ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب27%

ما يحتاجه الشباب مؤلف:
الناشر: ناظرين
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 214

ما يحتاجه الشباب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156230 / تحميل: 8968
الحجم الحجم الحجم
ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب

مؤلف:
الناشر: ناظرين
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدّم النموذج الآتي: ( روي أنّه ( صلّى الله عليه وآله ) سلَّم عليه غلام دون البلوغ، وبشَّ له وتبسّم فرحاً بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) فقال له:( أتحبّني يا فتى؟ فقال:إي والله يا رسول الله ، فقال له:مثل عينيك؟ فقال:أكثر ، فقال:مثل أبيك؟ فقال:أكثر ، فقال ( صلّى الله عليه وآله ):مثل أمّك؟ فقال:أكثر، فقال ( صلّى الله عليه وآله):مثل نفسك؟ فقال:أكثر والله يا رسول الله، فقال ( صلّى الله عليه وآله ):مثل ربّك؟ فقال:الله الله يا رسول الله، ليس هذا لك ولا لأحد، فإنّما أحببتُك لحبّ الله، فالتفتَ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) إلى مَن كان معه وقال:هكذا كونوا أحبّوا الله لإحسانه إليكم وإنعامه عليكم، وأحبّوني لحبّ الله ) (١) .

____________________

(١) إرشاد القلوب: ١ / ١٦١، دار الشريف الرضي للنشر.

١٠١

(١٣)

جذوةُ الأمل

إنّ حياة معظم البشر، ولا سيّما الشباب، في العالَم المعاصر، معرّضة للكثير من المشاكل والمصاعب، ومن الطبيعي أنّ المشاكل والعوائق التي تقع في طريق التقدّم، تَغمر حياة الإنسان بالغمّ والأحزان المضنية، وتجعلهُ يرى النهار المشرق ليلاً مظلماً.

وينبغي أن نعلم أنّ البشر ليسوا وحدهم في معرض مواجهة مصاعب الحياة، وعوائق تحقيق الأهداف، بل حتّى النباتات تواجه أمثال هذه المعوّقات.

إنّ البذرة التي تحاول أن تَطلع برأسها من أعماق التراب، لتحصل على النور والحياة، تواجه موانع من الطين والحجارة وجذور الأشجار والأعشاب، التي تقف حائلاً دون حركتها، ولكنّ أفنان البذرة الدقيقة، تواصل المقاومة والكدح وبذل الجهود، وكلّما واجهت في طريقها عَقَبة انحرفت إلى جهة أخرى، حتّى تتمكّن في نهاية الأمر أن تطلّ برأسها من بين الوحل والأحجار، لتعانق ضوء الشمس، وتتحوّل إلى نبتة جميلة جذّابة، تَمنح الطراوة للطبيعة، وللناس الفيء والفواكه اللذيذة.

١٠٢

وإنّ حياتنا ليست بمعزلٍ عن هذه القاعدة، وإنّ تحرّكنا لأجل بلوغ حياة نزيهة سامية، والحصول على مكانة ورتبة عالية، من الممكن أن يواجَه بعشرات من الموانع والمعوّقات، ومن نماذج ذلك:

الظروف العائلية غير المساعِدة، الوضعية غير المرغوبة في المدرسة، رفاق السوء، الفشل المؤلِم في الحياة .

ولكن يجب أن نلتفت إلى أنّ الحياة من أجل الحقّ، تتطلّب المقاومة والثبات؛ ذلك أنّ الحياة الواقعية يجب أن تتشكّل على أساس الهدف والعقيدة الصحيحة، ولابدّ لمواصلتها من الكدح والجهاد.

ومضافاً إلى ذلك، فإنّ ما نعرفهُ من عوائق ومشاكل الحياة، ليست أشياء جديدة وحديثة الظهور، ولا تخصّنا وحدنا، بل هي أمور قديمة الحدوث وشائعة في حياة المجتمعات، وإنّ الملايين من الشباب قد تمكّنوا بالأمل والعزم والإرادة الراسخة أن يجتازوا أمواجها ومتاهاتها، وأن يصلوا إلى قمّة الانتصار.

وبطبيعة الحال، فإنّه لابدّ من طرح( الأمل ) بوصفه قوّةً بنّاءَة، وشعلة مضيئة في طريق الحياة، مع الالتفات إلى بيان أقسامه ومفاهيمه المختلفة:

١ - الأملُ بالله تعالى

قليلٌ من الناس أولئك الذين لا ينحرفون في طريق الحياة، ولا يقترفون الذنوب، ولكنّ رمز الموفقيّة يتمثّل في سرعة التفات الإنسان إلى انحرافه، فيتراجع عن خطئه، ولا يعاود تكرار الذنب والخطيئة، بلي يسعى إلى جبران الآثار الضارّة التي تَسبّبَ في وجودها.

يقول نبيّنا محمّد ( صلّى الله عليه وآله ):( كلّ بني آدم خطّاءٌ، وخيرُ الخطّائين التوابون ) (١) .

____________________

(١) نهج الفصاحة: ص٤٥٥ - ٤٥٦.

١٠٣

أجل، إنّه بمقدار الثقة بالله تعالى والأمل برحمته ورأفته، تكون حركة الإنسان وسعيه وجهاده وهجرته، ومن ثَمّ فوزهُ في دنياه وآخرته، وإنّ اليأس والقنوط من عفو الله ورحمته هو: عامل ظلمة روح الإنسان واقترافه الآثام والمعاصي.

يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ):( اليأسُ من رَوْحِ الله عزَّ وجلَّ أشدُّ بَرداً من الزَمهرير ) (١) .

وبالالتفات إلى أنّ اليأس من رحمة الله يُعدُّ في نظر الإسلام كفراً بالله سبحانه، لقوله تعالى:( وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) (٢) ، فإنّه لا ينبغي للإنسان أن ييأس من عطف الله ورحمته بسبب ما اقترفهُ من الذنوب، فيبقى مُقيماً على الآثام غارقاً في مُستنقع الفساد والتلوّث، وإنّما عليه أن يسارع بالتوبة والرجوع إلى الله عسى أن يتوب الله عليه ويشمله برحمته ورضوانه.

يقول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ):( يَبعثُ الله المُقنطين يوم القيامة مُغلّبة وجوههم ( يعني غَلبة السواد على البياض )فيقال لهم: هؤلاء المقنطون من رحمة الله ) (٣) .

وعليه: فإنّ اليأس من عفو الله ورحمته إثمٌ، وإنّ الأمل برحمة الله يجب أن يُصاحبه انتهاج طريق الحقّ والصلاح، وليستفيد من أسباب الأمل ويجني ثمار إصلاح الذات.

لو كان زادُك أخطاء ومعصية

وجسمك زورقُ أمواج الفناء

فلا يفزعْك إعصارُ الخطايا

فرَبّ هذا البحر يمنحك البقاء

         

____________________

(١) النوادر: الراوندي، ص٦٩، بحار الأنوار: المجلسي ٦٩ / ٣٣٨.

(٢) سورة يوسف: الآية ٨٧.

(٣) معاني الأخبار: الشيخ الصدوق، ص١٧٧.

١٠٤

٢ - الأملُ العقلائي

إنّ الأمل الذي لا يستند إلى أساس، ولا يدعمهُ التدبير والسعي، لا يُعدّ أمَلاً عقلائيّاً.

 ذلك أنّ أئمّة الدين، وكبار الفلاسفة والعلماء، والذين تمكّنوا بالوعي والعلم والتجربة، أن يشقّوا أمواج الصعوبات ويحطّموا صخورها الصَلبة، قد وضعوا بين أيدينا من التوجيهات والنصائح، ما يؤكّد ضرورة اقتران الأمل بالعمل.

ولأجل ذلك، فإنّ الآمال التي لا أساس لها، والتي لا يرافقها السعي والعمل، تُعدّ آمالاً كاذبة.

وقد كتبَ الإمام علي ( عليه السلام ) إلى زياد بن أبيه، وهو خليفة عامله عبد الله بن عبّاس على البصرة، قائلاً:

( أترجو أن يُعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبّرين! وتطمع - وأنت متمرِّغ في النعيم، تَمنعهُ الضعيف والأرمَلة - أن يوجب لك ثواب المتصدّقين، وإنّما المرءُ مجزيٌ بما أسلفَ، وقادمٌ على ما قدَّم ) (١) .

ويقول الإمام الباقر ( عليه السلام ):( إيّاك والرجاء الكاذب، فإنّه يوقِعك في الخوف الصادق ) (٢) .

ويقول اللوردآفيبوري :إنّ أكثر الأشياء أهميةً أن نعرف أوّلاً ما الذي نريده، ثمّ نعمل من أجل الوصول إليه (٣) .

٣ - الأملُ المضيء

حينما يتوجّه الطلاب والجامعيّون إلى مَعاهد العلم، والموظّفون إلى الدوائر، والعمّال إلى المناجم والسهول والصحاري، متحمّلين الحرّ والبرد والمصاعب، وجميع المُزعجات والمنغّصات، فإنّهم إنّما يفعلون ذلك بأمل توفير وسائل عيشهم واحتياجات حياتهم المادّية والمعنوية، بنحوٍ يمكنهم من تحقيق البقاء والتكامل.

____________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة ٢١.

(٢) تُحف العقول: ابن شعبة الحرّاني، تحقيق علي أكبر الغفاري، ص٢٨٥.

(٣) ابحث عن السعادة: ص٦٦.

١٠٥

وكما ذكرنا فيما تقدّم، فإنّه إذا لم يكن في الحياة( مصباح الأمل )، فإنّ حياتنا برمّتها سوف تكتنفها الظلمة والخوف والأوهام المُميتة، وتتبدّل ساحتها إلى موقد من النار المُحرقة.

يقول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ):( الأملُ رحمة لأمّتي، ولولا الأمل ما رَضَعت والدة ولدها، ولا غرسَ غارسٌ شجراً ) (١) .

ويقول ( صلّى الله عليه وآله ) أيضاً:( مَن كان يأمل أن يعيش غداً، فإنّهُ يأمل أن يعيش أبداً ) (٢) .

ويقول الإمام الصادق ( عليه السلام ):( كُن لِمَا لا ترجو أرجى منك لِمَا ترجو؛ فإنّ موسى ( عليه السلام ) ذهب يقتبس لأهله ناراً، فانصرفَ إليهم وهو نبيٌّ مُرسل ) (٣) .

ويقول الدكتورصاموئيل سمايلز : ( الأملُ ضروري للجميع، فبوجود الأمل يتمكّن الإنسان بسهولة من تحمّل المصائب ومتاعب الحياة، ولكن أسوأ الأشخاص، هم أصحاب الآمال الكثيرة، إلاّ أنّهم لا يستخدمون طاقاتهم في السعي والعمل )(٤) .

إنّ فقدان الأمل مرض نفسيّ، يؤدّي إلى اضطراب الإنسان، وعدم قدرته على النشاط والسعي، وهو من الخصال المؤذية المذمومة من وجهة نظر الإسلام، والتي أدانها علماء المسلمين وشعراؤهم، ودَعَونا جميعاً إلى الوقاية منها والنجاة من كابوسها وآثارها الضارّة.

يقولجلال الدين محمد البلخي المولوي (٥) :( قال الأنبياء: إنّ اليأس قبيح، إذ لا نهاية لفضل الله ورحمته، ومهما كان العمل صعباً أوّل وَهلة، فإنّ صعوبتهُ سرعان ما تزول، وإنّ الآمال تُبدّد اليأس كما يُبدّدُ الظلامَ ضياءُ الشمس ) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٧٤ / ١٧٣.

(٢) بحار الأنوار: ٧٠ / ١٦٧.

(٣) بحار الأنوار: ١٣ / ٣٢.

(٤) الاعتماد على النفس: ص١٥٣.

(٥) عارف وشاعر إيراني كبير، ولِد عام ٦٠٤ هجري، وتوفيَ عام ٦٧٢.

١٠٦

ويقول الحكيمالياس بن يوسف المعروف بـ( نظامي كنجوي ) (١) :

( لا تيأس لدى مواجهة الصعاب؛ فإنّ الغيوم السوداء تمطر ماءً عذباً، ولا تُغلق على نفسك أبواب الأمل، فما أكثر فوائد التجارب المُرّة ).

فلنتذكّر أنّ الأمل شعلة مضيئة ودافئة، نطرد بها ظلمة الحياة وصعابها.

____________________

(١) ولِد عام ٥٣٥ هجري، وتوفي عام ٥٩٩ هجري في مدينة كنجه.

١٠٧

(١٤)

التوبةُ والتطهير

قليلاً ما نجد في الأشخاص العاديين مَن لم يقع في الاشتباه أو الانحراف في حياته؛ لأنّ الإنسان من ناحية ينطوي على غرائز وميول نفسيّة خطرة، ومن ناحية أخرى لا يملك من الوعي الكامل والتجارب الضرورية ما يساعده على كبح غرائزه وأهوائه، وتوجيهها إلى طريق الخير والصلاح.

وكما نعلم، فإنّه ليس ثمّة انحراف أو خطيئة، إلاّ ويعقّبه ردّ فعل فرديّ أو اجتماعي، ولأجل ذلك قُسّمت الذنوب وآثارها إلى ثلاثة أقسام:

١ - الذنوب والخطايا التي يتوجّه ضررها إلى الدين خاصّة.

٢ - الذنوب والانحرافات التي يرتدّ ضررها إلى شخص المذنب.

٣ - الذنوب والخطايا التي تعود أضرارها إلى المجتمع.

يقول الشاعر:

جبلٌ عالَمنا وصيحةٌ أفعالنا

وسيرتدّ صدى أعمالِنا نحونا(١)

____________________

(١) مثنوي معنوي: الدفتر الأوّل، ص٧.

١٠٨

إلاّ أنّه لحُسن الحظّ، هناك لكلّ اشتباه وانحراف طريق للتكفير عنه، وترميم ما يسبّبه من أضرار، كما يحكم بذلك العقل والوجدان، وكما يؤمّلنا به الدين، وبهذه الطريقة بوسع كلّ إنسان ابتُلي بالمعصية والذنوب أن يرجع إلى صراط الحياة القويم، وأن يُصلح ما أفسدهُ في ماضيه، ويستعيد ما ضيّعته عليه الآثام.

إنّ الإمام الرابع زين العابدين ( عليه السلام ) في مناجاته لله تعالى، وحَمده وتنزيهه للذات المقدّسة، يجذب حسرة ويقول:

( إلهي أنتَ الذي فتحتَ لعبادك باباً إلى عفوك سمّيتهُ ( التوبة )، فقلتَ: ( تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً ) ) (١) .

فعليه: لا ينبغي أن يستولي علينا اليأس، إذا صَدر منّا الذنب في لحظة ضعف أو غفلة، ولا يحسن بنا أن نفقد الأمل، ونعدّ أنفسنا أشقياء مطرودين من رحمة الله، وإنّ من الحمق أن نقول أحياناً: إذا كان الماء، فلا فرق بعدئذٍ بين أن يكون مقدارهُ كوزاً أو ألف كوز!

والآن، لأجل أن نكون على معرفة أفضل بطريق التراجع عن الذنوب والانحرافات الخطيرة، علينا أن نُقدّم شيئاً من التوضيح لِمَا قدّمناه من الأنواع الثلاثة للذنوب:

١ - الذنوبُ التي تُقترف بحقّ الله والدِين

المجموعة الأولى من الذنوب التي تصدر من الإنسان، تتمثّل فيما يرتكبهُ الشخص من مخالفات يعصي بها الله، ويخرج عن دائرة تعاليم الدين.

إنّ هذا النوع من الذنوب لا ينبغي أن يصدر من الإنسان أبداً، ولكن للأسباب التي ذكرناها آنفاً، إذا حَصلت معصية - لا سامحَ الله - لضعف إرادة العبد، فبما أنّ الله تعالى كريم ورحيم، فإنَّ التوبة والعزم على إصلاح الذات، إذا اقترَنت بالإرادة الجادَّة والعزم القلبي، تكون أيسر وأسهل من التوبة عن بقيّة الذنوب.

____________________

(١) مفاتيح الجنان: عبّاس القمّي، مناجاة التائبين.

١٠٩

إنّ أهمّ الذنوب التي تُعدّ معصية لله، وتُمثّل ضربة شديدة لعقيدة الإنسان ودينه، عبارة عن:الشرك بالله سبحانه، الامتناع عن الصوم والصلاة، شُرب الخمر، وبصورة عامّة عدم الاعتناء بامتثال أوامر الله تعالى ونواهيه.

وإنّ التوبة عن أمثال هذه الذنوب - رغم خطورتها - أمرٌ ميسور وسهل؛ لأنّ الإنسان يتعامل مع ربّ كريم ورحيم، وهو الذي يدعو عبده إلى التوبة إليه، قال تعالى:( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١) ، غاية الأمر في حالة اتّخاذ شريك لله - وهو أمرٌ نادر الوقوع في المجتمعات الإسلاميّة - تتيسّر التوبة بالتأمّل الدقيق لأسرار الخلق، وما يكمُن خلفها من إرادة وحكمة.

وبوسع الإنسان أيضاً أن يتدارك ما ضيّعه من صلاة وصوم، وأن يقضي ما فاتهُ منهما بالتدريج وفي حدود الاستطاعة.

وفيما يخصّ تناول الخمر، يتمكّن العبد أيضاً بالعزم الجادّ أن يتحوّل إلى طريق الصلاح وإطاعة الله، ويُنقل عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قولهُ بهذا الشأن:( التائبُ من الذنب كمَن لا ذنبَ له ) (٢) .

٢ - ظلمُ النفس

إنّ الله تعالى قد خلقنا لكي نحيا حياةً سعيدة ونزيهة وكريمة، وإنّ الاستعدادات والطاقات التي أودَعها فينا، يمكنها أن تمنحنا مواقع متقدّمة على الصعيد المادّي، وعلى مستوى الطموحات الإنسانية المتعالية، وفي نهاية المطاف، تنقلنا من حياة دنيوية مشرّفة، إلى جنّة الخلود في عالَم الآخرة.

____________________

(١) سورة النور: من الآية ٣١.

(٢) أصول الكافي: ٢ / ٤٣٥.

١١٠

يقول الإمام علي ( عليه السلام ):( إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها بغيرها ) (١) .

إنّ أولئك الشباب الذين يمارسون الأعمال الباطلة، ويعطّلون بذلك طاقاتهم الخلاّقة، ويهدرون قابلياتهم، مضيّعين بذلك فرصة الشباب، بالنزاعات والمجادلات القولية والعملية، واتباع الشهوات والبطالة، والأفظع من ذلك كلّه الانزلاق في متاهات الانحراف الأخلاقي والتلوّث بالذنوب، فيكون بذلك قد شوّه شبابه وضيّعه، وهذا أعظم ظلم يرتكبهُ الإنسان بحقّ نفسه ومصيره، وفي هذا المنعطف يجب في الأقلّ أن يلتفت الإنسان إلى مصالحهُ المستقبليّة، وبنظرة ناقدة للذات يَقدِم على خطوة إيجابية حازمة باتّجاه التغيير الكلّي.

قال علي ( عليه السلام ):( مَن أهملَ العمل بطاعة الله، ظلمَ نفسه ) (٢) .

وقال الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ):( كتبَ رجل إلى أبي ذر ( رض ): يا أبا ذرّ، أطرِفني بشيء من العلم، فكتبَ إليه: إنّ العلم كثير، ولكن إذا قدرتَ أن لا تسيءَ إلى مَن تُحبّه فافعل، فقال لهُ الرجل: وهل رأيت أحداً يسيءُ إلى مَن يُحبّه؟ فقال له: نعم، نفسُك أحبُّ الأنفس إليك، فإذا أنتَ عصيتَ الله فقد أسأتَ إليها ) (٣) .

يقول أبو بصير: كنتُ في محضر الإمام الصادق ( عليه السلام )، إذ جاء رجل وقال له:فداك أبي وأمّي، عندما أذهب إلى بيت الخلاء أسمع صوت غناء جواري وفَتيات الجيران، فأُطيل الجلوس لأستمع، فقال الإمام ( عليه السلام ):( لا تفعل هذا أبداً، فقال الرجل:أحلفُ أنّني لا أقصد بذهابي للخلاء سماع الغناء، وإنّما يتّفق سماعي له هناك ، فقال الإمام ( عليه السلام ):ألم تسمع قوله تعالى: ( إنّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (٤) ، فقال الرجل:كأنّني لم أسمع هذه الآية قبل الآن، أسألُ الله المغفرة، ولن أُعاود هذا العمل، فقال الإمام ( عليه السلام ):قُم فاغتِسل، وصلِّ ما بَدا لك، فإنّك كنتَ مقيماً على أمرٍ عظيم، ما كان أزرا حالك لو متَّ على ذلك، احمِدَ الله وسلهُ التوبة من كلَّ ما يَكره؛ إنّه لا يَكره إلاّ القبيح ) (٥) .

____________________

(١) بحار الأنوار: المجلسي ٧٥ / ١٣.

(٢) فهرست الغُرر والدُرر: الآمدي، ص١٣.

(٣) أصول الكافي: ٢ / ٤٥٨.

(٤) سورة الإسراء: الآية ٣٦.

(٥) بحار الأنوار: ٦ / ٣٤.

١١١

٣ - الذنوبُ التي تُقترف بحقّ الآخرين

المجموعة الثانية من الذنوب والانحرافات التي يمكن صدورها من الإنسان، تلك الذنوب ذات الطابع العام، التي تتعدّى أضرارها الفرد إلى المجتمع، وإنّ التعويض عن أضرار مثل هذه الذنوب في غاية الصعوبة بالنسبة لغيرها من الآثام؛ ذلك أنّ الأمر هنا يرتبط بحقّ الناس.

ولأجل ذلك، فإنّ مَن تجاوز على أرواح وأموال وأعراض الآخرين، وبالتالي عرّض أعصابهم وحقّهم في الحياة الحرّة الآمنة المطمئنّة للخطر والأذى، إنّ من الضروري لمثل هذا الشخص إذا أراد التوبة عمّا اقترفهُ من الذنوب، أن يُسارع بتعويض الآخرين عن الخسائر والأضرار التي ألحقها بهم.

وعليه: فإذا تسبّبَ شخص في انحراف الآخرين فكرياً وأضلّهم عن طريق الحقّ، أن يبادر إلى إصلاح ما أفسدهُ، وأن يردّ مَن أضلّهم إلى جادّة الهدى والاستقامة، فقد روي عن الصادق ( عليه السلام ):( أوحى الله عزَّ وجل إلى نبيّ من الأنبياء، قل لفلان: وعزّتي لو دَعوتني حتّى تنقطع أوصالك، ما استجبتُ لك حتّى تردّ مَن ماتَ إلى ما دعوتهُ إليه، فيرجع عنه ) (١) .

ويقول القرآن الكريم بشأن مَن أقرضَ الآخرين قرضاً ربويّاً، وربحَ من أموالهم ربحاً غير مشروع، أنّ عليه إذا أراد التوبة والتطهّر من ذنبه، أن يأخذ رأس ماله فقط، وأن يُعيد الأرباح إلى أصحابها، وذلك قوله تعالى:

____________________

(١) عقاب الأعمال: ص٣٠٧، بحار الأنوار: ٦٩ / ٢١٩.

١١٢

 ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِنْ لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) (١) .

وقد بلغَ من اهتمام الشارع بأموال الناس، أن حمّلَ وليّ أمر الطفل الذي لم يبلغ سنّ التكليف مسؤولية تعويض الأضرار التي يرتكبها الطفل، وجعلهُ ضامناً لِمَا يتلفهُ الطفل من أموال الآخرين، فقد رويَ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قوله:( قضى أمير المؤمنين في رجلٍ كان لهُ غلام فاستأجره منه صائغ أو غيره، قال: إن كان ضيّعَ شيئاً أو أبقَ، فمُوالوه ضامنون ) (٢) .

وعلى الرغم من أنّ الطفل غير مكلّف بالصلاة والصوم، إلاّ أنّه إذا ارتكبَ جناية تُسبّب إزهاق روح إنسان، أو قطع عضو من أعضائه، فإنّ الشارع وإن أعفاهُ من عقوبة الإعدام والقصاص، إلاّ أنّه يُعزّر ويُسجن، وعُلّل ذلك في الروايات بقول الإمام ( عليه السلام ):( لكي لا يبطل حقّ امرئ مسلم ) (٣) .

وإذا حصلَ - والعياذ بالله - أن ارتكبَ المكلّف انحرافاً جنسياً وعملاً منافياً للعفّة، فعلى الرغم من أنّه بهذا العمل يكون قد تجاوز على حريم الشارع المقدّس، واعتدى على أعراض الناس، فإنّ طريق التوبة منه يتمّ بكتمان هذا العمل الفاحش، وأن يَعقد العزم الجادّ على عدم ارتكاب هذا العمل مرّةً أخرى؛ ذلك أنّ من غير المُحبّذ في نظر الشارع أن يشيع بين الناس العلم باقتراف شخص للفاحشة؛ لأنّ ذلك يكسر حاجز الخجل والعفّة، وقد يُشجّع الآخرين على ممارسة ذلك العمل القبيح.

ونقرأ في الروايات أنّ أحدهم قد ارتكبَ عملاً منافياً للعفّة، ولم يستطع تحمّل آلام الندامة وتعذيب الضمير، فذهبَ إلى الإمام علي ( عليه السلام ) واعترفَ بذنبه، وطلبَ تطهيرهُ منه بإنزال العقوبة الشرعية به،

____________________

(١) سورة البقرة: الآية ٢٧٨ - ٢٧٩.

(٢) وسائل الشيعة: ١٩ / ١٨٣.

(٣) وسائل الشيعة: ١٩ / ٦٥.

١١٣

 وقد أمرَ الإمام ( عليه السلام ) بتوقيفه، إلاّ أنّه غَضب وقال:( ما أقبحَ بالرجل منكم أن يأتيَ بعض هذه الفواحش، فيفضح نفسهُ على رؤوس الملأ، ألا تابَ في بيته، فو الله لتَوبتهُ فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ ) (١) ، وعلى أيّ حال، فمهما كان الذنب منافياً للعفّة، ومعدوداً من الانحرافات الجنسيّة، والتجاوز على حقوق الآخرين، وموجِباً لطلب إبرائهم ذمّة الفاعل، إلاّ أنّه لأجل الحدّ من العواقب الوخيمة، ودَفناً للقبائح، فإنّ التوبة النصوح بين العبد وبين الله تكفي، و( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (٢) .

ورويَ عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قوله:( إنّ الله تعالى يُحبُّ الشابّ التائب ) (٣) ، ومن ناحية أخرى، فإنّ الله تعالى يَعدّ مَن لا يُسارع إلى التوبة إلى الله من ذنوبه ظالماً لنفسه، قال سبحانه:( وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٤) ؛ ذلك أنّ التوبة من الذنب واجب فوريّ، وأمّا قول الإمام الباقر ( عليه السلام ):( إنّما أهلكَ الناس العَجلة، ولو أنّ الناسَ تثبّتوا لم يَهلك أحد ) (٥) ، فإنّما ذلك في الأمور الدنيويّة التي تتطلّب التأنّي، لا في التوبة؛ فإنّها تستدعي الإسراع بها، وخيرُ البرّ عاجلهُ.

آثارُ الذنوب

حينما نتحدّث عن الآثار الضارّة للذنوب على الفرد والمجتمع، يجب أن نعلم أنّ هذه الآثار لا ينحصر العقاب عليها في عالَم الآخرة فقط، بل إنّ آثارها تظهر في الحياة الدنيا على ملامح الإنسان، وتؤدّي إلى ظلمة قلب الإنسان وروحهُ، وتَحرمهُ من لذّة الارتباط المعنوي بالله، وتَذوّق لذّة العبادة، وتسلب عنهُ عناية الله عزّ وجل.

____________________

(١) وسائل الشيعة: أبواب مقدّمات الحدود.

(٢) سورة البقرة: الآية ٢٢٢.

(٣) كنز العمّال: ٤ / ٢٠٩.

(٤) سورة الحجرات: من الآية ١١.

(٥) بحار الأنوار: ٦٨ / ٣٤٠.

١١٤

ومضافاً إلى ذلك، تكون سبباً في سلب النِعم التي سبقَ لله تعالى أن أنعمَ بها على الإنسان، يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ):( ما أنعمَ الله على عبدٍ نعمة فسلبها إيّاه، حتّى يَذنب ذنباً يستحقّ به ذلك السلب ) (١) .

ورويَ عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قوله:( إذا غضبَ الله عزَّ وجلَّ على أمّةٍ ولم يُنزل بها العذاب، غَلت أسعارُها، وقصُرت أعمارها، ولم تربح تُجّارها، ولم تَزكُ ثمارها، ولم تغزُر أنهارها، وحُبس عنها أمطارها، وسُلّط عليها شرارها ) (٢) .

____________________

(١) أصول الكافي: ٢ / ١٤٣.

(٢) بحار الأنوار: ٧٠ / ٣٤٩.

١١٥

(١٥)

بارقةُ النجاة

إنّ الاضطرابات الفكرية والنفسيّة الطاحنة، قد يلتهم أُتونها المُحرق جانباً مهمّاً، بل حتّى سنواتٍ من عُمرنا الغالي، وإنّنا قد نعيش أشهراً من التردّد وتقسُّم الفؤاد من أجل انتخاب الفرع الدراسي أو نوع العمل، ثمّ تكون عاقبة ذلك الحُزن وتجرّع الغُصص وجَذب الحَسَرات.

وقد ننفق أحياناً سنواتٍ من أعمارنا في عملٍ ما أو اختصاص دراسي، إلاّ أنّنا بسبب عدم اكتشافنا لسرّ النجاح الكامل، لا نستطيع أن نحصل على النتيجة المطلوبة، ولا السرور الذي يُكافئ ما بذلناه من تعبٍ ونَصَب.

وبطبيعة الحال، فإنّ عدم الوعي الكامل بهذه الحالات، يوقِعنا في الأخطاء، ويَحرمنا من الفائدة والربح، ولكن - لا سمحَ الله - لو أنّ بعض الأفراد تورّطوا بالانحراف الأخلاقي، وسلكوا جادّة الخطايا، فإنّهم لن يُحرَموا فقط من الحصول على المكاسب، وإنّما يتعرّضون أيضاً لفقد رصيدهم المادّي والإنساني، وتَذهب أعمارهم نَهباً لرياح الضياع.

ما الذي يتعيّن علينا فعلهُ في مثل هذه الحالات، لكي ندرأ عن أنفسنا ما يترتّب عليها من أضرار ومصائب تُهدّد حياتنا؟

١١٦

يجب علينا أن نتيقّن أوّلاً بأنّ ما نتعرّض لهُ فيما نمارسه من أعمال من خسائر وأخطاء وانكسار، فإنّ ذلك راجع إلى عدم الوعي والتبصّر بجوانب العمل، أو العَجَلة في مُزاولته أو الإقدام عليه.

وفي المرحلة الثانية يتعيّن علينا أن نُعمِل طاقة العقل والمعرفة، بوصفها مِنحة إلهية أنعمَ بها الله على الإنسان لتكون ميزة له على بقيّة الموجودات في هذا العالَم، يقول الإمام علي ( عليه السلام ):( أفضلُ العبادة الفِكر ) (١) ، وقال ( عليه السلام ) أيضاً:( بالفكرُ تنجلي غياهبُ الأمور ) (٢) ، وقال في حديثٍ ثالث:( بتكرار الفِكَر تسلمُ العواقب ) (٣) .

ولأجل ذلك لا ينبغي الغفلة عن الاستفادة من طاقة الفكر والعلم أبداً، ويجب اكتساب الخبرة اللازمة في مجال العمل، والاستفادة من نصائح وآراء ذوي الخبرة من فاعلَي الخير.

ويجب أن نلتفت إلى أنّه قد تمرّ علينا خلال حياتنا، لحَظات تنقدح في أذهاننا بعض الأفكار التي تدفعنا لإحداث تحوّل وتغيير في أعمالنا أو أسلوب حياتنا، وتفتح لنا فجأة آفاقاً بنّاءةً جديدة.

أجل، إنّ اختلاف النظر، والآفاق الجديدة، تحصل لكثيرٍ من الأشخاص، وتؤدّي أحياناً إلى انعطافٍ كامل في حياتهم، أو تؤدّي إلى تحوّلهم من الطريق الخاطئ، والممارسات السلوكية المهلكة، إلى طريق الخير والصلاح والسعادة، ولكنَّ المسألة المهمّة في مثل هذه المراحل هي: أنّه حينما تهبّ عليا نَسائم الرحمة، ويُبدي لنا بعضهم ملاحظات نافعة، فإنّ علينا أن نأخذ بها ونضعها موضع التنفيذ، لكي نَجني ما يترتّب عليها من الفوائد، ولا نُعير أهمية لشخص مَن أبدى تلك الملاحظة، حتّى لو لم يكن إنساناً طيّباً، وإنّ هذه النقطة هي موضع القبول في ثقافتنا الدينية،

____________________

(١) غُرر الحِكم: ١ / ١٧٧.

(٢) المصدر نفسه: ١ / ٢٣٦.

(٣) المصدر نفسه: ١ / ٣٣٧.

١١٧

 ويقول الإمام ( عليه السلام ) بهذا الشأن:( انظُر إلى ما قال، ولا تنظُر إلى مَن قال ) (١) .

وبالالتفات إلى ما تقدّم، ينبغي أن نتأمّل في الحكايات التالية:

١ - نصيحةُ اللصوص

أبو حامد محمد الغزالي ، المولود عام ٤٥٠ للهجرة، والمتوفّى عام ٥٠٥ للهجرة في مدينة( طابران طوس ) من نواحي مشهد، كان من علماء المسلمين الكبار المشهورين.

قضى ٥٠ عاماً من عُمره في دراسة وتدريس مختلف العلوم الإسلامية، وألّف ما يقارب ٢٠٠ كتاب عميق وخالد، وصَل إلينا منها ٥٨ كتاباً.

ومن أشهر كُتبه:إحياء علوم الدين، كيمياء السعادة، الاقتصاد في الاعتقاد، سرّ العالَمين، علم النفس من وِجهة نظر الغزالي.

وقد طُبعت مؤلّفاته على مدى تسعة قرون بلغات مختلفة مع الشروح في: مصر، وباكستان، وسوريا، والحجاز، والعراق، وبيروت، وباريس، والنمسا، ولندن، وإيران.

بَدأ الغزالي تحصيلهُ الدراسي في وطنه( طوس ) ، ولكنّه سافرَ إلى نيشابور لأجل مواصلة الدرس في حوزتها العلمية الكبيرة، واشتركَ في حَلقة درس أبي المعالي الجويني عدّة سنوات، عادَ بعدها إلى وطنه، وهو مُحمّل بالوفير من المذكّرات والكرّاسات العلمية، ولكنّ القافلة التي كان يسافر فيها تعرّضت لغارة قطّاع الطُرق.

وبدأ اللصوص يستولون على أموال أفراد القافلة، وحينما امتدّت أيديهم إلى الكيس الذي يحتوي أوراق الغزالي ودفاتره، اعتراهُ قلق شديد وأخذ يتوسّل إليهم أن يتركوها لهُ،

____________________

(١) غُرر الحِكم: ١ / ٣٩٤.

١١٨

 الأمر الذي أدّى إلى اعتقادهم بوجود أشياء ذات قيمة في الكيس، ممّا زادَ في طمعهم في الاستيلاء عليها، لكنّهم فوجئوا عندما فتحوا الكيس، بأن لم يروا داخله سوى أوراق مسوّدة بالكتابة، فسألوهُ:

- ما هذه الأوراق، وما نفعها؟

فأجابهم الغزالي:إنّ هذه ثمرة عدّة سنوات من دراستي وجهدي، لقد سجّلت فيها جميع ما درستهُ لعدّة سنين، وإنّ فَقدي لها معناه ضياع كلّ المعلومات التي درستها.

فقال لهُ أحد اللصوص ساخراً:

- إنّ العلم الذي يُجمع في كيس، ويكون عرضةً للسرقة، لا نفعَ فيه.

ثمّ التفت اللصّ إلى رفاقه قائلاً: أعيدوا لهُ الكيس.

قال: فقلتُ: هذا مُستنطق أنطقهُ الله ليرشدني به أمري(١) .

يقول الغزالي: إنّ تلك الملاحظة البسيطة، كانت كلمة حقّ، أجراها الله تعالى على لسان قاطع الطريق، وكانت بالنسبة لي نقطة تحوّل، فعندما بلغتُ طوس، انصرفتُ إلى البحث والتحقيق الجادّ مدّة ثلاثة سنوات، ونقلتُ جميع معلوماتي ومعرفتي إلى صفحة عقلي، وأودعتها آمنةً هناك من اللصوص، وإنّ أفضل نصيحة وإشارة تلقّيتها وكانت عاملاً في تقدّمي العلمي، هي ما تعلّمتهُ من ذلك اللصّ.

____________________

(١) إحياء علوم الدين: ج١، ص٧.

١١٩

٢ - حرٌّ أم عَبد؟

كانت أصوات المعازف والغناء تتعالى من بيت( بِشر بن الحارث بن عبد الرحمان المروزي ) ، حيث تحلّقت في الداخل مجموعة من المترَفين والخمّارين.

وكانت إحدى الخادمات قد خَرجت من البيت لتلقي بعض النفايات، إذ مرَّ بها رجلٌ مهيب تبدو على جبهته آثار العبادة والسجود، وبَدا عليه الاستياء ممّا تناهى إلى سمعهُ من الموسيقى والغناء، وسألَ الخادمة:

-( أصاحبُ هذه الدار عبدٌ أم حرّ؟ )

فأجابتهُ:إنّه حرٌّ.

فقال لها:صَدقتِ، لو كان عبداً لأطاعَ مولاه ).

وقد أدّى حديث المرأة الخادمة مع ذلك الرجل المهيب إلى تأخيرها وقتاً ما عن العودة إلى المنزل، ولأجل ذلك سألها مولاها بشرٌ عن سبب تأخيرها، فأخبرتهُ بما جرى من حديثٍ بينها وبين الرجل، وعندما سمعَ بشرٌ بجواب الرجل البالغ الحكمة، اهتزّ لهُ كيانه، وحدسَ مَن يكون ذلك الرجل، وبدون أن يضيّع الوقت، خرج يركض حافياً ليدركهُ، ولم يطل بحثهُ حتّى وصلَ إليه، ولم يكن ذلك الرجل سوى الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام )، وعاهَدهُ أن لا يعصي الله بعد ذلك أبداً.

كان بِشرُ بن الحارث من أبناء الأشراف المترَفين، وكان يُعدّ من العصاة المنحرفين، ومنذ تلك اللحظة التي أومضَ فيها ضوء الهداية في قلبه، تركَ طريق الغواية، واتّخذ جادّة الهدى والصلاح، ولأنّه ركضَ حافياً وراء الإمام ( عليه السلام )، سُمّي بـ( بِشر الحافي ) ، وأصبحَ من الأتقياء المؤمنين العارفين، الذين عملوا على هداية الآخرين وتعليمهم الحكمة، وتأثّر به خلقٌ عظيم.

وقد توفيَ بشر عن ٧٥ عاماً، في بغداد عام ٢٢٧ للهجرة، بعد أن مَنَّ الله عليه بحُسن العاقبة.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأمم السابقة ممّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية ، إلّا أنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) . سنشير في نهاية هذا البحث إلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين :( فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ) .

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق ، بل أكثر من ذلك اتّهم موسى( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) .

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين ، فالبعض قالوا : إنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أخرى ، تقول بأنّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر ، ومثل هذا الاستخدام وارد وله نظائر في اللغة العربية ، حيث يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل ، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و (ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر من المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثّر فيه الساحر ، كما يستفاد من الآية (39) من سورة الذاريات التي نسبت السحر إليه ، والجنون أيضا ،( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) .

على أي حال ، فإنّ التعبير القرآني يكشف عن الأسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضدّ الفساد والظلم ، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثروا من هذا الطريق في قلوب الناس

١٦١

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسىعليه‌السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له ، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق ، إذ قال له :( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ) .

لذا فإنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنّك تتنكر للحقائق ، برغم علمك بأنّها من الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعند ما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره ، لذا :( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) .

(مثبور) من (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية ، فإنّه سلك طريقا يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار ، وذاك قوله تعالى:( فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ) .

«يستفز» من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم :( وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) . فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف» من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص ، ولا من أي قبيلة هم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود من الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسىعليه‌السلام منها ما يلي :

1 ـ تحوّل العصا إلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين ، كما في الآية

١٦٢

(20) من سورة طه :( فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) .

2 ـ اليد البيضاء لموسىعليه‌السلام والتي تشع نورا :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (1) .

3 ـ الطوفان :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) (2) .

4 ـ الجراد الذي أباد زراعتهم وأشجارهم( وَالْجَرادَ ) (3) .

5 ـ والقمل الذي هو نوع من الأمراض والآفات التي تصيب النبات : و( الْقُمَّلَ ) (4) .

6 ـ (الضفادع) التي جاءت من النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم:( وَالضَّفادِعَ ) (5) .

7 ـ الدم ، أو الابتلاء العام بالرعاف ، أو تبدّل نهر النيل إلى لون الدم ، بحيث أصبح ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة :( وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ) (6) .

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إسرائيل العبور منه :( وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ) (7) .

9 ـ نزول ال (منّ) و (السلوى) من السماء ، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) من سورة البقرة( وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) (8) .

10 ـ انفجار العيون من الأحجار :( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (9) .

11 ـ انفصال جزء من الجبل ليظلّلهم :( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ

__________________

(1) طه ، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و (6) ـ الأعراف ، 133.

(7) البقرة ، 50.

(8) البقرة ، 57.

(9) البقرة ، 60.

١٦٣

ظُلَّةٌ ) (1) .

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) (2) .

13 ـ عودة الحياة إلى المقتول والذي أصبح قتله سببا للاختلاف بين بني إسرائيل:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) (3) .

14 ـ الاستفادة من ظل الغمام في الاحتماء من حرارة الصحراء بشكل إعجازي :( وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ) (4) .

ولكن الكلام هنا هو : ما هو المقصود من (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر من خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه ، وليست تلك المتعلقة ببني إسرائيل من قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون من الصخور وأمثال ذلك.

لذا يمكن القول أنّ الآية (133) من سورة الأعراف تتعرض إلى خمسة مواضيع من الآيات التسع وهي : (الطوفان ، القمّل ، الجراد ، الضفادع ، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع ، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) من سورة النمل بعد ذكر هاتين المعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعا ، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع ،

__________________

(1) الأعراف ، 171.

(2) الأعراف ، 130.

(3) البقرة ، 73.

(4) البقرة ، 57.

١٦٤

لأنّ الهدف من الآيات أن تكون دافعا لهدايتهم وسببا لقبولهم بنبوة موسىعليه‌السلام ، لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عند التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاء فيها ذكر العديد من هذه الآيات يظهر أنّ الآيتين الأخريتين هما : (الجفاف) و (نقص الثمرات) حيث أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد ، والقمل ...) قوله تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ الجفاف لا يمكن فصله عن نقص الثمرات وبذا تعتبر الآيتان آية واحدة ، إلّا أنّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قلنا في تفسير الآية (130) من سورة الأعراف ـ لا يؤثّر تأثيرا كبيرا في الأشجار ، أمّا عند ما يكون جفافا طويلا فإنّه سيؤدي إلى إبادة الأشجار ، لذا فإنّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائما إلى نقص الثمرات.

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنّ الآيات التسع التي وردت الإشارة إليها في الآيات التي نبحثها هي:العصا، اليد البيضاء ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، الجفاف ، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يؤمنوا ، لذلك انتقمنا منهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1) .

هناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية ، ولاختلافها فيما بينها لا يمكن الاعتماد عليها في إصدار الحكم.

__________________

(1) الأعراف ، 136.

١٦٥

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أمر بسؤال بني إسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى ، وكيف أنّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسىعليه‌السلام بمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنّ لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم والعقل بحيث أنّه لا يحتاج إلى السؤال ، لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ سؤال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكن لنفسه ، بل للمشركين ، لذلك فما المانع من أن يكون شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عند ما لم يوافق على اقتراحاتهم ، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصّب والعناد ، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد ب (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله أمر بني إسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض ، فهل الغرض من الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنّ فرعون أراد أن يخرجهم من تلك الأرض.

وبنفس المعنى أشارت آيات أخرى إلى أنّ بني إسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إشارة إلى الأرض المقدّسة فلسطين ، لأنّ بني إسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإنّنا لا نستبعد أيّا من الاحتمالين ، لأنّ بني إسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه ، وامتلكوا أرض فلسطين أيضا.

١٦٦

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهرا إنّ الإجابة بالإيجاب ، حيث أنّ جملة( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) قرينة على هذا الموضوع ، ومؤيّدة لهذا الرأي. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ (وعد الآخرة) إشارة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذه السورة ، من أنّ الله تبارك وتعالى قد توعّد بني إسرائيل بالنصر والهزيمة مرّتين ، وقد سمى الأولى بـ «وعد الأولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة» ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى :( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) (فدقق في ذلك).

* * *

١٦٧

الآيات

( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) )

التّفسير

عشاق الحق

مرّة أخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) ، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) .

ثمّ تقول :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

١٦٨

لقد ذكر المفسّرون آراء مختلفة في الفرق بين الجملة الأولى :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) والجملة الثّانية :( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) منها :

1 ـ المراد من الجملة الأولى : إنّنا قدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق ، لذا فإنّ التعبير الأوّل يشير إلى التقدير ، بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق(1) .

2 ـ الجملة الأولى تشير إلى أنّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق ، أمّا التعبير الثّاني فانّه يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضا(2) .

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنّ الجملة الأولى تقول : إنّنا نزّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول : إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتدخل في الحق ولم يتصرف به ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح من هذه التّفاسير ، وهو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما ، ولكنّه لا يستطيع إتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه ، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ، فإنّه يبدأ بداية صحيحة ، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماء صافيا من أحد العيون ، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعه من التلوث ، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث. إلّا أنّ الشخص القادر والمحيط بالأمور ، يحافظ على بقاء الماء صافيا وبعيدا عن عوامل التلوث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق ، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ، أو المرحلة التي كان

__________________

(1) يراجع تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3955.

(2) في ظلال القرآن ، أننا تفسير الآية.

١٦٩

الرّسول فيها هو المتلقي ، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم ، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولماذا كان نزوله تدريجيا؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) فيقول الله في جواب هؤلاء:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ) (1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عمليا بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:( وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) .

إنّ القرآن كتاب السماء إلى الأرض ، وهو أساس الإسلام ودليل لجميع البشر ، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين ، لذلك فإنّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دفعة واحدة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاب عليها من خلال النقاط الآتية :

أوّلا : بالرغم من أنّ القرآن هو كتاب ، إلّا أنّه ليس ككتب الإنسان المؤلّفة حيث يجلس المؤلّف ويفكّر ويكتب موضوعا ، ثمّ ينظّم فصول الكتاب وأبوابه لينتهي من تحرير الكتاب ، بل القرآن له ارتباط دقيق بعصره ، أي ارتباط ب (23) سنة ، هي عصر نبوة نبي الإسلام بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

__________________

(1) مجيء كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يفسّره المفسّرين بأنّه مفعول لفعل مقدّر تقديره (فرقناه) ، وبذلك تصبح الجملة هكذا : (وفرقناه قرآنا).

١٧٠

لذا كيف يمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامنا لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد ، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إنّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإسلامية ، وآيات تختص بالمنافقين ، وأخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهل يمكن أن يكتب مجموع كل ذلك منذ اليوم الأوّل؟

ثانيا : ليس القرآن كتابا ذا طابع تعليمي وحسب ، بل ينبغي لكل آية فيه أن تنفّذ بعد نزولها ، فإذا كان القرآن قد نزل مرّة واحدة ، فينبغي أن يتمّ العمل به مرّة واحدة أيضا ، ونعلم بأنّ هذا محال ، لأنّ إصلاح مجتمع مليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد ، إذ لا يمكن إرسال الطفل الأمي دفعة واحدة من الصف الأوّل إلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوما ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتمثله عمليا.

ثالثا : بدون شك ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإمكانيات أكبر عند ما يقوم بتطبيق القرآن جزءا جزءا ، بدلا من تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنّه مرسل من الخالق وذو عقل واستعداد كبيرين ليس لهما مثيل ، إلّا أنّه برغم ذلك فإنّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعا : النّزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مصدر الوحي ، إلّا أنّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الارتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

آخر الآية (32) من سورة الفرقان تقول :( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

١٧١

تَرْتِيلاً ) وهي إشارة إلى السبب الثّالث ، بينما الآية التي نبحثها تشير إلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنّ مجموع هذه العوامل تكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول :( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) .

* * *

ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الالتفات إلى الملاحظات الآتية :

أوّلا : يعتقد المفسّرون أنّ جملة( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجه متعدّدة ، إذ قال بعضهم : إن المعنى هو : سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإعجاز القرآن ونسبته إلى الخالق.

بينما قال البعض : إنّ التقدير يكون : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإنّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مكمّلة لها ، وهي كناية عن أنّ عدم الإيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة ، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أخرى : يكون المعنى : إذا لم تؤمنوا به فإنّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون به.

ثانيا : إنّ المقصود من( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن ، وشاهدوا العلائم التي قرءوها في التوراة والإنجيل ، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين ، وأصبحوا من علماء الإسلام.

وفي آيات أخرى من القرآن تمت الإشارة إلى هذا الموضوع ، كما في قوله

١٧٢

تعالى في الآية (113) من سورة آل عمران :( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) .

ثالثا : «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم ، واستخدام هذه الكلمة بدلا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة ، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عند ما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالقعزوجل ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار(1) .

رابعا : (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض ، إلّا أن تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنّ الإنسان عند سجوده يضع أوّلا جبهته على الأرض ، ولكن الشخص المدهوش عند ما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا ، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيدا لمعنى (يخرون)(2) .

الاية التي بعدها توضح قولهم عند ما يسجدون :( وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (3) . هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإيمان بنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم ، وعلى سجدة الحب التي

__________________

(1) يقول الراغب في (المفردات) : «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علّو. وقوله تعالى :( خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد:( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) .

(2) تفسير المعاني ، ج 15 ، ص 175.

(3) (إنّ) في قوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا ) غير شرطية ، بل هي تأكيدية ، وهي مخففة من الثقيلة.

١٧٣

يسجدونها تقول الآية التي بعدها :( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) .

إنّ تكرار جملة( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ) دليل على التأكيد ، وعلى الاستمرار أيضا.

الفعل المضارع (يبكون) دليل على استمرار البكاء بسبب حبّهم وعشقهم لخالقهم.

واستخدام الفعل المضارع في جملة( يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) دليل على أنّهم لا يتوقفون أبدا على حالة واحدة ، بل يتوجهون باستمرار نحو ذروة التكامل ، وخشوعهم دائما في زيادة (الخشوع هو حالة من التواضع والأدب الجسدي والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة).

* * *

بحثان :

1 ـ التخطيط للتربية والتعلم

من الدروس المهمّة التي نستفيدها من الآيات أعلاه ، هو ضرورة التخطيط لأي ثورة أو نهضة ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو تربوية ، فإذا لم يتمّ تنظيم مثل هذا البرنامج فالفشل سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذه الجهود. إنّ القرآن الكريم لم ينزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة بالرغم من أنّه كان موجودا في مخزون علم الله كاملا ، وقد تمّ عرضه في ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ، إلّا أنّ النّزول التدريجي استمرّ طوال (23) سنة ، وضمن مراحل زمنية مختلفة وفي إطار برنامج عملي دقيق.

وعند ما يقوم الخالق جلّ وعلا بهذا العمل بالرغم من عمله وقدرته المطلقة وغير المتناهية عند ذلك سيتّضح دورنا وتكليفنا نحن إزاء هذا المبدأ. وعادة ما يكون هذا قانونا وتكليفا إلهيا ، حيث أنّ وجوده العيني لا يختص بعالم التشريع

١٧٤

وحسب ، بل في عالم التكوين أيضا. إنّه من غير المتوقع أن تنصلح أمور مجتمع في مرحلة البناء خلال ليلة واحدة لأنّ البناء الحضاري الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي يحتاج إلى المزيد من الوقت.

وهذا الكلام يعني أنّنا إذا لم نصل إلى النتيجة المطلوبة في وقت قصير فعلينا أن لا نيأس ونترك بذل الجهد أو المثابرة. وينبغي أن نلتفت إلى أنّ الانتصارات النهائية والكاملة تكون عادة لأصحاب النفس الطويل.

2 ـ علاقة العلم بالإيمان

الموضوع الآخر الذي يمكن أن نستفيده من الآيات أعلاه هو علاقة العلم بالإيمان، إذ تقول الآيات : إنّكم سواء آمنتم بالله أو لم تؤمنوا فإنّ العلماء سيؤمنون بالله إلى درجة أنّهم يعشقون الخالق ويسقطون أرضا ساجدين من شدّة الوله والحبّ ، وتجري الدّموع من أعينهم، وإنّ هذا الخشوع والتأدّب يتصف بالاستمرار في كل عصر وزمان.

إنّ الجهلة ـ فقط ـ هم الذين لا يعيرون أهمية للحقائق ويواجهونها بالاستهزاء والسخرية ، وإذا أثّر فيهم الإيمان في بعض الأحيان فإنّه سيكون تأثيرا ضعيفا خاليا من الحبّ والحرارة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ في الآية ما يؤكّد خطأ وخطل النظرية التي تربط بين الدين والجهل أو الخوف من المجهول. أمّا القرآن فإنّه يؤكّد على عكس ذلك تماما ، إذ يقول في مواقع متعدّدة : إنّ العلم والإيمان توأمان ، إذ لا يمكن أن يكون هناك إيمان عميق ثابت من دون علم ، والعلم في مراحلة المتقدمة يحتاج إلى الإيمان. (فدقق في ذلك).

* * *

١٧٥

الآيتان

( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) )

سبب النّزول

وردت آراء متعدّدة في سبب نزول هاتين الآيتين منها ما نقله صاحب مجمع البيان عن ابن عباس الذي قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجدا ذات ليلة بمكّة يدعو : يا رحمن يا رحيم ، فقال المشركون متهمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه يدعونا إلى إله واحد ، بينما يدعو هو مثنى مثنى. يقصدون بذلك قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رحمن يا رحيم. فنزلت الآية الكريمة أعلاه(1) .

__________________

(1) يراجع مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

١٧٦

التّفسير

آخر الذرائع والأغذار

بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم ، وهي قولهم : لماذا يذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالق بأسماء متعدّدة بالرغم من أنّه يدّعي التوحيد. القرآن ردّ على هؤلاء بقوله :( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) . إنّ هؤلاء عميان البصيرة والقلب ، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد ، وكل اسم من هذه الأسماء كان يعرّف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو المكان.

بعد ذلك ، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعدّدة تتناسب مع أفعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم ، وهو وحدهعزوجل الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟

أساسا ، فانّ الله تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إذ ينبغي أن تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبّر عن ذاته ، ولكن لمحدودية ألفاظنا ـ كما هي أشياؤنا الأخرى أيضا ـ لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له ، وإنّ معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضا ، حتى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من هو في منزلته وروحه وعلو شأنه ، نراه يقول : «ما عرفناك حق معرفتك».

إنّ الله تعالى في قضية معرفتنا إيّاه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصّة ، بل ساعدنا كثيرا في معرفة ذاته ، وذكر نفسه بأسماء متعدّدة في كتابه العظيم ، ومن خلال كلمات أوليائه تصل أسماؤه ـ تقدس وتعالى ـ إلى ألف اسم.

وطبيعي أنّ كل هذه أسماء الله ، وأحد معاني الأسماء العلّامة ، لذا فإنّ هذه علامات على ذاته الطاهرة ، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إلى نقطة

١٧٧

واحدة ، وهي لا تقلّل من شأن توحيد الذات والصفات.

وهناك قسم من هذه الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر ، حيث تعطينا معرفة ووعيا أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الرّوايات الإسلامية ، بالأسماء الحسنى ، وهناك رواية معروفة عن رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضمونها : «إن الله تسعا وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنّة».

وهناك شرح مفصل للأسماء الحسنى ، والأسماء التسعة والتسعين بالذات ، أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) من سورة الأعراف ، في قوله تعالى :( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) .

لكن علينا أن نفهم أنّ الغرض من عد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على اللسان وحسب ، حتى يصبح الإنسان من أهل الجنّة ومستجاب الدعوة ، بل إنّ الهدف هو التخلّق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات من هذه الأسماء ، مثل (العالم ، والرحمن ، والرحيم ، والجواد،والكريم) في وجودنا حتى نصبح من أهل الجنّة ومستجابي الدعوة.

وهناك كلام ينقله الشيخ الصدوقرحمه‌الله في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم جاء فيه :

يقول هشام بن الحكم : سألت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام عن أسماء الله عزّ ذكره واشتقاقها فقلت : الله ممّا هو مشتق؟

قالعليه‌السلام : «يا هشام ، الله مشتق من إله ، وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد.

أفهمت يا هشام؟».

قال هشام : قلت : زدني.

قالعليه‌السلام : «للهعزوجل تسعة وتسعون اسما ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان

١٧٨

كلّ اسم منها هو إلها ، ولكن اللهعزوجل معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره.

يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق»(1) .

والآن لنعد إلى الآيات. ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : إنّه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته ، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبر قوله تعالى :( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

لذلك فإنّ الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإخفاتية في اصطلاح الفقهاء، بل إنّ المقصود منها يتعلق بالإفراط والتفريط في الجهر والإخفات ، فهي تقول : لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ ، ولا أقل من الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

أسباب النّزول الواردة ـ حول الآية ـ التي يرويها الكثير من المفسّرين نقلا عن ابن عباس تؤيّد هذا المعنى.(2)

وهناك آيات عديدة من طرق أهل البيت نقلا عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام وتؤيد هذا المعنى وتشير إليه(3) .

لذا فإنا نستبعد التفاسير الأخرى الواردة حول الآية.

أمّا ما هو حد الاعتدال ، وما هو الجهر والإخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أنّ الجهر هو بمعنى (الصراخ) ، و (الإخفات) هو من السكون بحيث لا يسمعه حتى فاعله.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآية :

__________________

(1) توحيد الصدوق نقلا عن تفسير الميزان أثناء تفسير الآية.

(2) ـ يمكن مراجعة نور الثقلين ، ج 3 ، ص 233 فما بعد.

١٧٩

«الجهر بها رفع الصوت ، والتخافت بها ما لم تسع نفسك ، واقرأ بين ذلك»(1) .

أمّا الإخفات والجهر في الصلوات اليومية ، فهو ـ كما أشرنا لذلك ـ له حكم آخر، أو مفهوم آخر ، أي له أدلة منفصلة ، حيث ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.

* * *

ملاحظة

هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الاعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا فهما وإدراكا من جهتين :

الأولى : لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء ، فيقومون بالاستهزاء والتحجج ضدكم ، إذ الأفضل أن تكون مقرونة بالوقار والهدوء والأدب ، كي تعكس بذلك نموذجا لعظمة الأدب الإسلامي ومنهج العبادة في الإسلام.

فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بإلقاء المحاضرات الدينية بواسطة مكبرات الصوت ، ويعتقدون أنّهم بذلك يوصلون صوتهم إلى الآخرين ، هم على خطأ ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإسلام في العبادات ، وستكون النتيجة عكسية على قضية التبليغ الديني.

الثّانية : يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتكون جميع هذه الأمور بعيدة عن الإفراط والتفريط ، إذ الأساس هو :( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

أخيرا نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء ، هذه الآية تنهي السورة المباركة بحمد الله ، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاتهعزوجل . إنّ هذه الآية ـ في

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 234.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214