تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 391
المشاهدات: 123948
تحميل: 10981


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123948 / تحميل: 10981
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

العباسية، وكانت شيعية، وإن لم يرها الإمامية من الشيعة. ولمْ يَقُمْ بمناصرتها الأئمة وخاصتهم، ولكنهم لم يكونوا كارهين لها، ولا ساخطين عليها، ولا عاملين على مناهضتها، ولا داعين في السر والعلانية على إحباطها، بل هم راضون بها في ذات سرهم لقضائها إذا ظفرت على المظالم الأموية، وظفرها متيقن، ولتوقعهم منها الأخذ بثاراتهم، ولتوقعهم منها أُفُقاً واسعاً لنشر تعاليمهم الدينية.

ولم يكن لهذا الفريق الصالح من آل علي وفاطمة مطمع في الخلافة، وطموح إليها، وإن كانوا أحق الناس بها ويرون كما عرفت أنها غير صائرة إليهم.

إنك لترى كيف رفض أبو عبد الله جعفر بن محمد دعوة أبي سلمة حفص بن سليمان، حين أراد صرف الدعوة عن بني العباس - بعد مقتل إبراهيم الإمام وهو بالكوفة يملك ناصية الجيش - إلى بني علي، وقد كتب إليه بذلك كما كتب إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، بل أحرق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، بحيث يرى ذلك رسول أبي سلمة. ونصح عبد الله بن الحسن، وقد جاءه بكتاب أبي سلمة، يدعوه كما دعا أبا جعفر برفض قبول الدعوة ويحذّره عقباها.

وكذلك منع محمد الباقر أخاه زيداً من الخروج على هشام بن عبد الملك، ولم يكن خروجه للطلب بالإمامة وهو يعلم أنها لأخيه الباقر، بل كان خروجه كما علّله ابن خلدون، وكما هو واقع الحال، داعياً للكتاب والسنة، وإلى جهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء، وردّ المظالم، وأفعال الخير، ونصر أهل البيت.

وقد رفض علي بن الحسين (زين العابدين) دعوة المختار له، وقد قام يطالب بثأر أبيه، وأخذ يدعو لأهل الثغور، والعهد عهد عبد الملك بن مروان، ودماء أهل بيته بعد لم تجفّ، يدعو لهم بالنصر والتمكين.

وانظر كيف حمل المأمون عليّ بن موسى الرضا على قبول ولاية عهده التي لم يقبلها مختاراً.

يعلم أئمة أهل البيت أن الأمة وقد انغمست في حمأة الدنيا، وألقت

٦١

إليهم الأرض الغضّاء بأفلاذ أكبادها، وتفتحت لهم عن كنوزها، ودانت لسلطانهم الواسع الأمم والشعوب، وخفق لواؤهم على أقاليم الشرق والغرب، هيهات أن يُساسوا بعد ذلك بسياسة الإمامة الدينية، وفي هذه السياسة وقد اشرأبت أعناق المسلمين إلى الدنيا، وما العهد عن سياسة النبوّة الدينية وعن سياسة الخلفاء الراشدين ببعيد، ساور الانتقاض من هنا وهناك خلافة جدهم علي، وما كان يجهل أفانين السياسة وضروبها، وما كان بالجبان ولا بالعاجز الوكل.

كل ذلك كان من آيات فوز الدعوة العباسية على الدعوة العلوية التي لم يقم بها إلاّ فريق منهم، لا يؤيده ذلك الفريق الصالح وإن بدئت الدعوة في أول الأمر بمحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وكيف بعد توفّر هذه الأسباب لنجاح الدعوة العباسية لا يتفرّس المتفرّسون بمصير الأمر إليهم؟

على أن الدعوة العلوية الضئيلة قد حاربها دعاة بني العباس، وحسبك أن أبا مسلم داعيتهم هو الذي قتل عبد الله بن معاوية بن جعفر الذي دعا إلى نفسه بالكوفة، ثم خرج هارباً منها ومن البلاد التي بايعته بعد غلبته إلى خراسان.

وإنك لترى مثل هذا التفرّس والإرهاص لدولة قامت، فترى مثله لبني أمية، وبني بويه، ولكافور الاخشيدي، ولبني إدريس، وللفاطميين.

وسواء أصح كل ما تفرّس به المتفرّسون أم لم يصحّ، فإن من مجموع ما ذكرناه من حديث وخبر، ومن أسباب قريبة وبعيدة، ومن سياسة رشيدة كان يقوم بها بنو العباس ومن انضمّ إليهم من بني علي وشيعتهم، واتساع خراسان الإقليم الواسع لنشر الدعوة وهو الإقليم الذي لم تغمره العصبيّة للقبيل الأمويّ، جعلت لتلك الإرهاصات وذلك التفرس مكانهما من الإصابة.

والله غالب على أمره وإليه مصير الأمور.

٦٢

تاريخ الفاطميين

دول الشيعة العلويين في المغرب

قال ابن خلدون(١) : (بعد إلمامة قصيرة بما جرى لشيعة علي (عليه السلام) بالكوفة، ومَوجِدتِهم على الحسن، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، ومقتل من كان يتولى كِبَر ذلك كحِجْر بن عَدِيّ وأصحابه، واستدعاء الكوفيين الحسين، بعد وفاة معاوية، ومقتله، وندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، وخروجهم بعد وفاة يزيد، وبيعة مروان، ثم خروج المختار بن أبي عُبَيْد الثقفي للمطالبة بدم الحسين (عليه السلام)، ودعوته لمحمد بن الحنفيّة، واتّباع جموعة من الشيعة له، وقتل المختار لزياد، ثم نقمة محمد بن الحنفية عليه من أحوالٍ بلغته عنه، وكتابته إليه بالبراءة منه)، إلى أن قال:

(ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك، فقتله صاحب الكوفة يوسف بن عمر وصلبه، وخرج إليه ابنه يحيى بالجوزجان من خراسان، فقتل وصلب كذلك، وطّلّت دماء أهل البيت في كل ناحية)(١) .

إلى أن قال:

(ثم اختلف الشيعة وافترقت مذاهبهم في مصير الإمامة إلى العلوية، وذهبوا طرائق قِدَداً، فمنهم الإمامية القائلون بوصية النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي بالإمامة، ويسمونه الوصي بذلك، ويتبرؤون من الشيخين لما منعوه حقه بزعمهم،

____________________

(١) ملخص عن المجلد الرابع من تاريخ ابن خلدون.

٦٣

وخاصموا زيداً بذلك حين دعا بالكوفة. ومن لم يتبرأ من الشيخين رفضوه فسمّوا بذلك رافضة.

ومنهم الزيدية القائلون بإمامة بني فاطمة لفضل علي وبنيه على سائر الصحابة، وعلى شروط يشترطونها، وإمامة الشيخين عندهم صحيحة، وإن كان علي أفضل، وهذا مذهب زيد وأتباعه وهم جمهور الشيعة وأبعدهم عن الانحراف والغلو.

ومنهم الكيسانية نسبة إلى كيسان، يذهبون إلى إمامة محمد بن الحنفية وبنيه من بعد الحسن والحسين، ومن هؤلاء كانت شيعة بني العباس القائلون بوصية أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالإمامة.

وانتشرت هذه المذاهب بين الشيعة، وافترق كل مذهب منها إلى طوائف بحسب اختلافهم. وكان الكيسانية شيعة بني الحنفية أكثرهم بالعراق وخراسان.

ولما صار أمر بني أمية إلى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سرّاً لمحمد بن عبد الله بن حسن المثنى بن الحسن بن علي وسلم له جميعهم. وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم لما علموا له من الفضل عليهم.

ولهذا كان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله يحتجّان إليه حين خرج من الحجاز.

ويريدون أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصية من زيد بن علي.

وكان أبو حنيفة يقول بفضله ويحتج إلى حقه، فتأدت إليه المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب على الفتيا في طلاق المكره، وحُبس أبو حنيفة على القضاء.

ولما انقرضت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس، وصار الأمر لأبي جعفر المنصور، سعى عنده ببني حسن، وإن محمد بن عبد الله يروم

٦٤

الخروج، وإن دعاته ظهروا بخراسان، فحبس المنصور لذلك بني حسن وأخوته حسن وإبراهيم وجعفر وعلي القائم وابنه موسى بن عبد الله وسليمان وعبد الله ابن أخيه داود، ومحمد وإسماعيل وإسحق بني عمه إبراهيم بن الحسن، في خمسة وأربعين من أكابرهم، وحُبسوا بقصر ابن هبيرة ظاهر الكوفة حتى هلكوا في حبسهم، وأرهبوا لطلب محمد بن عبد الله، فخرج بالمدينة سنة خمس وأربعين، وبعث أخاه إبراهيم إلى البصرة فغلب عليها وعلى الأهواز وفارس، وبعث الحسن بن معاوية إلى مكة فملكها، وبعث عاملاً إلى اليمن، ودعا لنفسه وخطب على منبر النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتسمّى بالمهدي، وكان يُدعى (النفس الزكية)، وحبس عثمان بن رباح المرّي عامل المدينة، فبلغ الخبر إلى أبي جعفر المنصور فأشفقوا من أمره وكتب إليه كتابه المشهور)(١) .

ثم ذكر نص الكتاب وجواب محمد بن عبد الله وجواب المنصور إلى أن قال:

ثم عقد أبو جعفر على حربه لعيسى ابن عمه موسى بن علي، فزحف إليه في العساكر وقاتله بالمدينة فهزمه، وقتله في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين، ولحق ابنه علي بالسند إلى أن هلك هناك، واختفى ابنه الآخر عبد الله الأشتر إلى أن هلك في أخبار طويلة قد استُوفِّيناها كلها في أخبار أبي جعفر المنصور.

ورجع عيسى إلى المنصور، فجهَّزه لحرب إبراهيم أخي محمد بالعيرة(٢) ، فقاتله آخر ذي القعدة من تلك السنة فهزمه وقتله حسبما مر ذكره هنالك، وقتل معه عيسى بن زيد بن علي فيمن قتل من أصحابه.

وزعم ابن قتيبة أن عيسى بن زيد بن علي ثار على المنصور بعد قتل أبي مسلم، ولقيه في مائة وعشرين ألفاً، وقاتله أياماً إلى أن هم المنصور بالفرار. ثم أتيح له الظفر فانهزم عيسى ولحق بإبراهيم بن عبد الله بالبصرة، فكان معه هنالك إلى أن لقيه عيسى بن موسى بن علي وقتلهما كما مر.

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص٤، ٥، ٦ - دار الكتاب اللبناني.

(٢) العيرة: اسم موقع.

٦٥

ثم خرج بالمدينة أيام المهدي سنة تسع وستين من بني حسن، الحسين بن علي بن حسن المثلّث وهو أخو عبد الله بن حسن المثنّى وعم المهدي، وبويع للرضا من آل محمد، وسار إلى مكة، وكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بن علي، وقد كان قدم حاجّاً من البصرة، فولاّه حربه يوم الترْوِيَة فقاتله بفجَّة على ثلاثة أميال من مكة وهزمه وقتله، وافترق أصحابه، وكان فيهم عمه إدريس بن عبد الله، فأفلت من الهزيمة مع من أفلت منهم يومئذ، ولحق بمصر نازعاً إلى المغرب، وعلى بريد مصر يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويُعرف بالمسكين، وكان يتشيع، فعلم بشأن إدريس وأتاه إلى المكان الذي كان به مستخفياً، وحمله على البريد إلى المغرب، ومعه راشد مولاه، فنزل بوليلى سنة ست وسبعين، وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير (أوريه) من قبائل البربر وكبيرهم لعهده، فأجازه وأكرمه، وجمع البربر على القيام بدعوته، وخلع الطاعة العباسية وكشف القناع، واجتمع عليه البرابرة بالمغرب فبايعوه وقاموا بأمره، وكان فيهم مجوس فقاتلهم إلى أن أسلموا.

وملك المغرب الأقصى، ثم ملك تلمسان سنة ثلاث وسبعين، ودخلت ملوك (زِناتة) أجمع في طاعته، واستفحل ملكه وخاطب إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان، وخاطب الرشيد بذلك، فشد إليه الرشيد مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز، ويعرف بالشّماخ، وأنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب، فأجازه ولحق بإدريس مظهراً للنزوع إليه فيمن نزع من وحدان المغرب متبرئاً من الدعوة العباسية ومنتحلاً للطالبيين.

واختصه الإمام إدريس وحلى بعينه، وكان قد تأبط سماً في سنون، فناوله إياه عند شكايته من وجع أسنانه، فكان فيها فيما زعموا حتفه.

ودفن ببوليلى سنة خمس وسبعين، وفرّ الشّماخ ولحقه راشد بوادي ملوية، فاختلفا بينهما ضربتين قطع فيهما راشد يده، وأجاز الشّماخ الوادي فأعجزه.

وبايع البرابرة بعد مهلكه ابنه إدريس سنة ثمان وثمانين، واجتمعوا على القيام بأمره، ولحق به كثير من العرب من أفريقية والأندلس.

وعجز بنو الأغلب أمراء أفريقية عنه، فاستفحلت له ولبنيه بالمغرب

٦٦

الأقصى دولة، إلى أن انقرضت على يد أبي العافية وقومه مكناسة أولياء العبيديين أعوام ثلاثة عشر وثلاثمائة حسبما نذكر ذلك في أخبار البربر)(١) .

إلى أن قال:

(ثم خرج يحيى أخو محمد بن عبد الله بن حسن إدريس في الديلم سنة ست وسبعين أيام الرشيد، واشتدت شوكتهم، وسرَّح الرشيد لحربه الفضل بن يحيى فبلغ الطالقان، وتلطّف في استنزاله من بلاد الديلم على أن يشترط ما أحب، ويكتب له الرشيد بذلك خطه، فتم بينهما. وجاء به الفضل فوفى له الرشيد بكل ما أحب، وأجرى له أرزاقاً سنية، ثم حبسه بعد ذلك لسعاية كانت فيه من آل الزبير. فيقال: أطلقه بعدها ووصله بمال، ويقال: سمَّه لشهر من اعتقاله، ويقال: أطلقه جعفر بن يحيى افتياتاً فكان بسببه نكبة البرامكة، وانقرض شأن بني حسن، وخفيت دعوة الزيدية حيناً من الدهر، حتى كان منهم بعد ذلك باليمن والديلم ما نذكره والله غالب على أمره)(٢) .

الخبر عن خروج الفاطميين بعد فتنة بغداد

(كانت الدولة العباسية قد تمهّدت من لدن أبي جعفر المنصور منهم. وسلك أمر الخوارج والدعاة من الشيعة من كل جهة، حتى إذا هلك الرشيد ووقع بين بنيه من الفتنة ما وقع، وقتل الأمين بيد طاهر بن الحسين ووقع في حصار بغداد من الحرب والعبث ما وقع.

وبقي المأمون مقيماً بخراسان تسكيناً لأهلها عن ثائرة الفتن، وولّى على العراق الحسن بن سهل.

اتّسع الخرق حينئذ بالعراق، وأشيع عن المأمون أن الفضل بن سهل غلب عليه وحجره، فامتعض الشيعة لذلك وتكلموا، وطمع العلوية في التوثب على الأمر، فكان في العراق أعقاب إبراهيم بن محمد بن حسن المثنى المقتول بالبصرة أيام المنصور، وكان منهم محمد بن إسماعيل بن

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٢، ١٣، ١٤.

(٢) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٤، ١٥.

٦٧

إبراهيم، (ولقبه أبوه طباطبا لِلَكْنَةٍ كانت في لسانه أيام مرباه بين داياته)، فلُقب بها.

وكان شيعته من الزيدية وغيرهم يدعون إلى إمامته؛ لأنها كانت متوارثة في آبائه من إبراهيم الإمام جده على ما قلناه في خبره، فخرج سنة تسع وتسعين، ودعا لنفسه. ووافاه (أبو السرايا السريّ بن منصور) كبير بني شيبان، فبايعه، وقام بتدبير حربه، وملك الكوفة وكثر تابعوه من الأعراب وغيرهم.

وسرح الحسن بن سهل زهير بن المسيب لقتاله، فهزمه طباطبا، واستباح معسكره، ثم مات محمد في صبيحة ذلك اليوم فجأة، ويقال: إن أبا السرايا سمّه لما منعه من الغنائم. فبايع أبو السرايا يومه لمحمد بن محمد بن زيد بن علي زين العابدين، واستبدّ عليه. وزحفت عليهم جيوش المأمون فهزمهم أبو السرايا، وملك البصرة وواسط والمدائن.

وسرح الحسن بن سهل لحربه (هِرثَمَة بن أَعْيُن) وكان مغضباً، فاسترضاه وجهّز له الجيوش. وزحف إلى أبي السرايا وأصحابه، فغلبهم على المدائن وهزمهم وقتل منهم خلقاً.

ووجه أبو السرايا إلى مكة (الحسين الأفطس) بن الحسن بن علي زين العابدين، وإلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنَّى بن الحسن، وإلى البصرة زيد بن موسى بن جعفر الصادق، وكان يُقال له: زيد النار لكثرة من أحرق من الناس بالبصرة.

فملكوا مكة والمدينة والبصرة، وكان بمكة مسرور الخادم الأكبر، وسليمان بن داود بن عيسى. فلما أحسوا بقدوم الحسين فرّوا عنها، وبقي الناس في الموقف فوضى. ودخلها الحسين من الغد، فعاث في أهل الموسم ما شاء الله، واستخرج الكنز الذي كان في الكعبة من عهد الجاهلية، وأقرّه النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والخلفاء بعده، وقدرُهُ فيما قيل مائتا قنطار اثنتان من الذهب. فأنفقه وفرقه في أصحابه ما شاء الله.

ثم إن هرثمة واقع أبا السرايا فهزمه، ثم بحث عن منصور بن المهدي فكان أميراً معه، واتبع أبا السرايا فغلبه على الكوفة، وخرج إلى القادسية ثم إلى واسط. ولقيه عاملها وهزمه، ولحق بجلولا مغلولاً جريحاً، فقبض

٦٨

عليه عاملها وقدمه إلى الحسن بن سهل بالنَهروان، فضرب عنقه، وذلك سنة مائتين.

وبلغ الخبر الطالبيين بمكة، فاجتمعوا وبايعوا محمد بن جعفر الصادق.

وسمُّوه أمير المؤمنين، وغلب عليه ابناه علي وحسين، فلم يكن يملك معهما من الأمر شيئاً.

ولحق إبراهيم ابن أخيه موسى الكاظم بن جعفر الصادق باليمن في أهل بيته، فدعا لنفسه هنالك، وتغلّب على الكثير من بلاد اليمن، وسُمّي الجزّار لكثرة ما قتل من الناس.

وخلص عامل اليمن وهو إسحاق بن موسى بن عيسى إلى المأمون، فجهَّزه لحرب هؤلاء الطالبيين، فتوجه إلى مكة وغلبهم عليها.

وخرج محمد بن جعفر الصادق إلى الأعراب بالساحل، فاتبعهم إسحق وهزمهم، ثم طلبهم. وطلب محمد الأمان فأمنه، ودخل مكة وبايع للمأمون، وخطب على المنابر بدعوته.

وسابقته الجيوش إلى اليمن فشرّدوا عنه الطالبيين، وأقاموا فيه الدعوة العباسية.

ثم خرج (الحسين الأفطس) ودعا لنفسه بمكة، وقتله المأمون، وقتل ابنيه عليّاً ومحمداً.

ثم إن المأمون لما رأى كثرة الشيعة واختلاف دعائهم، وكان يرى مثل رأيهم أو قريباً منه في شأن عليٍّ والسبطين، فعهد بالعهد من بعده لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق سنة إحدى ومائتين.

وكتب بذلك إلى الآفاق، وتقدم إلى الناس، فنزع السواد ولبس الخضرة. فحقد بنو العباس ذلك من أمره، وبايعوا بالعراق لعمّه إبراهيم بن المهدي سنة اثنتين ومائتين. وخطب له ببغداد، وعظمت الفتنة.

وشخص المأمون من خراسان متلافياً أمر العراق، وهلك علي بن موسى في طريقه فجأةً، ودفن بطوس سنة ثلاث ومائتين. ووصل المأمون إلى

٦٩

بغداد سنة أربع ومائتين، وقبض على عمه إبراهيم وعفا عنه وسكّن الفتنة.

وفي سنة تسع ومائتين خرج باليمن عبد الرحمان بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، يدعو للرضا من آل محمد، وبايعه أهل اليمن، وسرّح إليه المأمون مولاه ديناراً، واستأمن له فأمنه، وراجع الطاعة.

ثم كثر خروج الزيدية من بعد ذلك بالحجاز والعراق والجبال والديلم، وهرب منهم إلى مصر خلق، وأُخذ منهم خلق.

وتتابع دعاتهم، فأول من خرج منهم بعد ذلك محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين، هرب خوفاً من المعتصم سنة تسع عشرة ومائتين، وكان بمكان من العبادة والزهد، فلحق بخراسان ثم مضى إلى الطلقان، ودعا بها لنفسه، واتبعته أمم الزيدية كلهم.

ثم حاربه عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه وقبض عليه وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات. ويقال: إنه مات مسموماً.

ثم خرج عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه وقبض عليه وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات. ويقال: إنه مات مسموماً.

ثم خرج من بعده الكوفة أيضاً الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين الأعرج بن علي بن زين العابدين، واجتمع إليه الناس من بني أسد وغيرهم من جموعه وأشياعه، وذلك سنة إحدى وخمسين ومائتين.

وزحف إليه (ابن بشكال) من أمراء الدولة فهزمه، ولحق بصاحب الزنج، فكان معه.

وكاتبه أهل الكوفة في العود إليه، وظهر عليه صاحب الزنج فقتله.

وكان خروج صاحب الزنج بالبصرة قبله بقليل، واجتمعت له جموع العبيد من زنج البصرة وأعمالها، وكان يقول في لفظه من أعلمه: إنه من وُلد عيسى بن زيد الشهيد، وأنه علي بن محمد بن زيد بن عيسى، ثم انتسب إلى يحيى بن زيد الشهيد. والحقّ أنه دعي النسب في أهل البيت كما نذكره في أخباره.

وزحف إليه الموفّق أخو المعتمد، ودارت بينه وبينهم حروب إلى أن قتله ومحا أثر تلك الدعوة كما قدمناه في أخبار الموفّق ونذكره في أخبارهم.

٧٠

ثم خرج في الديلم من وُلده الحسن بن زيد بن الحسن السبط الداعي المعروف بالعلوي، وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن، خرج لخمس وخمسين ومائتين، فملك طَبَرْستانَ وجَرْجان وسائر أعمالها. وكانت له ولشيعته الزيدية دولة هناك. ثم انقرضت آخر المائة الثالثة، وورثها من وُلد الحسن السبط،ثم من وُلده عمر بن علي بن زين العابدين الناصر الأطروش، وهو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر، وهو ابن عم صاحب الطالقان.

أسلم الديلم على يد هذا الأطروش، وملك بهم طبرستان وسائر أعمال الداعي، وكانت له ولبنيه هناك دولة، وكانوا سبباً لملك الديلم البلاد وتغلبهم على الخلفاء، كما نذكر ذلك في أخبار دولتهم.

ثم خرج باليمن من الزيدية من وُلد القاسم الرسيّ بن إبراهيم طباطبا أخي محمد صاحب أبي السرايا عام ثمانية وثمانين ومائتين، يحيى بن الحسين بن القاسم الرسّي، فاستولى على صعدة، وأورث عقبه فيها ملكاً فاقياً لهذا العهد، وهي مركز الزيدية في أخبارهم. وفي خلال ذلك خرج بالمدينة الأخوان محمد وعلي ابنا الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم، وعاثا في المدينة عيثاً شديداً، وتعطّلت الصلاة بمسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) نحواً من شهر، وذلك سنة إحدى وسبعين ومائتين.

ثم ظهر في المغرب من دعاة الرافضة (أبو عبد الله الشيعي) في (كتامة) من قبائل البربر عام ستة وثمانين ومائتين، داعياً لعبيد الله المهدي محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، فظهر على الأغالبة بالقيروان، وبايع لعبيد الله المهدي سنة ست وتسعين ومائتين، فتمّ أمره وملك المغربين، واستفحلت له دولة بالمغرب ورثها بنوه.

ثم استولوا بعد ذلك على مصر سنة ثمانٍ وخمسين وثلاثمائة، فملكها منهم (المعزّ لدين الله) معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله المهدي، وشيّد القاهرة، ثم ملك الشام واستفحل ملكه إلى أن انقرضت دولتهم على (العاضد) منهم على يد صلاح الدين بن أيوب سنة خمس وستين وخمسمائة.

٧١

ثم ظهر في سواد الكوفة(١) سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين، من دعاة الرافضة رجل اسمه الفرج بن يحيى ويُدعى (قرمط)، بكتاب زعم أنه من عند أحمد بن محمد بن الحنفيَّة فيه كثير من كلمات الكفر والتحليل والتحريم، وادّعى أن أحمد بن الحنفيَّة هو المهدي المنتظر. وعاث في بلاد السواد، ثم في بلاد الشام، وتلقب (وَكْرَوَيْه بن مَهْرَوَيْه). واستبدّت طائفة منهم بالبحرين ونواحيها، ورئيسهم أبو سعيد الجناجيّ، وكان له هناك ملك ودولة أورثها بنيه من بعده، إلى أن انقرضت أعوامهم كما يذكر في أخبار دولتهم.

وكان أهل البحرين هؤلاء يرجعون إلى دعوة العُبَيْديّين بالمغرب وطاعتهم.

ثم كان بالعراق من دعاة (الاسماعيلية) وهؤلاء الرافضة طوائف أُخرى، واستبدوا بكثير من النواحي، وتنسب إليها فيها القلاع: قلعة الموت وغيرها.

وينسبون تارة إلى (القرامطة) وتارة إلى (العبيديين). وكان من رجالاتهم الحسن بن الصبّاح في قلعة الموت وغيرها، إلى أن انقرض أمرهم آخر الدولة السلجوقية.

وكان باليمامة ومكة والمدينة من بعد ذلك دول للزيدية والرافضة، فكان باليمامة دولة لبني الأخضر وهو محمد بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنَّى. خرج أخوه إسماعيل بن يوسف في بادية الحجاز سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وملك مكة ثم مات، فمضى أخوه محمد إلى اليمامة فملكها، وأورثها لبنيه إلى أن غلبهم القرامطة.

وكان بمكة دولة لبني سليمان بن داود بن الحسن المثنّى، خرج محمد بن سليمان أيام المأمون وتسمّى بالناهض، وملك مكة، واستقرت إمارتها في بنيه إلى أن غلبهم عليها الهواشم، وكبيرهم محمد بن جعفر بن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن

____________________

(١) سواد الكوفة: ما حولها من القرى. ومنه سواد العراق لما بين البصرة والكوفة ولما حولهما من القرى.

٧٢

موسى الجون، فملكها من إبراهيم سنة أربع وخمسين وأربعمائة. وغلب بني حسن على المدينة، وداول الخطبة بمكة بين العباسيين والعبيديين. واستفحل ملكه في بنيه إلى أن انقرضوا آخر المائة السادسة.

وغلب على مكة بنو أبي قمي أمراؤها لهذا العهد، ملك أولهم أبو عزيز قتادة بن إدريس مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن موسى الجون. وورث دولة الهواشم وملكهم وأورثها بنيه إلى هذا العهد كما تذكر في أخبارهم، وهؤلاء كلهم زيدية.

وبالمدينة دولة للرافضة لولد الهناء، قال المسَبِّحي: (اسمه الحسن بن طاهر بن مسلم. وفي كتاب العُتبي مؤرخ دولة (ابن سَبَكْتكين) أن مسلماً اسمه محمد بن طاهر وكان صديقاً لكافور ويدبّر أمره وهو من ولد الحسن بن عليّ زين العابدين.

واستولى طاهر بن مسلم على المدينة أعوام ستين وثلاثمائة، وأورثها بنيه لهذا العهد كما نذكر في أخبارهم)(١) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٥ إلى ٢٣.

٧٣

الأدارسة في المغرب

مبدأ دولتهم وانقراضها

(لما خرج حسين بن علي بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن الحسن السبط بمكة في ذي القعدة سنة ست وتسعين ومائة أيام المهدي، واجتمع عليه قرابته وفيهم عماه إدريس ويحيى، وقاتلهم محمد بن سليمان بن عليّ بعجة على ثلاثة أميال من مكة، فقتل الحسين في جماعة من أهل بيته، وانهزموا وأُسر كثير منهم، ونجا يحيى بن إدريس وسليمان. ظهر يحيى بعد ذلك في الديلم. وقد ذكرنا خبره من قبل وكيف استنزله الرشيد وحبسه)(١) .

وأمّا إدريس ففر ولحق بمصر، وتم له ملك المغرب كما سبق بيانه، وقتل مسموماً (وكان قد جمل(٢) من دعوته في ابنه إدريس الأصغر من جاريته كنزة، بايعوه حملاً ثم رضيعاً ثم فصيلاً إلى أن شبّ واستتم فبايعوه بجامع (وليلى) سنة ثمان وثمانين ابن إحدى عشرة سنة. وكان ابن الأغلب دس إليهم الأموال واستمالهم حتى قتلوا راشداً مولاه سنة ست وثمانين.

وقام بكفالة إدريس من بعده أبو خالد بن يزيد بن الياس العبدي، ولم يزل كذلك إلى أن بايعوا لإدريس، فقاموا بأمره، وجردوا لأنفسهم رسوم الملك بتجديد طاعته، وافتتحوا بلاد المغرب كلها، واستوثق لهم الملك

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص٢٣.

(٢) جمل: ربما كان المقصود بها (صحف) أو (جنب).

٧٤

بها. واستوزر إدريس مصعب بن عيسى الأزدي المسمّى بالملجوم من ضربة في بعض حروبهم وَسَمَتْه على الخرطوم وكأنها خِطام(١) . ونزع إليه كثير من قبائل العرب والأندلس، حتى اجتمع إليه منهم زهاء خمسمائة، فاختصهم دون البربر، وكانوا له بطانة وحاشية، واستفحل بهم سلطانه.

ثم قتل كبير أوربة إسحاق بن محمود سنة اثنتين وتسعين لما أحسّ منه بموالاة إبراهيم بن الأغلب.

وكثرت غاشية(٢) الدولة وأنصارها وضاقت (وليلى) بهم، فاعتام موضعاً لبناء مدينة لهم، وكانت (فاس) موضعاً لبني بوغش وبني الخير من وزاعة. وكان في بني بوغش مجوس ويهود ونصارى، وكان موضع شيبوبة منها بيت نار لمجوسهم.

وأسلموا كلهم على يده، وكانت بينهم فتن، فبعث للإصلاح بينهم كاتبه أبا الحسن عبد الملك بن مالك الخزرجيّ ثم جاء إلى فاس، وضرب أبنيته بكزواوه، وشرع في بنائها، فاختطّ عدوة الأندلس سنة اثنتين وتسعين. وفي سنة ثلاث وتسعين اختطّ عدوة القرويين، وبنى مساكنه، وانتقل إليها، وأسّس جامع الشرفاء، وكانت عدوة القرويين من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء والجرف.

واستقام له أمر الخلافة وأمر القائمين بدعوته وأمر العز والملك. ثم خرج غازياً للمصامدة سنة سبع وتسعين، فافتتح بلادهم، ودانوا بدعوته، ثم غزا تلمسان وجدّد بناء مسجدها وإصلاح منبرها، وأقام بها ثلاث سنين.

وانتظمت كلمة البرابرة وزناتة، ومحوا دعوة الخوارج منهم واقتطع الغربيين عن دعوة العباسيين من لدن الشموس الأقصى إلى شلف(٣) ).

إلى أن قال:

____________________

(١) خِطام: حبل يجعل في عنق البعير ويُثنى في خَطْمِه، كل ما وُضع في أنف البعير ليُقاربه.

(٢) غاشية الدولة: خدم الدولة. وغاشية فلان: زواره وأصدقاؤه ينتابونه.

(٣) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص٢٥، ٢٦، ٢٧.

٧٥

(وهلك إدريس سنة ثلاث عشرة، وقام بالأمر من بعده ابنه (محمد) بعهده إليه، فأجمع أمره بوفاة جدته (كنزة) أم إدريس، على أن يشرك أخوته في سلطانه، ويقاسم ممالك أبيه، فقسّم المغرب بينهم أعمالاً)(١) .

(وتُوفِّي بعد أمور جرت بين إخوته وبينهم سنة إحدى وعشرين ومائتين، بعد أن استخلف ولده علياً في مرضه، وهو ابن تسع سنين.

فقام بأمره الأولياء والحاشية من العرب وأوربة وسائر البربر وصنائع الدولة. وبايعوه غلاماً مترعرعاً، وقاموا بأمره، وأحسنوا كفالته وطاعته، فكانت أيامه خير أيام.

وهلك سنة أربع وثلاثين لثلاث عشرة سنة من ولايته، وعهد لأخيه (يحيى) بن محمد، فقام بالأمر وامتد سلطانه، وعظمت دولته واستجدّت فاس في العمران)(٢) . (وهلك يحيى هذا، ووليَ ابنه (يحيى) بن يحيى، فأساء السيرة وكثر عبثه في الحرم، وثارت به العامة لمركب شنيع أتاه. وتولى كِبَرَ الثورة عبد الرحمان بن أبي سهل الحزامي، وأخرجوه من عُدْوَةِ القَرَوِيّين إلى عُدوة الأندلسيين، فتوارى ليلتين ومات أسفاً لليلته.

وانقطع الملك من عقب محمد بن إدريس. وبلغ الخبر بشأن يحيى إلى ابن عمه علي بن عمر صاحب الريف، واستدعاه أهل الدولة من العرب والبربر والموالي، فجاء إلى فاس ودخلها وبايعوه.

واستولى على أعمال المغرب إلى أن ثار عليه (عبد الرزّاق) الخارجي، وكان على رأي الصُفْرِيّة، فزحف إلى فاس وغلب عليها، ففرَّ إلى أوربة.

وملك عبد الرزاق عدوة الأندلس، وامتنعت منه عدوة القرويين. وولّوا على أنفسهم يحيى بن القاسم بن إدريس، وكان يُعرف بالصرام، بعثوا إليه فجاءهم جموعه. وكانت بينه وبين الخارجي حروب. ويقال: إنه أخرجه من عدوة الأندلس، واستعمل عليها ثَعْلَبَةَ بن مُحارب بن عبد الله، كان من أهل الربض بقرطبة، من ولد المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة.

____________________

(١) نفسه: م٤ ص٢٧.

(٢) نفسه: م٤ ص٢٩.

٧٦

ثم استعمل ابنه عبد الله المعروف بعبود من بعده، ثم ابنه محارب بن عبود بن ثعلبة، إلى أن اغتاله الربيع بن سليمان سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وقام بالأمر مكانه (يحيى) بن إدريس بن عمر صاحب الريف، وهو ابن أخي عليّ بن عمر، فملك جميع أعمال الأدارسة، وخطب له على سائر أعمال المغرب.

وكان أعلى بني إدريس مُلكاً، وأعظمهم سلطاناً، وكان فقيهاً عارفاً بالحديث، ولم يبلغ أحد من الأدارسة مبلغه في السلطان والدولة.

وفي أثناء ذلك كله خَلَط(١) الملك للشيعة بأفريقية، وتغلَّبوا على الاسكندرية، واختطوا المهدِيَّة كما نذكره في (دولة كتامة). ثم طمحوا إلى مُلْك المغرب، وعقدوا لـ (مضالة بن حبوس) كبير مكناسة وصاحب تاهرت على محاربة ملوكه سنة خمس وثلاثمائة.

فزحف إليه في عساكر مكناسة وكتامة. وبرز لمدافعته يحيى بن إدريس صاحب المغرب بجموعه من المغرب وأولياء الدولة من أوربة وسائر البرابرة والموالي.

والتقوا على مكناسة، وكانت الدبرة على يحيى وقومه، ورجع إلى فاس مغلولاً، وأجاز له بها معاملة إلى أن صالحه على مال يؤدّيه إليه وطاعة معروفة لعبيد الله الشيعي سلطانه يؤدّيها فقبل الشرط، وخرج عن الأمر وخلع نفسه، وأنفذ بيعته إلى عبيد الله المَهْدِيّ، وأبقى عليه مصالحه في سكنى فاس، وعقد له على عملها خاصة، وعقد لابن عمه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة يومئذ، وصاحب (سنور وتازه)على سائر أعمال البربر كما نذكره في أخبار مكناسة ودولة موسى.

وكان بين موسى بن أبي العافية وبين يحيى بن إدريس شحناء وعداوة، يضغنها كل واحد لصاحبه، حتى إذا عاد (مضالة) إلى المغرب في غزاته الثانية سنة تسع أغراه موسى بن أبي العافية بطلحة بن يحيى بن إدريس صاحب فاس، فقبض عليه مضالة واستصفى أمواله وذخائره وغرّبه إلى أصيلا والريف عمل ذي قرباه ورحمه.

____________________

(١) خلط: كذا ولم نجد لها معنى يناسب السياق ولعلها: خلص، بمعنى تمّ.

٧٧

وولّى على فاس ريحان الكتاميّ، ثم خرج يحيى يريد أفريقية، فاعترضه ابن أبي العافية وسجنه سنين، وأطلقه ولحق بالمهدية سنة إحدى وثلاثين، وهلك في حصار أبي يزيد. واستبد ابن أبي العافية بملك المغرب.

وثار على ريحان الكتاميّ بفاس سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس الملقّب بالحجَّام، ونفى ريحان عنها، وملكها عامين.

وزحف للقاء موسى بن أبي العافية، وكانت بينهما حروب شديدة هلك فيها ابنه منهال بن موسى، وانجلت المعركة على أكثر من ألف قتيل وخلص الحسن إلى فاس منهزماً، وغدر به حامد بن حمدان الأوربي واعتقله. وبعث إلى موسى فوصل إلى فاس وملكها، وطالبه بإحضار الحسن فدافعه عن ذلك، وأطلق الحسن متنكراً، فتدلّى من السور فسقط ومات من ليلته، وفر حامد بن حمدان إلى المهدية.

وقتل موسى بن أبي العافية عبد الله بن محارب وابنيه محمداً ويوسف، وذهب ملك الأدارسة.

واستولى ابن أبي العافية على جميع المغرب، وأجلى بني محمد بن القاسم بن إدريس وأخاه الحسن إلى الريف، فنزلوا البصرة، واجتمعوا إلى كبيرهم إبراهيم بن محمد بن القاسم أخي الحسن، وولّوه عليهم.

واختطّ لهم الحِصْن المعروف بهم هنالك وهو حجر النسر سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ونزلوه وبنو عمر بن إدريس يومئذ بغمارة من لدن تيجساس إلى سبتة وطنجة، وبقي إبراهيم كذلك.

وشمّر الناصر المرواني لطلب المغرب، وملك سبتة علي بن إدريس سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكبيرهم يومئذ أبو العيش بن إدريس بن عمر، فانجابوا له عنها، وأنزل بها حاميته. وهلك إبراهيم بن محمد، فتولّى عليهم من بعده أخوه القاسم الملقّب بكانون وهو أخو الحسن الحجَّام واسمه القاسم بن محمد بن القاسم. وقام بدعوة الشيعة انحرافاً عن أبي العافية ومذاهبه، واتصل الأمر في ولده وغمارة أولياؤهم والقائمون بأمرهم كما نذكره في أخبار غمارة.

٧٨

ودخلت دعوة المروانيّين خلفاء قرطبة إلى المغرب، وتغلبت زناتة على الضواحي، ثم ملك بنو يعرب فاس وبعدهم مِغْراوة.

وأقام الأدارسة بالريف مع غمارة وتجدّد لهم به ملك في بني محمد وبني عمر بمدينة البصرة وقلعة حجر النسر ومدينة سبتة وأصيلا. ثم تغلب عليهم المروانيون وأثخنوهم إلى الأندلس، ثم أجازوهم إلى الإسكندرية، وبعث العزيز العُبَيْدي بن كانون منهم لطلب ملكهم بالمغرب فغلبه عليه المنصور بن أبي عامر وقتله، وعليه كان انقراض أمرهم وانقراض سلطان أوربة من المغرب.

وكان من أعقاب الأدارسة الذين أووا إلى غمارة فكانوا الدائلين من ملوك الأموية بالأندلس. وذلك أن الأدارسة لما انقرض سلطانهم، صاروا إلى بلاد غمارة واستجدوا بها رياسة، واستمرت في بني محمد وبني عمر من ولده إدريس بن إدريس، وكانت للبربر إليهم بسبب ذلك طاعة وخلطة.

وأمّا سليمان أخو إدريس الأكبر فإنه فرّ إلى المغرب أيام العباسيّين، فلحق بجهات تاهرت بعد مهلك أخيه إدريس. وطلب الأمر هناك فاستنكره البرابرة، وطلبه ولاة الأغالبة فكان في طلبهم تصحيح نسبه.

ولحق بِتَلْمَسان فملكها، وأذعنت له زناتة وسائر قبائل البربر هنالك. وورث ملكه ابنه محمد بن سليمان على سننه، ثم افترق بنوه على ثغور المغرب الأوسط واقتسموا ممالكه ونواحيه، فكانت َتلْمَسان من بعده لابنه محمد بن أحمد بن القاسم بن محمد بن أحمد، وأظنّ هذا القاسم هو الذي يدعي بنو عبد الواد نسبه؛ فإن هذا أشبه من القاسم بن إدريس بمثل هذه الدعوى.

وكانت (أرشكول) لعيسى بن محمد بن سليمان، وكان منقطعاً إلى الشيعة، وكانت جراوة لإدريس بن محمد بن سليمان ثم لابنه عيسى وكنيته أبو العيش. ولم تزل إمارتها في وُلده، وولِيها بعده ابنه إبراهيم بن عيسى، ثم ابنه يحيى بن إبراهيم، ثم أخوه إدريس بن إبراهيم. وكان إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول منقطعاً إلى عبد الرحمان الناصر، وأخوه يحيى كذلك. وارتاب من قبله ميسور قائد الشيعة فقبض عليه سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.

٧٩

ثم انحرف عنهم، فلما أخذ ابن أبي العافية بدعوة العلوية نابذ أولياء الشيعة، فحاصر صاحب جراوة الحسن بن أبي العيش وغلبه على جراوة فلحق بابن عمه إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول، ثم حاصرها البوري بن موسى ابن أبي العافية وغلب عليهما. وبعث بهما إلى الناصر فأسكنهما قرطبة.

وكانت تنس لإبراهيم بن محمد بن سليمان، ثم لابنه محمد من بعده، ثم لابنه يحيى بن محمد ثم ابنه علي بن يحيى. وتغلّب عليه زيري بن مناد سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، ففر إلى الجبر بن محمد بن خزر، وجاز ابناه حمزة ويحيى إلى الناصر فتلقاهما رحباً وتكرمة. ورجع يحيى منهما إلى طلب تنس فلم يظفر بها.

وكان من ولد إبراهيم هذا أحمد بن عيسى بن إبراهيم صاحب سوق إبراهيم، وسليمان بن محمد بن إبراهيم من رؤساء المغرب الأوسط. وكان من بني محمد بن سليمان هؤلاء وبَطْوش بن حناتِش بن الحسن بن محمد بن سليمان.

قال ابن حزم: وهم بالمغرب كثير جداً، وكان لهم بها ممالك، وقد بطل جميعها، ولم يبق منهم بها رئيس بنواحي بجاية، وحمل بني حمزة هؤلاء جوهر إلى القيروان، وبقيت منهم بقايا في الجبال والأطراف معروفون هنالك عند البربر، والله وارث الأرض ومن عليها)(١) .

قال المسعودي في مروجه:

(وفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة كان ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم بالمدينة، وكان قد بويع له في الأمصار، وكان يدعى بالنفس الزكية لزهده ونسكه، وكان مستخفياً من المنصور ولم يظهر حتى قبض المنصور على أبيه عبد الله بن الحسن وعمومته وكثير من أهله وعدتهم.

ولما ظهر محمد بن عبد الله بالمدينة، دعا المنصور أبا مسلم العقيلي، وكان شيخاً ذا رأي وتجربة، فقال له: أشر علي في خارجيّ خرج علي)(٢) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص٣٠ إلى ص٣٦.

(٢) مروج الذهب للمسعودي: م٢ ص٢٣٧.

٨٠