تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 391
المشاهدات: 124034
تحميل: 10981


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124034 / تحميل: 10981
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

مقدّمةالمؤلّف

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

الله تعالى أحمد، وأصلي وأسلم على خاتم رسله أحمد، وعلى أوصيائه ما لاح في السماء فرقد، وما هزج طائر على أفنانه وغرّد.

وبعد فقد كنت شرعت عام ١٣٤٠هـ بتأليف كتاب تنتظم دفتاه تاريخ الشيعة الديني والسياسي على أثر هزات هنا وهناك تنتقص قدر هذه الفرقة من فرق المسلمين بمؤلفات فيها الكثير مما عُزي إلى الإمامية، ولم يكن مما تعتقده وهي منه براء. وما كان على مؤلفي تلك الكتب في عصر الطباعة إلا الرجوع إلى ما هو في متناولهم من المؤلفات المطبوعة المنشورة، وجلها الصريحة ذات العقيدة الصحيحة، لتسلم مؤلفاتهم من معرّة ما يجافي الحق والحقيقة ولا يأتي بخير اللهم إلا تفريق صفوف المسلمين في عصر هم أحوج فيه إلى تأليف الكلمة والوقوف صفاً واحداً للذود عن حياض كرامتهم وعزة دينهم المتين، ويا حبذا لو التف كل مسلم غيور طالب إحقاق الحق حول لواء جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية المؤسسة لهذا الغرض النبيل في مصر، ولا نذكر جامعة الأزهر إلا بخير، والأزهر الشريف الخالد المشيدة دعائمه منذ ألف عام ونيّف للقيام برسالتي العلم والدين وأدائهما حق الأداء والقضاء المبرم على التعصبات المذهبية لم يفرّط بمهمته، ومهمته الكبرى في هذا العصر أن يقضي على تلك المنازعات، وجلها وليد السياسات التي انتهى أجلها وأزيحت عللها.

فجامعة الأزهر مفروض على علمائها أن ينهضوا بكل ما يعزّز

٢١

الجامعة الإسلامية ويصلوا ما أمر الله به أن يوصل من إزاحة علل التفرق.

وبعد فإن من إثارة تلك المجادلات التي فتح بابها الموصد على مصراعيه فريق من كتاب مصر ومن غير مصر أن نشأت فوضى جدلية اختلط فيها الحابل بالنابل، وخاض غمارها كثير ممن لم يؤت الحكمة والاعتدال، ومن خدم سياسة الأجنبي عن قصد أو غير قصد. ولا ننقص بعض المؤلفين حقهم، فكانوا من المنصفين، وكانوا من الحريصين على قطع خط الرجعة على المفرقين، ومنهم مؤلف كتاب السنة والشيعة من علماء بيروت العاملين، وفريق من أعلام الكتّاب المصريين. وكان من مستغلّي تلك البلبلة وهي سلاح ماضي الحدين فريق من كتبة الفرنج، ومنهم مؤلف (عقيدة الشيعة) الذي حشا كتابه بكل ما هو أشبه بالعبادات من اتصاله بالاعتقادات والمأخوذ عن العامة لا عن الخاصة، ولم يكن فيه أثر للتمحيص، فيتبيّن الرشد من الغيّ والصحيح من الفاسد. وإذا كان نفر من المسلمين أنفسهم من ينتهج هذا الطريق، ولا يكلف نفسه التحقيق، فأي ملام على الأجنبي، وجل اعتماده وما يهدف إليه ما يمكن لدولته استغلال كل ما يوهن قوة من يطمح في إخضاعه لسلطانه، والنفر المولعون بالجدل البيزنطي هم أعوانه وأنصاره من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، ومن حيث يقصدون أو لا يقصدون.

وكأن الشيعة وخاصة الإمامية نكرة مجهولة وكتب اعتقاداتها المنشورة ملء مكاتب الشرق والغرب محتاجة إلى التعريف، وهو من الباحثين كقاب قوسين أو أدنى ولا يكلفهم عناء كثيراً.

فنهض بهذه المهمة إمام من أئمة الإمامية فألف رسالة (أصل الشيعة وأصولها) ألا وهو المرحوم الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي وهو من كبار المدرسين ومن المراجع في التقليد، فكانت رسالة على اختصارها جامعة لكل ما يهم الباحث الوقوف عليه من عقائد الشيعة، وطبعت عدة مرات كما نقلت إلى كثير من اللغات الأجنبية، وتلقى مؤلفها العظيم تقاريظ كثيرة من علماء المسلمين على اختلاف المذاهب ومن المستشرقين إلى ما في تلك الرسالة من دعوة إلى التقرّب الإسلامي.

وفي احتدام تلك المعمعة الجدلية، وفيما حامَ حول الشيعة من الظنون، وما عزي إلى الإمامية منهم ما لم يعتقدوه دار في خُلدي على قلة

٢٢

المصادر أن أفرد كتاباً بالتأليف في تاريخ الشيعة الديني والسياسي تاركاً تدوين تاريخها الأدبي، وقد حفلت به الكتب القديمة والحديثة وفي هذا العصر، وقد أُلف فيه موسوعتان جليلتان الأولى (أعيان الشيعة) للإمام العلاّمة المرحوم السيد محسن الأمين العاملي، والثانية لإمام عصره في التأليف العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني النجفي (طبقات أعلام الشيعة في مختلف العصور إلى العصر الحاضر)، وهناك موسوعة ثالثة وهي (الطليعة في شعراء الشيعة) لمؤلفها المتتبع الضليع العلامة الشيخ محمد طاهر السماوي، وللعلامة الإمام السيد حسن الصدر الكاظمي كتاب جليل في موضوع مؤلفي الشيعة سماه (تأسيس الشيعة الكرام) وقد طبع مختصره، وللعلامة الشيخ علي آل كاشف الغطاء والد الشيخ محمد الحسين مؤلف كتاب (أصل الشيعة وأصولها) الآنف الذكر كتاب (طبقات الشيعة)، هذا ولست في صدد إحصاء المؤلفات الشيعية الأدبية المتعذر علي، فأكتفي بهذه الجملة، وها أنا أشرع في تدوين مباحث الكتاب مستمداً منه تعالى التُوفِّيق والتسديد في القول والعمل وعليه الاتكال. واتّباعاً للطريقة المألوفة عند العلماء المؤلفين لسهولة دراسة مؤلفاتهم على مختلف أهدافها وموضوعاتها من التبويب رتبت كتابي هذا على كتابين الأول وينطوي على معتقدات الإمامية، ويتناول ما يتّسع له المجال من الفروق بينها وبين معتقدات بعض فرق الشيعة المخالفة لها وينسب إليها منه ما هي منه براء.

والكتاب الثاني وهو (تاريخ الشيعة السياسي) ويشمل دول الشيعة على اختلاف المذاهب ممن يشملهم هذا الاسم، وعلى خاتمة تتضمن دعوة المسلمين كافة إلى التحرر من التعصب الممقوت للمذهب والعقيدة والذي أدّى إلى ذهاب ريحهم وتفرقهم قِدداً، وانتقاص أطراف ملكهم الواسع، وصيّرهم خولاً لمن كانوا لهم أتباعاً، وجنوا من ثمرات ذلك التنازع ما أطمع فيهم الغريب، وهم في هذا العصر أحوج منهم في كل العصور إلى التضامن والتآزر وترك التنازع فيما لا يجدي، وهو آية الفشل في ميادين الحياة، وإلى الاعتصام بعروة العقيدة الإسلامية الجامعة التي هي فوق الشبهات والأهواء، وقى الله تعالى المسلمين شر التفرق الذي أدّى بهم إلى الضعف، وجمعهم على التناصر والتظافر وإعلاء دين الله الإسلام، والله مع الجماعة.

٢٣

٢٤

الفكرة الشيعية

أسبابها - انتشارها

٢٥

٢٦

نأتي في هذا الجزء من كتابنا تاريخ الشيعة وهو تاريخها السياسي على مقدمة نشرح فيها الأسباب التي جعلت للشيعة كياناً سياسياً قام على منابذة السياسة الأموية، ثم على مناجزة السياسة العباسية، وكان من جهادها السياسي المستتر في عهد هاتين الدولتين تحت ستار التكتم والتقية، أن قام للشيعة دول في المشرق والمغرب كان القائمون على سلطانها في أول الأمر رجالاً من العلويين من بني الحسن والحسين، ومن العباسيين يوم انتشر دعاة الشيعة من العلويين والعباسيين في مختلف الأمصار الإسلامية، يدعون متحدين للفريقين. على أن الدعوة العباسية لم تكن في ظاهرها إلا دعوة للعلويين، ولم يطل العهد حتى أثمرت هذه الدعوة ثمرة اقتطفها بنو العباس، وما كان هؤلاء وقد آل إليهم السلطان وخلافة الإسلام أعطف على العلويين من الأمويين، ولا أقلّ تنكّراً لهم من أولئك، ممّا كان من أثره قيام دولة علوية في الشرق وأُخرى في الغرب الأفريقي والأندلسي من الأدارسة من بني الحسن، ومن الفاطميين من بني الحسين. ثم كان للشيعة في عهد انحلال الدولة العباسية وانتثار عقد سلطانها وامتداد الأيدي الغريبة إليها من التُّرك والفرس والعرب، دول من غير القبيل الهاشمي والفاطمي كالدول: البويهية والحمدانية وبني دُبيس وصدقة.

أما الأسباب فإنها كثيرة وقد بحث عنها المؤرخون، فمنهم من تعرّض لبحث القريب منها وأغفل البعيد، ومنهم من تعرّض لبحث الأمرين، وإنّا نلخصها معتمدين في ذلك على منطق الوقائع ووضوح الحوادث، وهي فيما استنتجناه تعود إلى أمور:

٢٧

الأول (الخلافة):

هذا المنصب الخطير الذي كان يعتقد الشيعة أنه لعلي وبني علي من فاطمة بالوصية من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبالنص الجلي الذي لا ارتياب فيه، ولهم أدلة من الحديث والكتاب على انحصاره في علي والأئمة من بنيه وأنه كمنصب النبوة وهو خلافة لها لا يرجع إلى الشورى والاختيار، وأنه من الأصول الاعتقادية. فصرفُه عن علي وأهل بيته كان ولا ريب من أسباب سخط الشيعة ومن دواعي عملهم في السر والخفاء على إعادته إلى نصابه وصرفه إلى أهله الذين هم أجدر به، وهو المنصوص عليه في اعتقادهم.

الثاني:

سكت الشيعة مختارين أو مكرهين على الطاعة لمن ملكوا ناصية الخلافة بالاختيار والانتخاب والوصية والشورى للخلفاء الثلاثة وهم لم يبتعدوا عن إدارة مهامّها عن أسلوبها الديني؛ وسكتوا كما سكت إمامهم عن المناجزة في سبيل استردُّدها إليه لاعتبارات كثيرة رآها علي وحزبه من أعظم الدواعي إلى السكوت والرضا بالأمر الواقع، وفي الخروج عنها ما يتخوف منه على بَيضة الإسلام، وهو لم يستكمل بعدُ دعوته ولم يعتصم بعد بالقوة التي ترد عنه أعداءه الكثيرين، وتحمي تلك الدعوة ممن همّوا بالخروج عن الإسلام وقد رأوا رؤوس الفتنة تطلع بالردّة حوالي المدينة وبالأقطار العربية الأُخرى من أنحاء الجزيرة، ورأوا بنظرهم البعيد وحرصهم على انتشار الدعوة الإسلامية ما يكون من الإضرار بها إن انصرفوا إلى التنازع فيما بينهم المؤدّي إلى ذهاب ريحهم وتبدّد قوتهم وهو سلاح حاد للطامعين بالخروج من القريب، وبنقض الدعوة من الغريب القوي من الرومان والفرس. فرأوا - والحكمة الرشيدة فيما رأوا - أن ترك المطالبة بالحق - والمطالبة به تؤدي إلى مثل هذه النتائج - واجب محتَّم، فسكتوا، وإذا كان في السكوت ضرر ففي تركه أكبر الضررين. فكان عليّ وحزبه المثل الأعلى في الإعراض عن التنازع، والالتفاف حول الخلفاء ومناصرتهم، وفيها مناصرة للإسلام، والظهور بمظهر الوحدة وهي قوة حامية للدعوة صائرة إلى إعزاز الإسلام كلمة الله الباقية في الأرض.

٢٨

الثالث:

إن مما لا ريب فيه أن قيام الخلافة على الشكل الذي قامت فيه من الانتخاب الذي لم يستكمل شرائطه حتى عند من يقول بالاختيار في هذا المنصب، أن أسكتت المصلحة الإسلامية العامة من كان منصوصاً عليه من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وحزبه عن نقضه بقوة الجدل أو بقوة السلاح، وعن منازعة من صار إليه بانتخاب فريق من ذوي الحل والعقد دون الفريق الآخر، ومنهم علي وحزبه من الهاشميين وغير الهاشميين من أفاضل الصحابة، فلم يكن هذا السكوت المنبعث عن تلك المصلحة التي راعاها الفريق الذي عُزل عن حقه في الاختيار أو افتئت على حقه في النص، إلا بالذي يترك في النفوس أثراً إن لم يكن في نفس صاحب الحق فإنه في نفوس حزبه، وإن غلبت عليه دواعي الحال فلم تغلب عليه دواعي الاستقبال يوم تمكّن الفرص منه، والجرح إذا لم يندمل يوم فساده فهو إلى النكأة قريب.

كوّنت هذه الحال فكرةً لدى الشيعة فعملوا لها في السر على استرجاع الحق إلى أهله، ومن رسخت في نفوسهم هذه الفكرة يرونها واجباً دينياً يجب العمل به يوم تمكن الفرصة من العمل، فكانت كامنة في هذه النفوس الشيعية كمون النار في الرماد، وهي مع ذلك لم تجد إلا ما يستثيرها ويستفزّها ويذكّيها. ولم يجد حاملوها من حسن السياسة ما يخفف من سخائمهم، ولا ننكر أنه قد اندسّ فيهم من لم يكن مخلصاً لا لعلي ولا للمسلمين، ومن لم يكن راضياً عن خلافة الخلفاء إمّا حسداً وهو يرى مكانة قبيله أشرف من مكانة قبيلهم، وإمّا طمعاً في ولايةٍ من ولايات الخلافة، وهو لم يكن ذا حظ منها عملاً بقول الشاعر:

إذا لم يكن للمرء في دولة امرئٍ = نصيب ولا حظّ تمنَّى زوالها

والنفوس مطبوعة على حب السلطان وأبهة الحكم، ولا سيما ممن يرجع إلى قبيل شريف، وإما عقيدة في علي خرج بها عن حد القصد، وادّعى فيه ما لم يدعه هو ولا حزبه كابن سبأ وأضرابه، وإما رجاء في المستقبل بالمشاركة في الأمر والنهي. فكان العباسيون كالعلويين والأمويين يرون أن لهم في ذلك المنصب من المؤهلات أضعاف ما لمن ولِيَهُ من الخلفاء، فأدّى ذلك كله إلى اصطباغ الفكرة الشيعية بكثير من الألوان.

٢٩

الرابع:

إن سياسة الخلافة كانت في عهد الخليفتين الأولين لا تبتعد عن روح الدين كما عرفت. وكانت حريصة على جمع الكلمة الإسلامية وبعيدة عن الاستئثار والافتئات، وأقرب إلى تأليف القلوب النافرة من خلافة الثالث المعتز بقبيله الأموي الكثير العدد. وقد سلف أن الأمويين لم تكن لهم قدم راسخة في الإسلام، بل كانوا حرباً عليه وأعداء ألدّاء للدعوة، وقد أُكرهوا على دخولهم في الإسلام إكراهاً يوم فتح مكّة الذي ظهر فيه أمر الإسلام والمسلمين، ودانت له جبابرة مكة وعتاة العرب، وغلب على يهود خَيْبَر وقُرَيْظَة وبني المُصْطَلِق.

بسط هذا القبيل يده في سلطان هذا الخليفة الأموي، وولي كبريات الولايات والأعمال، وشاء القدر أن يلي معاوية في عهد الخليفة الثاني ولاية الشام، وتمتد ولايته إلى خلافة عثمان، فيتسع أمامه مجال ترسيخ قواعد سلطانه. وقد جمعت هذه الولاية مما خلفه فيها الرومان من كنوز الثروة ومن العمران الزاخر والخصب العجيب ما يزيد في قوة سلطانه ونفوذه. وهو قد أوتي دهاء إلى سياسة مشى فيها بعيداً جد البعد عن روح السياسة الإسلامية الدينية، فكان فيه مطمع لذوي النفوس الضعيفة الطامحة إلى مشاركته في رغد العيش ورفاهيته.

هذا إلى ما نال في سلطان هذه الخلافة أعلام صحب علي من إرهاق وترويع، ومنها ما أصاب الصحابي الجليل أبا ذَرّ الغفاري من نفي إلى الشام، ومن الشام إلى الرَّبَذة حيث مات في هذا المنفى.

كانت هذه السياسة الجديدة وهي قائمة على إدارة رجال أمويين لا يعرفون للقصد حداً، وهي مصطبغة بصبغة بعيدة عن روح الدين، من أسباب نفور الشيعة ومن أسباب قوة الفكرة الشيعية في العمل لإرجاع الخلافة إلى أهلها، ولا نستطيع أن نقول: إن لعلي يداً في تغذيتها، وهو أبعد عن إحداث فتنة في الإسلام، ولكن ماذا يعمل علي في سبيل إخماد ثائرة النفوس، وقد امتلأت سخيمة من هذه السياسة القائمة على إرهاق أشياعه والابتعاد بالخلافة عن مناهجها الدينية...، وقد عرفت أن في الملتفّين حول الدعوة الشيعية أصنافاً من الناس ومنهم من له هوى غير

٣٠

هوى على ورجوع الخلافة إلى علي. فكان من نتائج تلك السياسة ومن مجموع هذه العناصر المكوّنة منها فكرة الدعوة للخلافة الحقة، انتقاض الأمصار على عثمان وقيام من قام منها من الكوفة ومصر والمدينة بمحاصرته في داره فمقتله. وما كان الجاني عليه في نفس الأمر والواقع إلا رجال قبيله، وهم وحدهم الملومون عند الباحث المنصف، وهم الذين جنوا على الإسلام لا الشيعة كما يزعم كثير من الباحثين، وخاصة في هذا العصر الذي توفرت فيه لديهم الأسباب لتمحيص الحقائق، وأوتوا وراء ذلك علماً بأساليب البحث ومعرفة بفلسفة المباحث الإسلامية وتاريخ الإسلام. ولئن بعدت عنهم الحوادث التي حدثت واكتنفها كثير من الغموض بواسطة العصبيات المذهبية التي تكونت من العصبيات الحزبية، فإن منطق تلك الحوادث التي تضافر على نقلها علماء الفريقين من الحزبين أو المذهبين، ما يرشد المنصف إلى سواء السبيل، وإلى تعليل تلك الحوادث بعللها الصحيحة، ولا سيما إذا تجرد عن التقليد لسلفه أو انجرّ إليه وهو في موقف تعليل الحوادث بعامل التأثير الخفي بما كان لسلفه من الرأي وهو في موقف تعليل الحوادث بعامل التأثير الخفي بما كان لسلفه من الرأي والاعتقاد، وهو يظن أنه يكتب لفلسفة التاريخ الإسلامي، وما مؤدى فلسفته إلا الغمز من قناة الشيعة وتسفيه آرائهم وإلصاق كل جناية بهم.

الخامس:

لم يكن ما مُني به عليّ، وقد آل إليه مصير الخلافة، من الانتقاض عليه ممن بايعه أمس، ومن وقعة الدار، وقد شاء أعداؤه أن يحمّلوه منها أثقل الأوزار. وتحيّن معاوية الفرصة وقد استوسق له أمر الشام وأُطلقت يده في حكمه الذي استمر مدة طويلة، فاتّخذ من مقتل عثمان ذريعة لمنافسة عليّ في الخلافة، وما كان له بكفء في منزلة من منازل الشرف والفضيلة، مِمّا أَدّى إلى وقوع أعظم حرب منذ ظهور الإسلام وحتى ذلك الوقت بعد حرب الجمل التي جرها نقض من بايع بيعته.

لم يكن ما مُني به عليّ من هذه الأحداث العظيمة إلاّ حافزاً عظيماً لشيعته ومن التفّ حولهم وقال بمقالتهم ونفر من افتئات معاوية بالأمور نفورهم، لترويج تلك الفكرة الشيعية، وإن شئت فقل السياسية أو الحزبية.

٣١

السادس:

مقتل عليّ منازعاً في خلافته الحقة، مغلوباً على أمره من مناوئيه من هنا وهناك، فلا يمكن له من تقويم المعوّج والسير بالأمة في سياسة تضمن لها انتظام أمري دينها ودنياها، وابتلاؤها، وابتلاؤه بعد وقعة (صفّين) بالخوارج ممن كانوا يتظاهرون بالتشيّع له ثم بالتآمر عليه وقتله، وانتهاء الأمر إلى معاوية بعد ستة أشهر من خلافة الحسن التي انتهت إليه، وهو في حزب متضعضع الأركان مشتت الأهواء، تجمعت فيه عناصر لم يكن الكثير منها مخلصاً.

كان من الطبيعي، بعد هذين الحادثين العظيمين: مقتل علي وفشل جيش الحسن في محاربة معاوية، أن ينتهي أمر الحسن إلى ترك الحرب ومسالمة معاوية على شروط ومواثيق التزم بها.

وكان من جراء هذه الأحداث وإِخلاف معاوية للميثاق الذي أعطاه للحسن، وما جرّه هذا الميثاق على شيعة الحسن من المغارم والمظالم والقتل الذريع على يد عمّاله أمثال زياد وسَمُرَة وعمرو بن سعيد الأشْدَق وبُسْر بن أبي أَرْطاة وأضرابهم - دع ما كان في أيامه من الأحداث التي يمقتها الدين، والتي صبغت الخلافة الدينية بصبغة السلطان الدنيوي الجائر - كان ذلك كله وما إليه من أسباب نموّ تلك الفكرة.

السابع:

وهو مقتل الحسين، بعد مقتل الحسن مسموماً على يد جَعْدَة زوجته بِدَسيسَةٍ من معاوية، وقيام يزيد بعده بسلطان الخلافة وهو من لم تحمد سيرته لا في الدين ولا في سياسة الملك والسلطان.

كان هذا من أعظم الأسباب، بل كاد ينحصر فيه، ظهور الفكرة الشيعية بصورة عملية منظمة، وزاد في تنظيمها ما كان يلاقيه بعض رجالات أهل البيت بعد يزيد من الظلم الأموي، وقد ولي الأمر من بني أُميّة مروان وأبناء مروان.

وكان أول هدف للشيعة في سبيل تحقيق الفكرة الشيعية هو قيامهم وعلى رأسهم المختار بأخذ ثأر الحسين. ومن الواضح البيّن أن الذين كانوا ينظّمون الدعوة والذين قاموا بالثورة يرجعون إلى (محمد بن الحنفيّة)، ثم إلى ولده من بعده. ولم يكن أحد من ولد الحسن والحسين في أول الأمر

٣٢

ممن يدعى إليه أو يرضى الدعوة لنفسه، فكان المختار بثورته داعية محمد بن الحنفيّة، ثم انتشر الدعاة باسم بني محمد بن الحنفية وبني العباس، أو للرضا من آل محمد ظاهراً. أما ابن قتيبة فهو يقول في كتابه (الإمامة والسياسة) في بدء الفتن والدولة العباسية، قولاً لم ينظر فيه إلاّ إلى سبب واحد من الأسباب التي ذكرناها وغيرها مما لم نذكره ومما سنذكره في هذهِ المقدمة، قال:

(لما سلّم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، قامت الشيعة من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة واليمن وأهل البصرة وأرض خراسان في سَتْرٍ وكتمان. فاجتمعوا إلى محمد بن علي (وهو محمد بن الحنفيّة)، فبايعوه على طلب الخلافة إن أمكنه ذلك. وعرضوا عليه قبض زكاتهم لينفقوها يوم الوثوب حين تحين الفرصة فيما يحتاج من النفقة على مجاهدته، فقبلها. وولّى على شيعة كل بلد رجلاً منهم، وأمره باستدعاء من قبله منهم في سرّ وتوصية إليهم ألا يبوحوا بمكتومهم إلاّ لمن يوثق به حتى يرى للقيام موضعاً. فأقام محمد بن الحنفية إمام الشيعة قابضاً لزكاتهم حتى مات. فلما حضرته الوفاة ولّى عبد الله ابنه من بعده وأمره بطلب الخلافة إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وأعلم الشيعة بتوليته إياه، فأقام عبد الله بن محمد بن علي وهو أمير الشيعة. فبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك في أول خلافته أن الشيعة قد بايعت عبد الله بن محمد بن علي بعد أبيه، فبعث إليه، وقد أعدّ له في أفواه الطرق رجالاً معهم أشربة مسمومة، وأمرهم إذا خرج من عنده أن يعرضوا عليه الشراب، فلما دخل على سليمان أجلسه إلى جانبه ثم قال له: بلغني أن الشيعة بايعتك على هذا الأمر، فجحده عبد الله وقال: بلغك الباطل، وما زال لنا أعداء يبلغون الأئمة قبلك عنا مثل ما بلغك ليغروهم بنا فيدفع الله عنا كيد من ناوأنا، وأنا بما يلزمني من مؤونتي أشغل مني بطلب هذا الأمر. ثم خرج من عنده في وقت شديد الحر، فكان لا يمر بموضع إلاّ قام إليه الرجل بعد الرجل يقول له: هل لك في شربة سويق اللوز وسويق كذا وكذا يا ابن بنت رسول الله؟ ونفسه موجسة منهم، فيقول: بارك الله لكم، حتى إذا وصل إلى آخر الطريق خرج إليه رجل من خبائه وبيده عُسٌّ فقال: هل لك في شربة من لبن يا ابن بنت رسول الله؟ فوقع في نفسه أن اللبن مما لا يسمم، فشرب منه ثم مضى،

٣٣

فلم ينشب أن وجد للسمّ حسّاً فاستدلّ على الطريق إلى الحميمة، وبها جماعة آل العباس، وقال لمن معه: إن متّ ففي أهلي، ثم توجّه فنزل على محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس فأخبره الخبر، وقال له: إليك الأمر والطلب للخلافة بعدي، فولاّه وأشهد له من الشيعة رجالاً، ثم مات. فأقام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ودعوة الشيعة له حتى مات، فلمّا حضرته الوفاة ولّي محمد بن إبراهيم الأمر، فأقام وهو أمير الشيعة وصاحب الدعوة بعد أبيه، انتهى)(١) .

وكأن تسليم الحسن الأمر إلى معاوية بعد أخذه عليه العهود، نبَّه الشيعة، وهم يعلمون أنهم إذا لم ينكمشوا في أمرهم ويقلّدوه رجلاً من آل علي أو ولد العباس، وقد تنازل عنه الحسن ولم ينهض به الحسين - والإمامة لأخيه - فهم مأخوذون في عقر دارهم مُستهدفون للظلم، وإن كان هذا الرأي لا يراه كل الشيعة، ومنهم من يعتقد انحصاره في علي والأئمة من بنيه من فاطمة، وإنه ليس لسواهم ولا لبني العباس. ولكنه قد يكون في الشيعة من يؤيد القائمين وإن لم يروا رأيهم في إمامة محمد بن الحنفية وولده وولد ابن عباس، منهم إن لم يتفقوا معهم في العقيدة فهم متفقون معهم في التماس الخلاص من الظلم الأموي.

الثامن:

لم يكتف معاوية باغتصاب الخلافة من عليّ وهو المتعين لها على مذهب الإمامية بالنصّ ومذهب أهل السنة والجماعة ببيعة أهل الحلّ والعقد وهو الإمام المفترض الطاعة الذي لا تجوز محاربته. ولم يكتف بمحاربته وهو الظالم له، ولا بطغيان جيوشه على بلاده وانتقاصها من أطرافها وتأمير مثل (بُسْر بن أبي أرطاة) عليها، وهو الفظ الغليظ وحسبه لؤماً قتله في غزوته اليمن طفليّ عاملها من قبل علي بن عبد الله بن عباس. لم يكتف بهذه الأفاعيل حتى سنّ مَسبَّة عليّ في حياة عليّ، ولم يتحرّج من أن يسمعها ولده الحسن وقبيله الهاشميّ غير متأثم لا مستعظم، ثم درج عليها من وُلّي الأمر بعده من الأمويين إلى أن أبطلها عمر بن عبد العزيز.

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة.

٣٤

هل هذا من العقل والدهاء اللذين وُصف بهما معاوية؟ وهل من الحكمة استفزاز العلويين وأشياعهم وقبيلهم الهاشميّ بمثل هذه البدعة من سبّ إمام حق مفترض الطاعة؟... وهل تحتملها النفوس الأبيّة مهما اتّصف أهلها بالتؤدة والحلم والأناة...؟

أليست وحدها - دع تلك الأحداث العظام التي أحدثها في الإسلام ومنها أخذه البيعة لولده الذي لا يدين بدين الحقّ - مما يكون من أعظم الأسباب لتضامن الحزب الساخط على هذه السياسة ومثيلها من سياسة من وُلّوا الخلافة من بني أميَّة...؟

التاسع:

لم يكتف الأمويون باغتصابهم الخلافة بغير حق، وهم ليسوا لها بأهل، وافتئاتهم بسلطانها وهم ليسوا برشدة ولا بحكماء حتى اتخذوا لهم أشياعاً من الظَّلمَة. فكان لمعاوية مثل زياد وسَمُرَة وبُسْر بن أبي أَرْطاة، وكان ليزيد مثل عبيد الله بن زياد، وكان لعبد الملك مثل الحجاج، ولهشام مثل يوسف بن عمر، ولغيرهم مثل هؤلاء ممن كان همهم اضطهاد أشياع علي وهم كثر منتشرون في كل بلد إسلامي، وما كانوا بل وما كانت الأمة إن أسكتتها القوة وهي بعد مجتمعة تحت سلطان الخلافة المغمور بالفتوح وامتلاك ناصية الأمم، بالراضية عن شكل هذا الحكم السابح في بحار من الدماء والجرائم والآثام. ومع ذلك فإن القائمين عليه لم يدعوا طريقة من طرق استفزاز من لهم مكانتهم في نفوس الأمة ولا سيما من عليّة الهاشميين إلاّ وقد سلكوها غير ناظرين إلى ما لها من العُقْبى في تفريق شملهم يوم قيام الفرصة السانحة وانتزاع الأمر المغصوب منهم يوم يمكّن منه القدر.

أحرجوا الحسين فأخرجوه، وقد رأى الخروج واجباً، وقد طلبوا منه وهو الإمام الحق وسبط الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يبايع يزيد. وظن وقد كاتبه الكوفيون، وبايع منهم لابن عمه (مسلم بن عقيل) ثمانية عشر ألفاً، أنه سيكون في منعة، وفي جيش كوفي مناصر يتغلب به على يزيد وأنصار يزيد، فيخلّص المسلمين منه ومنهم. ولكن انتهى الأمر بفشل الكوفيين ونكثهم البيعة له وبمقتله ومقتل أهله وأنصاره القليلين.

٣٥

ولكن لم تكن هذه المأساة إلاّ المُعْول الأول لانتقاض بنيان الخلافة الأموية حجراً فحجراً.

استفزّوا زيد بن علي، ودم جده بعد لم يجفّ من أرض الكوفة ومأساته الفادحة لم تُنس، فخرج آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ولم يكن طالباً للإمامة وهو يعلم أنها ليست له بل هي لأخيه (أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)). وظن كما ظن أبوه من قبله أنه في عزة ومنعة بأنصاره الكوفيين الذين بايعوه كما بايعوا جده، وأصابه من نكثهم بيعته ما أصاب جده، فانتهى الأمر بقتله وصلبه.

وقال بعض أشياع الأمويين فيه:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ولم نرَ مهدياً على الجذع يُصلبُ

وقـستم بـعثمان عـلياً سفاهة وعثمان أزكى من علي وأطيب

قد ذكر المؤرخون أسباباً لخروجه، وسنذكرها في مواضعها من هذا الكتاب، وكان خروج زيد سنة مائة وإحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين.

وخرج بعده ولده يحيى بن زيد بن علي بن الحسين سنة خمس أو ست وعشرين بالجوزجان من بلاد خراسان، منكراً للظلم وما عم الناس من الجور، فانتهى خروجه بقتله وصلبه، ولم يزل مصلوباً إلى أن خرج أبو مسلم صاحب الدولة العباسية وقتل قاتله (سَلْم بن أَحْوز)، وأنزل جثة يحيى فصلى عليها ودفنت هناك.

أمّا ما كان لمقتل يحيى من الأثر في النفوس الخراسانية وثورتها على الظلم الأموي، فخُذْ دليلاً عليه ما ذكره المؤرخون ومنهم المسعودي في مروجه فقال:

(وأظهر أهل خراسان النياحة على يحيى بن زيد سبعة أيام في سائر أعمالها في حال أمنهم على أنفسهم من سلطان بني أميّة، ولم يولد في تلك السنة بخراسان مولود إلاّ وسُمّي بيحيى أو بزيد لما داخلَ أهل خراسان من الجزع والحزن عليه)(١) .

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي المجلد ٢ ص١٨٥ - المطبعة البهية سنة ١٣٤٦هـ.

٣٦

نشاط الشيعة لتنظيم الدعوة

ونشرها ضد الأمويين

هذه الأسباب التي ذكرناها لا نزعم أنها هي وحدها التي أهابت بالشيعة إلى نفورها من الأمويين وحكمهم الظالم، بل هناك أسباب أُخرى نعرض عنها للاختصار مجتزئين بما ذكر.

هذه الأسباب إلى ما يضارعها دعت الشيعة إلى تنظيم صفوفها وتنظيم دعاتها إلى كل ما ينقض بنيان السلطان الأموي.

وإليك ما علّله ابن خلدون في تاريخه من خروج العلويين حيث قال:

(قد تقدم لنا ذكر شيعة أهل البيت لعلي بن أبي طالب وبنيه رضي الله عنهم، وما كان من شأنهم بالكوفة وموجدتهم على الحسن في تسليم الأمر لغيره، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، حتّى قتل المتولون كِبَر ذلك منهم (حِجْر بن عَديّ) وأصحابه. ثم استدعوا الحسين بعد وفاة معاوية، فكان من قتله بكربلاء ما هو معروف. ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان، وخروج عبيد الله بن زياد من الكوفة، وسمّوا أنفسهم التوّابين، وولّوا عليهم (سُليمان بن صُرَد)، ولقيتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستلحموهم.

ثم خرج (المختار بن أبي عُبيد) بالكوفة طالباً بدم الحسين رضي الله عنه وداعياً لمحمد بن الحنفيَّة، وتبعه على ذلك جموعه من الشيعة، وسماهم شرطة الله. وزحف إليه (عُبيد الله بن زياد) فهزمه المختار وقتله. وبلغ محمد بن الحنفيّة من أحوال المختار ما نقمه عليه فكتب إليه بالبراءة

٣٧

منه، فصار إلى الدعاء (لعبد الله بن الزُّبَيْر)، ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك، فقتله صاحب الكوفة (يوسف بن عمر) وصلبه. وخرج إليه ابنه يحيى بالجَوْزَجان من خُراسان فقُتل وصُلب كذلك، وطُلّت دماء أهل البيت في كل ناحية)(١) .

وبعد أن أوجز اختلاف الشيعة في الإمامة ومصيرها إلى مذاهب الإمامية والزيدية أتباع زيد، والكيسانية المعتقدين إمامة محمد بن الحنفية قال:

(ولمّا صار أمر بني أمية إلى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سراً لمحمد بن عبد الله بن حسن المُثَنّى بن الحسن بن علي، وسلّم له جميعهم، وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم، ولما علموا له من الفضائل عليهم. ولهذا كان مالك وأبو حنيفة يجتمعان إليه حين خرج من الحجاز، ويريدون بذلك أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصية من زيد بن علي. وكان أبو حنيفة يقول بفضله ويحتج إلى حقه، فتأدت إليهما المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب مالك على الفُتياء في طلاق المكره، وحبس أبو حنيفة على القضاء)(٢) .

لم يدع رجال الشيعة وسيلة من وسائل التفكير في حمل الكافة على مقت الخلافة الأموية - وإن كان ما يصدر عنها كافياً لنماء ذلك المقت - ولم يتركوا ذريعة من الذرائع لتكوين فكرة عامة، ولا حيلة من الحيل لتفكيك عرى عصبيتها والعمل المشترك على دكّ عرشها، إلاّ وقد تذرعوا. وأنشأوا الأحزاب الخفيّة وبثوا الدعاة في الأمصار ولا سيما البعيدة عن عاصمة الخلافة كبلاد خراسان الواسعة، وهي البلاد التي لم تقم فيها عصبية للأمويين بل ولا للعرب وأهلها، وإن دخلوا في الإسلام فهم لا

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون ج٤ ص٣، ٤ - دار الكتاب اللبناني - بيروت.

(٢) نفسه ج٤ ص٥، ٦.

٣٨

ينسون عزة سلطانهم وقد انتزعه منهم العرب، ولا كان في طبيعة الحكم الأموي من العدل ما يحملهم على النسيان أو التناسي وفي نفوسهم نزوع إلى استردُّد ملكهم واسترجاع سلطانهم المفقود، فكانوا بطبيعة الحال أميل إلى الحزب الهاشمي المعارض والنفوس مطبوعة على هوى المستضعف. دع ما في انضمامهم إلى هذا الحزب ما يرون فيه الوصول إلى بغيتهم وهي رجوع سلطانهم إليهم وفيهم من عرف بفصل الدعاوة أو بدراسة الدين الحق لأهله.

ولهذه العوامل اعتزت الدعوة الهاشمية بخراسان بكثرة الأشياع والأتباع وقيام (أبي مسلم الخراساني).

العصبية بين النِّزاريّة واليَمانية:

ومن آثار هذه السياسة الشيعية الخفية المرتكزة على دمامة التفكير الصحيح من الحزب المعارض، قيام العصبية النِّزارية واليمانية التي كان (الكُميت) الشاعر الهاشمي السياسي أول من أذكى جذوتها وهو نزاري، وكان خصمه الذي نَهَدَ لمعارضته (دِعْبِل) الشيعي الشاعر الهاشمي السياسي وهو يماني.

وسبب قيام هذه العصبية بعد أن أتى الإسلام على كل عصبية جاهلية، أنّ الكُميت لما قال الهاشميات قصد البصرة فأتى (الفَرَزْدَق) وهو شيعي فأنشد قصيدته التي مستهلُّها:

طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب

ولمّا أتمّ إنشادها قال له: (أظهِر، ثم أظهِر...)، وهذا هو غرض الكُميت الذي كان يقصده من عرض قصيدته على شاعر عصره الفَرَزْدق.

(ولما قدم الكميت المدينة أتى أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، فأذن له، وأنشده فلما بلغ من قصيدته قوله:

وقتيل بالطفّ غودر منهم بين غوغاء أمة وطغام

بكى أبو جعفر ثم قال:«يا كُميت، لو كان عندنا مال لأعطيناك،

٣٩

ولكن لك ما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لِحسَّان بن ثابت: لا زلت مؤيداً بروح القدس ما ذببت عنا أهل البيت» .

فخرج الكُميت من عنده، فأتى عبد الله بن الحسن بن علي فأنشده فقال: يا أبا المستهل، إن لي ضيعة أُعطيت فيها أربعة آلاف دينار، وهذا كتابها، وقد أشهدت لك بذلك شهوداً، وناوله إياه.

فقال له الكُمَيت:

(بأبي أنت وأمّي، إني كنت أقول الشعر في غيركم أريد بذلك الدنيا والمال، ولا والله ما قلت فيكم إلاّ لله، وما كنت لآخذ على شيء جعلته لله مالاً ولا ثمناً.

فألحّ عبد الله عليه وأبى من إعفائه، فأخذ الكُميت الكتاب ومضى. فمكث أياماً ثم جاء إلى عبد الله فقال:

(بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول الله، إني لي حاجة).

فقال له عبد الله: (وما هي؟ وكل حاجة لك مقضية). قال الكُميت: (كائنة ما كانت؟). قال عبد الله: (نعم).

قال الكُمَيت: (هذا الكتاب تقبله وترتجع الضيعة).

ووضع الكتاب بين يدي عبد الله، فقبله عبد الله.

ونهض عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأخذ ثوباً جلداً فدفعه إلى أربعة من غلمانه، ثم جعل يدخل دور بني هاشم ويقول:

(يا بني هاشم...، هذا الكُميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم وعرض دمه لبني أمية فأثيبوه بما قدرتم)، فيطرح الرجل في الثوب ما قدر عليه من دنانير ودراهم، واعلم النساء بذلك فكانت المرأة تبعث ما أمكنها حتى إنها لتخلع الحلي عن جسدها. فاجتمع من الدنانير والدراهم ما قيمته مائة ألف درهم، فجاء بها إلى الكميت، فقال:

(يا أبا المستهل...، أيتناك بجهد المقل ونحن في دولة عدونا، وقد جمعنا هذا المال وفيه حلى النساء كما ترى، فاستعن به على دهرك).فقال الكُميت:

٤٠