ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب27%

ما يحتاجه الشباب مؤلف:
الناشر: ناظرين
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 214

ما يحتاجه الشباب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156270 / تحميل: 8969
الحجم الحجم الحجم
ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب

مؤلف:
الناشر: ناظرين
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

٣ - أقدمَ المتفرّجون في المباراة المُنعقدة بين فريقَي( استقلال طهران ) و( الطيران ) العراقي، إلى الإضرار بمئة وخمسين باصاً، وقد بَلغت قيمة الخسائر أكثر من ٦٤ مليوناً وثلاثة وخمسين ألف ريال(١) .

٤ - قامَ بعض المتفرّجين في المباراة التي أُقيمت بين فريقي( بيروزي ) و( بارس ) ، عصر يوم الجمعة في نادي( آزادي ) بإلحاق الأضرار بسبعة وأربعين باصاً، وقد بلغت قيمة الخسائر أكثر من ١٥ مليون ريال، وكان لبعض المعارِضين للأجواء الرياضية السالمة وأحياناً العناصر المناهِضة للثورة، يد في وقوع مثل هذه الحوادث المريرة(٢) .

٥ - أقدمَ المتفرّجون في العام الجاري إلى الأضرار بـ(١٠٨٩) باصاً، وقد بلغَ مجموع الخسائر المادّية أكثر من(٥٥٧) مليون ريال!(٣) ، وبإضافة الموارد المتقدّمة يكون مجموع الباصات المتضرّرة ١١٣٦.

الأخلاقُ والرياضة

ليست الرياضة سوى استعراض للقابليات والمهارات، والمقاومة والشهامة، وعلى المتفرّجين - مضافاً إلى الاستمتاع بمشاهدة المباراة الرياضية - أن يتحلّوا بخصال الرياضيين التي أهلّتهم للنجاح، لكي يتمكّنوا من السير على طريقهم، ولحُسن الحظّ فإنّ الآثار الفيزيقية والروحية تؤثّران في بعضهما بشكلٍ إيجابي، وكما يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ):( ما ضَعُف بَدن عمّا قويت عليه النية ) (٤) .

وكذلك إذا أقدمَ الإنسان على الرياضة والنشاط الجسدي المنتظم، وظهرت عليه آثار الاعتدال والصحّة، فستظهر بتبع ذلك الآثار الروحية والفضائل الأخلاقية والإنسانية على سلوكه، وأمّا إذا كان الأمر بعكس ذلك فسيظهر عليه العجز والانحطاط، فقد قيل قديماً:( العقلُ السليم في الجسم السليم ) .

____________________

(١) المصدر السابق: العدد ١٦٧٦.

(٢) المصدر السابق: العدد ١٧٩١.

(٣) المصدر السابق: العدد ٢١٦٣.

(٤) وسائل الشيعة: ١ / ٥٣، الحديث ١٤.

١٤١

وعليه: فإذا كان هذا تأثير الرياضة على مَن يمارسها، فينبغي أن تترك نفس التأثير على هواة الرياضة والمتفرّجين فيستشعرون المسؤولية تجاه الشؤون العامّة، وأموال الدولة ويُبادرون إلى المحافظة عليها.

شخصيّاتٌ خالدة

في الوقت الذي عُدَّ فيه اللاعب الأرجنتيني الشهير( دياغو مارادونا ) ، شخصية مكروهة في الأوساط الإيطالية بسبب قيامه ببعض الأعمال المنافية للأخلاق في عام ١٩٩٠م(١) ، فلحُسن الحظّ نجد أنّ الرياضيين الإيرانيين والجمهور الإيراني قد تمّ الثناء عليه بمناسبة كأس العالَم لعام ١٩٩٧، حيث قال( ميلان ارسغان ) رئيس الاتحاد العالَمي للمصارعة: ( تحضى إيران بأكثر وأفضل جمهور للمصارعة في العالَم، وأرى من المناسب هنا أن أغتنم الفرصة وأشكر الجمهور الإيراني أصالةً عن نفسي، ونيابةً عن الأعضاء والعاملين والهيئة الإدارية في منظمة ( فيلا ) للمصارعة في العالم )(٢) .

ولم ننسَ أنّ اتّحاد المصارعة الإيراني، قد قام بإحياء للذكرى السنوية الحادية والثلاثين لبطل المصارعة( غلام رضا تختي ) ، لمَا كان يتحلّى به هذا المصارِع من سجايا أخلاقية، بالقرب من مثواه الأخير في مقبرة( ابن بابويه ) ، حيث اشتركَ في الحفل الأبطال من المتقدّمين والمتأخّرين في المصارعة الوطنية والعالَمية، وتمّ وَضع حجر الأساس لمبنى المصارعة الذي حَمَل اسم ( غلام رضا تختي )، إحياءً لذكراه قريباً من ضريحه(٣) .

____________________

(١) صحيفة رسالت: العدد ١٤٤١.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٦٣٥.

(٣) صحيفة جمهوري إسلامي: العدد ٥٦٧٦.

١٤٢

كما نعلم أنّ بطل العالَم السابق في الملاكمة الأمريكي المسلم( محمد علي كلاي ) ، لِمَا يتمتّع به من مُعتقد وروح محبّة للخير، قامَ بالوقوف بوجه الحصار الاقتصادي الذي فرضتهُ الإدارة الأمريكية ضدّ كوبا ودامَ ٣٥ سنة، فتبرّع من ماله الخاصّ بما يعادل مليون ومئتي ألف دولار من الأدوية والأجهزة الطبية، وأهداهُ إلى مستشفى في هافانا عاصمة كوبا(١) .

كما طالبَمحمد علي كلاي - في مقابلة لهُ أجرتها قناة تلفاز الشباب الأمريكي - بنبذ العُنف، والتحلّي بالرأفة والسجايا الإنسانية الكريمة، وأضافَ: إنّ جميع الكُتب السماوية دَعت أتباعها للالتزام جانب الرأفة، وأنكرت العُنف بشدّة(٢) .

ومهما كان فينبغي للرياضة أن تترك على الرياضي والمشاهِد - مضافاً إلى البطولة الظاهرية - روح الشهامة والصلاح والأمانة، وأن تُغرس فيه الفضائل الأخلاقية والإنسانية، وقد رويَ عن مولانا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه قال:( أشجعُ الناس مَن غَلب هواهُ ) (٣) .

____________________

(١) صحيفة خبر: العدد ٤٢٦.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٨٢٠.

(٣) سفينة البحار: ٢ / ٨١٠، طبع آستان قُدس رضوي.

١٤٣

(١٨)

أبطالُ الإيمان

إنّ النشاط والعُنفوان والحيوّية والسعي والقدرة وصفاء القلب ورقّته، وحُبّ التطلّع والفضيلة والتأسّي، من الصفات التي يتحلّى بها الإنسان في مرحلة الشباب.

وقد استرعت هذه الصفات الروحية والأخلاقية اهتمام أئمّة الإسلام ( عليهم السلام )، بوصفها سلسلة تُمهّد الأرضية لاستجابة الشباب وتلبية حاجاتهم العاطفية والعقلية، ونودّ أن نشير هنا إلى نموذجين لذلك:

الأوّل: قال الإمام الباقر ( عليه السلام ):( إنّ عليّاً ( عليه السلام ) أتى سوق البزّازين، فوقفَ على غلام فأخذَ ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم، والآخر بدرهمين، وقال لخادمه: يا قنبر، خذ الذي بثلاث، فقال: أنتَ أولى به، تَصعد المنبر وتَخطب الناس، فقال ( عليه السلام ): وأنت شابٌّ ولك شَرَه الشباب، وأنا أستحي من ربّي أن أتفضّل عليك، سمعتُ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يقول: ألبِسوهم ممّا تَلبسون، وأطعِموهم ممّا تأكلون ) (١) .

الثاني: كان محمّد بن علي النعمان الكوفي، يُلقّب بـ( مؤمن الطاق ) و( الأحول ) ، وكان كثير العلم حَسن الخاطر، وكان دكّانه في طاق المحامل بالكوفة يُرجع إليه في النقد، وكان برغم ذلك دائباً في طلب العلم،

 ____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٠ / ٣٢٤.

١٤٤

فقد رويَ عن أبي خالد الكابلي قال:رأيتُ أبا جعفر صاحب الطاق وهو قاعد في الروضة، قد قطعَ أهل المدينة إزاره وهو دائب يجيبهم ويسألونه .

وذات مرّة كان محمّد عائداً إلى المدينة من سفرة تبليغية قضاها في البصرة، فقال لهُ الإمام الصادق ( عليه السلام ):( كيف رأيتَ مُسارعة الناس في هذا الأمر ودخولهم فيه؟ فقال: والله إنّهم لقليل، فقال ( عليه السلام ):عليك بالأحداث؛ فإنّهم أسرع إلى كلّ خير ) (١) .

أجل، إنّ مثل هذه الأرضية الروحية الملائمة التي تنشأ من الفطرة الطاهرة، توجِد ظروفاً مؤاتية في الشباب، وتَجعلهم على استعداد لتقبّل الأحكام الإلهيّة والإيمان بالعقائد الحقّة.

ومن هنا وردَ عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنّهُ قال:( مَن قرأ القرآن وهو شابّ مؤمن، اختلطَ القرآن بلحمه ودَمه ) (٢) .

ولأجل هذه الأرضية المساعِدة وللحيلولة دون الجهل بأحكام الدين الذي يؤدّي إلى الضياع، قال الإمام الباقر ( عليه السلام ):( لو أُتيت بشابٍ من شباب الشيعة لا يتفقّه في الدين، لأوجَعتهُ ) (٣) .

وفي بيان الأثر العميق الذي يتركهُ التعلّم في عهد الشباب قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ):( مَن تَعلّم في شبابه كان بمنزلة الرسم في الحَجر، ومَن تَعلّم وهو كبير كان بمنزلة الكتابة على وجه الماء ) (٤) .

أجل، إنّنا إذا التفتنا إلى التعاليم السماوية عَبر التاريخ، وعلى الخصوص الدين الإسلامي الحنيف، لوجدنا ما في الفطرة الطاهرة الموجودة عند الشباب من طاقات جبّارة جَعلت منهم قدوة تُحتذى، وإليك فيما يلي نماذج من هؤلاء الشباب على سبيل المثال دون الحصر:

____________________

(١) بحار الأنوار: ٢٣ / ٢٣٦.

(٢) بحار الأنوار: ٧ / ٣٠٥.

(٣) سفينة البحار: ٢ / ٧٨٨.

(٤) نوادر الراوندي: ص٧٠، سفينة البحار: ٢ / ٢٢٢.

١٤٥

١ - بطلُ العفّة

كلّنا يَعرف قصّة يوسف الصدّيق ( عليه السلام )، بطل العفّة والاحتشام الواردة في القرآن الكريم ضمن سورة معروفة باسمه، حيث ينتقل يوسف ( عليه السلام ) من( كنعان ) إلى( مصر ) ، وبالتحديد إلى قصر( بوتيفار ) عزيز مصر، وقد تحتمّ عليه أن يعيش هناك، إلاّ أنّ شدّة جماله أوقعت( زليخا ) زوجة العزيز في حُبّه حتّى طلَبت منه الفاحشة، إلاّ أنّ يوسف كان مطهّراً وسليلاً للأنبياء فقاومها بشدّة وقال:( مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) (١) .

وكان جزاء يوسف ( عليه السلام ) - عن عدم استجابته لطلب زليخا صاحبة القصر، وثباتهُ على إيمانه - أن أودِعَ السجنَ وأمضى فيه سنيناً، ولكن ما أن اتّضحت براءتهُ للجميع وأطلقَ سراحه حتّى صار وزيراً وعزيزاً لمصر، في حين تحوّلت زليخا إلى عجوز تفترش تراب المذلّة(٢) !

٢ - جذوةُ الإيمان والإباء

إنّ الذي يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات هو ما يمتلكه من قدرة على التفكير والتدبير، وهناك آيات كثيرة في القرآن تحثّ الإنسان على التعقّل والتفكّر، بل يرى الإسلام أنّ التفكير من أفضل أنواع العبادة، قال الإمام الرضا ( عليه السلام ):( أفضلُ العبادة: إدمانُ التفكير في الله وفي قدرته ) (٣) .

وقال الإمام علي ( عليه السلام ):( الفكرُ مرآة صافية ) (٤) .

وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( تفكّر ساعة خيرٌ من قيام ليلة ) (٥) .

وإنّ قصّة أصحاب الكهف نموذج مهمّ للتفكير والتعقّل، وقد وردت قصّتهم في الآيات من ٩ إلى ٢٧ من سورة الكهف، وطبقاً لِمَا ورد في القرآن والأحاديث،

____________________

(١) سورة يوسف: الآية ٢٣.

(٢) بحار الأنوار: ١٢ / ٢٥٣ و ٢٩٦.

(٣) أصول الكافي: ٢ / ٤٥، بحار الأنوار: ٦٨ / ٣٢٥.

(٤) نهج البلاغة: صُبحي الصالح، الحِكمة رقم ٥.

(٥) أصول الكافي: ٢ / ٤٥، بحار الأنوار: ٤٨ / ٣٢٨.

١٤٦

 فإنّ عددهم كان سبعة(١) ، وكانوا يعيشون في عهد( دقيانوس ) المولود سنة ٢٠١م، والمتوفّى سنة ٢٥١م، والذي حَكمَ الروم لثلاث سنوات سامَ فيها النصارى ويلاً وثُبوراً.

وقد كان أصحاب الكهف من حاشية المَلك ووزرائه، وقد رويَ عن الإمام علي ( عليه السلام ):( إنّ أصحاب الكهف كانوا كهولاً فسمّاهم الله فتية بإيمانهم ) .

وخلاصة قصّة أصحاب الكهف - طبقاً لِمَا هو المنقول عن الإمام علي ( عليه السلام ) - أنّهم كانوا ستّة نفر اتّخذهم دقيانوس وزراءه، فبينما هم ذات يوم في عيد والبطارقة عن يمينه، والهراقلة عن يساره إذ أتاه بطريق فأخبرهُ أنّ عساكر الفرس قد غشيته، فاغتمّ لذلك حتّى سقطَ التاج عن رأسه، فنظرَ إليه تلميخا فقال في نفسه:لو كان دقيانوس إلهاً كما يزعم إذاً ما كان يغتمّ ولا يفزع، ثمّ جَمعَ بعدها الفتية وقال لهم:أطلتُ الفكر في الأرض... فأدركتُ أنّ لها صانعاً ومدبّراً غير دقيانوس المَلك ، فقال له الفتية:بكَ هدانا الله تعالى من الضلالة إلى الهدى فأشِر علينا ، فوثبَ تلميخا فباعَ تمراً من حائط لهُ وركبوا خيولهم وخرجوا من المدينة(٢) .

وطبعاً ليس من السهل ترك المناصب، إلاّ أنّ العقيدة والإيمان كانا من القوّة بحيث تنكّروا لجميع العلائق المادّية، وتوجّهوا نحو الكهف بعد أن قطعوا مسافة طويلة ركوباً ومشياً على الأقدام، وهناك ناموا نومتهم ليستيقظوا بعد ٣٠٩ سنوات بقدرة الله؛ ليجسّدوا عَظمة الإيمان والمَعاد.

٣ - التغلّبُ على هوى النفس

وإنّلمحمّد بن سيرين صاحب كتاب ( تفسير الأحلام ) المعروف، قصّة مشابِهة لقصّة يوسف الصدّيق ( عليه السلام )، وقد عاشَ محمّد بن سيرين في القرن الهجري الأوّل، وكانت وفاتهُ سنة ١١٠ للهجرة(٣) .

____________________

(١) سورة الكهف: الآية ١٢٢.

(٢) سفينة البحار: ٢ / ٣٨٢.

(٣) تتمّة المُنتهى: ص٨٤.

١٤٧

وقد كان محمّد بن سيرين بزّازاً جميل المُحيّا، فَعشقتهُ امرأة وطلبتهُ لتشتري منه بزّاً، فأدخلتهُ دارها وطلبَت منهُ الحرام، قال:معاذ الله، وشَرعَ في ذمّ الزنا، فلم ينفع ذلك، فخرجَ من عندها إلى الكنيف فلطّخَ بَدنهُ بالقذارات، فلمّا رأتهُ المرأة بتلك الهيئة القبيحة تنفّرت منهُ فأخرجتهُ من دارها.

قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ):( مَن قَدَر على امرأة أو جارية حراماً فترَكها مخافة الله، حرّم الله عزّ وجل عليه النار، وآمَنهُ الله تعالى من الفزع الأكبر وأدخلهُ الله الجنّة ) (١) .

أجل، لقد مَنعَ هذا الشاب دينهُ وتقواه من ارتكاب هذا العمل القبيح، ولأجل ذلك ألهمَهُ الله هذا العلم، فَقدّمت مؤلّفاته خَدَمات في مجال تفسير الأحلام والإرشاد، ولا زالت مؤلّفاته من الكتب المعتمَدة.

٤ - اجتنابُ أكل الحرام

إنّ الشريعة الإسلامية تمنع أكل الحرام، وإنّ الذي يأكل الحرام - مضافاً إلى عدم انتفاعه بعبادته - سيعاقَب في الآخرة أيضاً.

قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ):( مَن أكل لقمةً من حرام، لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة ) (٢) .

وقال أيضاً:( إذا وقَعت اللقمة من حرام في جوف العبد، لَعنهُ كلّ مَلَك في السماوات والأرض ) (٣) .

وقال أيضاً:( العبادةُ مع أكل الحرام كالبناء على الرمل ) (٤) .

إنّ مسألة اجتناب أكل الحرام من المسائل التي شَغلت اهتمام المؤمنين طوال التاريخ الإسلامي، على الخصوص إذا كان مصدر هذا الطعام الحاكم الظالم الذي يحاول شراء الذِمم، وإيمان الناس عن هذا الطريق.

____________________

(١) عقابُ الأعمال: ص٣٣٤، وسائل الشيعة: ١١ / ١٩٩.

(٢) كنز العمّال: ٤ / ١٥.

(٣) مشكاة الأنوار: ص٣١٥، بحار الأنوار: ١٠٠ / ١٢.

(٤) بحار الأنوار: ١٠٠ / ص١٦.

١٤٨

يُحدّثنا التاريخ بأنّ معاوية بن أبي سفيان كان يشتري إيمان أصحاب علي ( عليه السلام )، وتفريقهم عنهُ بواسطة ما يبعثهُ إليهم من شهيّ الطعام ولذيذه.

ومن تلك الموارد: قصّة العسل الذي بعثهُ إلى( أبي الأسود الدؤلي ) ، وهو من خُلّص أصحاب الإمام، والذي يُنسب إليه وَضع علم النحو بإشارة من الإمام علي ( عليه السلام )، وقد بيَّن فضائل الإمام ( عليه السلام ) ومناقبهُ في شعره وأدبه.

( يُروى أنّ معاوية أرسل إليه هدية منها حلواء، يريد بذلك استمالتهُ وصرفهُ عن حُبّ علي ( عليه السلام )، فدَخلت ابنة صغيرة لهُ في الخامسة أو السادسة، فأخذَت لقمة من تلك الحلواء وجَعلتها في فمها، فقال لها أبو الأسود:يا بنتي، ألقيهِ فإنّه سمّ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين ( عليه السلام )، ويردّنا عن محبّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فقالت الصَبية:قبّحهُ الله يَخدعنا عن السيّد المطهّر بالشهد المزعفَر، تبّاً لمرسله وآكله ، فعالَجت نفسها حتّى قائت ما أكلَت، ثمّ قالت:

أبا الشهد المزعفَر يا بن هند

نبيعُ عليك أحساباً ودينا

معاذَ الله كيف يكون هذا

ومولانا أمير المؤمنينا

وبعد ذلك حَمل أبو الأسود الرسالة التي كان معاوية قد بعثَ بها إليه مع العسل، واصطحبَ ابنته وسارا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحدّثاه بالخبر، فابتسمَ الإمام ودَعا لهما، وأباحَ لهما العسل بعد أن ضمّه في بيت المال ليكون حلالاً عليهما )(١) .

ومهما كان، فإنّ استخدام العقل والفكر وقدرة الإيمان عند مواجهة الشهوات والميول النفسية، من الصفات التي يتحلّى بها الشباب، ومن خلال الالتفات إلى هذه الحقيقة قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ):( خيرُ شبابكم مَن تشبّه بكهولكم ) (٢) .

آثارُ الإيمان وأضرار المعاصي

إنّا وإن تعرّضنا في طيّات هذه المقالة للأثر البنّاء الذي يلعبهُ الإيمان في الردع عن الوقوع في المعاصي والضلال، وهذا ما ثبتَ لنا بالتجربة أيضاً، إلاّ أنّه من المناسب أيضاً أن نتعرّض في الختام إلى آراء عددٍ من العلماء في هذا الخصوص:

____________________

(١) الكُنى والألقاب: ١ / ٩، سفينة البحار: ٢ / ٦٦٩.

(٢) مشكاة الأنوار: ص١٧٠.

١٤٩

قال الفيلسوف الغربي الشهير( وليم جيمس ): إنّ الإيمان من القِوى التي تساعد الإنسان على الحياة، وفقدانهُ يعني الموت والفناء (١) !

وقد ذَكر الدكتور( آفيبوري ) العالِم الانجليزي المعروف، أضرار اتّباع الشباب للهوى الناتج عن فقدان الإيمان فقال: إنّ الشابّ الذي لا يسيطر على جماح نفسه، سوف يكون مصيرهُ الندم والحسرة في أيّام الشيخوخة والهَرم، إنّنا إذا تمكّنا من السيطرة على أهوائنا فستغدوا جميع المشاكل سهلة، إلاّ أنّ السيطرة على النفس بحاجة إلى جهدٍ كبير، إنّ المعاصي هي مصدر الأمراض النفسية، يتصوّر الكثير إمكان التخلّص من العواقب السيئة للذنوب عن طريق التوبة، إلاّ أنّ هذا التصوّر ليس صحيحاً، إنّ للّهو والصَخب تَبَعات خطيرة تُحتّم علينا التخلّي عن هذه اللذّة المؤقّتة التي تعود علينا بالأضرار الكبيرة، وعلينا أن نعلم جيّداً أنّ الحياة مقرونة بالآلام والمِحن، وإذا أردنا أحياناً أن نسير في اتجاه معاكس لهذا القانون الثابت - من خلال الانغماس في الملذّات الخادعة - فإنّنا سرعان ما سنجني ثمار ذلك(٢) .

____________________

(١) جكونه تَشويش ونِكراني را دُور كنيم؟ ص٢٢٧.

(٢) در جُست وجوي خوشبَختي: ص١٣، ١٦، ٢٢، ٣٩.

١٥٠

(١٩)

العملُ والبطالة

إنّ البطالة وعوارضها المؤلمة، من الأمور التي تُثير القلق على الخصوص بالنسبة إلى جيل الشباب الذين يتطلّعون إلى مستقبل زاهر.

إنّ شبحَ البطالة القبيح لدى الجميع يُعدُّ حالياً مُعضلة عالَمية، وإنّ أزمة البطالة تُهدّد حالياً سبعة من الدول الصناعية المعروفة بـ( مجموعة السبعة ) وهي:بريطانيا، وكندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والولايات المتّحدة الأمريكية ، فإنّ ٣٠% من الأيدي العاملة عاطلة عن العمل أو قليلة العمل(١) .

فما هو سبب هذه البطالة العالمية التي تُخلّف الفقر والاضطرابات الكثيرة؟

لا شكّ أنّ من أهمّ أسباب العمل والسعي هي: الأموال التي يُستهلك الجزء الأعظم منها - مع الأسف في السنوات الأخيرة - في صُنع الطائرات وملايين الألغام والقنابل والصواريخ، على يد القوى الاستعمارية ليتمّ استخدامها في الحروب، وإلقاؤها على المُدن والشعوب المظلومة.

فلابدّ في مثل هذه الظروف من حُلول عالمية جادّة، ولكي نبدأ بأنفسنا ونُبدّل البطالة إلى عملٍ حثيث، ونُقلّل من تَبعاتها الفظيعة، لابدّ لنا من الانتباه بدقّة لنتعرّف أسباب البطالة، لنضع الحلول التي تقضي عليها أو تحدّ منها، وبما أنّ البطالة حالياً تُعدّ من الأسباب الرئيسة التي تحول دون زواج الشباب، فإنّنا نستعرض المطالب والحلول الآتية:

____________________

(١) صحيفة كيهان: العدد ١٤٩٩٦.

١٥١

ذُلّ البطالة وعزّة العمل

إنّ البطالة وإن كانت من بواعث القلق، ولكن في الوقت نفسه فإنّ النظر إلى البطالة بوصفها أمراً قبيحاً، والعمل بوصفه عزّة وشرفاً، يمكنه أن يوضّح لنا الحلول اللازمة.

قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ):( ملعونٌ مَن ألقى كَلّهُ على الناس ) (١) .

وعن ابن عبّاس قال: ( كان رسول الله إذا نظرَ إلى الرجل فأعجبهُ قال:هل له حِرفة؟ فإن قالوا: لا، قال:سَقطَ من عيني، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال:لأنّ المؤمن إذا لم يكن لهُ حرفة يعيش بدينه ) (٢) .

وعن زرارة قال: إنّ رجلاً أتى أبا عبد الله ( عليه السلام ) فقال: إنّي لا أُحسن أن أعمل عَملاً بيدي، ولا أُحسن أن أتّجر، وأنا مُحارف محتاج، فقال:( اعمَل فاحمِل على رأسك واستغنِ عن الناس؛ فإنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قد حَملَ حَجراً على عاتقه، فوضعهُ في حائطٍ له من حيطانه، وإنّ الحجر لفي مكانه ولا يدري كم عُمقه ) (٣) .

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ الإسلام يرى أنّ العمل الذي يوجِب الكسب وتأمين المعاش، واجبٌ شرعاً، فقد وردَ عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال:( طلبُ الحلال فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ) (٤) .

وفي روايةٍ أخرى عنهُ ( صلّى الله عليه وآله ):( العبادةُ سبعون جزءاً أفضلُها طلبُ الحلال ) (٥) .

____________________

(١) تُحف العقول: ص٣٢، فروع الكافي: ٥ / ٧٢.

(٢) بحار الأنوار: ١٠٠ / ٩، الحديث ٣٨، جامع الأخبار: ص١٣٩.

(٣) فروع الكافي: ٥ / ٧٧، وسائل الشيعة: ١٢ / ١٢.

(٤) جامع الأخبار: ص١٣٩، بحار الأنوار: ١٠٠ / ٩، الحديث ٣٥.

(٥) فروع الكافي: ٥ / ٧٨، الحديث ٦.

١٥٢

وبإسنادٍ عن المعلّى بن خنيس قال: ( رآني أبو عبد الله ( عليه السلام ) وقد تأخّرتُ عن السوق، فقال:( أُغدُ إلى عزّك ) (١) .

أسبابُ البطالة

لا شكّ أنّ الدولة المستعمَرَة هي السبب الرئيسي الكامن وراء البطالة، فإنّها تمكّنت طوال قرنين من تنفيذ مخطّطاتها الاستعمارية على الشعوب بمختلف الأساليب الصناعية والثقافية.

ونحن نرمي من خلال التأكيد على مخطّطات الاستعمار العالَمي إلى أمرين:

 الأوّل: أن لا نغفل المؤامرات التي يحوكها الأعداء،والثاني: رفع مستوى الثقة بالنفس، إلاّ أنّه لا ينبغي لنا إلقاء اللوم في شيوع البطالة على العدوّ الخارجي فقط، ونغفل الأسباب الأخرى التي تنشأ بسبب التقصير أو القصور من جانبنا.

وبما أنّ معرفة أسباب المرض تساعد على معالجته بشكلٍ أفضل، فيمكننا أن نذكر المسائل الاجتماعية التالية مع بيان الحلول:

أ - ازديادُ السكّان

لا شكّ أنّ ارتفاع عدد السكّان قد أوجدَ في مجتمعنا أزمة البطالة وارتفاع نسبة العاطلين عن العمل، وفي كلّ محافظة هناك نقابة التوظيف العالي التي تهدف إلى رفع هذه المُعضلة الاجتماعية.

قال المدير العام للعمل والأمور الاجتماعية في آذربيجان الشرقية: يوجد حالياً مليون ونصف عاطل عن العمل في البلاد، وأنّ عدد الأفراد الذين تفوق أعمارهم العشر سنوات يبلغ ١٥ مليون نسمة، لابدّ أن يدخلوا مجال العمل في السنوات القادمة، ولابدّ من إعداد فُرص العمل لهم(٢) .

____________________

(١) وسائل الشيعة: ١٢ / ٣، الحديث ٢.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٧٠٨.

١٥٣

ب - عدمُ التخطيط المناسب

تعمل المجتمعات المتقدّمة على البحث والتخطيط الدقيق والمناسب اجتماعياً، فحتّى بعد الحرب العالمية الثانية بادرت دول مثل:ألمانيا، واليابان في زمن الحرب، إلى توظيف القوى والطاقات التي تخرج من سوح القتال وتعود إلى حياة المُدن، لتجعلهم يعملون وفقاً لظروفهم الروحية وقابلياتهم الجسديّة، وبذلك تتمّ الحيلولة دون ضياع الجهود والطاقات.

إلاّ أنّ هذا الشيء لم يحصل في بلادنا بالشكل المطلوب لأسباب مختلفة، وأنّ احتراق الغابات وتدمير المصادر الطبيعية، والأضرار التي لحقت البلاد بفعل الحرب المفروضة من قِبل العراق على إيران الإسلامية، وما خلّفتهُ من نسبة عالية من المعوّقين، وعدم التوازن في تربية الطاقات الإنسانية في المجتمع، من العوامل التي وسّعت حدود البطالة، حتّى بلغت نسبة البطالة ١٤%(١) .

أجل، إنّ عدم الاعتدال وعدم التخطيط، أدّى بالمسؤولين المعنيين إلى الاعتراف بأنَّ هناك أكثر من ٣٠٠ ألف خرّيج جامعي يرزح تحت وطأة البطالة، وفي عم ١٣٧٥ تمكّن ٣٠٢٢ شخصاً فقط من مجموع ١٢٨ ألفاً، من الحصول على عمل ووظيفة(٢) .

ج - قيامُ الآلة مقام اليد العاملة

لا شكّ أنّ الماكنة والآلات الكهربائية برغم الخدمات التي قدّمتها للبشرية، قد زاحمت مساحة عظمى من الطاقات الإنسانية، وكان من نتيجة ذلك أن تَعطّلَ جزء كبير من القوى الإنسانية العاملة!

أي في كلّ موردٍ من الصناعة، والبناء، والمناجم، والحمل والنقل، وتعبيد الطُرق والفلاحة، نجد أنّ ماكنة واحدة قد تحلّ محلّ عشرين شخصاً وتجعلهم عاطلين عن العمل.

____________________

(١) المصدر المتقدّم.

(٢) صحيفة إيران: العدد ٨٦٨.

١٥٤

وطبعاً هذه نتيجة قهرية، ولا نريد بذلك أن ندعو إلى إلغاء الصناعة وتطوير الآلة، ولكن كما تقدّم أن قلنا يمكن التغلّب على هذه المشكلة من خلال التخطيط الصحيح والمدروس لبناء مجتمع سليم، ولكن على كلّ حال فإنّ الماكنة قد شكّلت حاجزاً وعَقَبة أمام اشتغال الأفراد.

د - الهجرة

إنّ الهجرات الواسعة التي تُسبّب البطالة على نوعين:الهجرة من القرى إلى المُدن، والهجرة من الخارج إلى داخل القطر .

لا شكّ أنّ الهجرة من القرى إلى المُدن تؤدّي إلى البطالة، أو اللجوء إلى الحِرف الوهمية، وأحياناً تؤدّي إلى مشاكل أخلاقية واجتماعية، ومن جهةٍ أخرى - كما شاهدنا في مناطق كثيرة - تؤدّي إلى تحطيم العمران وضياع مصادر الإنتاج من الزراعة ورعي الماشية، وهما عنصران مهمّان في الحياة الاقتصادية.

كما أنّ هجرة الأجانب - مضافاً إلى ما فيها من التَبَعات الأخلاقية والاجتماعية - تؤدّي إلى إشغال فُرص العمل وبطالة أفراد المجتمع.

صرّحَ وزير الدولة بأنّه:يُقيم حالياً في إيران حوالي مليون ونصف لاجئ من الأفغان والعراقيين وسائر الدول، وقد شغلوا في العام المنصرم ٨٠٠ ألف فرصة عمل من مجموع ٨٣٥ ألف فرصة (١) .

وقال مدير الدائرة للعمل والأمور الاجتماعية في محافظة أصفهان: إنّ عدد الأجانب العاملين في أصفهان يفوق العاطلين عن العمل بمقدار ضعفٍ ونصف، فإذا تمّ التغلّب على مشكلة الأجانب فستُحلّ مشاكل البطالة في محافظة أصفهان بنسبة ٨٠%(٢) .

____________________

(١) صحيفة همشهري: العدد ١٧٠٧.

(٢) المصدر المتقدّم: العدد ١٧٠٤.

١٥٥

هـ - عدمُ الكفاءة اللازمة

ومن بين المشاكل التي تؤدّي إلى ظهور البطالة في المجتمع ظاهرة الأميّة، أو انعدام الدراسات العُليا، وعدم اكتساب المهارات والكفاءات التخصّصية للعمل النافع، وقد ذَكر المدير العام لوزارة العمل والأمور الاجتماعية بهذا الخصوص: في السنة الماضية تمكّن أربعة آلاف ومئتان وثمانون شخصاً من بين٥٢٧ ألف متطوّع للعمل، من الحصول على وظيفة وكان ٧١% منهم فاقداً للكفاءات العملية(١) .

وقال المدير العام للعمل والأمور الاجتماعية في محافظة آذربيجان الشرقية: إنّ أكثر الذين يُعلنون عن رغبتهم في الحصول على عملٍ، يفتقرون إلى المهارات التخصّصية اللازمة(٢) .

و - المشكلة الثقافية

إنّنا في الوقت الذي يتعيّن علينا أن نَعدّ المشكلة الثقافية جزءاً من عدم التخطيط الدقيق لبُنية المجتمع، لابدّ لنا من أن نُضيف: أنّه ما دامت الفكرة السائدة بشأن التعلّم هي الحصول على الشهادة بهدف الحصول على وظيفة، فإنّ ذلك إن دلَّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على عدم الفهم الصحيح لمعنى العمل ومفهوم السعي والمثابرة.

ذلك أنّ هذا النوع من الفهم يؤدّي عموماً إلى شدّ القوى المعنوية للعلم إلى الدعة، ممّا يُقلّل من العطاء المفيد، ويتمّ الإعلان بصراحة:( هناك مليون عامل في الأجهزة الحكومية لا يؤدّون خدمة حقيقية ) (٣) .

أجل، إنّ هذه المشكلة الثقافية حَدت بالرئيس العام للمنظّمة الطبيّة إلى أن يقول: ( هناك حالياً ٢٣١٣ غرفة طبية خالية من الطبيب، بسبب مشكلة إصدار الترخيص في العمل،

____________________

(١) المصدر المتقدّم: العدد ١٥٤٩.

(٢) المصدر المتقدّم: العدد ١٧٠٨.

(٣) صحيفة كيهان: العدد ١٦٢٧٨.

١٥٦

 ولحدّ الآن لم يتمكّن خمسة آلاف طبيب عاطل من الحصول على ترخيص لمباشرة أعمالهم الطبية )(١) .

وممّا لابدّ من إضافته: أنّ البلدان المتقدّمة ترى أنّ الدراسة إنّما يراد منها الحصول على الشهادة واكتساب الكفاءة، لاستثمارها في الأسواق الحرّة، وليست بهدف الحصول على وظيفة حكومية والجلوس خلف الطاولات.

ز - القناعةُ والإبداع

برغم وصايانا المتكرّرة للشباب الأعزاء، بالتحلّي بروح الأمل والسعي والهمّة العالية لنيل الأعمال الكبيرة، ولكن ما الذي ينبغي فعلهُ حينما يصرّح وزير الدولة بأنّ نسبة البطالة في البلاد تبلغ ١١%، وأنّ نسبتها في المحافظات ١٩%، وفي بعض المُدن ٢٨%، وفي إحدى المدن ٤٢%(٢) ؟

في مثل هذه الموارد بل وسائر مراحل الحياة، في الوقت الذي يتعيّن على الدولة أن تسعى إلى إصلاح البُنية الاجتماعية، ينبغي على أفراد المجتمع - على الخصوص جيل الشباب بوصفهم واحداً من طرق العلاج - أن يتحلّوا بروح القناعة مع الإبداع.

ونقصد بالقناعة : أنّه إذا لم يحصل الفرد على الوظيفة التي يطمح إليها، فليقنع بما هو دونها من الوظائف الصغيرة، وأن يسير بخطى بطيئة، وأن يدأب على ذلك ويثابر، وأن يضع لنفسه موطأ قَدم واضح يساعده على الانطلاق إلى ما هو أوسع وأفضل.

كما نقصد بالإبداع: أن لا نكون دائماً بانتظار العمل، بل علينا أن نسعى وراء العمل.

____________________

(١) صحيفة إسلام: العدد ٢٠٦١.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٧٠٧.

١٥٧

طبعاً مع الالتفات إلى نفسيات الشباب يبدو من الصعب تطبيق ذلك على الواقع العملي، ولكن لابدّ من الالتفات إلى أنّ هذه الصعاب بمثابة العَقَبات التي أمكنَ لكثير من الناس تجاوزها والوصول إلى أهدافهم.

زراعةُ عليّ ( عليه السلام )

وفي هذا الخصوص هناك قصص وشواهد تاريخية كثيرة، منها: أنّ الإمام عليّاً ( عليه السلام ) حينما أُبعدَ عن حقّه في الخلافة كان يخرج ومعهُ أحمال النوى، فيقال له: يا أبا الحسن، ما هذا معك؟ فيقول:( نَخل إن شاء الله ) ، فيَغرسهُ فلم يغادر منه واحدة(١) ، ولم يكن يرى عاراً في ذلك بل يراه واجباً.

وعلى كلّ حال، فإنّ الدَعة وطلب الراحة يُعدّان آفة وذلاً لكلّ كائن حيّ.

وليعلم الشباب المعاصر أنّهم إنّما حصلوا على ما هم عليه حالياً بفضل الجهود التي بذلها الآباء والأمّهات، وما تجرّعوه من مرارة وغُصص، وما تحمّلوه من مشاقٍ، وما سهروهُ من الليالي.

الأمّهات المضحيّات

وقد سمعتُ شخصياً من بعض الآباء والأمّهات قَصصاً تدعو إلى الفخر والمُباهاة.

منها: إنّني شاهدتُ أمّاً في قرية تَجمع حبّات الحنطة المتناثرة والمتروكة على الأرض حبّة حبّة، بعد أن تبحث عنها بين الحجارة، فيجتمع عندها مقدار كيلو أو ثلاثة فتقوم ببيعه، وعن هذا الطريق قامت بإعالة طفلها اليتيم حتّى كبرَ، وبَنت له بيتاً وزوّجتهُ.

كما رأيتُ امرأة أخرى في طهران كانت مُثابِرة ومُجدّة، إذ كانت تذهب إلى سوق الخُضَر فتجمع الخضروات المتروكة، وتحملها على رأسها وتمضي بها عدّة كيلو مترات إلى بيتها مشياً، ثمّ تقوم بتخليل ما جَمعتهُ وتبيعه إلى أصحاب الدكاكين، وحثّت أبناءها على العمل وحَصلت على كثيرٍ من الزبائن،

____________________

(١) فروع الكافي: ٥ / ٧٥.

١٥٨

واجتمعت لديها ثروة كبيرة اشترت بها سيارة لحمل منتجاتها، وأدّت ما عليها من الحقوق الشرعية والخُمس، وجدّدت بناء بيتها ومصنعها، ومضافاً إلى إعالتها نفسها وأبناءها، وفّرَت لعددٍ من النساء فُرصاً للعمل وأمكنها الذهاب إلى حجّ بيت الله.

وقد وردَ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ):( أيعجزُ أحدكم أن يكون مثل النملة؛ فإنّ النملة تجرّ إلى جحرها ) (١) .

____________________

(١) فروع الكافي: ٥ / ٧٩.

١٥٩

(٢٠)

عُقَد الحَقارة ومَخاطرها

إنّ أنواع الضُعف والذلّ والنقص والفاقة والعجز والتخلّف في الحياة، من المسائل التي تؤدّي بالفرد إلى الشعور بالحَقارة والضَعة، وإذا وجدَ هذا الشعور أرضية ملائمة يدرك فيها المصاب مخاطر هذه العُقدة، فإنّه سوف يسعى إلى علاجها بشكلٍ أفضل، وعندها يصبح بالإمكان الاقتناع بما قالهُ العالِم النفساني المعروف( مك برايد ) : ( كلّنا يعاني إلى حدّ ما من الشعور بالحقارة دون أن نتمكّن من التغلّب على هذا الشعور، وفي المقابل فقد وهَبَنا الله قابليات وكفاءات أخرى تساعدنا على الوصول إلى أهدافنا النافعة والمشروعة، فلابدّ من استثمار هذه الطاقات، وأن لا نسمح للشعور بالحقارة أن يقف سدّاً منيعاً دون الوصول إلى الهدف، وإلى تحقيق آمالنا من خلال تقوية الشعور بعزّة النفس ).

إنّ الإنسان خُلقَ ضعيفاً ومحتاجاً.

وقد قال تعالى:( وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ) (١) .

____________________

(١) سورة النساء: الآية ٢٨.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214