ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب36%

ما يحتاجه الشباب مؤلف:
الناشر: ناظرين
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 214

ما يحتاجه الشباب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156138 / تحميل: 8963
الحجم الحجم الحجم
ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب

مؤلف:
الناشر: ناظرين
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ما يحتاجهُ الشباب

١

٢

أحمد الصادقي

ما يحتاجهُ الشباب

ترجمةُ

علي الهاشمي

٣

حقوقُ الطبع محفوظة للناشر

اسم الكتاب: ما يحتاجهُ الشباب

المؤلِّف: الشيخ أحمد الصادقي

المترجِم: السيّد علي الهاشمي

الناشر: ناظرين

تنضيد الحروف والإخراج الفني: إسماعيل الوائلي

تصميم الغلاف: عبد العزيز مصطفى خضير

الطبعة الأولى: عام ١٤٢٥ هـ - ٢٠٠٤ م

المطبعة: نگار

كميّة المطبوع: ٢٠٠٠ نسخة

شابك ٩-٠٢-٨٤٦٥-٩٦٤ISBN ٩٦٤-٨٤٦٥-٠٢-٩

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

إنَّ ما يتمتّع به الشباب من الحيويّة، والنشاط، والكفاءات الواسعة، والقابليات الهائلة، والحماس، والجدّ، والمثابرة، من العناصر التي تجعل من جيل الشباب أعضاءً مؤثّرين في الحياة الاجتماعية.

إلاّ أنّ الإحصائيات والتقارير العلمية - التي نطالعها في الصُحف بشأن طُرق استثمار هذه الثروة الإنسانية - قد قسّمَت الشباب بشكلٍ عام إلى فئتين:لإحداهما سلوكية إيجابية، وللأخرى سلوكية سلبية.

سلوكيةُ الفئتين

نواجه في ملف الحياة الاجتماعية لإحدى هاتين الفئتين ما يلي:

الإخفاقُ في الدراسة، البطالة والإهمال، الهروب من البيت، اللعب بالقمار ومُعاقرة الخمور، التسكّع والانحلال، الإدمان على المخدّرات، السرقة، الانحرافات الجنسية، عمليات التزوير والتزييف، الخيانة والخطف والاعتداء، قطعُ الطرق وجرائم القتل، وغير ذلك ممّا يمكن تلخيصه في المعاصي والتمرّد على الله سبحانه، الذي لا يَعقبه سوى الندم والحسرة والفضيحة والسجن والهوان والخسران.

٥

بينما نجد ملف الفئة الثانية مُفعماً بما يلي:

الجدّ في طلب العلم، الإخلاص في العمل، الشعور بالمسؤولية، احترام الكبار وتوقيرهم، الاستماع إلى النصيحة، الإبداع والمثابرة، مواصلة الدراسات العالية والاشتراك في المسابقات الإقليمية والدولية، وغير ذلك ممّا يؤدّي إلى التقدّم والنجاح والرفعة والسموّ لهم ولمجتمعاتهم.

وطبعاً أنّ سلوكية كلتا الفئتين تكمُن في جذور الأشخاص ومجتمعاتهم، فلابدّ من البحث عنها هناك بُغية علاجها أو دَعمها وتنميتها، إلاّ أنّ الذي يمكن قولهُ بشكلٍ عام هو: أنّ جميع هذه السلوكيات سواء كانت صالحة أم طالحة، تدور حول محور( تلبية الحاجة ) ، فحتّى أولئك الذين سلكوا طريق الانحراف عن قصد أو غير قصد، وعن جهل وغفلة، أو عن إصرار وعناد، إنّما وجدوا أنّ ( تلبية حاجاتهم المادّية والمعنوية ) تكمن في سلوك هذا الطريق، وبذلك سقطوا في الهاوية، وعليه فكلتا الفئتين تسعى في الحقيقة إلى ( تلبية حاجتها في الحياة )، سوى أنّ الفئة الأولى - لأسبابٍ معروفة لها أحياناً - قد تُخطيء الطريق والهدف ويغدو من الصعب عليها الرجوع إلى جادّة الصواب، في حين أنّ الفئة الثانية قد سَلكت طريق الخير والصلاح بفضل ذكائها ومعرفتها، أو بفعل استماعها لنصائح الأهل وتشجيع الأصدقاء الصالحين والمعلّمين المخلصين، فبادرت إلى ( تلبية حاجاتها المعقولة ) وارتقت قِمم التقدّم والنجاح.

الفئةُ السامية

لقد قرأنا في الصُحف الكثير بشأن السلوكيات المريرة والمؤلمة والحوادث الفظيعة للفئة الأولى، إلاّ أنّنا سنغضّ الطرف عنها ونكتفي بذكر كلام للدكتور( الكسيس كاريل ) ، عالِم الأحياء الفرنسي المعروف الحائز على جائزة نوبل في الطب، حيث قال:

٦

( قد يبدو إشباع الشهوة أمراً مهمّاً، إلاّ أنّه ليس هناك ما هو أبعد من المنطق من إهدار الحياة باللهو، إذ ما هي الفائدة التي نرجوها من الحياة إذا كانت مقصورة على الرقص والصخب، وقطع الشوارع بالسيارات )(١) .

وأمّا بالنسبة إلى النجاحات التي حقّقها الشباب المنتسب إلى الفئة الثانية في شتّى المجالات، فهناك أرقام كثيرة نكتفي منها بالإشارة إلى بضعة نماذج حدثت في الأشهر القليلة المنصرمة:

١- في الدورة الحادية والثلاثين للأولمبيّات العلمية الدولية في الكيمياء، التي انعقدت في بانكوك عاصمة تايلند، تمكّن فريق الجمهورية الإسلامية الإيرانية المؤلّف من أربعة طلاب هم:مهدي كهرم، ورضا كلانتري، وبابك غرايلي، وبويا ساجدي، من الحصول على ثلاث مداليات ذهبية نالها الثلاثة المذكورون أوّلاً، ومدالية نُحاسية نالها الأخير، وحازَ الفريق على المرتبة الثالثة من بين مئة وثلاثة وتسعين طالباً من ثلاثة وخمسين بلداً(٢) .

٢ - حازَ فريق الجمهورية الإسلامية الإيرانية المؤلّف من ستّة أشخاص في أولمبيات الرياضيات التي انعقدت في( رومانيا ) ، على مداليتين ذهبيتين وأربع مداليات فضيّة، وارتقى المرتبة السابعة بمئة وتسعة وخمسين نقطة من بين٨٣ بلداً(٣) .

٣ - وفقاً لإعلان ( نادي الطلاّب الشباب ) تمّ اختيار إحسان اردستاني زادة من طهران، وبيام سيفي من تبريز، وبويا قائمي محمّدي من أصفهان، وكاميار راهنما راد من زاهدان، للاشتراك في الدورة الحادية والثلاثين لأولمبيات الفيزياء العالمية التي تقام في انجلترا(٤) .

٤ - في الدورة العالمية السابعة ( الخطوة الأولى نحو جائزة نوبل للفيزياء )، التي تقيمها مؤسّسة الفيزياء لأكاديميّة العلوم في بولندا بمشاركة منظّمة اليونسكو، نالت طالبتان من اعداديات طهران هما: السيدةنازنين آل علي، وزهراء توكّلي شهادة الدبلوم الفخرية؛ إذ استحقّت رسالتهما هذا التقدير من بين إحدى عشرة رسالة أُرسلت من إيران(٥) .

____________________

(١) أسلوب الحياة: ص١٧، الطبعة الخامسة.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٨٧٥، ص٣.

(٣) الصحيفة نفسها: العدد ١٨٨٥، ص٤.

(٤) الصحيفة نفسها: العدد ٢١٥٩، ص١٥.

(٥) صحيفة همشهري: العدد ١٨٧٥، ص٣.

٧

٥ - نالَ ثلاثة مُنتجين للأفلام السينمائية جوائز قيّمة في المهرجان الثالث والخمسين للأفلام السينمائية، المنعقد في مدينة( كان ) الفرنسية، وهو من أقدم المهرجانات السينمائية وأهمّها في العالَم، وكان من بينهم فتاة إيرانية عمرها عشرون عاماً واسمها( سميرة مخملباف ) ، وقد مُنحت جائزة( النخلة الذهبية ) على إنتاجها فيلماً سينمائياً اسمه( اللوحة ) ، وقد قرّرَت أن تضع جائزتها في المتحف، كما أُعطيت بالإضافة إلى ذلك حجاباً وأربعة كُتب في موضوع تاريخ السينما وبطاقة تهنئة، وتمّ استدعاؤها للتحكيم في مهرجانات: موسكو، وجيفوني، والأرجنتين(١) .

ما هي الحاجات؟

إنَّحاجات الإنسان : هي تلك الأمور التي تساعده على بلوغ حياة سليمة وشريفة، وهي على قسمين:مادّية، ومعنوية ، أمّا المادّية فهي من قبيل: الماء، والطعام، والمسكن، والنوم، والدفء، والغريزة الجنسية، وأمّا المعنوية فهي من قبيل: الإيمان بالله، واللجوء إلى مبدأ منيع، وحبّ الآخرين له، والطمأنينة، والأمن، والرُقي، والتكامل الإنساني.

وقد سعى مؤلِّف هذا الكتاب إلى استعراض حاجة الشباب المادّية في أبواب: البلوغ، وعلاقات البنات والأولاد، والإسلام والرياضة، والعمل، والزواج ومشاكله، والانحرافات الجنسية بأسلوبٍ مُبسّط وجذّاب، كما استعرضَ الحاجات المعنوية للشباب في أبواب: لنتعرّف أنفسنا، ولنفهم كلام بعضنا، وابن العصر، والتأثير والتأثّر، والآفات الأخلاقية، وجذوة الأمل، وبارقة النجاة، وأبطال الإيمان، وعُقدة النقص، ووَضَعَ العلاجات اللازمة لها.

____________________

(١) صحيفة الانتخاب: العدد ٣٢٣ و٣٣٠، ص١٠.

٨

الحاجةُ إلى الإيمان

فيما يرتبط بموضوع الحاجة إلى الإيمان وأثرهُ البنّاء في الحياة، مضافاً إلى ما سنجده في طيّات هذا الكتاب من معارف إسلامية هامّة، سندرك حقيقة لا يمكن إنكارها وهي: أنّ انعدام الإيمان يساوي الموت، وقد ذكر( وليم جيمس ) أستاذ جامعة( هارفارد ) قبل سنوات: ( إنّ الإيمان من القوى التي تساعد الإنسان على الحياة والتي يعدُّ فقدانها بمثابة الموت والفناء )(١) .

كما صرّح رئيس لجنة أمور الشباب في مجلس النوّاب في روسيا - بسبب انعدام الإيمان والمشاكل الثقافية والاقتصادية والمعنوية - بأنَّ: وَضع الشباب في البلاد يعدّ ( كارثة وطنية )، وأبدى مخاوفه تجاه مستقبل جيل الشباب الذي يُنذر بالخطر(٢) !

وقد نَقلت المحطّات التلفزيونية في الغرب إحصائيّات مُخيفة حول تأثير انعدام الأخلاق في العالم، الذي يُهدّد جيل الشباب في أكثر من ٧٢ بلداً(٣) .

فعلينا أن نستفيد من تعاليم الإسلام التي صرّح بها قبل قرون بُغية رفع حاجتنا الحيويّة إلى الإيمان، وقد أفاقت بعض أجزاء العالَم من سُباتها الراهن، إذ نقرأ في بعض الصُحف ما يلي:( لقد ألزمَت ولاية فرجينيا - في مرسومٍ لها - جميع المدارس الحكومية فيها، بالسكوت والدعاء دقيقة واحدة في مستهلّ كلّ يوم!) (٤) .

____________________

(١) كيف نتغلّب على الاضطراب والقلق: ص٢٢٧، الطبعة السادسة عشرة.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٥٦٨، ص١٦.

(٣) صحيفة القدس: العدد ٣٢٦٥، ص٦.

(٤) مجلّة زن روز ( المرأة العَصرية ): العدد ١٧٤٢، ص٤٢.

٩

ولذا أوصي الشباب الأعزّاء بقراءة هذا الكتاب من البداية إلى النهاية في جوٍّ هادئ، قراءةً متأنية والاطّلاع على مضامينه النفسية التي تنتهي إلى اكتشاف أنفسنا وتعيد لنا هويتنا، وأن يجعلوا من الإرشادات الواردة فيه مشعلاً يضيء لهم طريق الحياة السليمة والشريفة.

قم: أحمد الصادقي الأردستاني

١٥ / خرداد / ١٣٧٩

١٠

(١)

لنتعرَّف أنفسَنا

حينما ندخل في خضمّ الاضطراب والقلق الذي يثيره إعصار مرحلة الشباب، تتجلّى لنا أهميّة التعرّف على النفس.

ولكن لماذا نستعرض( معرفة النفس ) في مرحلة تُعرّض سفينة الشباب للعواصف الهائجة حيث الاضطراب والفزع؟ سبب ذلك: أنّ القابليات المُفعمة والمبدعة لدى الشاب تمنحه في ظلّ ( فورة الشباب ) الجرأة على اتخاذ القرار، وعقد العزم بإرادة حديديّة لكبح رَغَباته ونَزَواته الجامحة، وبذلك يقود سفينة وجوده - بعد تعرّضها للعواصف - إلى ( ساحل الأمان )، وأن يغوص - بدراية ووعي كامل - في أعماق وجوده للتعرّف على نفسه.

ولكن ما هو المراد من( معرفة النفس ) ؟ المراد: هو تحديد القابليات والكفاءات الكامنة في وجودنا بُغية استثمارها، وهذه العملية تكون في أوّل أمرها مصحوبة بالصِعاب، إلاّ أنّه كما قلنا: فإنّ ( فَورة الشباب ) وما يتمتّع به الشابّ من جرأة وإرادة راسخة تُعينه على تذليل هذهِ الصعاب، بل إنّها تُمكّنه من صنع المستحيل.

١١

أجل، ليس هناك مَن هو أقرب إلى أنفسنا وأعلم بذواتنا منّا، وعليه يتعيّن علينا أن نبدأ بأنفسنا في كلّ خطوة نخطوها، وعند وضع الدواء لأيّ داء.

قال الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) في ما يُنسب إليه:

دواؤك فيك وما تشعرُ

وداؤك منك وتستنكرُ

وتَحسبُ أنّك جرم صغيرٌ

وفيكَ انطوى العالَم الأكبرُ

وأنتَ الكتاب المبين الذي

بأحرفه يَظهر المضمرُ(١)

لقد صرّح الإمام ( عليه السلام ) بهذه الحقائق العلمية قبل مئات السنين، ولكن ما هو الداء؟ وما هي طُرق علاجه؟ أو بعبارة أفضل: ما هي الأمراض؟ وما هي العلاجات؟

إنَّ أوّل الأمراض - الذي يبدو صغيراً في البداية - هو: الجهل، والشعور بالعجز، والقلق، وعدم الالتفات إلى القدرات الذاتية، والغفلة عن القوى الفيزيقية، ممّا يؤدّي إلى الانحراف عن جادّة الصواب في مسار الحياة، ويتعيَّن علينا في مجال معرفة النفس تحديد هذه الأمراض، والمبادرة إلى علاجها عن طريق التعلّم، والاعتماد على النفس، ومعرفة القابليات المعنوية والماديّة.

ولكن كما قلنا: فإنّ هذا النوع من ( معرفة النفس ) صعبٌ وسهل في آنٍ واحد، فهو صعب؛ لأنّه يستدعي جهوداً كثيرة، وسهلٌ؛ لأنّ الله تعالى قد منحَ الشاب قلباً طاهراً يتقبّل الحقائق والأفكار السليمة والخيّرة بسهولة، وللشابّ في هذا المجال تأثير حاسم ومصيري.

قال الإمام علي ( عليه السلام ) في كتابٍ أرسله لابنه الإمام الحسن ( عليه السلام ):( وإنّما قلب الحَدَث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قَبَلته، فبادرتُك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لُبّك ) (٢) .

____________________

(١) الديوان المنسوب للإمام علي ( عليه السلام ): ص٧٥.

(٢) نهج البلاغة: تحقيق صبحي الصالح، الكتاب رقم ٣١، ص١٣٩٣.

١٢

وعليه: فمن اللازم على كلّ شابّ - من خلال الالتفات إلى هذه الأرضية النفسية المساعِدة - أن يتعرّف الجهات العاطفية، والسجايا الأخلاقية، والجذور الوراثية، والقابليات المادّية والمعنوية في نفسه، لكي يستثمرها بالشكل المناسب.

قال الدكتورجون لوك آفيبوري الكاتب الانجليزي الشهير:( سُئل أحد العظماء عن أصعب الأمور وأيسرها، فقال في الجواب: إنّ أصعب الأمور هو أن يتعرّف المرء على نفسه، وأيسرها اقتفاء عيوب غيره ) (١) .

السفرُ إلى الذات

قالهـ. موشيه العالِم الفرنسي: على كلِّ مَن يريد إحراز هويته أن يتعرّف نفسَه بشكل وجداني، وأن يُحدّد مواطن الضعف والقوّة فيها، وأن يسعى إلى ترميم مواطن الضعف والنقص في نفسه، ولا يتأتّى ذلك إلاّ لذوي ( الأرواح الشجاعة )، إذ ينفردون في ساعاتٍ من التفكير والتأمّل، وقد وصفهم( فيكتور هيجو ) بقوله: يغوصون في ظلمات الذات بُغية اكتشافها(٢) .

وقالج. بايو : ما أكثر الذين أعرفهم من الشباب المُبدعين الذين انحرفوا عن المسار الصحيح بسبب عدم معرفتهم لأنفسهم، وتأثّرهم بالإيحاءات الخارجية، فلا يبادرون إلى العمل إلاّ بفعل الضغوط، حيث يرزحون تحت وطأة عذاب روحي سَلَبهم النشاط والحيويّة اللازمة للعمل الخلاّق، واحتواهم يأس لا سبيل لهم إلى التخلّص منه(٣) .

وبعد أن تحدّثنا عن ضرورة( معرفة النفس ) يجدر بنا دراسة موضوعين مهمّين آخرين بهذا الشأن:

____________________

(١) خلاصة الأفكار: السيّد يحيى البرقعي، ٢ / ٢٣٤.

(٢) تنمية الذهن: ترجمة أحمد آرام، ص١٢٢.

(٣) تنمية الذهن: ترجمة أحمد آرام، ص١٨٤.

١٣

الموضوع الأوّل:

إنّ الإنسان وإن أمكنهُ من خلال معرفته لوضع أسرته، وعمره، وعمله، والبقعة التي يقطن فيها أن يتعرّف إلى حدّ كبير على نفسه، إلاّ أنَّ هناك أيضاً قاعدة عامّة ومهمّة جدّاً تبيّن حقائق عميقة وكثيرة حول الشخصية، وما إذا كانت صالحة أو طالحة.

قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) في بيان الميزان الذي يتمّ على أساسه تمييز الحقّ من الباطل، والخير من الشر:( إذا أردتَ أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يُحبّك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع مَن أحبَّ ) (١) .

الموضوع الثاني:

إنّ الذي يرتقي المرتبة العالية في معرفة النفس سيحصل على النتائج الآتية:

١ - يربأ بنفسه عن مشاعر الاستعلاء والأنانيّة، ويحبّ أبناء جلدته.

٢ - يتعرّف مواطن الضعف والقوّة في نفسه ويرى لنفسه قيمة وجودية، ويكون خُلقه التواضع كما قال الإمام علي ( عليه السلام ).

٣ - إنّ معرفة النفس تؤدّي إلى معرفة قدرها وحدّها وتستتبع نزول رحمة الله، قال الإمام علي ( عليه السلام ):( رَحمَ الله امرأً عَرفَ قَدره ولم يتعدّ طوره ) (٢) .

٤ - إنّ الذي يجهل قيمة نفسه يتجاهل قيمة مَن سواه(٣) .

٥ - إنّ الذي لا يتعرّف نقاط ضعفه وعيوبه يكون قد ارتكب أعظم الذنوب(٤) .

____________________

(١) أصول الكافي: ٢ / ١٠٣، الحديث رقم ١١.

(٢) أصول الكافي: ١ / ١٧٦.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٢٩٠.

(٤) إرشاد المفيد: ص١٥٨.

١٤

٦ - إنّ أفضل المعرفة، معرفة الإنسان نفسه(١) .

٧ - قال الإمام علي ( عليه السلام ):( مَن عَرف نفسهُ، فقد انتهى إلى غاية كلّ معرفة وعِلم ) (٢) .

٨ - قال النبيّ الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ):( مَن عَرف نفسه، فقد عَرف ربّه ) (٣) .

وعلينا أن نُدرك أنّ هناك ارتباطاً دقيقاً جدّاً بين( معرفة النفس ) و( معرفة الله ) ، حتّى أنّ الله تعالى قد جسّد آثار قدرته وحكمته الهائلة في نفس الإنسان في ثلاثة مواطن من القرآن الكريم، ودعا الناس إلى التدبّر في ذلك، وذمّ أولئك الذين لا يتفكّرون في أسرار أنفسهم(٤) .

تقدّم أن قلنا: إنّ ( معرفة النفس ) في غاية الصعوبة، إلاّ أنّها ليست مستحيلة، ولكي نتغلّب على هذه الصعوبة سنتعرّض إلى ذِكر مانِعَين كبيرين يعترضان طريق معرفة النفس:

١ - الغفلةُ والجهل:

يستغرق البعض أحياناً في النظر إلى الخارج، فينظرون إلى كلّ شيء وكلّ شخص، لكنّهم يغفلون عن أنفسهم وما فيها من قابليات وطاقات صالحة وخيّرة، وبذلك يفقدون ثروات مادّية ومعنوية هائلة، بل أحياناً لا يمكن تدارك الضرر الناجم عن ذلك.

ومن هنا تبدو أهميّة التدقيق في كلام( وليم جيمس ) ، الفيلسوف الشهير والأستاذ في جامعة( هارفارد ) إذ قال: لو قِسنا أنفسنا على ما نحن عليه، لوجدنا أنّنا أهدرنا نصف وجودنا! إذ إنّنا لا نستثمر سوى جزءٍ ضئيل من قوانا الجسدية والعقلية!

____________________

(١) غُرر الحِكَم: ١ / ٣١٩.

(٢) غُرر الحِكم: ص٢٣٢، الحديث ٤٦٣٨.

(٣) بحار الأنوار: ٢ / ١٣٢.

(٤) سورة فصّلت: الآية ٥٣، سورة الروم: الآية ٨، سورة الذاريات: الآية ٢١.

١٥

 وبكلمةٍ أوضح: إنّ الإنسان قد حصرَ نفسه في زاوية ضيّقة، بإهماله استثمار الطاقات الهائلة الكامنة في وجوده(١) !

وقد قال العالِم الشهير الدكتورآفيبوري : ( للأسف الشديد علينا أن نعترف بجهلنا أسرار الكائنات والوجود، فإنّنا لا زلنا نجهل حتّى أنفسنا؟ وماهيّةَ علاقتنا بالطبيعة.. أجل، نحن لا نعلم شيئاً، لذا يتحتّم علينا مؤقّتاً أن نضع أمام كلّ شيء علامة استفهام(٢) .

وقال( كاريل ): ( إنّ مسؤوليّتنا الأساسية في الحياة لا تنحصر بمعرفة الأشياء المُبهمة الموجودة في الفواصل البعيدة عنّا، وإنّما الذي يجب علينا بالدرجة الأولى هو اكتشاف الأمور الواقعة بالقرب منّا )(٣) .

وعلى كلّ حال، يتعيّن علينا لكي نرفع غشاوة الجهل والغفلة - مضافاً إلى توظيف الفكر والتعقّل ورفع المستوى العلمي - أن نُكثر من الدعاء وتوثيق الصلة بالله تعالى.

وقد ذَكر العالِم الفرنسي الشهير الدكتور( الكسيس كاريل ) ، مؤلِّف كتاب( الإنسان ذلك المجهول ) ، والحائز على جائزة ( نوبل ) في الطب: ( إنّ للدعاء والعبادة أبلغ الأثر في بعث القوّة في وجود الإنسان، ويمكن تشبيه هذا الأثر بجاذبيّة الأرض فهو حقيقي ومحسوس )(٤) .

٢ - اتّباع الهوى

إنّ اتّباع الهوى وإرخاء حبل الشهوات والميول، يُعدُّ من عوامل جهل النفس ومانعاً في طريق معرفتها، والاستفادة من القابليات والكفاءات التي أودَعها الله فيها، ويندُر مَن يجهل الأضرار الجسيمة الناجمة عن اتّباع الشهوات، ولأجل أن

____________________

(١) كيف نتغلّب على الاضطراب والقلق: ص١٨٦.

(٢) البحث عن السعادة: ص٧٤ و٢٤٩.

(٣) البحث عن السعادة: ص٣٦.

(٤) البحث عن السعادة: ص٥٧ و٢٢٩.

١٦

نتعرّف مسؤوليّتنا في معرفة النفس بشكلٍ أكبر بُغية اتّخاذ القرارات اللازمة، لنَصغِ إلى الكلمات العميقة التي قالها أمير المؤمنين ( عليه السلام ):( إنّ الله عزّ وجل ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما، فمَن غَلبَ عقلهُ شهوته فهو خيرٌ من الملائكة، ومَن غَلبت شهوتهُ عقلهُ فهو شرٌّ من البهائم ) (١) .

ومن هنا يجدر بالإنسان حينما يقف على مُفترق طريق العقل والشهوة، أن يكبح جُماح شهوته الجنسية غير المشروعة؛ لأنّها تقف حائلاً دون معرفة النفس والتكامل الإنساني، وعليه أن يرفع من مستواه الفكري والعقلي؛ لأنّ قيمة الإنسان تكمُن في عقله وفكره، إلاّ أنّ اختيار طريق العقل والتديّن باهض الكلفة وهو بحاجة إلى وعي ومراقبة دقيقة وجهدٍ حثيث.

ذَكر الدكتور( جون لوك آفيبوري ) الذي قضى شطراً من حياته في حقل التبشير: ( ما أحرى الشباب أن يقضوا ربيع حياتهم في ظلّ العفاف والفضيلة، ولكن هيهات؛ فطريق الفضيلة صعودي بينما طريق الرذيلة نزولي وانسيابي، فالذي يتّجه نحو الفضيلة يتقدّم بخطوات بطيئة، في حين أنّ الذي يسلك طريق الرذيلة يتقدّم بخطوات رشيقة وخفيفة سرعان ما تقذف به في هوّة الفساد.

فالذي يريد أن يحيا حياة عفيفة وطاهرة لا تشوبها الرذيلة، عليه أن يراقب نفسه وأن لا يرفع عينه عنها، كما يصنع مَن يُحاذرُ لصّاً، وعلى الشباب الذين يرومون النجاح في مُعترك الحياة ونيل السعادة، أن يتجنّبوا هاوية الفساد والانحطاط، وأن لا يقتربوا منها؛ لأنّ النفس تهوى والهوى مَهلكها، وقد يغفل الشابّ لحظة واحدة فتزلّ به القدم ليسقط في أودية الضلالة، ولا يكون نصيبه سوى الحسرة والخسران )(٢) .

____________________

(١) عِلل الشرائع: الشيخ الصدوق ١ / ١٥.

(٢) البحث عن السعادة: ص٢٢٩ - ٢٣٠.

١٧

قال الإمام علي ( عليه السلام ):( كم من شهوةٍ ساعة أورثت حُزناً طويلاً ) (١) .

وقد شاهدنا وقرأنا في الصُحف نماذج كثيرة عن هذا النوع من الزلل والندم، فيجدر بنا قبل السقوط في هذهِ المهاوي وعظّ أصابع الندم أن نراقب أنفسنا، ونُدقّق في الأمور التي ذكرناها في هذا الموضوع من هذا الكتاب.

____________________

(١) وسائل الشيعة: ١١ / ١٦٤، دار إحياء التراث العربي.

١٨

(٢)

البلوغُ وآثاره

إنّ البلوغ يعني الوصول، بمعنى أنّ الإنسان حينما يجتاز مرحلة الطفولة ويدخل في مرحلة الشباب - التي هي بداية صيرورة الذَكر رجلاً، والأنثى امرأة - يكون بالغاً وواصلاً لهذهِ المرحلة، ولذلك تسمّى هذهِ المرحلة بـ( البلوغ ) .

هناك فارق يسير بين تعريف علماء الأحياء للبلوغ وبين تعريف علماء الدين له؛ وذلك لأنّ علماء الأحياء يأخذون بنظر الاعتبار الخصائص العلمية في هذا المجال، ومن هنا سنتطرّق إلى كِلا التعريفين وبيان علائم البلوغ فيهما.

يرى علماء الأحياء أنّ الفترة الزمنية ما بين ١٢ إلى ١٨ سنة من العمر هي مرحلة اليافِعين، وأنّ الفترة ما بين ١٨ إلى ٢٥ هي مرحلة الشباب، وقد تزيد هذه الفترة أو تنقص نتيجة للعوامل الوراثية والاجتماعية والجغرافية.

وطبعاً لا يخفى أنّ الإنسان يمرّ في حياته بمراحل مختلفة من البلوغ، منها:البلوغ الجنسي، والبلوغ الفكري، والبلوغ الاجتماعي، إلاّ أنَّ ما نتوخّاه على وجه العموم في هذا البحث هو:البلوغ الجنسي ، ولكنّنا أيضاً لا نجد محيصاً من التطرّق إلى الأنواع الأخرى من البلوغ.

١٩

وعلى كلّ حال، فإنّ علماء الأحياء يُحدّدون سنّ البلوغ بشكلٍ عام بين سن ١١ إلى ١٤ في الفَتَيات، وبين سن ١٥ إلى ١٦ في الفتيان، وأبرز علامات البلوغ في الفتيات: الطمث والحيض، وفي الأولاد: خروج المَني من الجهاز التناسلي.

إلاّ أنّنا سنتعرّض إلى علائم وخصوصيات البلوغ ومرحلة الشباب وما قبلها، بشيء من التفصيل من خلال القسمين الآتيين:

١ - العلاماتُ الفيزيقيّة

إنّ أهمّ التغيّرات الجسدية والفيزيقيّة التي تَحدث عند البلوغ وتستمرّ بالظهور بعد ذلك، ما يلي:

١- تبدأ غدّة الهيبوفيز الواقعة أسفل المخ وسائر الغُدد الداخلية الأخرى بالعمل تلقائياً، فتقوم بتنشيط الهرمونات الجنسية لدى الفتيان والفَتيات (١).

٢ - تتّخذ الأجهزة التناسلية عند الفتيان والفتيات حجماً أكبر.

٣ - تَخشّن العظام وهيكل الجسد وخاصّةً الأرجل.

٤ - تَبدأ قامة الشباب بالنموّ السريع ويتّخذ قواماً نحيفاً.

٥ - يثقل الوزن خصوصاً لدى الفَتيات.

٦ - يخشُن الصوت ويشتدّ عند الفتيان، وأمّا في الفتيات فلا يحصل مثل هذا التغيير إلاّ بنحوٍ يسير، بل قد يغدو أكثر نعومة(٢) .

٧ - بروز الحنجرة وتضخّمها(٣) .

٨ - يفقد القوام رشاقته ويبدو غير متناسق، إلاّ أنّ هذه الظاهرة لا تدعو إلى القلق؛ لأنّها تزول مع الوقت(٤) .

____________________

(١) فَسلجة الغرائز: ص٢٥.

(٢) موريس دبس، ماذا نعلم؟ البلوغ: ص٤١ إلى ٤٤، نقلاً عن ترجمة إسحاق لالة زاري.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

البطالة ينافي ما عليه الإسلام ، وما هو معروف من مبادئه من انه ينكر البطالة ويحث عل العمل وعدم الاتكال على الآخرين.

ويقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ملعون من القى كلّه على الناس »(١) .

ويقول الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

« لنقـل الصخر من قلل الجبال

أعز الي من مـنـن الـرجال

يقول الناس لي في الكسب عار

فقلت العار في ذْل السؤال »(٢)

بهذا الأسلوب يواجه الإسلام الأفراد فهو دين العزة والرفعة ، وهو دين الجد والعمل ، ولا يريد للمجتمع أن يعيش أفراده يتسكعون ويتكففون.

فلماذا اذاً يعودهم على الاتكال على غيرهم ؟.

للإجابة على ذلك نقول :

إن الإسلام بتشريعه الانفاق بنوعيه الالزامي والتبرعي لم يرد للأفراد أن يتكلوا على غيرهم في مجال العيش والعمل بل على العكس نراه يحارب بشدة الاتكالية ، والاعتماد على أيديِ الآخرين.

بل الإسلام يكره للفرد أن يجلس في داره وله طاقة على العمل ، ويطلب الرزق من الله فكيف بالطلب من انسان مثله.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :

__________________

(١ و ٢) المحجة البيضاء ٧ / ٤٢٠.

٤١

« أربعة لا تستجاب لهم دعوة رجل جالس في بيته يقول : اللهم أرزقني فيقال له : ألم آمرك بالطلب ؟ »(١) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام فيمن ترد دعوته :

« ورجل جلس في بيته وقال : يا رب ارزقني »(٢) .

وهناك احاديث أخرى جاءت بهذا المضمون ان الله الذي قال في أكثر من آية( ادعوني أستجب لكم ) ، ووعد بالاستجابة بمجرد دعاء عبده ليكره على لسان هذه الأخبار وغيرها أن يدعوا العبد بالرزق ، وهو جالس لا يبدي أي نشاط وفعالية بالاسباب التي توجب الرزق.

واذاً فالإسلام عندما شرع بنوعية الإلزامي والتبرعي لم يشرعه لمثل هؤلاء المتسولين بل حاربهم ، واظهر غضبه عليهم.

فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه قال :

« ثلاثة يبغضهم الله ـ الشيخ الزاني ، والفقير المحتال ، والغني الظلوم »(٣) .

إنما شرع الإنفاق للفقير الذي لا يملك قوت سنته ، وقد اضطره الفقر لأن يجلس في داره.

وقد تضمنت آية الزكاة مصرف الزكاة فحصرت الاصناف الذين يستحقونها في ثمانية اثنان منهم الفقراء ، والمساكين ، وستة أصناف لم يؤخذ الفقر صفة لهم بل لمصالح خاصة استحقوها :

__________________

(١ و ٢) أصول الكافي ٢ / ٥١١ ـ طبعة طهران ـ تصحيح وتعليق الغفاري.

(٣) الدر المنثور في تفسير الآية ٢٧١ من صورة البقرة.

٤٢

يقول سبحانه :

( إنما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ) (١) .

وأما مصرف بقية موارد الانفاق الإلزامي من كفارات ، والإنفاق التبرعي فكلفه للفقراء.

والفقراء في المصطلح الشرعي هم الذين يستحقون هذا النوع من المساعدة كلهم اخذ فيهم أن لا يملكوا قوت سنتهم ، أو كان ما عنده من المال لا يكفيه لقوت سنته أما من كان مالكاً لقوت سنته وأخذ منها فهو محتال وسارق لقوت غيره.

ولا يعطى من الصدقات ، وإذا اعطي من الصدقات فمن التبرعية لا الإلزامية وله عند الله حسابه لو عوّد نفسه على التكفف والتسول والأخذ من الصدقات التبرعية ، وبه طاقة على العمل.

__________________

(١) سورة التوبة / آية : ٦٠.

٤٣

الطرق التي سلكها القرآن الكريم

للحث على الإنفاق

وكما قلنا إن الأساليب التي اتخذها القرآن الكريم لحث الفرد على هذه العملية الإنسانية كثيرة وبالامكان بيان ابرز صورها وهي :

١ ـ الترغيب والتشويق إلى الإنفاق.

٢ ـ التنأيب على عدم الإنفاق.

٣ ـ الترهيب والتخويف على عدم الإنفاق.

١ ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه :

ولم يقتصر هذا النوع من التشويق على صورة واحدة بل سلك القرآن في هذا المجال مسالك عديدة وصور لتحبيب الإنفاق صوراً مختلفة :

٤٤

الصورة الأولى من التشويق :

الضمان بالجزاء

لقد نوخت الآيات التي تعرضت إلى الإنفاق والتشويق له أن تطمئن المنفق بأن عمله لم يذهب سدى ، ولم يقتصر فيه على كونه عملية تكافلية إنسانية لا ينال الباذل من ورائها من الله شيئاً ، بل على العكس سيجد المنفق أن الله هو الذي يتعهد له بالجزاء على عمله في الدنيا وفي الآخرة.

أما بالنسبة إلى الجزاء وبيان ما يحصله الباذل ازاء هذا العمل فإن الآيات الكريمة تتناول الموضوع على نحوين :

الأول : وقد تعرضت إلى بيان أن المنفق سيجازيه الله على عمله ويوفيه حقه أما ما هو الحزاء ونوعيته فإنها لم تتعرض لذلك ، بل أوكلته إلى النحو الثاني الذي شرح نوعية الجزاء وما يناله المنفق في الدنيا والآخرة.

١ ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط :

يقول تعالى :

( وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وانتم لا تظلمون ) (١) .

وفي آية أخرى قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٢.

٤٥

( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم تظلمون ) (١) .

ويظهر لنا من مجموع الآيتين أنهما تعرضتا لأمرين :

الأول : اخبار المنفق واعلامه بأن ما ينفقه يوقى إليه ، وكلمة ( وفى ) في اللغة تحمل معنيين :

أحدهما : انه يؤدي الحق تاماً.

ثانيهما : انه يؤدي بأكثر.

وقوله سبحانه :( يُوَفَ إليكُم ) تشتمل بإطلاقها المعنيين أي يعطى جزاءه تاماً بل بأكثر مما يتصوره ويستحقه والمنفق.

الثاني : تطمين المنفق بأنه لا يظلم إذا أقدم على هذه العملية الإنسانية وهذا تأكيد منه سبحانه لعبده وكفى بالله ضامناً ومتعهداً في الدارين ويستفاد ذلك من تكرار الآية الكريمة وبنفس التعبير في الأخبار بالوفاء ، وعدم الظلم وحاشا له وهو الغفور الرحيم أن يظلم عبداً أنفق لوجهه ، وبذل تقرباً إليه.

هذا النوع من الإطمئنان للمنفق بأنه لا يظلم بل يؤدى إليه حقه كاملاً بل بأكثر.

وفي آية أخرى نرى التطمين من الله عز وجل يكون على شكل آخر فيه نوع من الحساب الدقيق مع المنفقين.

( الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سراً وعلانية فلهم

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٦٠.

٤٦

أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (١) .

ولم يتعرض سبحانه لنوعية الجزاء من الأجر بل أخفاه ليواجههم به يوم القيامة فتزيد بذلك فرحتهم.

( ولا خوف عليهم ) من فقرٍ ، أو ملامة لأن الله عز وجل هو الذي يضمن لهم ، ثم ممن الخوف ؟

من اعتراض المعترضين ؟ ، وقد جاء في الحديث ( صانع وجهاً يكفيفك الوجوه ) ، أم من الفقر ، ونفاد المال ؟ وقد صرحت الآيات العديدة بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقسم بين الناس معايشهم كما ذكرنا ذلك في الآيات السابقة.

( ولا هم يحزنون ) .

وقد ورد في تفسير هذه الآية أنها نزلت في الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام : « كانت عنده أربع دراهم فانفق بالليل درهماً ، وفي النهار درهماً وسراً درهماً وعلانيةً درهماً »(٢) .

وتتفاوت النفوس في الإيمان والثبات فلربما خشي البعض من العطاء فكان في نفسه مثل ما يلقاه المتردد في الاقدام على الشيء.

لذلك نرى القرآن الكريم يحاسب هؤلاء ويدفع بهم إلى الإقدام على الانفاق وعدم التوقف فيقول سبحانه :

( قل إنّ ربّي يبسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويقدِرُ له وما

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٤٧.

(٢) الدر المنثور : في تفسيره لهذه الآية.

٤٧

أنفقتُم من شَيءٍ فهو يخلفُهُ وهو خيرُ الرّازقينَ ) (١) .

ومع الآية الكريمة فإنها تضمنت مقاطع ثلاثة :

١ ـ قوله :( قل أن ربي يبسط الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادهِ ويقدِرُ له ) .

٢ ـ قوله :( وما أنفقتُم من شيء فهوَ يخلفْهُ ) .

٣ ـ قوله :( وهو خيرُ الرازقين ) .

أولاً :

( قل إن ربي يبسُطُ الرزق لمن يشاءُ ) .

ولا بد للعبد أن يعلم أن الرازق هو الله وأن بيده جميع المقاييس والضوابط فالبسط منه والتقتير منه أيضاً وفي كلتا الحالتين تتدخل المصالح لتأخذ مجراها في هاتين العمليتين ، وليس في البين أي حيف وميل بل رحمة وعطف على الغني بغناه ، وعلى الفقير بفقره فكلهم عبيده وعباده وحاشا أن يرفع البعض على اكتاف الآخرين.

أما ما هي المصالح ؟.

فإن علمها عند الله وليس الخفاء فيها يوجب القول بعدم وجودها.

وفي الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله سبحانه يقول :

__________________

(١) سورة سبأ / آية : ٣٩.

٤٨

( عبدي أطعني بما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك ) .

ثانياً :

( وما أنفقتُم من شيءٍ فهو يخلفْهُ ) .

فعن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

« كل معروف صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما انفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً »(١) .

ثالثاً :

( وهو خير الرازقين ) .

أما أنه خير الرازقين فلأن عطاءه يتميز عن عطاء البشر.

عطاؤه يأتي بلا منة.

وعطاء البشر مقرون بمنة.

وعطاؤه من دون تحديد نابع عن ذاته المقدسة الرحيمة الودودة التي هي على العبد كالأم الرؤوم بل وأكثر من ذلك ، وعطاء البشر محدود.

وكذب من قال انه محدود العطاء :

( بل يداهُ مبسوطتانِ ينفِقُ كيفَ يشاءُ ) (٢) .

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة المائدة / آية : ٦٤.

٤٩

« ان يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سخاء بالليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه »(١) .

وقد جاء الوعد بالجزاء فقط في آيات أخرى فقد قال سبحانه :

( وما تُنفقوا من خيرٍ فأنَّ اللهَ به عليمٌ ) (٢) .

( وما أنفقتُم من نفقةٍ أو نذرتُم من نذرٍ فأنَّ الله يعلَمَهُ ) (٣) .

( وما تُنفقُوا من شيءٍ فإنَّ الله به عليمٌ ) (٤) .

وقد فسر قوله «عليم » أو «يعلمه » بالجزاء لأنه عالم فدل ذكر العلم على تحقيق الجزاء.

وفي تفسير آخر للآيات الكريمة أن معنى عليم أو يعلمه في هذه الآيات أي يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء من كل ما فعلتموه وقدمتموه لوجهه ولمرضاته عز وجل.

٢ ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء :

يختلف لسان الآيات بالنسبة لبيان نوعية الجزاء فهي تارة : تذكر الجزاء ولا ذكر فيه للجنة.

وأخرى : تذكر الجنة وتبشر المنفق بأنها جزاؤه.

وما ذكر فيه الجنة أيضاً جاء على قسمين :

__________________

(١) الدر المنثور في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

(٣) سورة البقرة / آية : ٢٧٠.

(٤) سورة آل عمران / آية : ٩٢.

٥٠

فمرة : نرى الآية تقتصر على ذكر الجنة جزاء.

وثانية : تحبب إلى المنفق عمله فتذكر الجنة وما فيها من مظاهر تشتاق لها النفس كالانهار والاشجار وما شاكل.

ومن الاجمال إلى التفصيل :

يقول سبحانه :

( إنما المؤمنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وجلَتْ قلوبُهُم وإذا تليَتْ عليهِم آياتُهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلُون *الذينَ يقيمونَ الصَّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفِقون *أولئِكَ هُمُ المؤمنونَ حقّاً لهم درجاتٌ عندَ ربِّهِم ومغفرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ ) (١) .

( إنما المؤمنون ) إنما أداة حصر تفيد أن ما بعدها هم المؤمنون هؤلاء الذين عددت الآية الكريمة صفاتهم وهم الذين جمعوا هذه الصفات.

وكانت صفة الانفاق من جملة مميزات المؤمنين وصفاتهم التي بها نالوا هذا التأكيد من الله سبحانه بقوله :

( أولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حقّاً ) (٢) .

أما ما أعد لهم من جزاء فهو :

( درجات عند ربهم ) وهي الحسنات التي استحقوا بها تلك المراتب العالية.

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٢ ـ ٤.

(٢) سورة الانفال / آية : ٤ و ٧٤.

٥١

( ومغفرة ) لذنوبهم من غير حساب على ما فعلوه في هذه الدنيا من مخالفات.

( ورزق كريم ) : وهو رزق لا يصيبه ضرر ولا يخاف من نقصانه لأنه من الله جلت عظمته ، وما كان من الله ينمو وتكون فيه البركة فهو رزق طيب ومن كريم.

وفي آية كريمة أخرى يقول عز وجل :

( إنّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصّادقينَ والصّادقاتِ والصّابرينَ والصّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمُتصدّقينَ والمُتصدّقاتِ ـ إلى قوله تعالى ـأعدَّ اللهُ لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (١) .

( والمتصدقين والمتصدقات ) .

هؤلاء من جملة من أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم جزاء على هذه الصفة وهذا الشعور التعاطفي بالنحو على الضعيف.

وأما الأيات التي ذكرت الجنة جزاء للمنفق فمنها قوله تعالى :

( أفمن يعلمُ أنّما أُنزلَ إليكَ من ربّكَ الحقُّ كمن هو أعمَى إنّما يتذكّرُ أولُوا الألبابِ *الّذينَ يُوفُونَ بعهدِ اللهِ ولا يُنقضُونَ الميثاقَ *والّذين يصلُونَ ما أمرَ اللهُ بهِ أنْ يوصَلَ ويخشونَ ربّهم ويَخافونَ سوءَ الحساب *والّذينَ صَبَرُوا ابتغاءَ وجهِ ربّهم وأقامُوا الصّلاة وأنفَقُوا ممّا رزقناهُم سرّاً وعلانِيَةً ويدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيِّئَةَ أولئك لهم عقبى الدّارِ *جنّاُت عدنٍ يَدخلونَهَا ) (٢) .

__________________

(١) سورة الأحزاب / آية : ٣٥.

(٢) سورة الرعد / آية : ١٩ ـ ٢٣.

٥٢

يقف الإنسان عند هذه الآيات وهو يرتلها بخشوع ليلحظ من خلالها إنها فرقت بين صنفين من الناس كافر ، ومؤمن ، وقد وصفت الكافر أنه( أعمى ) لا يتذكر ولا ينفع معه شيء.

أما المؤمن ، وهو من يتذكر فأنه ينظر بعين البصيرة ، وقد شرعت ببيان أوصاف هؤلاء المؤمنين ، ومن جملة صفاتهم أنهم الذين ينفقون مما رزقناهم سراً وعلانيةً.

في السر : فإنما هي لرعاية الفقير وحفظ كرامته لئلا يظهر عليه ذل السؤال.

ويحدثنا التاريخ عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام إنهم كانوا إذا أرادوا العطاء أعطوا من وراء ستار حفاظاً منهم على عزة السائل وكرامته ، وتنزيهاً للنفس لئلا يأخذ العجب والزهو فتمن على السائل بهذا العطاء فيذهب الأجر.

أما في العلانية : فإنما هو لتشجيع الأخرين على التسابق على الخير والاحسان أو لدفع التهمة عن النفس لئلا يرمى المنفق بالبخل والامتناع عن هذا النوع من التعاطف الإنساني.

أما جزاؤهم : فهو العاقبة الحسنة ، وأن لهم الجنة جزاء قيامهم بهذه الأعمال وتفقدهم لهؤلاء الضعفاء في جميع الحالات سراً وعلانيةً.

وفي آيات أخرى نرى القرآن لا يقتصر على ذكر الجنة فقط كجزاء للمنفق بل يتطرق لبيان ما فيها وما هي ليكون ذلك مشوقاً للمنفق في أن يقوم بهذه الأعمال الخيرة لينال جزاءه في الآخرة.

٥٣

قال تعالى :

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ من ربّكُم وجنّةٍ عرضُهَا السماواتُ والأرضُ أعدَّت للمُتّقينَ *الّذين ينفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظِمِينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

وقال جلت عظمته :

( قل أؤنبّئكمُ بخيرٍ من ذلكُم للذينَ اتّقَوا عندَ ربّهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهّرةٌ ورضوانٌ من اللهِ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ *الّذين يقولونّ ربّنا إنّنا آمَنّا فأغفِر لنا ذُنُوبَنَا وقِنا عذابَ النّار *الصّابرينَ والصّادقينَ والقانتينَ والمُنفقينَ والمُستغفرينَ بالأسحارِ ) (٢) .

وقد تضمنت الآيات نحوين من الجزاء :

الأول : جزاء حسي.

الثاني : جزاء روحي.

أما الجزاء الحسي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ) .

وفي الآية الثانية فيتمثل بقوله تعالى :

( جنّاتٌ تجري من تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهرةٌ ) .

وتأتي هذه الصفات أو المشوقات للجنة من كونها بهذا الحجم الواسع عرضاً فكيف بالطول لأن العرض غالباً يكون أقل من الطول ،

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران / آية : ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.

٥٤

ومن أن فيها الأشجار ، ومن تحت تلك الأشجار الأنهار الجارية وفيها أزواج ، وتلك الأزواج مطهرة من دم الحيض والنفاس ، ومن كل الأقذار والقبائح وبقية الصفات الذميمة.

تأتي كل هذه الصفات مطابقة لما تشتهيه النفس ، وما اعتادت على تذوقه في الدنيا من مناظر الأشجار والأنهار والنساء وأن ذلك غير زائل بل هو باقٍ وكل هذه الأمور محببة للنفس وقد استحقها المنفق جزاء تعاطفه وإنفاقه في سبيل الله ونيل مرضاته جلت عظمته.

أما الجزاء الروحي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( والله يحبُ المحسنين ) .

( ورضوانٌ من اللهِ ) .

رضا الله ومحبته له والتفاته وعطفه كل هذه غاية يتوخاها الإنسان يبذل بازائها كل غالٍ ونفيس ، وما أسعد الإنسان وهو يرى نفسه محبوباً لله سبحانه راضياً عنه.

على أن في الأخبار بالرضا والمحبة في آيتين تدرجاً ظاهراً وواضحاً فإن المحبة أمر أعمق من مجرد الرضا وواقع في النفس من ذلك.

وصحيح ان الإنسان يسعى جاهداً ويقوم بكل عبادة ليحصل على رضا الله ، ولكن محبة الله له هي معنى له تأثيره الخاص في النفس.

ان عباد الله المؤمنين يشعرون بهذه اللذة وهذه الراحة النفسية عندما يجد الفرد منهم أنه مورد عناية الله في توجهه إليه.

٥٥

الصورة الثانية من التشويق :

جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين

ويتحول القرآن الكريم إلى إعطاء صورة أخرى من صور التشويق للانفاق والبذل والعطاء فنراه يرفع من مكانة هؤلاء المحسنين ، ويجعلهم بمصاف النماذج الرفيعة من الذين اختارهم وهداهم إلى الطريق المستقيم.

ففي آية يعدّهم من أفراد المتقين ، وفي أخرى من المؤمنين ، وفي ثالثة يقرنهم بمقيم الصلاة ، والمواظبين عليها ، وهو تعبير يحمل بين جنباته بأن هؤلاء من المطيعين لله والمواظبين على امتثال أوامره يقول سبحانه عز وجل :

( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمُتّقينَ *الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نلمح صفة الإنفاق وما لها من الأهمية بحيث كانت إحدى الركائز الثلاثة التي توجب إطلاق صفة المتقي على الفرد.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢ ـ ٣.

٥٦

فمن هم المتقون ؟.

ويأتينا الجواب عبر الآية الكريمة بأنهم :

( الّذين يؤمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصلاةَ ومما رزقناهم يُنفقونَ ) .

( يُؤمنونَ بالغيبِ ) :

يؤمنون بما جاء من عند الله من أحكامه وتشريعاته وما يخبر به من المشاهد الآتية من القيامة والحساب والكتاب والجنة والنار وما يتعلق بذلك من مغيبات يؤمنون بها ، ولا يطلبون لمثل هذا الايمان مدركاً يرجع إلى الحس والنظر والمشاهدة بل تكفيهم هذه الثقة بالله وبما يعود له.

( ويقيمونَ الصلاة ) :

فمنهم في مقام اداء فرائضهم مواظبون ولا يتأخرون ويتوجهون بعملهم إلى الله يطلبون رضاه ، ولا يتجهون إلى غيره ، يعبدونه ولا يشركون معه أحداً ، وأداء الصلاة هو مثال الخضوع والعبودية بجميع الأفعال ، والأقوال. يقف الفرد في صلاته خاشعاً بين يدي الله ويركع ويسجد له ، ويضع أهم عضو في البدن وهو الجبهة على الأرض ليكون ذلك دليلاً على منتهى الإطاعة والخضوع ، ويرتل القرآن ليمجده ويحمده ويسبحه ويهلله فهي إذاً مجموعة أفعال وأقوال يرمز إلى الاذعان لعظمته ، والخضوع لقدرته وبذلك تشكل عبادة فريدة من نوعها لا تشبهها بقية العبادات.

( ومما رزقناهم ينفقون ) :

كل ذلك من الجوانب الروحية ، وأما من الجوانب المالية ،

٥٧

فإن المال لا يقف في طريق وصولهم إلى الهدف الذي يقصدونه من الاتصال بالله فهم ينفقون مما رزقناهم غير آبهين به ولا يخافون لومة لائم في السر والعلن ، وفي الليل والنهار كما حدّث القرآن الكريم في آيات أخرى مماثلة.

هؤلاء هم المنفقون الذين كات الإنفاق من جماة مميزاتهم ، وقد مدحهم الله جلت قدرته بقوله :

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (١) .

( هدىً من ربهم ) :

بلى : هدى وبصيرة فلا يضلون ولا يعمهون في كل ما يعود إلى دينهم ودنياهم.( وأولئك هم المفلحون ) :

بكل شيء مفلحون في الدينا بما ينالهم من عزٍ ورفعة لأنهم خرجوا من ذل معصية الله إلى عز طاعته تماماً كما يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« إذا أردت عز بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته »(٢) .

ومفلحون في الآخرة التي وعدهم بها كما جاء ذلك في آيات عديدة من كتابه الكريم.

ولم يقتصر الكتاب على هذه الآية في عد الانفاق من جملة صفات المتقين بل درج مع الذين ينفقون من المتقين حيث قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٥.

(٢) من كلماتهعليه‌السلام في نهج البلاغة.

٥٨

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ مِن ربّكُم وَجنَّةً عرضُهَا السَمَاواتُ و الأرضُ أعِدَّتْ للمتّقينَ *الّذين يُنفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظمينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يُحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نرى الأهمية للإنفاق تبرز بتقديم المنفقين على غيرهم من الأصناف الذين ذكرتهم الآية والذين أعدت لهم الجنة من الكاظمين والعافين.

هؤلاء المنفقون الذين لا يفترون عن القيام بواجبهم الإجتماعي في حالتي اليسر والعسر في السراء والضراء يطلبون بذلك وجه الله والتقرب إلى ساحته المقدسة.

وعندما نراجع الآية الكريمة في قوله تعالى :

( الم *تلك آياتُ الكتابِ الحكيمِ *هدىً ورحمةً للمحسنينَ *الذينَ يقيمونَ الصّلاةَ ويؤتونَ الزّكاةَ وهم بالأخرةِ هُم يوقنونَ *أولئكَ على هدىً من ربّهِم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (٢) .

نرى نفس الموضوع تكرره الآية هنا ، ولكن في الآية السابقة قالت عن المنفق بأنه من المتقين ، وهنا من المحسنين.

وفي الآية السابقة الانفاق بكل ما ينفق وهنا عن الانفاق بالزكاة ، فالنتيجة لا تختلف كثيراً ، والصورة هي الصورة نفسها إنفاق من العبد ، وتشويق من الله ، ومدح له بنفس ما مدح المتقي سابقاً.

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة لقمان / آية : ١ ـ ٥.

٥٩

والحديث في الآيتين عن المتقين والمحسنين ، ومن جملة صفاتهم الإنفاق وأداء ما عليهم من الواجب الإجتماعي المتمثل في الإنفاق التبرعي ، أو الإلزامي ، وقد قال عنهم في نهاية المطاف بنفس ما مدح به المتقين في الآية السابقة.

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المفلحونَ ) (١) .

وفي وصف جديد في آية كريمة أخرى يصفهم الله بأنهم من المخبتين.

( وبشِّرِ المخبتينَ *الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبهم والصّابرينَ على ما أصابَهُم والمُقيمي الصّلاةِ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (٢) .

( والمخبتون ) هم المتواضعون لله المطمئنون إليه.

وعندما شرعت الآية بتعدادهم قالت عنهم :

( الذين إذا ذُكِرَ الله وجلتْ قلوبهُمْ ) .

انها النفوس المطمئنة التي إذا ذكر الله ، ـ وذكر الله هنا التخويف من عقابه وقدرته وسطوته ـ وجلت قلوبهم أي دخلها الخوف ولكنه خوف مشوب برجاء عطفه ورحمته.

ولا يأس معه من روح الله لأنه :

( لا يايئسُ من روحِ اللهِ إلا القومُ الكافرونَ ) (٣) .

__________________

(١) سورة لقمان / آية : ٥.

(٢) سورة الحج / آية : ٣٤ ، ٣٥.

(٣) سورة يوسف / آية : ٨٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214