ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب0%

ما يحتاجه الشباب مؤلف:
الناشر: ناظرين
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 214

ما يحتاجه الشباب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد الصادقي
الناشر: ناظرين
تصنيف: الصفحات: 214
المشاهدات: 149627
تحميل: 8249

توضيحات:

ما يحتاجه الشباب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 149627 / تحميل: 8249
الحجم الحجم الحجم
ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب

مؤلف:
الناشر: ناظرين
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدّم النموذج الآتي: ( روي أنّه ( صلّى الله عليه وآله ) سلَّم عليه غلام دون البلوغ، وبشَّ له وتبسّم فرحاً بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) فقال له:( أتحبّني يا فتى؟ فقال:إي والله يا رسول الله ، فقال له:مثل عينيك؟ فقال:أكثر ، فقال:مثل أبيك؟ فقال:أكثر ، فقال ( صلّى الله عليه وآله ):مثل أمّك؟ فقال:أكثر، فقال ( صلّى الله عليه وآله):مثل نفسك؟ فقال:أكثر والله يا رسول الله، فقال ( صلّى الله عليه وآله ):مثل ربّك؟ فقال:الله الله يا رسول الله، ليس هذا لك ولا لأحد، فإنّما أحببتُك لحبّ الله، فالتفتَ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) إلى مَن كان معه وقال:هكذا كونوا أحبّوا الله لإحسانه إليكم وإنعامه عليكم، وأحبّوني لحبّ الله ) (١) .

____________________

(١) إرشاد القلوب: ١ / ١٦١، دار الشريف الرضي للنشر.

١٠١

(١٣)

جذوةُ الأمل

إنّ حياة معظم البشر، ولا سيّما الشباب، في العالَم المعاصر، معرّضة للكثير من المشاكل والمصاعب، ومن الطبيعي أنّ المشاكل والعوائق التي تقع في طريق التقدّم، تَغمر حياة الإنسان بالغمّ والأحزان المضنية، وتجعلهُ يرى النهار المشرق ليلاً مظلماً.

وينبغي أن نعلم أنّ البشر ليسوا وحدهم في معرض مواجهة مصاعب الحياة، وعوائق تحقيق الأهداف، بل حتّى النباتات تواجه أمثال هذه المعوّقات.

إنّ البذرة التي تحاول أن تَطلع برأسها من أعماق التراب، لتحصل على النور والحياة، تواجه موانع من الطين والحجارة وجذور الأشجار والأعشاب، التي تقف حائلاً دون حركتها، ولكنّ أفنان البذرة الدقيقة، تواصل المقاومة والكدح وبذل الجهود، وكلّما واجهت في طريقها عَقَبة انحرفت إلى جهة أخرى، حتّى تتمكّن في نهاية الأمر أن تطلّ برأسها من بين الوحل والأحجار، لتعانق ضوء الشمس، وتتحوّل إلى نبتة جميلة جذّابة، تَمنح الطراوة للطبيعة، وللناس الفيء والفواكه اللذيذة.

١٠٢

وإنّ حياتنا ليست بمعزلٍ عن هذه القاعدة، وإنّ تحرّكنا لأجل بلوغ حياة نزيهة سامية، والحصول على مكانة ورتبة عالية، من الممكن أن يواجَه بعشرات من الموانع والمعوّقات، ومن نماذج ذلك:

الظروف العائلية غير المساعِدة، الوضعية غير المرغوبة في المدرسة، رفاق السوء، الفشل المؤلِم في الحياة .

ولكن يجب أن نلتفت إلى أنّ الحياة من أجل الحقّ، تتطلّب المقاومة والثبات؛ ذلك أنّ الحياة الواقعية يجب أن تتشكّل على أساس الهدف والعقيدة الصحيحة، ولابدّ لمواصلتها من الكدح والجهاد.

ومضافاً إلى ذلك، فإنّ ما نعرفهُ من عوائق ومشاكل الحياة، ليست أشياء جديدة وحديثة الظهور، ولا تخصّنا وحدنا، بل هي أمور قديمة الحدوث وشائعة في حياة المجتمعات، وإنّ الملايين من الشباب قد تمكّنوا بالأمل والعزم والإرادة الراسخة أن يجتازوا أمواجها ومتاهاتها، وأن يصلوا إلى قمّة الانتصار.

وبطبيعة الحال، فإنّه لابدّ من طرح( الأمل ) بوصفه قوّةً بنّاءَة، وشعلة مضيئة في طريق الحياة، مع الالتفات إلى بيان أقسامه ومفاهيمه المختلفة:

١ - الأملُ بالله تعالى

قليلٌ من الناس أولئك الذين لا ينحرفون في طريق الحياة، ولا يقترفون الذنوب، ولكنّ رمز الموفقيّة يتمثّل في سرعة التفات الإنسان إلى انحرافه، فيتراجع عن خطئه، ولا يعاود تكرار الذنب والخطيئة، بلي يسعى إلى جبران الآثار الضارّة التي تَسبّبَ في وجودها.

يقول نبيّنا محمّد ( صلّى الله عليه وآله ):( كلّ بني آدم خطّاءٌ، وخيرُ الخطّائين التوابون ) (١) .

____________________

(١) نهج الفصاحة: ص٤٥٥ - ٤٥٦.

١٠٣

أجل، إنّه بمقدار الثقة بالله تعالى والأمل برحمته ورأفته، تكون حركة الإنسان وسعيه وجهاده وهجرته، ومن ثَمّ فوزهُ في دنياه وآخرته، وإنّ اليأس والقنوط من عفو الله ورحمته هو: عامل ظلمة روح الإنسان واقترافه الآثام والمعاصي.

يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ):( اليأسُ من رَوْحِ الله عزَّ وجلَّ أشدُّ بَرداً من الزَمهرير ) (١) .

وبالالتفات إلى أنّ اليأس من رحمة الله يُعدُّ في نظر الإسلام كفراً بالله سبحانه، لقوله تعالى:( وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) (٢) ، فإنّه لا ينبغي للإنسان أن ييأس من عطف الله ورحمته بسبب ما اقترفهُ من الذنوب، فيبقى مُقيماً على الآثام غارقاً في مُستنقع الفساد والتلوّث، وإنّما عليه أن يسارع بالتوبة والرجوع إلى الله عسى أن يتوب الله عليه ويشمله برحمته ورضوانه.

يقول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ):( يَبعثُ الله المُقنطين يوم القيامة مُغلّبة وجوههم ( يعني غَلبة السواد على البياض )فيقال لهم: هؤلاء المقنطون من رحمة الله ) (٣) .

وعليه: فإنّ اليأس من عفو الله ورحمته إثمٌ، وإنّ الأمل برحمة الله يجب أن يُصاحبه انتهاج طريق الحقّ والصلاح، وليستفيد من أسباب الأمل ويجني ثمار إصلاح الذات.

لو كان زادُك أخطاء ومعصية

وجسمك زورقُ أمواج الفناء

فلا يفزعْك إعصارُ الخطايا

فرَبّ هذا البحر يمنحك البقاء

         

____________________

(١) النوادر: الراوندي، ص٦٩، بحار الأنوار: المجلسي ٦٩ / ٣٣٨.

(٢) سورة يوسف: الآية ٨٧.

(٣) معاني الأخبار: الشيخ الصدوق، ص١٧٧.

١٠٤

٢ - الأملُ العقلائي

إنّ الأمل الذي لا يستند إلى أساس، ولا يدعمهُ التدبير والسعي، لا يُعدّ أمَلاً عقلائيّاً.

 ذلك أنّ أئمّة الدين، وكبار الفلاسفة والعلماء، والذين تمكّنوا بالوعي والعلم والتجربة، أن يشقّوا أمواج الصعوبات ويحطّموا صخورها الصَلبة، قد وضعوا بين أيدينا من التوجيهات والنصائح، ما يؤكّد ضرورة اقتران الأمل بالعمل.

ولأجل ذلك، فإنّ الآمال التي لا أساس لها، والتي لا يرافقها السعي والعمل، تُعدّ آمالاً كاذبة.

وقد كتبَ الإمام علي ( عليه السلام ) إلى زياد بن أبيه، وهو خليفة عامله عبد الله بن عبّاس على البصرة، قائلاً:

( أترجو أن يُعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبّرين! وتطمع - وأنت متمرِّغ في النعيم، تَمنعهُ الضعيف والأرمَلة - أن يوجب لك ثواب المتصدّقين، وإنّما المرءُ مجزيٌ بما أسلفَ، وقادمٌ على ما قدَّم ) (١) .

ويقول الإمام الباقر ( عليه السلام ):( إيّاك والرجاء الكاذب، فإنّه يوقِعك في الخوف الصادق ) (٢) .

ويقول اللوردآفيبوري :إنّ أكثر الأشياء أهميةً أن نعرف أوّلاً ما الذي نريده، ثمّ نعمل من أجل الوصول إليه (٣) .

٣ - الأملُ المضيء

حينما يتوجّه الطلاب والجامعيّون إلى مَعاهد العلم، والموظّفون إلى الدوائر، والعمّال إلى المناجم والسهول والصحاري، متحمّلين الحرّ والبرد والمصاعب، وجميع المُزعجات والمنغّصات، فإنّهم إنّما يفعلون ذلك بأمل توفير وسائل عيشهم واحتياجات حياتهم المادّية والمعنوية، بنحوٍ يمكنهم من تحقيق البقاء والتكامل.

____________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة ٢١.

(٢) تُحف العقول: ابن شعبة الحرّاني، تحقيق علي أكبر الغفاري، ص٢٨٥.

(٣) ابحث عن السعادة: ص٦٦.

١٠٥

وكما ذكرنا فيما تقدّم، فإنّه إذا لم يكن في الحياة( مصباح الأمل )، فإنّ حياتنا برمّتها سوف تكتنفها الظلمة والخوف والأوهام المُميتة، وتتبدّل ساحتها إلى موقد من النار المُحرقة.

يقول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ):( الأملُ رحمة لأمّتي، ولولا الأمل ما رَضَعت والدة ولدها، ولا غرسَ غارسٌ شجراً ) (١) .

ويقول ( صلّى الله عليه وآله ) أيضاً:( مَن كان يأمل أن يعيش غداً، فإنّهُ يأمل أن يعيش أبداً ) (٢) .

ويقول الإمام الصادق ( عليه السلام ):( كُن لِمَا لا ترجو أرجى منك لِمَا ترجو؛ فإنّ موسى ( عليه السلام ) ذهب يقتبس لأهله ناراً، فانصرفَ إليهم وهو نبيٌّ مُرسل ) (٣) .

ويقول الدكتورصاموئيل سمايلز : ( الأملُ ضروري للجميع، فبوجود الأمل يتمكّن الإنسان بسهولة من تحمّل المصائب ومتاعب الحياة، ولكن أسوأ الأشخاص، هم أصحاب الآمال الكثيرة، إلاّ أنّهم لا يستخدمون طاقاتهم في السعي والعمل )(٤) .

إنّ فقدان الأمل مرض نفسيّ، يؤدّي إلى اضطراب الإنسان، وعدم قدرته على النشاط والسعي، وهو من الخصال المؤذية المذمومة من وجهة نظر الإسلام، والتي أدانها علماء المسلمين وشعراؤهم، ودَعَونا جميعاً إلى الوقاية منها والنجاة من كابوسها وآثارها الضارّة.

يقولجلال الدين محمد البلخي المولوي (٥) :( قال الأنبياء: إنّ اليأس قبيح، إذ لا نهاية لفضل الله ورحمته، ومهما كان العمل صعباً أوّل وَهلة، فإنّ صعوبتهُ سرعان ما تزول، وإنّ الآمال تُبدّد اليأس كما يُبدّدُ الظلامَ ضياءُ الشمس ) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٧٤ / ١٧٣.

(٢) بحار الأنوار: ٧٠ / ١٦٧.

(٣) بحار الأنوار: ١٣ / ٣٢.

(٤) الاعتماد على النفس: ص١٥٣.

(٥) عارف وشاعر إيراني كبير، ولِد عام ٦٠٤ هجري، وتوفيَ عام ٦٧٢.

١٠٦

ويقول الحكيمالياس بن يوسف المعروف بـ( نظامي كنجوي ) (١) :

( لا تيأس لدى مواجهة الصعاب؛ فإنّ الغيوم السوداء تمطر ماءً عذباً، ولا تُغلق على نفسك أبواب الأمل، فما أكثر فوائد التجارب المُرّة ).

فلنتذكّر أنّ الأمل شعلة مضيئة ودافئة، نطرد بها ظلمة الحياة وصعابها.

____________________

(١) ولِد عام ٥٣٥ هجري، وتوفي عام ٥٩٩ هجري في مدينة كنجه.

١٠٧

(١٤)

التوبةُ والتطهير

قليلاً ما نجد في الأشخاص العاديين مَن لم يقع في الاشتباه أو الانحراف في حياته؛ لأنّ الإنسان من ناحية ينطوي على غرائز وميول نفسيّة خطرة، ومن ناحية أخرى لا يملك من الوعي الكامل والتجارب الضرورية ما يساعده على كبح غرائزه وأهوائه، وتوجيهها إلى طريق الخير والصلاح.

وكما نعلم، فإنّه ليس ثمّة انحراف أو خطيئة، إلاّ ويعقّبه ردّ فعل فرديّ أو اجتماعي، ولأجل ذلك قُسّمت الذنوب وآثارها إلى ثلاثة أقسام:

١ - الذنوب والخطايا التي يتوجّه ضررها إلى الدين خاصّة.

٢ - الذنوب والانحرافات التي يرتدّ ضررها إلى شخص المذنب.

٣ - الذنوب والخطايا التي تعود أضرارها إلى المجتمع.

يقول الشاعر:

جبلٌ عالَمنا وصيحةٌ أفعالنا

وسيرتدّ صدى أعمالِنا نحونا(١)

____________________

(١) مثنوي معنوي: الدفتر الأوّل، ص٧.

١٠٨

إلاّ أنّه لحُسن الحظّ، هناك لكلّ اشتباه وانحراف طريق للتكفير عنه، وترميم ما يسبّبه من أضرار، كما يحكم بذلك العقل والوجدان، وكما يؤمّلنا به الدين، وبهذه الطريقة بوسع كلّ إنسان ابتُلي بالمعصية والذنوب أن يرجع إلى صراط الحياة القويم، وأن يُصلح ما أفسدهُ في ماضيه، ويستعيد ما ضيّعته عليه الآثام.

إنّ الإمام الرابع زين العابدين ( عليه السلام ) في مناجاته لله تعالى، وحَمده وتنزيهه للذات المقدّسة، يجذب حسرة ويقول:

( إلهي أنتَ الذي فتحتَ لعبادك باباً إلى عفوك سمّيتهُ ( التوبة )، فقلتَ: ( تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً ) ) (١) .

فعليه: لا ينبغي أن يستولي علينا اليأس، إذا صَدر منّا الذنب في لحظة ضعف أو غفلة، ولا يحسن بنا أن نفقد الأمل، ونعدّ أنفسنا أشقياء مطرودين من رحمة الله، وإنّ من الحمق أن نقول أحياناً: إذا كان الماء، فلا فرق بعدئذٍ بين أن يكون مقدارهُ كوزاً أو ألف كوز!

والآن، لأجل أن نكون على معرفة أفضل بطريق التراجع عن الذنوب والانحرافات الخطيرة، علينا أن نُقدّم شيئاً من التوضيح لِمَا قدّمناه من الأنواع الثلاثة للذنوب:

١ - الذنوبُ التي تُقترف بحقّ الله والدِين

المجموعة الأولى من الذنوب التي تصدر من الإنسان، تتمثّل فيما يرتكبهُ الشخص من مخالفات يعصي بها الله، ويخرج عن دائرة تعاليم الدين.

إنّ هذا النوع من الذنوب لا ينبغي أن يصدر من الإنسان أبداً، ولكن للأسباب التي ذكرناها آنفاً، إذا حَصلت معصية - لا سامحَ الله - لضعف إرادة العبد، فبما أنّ الله تعالى كريم ورحيم، فإنَّ التوبة والعزم على إصلاح الذات، إذا اقترَنت بالإرادة الجادَّة والعزم القلبي، تكون أيسر وأسهل من التوبة عن بقيّة الذنوب.

____________________

(١) مفاتيح الجنان: عبّاس القمّي، مناجاة التائبين.

١٠٩

إنّ أهمّ الذنوب التي تُعدّ معصية لله، وتُمثّل ضربة شديدة لعقيدة الإنسان ودينه، عبارة عن:الشرك بالله سبحانه، الامتناع عن الصوم والصلاة، شُرب الخمر، وبصورة عامّة عدم الاعتناء بامتثال أوامر الله تعالى ونواهيه.

وإنّ التوبة عن أمثال هذه الذنوب - رغم خطورتها - أمرٌ ميسور وسهل؛ لأنّ الإنسان يتعامل مع ربّ كريم ورحيم، وهو الذي يدعو عبده إلى التوبة إليه، قال تعالى:( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١) ، غاية الأمر في حالة اتّخاذ شريك لله - وهو أمرٌ نادر الوقوع في المجتمعات الإسلاميّة - تتيسّر التوبة بالتأمّل الدقيق لأسرار الخلق، وما يكمُن خلفها من إرادة وحكمة.

وبوسع الإنسان أيضاً أن يتدارك ما ضيّعه من صلاة وصوم، وأن يقضي ما فاتهُ منهما بالتدريج وفي حدود الاستطاعة.

وفيما يخصّ تناول الخمر، يتمكّن العبد أيضاً بالعزم الجادّ أن يتحوّل إلى طريق الصلاح وإطاعة الله، ويُنقل عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قولهُ بهذا الشأن:( التائبُ من الذنب كمَن لا ذنبَ له ) (٢) .

٢ - ظلمُ النفس

إنّ الله تعالى قد خلقنا لكي نحيا حياةً سعيدة ونزيهة وكريمة، وإنّ الاستعدادات والطاقات التي أودَعها فينا، يمكنها أن تمنحنا مواقع متقدّمة على الصعيد المادّي، وعلى مستوى الطموحات الإنسانية المتعالية، وفي نهاية المطاف، تنقلنا من حياة دنيوية مشرّفة، إلى جنّة الخلود في عالَم الآخرة.

____________________

(١) سورة النور: من الآية ٣١.

(٢) أصول الكافي: ٢ / ٤٣٥.

١١٠

يقول الإمام علي ( عليه السلام ):( إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها بغيرها ) (١) .

إنّ أولئك الشباب الذين يمارسون الأعمال الباطلة، ويعطّلون بذلك طاقاتهم الخلاّقة، ويهدرون قابلياتهم، مضيّعين بذلك فرصة الشباب، بالنزاعات والمجادلات القولية والعملية، واتباع الشهوات والبطالة، والأفظع من ذلك كلّه الانزلاق في متاهات الانحراف الأخلاقي والتلوّث بالذنوب، فيكون بذلك قد شوّه شبابه وضيّعه، وهذا أعظم ظلم يرتكبهُ الإنسان بحقّ نفسه ومصيره، وفي هذا المنعطف يجب في الأقلّ أن يلتفت الإنسان إلى مصالحهُ المستقبليّة، وبنظرة ناقدة للذات يَقدِم على خطوة إيجابية حازمة باتّجاه التغيير الكلّي.

قال علي ( عليه السلام ):( مَن أهملَ العمل بطاعة الله، ظلمَ نفسه ) (٢) .

وقال الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ):( كتبَ رجل إلى أبي ذر ( رض ): يا أبا ذرّ، أطرِفني بشيء من العلم، فكتبَ إليه: إنّ العلم كثير، ولكن إذا قدرتَ أن لا تسيءَ إلى مَن تُحبّه فافعل، فقال لهُ الرجل: وهل رأيت أحداً يسيءُ إلى مَن يُحبّه؟ فقال له: نعم، نفسُك أحبُّ الأنفس إليك، فإذا أنتَ عصيتَ الله فقد أسأتَ إليها ) (٣) .

يقول أبو بصير: كنتُ في محضر الإمام الصادق ( عليه السلام )، إذ جاء رجل وقال له:فداك أبي وأمّي، عندما أذهب إلى بيت الخلاء أسمع صوت غناء جواري وفَتيات الجيران، فأُطيل الجلوس لأستمع، فقال الإمام ( عليه السلام ):( لا تفعل هذا أبداً، فقال الرجل:أحلفُ أنّني لا أقصد بذهابي للخلاء سماع الغناء، وإنّما يتّفق سماعي له هناك ، فقال الإمام ( عليه السلام ):ألم تسمع قوله تعالى: ( إنّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (٤) ، فقال الرجل:كأنّني لم أسمع هذه الآية قبل الآن، أسألُ الله المغفرة، ولن أُعاود هذا العمل، فقال الإمام ( عليه السلام ):قُم فاغتِسل، وصلِّ ما بَدا لك، فإنّك كنتَ مقيماً على أمرٍ عظيم، ما كان أزرا حالك لو متَّ على ذلك، احمِدَ الله وسلهُ التوبة من كلَّ ما يَكره؛ إنّه لا يَكره إلاّ القبيح ) (٥) .

____________________

(١) بحار الأنوار: المجلسي ٧٥ / ١٣.

(٢) فهرست الغُرر والدُرر: الآمدي، ص١٣.

(٣) أصول الكافي: ٢ / ٤٥٨.

(٤) سورة الإسراء: الآية ٣٦.

(٥) بحار الأنوار: ٦ / ٣٤.

١١١

٣ - الذنوبُ التي تُقترف بحقّ الآخرين

المجموعة الثانية من الذنوب والانحرافات التي يمكن صدورها من الإنسان، تلك الذنوب ذات الطابع العام، التي تتعدّى أضرارها الفرد إلى المجتمع، وإنّ التعويض عن أضرار مثل هذه الذنوب في غاية الصعوبة بالنسبة لغيرها من الآثام؛ ذلك أنّ الأمر هنا يرتبط بحقّ الناس.

ولأجل ذلك، فإنّ مَن تجاوز على أرواح وأموال وأعراض الآخرين، وبالتالي عرّض أعصابهم وحقّهم في الحياة الحرّة الآمنة المطمئنّة للخطر والأذى، إنّ من الضروري لمثل هذا الشخص إذا أراد التوبة عمّا اقترفهُ من الذنوب، أن يُسارع بتعويض الآخرين عن الخسائر والأضرار التي ألحقها بهم.

وعليه: فإذا تسبّبَ شخص في انحراف الآخرين فكرياً وأضلّهم عن طريق الحقّ، أن يبادر إلى إصلاح ما أفسدهُ، وأن يردّ مَن أضلّهم إلى جادّة الهدى والاستقامة، فقد روي عن الصادق ( عليه السلام ):( أوحى الله عزَّ وجل إلى نبيّ من الأنبياء، قل لفلان: وعزّتي لو دَعوتني حتّى تنقطع أوصالك، ما استجبتُ لك حتّى تردّ مَن ماتَ إلى ما دعوتهُ إليه، فيرجع عنه ) (١) .

ويقول القرآن الكريم بشأن مَن أقرضَ الآخرين قرضاً ربويّاً، وربحَ من أموالهم ربحاً غير مشروع، أنّ عليه إذا أراد التوبة والتطهّر من ذنبه، أن يأخذ رأس ماله فقط، وأن يُعيد الأرباح إلى أصحابها، وذلك قوله تعالى:

____________________

(١) عقاب الأعمال: ص٣٠٧، بحار الأنوار: ٦٩ / ٢١٩.

١١٢

 ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِنْ لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) (١) .

وقد بلغَ من اهتمام الشارع بأموال الناس، أن حمّلَ وليّ أمر الطفل الذي لم يبلغ سنّ التكليف مسؤولية تعويض الأضرار التي يرتكبها الطفل، وجعلهُ ضامناً لِمَا يتلفهُ الطفل من أموال الآخرين، فقد رويَ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قوله:( قضى أمير المؤمنين في رجلٍ كان لهُ غلام فاستأجره منه صائغ أو غيره، قال: إن كان ضيّعَ شيئاً أو أبقَ، فمُوالوه ضامنون ) (٢) .

وعلى الرغم من أنّ الطفل غير مكلّف بالصلاة والصوم، إلاّ أنّه إذا ارتكبَ جناية تُسبّب إزهاق روح إنسان، أو قطع عضو من أعضائه، فإنّ الشارع وإن أعفاهُ من عقوبة الإعدام والقصاص، إلاّ أنّه يُعزّر ويُسجن، وعُلّل ذلك في الروايات بقول الإمام ( عليه السلام ):( لكي لا يبطل حقّ امرئ مسلم ) (٣) .

وإذا حصلَ - والعياذ بالله - أن ارتكبَ المكلّف انحرافاً جنسياً وعملاً منافياً للعفّة، فعلى الرغم من أنّه بهذا العمل يكون قد تجاوز على حريم الشارع المقدّس، واعتدى على أعراض الناس، فإنّ طريق التوبة منه يتمّ بكتمان هذا العمل الفاحش، وأن يَعقد العزم الجادّ على عدم ارتكاب هذا العمل مرّةً أخرى؛ ذلك أنّ من غير المُحبّذ في نظر الشارع أن يشيع بين الناس العلم باقتراف شخص للفاحشة؛ لأنّ ذلك يكسر حاجز الخجل والعفّة، وقد يُشجّع الآخرين على ممارسة ذلك العمل القبيح.

ونقرأ في الروايات أنّ أحدهم قد ارتكبَ عملاً منافياً للعفّة، ولم يستطع تحمّل آلام الندامة وتعذيب الضمير، فذهبَ إلى الإمام علي ( عليه السلام ) واعترفَ بذنبه، وطلبَ تطهيرهُ منه بإنزال العقوبة الشرعية به،

____________________

(١) سورة البقرة: الآية ٢٧٨ - ٢٧٩.

(٢) وسائل الشيعة: ١٩ / ١٨٣.

(٣) وسائل الشيعة: ١٩ / ٦٥.

١١٣

 وقد أمرَ الإمام ( عليه السلام ) بتوقيفه، إلاّ أنّه غَضب وقال:( ما أقبحَ بالرجل منكم أن يأتيَ بعض هذه الفواحش، فيفضح نفسهُ على رؤوس الملأ، ألا تابَ في بيته، فو الله لتَوبتهُ فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ ) (١) ، وعلى أيّ حال، فمهما كان الذنب منافياً للعفّة، ومعدوداً من الانحرافات الجنسيّة، والتجاوز على حقوق الآخرين، وموجِباً لطلب إبرائهم ذمّة الفاعل، إلاّ أنّه لأجل الحدّ من العواقب الوخيمة، ودَفناً للقبائح، فإنّ التوبة النصوح بين العبد وبين الله تكفي، و( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (٢) .

ورويَ عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قوله:( إنّ الله تعالى يُحبُّ الشابّ التائب ) (٣) ، ومن ناحية أخرى، فإنّ الله تعالى يَعدّ مَن لا يُسارع إلى التوبة إلى الله من ذنوبه ظالماً لنفسه، قال سبحانه:( وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٤) ؛ ذلك أنّ التوبة من الذنب واجب فوريّ، وأمّا قول الإمام الباقر ( عليه السلام ):( إنّما أهلكَ الناس العَجلة، ولو أنّ الناسَ تثبّتوا لم يَهلك أحد ) (٥) ، فإنّما ذلك في الأمور الدنيويّة التي تتطلّب التأنّي، لا في التوبة؛ فإنّها تستدعي الإسراع بها، وخيرُ البرّ عاجلهُ.

آثارُ الذنوب

حينما نتحدّث عن الآثار الضارّة للذنوب على الفرد والمجتمع، يجب أن نعلم أنّ هذه الآثار لا ينحصر العقاب عليها في عالَم الآخرة فقط، بل إنّ آثارها تظهر في الحياة الدنيا على ملامح الإنسان، وتؤدّي إلى ظلمة قلب الإنسان وروحهُ، وتَحرمهُ من لذّة الارتباط المعنوي بالله، وتَذوّق لذّة العبادة، وتسلب عنهُ عناية الله عزّ وجل.

____________________

(١) وسائل الشيعة: أبواب مقدّمات الحدود.

(٢) سورة البقرة: الآية ٢٢٢.

(٣) كنز العمّال: ٤ / ٢٠٩.

(٤) سورة الحجرات: من الآية ١١.

(٥) بحار الأنوار: ٦٨ / ٣٤٠.

١١٤

ومضافاً إلى ذلك، تكون سبباً في سلب النِعم التي سبقَ لله تعالى أن أنعمَ بها على الإنسان، يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ):( ما أنعمَ الله على عبدٍ نعمة فسلبها إيّاه، حتّى يَذنب ذنباً يستحقّ به ذلك السلب ) (١) .

ورويَ عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قوله:( إذا غضبَ الله عزَّ وجلَّ على أمّةٍ ولم يُنزل بها العذاب، غَلت أسعارُها، وقصُرت أعمارها، ولم تربح تُجّارها، ولم تَزكُ ثمارها، ولم تغزُر أنهارها، وحُبس عنها أمطارها، وسُلّط عليها شرارها ) (٢) .

____________________

(١) أصول الكافي: ٢ / ١٤٣.

(٢) بحار الأنوار: ٧٠ / ٣٤٩.

١١٥

(١٥)

بارقةُ النجاة

إنّ الاضطرابات الفكرية والنفسيّة الطاحنة، قد يلتهم أُتونها المُحرق جانباً مهمّاً، بل حتّى سنواتٍ من عُمرنا الغالي، وإنّنا قد نعيش أشهراً من التردّد وتقسُّم الفؤاد من أجل انتخاب الفرع الدراسي أو نوع العمل، ثمّ تكون عاقبة ذلك الحُزن وتجرّع الغُصص وجَذب الحَسَرات.

وقد ننفق أحياناً سنواتٍ من أعمارنا في عملٍ ما أو اختصاص دراسي، إلاّ أنّنا بسبب عدم اكتشافنا لسرّ النجاح الكامل، لا نستطيع أن نحصل على النتيجة المطلوبة، ولا السرور الذي يُكافئ ما بذلناه من تعبٍ ونَصَب.

وبطبيعة الحال، فإنّ عدم الوعي الكامل بهذه الحالات، يوقِعنا في الأخطاء، ويَحرمنا من الفائدة والربح، ولكن - لا سمحَ الله - لو أنّ بعض الأفراد تورّطوا بالانحراف الأخلاقي، وسلكوا جادّة الخطايا، فإنّهم لن يُحرَموا فقط من الحصول على المكاسب، وإنّما يتعرّضون أيضاً لفقد رصيدهم المادّي والإنساني، وتَذهب أعمارهم نَهباً لرياح الضياع.

ما الذي يتعيّن علينا فعلهُ في مثل هذه الحالات، لكي ندرأ عن أنفسنا ما يترتّب عليها من أضرار ومصائب تُهدّد حياتنا؟

١١٦

يجب علينا أن نتيقّن أوّلاً بأنّ ما نتعرّض لهُ فيما نمارسه من أعمال من خسائر وأخطاء وانكسار، فإنّ ذلك راجع إلى عدم الوعي والتبصّر بجوانب العمل، أو العَجَلة في مُزاولته أو الإقدام عليه.

وفي المرحلة الثانية يتعيّن علينا أن نُعمِل طاقة العقل والمعرفة، بوصفها مِنحة إلهية أنعمَ بها الله على الإنسان لتكون ميزة له على بقيّة الموجودات في هذا العالَم، يقول الإمام علي ( عليه السلام ):( أفضلُ العبادة الفِكر ) (١) ، وقال ( عليه السلام ) أيضاً:( بالفكرُ تنجلي غياهبُ الأمور ) (٢) ، وقال في حديثٍ ثالث:( بتكرار الفِكَر تسلمُ العواقب ) (٣) .

ولأجل ذلك لا ينبغي الغفلة عن الاستفادة من طاقة الفكر والعلم أبداً، ويجب اكتساب الخبرة اللازمة في مجال العمل، والاستفادة من نصائح وآراء ذوي الخبرة من فاعلَي الخير.

ويجب أن نلتفت إلى أنّه قد تمرّ علينا خلال حياتنا، لحَظات تنقدح في أذهاننا بعض الأفكار التي تدفعنا لإحداث تحوّل وتغيير في أعمالنا أو أسلوب حياتنا، وتفتح لنا فجأة آفاقاً بنّاءةً جديدة.

أجل، إنّ اختلاف النظر، والآفاق الجديدة، تحصل لكثيرٍ من الأشخاص، وتؤدّي أحياناً إلى انعطافٍ كامل في حياتهم، أو تؤدّي إلى تحوّلهم من الطريق الخاطئ، والممارسات السلوكية المهلكة، إلى طريق الخير والصلاح والسعادة، ولكنَّ المسألة المهمّة في مثل هذه المراحل هي: أنّه حينما تهبّ عليا نَسائم الرحمة، ويُبدي لنا بعضهم ملاحظات نافعة، فإنّ علينا أن نأخذ بها ونضعها موضع التنفيذ، لكي نَجني ما يترتّب عليها من الفوائد، ولا نُعير أهمية لشخص مَن أبدى تلك الملاحظة، حتّى لو لم يكن إنساناً طيّباً، وإنّ هذه النقطة هي موضع القبول في ثقافتنا الدينية،

____________________

(١) غُرر الحِكم: ١ / ١٧٧.

(٢) المصدر نفسه: ١ / ٢٣٦.

(٣) المصدر نفسه: ١ / ٣٣٧.

١١٧

 ويقول الإمام ( عليه السلام ) بهذا الشأن:( انظُر إلى ما قال، ولا تنظُر إلى مَن قال ) (١) .

وبالالتفات إلى ما تقدّم، ينبغي أن نتأمّل في الحكايات التالية:

١ - نصيحةُ اللصوص

أبو حامد محمد الغزالي ، المولود عام ٤٥٠ للهجرة، والمتوفّى عام ٥٠٥ للهجرة في مدينة( طابران طوس ) من نواحي مشهد، كان من علماء المسلمين الكبار المشهورين.

قضى ٥٠ عاماً من عُمره في دراسة وتدريس مختلف العلوم الإسلامية، وألّف ما يقارب ٢٠٠ كتاب عميق وخالد، وصَل إلينا منها ٥٨ كتاباً.

ومن أشهر كُتبه:إحياء علوم الدين، كيمياء السعادة، الاقتصاد في الاعتقاد، سرّ العالَمين، علم النفس من وِجهة نظر الغزالي.

وقد طُبعت مؤلّفاته على مدى تسعة قرون بلغات مختلفة مع الشروح في: مصر، وباكستان، وسوريا، والحجاز، والعراق، وبيروت، وباريس، والنمسا، ولندن، وإيران.

بَدأ الغزالي تحصيلهُ الدراسي في وطنه( طوس ) ، ولكنّه سافرَ إلى نيشابور لأجل مواصلة الدرس في حوزتها العلمية الكبيرة، واشتركَ في حَلقة درس أبي المعالي الجويني عدّة سنوات، عادَ بعدها إلى وطنه، وهو مُحمّل بالوفير من المذكّرات والكرّاسات العلمية، ولكنّ القافلة التي كان يسافر فيها تعرّضت لغارة قطّاع الطُرق.

وبدأ اللصوص يستولون على أموال أفراد القافلة، وحينما امتدّت أيديهم إلى الكيس الذي يحتوي أوراق الغزالي ودفاتره، اعتراهُ قلق شديد وأخذ يتوسّل إليهم أن يتركوها لهُ،

____________________

(١) غُرر الحِكم: ١ / ٣٩٤.

١١٨

 الأمر الذي أدّى إلى اعتقادهم بوجود أشياء ذات قيمة في الكيس، ممّا زادَ في طمعهم في الاستيلاء عليها، لكنّهم فوجئوا عندما فتحوا الكيس، بأن لم يروا داخله سوى أوراق مسوّدة بالكتابة، فسألوهُ:

- ما هذه الأوراق، وما نفعها؟

فأجابهم الغزالي:إنّ هذه ثمرة عدّة سنوات من دراستي وجهدي، لقد سجّلت فيها جميع ما درستهُ لعدّة سنين، وإنّ فَقدي لها معناه ضياع كلّ المعلومات التي درستها.

فقال لهُ أحد اللصوص ساخراً:

- إنّ العلم الذي يُجمع في كيس، ويكون عرضةً للسرقة، لا نفعَ فيه.

ثمّ التفت اللصّ إلى رفاقه قائلاً: أعيدوا لهُ الكيس.

قال: فقلتُ: هذا مُستنطق أنطقهُ الله ليرشدني به أمري(١) .

يقول الغزالي: إنّ تلك الملاحظة البسيطة، كانت كلمة حقّ، أجراها الله تعالى على لسان قاطع الطريق، وكانت بالنسبة لي نقطة تحوّل، فعندما بلغتُ طوس، انصرفتُ إلى البحث والتحقيق الجادّ مدّة ثلاثة سنوات، ونقلتُ جميع معلوماتي ومعرفتي إلى صفحة عقلي، وأودعتها آمنةً هناك من اللصوص، وإنّ أفضل نصيحة وإشارة تلقّيتها وكانت عاملاً في تقدّمي العلمي، هي ما تعلّمتهُ من ذلك اللصّ.

____________________

(١) إحياء علوم الدين: ج١، ص٧.

١١٩

٢ - حرٌّ أم عَبد؟

كانت أصوات المعازف والغناء تتعالى من بيت( بِشر بن الحارث بن عبد الرحمان المروزي ) ، حيث تحلّقت في الداخل مجموعة من المترَفين والخمّارين.

وكانت إحدى الخادمات قد خَرجت من البيت لتلقي بعض النفايات، إذ مرَّ بها رجلٌ مهيب تبدو على جبهته آثار العبادة والسجود، وبَدا عليه الاستياء ممّا تناهى إلى سمعهُ من الموسيقى والغناء، وسألَ الخادمة:

-( أصاحبُ هذه الدار عبدٌ أم حرّ؟ )

فأجابتهُ:إنّه حرٌّ.

فقال لها:صَدقتِ، لو كان عبداً لأطاعَ مولاه ).

وقد أدّى حديث المرأة الخادمة مع ذلك الرجل المهيب إلى تأخيرها وقتاً ما عن العودة إلى المنزل، ولأجل ذلك سألها مولاها بشرٌ عن سبب تأخيرها، فأخبرتهُ بما جرى من حديثٍ بينها وبين الرجل، وعندما سمعَ بشرٌ بجواب الرجل البالغ الحكمة، اهتزّ لهُ كيانه، وحدسَ مَن يكون ذلك الرجل، وبدون أن يضيّع الوقت، خرج يركض حافياً ليدركهُ، ولم يطل بحثهُ حتّى وصلَ إليه، ولم يكن ذلك الرجل سوى الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام )، وعاهَدهُ أن لا يعصي الله بعد ذلك أبداً.

كان بِشرُ بن الحارث من أبناء الأشراف المترَفين، وكان يُعدّ من العصاة المنحرفين، ومنذ تلك اللحظة التي أومضَ فيها ضوء الهداية في قلبه، تركَ طريق الغواية، واتّخذ جادّة الهدى والصلاح، ولأنّه ركضَ حافياً وراء الإمام ( عليه السلام )، سُمّي بـ( بِشر الحافي ) ، وأصبحَ من الأتقياء المؤمنين العارفين، الذين عملوا على هداية الآخرين وتعليمهم الحكمة، وتأثّر به خلقٌ عظيم.

وقد توفيَ بشر عن ٧٥ عاماً، في بغداد عام ٢٢٧ للهجرة، بعد أن مَنَّ الله عليه بحُسن العاقبة.

١٢٠