوا كذلك إلى اليوم، وجُلّهم في جبال اللاذقية، وقد تبرّأ الحسن العسكري من عقائد ابن نصير وأتباعه.

لكن إلى جانب هذه الأقوال، نَجد نفراً من مفكّري الشيعة، قد برّأ ساحة النصيرية من كل التّهم التي أُلصقت بها زوراً، وأعلنَ صراحةً أنْ:(لا عَلوي بين العلويين) ، أي ليس بين العلويين مَن يعبُد الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، كالشيخ محمد جواد مغنية في كتابه(الفقه على المذاهب الخمسة)، وآخرون غيره.

* * *

وممّا تجدر الإشارة إليه: أنّ الطعن نالَ من كبار الشخصيات الشيعية، كهشام بن الحَكم، كما نالَ من غيرهم.

فابن قتيبة في(المعارف) يَعتبر سفيان الثوري من غلاة الروافض.

ومن المؤرّخين المحدَثين، رأينا عبد السلام رستم يَعتبر آل البيت من الغلاة، يقول في كتابه(أبو جعفر المنصور) - ص ٢٠ -:

وكانت الجمعية المتحالفة مكوّنة في بدء تأسيسها من أخوة ثلاثة، هُم:إبراهيم الإمام، والعباس، وأبو جعفر المنصور، وهُم أبناء محمد بن علي بن

____________________

(١) الطوائف المتشعّبة عن الشيعة وكيف تشعّبت: العرفان، ذو الحجة ١٣٥٤، آذار ١٩٣٦.

١٢

العباس، ومعهم عبد الله بن علي، وابنه محمد (ذو النفس الزكية)، وأخوه إبراهيم، وغيرهم من الغلاة.

لكلّ ذلك لم نأخذ أقوال المؤرّخين ودارِسي الفِرق والمِلل والمذاهب على علاتها، بل أخضعناها للمناقشة والتمحيص، وعَقَدنا المقارنات بين الأقوال ؛ لنستطيع أن نستخلص أقربها إلى الحقيقة.

ولئن كانت قد ظهرت دراساتٍ شتّى عن الفِرق الإسلامية: كالإسماعيلية، والأباضية، والقرامطة، والدروز، والخوارج، والمعتزلة وغيرهم ؛ فإنّ العلويين لم يصدر عنهم أيّ دراسة كاملة شاملة دقيقة، تُظهر هذه الِفرقة على حقيقتها.

وسدّاً لهذا النقص قُمنا بهذه الدراسة، وهدفنا منها:الكشف عن (أسرار) هذه الفِرقة الإسلامية، التي حارَ بأمرِها المؤرّخون، وذهبت أقوالهم فيها كلّ مذهب.

والطريق التي سلكناها في البحث تتلخّص بما يلي:

أوّلاً: تحدّثنا عن الإيمان، وبيَّنا الاختلافات حول تحديد مفهوم الإيمان وتعريفه، وألمـَعنا إلى أنّ الإيمان والإسلام واحد، فلا يصحّ في الشرع أن يُحكم على أحدٍ أنّه مؤمنٌ وليس بمسلمٍ، أو مسلمٌ وليس بمؤمنٍ.

ثمّ تحدّثنا عن الفِرق الإسلامية، واختلافات أصحاب الفِرق في عددها، وفي أسمائها، وفي نسبتها، وفي مقالاتها.

إذ من الملاحَظ أنّ ثمّة خلافٍ كبيرٍ بين أصحاب الفِرق في عدد هذه الفِرق، فمنهم مَن هبطَ بالعدد إلى (١١) فرقة كابن قتيبة في(المعارف) ، على حين جَعل البعض الآخر عدد فِرق الشيعة - فقط - أكثر من ثلاثمئة فِرقة.

ومن جهةٍ أُخرى، فإنّ أصحاب الفِرق لم يتّفقوا فيما بينهم على أسماء تلك الفِرق، فنَجد الواحد منهم يذكر فِرَقاً لم يذكرها الباقون.

وشمل الاختلاف أيضاً نسبة الفِرقة الواحدة، فكلّ واحد من أصحاب الفِرق ينسبها إلى شخصٍ يختلف اسمه من واحدٍ إلى آخَر.

١٣

وتحدّثنا بعدئذٍ عن الفِرق التي اختلفوا في مقالاتها، مُنوّهين بأنّ الاختلاف في مقالات الفِرق كان على نوعين:

الأوّل: اختلاف جزئي، يتمثّل في إضافاتٍ قليلةٍ ذَكرها الواحد دون الآخَر.

الثاني: اختلاف كلّي، بحيث يتضادّ قول الواحد مع أقوال الآخَرين.

وانتقلنا بعد ذلك إلى الحديث عن: أصلِ تسميةِ النصيرية، وتاريخ ظهور النصيرية، ومَواطن النصيرية، لننتقل من ثَمّ إلى الحديث عن عقائد النصيرية.

وتحت هذا العنوان تحدّثنا عمّا كَتبه الشهرستاني في(المِلل والنِحل) ، وابن الأثير في(الكامل) ، وأوردنا نصّ السؤال الذي وجّهه مجهول إلى ابن تيمية، وردّ هذا الأخير عليه، ثمّ ذكرنا ما ذكره القلقشندي في(صبح الأعشى).

مع مقارنة هذه الأقوال مع بعضها البعض، وتبيان ما فيها من اختلاف وتناقض.

ثمّ تحدّثنا عن النصيرية عند المؤرّخين المحدَثين، وحَصرنا كتابات هؤلاء في عدّة اتجاهات:

الاتجاه الأوّل: ترديد ما قاله الشهرستاني في الملل والنحل على الانقياد والتسليم.

الاتجاه الثاني: ترديد ما قاله القلقشندي في صبح الأعشى إمّا كلياً أو جزئياً.

الاتجاه الثالث: يخلط أصحابه في حديثهم عن النصيرية ما بينها وبين الإسماعيلية.

الاتجاه الرابع: أصحاب هذا الاتجاه نوّعوا مصادرهم، فلم يقفوا عند مصدرٍ واحد.

١٤

الاتجاه الخامس: عكس الآراء السابقة تماماً، وأصحابه يُبرّئون ساحة النصيرية، وينفون عنها التّهم التي أُلصقت بها.

ولمـّا كان المؤرّخون - القدماء منهم والمحدَثون - لم يستندوا فيما كَتبوا عن النصيرية إلى كتابات رجالات هذه الفرقة، فقد أفردنا فصلاً خاصّاً، تحدّثنا فيه عن العلويين من خلال آثارهم ؛ ذلك أنّ العلويين ككل شعبٍ من الشعوب، أنتجوا خلال تاريخهم أدباً، شِعراً كان أم نثراً، فتتبّعنا ما كتبوه، وأثبتنا الشواهد الشِعرية والنثرية التي تتضمّن تاريخهم ومعتقداتهم.

ومن هذه الشواهد استخلصنا أهمّ عقائد العلويين.

وبذلك نكون قد قدّمنا للقارئ هذه الفرقة من خلال جميع الأقوال التي قيلت فيها، وبالاستناد إلى أقوال رجالاتها هي.

وعسانا نكون قد وفِّقنا في إظهار هذه الفرقة الإسلامية على حقيقتها.

والله وليّ التوفيق.

هاشم عثمان

١٥

١٦

الإيمانُ والإسلام

إنّ دراسة أيّة فرقةٍ من الفِرق الإسلامية الكثيرة - التي عرفتها أُمّة الإسلام - مرتبط من قريبٍ أو بعيد بموضوع الإيمان.

ومفهوم الإيمان أمرٌ عسير ؛ لأنّه يتعلّق بجوهر الديانة ذاتها، فلا غرابة أن يخوض في ذلك أصحاب الديانات بصفة عامّة من عهودٍ بعيدة إلى يوم الناس هذا(١) ، وقد اختلفَ الفقهاء قديماً وحديثاً في تحديد مفهوم الإيمان وفي تعريفه، فمن قائلٍ: إنّ الإيمان قولٌ باللسان وإن اعتقدَ الكفر بقلبه، فهو مؤمنٌ عند الله عزّ وجل من أهل الجنّة، وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه.

ومن قائلٍ: إنّ الإيمان عقدٌ بالقلب وإن أعلنَ الكفر بلسانه بلا تقية، وعَبَد الأوثان، أو لزِم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام، وعَبَد الصليب، وأعلن التثليث، وماتَ على ذلك، فهو مؤمنٌ كامل الإيمان عند الله عزّ وجل من أهل الجنّة، وهذا قول جهم بن صفوان والأشعري(٢) .

____________________

(١) سعد غراب: مفهوم الإيمان عند الفِرق الإسلامية، مجلّة الفكر الإسلامي، ربيع الأوّل ١٣٩٥هـ.

(٢) ابن حزم: الفصل في المِلل والأهواء والنحل.

١٧

ومن قائلٍ: إنّ أُمّة الإسلام جامعة لكلّ مَن أقرّ بشهادَتي الإسلام لفظاً، فكل مَن قال: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، فهو مؤمنٌ حقّاً، وهو من أهل الإسلام، سواء كان مخلصاً فيه، أو منافقاً يضمر الكفر فيه والزندقة(١) .

وأشمل تعريف للإيمان: هو تعريف الإمام عليعليه‌السلام له.

قال الإمام عليعليه‌السلام :

(الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد. والصبرُ منها على أربع شُعب: على الشوق، والشَفق، والزهد، والترقّب.

فمَن اشتاقَ إلى الجنّة سلا عن الشهوات، ومَن أشفقَ من النار اجتنبَ المحرّمات، ومَن زهدَ في الدنيا استهانَ بالمصيبات، ومَن ارتقبَ الموت سارع إلى الخيرات.

واليقينُ منها على أربع شُعب: على تبصرة الفطنة، وتأوّل الحكمة، وموعظة العِبرة، وسُنّة الأوّلين. فمَن تبصّر في الفطنة تبيّنت له الحكمة، ومَن تبيّنت له الحكمة عرفَ العِبرة، ومَن عرفَ العِبرة فكأنّما كان في الأوّلين.

والعدلُ منها على أربع شُعب: على غائص الفَهم، وغور العلم، وزهرة الحكم، ورساخة الحلم. فمَن فَهم عَلِم غور العلم، ومَن عَلِم غور العلم صدرَ عن شرائع الحكم، ومَن حلم لم يفرط في أمره وعاشَ في الناس حميداً.

والجهاد منه على أربع شُعب: على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين. فمَن أمرَ بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين، ومَن نهى عن المنكر أرغمَ أنوف المنافقين، ومَن صَدق في المـَواطن قضى ما عليه، ومَن شنأ الفاسقين وغضبَ لله أرضاه يوم القيامة.

____________________

(١) البغدادي: الفَرقُ بين الفِرق.

١٨

والكفر على أربع دعائم: على التعمّق، والتنازع، والزيغ، والشقاق. فمَن تعمّق لم ينب إلى الحق، ومَن أكثَر نزاعه بالجهل دام عَماه عن الحق، ومَن زاغَ ساءت عنده الحسنة وحسنت عنده السيّئة وسَكرَ سكر الضلالة، ومَن شاقَ وعَرت عليه طُرقه، وأعضلَ عليه أمره وضاقَ عليه مخرجه.

والشك على أربع شُعب: على التماري والجهل، والهول، والتردّد، والاستسلام. فمَن جعل المراء ديدَناً له لم يصبح لَيله، ومَن هالَه ما بين يديه نكص على عقبيه، ومَن تردّد في الريب وطَأَته سنابك الشياطين، ومَن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلكَ فيهما).

والإيمان المجمل يتمّ بشهادةٍ واحدة عند أبي حنيفة، ثمّ يجب عليه الثبات والتقرير بأوصاف الإيمان، وعند الشافعي يتمّ بشهادتين، ثمّ يجب عليه سائر أوصاف الإيمان وشرائطه، ولم يثبت التقيّد من الشارع بلفظ أشهد أن لا إله إلاّ الله، بل يصحّ بكل لفظٍ دالٍّ على الإقرار والتصديق، ولو بغير العربية مع إحسانها، وكذا يصحّ بترك القول(١) .

وقد وضَع أبو حنيفة القاعدة:(أهلُ القبلة كلّهم مؤمنون، ولا يُخرجهم من الإيمان ترك شيء من الفرائض) .

والغزالي يزيد تحديداً، فيقول: (اعلَم أنّ شرح ما يكفر به ولا يكفر يستدعي تفصيلاً طويلاً، فاقتنِع الآن بوصية وقانون. أمّا الوصية، فأنْ تكفّ لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ما داموا قائلين لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، وأمّا القانون فهو أن تعلم أنّ النظريات قسمان: قسمٌ يتعلّق بأُصول القواعد، وقسمٌ يتعلّق بالفروع.

وأصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله، ورسوله، وباليوم الآخر، وما عداه فروع، واعلم أنّه لا تكفير في الفروع أصلاً، إلاّ في مسألةٍ واحدةٍ هي: أن ينكر أصلاً دينياً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتواتر، ولكن في بعضها تخطئة، كما في الفقهيات، وفي بعضها

____________________

(١) الكفوي: الكليات.

١٩

تبديع...)(١) .

والإيمان والإسلام واحد ؛ لأنّ الإسلام هو الخضوع والانقياد، بمعنى قبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التصديق على ما مرّ.. ويؤيّده قوله تعالى:( فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (الذاريات: ٣٥ - ٣٦).

وبالجملة: لا يصحّ في الشرع أن يحكم على أحدٍ أنّه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، فالإيمان لا ينفكّ عن الإسلام حُكماً، فلا يتغايران(٢) .

خلاصة القول: يتبيّن ممّا تقدّم:

١ - إنّ الإيمان والإسلام واحد، فلا يصحّ في الشرع أن يحكم على أحدٍ أنّه مؤمنٌ وليس بمسلمٍ، أو مسلمٌ وليس بمؤمنٍ.

٢ - إنّ الإيمان هو الإقرار باللسان، فمَن نطَق بالشهادتين وهما: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله صارَ مسلماً، أي مواطناً في دولة الإسلام، وتمتّع بجميع الحقوق التي يتمتّع بها المسلم(٣) .

من هذا المفهوم للإيمان - وعلى أساسه - تكون دراسة أيّة فرقة من الفِرق الإسلامية الكثيرة وتقويمها.

____________________

(١) عبد الحليم الجندي: الشريعة الإسلامية.

(٢) السعد التفتازاني: شرح العقائد النفسية.

(٣) علي الطنطاوي: تعريف عام بدين الإسلام.

٢٠

الفِرقُ الإسلامية والاختلاف حولها

(افترَقَت أُمّة موسى على إحدى وسبعين فرقة، فرقةٌ ناجية والباقون في النار، وافترَقت أُمّة عيسى على اثنين وسبعين فرقة، فرقة ناجية، والباقون في النار، وستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة واحدة ناجية، والباقون في النار، قيل: مَن الناجية يا رسول الله؟ قال: ما أنا وأصحابي عليه اليوم).

هذا الحديث، كان نقطةُ البدء في تقسيم أُمّة الإسلام إلى فرقٍ كثيرة جداً، إذ استغلّه أصحاب الأهواء والنزعات، لِبَثّ الفرقة بين أبناء الأُمّة الواحدة، وكان هدف هؤلاء - على ما يبدو - تفريغ الدين الإسلامي القويم من خاصيّته، وإظهاره بصورة آراء متنافرة متضاربة، لا اتّفاق بينها، ولا انسجام.

ومن الملاحظ، أنّ الكتابة عن الفِرق الإسلامية في آثار الأقدَمين التي وصلت إلينا، جاءت على شكلين:

الأوّل:

عرَضيّاً في سياق الحديث عن موضوعٍ من المواضيع، فدراسة الفِرق في هذه الحالة لم تكن مقصودة لذاتها، وهذا ما نلمسه عند:

٢١

الجاحظ في(الحيوان) ، ابن قتيبة في(المعارف) ، الرازي في(الزينة) ، البلخي في(البدء والتاريخ) ، المسعودي في(مروج الذهب) ، ابن عبد ربّه في(العقد الفريد) ، المقدسي في(أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) ، ابن الجوزي في(تلبيس إبليس) ، المقريزي في(الخطط المقريزية)، وغيرهم... وغيرهم...

الثاني:

دراسة الفِرَق مقصودة بذاتها، مستقلّة عن أيّ موضوع آخَر، وهذا ما نَجده في:

(فِرَق الشيعة) للنوبختي، و(التنبيه والرد على أهل الأهواء والبِدع) للملطي، و(الفَرق بين الفِرَق) للبغدادي، و(الفصل في المِلل والأهواء والنِحل) لابن حزم الأندلسي، و(مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين) للأشعري، و(التبصير في الدين وتمييز الفِرَق الناجية عن الفِرَق الهالكين) للأسفرايني، و(المِلل والنِحل) للشهرستاني، و(اعتقادات فِرَق المسلمين والمشركين) لفخر الدين الرازي و... و... وغيرهم وغيرهم...

وكل مَن يمعن النظر في كتابات أصحاب الفِرق يجد أنّهم قد اختلفوا فيما بينهم في:1 - عدد الفِرق 2 - وفي أسمائها 3 - وفي نسبتها 4 - وفي مقالاتها.

أوّلاً - عددُ الفِرَق:

لم يتّفق كُتّاب الفِرَق على عدد هذه الفِرَق، فابن قتيبة في(المعارف) لم يذكر غير إحدى عشرة فرقة، على حين أنّ بعض كتّاب الفِرق تجاوزوا في العدد رقم (73)، والبعض منهم عدّ أكثر من ثلاثمئة فرقة، ومنهم مَن جعلَ فِرق الشيعة وحدها أكثر من ثلاثمئة فرقة.

حتى أنّ بعضهم - المقريزي - جعلَ عدد فِرق الرافضة ثلاثمئة فرقة.

٢٢

وقد برّرَ فخر الدين الرازي الزيادة في عدد الفِرق بقوله: (فإن قيل: إنّ هذه الطوائف التي عددهم أكثر من ثلاث وسبعين، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يُخبِر بأكثر، فكيف ينبغي أن يعتقد في ذلك؟

والجواب عن هذا: أنّه يجوز أن يكون مرادهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذكر الفِرق، الفِرَق الكبار، وما عَدَدْنا من الفِرق ليست من الفِرق العظيمة، وأيضاً فإنّه أخبرَ أنّهم يكونون على ثلاث وسبعين فرقة لم يجز أن يكونوا أقل، وأمّا إذا كانت أكثر فلا يضرّ ذلك، وكيف لم نذكر في هذا المختصر كثيراً من الفِرق المشهورة، ولو ذكرناها كلّها مستقصاة لجازَ أن يكون أضعاف ما ذكرنا، بل ربّما وجِد في فرقة من فِرق الروافض - وهم الإمامية - ثلاث وسبعون فرقة).

ثانياً - أسماءُ الفِرَق:

ومن جهة أُخرى ؛ فإنّ كل واحد من الذين تصدّوا للكتابة عن الفِرق الإسلامية، ذَكر فِرَقاً لم يذكرها غيره.

فالنوبختي في(فِرَق الشيعة) ذكرَ: الماصرية، والحسينية، والنفيسية.. ولم يذكرها غيره.

والرازي في(الزينة) ذكر: الشمرية، والطاحنية، والنهدية، ولم نَجد لها ذكراً عند غيره.

والبلخي في(البدء والتاريخ) ذكرَ: الكرنبية، واليعفورية، والقحطبية، والطيارة، والخشعبية، ولم يذكرها غيره.

والملطي في(التنبيه والرد) ذكر: الجمهورية، والسرية، والضررية، والتغلبية، والنجرانية، والعطوية، والجعدية، ولم نجدها عند غيره.

والمقدسي المعروف بالبشاري في(أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) ذكر: المنذرية، والراهوية، والعطائية، والأبيضية، والسرخسية، والكلابية، والشفعوية، والداودية، ولم يذكرها سواه.

٢٣

وابن الجوزي في(تلبيس إبليس) ذكر: الكنزية، والأحمرية، والوهمية، والناكثية، والقاسطية، والملتزقة، والواردية، والمخلوقية، والفانية، والقبرية، واللفظية، والتاركية، والراجية، والمنقوصية، والمستثنية، والآمرية، واللاعنة، والمتربّصة، والمضطربة، والأفعالية، والمفروغية، والحبية، والخوفية، والفكرية، والمعية، والمتأنية، ولم يذكرها غيره.

وفخر الدين الرازي في(اعتقادات فِرَق المسلمين والمشركين) ذكرَ: الأخشيدية، والناموسية، والعمادية، والعسكرية، والبنانية، والخالدية، واليونانية، والسورمية، والحوارية، والسبعية، والأزلية، والحماقية، ولم يذكرها غيره.

والمقريزي في(الخطط) ذكر: المزدارية، والجولقية، والبطيخية، والصباحية، والمجدرية، والزيادية، والبسلمية، والأهومية، ولم نجد لها ذكراً عند غيره.

والجيلاني في(توفيق التطبيق) ذكر: المرتاضون، والمشاؤون، ولم يذكرها سواه. إلخ... إلخ...

ثالثاً - نسبةُ الفِرَق:

ثمّة فِرَق عديدة اختلفَ أصحاب الفِرق في نسبتها، منها على سبيل المثال:

البيانية:

نَسَبَها كلٌ من النوبختي والرازي إلى بيان النهدي.

أمّا الملطي، فقال: سُموا بيانية ببيانٍ قالوا...

بينما نَسبها البغدادي، ومثله الإسفرايني والشهرستاني إلى بيان بن سمعان التميمي.

٢٤

الحارثية:

قال الرازي، ومثله النوبختي: إنّها تنتسب إلى عبد الله بن الحارث.

البغدادي، ومثله الإسفرايني ذكر: أنّهم أتباع حارث بن مزيد الأباضي.

العجلية:

النوبختي والرازي ينسبونها إلى هارون بن سعيد العجلي.

والشهرستاني ينسبها إلى عمير بن بيان العجلي.

أمّا البغدادي، فيُطلق على أتباع عمير بن بيان العجلي اسم (العجرية).

البشرية:

قال النوبختي: إنّهم أصحاب محمد بن بشير.

وأمّا البغدادي، ومثله الشهرستاني، وفخر الدين الرازي، فقالوا: إنّهم أتباع بِشر بن المعتمر.

الأزارقة:

قال كلٌ من الرازي، والإسفرايني، والبغدادي، والشهرستاني: إنّهم أصحاب نافع الأزرق.

أمّا الملطي، فقال: إنّهم أصحاب عبد الله بن الأزرق.

بينما قال فخر الدين الرازي: أتباع أبي نافع راشد الأزرق.

رابعاً - مقالاتُ الفِرق:

الأهمّ من الاختلاف في عدد الفِرق، وفي نسبتها: الاختلاف في مقالات تلك الفِرق، وهذا الاختلاف جاء على أحد شكلين:

٢٥

جزئي: يتمثّل في إضافاتٍ قليلة على قول الفرقة الواحدة، ذكرها كاتب دون أن يذكرها الآخر.

كلّي: بحيث يتضاد قول الواحد من أصحاب الفِرق، مع ما ذكره غيره عن نفس الفرقة.

والفِرق التي اختلفوا في مقالاتها كثيرةً جداً جداً، منها على سبيل المثال:

الخطّابية : يذكر النوبختي في(فِرَق الشيعة) : وأمّا أصحاب أبي الخطّاب محمد بن أبي زينب الأجدع الأسدي، ومَن قال بقولها، فإنّهم افترقوا لمـّا بلغهم أنّ أبا عبد الله جعفر بن محمدعليه‌السلام لعنَه، وبريء منه ومن أصحابه، فصاروا أربعَ فِرق، وكان أبو الخطاب يدّعي أنّ أبا عبد الله جعفر بن محمّدعليه‌السلام جعله قيّمه ووصيّه من بعده، وعلّمه اسم الله الأعظم، ثمّ ترقّى إلى أن ادّعى النبوّة، ثمّ ادّعى أنّه من الملائكة، وأنّه رسول الله إلى أهل الأرض والحجّة عليهم.

أمّا الرازي في(الزينة) فيقول: الخطّابية نُسبوا إلى أبي الخطّاب، واسمه محمد بن زينب الأسدي الأجدع، وكان يقول بإمامة إسماعيل بن جعفر في حياة أبيه جعفر، فلمّا مات إسماعيل رجعوا إلى القول بإمامة جعفر، وغَلَوا في القول غُلواً شديداً، وخرجَ أبو الخطّاب في حياة جعفر بالكوفة في المسجد، في زمن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن العباس، وأظهرَ الدعوة إلى جعفر، فتبرّأ منه جعفر ولعنهُ ودعا عليه، وقُتل هو وأصحابه كلّهم.

وكان أبو الخطّاب يقول بإلوهية جعفر، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً، وثبتَ قومٌ من أهل مقالته بعده على القول بذلك، وقالوا في الأئمة كلّهم بالغلو الشديد، وخرَجت فِرقة منهم إلى القول بإمامة محمد بن إسماعيل بعد أبيه إسماعيل، وزعموا أنّ أبا الخطّاب أمرَهم بذلك، ودلّهم عليه.

الملطي في(التنبيه والرد) يقول: وهُم يزعمون أنّ أبا بكر وعمر

٢٦

(رضي الله عنهما) الجبت والطاغوت، وكذلك الخمر والميسر عليهم لعنة الله، وقد فسّروا في كتاب الله أشياءً كثيرةً ما يشبه هذا.

وعن الخطّابية يقول الشهرستاني في(المِلل والنحل): أصحاب أبي الخطّاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع، مولى بني سعد.

زعمَ أبو الخطّاب أنّ الأئمة أنبياء، ثمّ آلهة، وقال بإلهية جعفر بن محمد، وإلهية آبائه رضي الله عنهم، وهم أبناء الله وأحبّاؤه.

والإلهية نورٌ في النبوّة، والنبوّة نورٌ في الإمامة، ولا يخلو العالَم من هذه الآثار والأنوار، وزعمَ أنّ جعفراً هو الإله في زمانه، وليس هو المحسوس الذي يرونه، ولكن لمـّا نزلَ إلى هذا العالَم لَبس تلك الصورة فرآه الناس فيها.

وعن هذه الفرقة، يقول فخر الدين الرازي في(اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين): وهُم يزعمون أنّ الله تعالى حلّ في علي، ثمّ في الحسن، ثمّ في الحسين، ثمّ في زين العابدين، ثمّ في الباقر، ثمّ في الصادق، وتوجّه هؤلاء إلى مكّة زمن جعفر الصادق وكانوا يعبدونه، فلمّا سمعَ الصادق بذلك، فأبلغَ ذلك أبا الخطّاب، وهو رئيسهم، فزعمَ: أنّ الله تعالى قد انفصلَ عن جعفر، وحلّ فيه، وأنّه هو أكمل من الله تعالى، ثمّ إنّه قُتل.

الخلفية: وهي إحدى فِرق (العجاردة):

يقول عنها البغدادي في(الفَرق بين الفِرق) : لا يرون القتال إلاّ مع إمامٍ منهم، وقد كفّوا أيديهم عن القتال ؛ لفَقدهم مَن يصلح للإمامة منهم.

وصارت الخلفية إلى قول الأزارقة في شيءٍ واحد، وهو: دعواهم أنّ أطفال مخالفيهم في النار.

ومثل هذا القول، نقلَ الأسفرايني في(التبصير في الدين) : أمّا الشهرستاني، فقال في(المِلل والنحل): خالَفوا الخمرية في القولِ بالقدر، وأضافوا القَدر خَيره وشَرّه إلى الله تعالى، وسلكوا في ذلك مسلك أهل السنّة، وقالوا: الخمرية ناقضوا، حيث قالوا: لو عذّب الله العباد على أفعالٍ قدّرها عليهم، أو على ما لم يفعلوه، كان ظالماً، وقضَوا بأنّ أطفال

٢٧

المشركين في النار، ولا عملَ لهم ولا تَرك، وهذا من أعجب ما يعتقد من التناقض. ابن الجوزي في(تلبيس إبليس) يقول عن الخلفية: زعموا أنّ مَن تركَ الجهاد من ذكر وأنثى، فقد كَفر.

وعنها يقول فخر الدين الرازي في(اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين) : وهُم لا يرون أنّ الخير والشر من الله تعالى.

* * *

إنّ اختلاف كتّاب الفِرق، في عدد الفِرق، وفي أسمائها، وفي نسبتها، وفي مقالاتها، ذلك الاختلاف البيّن يجعلنا نشكّ في وجود هذه الفِرق أصلاً، خاصّةً وأنّه قد ثبتَ بالتدقيق أنّ ثمّة فِرقاً كثيرة مُبتَدعة لا وجود لها في دنيا الواقع: كالكيسانية، والكرنبية، والحارثية، والمعمرية، والمزيغية، والراوندية، والأبي مُسلمية، والأبي هريرية(1) ... كما ثبتَ أيضاً: أنّ ثمّة شخصيات زعموا أنّ لها تأثيراً كبيراً في الفِرق ومقالاتها، كانت مختلقة، لا مكان لها بين البشر، كعبد الله بن سبأ مثلاً.

وما يهمّنا في هذا المقام: هو المبحث عمّا إذا كان هنالك فرقة تسمّى بالنصيرية، أمْ أنّ هذا الاسم هو واحدٌ من أسماء عديدة، أُطلقت على فرقةٍ واحدة، خاصّةً وأنّ كتُب الفِرق حَملت إلينا أكثر من اسم لبعض الفِرق، مثالُ ذلك: يذكر أبو حاتم الرازي في(الزينة) : إنّ للمارقة خمسة ألقاب، يقال لهم: المارقة، والشراة، والخوارج، والحرورية، والمحكمة.

وفي حديثه عن السبأية يذكر: (ولهم في كلِ بلدٍ (لقب) يُلقّبون به، وهُم يسمّون ببلاد أصبهان الخرمية والكوذلية، وبالري وغيرها من أرض الجبال المزادكة والسنباذية وبالماهين المحمرة، وبأذربيجان الدقولية).

كما يذكر الغزالي في(المستظهري) ، وابن الجوزي في(المنتظم)

____________________

(1) عبد الواحد الأنصاري: مذاهب ابتدعتها السياسة في الإسلام.

٢٨

وآخَرون غيرهما: أنّ ألقاب الإسماعيلية التي تداولتها الألسنة على اختلاف الأمصار والأزمنة، هي: الإسماعيلية، والباطنية، والقرامطة، والخرمية، والبابكية، والمحمرة، والسبعية، والتعليمية...

٢٩

أصلُ التسمية

ليس من السهل معرفة أصل تسمية (نصيرية)، ولا من أين جاء ذلك ؛ لأنّ الأقوال فيها متناقضة، وهي إلى جانب تناقضها لا تستند إلى دليلٍ مُقنع، ولا تخرج عن نطاق التخمين والتكهّنات.

الأكثرون يُرجعونها إلى محمد بن نصير، أحد دُعاة، أو أشياع، أو أصحاب، أو بوّاب الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ، لكنّ أصحاب هذا الرأي يختلفون فيها بينهم اختلافاً كبيراً حول اسم محمد بن نصير وكُنيته.

وها هي أسماء الرجل وكُناه، كما وردتنا على ألسِنتهم:

محمد بن نصير.

محمد بن نصير النميري.

أبو شعيب محمد بن نصير البصري النميري.

محمد بن نصير الكوفي.

أبو شعيب بن نصير البصري النميري.

ابن نصير.

محمد بن شعيب البصري.

محمد بن نصير الفهري أو النميري.

أبو شعيب محمد بن نصير العبدي البكري النميري.

٣٠

وهناك مَن يشكّك في نسبة هذه التسمية إلى محمد بن نصير، دون أن يبيّن سبب تشكّكه مصرّحاً بأنّه لا يوجد ما يثبت هذا القول(1) .

ونحن مع هذا الرأي ؛ لجملة من الأسباب هي:

أوّلاً : كُتّاب الفِرق الأقدمون لم ينسبوا هذه الفرقة إلى محمد بن نصير، كما أنّهم لم ينسبوها إلى شخصٍ معيّن بالذات.

ثانياً : محمد بن نصير - كما تذكر كتب التراجم - توفي سنة 259هـ/ 873م، بينما اصطلاح النصيرية وردَ ذكره أوّل مرّة - في أوائل المئة الرابعة للهجرة - على لسان حمزة بن علي، أحد مؤسّسي المذهب الدرزي، في(الرسالة الدامغة في الرد على الفاسق النصيري)، وعلى لسان أبي العلاء المعري في(رسالة الغفران) ، و(اللزوميات) .

ثالثاً: أتباع محمد بن نصير يسمّون بالنميرية، على ما يذكر النوبختي المتوفّى سنة 288هـ، إذ يقول:

(وقد شذّت فِرقة من القائلين بإمامة علي بن محمد في حياته، فقالت: بنبوّة رجلٍ يقال له محمد بن نصير، وكان يدَّعي أنّه نبيٌ بعثه أبو الحسن العسكريعليه‌السلام ، وكان يقول بالتناسخ والغلو في أبي الحسن، ويقول فيه بالربوبية، ويقول بالإباحة للمحارم، ويحلّل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم، ويزعم أنّ ذلك من التواضع والتذلّل، وأنّه إحدى الشهوات والطيّبات، وأنّ الله عزّ وجل لم يحرّم شيئاً من ذلك، وكان يقوّي أسباب هذا النميري محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، فلمّا توفي قيل له في علّته - وكان اعتقلَ لسانه -: لِمَن هذا الأمر من بعدك؟ فقال: لأحمد، فلم يدروا مَن هو؟ فافترقوا ثلاث فِرق:

(فرقة) قالت: إنّه أحمد ابنه، و(فرقة) قالت: هو أحمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، و(فرقة) قالت: أحمد بن أبي الحسين محمد بن محمد بن بشر بن زيد، فتفرّقوا فلا يرجعون إلى شيء،

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام.

٣١

وادّعى هؤلاء النبوّة عن أبي محمد، فسمّيت النميرية)(1) .

رابعاً: إذا أمعَنا النظر في ما كَتبه الشهرستاني عن النصيرية، نَجد أنّه استعملَ صيغة الجمع، (لهم جماعة ينصرون مذهبهم، ويذبّون عن أصحاب مقالاتهم)، بحيث يُفهم من ذلك أنّ أصحاب مقالة النصيرية أكثر من شخصٍ واحد.

ثمّة آراء أُخرى قليلة ترى أنّ تسمية نصيرية، نسبةً إلى نصير غلام الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويبدو لنا خطل هذه الآراء، إذا عَلمنا أنّ أيّاً من كُتب التاريخ أو سواها، لم تذكر أنّ للإمام علي غلاماً يسمّى نصيراً.

ومن بين الآراء المطروحة رأيٌ مفرد، يعزو هذه التسمية إلى تغلب اسم الجبل على هذه الفئة(2) ، والمقصود بالجبل:جبل النصيرية .

ويبدو أنّ هذا الاسم قد حرِّف إلى نصيرية.

والذي يُعزّز القناعة بصحة هذا الرأي هو: أنّ إطلاق اسم نصيرية على هذا الجبل، لم يظهر إلاّ أثناء الحَملات الصليبية، أي بعد عام 488هـ (1096م)، أي ما قبل هذا التاريخ، فكان الاسم الشائع لهذا الجبل هو جبل اللكام.

يقول الاصطخري: (وكورة الشام هي من حدّ فلسطين، وحدّ الشام، وثغور الجزيرة جبل اللكام، وهو الفاصل بين الثغرين، وجبل اللكام داخل في بلد الروم، وينتهي إلى نحو مئتي فرسخ، ويظهر في بلاد الإسلام من مرعش والهارونية وعين زربة، فيسمّى لكام إلى أن يجاوز اللاذقية)(3) .

فإذا كانت الحروب الصليبية بدأت سنة 488هـ وانتهت سنة 690هـ، وإذا كان الشهرستاني ولِد سنة 469هـ وتوفّي سنة 548هـ، كان معنى ذلك: أنّ اسم نصيرية قد تغلّب على اسم الجبل في زمن

____________________

(1) فِرَق الشيعة.

(2) محمد كرد علي: خطط الشام.

(3) كتاب الأقاليم.

٣٢

الشهرستاني.

وترجع أسباب تسميةNazarie على ما نرى، إلى وجود الطائفة الإسماعيلية النزارية في أماكن معيّنة من هذا الجبل - مصياف - قدموس - سلمية -، والدّور الهامّ الذي لعبتهُ مصياف منذ أن انتزَعها الإسماعيليون من بني منقذ سنة 535هـ، وكذلك إلى الدّور الهامّ الذي قامَ به شيخ الجبل سنان راشد الدين، زعيم الطائفة الإسماعيلية النزارية في مصياف وفدائييه، أثناء الحروب الصليبية، ممّا جعلَ اسم هذه الطائفة على كلِ شفةٍ ولسان.

وهناك نقطة أُخرى مهمّة تتعلّق بأصل التسمية، من الضروري الوقوف عندها قليلاً، وهي: ما ذكره بعض المؤرّخين المحدَثين، من أنّ العلويين تسمّوا نصيرية أوّلاً، ثمّ أُطلق عليهم - حسب إرادتهم - اسم العلويين في أيّام الانتداب الفرنسي(1) ، ولم يقدّموا أي دليل يدعم أقوالهم.

والحقيقة: أنّه وجِدت فِرقة من الشيعة تسمّى بالعلوية، عُرفت بهذا الاسم منذ القديم، ذكرها كلٌ من: المسعودي في(مروج الذهب) ، وياقوت الحموي في(معجم البلدان) .

يقول المسعودي: (والغلاة أيضاً ثمان فِرق: المحمدية منهم أربع، والمعتزلة أربع، وهُم العلوية).

كما ذكرَ ياقوت الحموي عند حديثه عن مدينة قاشان ما نصّه: (مدينة قرب أصبهان، تُذكر مع قُم، وأهلها كلّهم شيعة إمامية.

قرأتُ في كتاب ألّفه أبو العباس أحمد بن علي بن بابه القاشي، وكان رجلاً أديباً، قَدِم مرو وأقام بها إلى أن مات بعد الخمسمئة، ذَكر في كتابٍ ألّفه في فِرق الشيعة إلى أن انتهى إلى ذكر المنتظر، ومن عجائبه ما يذكر ما شاهدته في بلادنا قومٌ من العلوية من أصحاب التنايات يعتقدون هذا المذهب).

____________________

(1) يوسف الحكيم: سورية والعهد العثماني، ص (68)، ود. صبحي محمصاني: فلسفة التشريع في الإسلام، ص(85)، ومحمد كرد علي: خطط الشام، ص (112).

٣٣

وهذا دليل على أنّ أصل التسمية هو (العلوية)، لكن تبدّلت التسمية مع الزمن إلى (نصيرية) لأسباب سياسية، أمْلَتها ظروف معيّنة.

تاريخ ظهور النصيرية:

تحديد تاريخ ظهور النصيرية على وجه الدقّة، أمرٌ من الصعوبة بمكان كبير ؛ لكثرة الأقوال وتناقضها، ثمّ ابتعادها عن بعضها بعضاً ابتعاداً عظيماً.

فنحن إذا أخذنا بالرأي القائل: إنّ أصل تسمية نصيرية، جاءت من نصير مولى الإمام عليعليه‌السلام ، كان معنى ذلك: أنّ تاريخ ظهور النصيرية هو زمن الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، أي ما بين سنة 23/ قبل الهجرة و40هـ.

أمّا إذا مِلْنا إلى الرأي الآخَر، الذي يقول: إنّ أصل التسمية نسبةً إلى محمد بن نصير،.... المتوفّى سنة 259هـ، كان معنى ذلك: أنّ تاريخ ظهور النصيرية بين سَنَتَي 232هـ، و259هـ، وكما هو واضح ؛ فإنّ بين هذا التاريخ وذاك مدىً زمنياً واسعاً شاسعاً.

ثمّة نفر من المؤرّخين جعلَ تاريخ ظهور النصيرية - على وجه العموم - دون تحديد لسَنةٍ معيّنة (في القرن الثالث الهجري)(1) ، أو (في النصف الثاني من القرن الثالث)(2) ، وهناك مَن يقول: إنّ المذهب النصيري أو العلوي، معاصر للدعوة الدرزية(3) .

وأوّل إشارة إلى ظهور النصيرية وصَلت إلينا، ما كَتبه أبو الفرج الملطي في (تاريخ الدول السرياني) في أخبار سنة 891م = 278هـ، وهي:

____________________

(1) الدكتور صبحي المحمصاني: فلسفة التشريع في الإسلام.

(2) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوّف والتشيّع.

(3) عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي.

٣٤

(رغبَ الكثيرون أن يعرفوا مَن هم النصيريون؟ فنقول: في السنة 1202 لليونان (891م)، ظهرَ شيخ في أطراف الكوفة بقرية الناصرية، كان يُكثر من الصوم والصلاة ويتظاهر بالزهد، وتبعهُ كثيرون من أهل البلد.

واصطفى اثني عشر رجلاً بعدد الرسل، وأوصاهم أن يبثّوا بين الناس تعليماً غريباً، ولمـّا اطّلع حاكم البلد على خبره أرسل فقُبض عليه، وحبسهُ في إحدى غرف داره، وأقسم أنّه صباح الغد يشنقه، وشربَ الحاكم تلك الليلة خمراً حتى سكر، وفرشوا له لينام.

فطلبَ مفتاح الغرفة التي حُبس فيها الشيخ، ووضعهُ تحت وسادته، وغرقَ في النوم، وكان للحاكم خادمة تنام عنده، سبقت فاطّلعت على صوم الشيخ وصلاته، فأخذَتها الشفقة عليه، وقصَدت مولاها وهو غارق في سباتٍ عميقٍ، والتقفت المفتاح، وذهبت فأطلقت الشيخ، ثمّ أغلقت الباب، وردّت المفتاح إلى مكانه.

ولمـّا أفاقَ الحاكم تناولَ المفتاح، وفتحَ باب الغرفة فلم يجد فيها أحداً، فأخذه الدهش، وتخوّفت الخادمة أن تُعلمه بأنّها هي التي فتحت وأطلقته، وهكذا ذاعَ الخبر بأنّ الشيخ خرجَ والأبواب مغلقة.

وما عتمَ أن شاهدَ الشيخ اثنين من تلامذته يسوقان فداناً في أراضٍ بعيدة عن القرية، فقصدَ نحوهما، وأكّد لهما أنّ الملائكة أطلقوه وجعلوه في البرية، ثمّ كَتب كتاب مذهبه، ودَفعه إليهما ليُعلما الناس بموجبه، وقد أثبتَ فيه ما يلي: إنّي أنا فلان الذي يُظنّ أنّه ابن عثمان من قرية الناصرية، قد ظهرَ لي في الرؤية المسيح يسوع الكلمة الهادئ، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، من ولدِ علي، وهو جبرائيل الملاك، وقال لي:

إنّك أنت الداعي، أنت الحق، أنت جمل يحقد على غير المؤمنين، أنت بهيمة حاملة ثقل المؤمنين، أنت روح، أنت يوحنا بن زكريا، فانذرْ الناس ليجثوا أربع ركعات في صلاتهم، ركعتين قبل بزوغ الشمس، وركعتين قبل الغروب، شطر أورشليم، ويقولون في كل مرّة هذه العبارات الثلاث: الله السامي على الكل، الله الأعظم من الكل، الله الأكبر من الكل، وأن لا يشتغلوا في يَومي الاثنين والجمعة، وأن يصوموا يَومين في السنة، وأن يقلّلوا من غسل أعضاء التناسل، ولا يشربوا المسكر، بل يشربوا ما أرادوا

٣٥

من الخمر، ولا يأكلوا لحوم الحيوانات الضارية. وبعدما لقّنهم تعليماً مثل هذا سقيماً سخيفاً، انتقلَ إلى فلسطين، وجعلَ يلقّن الناس الجَهلة القرويين، ثمّ اختفى من هناك، ولم يوقَف على مكانه حتى اليوم).

بحسب هذه الرواية، يكون تاريخ ظهور النصيرية هو سنة 278هـ في الكوفة، وهذا التاريخ هو عينه مبدأ ظهور القرامطة.

وما ذكرهُ الملطي يشابه إلى حدٍ بعيد، ما رواه ثابت بن سنان بن قرّة الصابئ (ت 365هـ)، في تاريخه عن بدء ظهور القرامطة:

(في سنة مئتين وثمانية وسبعين من الهجرة، فيها تحرّك بسواد الكوفة قومٌ يُعرفون بالقرامطة، وكان ابتداء أمرِهم - فيما ذكر - أنّ زعيم هذه الطائفة قَدِم من بلدةِ خوزستان إلى عاصمة الكوفة، فنزلَ بموضعٍ يقال له النهرين، وتظاهرَ بالزهد والورع والتقشّف، وكان يسف الخوص، ويأكل من كسب يده، ويكثر من الصلاة.

وأقامَ على ذلك زمناً كبيراً، وكان إذا جاءه شخص وجلسَ معه تحدّث معه في أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأخبرهُ أنّ الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يومٍ وليلة، حتى فشا ذلك عنه بموضعه، ثمّ أعلَمهم أنّه يدعو إلى إمامٍ من أهل البيت، فأقامَ على الدعاية حتى اجتمعَ حوله جمعٌ كبير.

واصطحبَ برجلٍ بقّال، وكان يكثر الجلوس على باب حانوته، فجاء يوماً قومٌ إلى البقّال، وطلبوا منه رجلاً يحفظ عليهم ما حُرموا من نخلهم، فدلّهم عليه، وقال لهم: (إن أجابكم إلى حفظ تَمْركم فإنّه بحيث تحبّون)، فكلّموه في ذلك، فأجابهم إلى ذلك بأجرٍ معلوم.

فكان يحفظ لهم ويصلّي أكثر نهاره ويصوم، ويأخذ عند إفطاره رطلاً من التمر من البقّال فيأكله، ويجمع النوى ويعطيه البقّال، فلمّا حَمل التجّار تَمْرَهم عند البقّال ودفعوا إليه أجرته، وحاسب الأجير البقّال على ما أخذه من التمر، ودفعَ له ثمن النوى، فسمعَ أصحاب التمر محاسبته للبقّال بثمن النوى فضربوه، وقالوا له: (لم ترضَ بأكل تَمْرِنا، حتى بعتَ النوى)، فقال لهم البقّال: (لا تفعلوا)، وقصّ عليهم القصّة، فندموا على ضربه

٣٦

، واستحلّوا منه، ففعل، وازدادَ بذلك نُبلاً عند أهل القرية، لمـّا وقفوا من زهده. ثمّ مَرض فمكثَ على الطريق مطروحاً، وكان في القرية رجل يُدعى (كرميته) ؛ لحمرة عينيه، وهو بالنبطية أحمر العينين، يحمل على أثوار له، فكلّم البقّال في حمل المريض إلى بيته، فحَمله وأقام حتى بريء.

ودعا أهل القرية إلى اعتناق مذهبه فأجابوه، وكان يأخذ من كلِ رجلٍ ديناراً، ويزعم أنّه للإمام، واتّخذ منهم اثني عشر نقيباً، وأمَرَهم أن يدعوا الناس إلى نِحلته، وقال لهم: أنتم كحواريي عيسى.

فاشتغلَ أهل كور عن أعمالهم بما رسمَ لهم من الصلوات، وكان للهيصم ضياع، فرأى تقصير أهل القرية في عمارتها، فسألَ عن ذلك، فأُخبر بخبر القرمطي، فأخذهُ وحبسه، وحلفَ أن يقتله ؛ لِمَا اطّلع على مذهبه، وأغلق باب البيت عليه، وجعلَ مفتاح البيت تحت وسادته، واشتغلَ بالشرب.

فسمعَ بعض مَن في الدار من الجواري بقصّته، فرقّت للرجل، فأخذت المفتاح - حين نام سيّدها - وفتحت الباب وأخرجته، ووضَعت المفتاح مكانه، فلمّا أصبح الهيصم فتحَ الباب ليقتله فلم يجده، وشاعَ ذلك في الناس، فافتتنَ به خلقٌ كثير من تلك القرية، وقالوا: رُفع.

ثمّ ظهرَ في ناحية أُخرى، واجتمعَ بأصحابه وغيرهم، وسألوه عن أمره، فأخبرَ أنّه لا يمكن أحداً أن يصل إليه بسوء، فعظمَ من ذاك الوقت في أعينهم، ثمّ خافَ على نفسه، فخرجَ إلى ناحية الشام، فلم يوقَف له على أثَر.

وسمّى نفسه باسم الرجل الذي كان في داره (كرميته، صاحب الأثوار)، ثمّ خُفّف فقيل: قرمط. هكذا ذَكر أصحاب زكرويه عنه.

وقيل: إنّ قرمط لقب رجل بسواد الكوفة، كان يحمل غلّته على أثوارٍ له، واسمه حمدان.

ثمّ فشا مذهب القرامطة بسواد الكوفة، ووقفَ الطائي أحمد بن محمد على أمرهم، فجعلَ على الرجلِ منهم ديناراً في العام، فقَدِم قومٌ من الكوفة، فرفعوا أمرَ القرامطة والطائي إلى السلطان، وأخبروه أنّهم أحدثوا ما ليس في دين الإسلام، وأنّهم يرون السيف على أُمّة محمد (صلّى الله عليه وسلّم) إلاّ مَن بايعهم، فلم يلتفت إليهم، ولم يسمع منهم.

٣٧

وفيما حُكي عن القرامطة من مذهبهم: أنّهم جاؤوا بكتاب فيه (بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان، وهو من قريةٍ يقال لها نصرانة، داعية المسيح وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدي، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو جبريل.

وذكرَ أنّ المسيح تَصوّر له في جسم إنسان، وقال له: أنت الداعية، وإنّك الحجّة، وإنّك الناقة، وإنّك الدابّة، وإنّك يحيى، وإنّك روح القدس، وأخبرهُ أنّ الصلاة أربع ركعات، ركعتان قبل الشروق، وركعتان بعد الغروب، ويقيم الأذان في كلّ صلاة، يكبّر ثلاثاً (أشهد أن لا إله إلاّ الله مرّتين، أشهد أنّ آدم رسول الله، أشهد أنّ نوحاً رسول الله، أشهد أنّ إبراهيم رسول الله، أشهد أنّ موسى رسول الله، أشهد أنّ عيسى رسول الله، أشهد أنّ محمداًَ رسول الله، وأشهد أنّ أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله، ويقرأ في كلّ ركعة الاستفتاح المـُنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية، والقبلة إلى بيت المقدس، وأنّ الجمعة يوم الاثنين، لا يُعمل فيه شيء، والسورة:

(الحمد لله بكلمته، وتعالى باسمه، المتّخذ لأوليائه بأوليائه، قل إنّ الأهلّة مواقيتُ للناس، ظاهرها ليعلم عدد السِنين والحساب والشهور والأيّام، وباطنها أوليائي الذين عَرّفوا عبادي سبيلي، اتّقوني يا أُولي الألباب، وأنا الذي لا أُسأل عمّا أفعل، وأنا العليم الحكيم، وأنا الذي أبلو عبادي وأمتحن خلقي، فمَن صبرَ على بلائي ومحنتي واختباري ألقيته في جنّتي وأخلدتهُ في نعمتي، ومَن زالَ عن أمري وكذّب رسلي أخذتهُ مهاناً في عذابي، وأتممتُ أجَلي، وأظهرت أمْري على ألسِنة رُسلي، وأنا الذي لم يعلُ عليّ جبّار إلاّ وضعتهُ، ولا عزيز إلاّ أذللته، وليس الذي أصرّ على أمره ودامَ على جهالته، وقالوا: لن نبرحَ عليه عاكفين وبه موقنين أولئك الكافرون، ثمّ يركع ويقول في ركوعه: سبحان ربّي ربّ العزّة وتعالى عمّا يَصف الظالمون)، يقولها مرّتين، فإذا سجدَ قال: (الله أعلى) مرّتين، (الله أعظم) مرّتين.

ومن شريعته الصوم يومين في السنة، وهما المهرجان، والنبيذ حرام والخمر حلال، وألاّ يغتسلوا من الجنابة إلاّ الوضوء كوضوء الصلاة، وأنّ مَن حاربهُ وجبَ قتله، ومَن لم يحاربه ممّن خالفهُ وجبَ عليه الجزية، ولا يأكل كلّ ذي ناب ولا كلّ ذي مخلب).

٣٨

يستفاد من ذلك: أنّ الملطي - المعروف بابن العبري، المتوفّى سنة 685هـ - اعتبرَ النصيرية هم القرامطة، وهذا خطأ.

ثمّ إنّه ناقضَ نفسه بنفسه، في كتابه(تاريخ مختصر الدول) عند حديثه عن القرامطة ؛ إذ ذَكر عنهم نفس ما قاله عن النصيرية، في روايته التي بيّناها، وإذاً فإنّ تحديد تاريخ ظهور النصيرية بسنة 278هـ، أخذاً بما ذَكره الملطي، في غير محلّه.

ويبقى أقرب الأقوال إلى الصواب القول: بأنّ ظهور النصيرية هو النصف الثاني من القرن الثالث ؛ لأنّه عندما كتبَ حمزة بن علي رسالته في الردّ على النصيري بين عامي 408 و410هـ، كانت الفرقة النصيرية موجودة ومعروفة، وهذا يعني أنّ وجودها سابق لهذا التاريخ، لكنّ تحديد ظهورها بسنةٍ معيّنة، أمر من الصعوبة بمكان كبير ؛ لعدم وجود الدليل القاطع.

***

٣٩

مَوطِن النصيرية

يُفهم من الآثار التي وصلت إلينا: أنّ النصيرية تنتشر في أماكن وأقاليم متعدّدة، عربية وأجنبية.

في سورية أطلقَ المؤرّخون على أماكن تواجد النصيرية أسماء كثيرة: جبال اللاذقية، جبال النصيرية، بلاد العلويين، منطقة العلويين، منطقة اللاذقية، الجبل العلوي، جبل الشام، جبل اللكام، إلخ...

ومن الأسماء التي ذُكرت أيضاً، جبل السمان (اتخذوا جبل السمان، الذي يسمّى الآن جبل النصيرية)(1) .

ولم نعثر في الكتب على أيّ ذِكر لهذا الاسم، الذي انفردَ به شيخنا محمد أبو زهرة دون سواه، ولعلّ الشيخ يقصد جبل السماق، وهو كما ذَكر ياقوت الحموي في معجم البلدان(2) ، جبل عظيم من أعمال حلب الغربية.

وثمّة مَن ذَكر اسماً آخَر، بعيد كل البُعد عن الأسماء المألوفة المتداولة، وهو جبل بلاطنس(3) .

أمّا الاختلاف الذي يُذكر فهو في تحديد موقع جبل اللكام ؛ لأنّ

____________________

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية: الجزء 1، ص63.

(2) الجزء 2، ص100.

(3) أبو الفداء: المختصر في تاريخ البشر.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368