ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب27%

ما يحتاجه الشباب مؤلف:
الناشر: ناظرين
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 214

ما يحتاجه الشباب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156229 / تحميل: 8968
الحجم الحجم الحجم
ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب

مؤلف:
الناشر: ناظرين
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

٣ - أقدمَ المتفرّجون في المباراة المُنعقدة بين فريقَي( استقلال طهران ) و( الطيران ) العراقي، إلى الإضرار بمئة وخمسين باصاً، وقد بَلغت قيمة الخسائر أكثر من ٦٤ مليوناً وثلاثة وخمسين ألف ريال(١) .

٤ - قامَ بعض المتفرّجين في المباراة التي أُقيمت بين فريقي( بيروزي ) و( بارس ) ، عصر يوم الجمعة في نادي( آزادي ) بإلحاق الأضرار بسبعة وأربعين باصاً، وقد بلغت قيمة الخسائر أكثر من ١٥ مليون ريال، وكان لبعض المعارِضين للأجواء الرياضية السالمة وأحياناً العناصر المناهِضة للثورة، يد في وقوع مثل هذه الحوادث المريرة(٢) .

٥ - أقدمَ المتفرّجون في العام الجاري إلى الأضرار بـ(١٠٨٩) باصاً، وقد بلغَ مجموع الخسائر المادّية أكثر من(٥٥٧) مليون ريال!(٣) ، وبإضافة الموارد المتقدّمة يكون مجموع الباصات المتضرّرة ١١٣٦.

الأخلاقُ والرياضة

ليست الرياضة سوى استعراض للقابليات والمهارات، والمقاومة والشهامة، وعلى المتفرّجين - مضافاً إلى الاستمتاع بمشاهدة المباراة الرياضية - أن يتحلّوا بخصال الرياضيين التي أهلّتهم للنجاح، لكي يتمكّنوا من السير على طريقهم، ولحُسن الحظّ فإنّ الآثار الفيزيقية والروحية تؤثّران في بعضهما بشكلٍ إيجابي، وكما يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ):( ما ضَعُف بَدن عمّا قويت عليه النية ) (٤) .

وكذلك إذا أقدمَ الإنسان على الرياضة والنشاط الجسدي المنتظم، وظهرت عليه آثار الاعتدال والصحّة، فستظهر بتبع ذلك الآثار الروحية والفضائل الأخلاقية والإنسانية على سلوكه، وأمّا إذا كان الأمر بعكس ذلك فسيظهر عليه العجز والانحطاط، فقد قيل قديماً:( العقلُ السليم في الجسم السليم ) .

____________________

(١) المصدر السابق: العدد ١٦٧٦.

(٢) المصدر السابق: العدد ١٧٩١.

(٣) المصدر السابق: العدد ٢١٦٣.

(٤) وسائل الشيعة: ١ / ٥٣، الحديث ١٤.

١٤١

وعليه: فإذا كان هذا تأثير الرياضة على مَن يمارسها، فينبغي أن تترك نفس التأثير على هواة الرياضة والمتفرّجين فيستشعرون المسؤولية تجاه الشؤون العامّة، وأموال الدولة ويُبادرون إلى المحافظة عليها.

شخصيّاتٌ خالدة

في الوقت الذي عُدَّ فيه اللاعب الأرجنتيني الشهير( دياغو مارادونا ) ، شخصية مكروهة في الأوساط الإيطالية بسبب قيامه ببعض الأعمال المنافية للأخلاق في عام ١٩٩٠م(١) ، فلحُسن الحظّ نجد أنّ الرياضيين الإيرانيين والجمهور الإيراني قد تمّ الثناء عليه بمناسبة كأس العالَم لعام ١٩٩٧، حيث قال( ميلان ارسغان ) رئيس الاتحاد العالَمي للمصارعة: ( تحضى إيران بأكثر وأفضل جمهور للمصارعة في العالَم، وأرى من المناسب هنا أن أغتنم الفرصة وأشكر الجمهور الإيراني أصالةً عن نفسي، ونيابةً عن الأعضاء والعاملين والهيئة الإدارية في منظمة ( فيلا ) للمصارعة في العالم )(٢) .

ولم ننسَ أنّ اتّحاد المصارعة الإيراني، قد قام بإحياء للذكرى السنوية الحادية والثلاثين لبطل المصارعة( غلام رضا تختي ) ، لمَا كان يتحلّى به هذا المصارِع من سجايا أخلاقية، بالقرب من مثواه الأخير في مقبرة( ابن بابويه ) ، حيث اشتركَ في الحفل الأبطال من المتقدّمين والمتأخّرين في المصارعة الوطنية والعالَمية، وتمّ وَضع حجر الأساس لمبنى المصارعة الذي حَمَل اسم ( غلام رضا تختي )، إحياءً لذكراه قريباً من ضريحه(٣) .

____________________

(١) صحيفة رسالت: العدد ١٤٤١.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٦٣٥.

(٣) صحيفة جمهوري إسلامي: العدد ٥٦٧٦.

١٤٢

كما نعلم أنّ بطل العالَم السابق في الملاكمة الأمريكي المسلم( محمد علي كلاي ) ، لِمَا يتمتّع به من مُعتقد وروح محبّة للخير، قامَ بالوقوف بوجه الحصار الاقتصادي الذي فرضتهُ الإدارة الأمريكية ضدّ كوبا ودامَ ٣٥ سنة، فتبرّع من ماله الخاصّ بما يعادل مليون ومئتي ألف دولار من الأدوية والأجهزة الطبية، وأهداهُ إلى مستشفى في هافانا عاصمة كوبا(١) .

كما طالبَمحمد علي كلاي - في مقابلة لهُ أجرتها قناة تلفاز الشباب الأمريكي - بنبذ العُنف، والتحلّي بالرأفة والسجايا الإنسانية الكريمة، وأضافَ: إنّ جميع الكُتب السماوية دَعت أتباعها للالتزام جانب الرأفة، وأنكرت العُنف بشدّة(٢) .

ومهما كان فينبغي للرياضة أن تترك على الرياضي والمشاهِد - مضافاً إلى البطولة الظاهرية - روح الشهامة والصلاح والأمانة، وأن تُغرس فيه الفضائل الأخلاقية والإنسانية، وقد رويَ عن مولانا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه قال:( أشجعُ الناس مَن غَلب هواهُ ) (٣) .

____________________

(١) صحيفة خبر: العدد ٤٢٦.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٨٢٠.

(٣) سفينة البحار: ٢ / ٨١٠، طبع آستان قُدس رضوي.

١٤٣

(١٨)

أبطالُ الإيمان

إنّ النشاط والعُنفوان والحيوّية والسعي والقدرة وصفاء القلب ورقّته، وحُبّ التطلّع والفضيلة والتأسّي، من الصفات التي يتحلّى بها الإنسان في مرحلة الشباب.

وقد استرعت هذه الصفات الروحية والأخلاقية اهتمام أئمّة الإسلام ( عليهم السلام )، بوصفها سلسلة تُمهّد الأرضية لاستجابة الشباب وتلبية حاجاتهم العاطفية والعقلية، ونودّ أن نشير هنا إلى نموذجين لذلك:

الأوّل: قال الإمام الباقر ( عليه السلام ):( إنّ عليّاً ( عليه السلام ) أتى سوق البزّازين، فوقفَ على غلام فأخذَ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم، والآخر بدرهمين، وقال لخادمه: يا قنبر، خذ الذي بثلاث، فقال: أنتَ أولى به، تَصعد المنبر وتَخطب الناس، فقال ( عليه السلام ): وأنت شابٌّ ولك شَرَه الشباب، وأنا أستحي من ربّي أن أتفضّل عليك، سمعتُ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يقول: ألبِسوهم ممّا تَلبسون، وأطعِموهم ممّا تأكلون ) (١) .

الثاني: كان محمّد بن علي النعمان الكوفي، يُلقّب بـ( مؤمن الطاق ) و( الأحول ) ، وكان كثير العلم حَسن الخاطر، وكان دكّانه في طاق المحامل بالكوفة يُرجع إليه في النقد، وكان برغم ذلك دائباً في طلب العلم،

 ____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٠ / ٣٢٤.

١٤٤

فقد رويَ عن أبي خالد الكابلي قال:رأيتُ أبا جعفر صاحب الطاق وهو قاعد في الروضة، قد قطعَ أهل المدينة إزاره وهو دائب يجيبهم ويسألونه .

وذات مرّة كان محمّد عائداً إلى المدينة من سفرة تبليغية قضاها في البصرة، فقال لهُ الإمام الصادق ( عليه السلام ):( كيف رأيتَ مُسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه؟ فقال: والله إنّهم لقليل، فقال ( عليه السلام ):عليك بالأحداث؛ فإنّهم أسرع إلى كلّ خير ) (١) .

أجل، إنّ مثل هذه الأرضية الروحية الملائمة التي تنشأ من الفطرة الطاهرة، توجِد ظروفاً مؤاتية في الشباب، وتَجعلهم على استعداد لتقبّل الأحكام الإلهيّة والإيمان بالعقائد الحقّة.

ومن هنا وردَ عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنّهُ قال:( مَن قرأ القرآن وهو شابّ مؤمن، اختلطَ القرآن بلحمه ودَمه ) (٢) .

ولأجل هذه الأرضية المساعِدة وللحيلولة دون الجهل بأحكام الدين الذي يؤدّي إلى الضياع، قال الإمام الباقر ( عليه السلام ):( لو أُتيت بشابٍ من شباب الشيعة لا يتفقّه في الدين، لأوجَعتهُ ) (٣) .

وفي بيان الأثر العميق الذي يتركهُ التعلّم في عهد الشباب قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ):( مَن تَعلّم في شبابه كان بمنزلة الرسم في الحَجر، ومَن تَعلّم وهو كبير كان بمنزلة الكتابة على وجه الماء ) (٤) .

أجل، إنّنا إذا التفتنا إلى التعاليم السماوية عَبر التاريخ، وعلى الخصوص الدين الإسلامي الحنيف، لوجدنا ما في الفطرة الطاهرة الموجودة عند الشباب من طاقات جبّارة جَعلت منهم قدوة تُحتذى، وإليك فيما يلي نماذج من هؤلاء الشباب على سبيل المثال دون الحصر:

____________________

(١) بحار الأنوار: ٢٣ / ٢٣٦.

(٢) بحار الأنوار: ٧ / ٣٠٥.

(٣) سفينة البحار: ٢ / ٧٨٨.

(٤) نوادر الراوندي: ص٧٠، سفينة البحار: ٢ / ٢٢٢.

١٤٥

١ - بطلُ العفّة

كلّنا يَعرف قصّة يوسف الصدّيق ( عليه السلام )، بطل العفّة والاحتشام الواردة في القرآن الكريم ضمن سورة معروفة باسمه، حيث ينتقل يوسف ( عليه السلام ) من( كنعان ) إلى( مصر ) ، وبالتحديد إلى قصر( بوتيفار ) عزيز مصر، وقد تحتمّ عليه أن يعيش هناك، إلاّ أنّ شدّة جماله أوقعت( زليخا ) زوجة العزيز في حُبّه حتّى طلَبت منه الفاحشة، إلاّ أنّ يوسف كان مطهّراً وسليلاً للأنبياء فقاومها بشدّة وقال:( مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) (١) .

وكان جزاء يوسف ( عليه السلام ) - عن عدم استجابته لطلب زليخا صاحبة القصر، وثباتهُ على إيمانه - أن أودِعَ السجنَ وأمضى فيه سنيناً، ولكن ما أن اتّضحت براءتهُ للجميع وأطلقَ سراحه حتّى صار وزيراً وعزيزاً لمصر، في حين تحوّلت زليخا إلى عجوز تفترش تراب المذلّة(٢) !

٢ - جذوةُ الإيمان والإباء

إنّ الذي يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات هو ما يمتلكه من قدرة على التفكير والتدبير، وهناك آيات كثيرة في القرآن تحثّ الإنسان على التعقّل والتفكّر، بل يرى الإسلام أنّ التفكير من أفضل أنواع العبادة، قال الإمام الرضا ( عليه السلام ):( أفضلُ العبادة: إدمانُ التفكير في الله وفي قدرته ) (٣) .

وقال الإمام علي ( عليه السلام ):( الفكرُ مرآة صافية ) (٤) .

وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( تفكّر ساعة خيرٌ من قيام ليلة ) (٥) .

وإنّ قصّة أصحاب الكهف نموذج مهمّ للتفكير والتعقّل، وقد وردت قصّتهم في الآيات من ٩ إلى ٢٧ من سورة الكهف، وطبقاً لِمَا ورد في القرآن والأحاديث،

____________________

(١) سورة يوسف: الآية ٢٣.

(٢) بحار الأنوار: ١٢ / ٢٥٣ و ٢٩٦.

(٣) أصول الكافي: ٢ / ٤٥، بحار الأنوار: ٦٨ / ٣٢٥.

(٤) نهج البلاغة: صُبحي الصالح، الحِكمة رقم ٥.

(٥) أصول الكافي: ٢ / ٤٥، بحار الأنوار: ٤٨ / ٣٢٨.

١٤٦

 فإنّ عددهم كان سبعة(١) ، وكانوا يعيشون في عهد( دقيانوس ) المولود سنة ٢٠١م، والمتوفّى سنة ٢٥١م، والذي حَكمَ الروم لثلاث سنوات سامَ فيها النصارى ويلاً وثُبوراً.

وقد كان أصحاب الكهف من حاشية المَلك ووزرائه، وقد رويَ عن الإمام علي ( عليه السلام ):( إنّ أصحاب الكهف كانوا كهولاً فسمّاهم الله فتية بإيمانهم ) .

وخلاصة قصّة أصحاب الكهف - طبقاً لِمَا هو المنقول عن الإمام علي ( عليه السلام ) - أنّهم كانوا ستّة نفر اتّخذهم دقيانوس وزراءه، فبينما هم ذات يوم في عيد والبطارقة عن يمينه، والهراقلة عن يساره إذ أتاه بطريق فأخبرهُ أنّ عساكر الفرس قد غشيته، فاغتمّ لذلك حتّى سقطَ التاج عن رأسه، فنظرَ إليه تلميخا فقال في نفسه:لو كان دقيانوس إلهاً كما يزعم إذاً ما كان يغتمّ ولا يفزع، ثمّ جَمعَ بعدها الفتية وقال لهم:أطلتُ الفكر في الأرض... فأدركتُ أنّ لها صانعاً ومدبّراً غير دقيانوس المَلك ، فقال له الفتية:بكَ هدانا الله تعالى من الضلالة إلى الهدى فأشِر علينا ، فوثبَ تلميخا فباعَ تمراً من حائط لهُ وركبوا خيولهم وخرجوا من المدينة(٢) .

وطبعاً ليس من السهل ترك المناصب، إلاّ أنّ العقيدة والإيمان كانا من القوّة بحيث تنكّروا لجميع العلائق المادّية، وتوجّهوا نحو الكهف بعد أن قطعوا مسافة طويلة ركوباً ومشياً على الأقدام، وهناك ناموا نومتهم ليستيقظوا بعد ٣٠٩ سنوات بقدرة الله؛ ليجسّدوا عَظمة الإيمان والمَعاد.

٣ - التغلّبُ على هوى النفس

وإنّلمحمّد بن سيرين صاحب كتاب ( تفسير الأحلام ) المعروف، قصّة مشابِهة لقصّة يوسف الصدّيق ( عليه السلام )، وقد عاشَ محمّد بن سيرين في القرن الهجري الأوّل، وكانت وفاتهُ سنة ١١٠ للهجرة(٣) .

____________________

(١) سورة الكهف: الآية ١٢٢.

(٢) سفينة البحار: ٢ / ٣٨٢.

(٣) تتمّة المُنتهى: ص٨٤.

١٤٧

وقد كان محمّد بن سيرين بزّازاً جميل المُحيّا، فَعشقتهُ امرأة وطلبتهُ لتشتري منه بزّاً، فأدخلتهُ دارها وطلبَت منهُ الحرام، قال:معاذ الله، وشَرعَ في ذمّ الزنا، فلم ينفع ذلك، فخرجَ من عندها إلى الكنيف فلطّخَ بَدنهُ بالقذارات، فلمّا رأتهُ المرأة بتلك الهيئة القبيحة تنفّرت منهُ فأخرجتهُ من دارها.

قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ):( مَن قَدَر على امرأة أو جارية حراماً فترَكها مخافة الله، حرّم الله عزّ وجل عليه النار، وآمَنهُ الله تعالى من الفزع الأكبر وأدخلهُ الله الجنّة ) (١) .

أجل، لقد مَنعَ هذا الشاب دينهُ وتقواه من ارتكاب هذا العمل القبيح، ولأجل ذلك ألهمَهُ الله هذا العلم، فَقدّمت مؤلّفاته خَدَمات في مجال تفسير الأحلام والإرشاد، ولا زالت مؤلّفاته من الكتب المعتمَدة.

٤ - اجتنابُ أكل الحرام

إنّ الشريعة الإسلامية تمنع أكل الحرام، وإنّ الذي يأكل الحرام - مضافاً إلى عدم انتفاعه بعبادته - سيعاقَب في الآخرة أيضاً.

قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ):( مَن أكل لقمةً من حرام، لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة ) (٢) .

وقال أيضاً:( إذا وقَعت اللقمة من حرام في جوف العبد، لَعنهُ كلّ مَلَك في السماوات والأرض ) (٣) .

وقال أيضاً:( العبادةُ مع أكل الحرام كالبناء على الرمل ) (٤) .

إنّ مسألة اجتناب أكل الحرام من المسائل التي شَغلت اهتمام المؤمنين طوال التاريخ الإسلامي، على الخصوص إذا كان مصدر هذا الطعام الحاكم الظالم الذي يحاول شراء الذِمم، وإيمان الناس عن هذا الطريق.

____________________

(١) عقابُ الأعمال: ص٣٣٤، وسائل الشيعة: ١١ / ١٩٩.

(٢) كنز العمّال: ٤ / ١٥.

(٣) مشكاة الأنوار: ص٣١٥، بحار الأنوار: ١٠٠ / ١٢.

(٤) بحار الأنوار: ١٠٠ / ص١٦.

١٤٨

يُحدّثنا التاريخ بأنّ معاوية بن أبي سفيان كان يشتري إيمان أصحاب علي ( عليه السلام )، وتفريقهم عنهُ بواسطة ما يبعثهُ إليهم من شهيّ الطعام ولذيذه.

ومن تلك الموارد: قصّة العسل الذي بعثهُ إلى( أبي الأسود الدؤلي ) ، وهو من خُلّص أصحاب الإمام، والذي يُنسب إليه وَضع علم النحو بإشارة من الإمام علي ( عليه السلام )، وقد بيَّن فضائل الإمام ( عليه السلام ) ومناقبهُ في شعره وأدبه.

( يُروى أنّ معاوية أرسل إليه هدية منها حلواء، يريد بذلك استمالتهُ وصرفهُ عن حُبّ علي ( عليه السلام )، فدَخلت ابنة صغيرة لهُ في الخامسة أو السادسة، فأخذَت لقمة من تلك الحلواء وجَعلتها في فمها، فقال لها أبو الأسود:يا بنتي، ألقيهِ فإنّه سمّ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين ( عليه السلام )، ويردّنا عن محبّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فقالت الصَبية:قبّحهُ الله يَخدعنا عن السيّد المطهّر بالشهد المزعفَر، تبّاً لمرسله وآكله ، فعالَجت نفسها حتّى قائت ما أكلَت، ثمّ قالت:

أبا الشهد المزعفَر يا بن هند

نبيعُ عليك أحساباً ودينا

معاذَ الله كيف يكون هذا

ومولانا أمير المؤمنينا

وبعد ذلك حَمل أبو الأسود الرسالة التي كان معاوية قد بعثَ بها إليه مع العسل، واصطحبَ ابنته وسارا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحدّثاه بالخبر، فابتسمَ الإمام ودَعا لهما، وأباحَ لهما العسل بعد أن ضمّه في بيت المال ليكون حلالاً عليهما )(١) .

ومهما كان، فإنّ استخدام العقل والفكر وقدرة الإيمان عند مواجهة الشهوات والميول النفسية، من الصفات التي يتحلّى بها الشباب، ومن خلال الالتفات إلى هذه الحقيقة قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ):( خيرُ شبابكم مَن تشبّه بكهولكم ) (٢) .

آثارُ الإيمان وأضرار المعاصي

إنّا وإن تعرّضنا في طيّات هذه المقالة للأثر البنّاء الذي يلعبهُ الإيمان في الردع عن الوقوع في المعاصي والضلال، وهذا ما ثبتَ لنا بالتجربة أيضاً، إلاّ أنّه من المناسب أيضاً أن نتعرّض في الختام إلى آراء عددٍ من العلماء في هذا الخصوص:

____________________

(١) الكُنى والألقاب: ١ / ٩، سفينة البحار: ٢ / ٦٦٩.

(٢) مشكاة الأنوار: ص١٧٠.

١٤٩

قال الفيلسوف الغربي الشهير( وليم جيمس ): إنّ الإيمان من القِوى التي تساعد الإنسان على الحياة، وفقدانهُ يعني الموت والفناء (١) !

وقد ذَكر الدكتور( آفيبوري ) العالِم الانجليزي المعروف، أضرار اتّباع الشباب للهوى الناتج عن فقدان الإيمان فقال: إنّ الشابّ الذي لا يسيطر على جماح نفسه، سوف يكون مصيرهُ الندم والحسرة في أيّام الشيخوخة والهَرم، إنّنا إذا تمكّنا من السيطرة على أهوائنا فستغدوا جميع المشاكل سهلة، إلاّ أنّ السيطرة على النفس بحاجة إلى جهدٍ كبير، إنّ المعاصي هي مصدر الأمراض النفسية، يتصوّر الكثير إمكان التخلّص من العواقب السيئة للذنوب عن طريق التوبة، إلاّ أنّ هذا التصوّر ليس صحيحاً، إنّ للّهو والصَخب تَبَعات خطيرة تُحتّم علينا التخلّي عن هذه اللذّة المؤقّتة التي تعود علينا بالأضرار الكبيرة، وعلينا أن نعلم جيّداً أنّ الحياة مقرونة بالآلام والمِحن، وإذا أردنا أحياناً أن نسير في اتجاه معاكس لهذا القانون الثابت - من خلال الانغماس في الملذّات الخادعة - فإنّنا سرعان ما سنجني ثمار ذلك(٢) .

____________________

(١) جكونه تَشويش ونِكراني را دُور كنيم؟ ص٢٢٧.

(٢) در جُست وجوي خوشبَختي: ص١٣، ١٦، ٢٢، ٣٩.

١٥٠

(١٩)

العملُ والبطالة

إنّ البطالة وعوارضها المؤلمة، من الأمور التي تُثير القلق على الخصوص بالنسبة إلى جيل الشباب الذين يتطلّعون إلى مستقبل زاهر.

إنّ شبحَ البطالة القبيح لدى الجميع يُعدُّ حالياً مُعضلة عالَمية، وإنّ أزمة البطالة تُهدّد حالياً سبعة من الدول الصناعية المعروفة بـ( مجموعة السبعة ) وهي:بريطانيا، وكندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والولايات المتّحدة الأمريكية ، فإنّ ٣٠% من الأيدي العاملة عاطلة عن العمل أو قليلة العمل(١) .

فما هو سبب هذه البطالة العالمية التي تُخلّف الفقر والاضطرابات الكثيرة؟

لا شكّ أنّ من أهمّ أسباب العمل والسعي هي: الأموال التي يُستهلك الجزء الأعظم منها - مع الأسف في السنوات الأخيرة - في صُنع الطائرات وملايين الألغام والقنابل والصواريخ، على يد القوى الاستعمارية ليتمّ استخدامها في الحروب، وإلقاؤها على المُدن والشعوب المظلومة.

فلابدّ في مثل هذه الظروف من حُلول عالمية جادّة، ولكي نبدأ بأنفسنا ونُبدّل البطالة إلى عملٍ حثيث، ونُقلّل من تَبعاتها الفظيعة، لابدّ لنا من الانتباه بدقّة لنتعرّف أسباب البطالة، لنضع الحلول التي تقضي عليها أو تحدّ منها، وبما أنّ البطالة حالياً تُعدّ من الأسباب الرئيسة التي تحول دون زواج الشباب، فإنّنا نستعرض المطالب والحلول الآتية:

____________________

(١) صحيفة كيهان: العدد ١٤٩٩٦.

١٥١

ذُلّ البطالة وعزّة العمل

إنّ البطالة وإن كانت من بواعث القلق، ولكن في الوقت نفسه فإنّ النظر إلى البطالة بوصفها أمراً قبيحاً، والعمل بوصفه عزّة وشرفاً، يمكنه أن يوضّح لنا الحلول اللازمة.

قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ):( ملعونٌ مَن ألقى كَلّهُ على الناس ) (١) .

وعن ابن عبّاس قال: ( كان رسول الله إذا نظرَ إلى الرجل فأعجبهُ قال:هل له حِرفة؟ فإن قالوا: لا، قال:سَقطَ من عيني، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال:لأنّ المؤمن إذا لم يكن لهُ حرفة يعيش بدينه ) (٢) .

وعن زرارة قال: إنّ رجلاً أتى أبا عبد الله ( عليه السلام ) فقال: إنّي لا أُحسن أن أعمل عَملاً بيدي، ولا أُحسن أن أتّجر، وأنا مُحارف محتاج، فقال:( اعمَل فاحمِل على رأسك واستغنِ عن الناس؛ فإنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قد حَملَ حَجراً على عاتقه، فوضعهُ في حائطٍ له من حيطانه، وإنّ الحجر لفي مكانه ولا يدري كم عُمقه ) (٣) .

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الإسلام يرى أنّ العمل الذي يوجِب الكسب وتأمين المعاش، واجبٌ شرعاً، فقد وردَ عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال:( طلبُ الحلال فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ) (٤) .

وفي روايةٍ أخرى عنهُ ( صلّى الله عليه وآله ):( العبادةُ سبعون جزءاً أفضلُها طلبُ الحلال ) (٥) .

____________________

(١) تُحف العقول: ص٣٢، فروع الكافي: ٥ / ٧٢.

(٢) بحار الأنوار: ١٠٠ / ٩، الحديث ٣٨، جامع الأخبار: ص١٣٩.

(٣) فروع الكافي: ٥ / ٧٧، وسائل الشيعة: ١٢ / ١٢.

(٤) جامع الأخبار: ص١٣٩، بحار الأنوار: ١٠٠ / ٩، الحديث ٣٥.

(٥) فروع الكافي: ٥ / ٧٨، الحديث ٦.

١٥٢

وبإسنادٍ عن المعلّى بن خنيس قال: ( رآني أبو عبد الله ( عليه السلام ) وقد تأخّرتُ عن السوق، فقال:( أُغدُ إلى عزّك ) (١) .

أسبابُ البطالة

لا شكّ أنّ الدولة المستعمَرَة هي السبب الرئيسي الكامن وراء البطالة، فإنّها تمكّنت طوال قرنين من تنفيذ مخطّطاتها الاستعمارية على الشعوب بمختلف الأساليب الصناعية والثقافية.

ونحن نرمي من خلال التأكيد على مخطّطات الاستعمار العالَمي إلى أمرين:

 الأوّل: أن لا نغفل المؤامرات التي يحوكها الأعداء،والثاني: رفع مستوى الثقة بالنفس، إلاّ أنّه لا ينبغي لنا إلقاء اللوم في شيوع البطالة على العدوّ الخارجي فقط، ونغفل الأسباب الأخرى التي تنشأ بسبب التقصير أو القصور من جانبنا.

وبما أنّ معرفة أسباب المرض تساعد على معالجته بشكلٍ أفضل، فيمكننا أن نذكر المسائل الاجتماعية التالية مع بيان الحلول:

أ - ازديادُ السكّان

لا شكّ أنّ ارتفاع عدد السكّان قد أوجدَ في مجتمعنا أزمة البطالة وارتفاع نسبة العاطلين عن العمل، وفي كلّ محافظة هناك نقابة التوظيف العالي التي تهدف إلى رفع هذه المُعضلة الاجتماعية.

قال المدير العام للعمل والأمور الاجتماعية في آذربيجان الشرقية: يوجد حالياً مليون ونصف عاطل عن العمل في البلاد، وأنّ عدد الأفراد الذين تفوق أعمارهم العشر سنوات يبلغ ١٥ مليون نسمة، لابدّ أن يدخلوا مجال العمل في السنوات القادمة، ولابدّ من إعداد فُرص العمل لهم(٢) .

____________________

(١) وسائل الشيعة: ١٢ / ٣، الحديث ٢.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٧٠٨.

١٥٣

ب - عدمُ التخطيط المناسب

تعمل المجتمعات المتقدّمة على البحث والتخطيط الدقيق والمناسب اجتماعياً، فحتّى بعد الحرب العالمية الثانية بادرت دول مثل:ألمانيا، واليابان في زمن الحرب، إلى توظيف القوى والطاقات التي تخرج من سوح القتال وتعود إلى حياة المُدن، لتجعلهم يعملون وفقاً لظروفهم الروحية وقابلياتهم الجسديّة، وبذلك تتمّ الحيلولة دون ضياع الجهود والطاقات.

إلاّ أنّ هذا الشيء لم يحصل في بلادنا بالشكل المطلوب لأسباب مختلفة، وأنّ احتراق الغابات وتدمير المصادر الطبيعية، والأضرار التي لحقت البلاد بفعل الحرب المفروضة من قِبل العراق على إيران الإسلامية، وما خلّفتهُ من نسبة عالية من المعوّقين، وعدم التوازن في تربية الطاقات الإنسانية في المجتمع، من العوامل التي وسّعت حدود البطالة، حتّى بلغت نسبة البطالة ١٤%(١) .

أجل، إنّ عدم الاعتدال وعدم التخطيط، أدّى بالمسؤولين المعنيين إلى الاعتراف بأنَّ هناك أكثر من ٣٠٠ ألف خرّيج جامعي يرزح تحت وطأة البطالة، وفي عم ١٣٧٥ تمكّن ٣٠٢٢ شخصاً فقط من مجموع ١٢٨ ألفاً، من الحصول على عمل ووظيفة(٢) .

ج - قيامُ الآلة مقام اليد العاملة

لا شكّ أنّ الماكنة والآلات الكهربائية برغم الخدمات التي قدّمتها للبشرية، قد زاحمت مساحة عظمى من الطاقات الإنسانية، وكان من نتيجة ذلك أن تَعطّلَ جزء كبير من القوى الإنسانية العاملة!

أي في كلّ موردٍ من الصناعة، والبناء، والمناجم، والحمل والنقل، وتعبيد الطُرق والفلاحة، نجد أنّ ماكنة واحدة قد تحلّ محلّ عشرين شخصاً وتجعلهم عاطلين عن العمل.

____________________

(١) المصدر المتقدّم.

(٢) صحيفة إيران: العدد ٨٦٨.

١٥٤

وطبعاً هذه نتيجة قهرية، ولا نريد بذلك أن ندعو إلى إلغاء الصناعة وتطوير الآلة، ولكن كما تقدّم أن قلنا يمكن التغلّب على هذه المشكلة من خلال التخطيط الصحيح والمدروس لبناء مجتمع سليم، ولكن على كلّ حال فإنّ الماكنة قد شكّلت حاجزاً وعَقَبة أمام اشتغال الأفراد.

د - الهجرة

إنّ الهجرات الواسعة التي تُسبّب البطالة على نوعين:الهجرة من القرى إلى المُدن، والهجرة من الخارج إلى داخل القطر .

لا شكّ أنّ الهجرة من القرى إلى المُدن تؤدّي إلى البطالة، أو اللجوء إلى الحِرف الوهمية، وأحياناً تؤدّي إلى مشاكل أخلاقية واجتماعية، ومن جهةٍ أخرى - كما شاهدنا في مناطق كثيرة - تؤدّي إلى تحطيم العمران وضياع مصادر الإنتاج من الزراعة ورعي الماشية، وهما عنصران مهمّان في الحياة الاقتصادية.

كما أنّ هجرة الأجانب - مضافاً إلى ما فيها من التَبَعات الأخلاقية والاجتماعية - تؤدّي إلى إشغال فُرص العمل وبطالة أفراد المجتمع.

صرّحَ وزير الدولة بأنّه:يُقيم حالياً في إيران حوالي مليون ونصف لاجئ من الأفغان والعراقيين وسائر الدول، وقد شغلوا في العام المنصرم ٨٠٠ ألف فرصة عمل من مجموع ٨٣٥ ألف فرصة (١) .

وقال مدير الدائرة للعمل والأمور الاجتماعية في محافظة أصفهان: إنّ عدد الأجانب العاملين في أصفهان يفوق العاطلين عن العمل بمقدار ضعفٍ ونصف، فإذا تمّ التغلّب على مشكلة الأجانب فستُحلّ مشاكل البطالة في محافظة أصفهان بنسبة ٨٠%(٢) .

____________________

(١) صحيفة همشهري: العدد ١٧٠٧.

(٢) المصدر المتقدّم: العدد ١٧٠٤.

١٥٥

هـ - عدمُ الكفاءة اللازمة

ومن بين المشاكل التي تؤدّي إلى ظهور البطالة في المجتمع ظاهرة الأميّة، أو انعدام الدراسات العُليا، وعدم اكتساب المهارات والكفاءات التخصّصية للعمل النافع، وقد ذَكر المدير العام لوزارة العمل والأمور الاجتماعية بهذا الخصوص: في السنة الماضية تمكّن أربعة آلاف ومئتان وثمانون شخصاً من بين٥٢٧ ألف متطوّع للعمل، من الحصول على وظيفة وكان ٧١% منهم فاقداً للكفاءات العملية(١) .

وقال المدير العام للعمل والأمور الاجتماعية في محافظة آذربيجان الشرقية: إنّ أكثر الذين يُعلنون عن رغبتهم في الحصول على عملٍ، يفتقرون إلى المهارات التخصّصية اللازمة(٢) .

و - المشكلة الثقافية

إنّنا في الوقت الذي يتعيّن علينا أن نَعدّ المشكلة الثقافية جزءاً من عدم التخطيط الدقيق لبُنية المجتمع، لابدّ لنا من أن نُضيف: أنّه ما دامت الفكرة السائدة بشأن التعلّم هي الحصول على الشهادة بهدف الحصول على وظيفة، فإنّ ذلك إن دلَّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على عدم الفهم الصحيح لمعنى العمل ومفهوم السعي والمثابرة.

ذلك أنّ هذا النوع من الفهم يؤدّي عموماً إلى شدّ القوى المعنوية للعلم إلى الدعة، ممّا يُقلّل من العطاء المفيد، ويتمّ الإعلان بصراحة:( هناك مليون عامل في الأجهزة الحكومية لا يؤدّون خدمة حقيقية ) (٣) .

أجل، إنّ هذه المشكلة الثقافية حَدت بالرئيس العام للمنظّمة الطبيّة إلى أن يقول: ( هناك حالياً ٢٣١٣ غرفة طبية خالية من الطبيب، بسبب مشكلة إصدار الترخيص في العمل،

____________________

(١) المصدر المتقدّم: العدد ١٥٤٩.

(٢) المصدر المتقدّم: العدد ١٧٠٨.

(٣) صحيفة كيهان: العدد ١٦٢٧٨.

١٥٦

 ولحدّ الآن لم يتمكّن خمسة آلاف طبيب عاطل من الحصول على ترخيص لمباشرة أعمالهم الطبية )(١) .

وممّا لابدّ من إضافته: أنّ البلدان المتقدّمة ترى أنّ الدراسة إنّما يراد منها الحصول على الشهادة واكتساب الكفاءة، لاستثمارها في الأسواق الحرّة، وليست بهدف الحصول على وظيفة حكومية والجلوس خلف الطاولات.

ز - القناعةُ والإبداع

برغم وصايانا المتكرّرة للشباب الأعزاء، بالتحلّي بروح الأمل والسعي والهمّة العالية لنيل الأعمال الكبيرة، ولكن ما الذي ينبغي فعلهُ حينما يصرّح وزير الدولة بأنّ نسبة البطالة في البلاد تبلغ ١١%، وأنّ نسبتها في المحافظات ١٩%، وفي بعض المُدن ٢٨%، وفي إحدى المدن ٤٢%(٢) ؟

في مثل هذه الموارد بل وسائر مراحل الحياة، في الوقت الذي يتعيّن على الدولة أن تسعى إلى إصلاح البُنية الاجتماعية، ينبغي على أفراد المجتمع - على الخصوص جيل الشباب بوصفهم واحداً من طرق العلاج - أن يتحلّوا بروح القناعة مع الإبداع.

ونقصد بالقناعة : أنّه إذا لم يحصل الفرد على الوظيفة التي يطمح إليها، فليقنع بما هو دونها من الوظائف الصغيرة، وأن يسير بخطى بطيئة، وأن يدأب على ذلك ويثابر، وأن يضع لنفسه موطأ قَدم واضح يساعده على الانطلاق إلى ما هو أوسع وأفضل.

كما نقصد بالإبداع: أن لا نكون دائماً بانتظار العمل، بل علينا أن نسعى وراء العمل.

____________________

(١) صحيفة إسلام: العدد ٢٠٦١.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٧٠٧.

١٥٧

طبعاً مع الالتفات إلى نفسيات الشباب يبدو من الصعب تطبيق ذلك على الواقع العملي، ولكن لابدّ من الالتفات إلى أنّ هذه الصعاب بمثابة العَقَبات التي أمكنَ لكثير من الناس تجاوزها والوصول إلى أهدافهم.

زراعةُ عليّ ( عليه السلام )

وفي هذا الخصوص هناك قصص وشواهد تاريخية كثيرة، منها: أنّ الإمام عليّاً ( عليه السلام ) حينما أُبعدَ عن حقّه في الخلافة كان يخرج ومعهُ أحمال النوى، فيقال له: يا أبا الحسن، ما هذا معك؟ فيقول:( نَخل إن شاء الله ) ، فيَغرسهُ فلم يغادر منه واحدة(١) ، ولم يكن يرى عاراً في ذلك بل يراه واجباً.

وعلى كلّ حال، فإنّ الدَعة وطلب الراحة يُعدّان آفة وذلاً لكلّ كائن حيّ.

وليعلم الشباب المعاصر أنّهم إنّما حصلوا على ما هم عليه حالياً بفضل الجهود التي بذلها الآباء والأمّهات، وما تجرّعوه من مرارة وغُصص، وما تحمّلوه من مشاقٍ، وما سهروهُ من الليالي.

الأمّهات المضحيّات

وقد سمعتُ شخصياً من بعض الآباء والأمّهات قَصصاً تدعو إلى الفخر والمُباهاة.

منها: إنّني شاهدتُ أمّاً في قرية تَجمع حبّات الحنطة المتناثرة والمتروكة على الأرض حبّة حبّة، بعد أن تبحث عنها بين الحجارة، فيجتمع عندها مقدار كيلو أو ثلاثة فتقوم ببيعه، وعن هذا الطريق قامت بإعالة طفلها اليتيم حتّى كبرَ، وبَنت له بيتاً وزوّجتهُ.

كما رأيتُ امرأة أخرى في طهران كانت مُثابِرة ومُجدّة، إذ كانت تذهب إلى سوق الخُضَر فتجمع الخضروات المتروكة، وتحملها على رأسها وتمضي بها عدّة كيلو مترات إلى بيتها مشياً، ثمّ تقوم بتخليل ما جَمعتهُ وتبيعه إلى أصحاب الدكاكين، وحثّت أبناءها على العمل وحَصلت على كثيرٍ من الزبائن،

____________________

(١) فروع الكافي: ٥ / ٧٥.

١٥٨

واجتمعت لديها ثروة كبيرة اشترت بها سيارة لحمل منتجاتها، وأدّت ما عليها من الحقوق الشرعية والخُمس، وجدّدت بناء بيتها ومصنعها، ومضافاً إلى إعالتها نفسها وأبناءها، وفّرَت لعددٍ من النساء فُرصاً للعمل وأمكنها الذهاب إلى حجّ بيت الله.

وقد وردَ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ):( أيعجزُ أحدكم أن يكون مثل النملة؛ فإنّ النملة تجرّ إلى جحرها ) (١) .

____________________

(١) فروع الكافي: ٥ / ٧٩.

١٥٩

(٢٠)

عُقَد الحَقارة ومَخاطرها

إنّ أنواع الضُعف والذلّ والنقص والفاقة والعجز والتخلّف في الحياة، من المسائل التي تؤدّي بالفرد إلى الشعور بالحَقارة والضَعة، وإذا وجدَ هذا الشعور أرضية ملائمة يدرك فيها المصاب مخاطر هذه العُقدة، فإنّه سوف يسعى إلى علاجها بشكلٍ أفضل، وعندها يصبح بالإمكان الاقتناع بما قالهُ العالِم النفساني المعروف( مك برايد ) : ( كلّنا يعاني إلى حدّ ما من الشعور بالحقارة دون أن نتمكّن من التغلّب على هذا الشعور، وفي المقابل فقد وهَبَنا الله قابليات وكفاءات أخرى تساعدنا على الوصول إلى أهدافنا النافعة والمشروعة، فلابدّ من استثمار هذه الطاقات، وأن لا نسمح للشعور بالحقارة أن يقف سدّاً منيعاً دون الوصول إلى الهدف، وإلى تحقيق آمالنا من خلال تقوية الشعور بعزّة النفس ).

إنّ الإنسان خُلقَ ضعيفاً ومحتاجاً.

وقد قال تعالى:( وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ) (١) .

____________________

(١) سورة النساء: الآية ٢٨.

١٦٠

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأمم السابقة ممّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية ، إلّا أنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) . سنشير في نهاية هذا البحث إلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين :( فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ) .

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق ، بل أكثر من ذلك اتّهم موسى( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) .

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين ، فالبعض قالوا : إنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أخرى ، تقول بأنّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر ، ومثل هذا الاستخدام وارد وله نظائر في اللغة العربية ، حيث يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل ، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و (ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر من المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثّر فيه الساحر ، كما يستفاد من الآية (39) من سورة الذاريات التي نسبت السحر إليه ، والجنون أيضا ،( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) .

على أي حال ، فإنّ التعبير القرآني يكشف عن الأسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضدّ الفساد والظلم ، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثروا من هذا الطريق في قلوب الناس

١٦١

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسىعليه‌السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له ، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق ، إذ قال له :( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ) .

لذا فإنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنّك تتنكر للحقائق ، برغم علمك بأنّها من الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعند ما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره ، لذا :( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) .

(مثبور) من (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية ، فإنّه سلك طريقا يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار ، وذاك قوله تعالى:( فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ) .

«يستفز» من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم :( وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) . فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف» من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص ، ولا من أي قبيلة هم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود من الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسىعليه‌السلام منها ما يلي :

1 ـ تحوّل العصا إلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين ، كما في الآية

١٦٢

(20) من سورة طه :( فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) .

2 ـ اليد البيضاء لموسىعليه‌السلام والتي تشع نورا :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (1) .

3 ـ الطوفان :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) (2) .

4 ـ الجراد الذي أباد زراعتهم وأشجارهم( وَالْجَرادَ ) (3) .

5 ـ والقمل الذي هو نوع من الأمراض والآفات التي تصيب النبات : و( الْقُمَّلَ ) (4) .

6 ـ (الضفادع) التي جاءت من النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم:( وَالضَّفادِعَ ) (5) .

7 ـ الدم ، أو الابتلاء العام بالرعاف ، أو تبدّل نهر النيل إلى لون الدم ، بحيث أصبح ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة :( وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ) (6) .

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إسرائيل العبور منه :( وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ) (7) .

9 ـ نزول ال (منّ) و (السلوى) من السماء ، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) من سورة البقرة( وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) (8) .

10 ـ انفجار العيون من الأحجار :( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (9) .

11 ـ انفصال جزء من الجبل ليظلّلهم :( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ

__________________

(1) طه ، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و (6) ـ الأعراف ، 133.

(7) البقرة ، 50.

(8) البقرة ، 57.

(9) البقرة ، 60.

١٦٣

ظُلَّةٌ ) (1) .

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) (2) .

13 ـ عودة الحياة إلى المقتول والذي أصبح قتله سببا للاختلاف بين بني إسرائيل:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) (3) .

14 ـ الاستفادة من ظل الغمام في الاحتماء من حرارة الصحراء بشكل إعجازي :( وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ) (4) .

ولكن الكلام هنا هو : ما هو المقصود من (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر من خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه ، وليست تلك المتعلقة ببني إسرائيل من قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون من الصخور وأمثال ذلك.

لذا يمكن القول أنّ الآية (133) من سورة الأعراف تتعرض إلى خمسة مواضيع من الآيات التسع وهي : (الطوفان ، القمّل ، الجراد ، الضفادع ، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع ، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) من سورة النمل بعد ذكر هاتين المعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعا ، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع ،

__________________

(1) الأعراف ، 171.

(2) الأعراف ، 130.

(3) البقرة ، 73.

(4) البقرة ، 57.

١٦٤

لأنّ الهدف من الآيات أن تكون دافعا لهدايتهم وسببا لقبولهم بنبوة موسىعليه‌السلام ، لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عند التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاء فيها ذكر العديد من هذه الآيات يظهر أنّ الآيتين الأخريتين هما : (الجفاف) و (نقص الثمرات) حيث أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد ، والقمل ...) قوله تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ الجفاف لا يمكن فصله عن نقص الثمرات وبذا تعتبر الآيتان آية واحدة ، إلّا أنّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قلنا في تفسير الآية (130) من سورة الأعراف ـ لا يؤثّر تأثيرا كبيرا في الأشجار ، أمّا عند ما يكون جفافا طويلا فإنّه سيؤدي إلى إبادة الأشجار ، لذا فإنّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائما إلى نقص الثمرات.

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنّ الآيات التسع التي وردت الإشارة إليها في الآيات التي نبحثها هي:العصا، اليد البيضاء ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، الجفاف ، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يؤمنوا ، لذلك انتقمنا منهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1) .

هناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية ، ولاختلافها فيما بينها لا يمكن الاعتماد عليها في إصدار الحكم.

__________________

(1) الأعراف ، 136.

١٦٥

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أمر بسؤال بني إسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى ، وكيف أنّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسىعليه‌السلام بمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنّ لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم والعقل بحيث أنّه لا يحتاج إلى السؤال ، لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ سؤال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكن لنفسه ، بل للمشركين ، لذلك فما المانع من أن يكون شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عند ما لم يوافق على اقتراحاتهم ، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصّب والعناد ، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد ب (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله أمر بني إسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض ، فهل الغرض من الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنّ فرعون أراد أن يخرجهم من تلك الأرض.

وبنفس المعنى أشارت آيات أخرى إلى أنّ بني إسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إشارة إلى الأرض المقدّسة فلسطين ، لأنّ بني إسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإنّنا لا نستبعد أيّا من الاحتمالين ، لأنّ بني إسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه ، وامتلكوا أرض فلسطين أيضا.

١٦٦

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهرا إنّ الإجابة بالإيجاب ، حيث أنّ جملة( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) قرينة على هذا الموضوع ، ومؤيّدة لهذا الرأي. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ (وعد الآخرة) إشارة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذه السورة ، من أنّ الله تبارك وتعالى قد توعّد بني إسرائيل بالنصر والهزيمة مرّتين ، وقد سمى الأولى بـ «وعد الأولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة» ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى :( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) (فدقق في ذلك).

* * *

١٦٧

الآيات

( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) )

التّفسير

عشاق الحق

مرّة أخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) ، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) .

ثمّ تقول :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

١٦٨

لقد ذكر المفسّرون آراء مختلفة في الفرق بين الجملة الأولى :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) والجملة الثّانية :( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) منها :

1 ـ المراد من الجملة الأولى : إنّنا قدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق ، لذا فإنّ التعبير الأوّل يشير إلى التقدير ، بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق(1) .

2 ـ الجملة الأولى تشير إلى أنّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق ، أمّا التعبير الثّاني فانّه يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضا(2) .

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنّ الجملة الأولى تقول : إنّنا نزّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول : إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتدخل في الحق ولم يتصرف به ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح من هذه التّفاسير ، وهو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما ، ولكنّه لا يستطيع إتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه ، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ، فإنّه يبدأ بداية صحيحة ، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماء صافيا من أحد العيون ، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعه من التلوث ، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث. إلّا أنّ الشخص القادر والمحيط بالأمور ، يحافظ على بقاء الماء صافيا وبعيدا عن عوامل التلوث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق ، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ، أو المرحلة التي كان

__________________

(1) يراجع تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3955.

(2) في ظلال القرآن ، أننا تفسير الآية.

١٦٩

الرّسول فيها هو المتلقي ، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم ، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولماذا كان نزوله تدريجيا؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) فيقول الله في جواب هؤلاء:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ) (1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عمليا بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:( وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) .

إنّ القرآن كتاب السماء إلى الأرض ، وهو أساس الإسلام ودليل لجميع البشر ، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين ، لذلك فإنّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دفعة واحدة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاب عليها من خلال النقاط الآتية :

أوّلا : بالرغم من أنّ القرآن هو كتاب ، إلّا أنّه ليس ككتب الإنسان المؤلّفة حيث يجلس المؤلّف ويفكّر ويكتب موضوعا ، ثمّ ينظّم فصول الكتاب وأبوابه لينتهي من تحرير الكتاب ، بل القرآن له ارتباط دقيق بعصره ، أي ارتباط ب (23) سنة ، هي عصر نبوة نبي الإسلام بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

__________________

(1) مجيء كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يفسّره المفسّرين بأنّه مفعول لفعل مقدّر تقديره (فرقناه) ، وبذلك تصبح الجملة هكذا : (وفرقناه قرآنا).

١٧٠

لذا كيف يمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامنا لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد ، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إنّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإسلامية ، وآيات تختص بالمنافقين ، وأخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهل يمكن أن يكتب مجموع كل ذلك منذ اليوم الأوّل؟

ثانيا : ليس القرآن كتابا ذا طابع تعليمي وحسب ، بل ينبغي لكل آية فيه أن تنفّذ بعد نزولها ، فإذا كان القرآن قد نزل مرّة واحدة ، فينبغي أن يتمّ العمل به مرّة واحدة أيضا ، ونعلم بأنّ هذا محال ، لأنّ إصلاح مجتمع مليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد ، إذ لا يمكن إرسال الطفل الأمي دفعة واحدة من الصف الأوّل إلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوما ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتمثله عمليا.

ثالثا : بدون شك ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإمكانيات أكبر عند ما يقوم بتطبيق القرآن جزءا جزءا ، بدلا من تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنّه مرسل من الخالق وذو عقل واستعداد كبيرين ليس لهما مثيل ، إلّا أنّه برغم ذلك فإنّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعا : النّزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مصدر الوحي ، إلّا أنّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الارتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

آخر الآية (32) من سورة الفرقان تقول :( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

١٧١

تَرْتِيلاً ) وهي إشارة إلى السبب الثّالث ، بينما الآية التي نبحثها تشير إلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنّ مجموع هذه العوامل تكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول :( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) .

* * *

ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الالتفات إلى الملاحظات الآتية :

أوّلا : يعتقد المفسّرون أنّ جملة( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجه متعدّدة ، إذ قال بعضهم : إن المعنى هو : سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإعجاز القرآن ونسبته إلى الخالق.

بينما قال البعض : إنّ التقدير يكون : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإنّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مكمّلة لها ، وهي كناية عن أنّ عدم الإيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة ، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أخرى : يكون المعنى : إذا لم تؤمنوا به فإنّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون به.

ثانيا : إنّ المقصود من( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن ، وشاهدوا العلائم التي قرءوها في التوراة والإنجيل ، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين ، وأصبحوا من علماء الإسلام.

وفي آيات أخرى من القرآن تمت الإشارة إلى هذا الموضوع ، كما في قوله

١٧٢

تعالى في الآية (113) من سورة آل عمران :( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) .

ثالثا : «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم ، واستخدام هذه الكلمة بدلا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة ، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عند ما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالقعزوجل ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار(1) .

رابعا : (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض ، إلّا أن تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنّ الإنسان عند سجوده يضع أوّلا جبهته على الأرض ، ولكن الشخص المدهوش عند ما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا ، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيدا لمعنى (يخرون)(2) .

الاية التي بعدها توضح قولهم عند ما يسجدون :( وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (3) . هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإيمان بنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم ، وعلى سجدة الحب التي

__________________

(1) يقول الراغب في (المفردات) : «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علّو. وقوله تعالى :( خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد:( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) .

(2) تفسير المعاني ، ج 15 ، ص 175.

(3) (إنّ) في قوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا ) غير شرطية ، بل هي تأكيدية ، وهي مخففة من الثقيلة.

١٧٣

يسجدونها تقول الآية التي بعدها :( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) .

إنّ تكرار جملة( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ) دليل على التأكيد ، وعلى الاستمرار أيضا.

الفعل المضارع (يبكون) دليل على استمرار البكاء بسبب حبّهم وعشقهم لخالقهم.

واستخدام الفعل المضارع في جملة( يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) دليل على أنّهم لا يتوقفون أبدا على حالة واحدة ، بل يتوجهون باستمرار نحو ذروة التكامل ، وخشوعهم دائما في زيادة (الخشوع هو حالة من التواضع والأدب الجسدي والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة).

* * *

بحثان :

1 ـ التخطيط للتربية والتعلم

من الدروس المهمّة التي نستفيدها من الآيات أعلاه ، هو ضرورة التخطيط لأي ثورة أو نهضة ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو تربوية ، فإذا لم يتمّ تنظيم مثل هذا البرنامج فالفشل سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذه الجهود. إنّ القرآن الكريم لم ينزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة بالرغم من أنّه كان موجودا في مخزون علم الله كاملا ، وقد تمّ عرضه في ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ، إلّا أنّ النّزول التدريجي استمرّ طوال (23) سنة ، وضمن مراحل زمنية مختلفة وفي إطار برنامج عملي دقيق.

وعند ما يقوم الخالق جلّ وعلا بهذا العمل بالرغم من عمله وقدرته المطلقة وغير المتناهية عند ذلك سيتّضح دورنا وتكليفنا نحن إزاء هذا المبدأ. وعادة ما يكون هذا قانونا وتكليفا إلهيا ، حيث أنّ وجوده العيني لا يختص بعالم التشريع

١٧٤

وحسب ، بل في عالم التكوين أيضا. إنّه من غير المتوقع أن تنصلح أمور مجتمع في مرحلة البناء خلال ليلة واحدة لأنّ البناء الحضاري الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي يحتاج إلى المزيد من الوقت.

وهذا الكلام يعني أنّنا إذا لم نصل إلى النتيجة المطلوبة في وقت قصير فعلينا أن لا نيأس ونترك بذل الجهد أو المثابرة. وينبغي أن نلتفت إلى أنّ الانتصارات النهائية والكاملة تكون عادة لأصحاب النفس الطويل.

2 ـ علاقة العلم بالإيمان

الموضوع الآخر الذي يمكن أن نستفيده من الآيات أعلاه هو علاقة العلم بالإيمان، إذ تقول الآيات : إنّكم سواء آمنتم بالله أو لم تؤمنوا فإنّ العلماء سيؤمنون بالله إلى درجة أنّهم يعشقون الخالق ويسقطون أرضا ساجدين من شدّة الوله والحبّ ، وتجري الدّموع من أعينهم، وإنّ هذا الخشوع والتأدّب يتصف بالاستمرار في كل عصر وزمان.

إنّ الجهلة ـ فقط ـ هم الذين لا يعيرون أهمية للحقائق ويواجهونها بالاستهزاء والسخرية ، وإذا أثّر فيهم الإيمان في بعض الأحيان فإنّه سيكون تأثيرا ضعيفا خاليا من الحبّ والحرارة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ في الآية ما يؤكّد خطأ وخطل النظرية التي تربط بين الدين والجهل أو الخوف من المجهول. أمّا القرآن فإنّه يؤكّد على عكس ذلك تماما ، إذ يقول في مواقع متعدّدة : إنّ العلم والإيمان توأمان ، إذ لا يمكن أن يكون هناك إيمان عميق ثابت من دون علم ، والعلم في مراحلة المتقدمة يحتاج إلى الإيمان. (فدقق في ذلك).

* * *

١٧٥

الآيتان

( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) )

سبب النّزول

وردت آراء متعدّدة في سبب نزول هاتين الآيتين منها ما نقله صاحب مجمع البيان عن ابن عباس الذي قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجدا ذات ليلة بمكّة يدعو : يا رحمن يا رحيم ، فقال المشركون متهمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه يدعونا إلى إله واحد ، بينما يدعو هو مثنى مثنى. يقصدون بذلك قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رحمن يا رحيم. فنزلت الآية الكريمة أعلاه(1) .

__________________

(1) يراجع مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

١٧٦

التّفسير

آخر الذرائع والأغذار

بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم ، وهي قولهم : لماذا يذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالق بأسماء متعدّدة بالرغم من أنّه يدّعي التوحيد. القرآن ردّ على هؤلاء بقوله :( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) . إنّ هؤلاء عميان البصيرة والقلب ، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد ، وكل اسم من هذه الأسماء كان يعرّف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو المكان.

بعد ذلك ، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعدّدة تتناسب مع أفعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم ، وهو وحدهعزوجل الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟

أساسا ، فانّ الله تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إذ ينبغي أن تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبّر عن ذاته ، ولكن لمحدودية ألفاظنا ـ كما هي أشياؤنا الأخرى أيضا ـ لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له ، وإنّ معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضا ، حتى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من هو في منزلته وروحه وعلو شأنه ، نراه يقول : «ما عرفناك حق معرفتك».

إنّ الله تعالى في قضية معرفتنا إيّاه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصّة ، بل ساعدنا كثيرا في معرفة ذاته ، وذكر نفسه بأسماء متعدّدة في كتابه العظيم ، ومن خلال كلمات أوليائه تصل أسماؤه ـ تقدس وتعالى ـ إلى ألف اسم.

وطبيعي أنّ كل هذه أسماء الله ، وأحد معاني الأسماء العلّامة ، لذا فإنّ هذه علامات على ذاته الطاهرة ، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إلى نقطة

١٧٧

واحدة ، وهي لا تقلّل من شأن توحيد الذات والصفات.

وهناك قسم من هذه الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر ، حيث تعطينا معرفة ووعيا أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الرّوايات الإسلامية ، بالأسماء الحسنى ، وهناك رواية معروفة عن رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضمونها : «إن الله تسعا وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنّة».

وهناك شرح مفصل للأسماء الحسنى ، والأسماء التسعة والتسعين بالذات ، أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) من سورة الأعراف ، في قوله تعالى :( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) .

لكن علينا أن نفهم أنّ الغرض من عد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على اللسان وحسب ، حتى يصبح الإنسان من أهل الجنّة ومستجاب الدعوة ، بل إنّ الهدف هو التخلّق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات من هذه الأسماء ، مثل (العالم ، والرحمن ، والرحيم ، والجواد،والكريم) في وجودنا حتى نصبح من أهل الجنّة ومستجابي الدعوة.

وهناك كلام ينقله الشيخ الصدوقرحمه‌الله في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم جاء فيه :

يقول هشام بن الحكم : سألت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام عن أسماء الله عزّ ذكره واشتقاقها فقلت : الله ممّا هو مشتق؟

قالعليه‌السلام : «يا هشام ، الله مشتق من إله ، وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد.

أفهمت يا هشام؟».

قال هشام : قلت : زدني.

قالعليه‌السلام : «للهعزوجل تسعة وتسعون اسما ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان

١٧٨

كلّ اسم منها هو إلها ، ولكن اللهعزوجل معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره.

يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق»(1) .

والآن لنعد إلى الآيات. ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : إنّه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته ، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبر قوله تعالى :( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

لذلك فإنّ الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإخفاتية في اصطلاح الفقهاء، بل إنّ المقصود منها يتعلق بالإفراط والتفريط في الجهر والإخفات ، فهي تقول : لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ ، ولا أقل من الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

أسباب النّزول الواردة ـ حول الآية ـ التي يرويها الكثير من المفسّرين نقلا عن ابن عباس تؤيّد هذا المعنى.(2)

وهناك آيات عديدة من طرق أهل البيت نقلا عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام وتؤيد هذا المعنى وتشير إليه(3) .

لذا فإنا نستبعد التفاسير الأخرى الواردة حول الآية.

أمّا ما هو حد الاعتدال ، وما هو الجهر والإخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أنّ الجهر هو بمعنى (الصراخ) ، و (الإخفات) هو من السكون بحيث لا يسمعه حتى فاعله.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآية :

__________________

(1) توحيد الصدوق نقلا عن تفسير الميزان أثناء تفسير الآية.

(2) ـ يمكن مراجعة نور الثقلين ، ج 3 ، ص 233 فما بعد.

١٧٩

«الجهر بها رفع الصوت ، والتخافت بها ما لم تسع نفسك ، واقرأ بين ذلك»(1) .

أمّا الإخفات والجهر في الصلوات اليومية ، فهو ـ كما أشرنا لذلك ـ له حكم آخر، أو مفهوم آخر ، أي له أدلة منفصلة ، حيث ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.

* * *

ملاحظة

هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الاعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا فهما وإدراكا من جهتين :

الأولى : لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء ، فيقومون بالاستهزاء والتحجج ضدكم ، إذ الأفضل أن تكون مقرونة بالوقار والهدوء والأدب ، كي تعكس بذلك نموذجا لعظمة الأدب الإسلامي ومنهج العبادة في الإسلام.

فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بإلقاء المحاضرات الدينية بواسطة مكبرات الصوت ، ويعتقدون أنّهم بذلك يوصلون صوتهم إلى الآخرين ، هم على خطأ ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإسلام في العبادات ، وستكون النتيجة عكسية على قضية التبليغ الديني.

الثّانية : يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتكون جميع هذه الأمور بعيدة عن الإفراط والتفريط ، إذ الأساس هو :( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

أخيرا نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء ، هذه الآية تنهي السورة المباركة بحمد الله ، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاتهعزوجل . إنّ هذه الآية ـ في

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 234.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214