ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب27%

ما يحتاجه الشباب مؤلف:
الناشر: ناظرين
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 214

ما يحتاجه الشباب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156185 / تحميل: 8964
الحجم الحجم الحجم
ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب

مؤلف:
الناشر: ناظرين
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ما يحتاجهُ الشباب

١

٢

أحمد الصادقي

ما يحتاجهُ الشباب

ترجمةُ

علي الهاشمي

٣

حقوقُ الطبع محفوظة للناشر

اسم الكتاب: ما يحتاجهُ الشباب

المؤلِّف: الشيخ أحمد الصادقي

المترجِم: السيّد علي الهاشمي

الناشر: ناظرين

تنضيد الحروف والإخراج الفني: إسماعيل الوائلي

تصميم الغلاف: عبد العزيز مصطفى خضير

الطبعة الأولى: عام ١٤٢٥ هـ - ٢٠٠٤ م

المطبعة: نگار

كميّة المطبوع: ٢٠٠٠ نسخة

شابك ٩-٠٢-٨٤٦٥-٩٦٤ISBN ٩٦٤-٨٤٦٥-٠٢-٩

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

إنَّ ما يتمتّع به الشباب من الحيويّة، والنشاط، والكفاءات الواسعة، والقابليات الهائلة، والحماس، والجدّ، والمثابرة، من العناصر التي تجعل من جيل الشباب أعضاءً مؤثّرين في الحياة الاجتماعية.

إلاّ أنّ الإحصائيات والتقارير العلمية - التي نطالعها في الصُحف بشأن طُرق استثمار هذه الثروة الإنسانية - قد قسّمَت الشباب بشكلٍ عام إلى فئتين:لإحداهما سلوكية إيجابية، وللأخرى سلوكية سلبية.

سلوكيةُ الفئتين

نواجه في ملف الحياة الاجتماعية لإحدى هاتين الفئتين ما يلي:

الإخفاقُ في الدراسة، البطالة والإهمال، الهروب من البيت، اللعب بالقمار ومُعاقرة الخمور، التسكّع والانحلال، الإدمان على المخدّرات، السرقة، الانحرافات الجنسية، عمليات التزوير والتزييف، الخيانة والخطف والاعتداء، قطعُ الطرق وجرائم القتل، وغير ذلك ممّا يمكن تلخيصه في المعاصي والتمرّد على الله سبحانه، الذي لا يَعقبه سوى الندم والحسرة والفضيحة والسجن والهوان والخسران.

٥

بينما نجد ملف الفئة الثانية مُفعماً بما يلي:

الجدّ في طلب العلم، الإخلاص في العمل، الشعور بالمسؤولية، احترام الكبار وتوقيرهم، الاستماع إلى النصيحة، الإبداع والمثابرة، مواصلة الدراسات العالية والاشتراك في المسابقات الإقليمية والدولية، وغير ذلك ممّا يؤدّي إلى التقدّم والنجاح والرفعة والسموّ لهم ولمجتمعاتهم.

وطبعاً أنّ سلوكية كلتا الفئتين تكمُن في جذور الأشخاص ومجتمعاتهم، فلابدّ من البحث عنها هناك بُغية علاجها أو دَعمها وتنميتها، إلاّ أنّ الذي يمكن قولهُ بشكلٍ عام هو: أنّ جميع هذه السلوكيات سواء كانت صالحة أم طالحة، تدور حول محور( تلبية الحاجة ) ، فحتّى أولئك الذين سلكوا طريق الانحراف عن قصد أو غير قصد، وعن جهل وغفلة، أو عن إصرار وعناد، إنّما وجدوا أنّ ( تلبية حاجاتهم المادّية والمعنوية ) تكمن في سلوك هذا الطريق، وبذلك سقطوا في الهاوية، وعليه فكلتا الفئتين تسعى في الحقيقة إلى ( تلبية حاجتها في الحياة )، سوى أنّ الفئة الأولى - لأسبابٍ معروفة لها أحياناً - قد تُخطيء الطريق والهدف ويغدو من الصعب عليها الرجوع إلى جادّة الصواب، في حين أنّ الفئة الثانية قد سَلكت طريق الخير والصلاح بفضل ذكائها ومعرفتها، أو بفعل استماعها لنصائح الأهل وتشجيع الأصدقاء الصالحين والمعلّمين المخلصين، فبادرت إلى ( تلبية حاجاتها المعقولة ) وارتقت قِمم التقدّم والنجاح.

الفئةُ السامية

لقد قرأنا في الصُحف الكثير بشأن السلوكيات المريرة والمؤلمة والحوادث الفظيعة للفئة الأولى، إلاّ أنّنا سنغضّ الطرف عنها ونكتفي بذكر كلام للدكتور( الكسيس كاريل ) ، عالِم الأحياء الفرنسي المعروف الحائز على جائزة نوبل في الطب، حيث قال:

٦

( قد يبدو إشباع الشهوة أمراً مهمّاً، إلاّ أنّه ليس هناك ما هو أبعد من المنطق من إهدار الحياة باللهو، إذ ما هي الفائدة التي نرجوها من الحياة إذا كانت مقصورة على الرقص والصخب، وقطع الشوارع بالسيارات )(١) .

وأمّا بالنسبة إلى النجاحات التي حقّقها الشباب المنتسب إلى الفئة الثانية في شتّى المجالات، فهناك أرقام كثيرة نكتفي منها بالإشارة إلى بضعة نماذج حدثت في الأشهر القليلة المنصرمة:

١- في الدورة الحادية والثلاثين للأولمبيّات العلمية الدولية في الكيمياء، التي انعقدت في بانكوك عاصمة تايلند، تمكّن فريق الجمهورية الإسلامية الإيرانية المؤلّف من أربعة طلاب هم:مهدي كهرم، ورضا كلانتري، وبابك غرايلي، وبويا ساجدي، من الحصول على ثلاث مداليات ذهبية نالها الثلاثة المذكورون أوّلاً، ومدالية نُحاسية نالها الأخير، وحازَ الفريق على المرتبة الثالثة من بين مئة وثلاثة وتسعين طالباً من ثلاثة وخمسين بلداً(٢) .

٢ - حازَ فريق الجمهورية الإسلامية الإيرانية المؤلّف من ستّة أشخاص في أولمبيات الرياضيات التي انعقدت في( رومانيا ) ، على مداليتين ذهبيتين وأربع مداليات فضيّة، وارتقى المرتبة السابعة بمئة وتسعة وخمسين نقطة من بين٨٣ بلداً(٣) .

٣ - وفقاً لإعلان ( نادي الطلاّب الشباب ) تمّ اختيار إحسان اردستاني زادة من طهران، وبيام سيفي من تبريز، وبويا قائمي محمّدي من أصفهان، وكاميار راهنما راد من زاهدان، للاشتراك في الدورة الحادية والثلاثين لأولمبيات الفيزياء العالمية التي تقام في انجلترا(٤) .

٤ - في الدورة العالمية السابعة ( الخطوة الأولى نحو جائزة نوبل للفيزياء )، التي تقيمها مؤسّسة الفيزياء لأكاديميّة العلوم في بولندا بمشاركة منظّمة اليونسكو، نالت طالبتان من اعداديات طهران هما: السيدةنازنين آل علي، وزهراء توكّلي شهادة الدبلوم الفخرية؛ إذ استحقّت رسالتهما هذا التقدير من بين إحدى عشرة رسالة أُرسلت من إيران(٥) .

____________________

(١) أسلوب الحياة: ص١٧، الطبعة الخامسة.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٨٧٥، ص٣.

(٣) الصحيفة نفسها: العدد ١٨٨٥، ص٤.

(٤) الصحيفة نفسها: العدد ٢١٥٩، ص١٥.

(٥) صحيفة همشهري: العدد ١٨٧٥، ص٣.

٧

٥ - نالَ ثلاثة مُنتجين للأفلام السينمائية جوائز قيّمة في المهرجان الثالث والخمسين للأفلام السينمائية، المنعقد في مدينة( كان ) الفرنسية، وهو من أقدم المهرجانات السينمائية وأهمّها في العالَم، وكان من بينهم فتاة إيرانية عمرها عشرون عاماً واسمها( سميرة مخملباف ) ، وقد مُنحت جائزة( النخلة الذهبية ) على إنتاجها فيلماً سينمائياً اسمه( اللوحة ) ، وقد قرّرَت أن تضع جائزتها في المتحف، كما أُعطيت بالإضافة إلى ذلك حجاباً وأربعة كُتب في موضوع تاريخ السينما وبطاقة تهنئة، وتمّ استدعاؤها للتحكيم في مهرجانات: موسكو، وجيفوني، والأرجنتين(١) .

ما هي الحاجات؟

إنَّحاجات الإنسان : هي تلك الأمور التي تساعده على بلوغ حياة سليمة وشريفة، وهي على قسمين:مادّية، ومعنوية ، أمّا المادّية فهي من قبيل: الماء، والطعام، والمسكن، والنوم، والدفء، والغريزة الجنسية، وأمّا المعنوية فهي من قبيل: الإيمان بالله، واللجوء إلى مبدأ منيع، وحبّ الآخرين له، والطمأنينة، والأمن، والرُقي، والتكامل الإنساني.

وقد سعى مؤلِّف هذا الكتاب إلى استعراض حاجة الشباب المادّية في أبواب: البلوغ، وعلاقات البنات والأولاد، والإسلام والرياضة، والعمل، والزواج ومشاكله، والانحرافات الجنسية بأسلوبٍ مُبسّط وجذّاب، كما استعرضَ الحاجات المعنوية للشباب في أبواب: لنتعرّف أنفسنا، ولنفهم كلام بعضنا، وابن العصر، والتأثير والتأثّر، والآفات الأخلاقية، وجذوة الأمل، وبارقة النجاة، وأبطال الإيمان، وعُقدة النقص، ووَضَعَ العلاجات اللازمة لها.

____________________

(١) صحيفة الانتخاب: العدد ٣٢٣ و٣٣٠، ص١٠.

٨

الحاجةُ إلى الإيمان

فيما يرتبط بموضوع الحاجة إلى الإيمان وأثرهُ البنّاء في الحياة، مضافاً إلى ما سنجده في طيّات هذا الكتاب من معارف إسلامية هامّة، سندرك حقيقة لا يمكن إنكارها وهي: أنّ انعدام الإيمان يساوي الموت، وقد ذكر( وليم جيمس ) أستاذ جامعة( هارفارد ) قبل سنوات: ( إنّ الإيمان من القوى التي تساعد الإنسان على الحياة والتي يعدُّ فقدانها بمثابة الموت والفناء )(١) .

كما صرّح رئيس لجنة أمور الشباب في مجلس النوّاب في روسيا - بسبب انعدام الإيمان والمشاكل الثقافية والاقتصادية والمعنوية - بأنَّ: وَضع الشباب في البلاد يعدّ ( كارثة وطنية )، وأبدى مخاوفه تجاه مستقبل جيل الشباب الذي يُنذر بالخطر(٢) !

وقد نَقلت المحطّات التلفزيونية في الغرب إحصائيّات مُخيفة حول تأثير انعدام الأخلاق في العالم، الذي يُهدّد جيل الشباب في أكثر من ٧٢ بلداً(٣) .

فعلينا أن نستفيد من تعاليم الإسلام التي صرّح بها قبل قرون بُغية رفع حاجتنا الحيويّة إلى الإيمان، وقد أفاقت بعض أجزاء العالَم من سُباتها الراهن، إذ نقرأ في بعض الصُحف ما يلي:( لقد ألزمَت ولاية فرجينيا - في مرسومٍ لها - جميع المدارس الحكومية فيها، بالسكوت والدعاء دقيقة واحدة في مستهلّ كلّ يوم!) (٤) .

____________________

(١) كيف نتغلّب على الاضطراب والقلق: ص٢٢٧، الطبعة السادسة عشرة.

(٢) صحيفة همشهري: العدد ١٥٦٨، ص١٦.

(٣) صحيفة القدس: العدد ٣٢٦٥، ص٦.

(٤) مجلّة زن روز ( المرأة العَصرية ): العدد ١٧٤٢، ص٤٢.

٩

ولذا أوصي الشباب الأعزّاء بقراءة هذا الكتاب من البداية إلى النهاية في جوٍّ هادئ، قراءةً متأنية والاطّلاع على مضامينه النفسية التي تنتهي إلى اكتشاف أنفسنا وتعيد لنا هويتنا، وأن يجعلوا من الإرشادات الواردة فيه مشعلاً يضيء لهم طريق الحياة السليمة والشريفة.

قم: أحمد الصادقي الأردستاني

١٥ / خرداد / ١٣٧٩

١٠

(١)

لنتعرَّف أنفسَنا

حينما ندخل في خضمّ الاضطراب والقلق الذي يثيره إعصار مرحلة الشباب، تتجلّى لنا أهميّة التعرّف على النفس.

ولكن لماذا نستعرض( معرفة النفس ) في مرحلة تُعرّض سفينة الشباب للعواصف الهائجة حيث الاضطراب والفزع؟ سبب ذلك: أنّ القابليات المُفعمة والمبدعة لدى الشاب تمنحه في ظلّ ( فورة الشباب ) الجرأة على اتخاذ القرار، وعقد العزم بإرادة حديديّة لكبح رَغَباته ونَزَواته الجامحة، وبذلك يقود سفينة وجوده - بعد تعرّضها للعواصف - إلى ( ساحل الأمان )، وأن يغوص - بدراية ووعي كامل - في أعماق وجوده للتعرّف على نفسه.

ولكن ما هو المراد من( معرفة النفس ) ؟ المراد: هو تحديد القابليات والكفاءات الكامنة في وجودنا بُغية استثمارها، وهذه العملية تكون في أوّل أمرها مصحوبة بالصِعاب، إلاّ أنّه كما قلنا: فإنّ ( فَورة الشباب ) وما يتمتّع به الشابّ من جرأة وإرادة راسخة تُعينه على تذليل هذهِ الصعاب، بل إنّها تُمكّنه من صنع المستحيل.

١١

أجل، ليس هناك مَن هو أقرب إلى أنفسنا وأعلم بذواتنا منّا، وعليه يتعيّن علينا أن نبدأ بأنفسنا في كلّ خطوة نخطوها، وعند وضع الدواء لأيّ داء.

قال الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) في ما يُنسب إليه:

دواؤك فيك وما تشعرُ

وداؤك منك وتستنكرُ

وتَحسبُ أنّك جرم صغيرٌ

وفيكَ انطوى العالَم الأكبرُ

وأنتَ الكتاب المبين الذي

بأحرفه يَظهر المضمرُ(١)

لقد صرّح الإمام ( عليه السلام ) بهذه الحقائق العلمية قبل مئات السنين، ولكن ما هو الداء؟ وما هي طُرق علاجه؟ أو بعبارة أفضل: ما هي الأمراض؟ وما هي العلاجات؟

إنَّ أوّل الأمراض - الذي يبدو صغيراً في البداية - هو: الجهل، والشعور بالعجز، والقلق، وعدم الالتفات إلى القدرات الذاتية، والغفلة عن القوى الفيزيقية، ممّا يؤدّي إلى الانحراف عن جادّة الصواب في مسار الحياة، ويتعيَّن علينا في مجال معرفة النفس تحديد هذه الأمراض، والمبادرة إلى علاجها عن طريق التعلّم، والاعتماد على النفس، ومعرفة القابليات المعنوية والماديّة.

ولكن كما قلنا: فإنّ هذا النوع من ( معرفة النفس ) صعبٌ وسهل في آنٍ واحد، فهو صعب؛ لأنّه يستدعي جهوداً كثيرة، وسهلٌ؛ لأنّ الله تعالى قد منحَ الشاب قلباً طاهراً يتقبّل الحقائق والأفكار السليمة والخيّرة بسهولة، وللشابّ في هذا المجال تأثير حاسم ومصيري.

قال الإمام علي ( عليه السلام ) في كتابٍ أرسله لابنه الإمام الحسن ( عليه السلام ):( وإنّما قلب الحَدَث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قَبَلته، فبادرتُك بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لُبّك ) (٢) .

____________________

(١) الديوان المنسوب للإمام علي ( عليه السلام ): ص٧٥.

(٢) نهج البلاغة: تحقيق صبحي الصالح، الكتاب رقم ٣١، ص١٣٩٣.

١٢

وعليه: فمن اللازم على كلّ شابّ - من خلال الالتفات إلى هذه الأرضية النفسية المساعِدة - أن يتعرّف الجهات العاطفية، والسجايا الأخلاقية، والجذور الوراثية، والقابليات المادّية والمعنوية في نفسه، لكي يستثمرها بالشكل المناسب.

قال الدكتورجون لوك آفيبوري الكاتب الانجليزي الشهير:( سُئل أحد العظماء عن أصعب الأمور وأيسرها، فقال في الجواب: إنّ أصعب الأمور هو أن يتعرّف المرء على نفسه، وأيسرها اقتفاء عيوب غيره ) (١) .

السفرُ إلى الذات

قالهـ. موشيه العالِم الفرنسي: على كلِّ مَن يريد إحراز هويته أن يتعرّف نفسَه بشكل وجداني، وأن يُحدّد مواطن الضعف والقوّة فيها، وأن يسعى إلى ترميم مواطن الضعف والنقص في نفسه، ولا يتأتّى ذلك إلاّ لذوي ( الأرواح الشجاعة )، إذ ينفردون في ساعاتٍ من التفكير والتأمّل، وقد وصفهم( فيكتور هيجو ) بقوله: يغوصون في ظلمات الذات بُغية اكتشافها(٢) .

وقالج. بايو : ما أكثر الذين أعرفهم من الشباب المُبدعين الذين انحرفوا عن المسار الصحيح بسبب عدم معرفتهم لأنفسهم، وتأثّرهم بالإيحاءات الخارجية، فلا يبادرون إلى العمل إلاّ بفعل الضغوط، حيث يرزحون تحت وطأة عذاب روحي سَلَبهم النشاط والحيويّة اللازمة للعمل الخلاّق، واحتواهم يأس لا سبيل لهم إلى التخلّص منه(٣) .

وبعد أن تحدّثنا عن ضرورة( معرفة النفس ) يجدر بنا دراسة موضوعين مهمّين آخرين بهذا الشأن:

____________________

(١) خلاصة الأفكار: السيّد يحيى البرقعي، ٢ / ٢٣٤.

(٢) تنمية الذهن: ترجمة أحمد آرام، ص١٢٢.

(٣) تنمية الذهن: ترجمة أحمد آرام، ص١٨٤.

١٣

الموضوع الأوّل:

إنّ الإنسان وإن أمكنهُ من خلال معرفته لوضع أسرته، وعمره، وعمله، والبقعة التي يقطن فيها أن يتعرّف إلى حدّ كبير على نفسه، إلاّ أنَّ هناك أيضاً قاعدة عامّة ومهمّة جدّاً تبيّن حقائق عميقة وكثيرة حول الشخصية، وما إذا كانت صالحة أو طالحة.

قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) في بيان الميزان الذي يتمّ على أساسه تمييز الحقّ من الباطل، والخير من الشر:( إذا أردتَ أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يُحبّك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع مَن أحبَّ ) (١) .

الموضوع الثاني:

إنّ الذي يرتقي المرتبة العالية في معرفة النفس سيحصل على النتائج الآتية:

١ - يربأ بنفسه عن مشاعر الاستعلاء والأنانيّة، ويحبّ أبناء جلدته.

٢ - يتعرّف مواطن الضعف والقوّة في نفسه ويرى لنفسه قيمة وجودية، ويكون خُلقه التواضع كما قال الإمام علي ( عليه السلام ).

٣ - إنّ معرفة النفس تؤدّي إلى معرفة قدرها وحدّها وتستتبع نزول رحمة الله، قال الإمام علي ( عليه السلام ):( رَحمَ الله امرأً عَرفَ قَدره ولم يتعدّ طوره ) (٢) .

٤ - إنّ الذي يجهل قيمة نفسه يتجاهل قيمة مَن سواه(٣) .

٥ - إنّ الذي لا يتعرّف نقاط ضعفه وعيوبه يكون قد ارتكب أعظم الذنوب(٤) .

____________________

(١) أصول الكافي: ٢ / ١٠٣، الحديث رقم ١١.

(٢) أصول الكافي: ١ / ١٧٦.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٢٩٠.

(٤) إرشاد المفيد: ص١٥٨.

١٤

٦ - إنّ أفضل المعرفة، معرفة الإنسان نفسه(١) .

٧ - قال الإمام علي ( عليه السلام ):( مَن عَرف نفسهُ، فقد انتهى إلى غاية كلّ معرفة وعِلم ) (٢) .

٨ - قال النبيّ الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ):( مَن عَرف نفسه، فقد عَرف ربّه ) (٣) .

وعلينا أن نُدرك أنّ هناك ارتباطاً دقيقاً جدّاً بين( معرفة النفس ) و( معرفة الله ) ، حتّى أنّ الله تعالى قد جسّد آثار قدرته وحكمته الهائلة في نفس الإنسان في ثلاثة مواطن من القرآن الكريم، ودعا الناس إلى التدبّر في ذلك، وذمّ أولئك الذين لا يتفكّرون في أسرار أنفسهم(٤) .

تقدّم أن قلنا: إنّ ( معرفة النفس ) في غاية الصعوبة، إلاّ أنّها ليست مستحيلة، ولكي نتغلّب على هذه الصعوبة سنتعرّض إلى ذِكر مانِعَين كبيرين يعترضان طريق معرفة النفس:

١ - الغفلةُ والجهل:

يستغرق البعض أحياناً في النظر إلى الخارج، فينظرون إلى كلّ شيء وكلّ شخص، لكنّهم يغفلون عن أنفسهم وما فيها من قابليات وطاقات صالحة وخيّرة، وبذلك يفقدون ثروات مادّية ومعنوية هائلة، بل أحياناً لا يمكن تدارك الضرر الناجم عن ذلك.

ومن هنا تبدو أهميّة التدقيق في كلام( وليم جيمس ) ، الفيلسوف الشهير والأستاذ في جامعة( هارفارد ) إذ قال: لو قِسنا أنفسنا على ما نحن عليه، لوجدنا أنّنا أهدرنا نصف وجودنا! إذ إنّنا لا نستثمر سوى جزءٍ ضئيل من قوانا الجسدية والعقلية!

____________________

(١) غُرر الحِكَم: ١ / ٣١٩.

(٢) غُرر الحِكم: ص٢٣٢، الحديث ٤٦٣٨.

(٣) بحار الأنوار: ٢ / ١٣٢.

(٤) سورة فصّلت: الآية ٥٣، سورة الروم: الآية ٨، سورة الذاريات: الآية ٢١.

١٥

 وبكلمةٍ أوضح: إنّ الإنسان قد حصرَ نفسه في زاوية ضيّقة، بإهماله استثمار الطاقات الهائلة الكامنة في وجوده(١) !

وقد قال العالِم الشهير الدكتورآفيبوري : ( للأسف الشديد علينا أن نعترف بجهلنا أسرار الكائنات والوجود، فإنّنا لا زلنا نجهل حتّى أنفسنا؟ وماهيّةَ علاقتنا بالطبيعة.. أجل، نحن لا نعلم شيئاً، لذا يتحتّم علينا مؤقّتاً أن نضع أمام كلّ شيء علامة استفهام(٢) .

وقال( كاريل ): ( إنّ مسؤوليّتنا الأساسية في الحياة لا تنحصر بمعرفة الأشياء المُبهمة الموجودة في الفواصل البعيدة عنّا، وإنّما الذي يجب علينا بالدرجة الأولى هو اكتشاف الأمور الواقعة بالقرب منّا )(٣) .

وعلى كلّ حال، يتعيّن علينا لكي نرفع غشاوة الجهل والغفلة - مضافاً إلى توظيف الفكر والتعقّل ورفع المستوى العلمي - أن نُكثر من الدعاء وتوثيق الصلة بالله تعالى.

وقد ذَكر العالِم الفرنسي الشهير الدكتور( الكسيس كاريل ) ، مؤلِّف كتاب( الإنسان ذلك المجهول ) ، والحائز على جائزة ( نوبل ) في الطب: ( إنّ للدعاء والعبادة أبلغ الأثر في بعث القوّة في وجود الإنسان، ويمكن تشبيه هذا الأثر بجاذبيّة الأرض فهو حقيقي ومحسوس )(٤) .

٢ - اتّباع الهوى

إنّ اتّباع الهوى وإرخاء حبل الشهوات والميول، يُعدُّ من عوامل جهل النفس ومانعاً في طريق معرفتها، والاستفادة من القابليات والكفاءات التي أودَعها الله فيها، ويندُر مَن يجهل الأضرار الجسيمة الناجمة عن اتّباع الشهوات، ولأجل أن

____________________

(١) كيف نتغلّب على الاضطراب والقلق: ص١٨٦.

(٢) البحث عن السعادة: ص٧٤ و٢٤٩.

(٣) البحث عن السعادة: ص٣٦.

(٤) البحث عن السعادة: ص٥٧ و٢٢٩.

١٦

نتعرّف مسؤوليّتنا في معرفة النفس بشكلٍ أكبر بُغية اتّخاذ القرارات اللازمة، لنَصغِ إلى الكلمات العميقة التي قالها أمير المؤمنين ( عليه السلام ):( إنّ الله عزّ وجل ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما، فمَن غَلبَ عقلهُ شهوته فهو خيرٌ من الملائكة، ومَن غَلبت شهوتهُ عقلهُ فهو شرٌّ من البهائم ) (١) .

ومن هنا يجدر بالإنسان حينما يقف على مُفترق طريق العقل والشهوة، أن يكبح جُماح شهوته الجنسية غير المشروعة؛ لأنّها تقف حائلاً دون معرفة النفس والتكامل الإنساني، وعليه أن يرفع من مستواه الفكري والعقلي؛ لأنّ قيمة الإنسان تكمُن في عقله وفكره، إلاّ أنّ اختيار طريق العقل والتديّن باهض الكلفة وهو بحاجة إلى وعي ومراقبة دقيقة وجهدٍ حثيث.

ذَكر الدكتور( جون لوك آفيبوري ) الذي قضى شطراً من حياته في حقل التبشير: ( ما أحرى الشباب أن يقضوا ربيع حياتهم في ظلّ العفاف والفضيلة، ولكن هيهات؛ فطريق الفضيلة صعودي بينما طريق الرذيلة نزولي وانسيابي، فالذي يتّجه نحو الفضيلة يتقدّم بخطوات بطيئة، في حين أنّ الذي يسلك طريق الرذيلة يتقدّم بخطوات رشيقة وخفيفة سرعان ما تقذف به في هوّة الفساد.

فالذي يريد أن يحيا حياة عفيفة وطاهرة لا تشوبها الرذيلة، عليه أن يراقب نفسه وأن لا يرفع عينه عنها، كما يصنع مَن يُحاذرُ لصّاً، وعلى الشباب الذين يرومون النجاح في مُعترك الحياة ونيل السعادة، أن يتجنّبوا هاوية الفساد والانحطاط، وأن لا يقتربوا منها؛ لأنّ النفس تهوى والهوى مَهلكها، وقد يغفل الشابّ لحظة واحدة فتزلّ به القدم ليسقط في أودية الضلالة، ولا يكون نصيبه سوى الحسرة والخسران )(٢) .

____________________

(١) عِلل الشرائع: الشيخ الصدوق ١ / ١٥.

(٢) البحث عن السعادة: ص٢٢٩ - ٢٣٠.

١٧

قال الإمام علي ( عليه السلام ):( كم من شهوةٍ ساعة أورثت حُزناً طويلاً ) (١) .

وقد شاهدنا وقرأنا في الصُحف نماذج كثيرة عن هذا النوع من الزلل والندم، فيجدر بنا قبل السقوط في هذهِ المهاوي وعظّ أصابع الندم أن نراقب أنفسنا، ونُدقّق في الأمور التي ذكرناها في هذا الموضوع من هذا الكتاب.

____________________

(١) وسائل الشيعة: ١١ / ١٦٤، دار إحياء التراث العربي.

١٨

(٢)

البلوغُ وآثاره

إنّ البلوغ يعني الوصول، بمعنى أنّ الإنسان حينما يجتاز مرحلة الطفولة ويدخل في مرحلة الشباب - التي هي بداية صيرورة الذَكر رجلاً، والأنثى امرأة - يكون بالغاً وواصلاً لهذهِ المرحلة، ولذلك تسمّى هذهِ المرحلة بـ( البلوغ ) .

هناك فارق يسير بين تعريف علماء الأحياء للبلوغ وبين تعريف علماء الدين له؛ وذلك لأنّ علماء الأحياء يأخذون بنظر الاعتبار الخصائص العلمية في هذا المجال، ومن هنا سنتطرّق إلى كِلا التعريفين وبيان علائم البلوغ فيهما.

يرى علماء الأحياء أنّ الفترة الزمنية ما بين ١٢ إلى ١٨ سنة من العمر هي مرحلة اليافِعين، وأنّ الفترة ما بين ١٨ إلى ٢٥ هي مرحلة الشباب، وقد تزيد هذه الفترة أو تنقص نتيجة للعوامل الوراثية والاجتماعية والجغرافية.

وطبعاً لا يخفى أنّ الإنسان يمرّ في حياته بمراحل مختلفة من البلوغ، منها:البلوغ الجنسي، والبلوغ الفكري، والبلوغ الاجتماعي، إلاّ أنَّ ما نتوخّاه على وجه العموم في هذا البحث هو:البلوغ الجنسي ، ولكنّنا أيضاً لا نجد محيصاً من التطرّق إلى الأنواع الأخرى من البلوغ.

١٩

وعلى كلّ حال، فإنّ علماء الأحياء يُحدّدون سنّ البلوغ بشكلٍ عام بين سن ١١ إلى ١٤ في الفَتَيات، وبين سن ١٥ إلى ١٦ في الفتيان، وأبرز علامات البلوغ في الفتيات: الطمث والحيض، وفي الأولاد: خروج المَني من الجهاز التناسلي.

إلاّ أنّنا سنتعرّض إلى علائم وخصوصيات البلوغ ومرحلة الشباب وما قبلها، بشيء من التفصيل من خلال القسمين الآتيين:

١ - العلاماتُ الفيزيقيّة

إنّ أهمّ التغيّرات الجسدية والفيزيقيّة التي تَحدث عند البلوغ وتستمرّ بالظهور بعد ذلك، ما يلي:

١- تبدأ غدّة الهيبوفيز الواقعة أسفل المخ وسائر الغُدد الداخلية الأخرى بالعمل تلقائياً، فتقوم بتنشيط الهرمونات الجنسية لدى الفتيان والفَتيات (١).

٢ - تتّخذ الأجهزة التناسلية عند الفتيان والفتيات حجماً أكبر.

٣ - تَخشّن العظام وهيكل الجسد وخاصّةً الأرجل.

٤ - تَبدأ قامة الشباب بالنموّ السريع ويتّخذ قواماً نحيفاً.

٥ - يثقل الوزن خصوصاً لدى الفَتيات.

٦ - يخشُن الصوت ويشتدّ عند الفتيان، وأمّا في الفتيات فلا يحصل مثل هذا التغيير إلاّ بنحوٍ يسير، بل قد يغدو أكثر نعومة(٢) .

٧ - بروز الحنجرة وتضخّمها(٣) .

٨ - يفقد القوام رشاقته ويبدو غير متناسق، إلاّ أنّ هذه الظاهرة لا تدعو إلى القلق؛ لأنّها تزول مع الوقت(٤) .

____________________

(١) فَسلجة الغرائز: ص٢٥.

(٢) موريس دبس، ماذا نعلم؟ البلوغ: ص٤١ إلى ٤٤، نقلاً عن ترجمة إسحاق لالة زاري.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

أي فئتين من المؤمنين وقع القتال بينهما، وأنّه لا ينبغي لأحد أن يفضّل أي فئة منهما على الأُخرى، حتّى لا تحدث فتنة. (1)

2 - حرّمت الإباضيّة الزواج بين من ربطت بينهما علاقة إثم، وقد كانوا في تحريمهم لهذا الزواج يستندون إلى روح الإسلام الّذي يحارب الفاحشة. (2) وقد انفردوا به من بين سائر المذاهب.

3 - منعت الإباضيّة المسلم من إراقة ماء الوجه والتعرّض لمذلّة السؤال؛ فإذا هانت عليه كرامته، وذهب يسأل الناس الزكاة، حَرُم منها عقاباً له على هذا الهوان، وتعويداً له على الاستغناء عن الناس، والاعتماد على الكفاح. (3)

مؤسّس المذهب الإباضي ودعاته في العصور الأُولى:

قد تعرّفت على عقائد الإباضيّة، فحان البحث عن أئمّتهم ودعاتهم في العصور الأُولى.

1 - عبد الله بن إباض، مؤسّس المذهب:

هو عبد الله بن إباض، المقاعسي، المري، التميمي، ابن عبيد، ابن مقاعس، من دعاة الإباضيّة، بل هو مؤسّس المذهب.

____________________

(1) انظر: الإباضيّة في مصر والمغرب: 61.

(2) الإباضيّة في موكب التاريخ: 111 - 112.

(3) الإباضيّة في موكب التاريخ: 116.

١٤١

قد اشتهرت هذه الفِرقة بالإباضيّة من أوّل يوم، وهذا يدلُّ على أنّه كان لعبد الله بن إباض، دور في نشوء هذه الفِرقة وازدهارها.

2 - جابر بن زيد العماني، الأزدي:

جابر بن زيد، أبو الشعثاء، الأزدي، اليحمدي، البصري، مشهور بكنيته، فقيه الإباضيّة، مات سنة 93هـ، ويقال: مائة. يروي عن عبد الله بن عبّاس.

3 - أبو عبيدة، مسلم بن أبي كريمة (المتوفّى حوالي 158هـ):

مسلم بن أبي كريمة التميمي، توفّي في ولاية أبي جعفر المنصور المتوفّى سنة 158هـ، قال عنه ابن الجوزي: مجهول.

أخذ العلم عن جابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، وضمار السعيدي، وجعفر السمّاك وغيرهم.

حمل العلم عنه الربيع بن حبيب الفراهيدي؛ صاحب المسند، وأبو الخطّاب المعافري، وعبد الرحمن بن رستم، وعاصم السدراتي، وغيرهم.

4 - أبو عمرو، ربيع بن حبيب الفراهيدي:

هو من أئمّة الإباضيّة، وهو صاحب المسند المطبوع، ولم نجد له ترجمة وافية في كتب الرجال لأهل السنّة، ويُعدّ في طليعة الجامعين للحديث والمصنّفين فيه.

١٤٢

5 - أبو يحيى عبد الله بن يحيى الكندي:

عبد الله بن يحيى بن عمر الكندي، من حضرموت، وكان قاضياً لإبراهيم بن جبلة؛ عامل القاسم بن عمر على حضرموت، وهو عامل مروان على اليمن، خرج بحضرموت والتفَّ حوله جماعة عام 128هـ، وبسط سيطرته على عُمان واليمن والحجاز، وفي عام 130هـ جهّز مروان بن محمد جيشاً بقيادة عبد الملك بن محمد بن عطيّة السعدي، فكانت بينهم حرب عظيمة، قُتل فيها عبد الله بن يحيى وأكثر من معه من الإباضيّة، ولحق بقيّة الخوارج ببلاد حضرموت.

دول الإباضيّة:

قد قام باسم الإباضيّة، عدد من الدول في أربعة مواضع من البلاد الإسلاميّة:

1 - دولة في عُمان، استقلّت عن الدولة العباسيّة في عهد أبي العباس السفّاح، سنة 132هـ، ولا تزال إلى اليوم.

2 - دولة في ليبيا، سنة 140هـ، ولم تعمّر طويلاً؛ فقد انتهت بعد ثلاث سنوات.

3 - دولة في الجزائر، قامت سنة 160هـ، وبقيت إلى حوالي 190هـ، ثُمَّ قضت عليها الدولة العبيديّة.

١٤٣

4 - دولة قامت في الأندلس، ولا سيّما في جزيرتي ميورقة ومينورقة، وقد انتهت يوم انتهت الأندلس.

هذه هي الإباضيّة، وهذا ماضيهم وحاضرهم، وقد قدّمنا إليك صورة موجزة من تاريخهم ونشأتهم وشخصيّاتهم وعقائدهم.

١٤٤

13

الشِّيعة الإماميّة

الشّيعة لغة واصطلاحاً:

الشيعة لغة هم: الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا، وربّما يطلق على مطلق التابع، قال سبحانه: ( فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّه ) (1) ، وقال تعالى: ( وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (2) .

وأمّا اصطلاحاً، فلها إطلاقات عديدة، بملاكات مختلفة:

1 - الشيعة: من أحبَّ عليّاً وأولاده باعتبارهم أهل بيت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الّذين فرض الله سبحانه مودّتهم، قال عزَّ وجلَّ: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (3) . والشّيعة بهذا المعنى تعمّ كلّ المسلمين، إلاّ النواصب؛ بشهادة أنّهم يصلّون على نبيّهم وآله في صلواتهم وأدعيتهم، ويتلون الآيات النازلة في حقّهم صباحاً ومساءً، وهذا هو الإمام الشافعي يصفهم بقوله:

يـا أهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

____________________

(1) القصص: 15.

(2) الصافات: 83 - 84.

(3) الشورى: 23.

١٤٥

كـفاكم مـن عـظيم الشأن أنّكم

مَن لم يصلّ عليكم لا صلاة له (1)

2 - من يفضّل عليّاً على عثمان، أو على الخلفاء عامّة، مع اعتقاده بأنّه رابع الخلفاء، وإنّما يقدّم؛ لاستفاضة مناقبه وفضائله عن الرسول الأعظم، والّتي دوّنها أصحاب الحديث في صحاحهم ومسانيدهم.

3 - الشيعة من يشايع علياً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول وأئمة الناس بعده، نَصَبهم لهذا المقام بأمر من الله سبحانه، وذكر أسماءهم وخصوصيَّاتهم. والشيعة بهذا المعنى هو المبحوث عنه في المقام، وقد اشتُهر بأنّ عليّاً هو الوصيّ حتّى صار من ألقابه، وذكره الشعراء بهذا العنوان في قصائدهم، وهو يقول في بعض خطبه:

«لا يقاس بآل محمد من هذه الأُمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقِّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة». (2)

ومُجمل القول: إنّ هذا اللفظ يشمل كلَّ من قال إنّ قيادة الأُمّة لعليّ بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإنّه يقوم مقامه في كلِّ ما يمتُّ إليه، سوى النبوّة ونزول الوحي عليه، كلّ ذلك بتنصيص من الرسول.

وعلى ذلك، فالمقوّم للتشيّع، وركنه الرّكين، هو القول بالوصاية والقيادة، بجميع شؤونها، للإمام (عليه السّلام)، فالتشيّع هو الاعتقاد بذلك، وأمّا ما سوى ذلك، فليس مقوّماً لمفهوم التشيّع، ولا يدور عليه إطلاق الشيعة.

____________________

(1) الصواعق: 148.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 2.

١٤٦

الفصل الأوّل:

مبدأ التشيّع وتاريخ تكوّنه

زعم غير واحد من الكتّاب القدامى والجدد، أنّ التشيّع كسائر المذاهب الإسلاميّة، من إفرازات الصراعات السياسيّة، وذهب بعض آخر إلى القول إنّه نتيجة الجدال الكلامي والصراع الفكري، فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلاميّة، وكأنّهم يتلقّون التشيّع كظاهرة طارئة على المجتمع الإسلامي، ويظنّون أنّ القطاع الشيعي من جسم الأُمّة الإسلاميّة، باعتباره قطاعاً تكوّن على مرّ الزمن؛ لأحداث وتطورات سياسيّة أو اجتماعيّة أو فكريّة، أدَّت إلى تكوين ذلك المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير، ثُمَّ اتسع ذلك الجزء بالتدريج.

وبعد أن افترض هؤلاء أنّه أمر طارئ، أخذوا بالفحص والتفتيش عن علّته أو علله، فذهبوا في تعيين المبدأ إلى كونه ردّة فعل سياسيّة أو فكريّة، ولكنّهم لو كانوا عارفين أنّ التشيّع وُلِد منذ عهد النبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ لَمَا تسرّعوا في إبداء الرأي في ذلك المجال، ولعلموا أنّ التشيّع والإسلام وجهان لعملة واحدة، وليس للتشيّع تاريخ ولا مبدأ، سوى تاريخ الإسلام ومبدئه، وانّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو الغارس لبذرة التشيّع في صميم الإسلام، من أوّل يوم أمَر بالصدع وإظهار الحقيقة، إلى أن لبىَّ دعوة ربه.

١٤٧

فالتشيّع ليس إلاّ عبارة عن استمرار قيادة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد وفاته، عن طريق من نصبه إماماً للناس وقائداً للأُمّة، حتّى يرشدها إلى النهج الصحيح والهدف المنشود، وكان هذا المبدأ أمراً ركّز عليه النبيّ في غير واحد من المواقف الحاسمة، فإذا كانّ التشيع متبلوراً في استمرار القيادة بالوصيّ، فلا نجد له تاريخاً سوى تاريخ الاسلام، والنصوص الواردة عن رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

والشيعة هم المسلمون من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان في الأجيال اللاحقة، هم الّذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة، ولم يغيّروه، ولم يتعدّوا عنه إلى غيره، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) .

ففزعوا في الأُصول والفروع إلى عليّ وعترته الطاهرة، وانحازوا عن الطائفة الأُخرى؛ الّذين لم يتعبدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة؛ حيث تركوا النصوص وأخذوا بالمصالح.

إنّ الآثار المرويّة في حق شيعة الإمام عن لسان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ترفع اللّثام عن وجه الحقيقة، وتُعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصيّ، فكانوا معروفين بشيعة عليّ في عصر الرسالة، وأنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون، وإن كنت في شك من هذا الأمر، فسأتلو عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام.

____________________

(1) الحجرات: 1.

١٤٨

1 - أخرج ابن مردويه، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟، قال: يا عائشة، أما تقرأين ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) (1) . (2)

2 - أخرج ابن عساكر، عن جابر بن عبد الله، قال: كنّا عند النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأقبل عليّ، فقال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «والّذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، ونزلت: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) ، فكان أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البريّة. (3)

3 - أخرج ابن عدي، عن ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة، راضين مرضيّين». (4)

4 - أخرج ابن مردويه، عن عليّ، قال: قال لي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ألم تسمع قول الله: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محج<لين». (5)

5 - روى ابن حجر في صواعقه، عن أُم سلمة: كانت ليلتي، وكان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندي، فأتته فاطمة، فتبعها عليّ (رضي الله عنه)، فقال النبيّ: «يا عليّ أنت وأصحابك في الجنّة، أنت وشيعتك في الجنة». (6)

____________________

(1) البينة: 7.

(2 و3 و4 و5) الدر المنثور: 6/589.

(6) الصواعق: 161.

١٤٩

6 - روى أحمد في المناقب: إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لعليّ: «أمَا ترضى أنّك معي في الجنّة، والحسن والحسين وذريّتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذريّتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا». (1)

7 - أخرج الديلمي: (يا عليّ، إنّ الله قد غفر لك ولذريّتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك، فابشر إنّك الأنزع البطين). (2)

8 - روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «يدخلون من أُمّتي الجنة سبعون ألفاً لا حساب عليهم»، ثُمَّ التفت إلى عليّ، فقال: «هم شيعتك وأنت أمامهم». (3)

إلى غير ذلك من الروايات الّتي تُعرب عن أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان متميّزاً بين أصحاب النبيّ؛ بأنّ له شيعة وأتباعاً، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها، في حياة النبيّ وبعدها.

الشيعة في كلمات المؤرّخين وأصحاب الفِرق:

قد غلب استعمال الشيعة بعد عصر الرسول، تبعاً له فيمن يوالي عليّاً وأهل بيته، ويعتقد بإمامته ووصايته، ويَظهر ذلك من خلال كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات؛ نشير إلى بعضها:

1 - روى المسعودي في حوادث وفاة النبيّ: إنّ الإمام عليّاً أقام ومن

____________________

(1) الصواعق: 161.

(2) المصدر نفسه.

(3) مناقب المغازلي: 293.

١٥٠

معه من شيعته في منزله، بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر. (1)

2 - وقال النوبختي (المتوفّى 313هـ): إنّ أوّل الفِرق، الشيعة؛ وهم فِرقة عليّ بن أبي طالب، المسمّون شيعة عليّ في زمان النبيّ وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه، والقول بإمامته. (2)

3 - وقال أبو الحسن الأشعري: وإنّما قيل لهم: الشيعة، لأنّهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). (3)

4 - ويقول الشهرستاني: الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً في الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّةً. (4)

5 - وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول الله وأحقّهم بالإمامة، وولْده من بعده. (5)

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، ممّا جاء في كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات، تُعرب عن أنّ لفيفاً من الأُمّة في حياة الرسول وبعده، إلى عصر الخلفاء وبعدهم، كانوا مشهورين بالتشيّع لعليّ، وأنّ لفظة الشيعة ممّا نطق بها الرسول وتبعته الأُمّة عليه.

____________________

(1) الوصيّة: 121.

(2) فِرق الشيعة: 15.

(3) مقالات الإسلاميّين: 1/65.

(4) الملِل والنحل: 1/131.

(5) الفصل في الملِل والنحل: 2/113.

١٥١

رواد التشيع في عصر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

وإليك أسماء لفيف من الصحابة الشيعة المعروفين بالتشيّع:

1 - عبد الله بن عبّاس. 2 - الفضل بن العبّاس. 3 - عبيد الله بن العبّاس. 4 - قثم بن العبّاس. 5 - عبد الرحمن بن العبّاس. 6 - تمام بن العبّاس. 7 - عقيل بن أبي طالب. 8 - أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. 9 - نوفل بن الحرث. 10 - عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. 11 - عون بن جعفر. 12 - محمد بن جعفر. 13 - ربيعة بن الحرث بن عبد المُطّلب. 14 - الطفيل بن الحرث. 15 - المغيرة بن نوفل بن الحارث. 16 - عبد الله بن الحرث بن نوفل. 17 - عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث. 18 - العبّاس بن ربيعة بن الحرث. 19 - العبّاس بن عُتبة بن أبي لهب. 20 - عبد المُطّلب بن ربيعة بن الحرث. 21 - جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.

هؤلاء من مشاهير بني هاشم، وأمّا غيرهم، فإليك أسماء لفيف منهم:

22 - سلمان المحمّدي. 23 - المقداد بن الأسود الكندي. 24 - أبوذر الغفاري. 25 - عمّار بن ياسر. 26 - حذيفة بن اليمان. 27 - خزيمة بن ثابت. 28 - أبو أيّوب الأنصاري. 29 - أبو الهيثم مالك بن التيهان. 30 - أُبي بن كعب. 31 - سعد بن عبادة. 32 - قيس بن سعد بن عبادة. 33 - عدي بن حاتم. 34 - عبادة بن الصامت. 35 - بلال بن رباح الحبشي. 36 - أبو رافع مولى رسول الله. 37 - هاشم بن عتبة. 38 - عثمان بن حُنيف. 39 - سهل بن حُنيف. 40 - حكيم بن جبلة العبدي. 41 - خالد بن سعيد بن العاص. 42 - أبو الحصيب الأسلمي. 43 - هند بن أبي هالة

١٥٢

التميمي. 44 - جعدة بن هبيرة. 45 - حجر بن عدي الكندي. 46 - عمرو بن الحمق الخزاعي. 47 - جابر بن عبد الله الأنصاري. 48 - محمّد بن أبي بكر. 49 - أبان بن سعيد بن العاص. 50 - زيد بن صوحان الزيدي.

هؤلاء خمسون صحابيّاً من الطبقة العليا للشيعة، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيّعهم، فليرجع إلى الكتب المؤلَّفة في الرجال.

١٥٣

الفصل الثاني:

شبهات حول تاريخ الشيعة

قد تعرّفت على تاريخ التشيع، وأنّه ليس وليد الجدال الكلامي، ولا إنتاج السياسات الزمنيّة؛ وإنّما هو وجه آخر للإسلام، وهما وجهان لعملة واحدة، إلاّ أنّ هناك جماعة من المؤرّخين وكتّاب المقالات، ظنّوا أنّ التشيّع أمر حادث وطارئ على المجتمع الإسلامي، فأخذوا يفتّشون عن مبدئه ومصدره، وراحوا يثيرون الشبهات حول تاريخه، وإليك استعراض هذه الشبهات نقداً وتحليلاً.

الشبهة الأُولى:

الشيعة ويوم السقيفة

إنّ مأساة السقيفة جديرة بالقراءة والتحليل، وقد تخيّل لبعض المؤرخين أنّ التشيّع ظهر بعدها.

يقول الطبري: اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة؛ ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟، فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منّا الأمراء ومنكم الوزراء - إلى أن

١٥٤

قال: - فبايعه عمر، وبايعه الناس، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلاّ عليّاً، ثُمَّ قال: أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ، وفيه طلحة والزّبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مسلطاً بالسيف فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.

وقال أيضاً: وتخلّف عليّ والزّبير، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتّى يُبَايَع عليّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقالا: خذوا سيف الزبير. (1)

يُلاحظ عليه: أنّ هذه النصوص تدلّ على أنّ فكرة التشيّع لعليّ، كانت مختمرة في أذهانهم منذ عهد الرسول إلى وفاته، فلمّا رأت الجماعة أنّ الحق خرج عن محوره، عمدوا إلى التمسّك بالحق بالاجتماع في بيت عليّ، الّذي أوصّاهم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) به طيلة حياته؛ إذ من البعيد جداً أن يجتمع رأيهم على عليّ في يوم واحد في ذلك اليوم العصيب، فالمعارضة كانت استمراراً لما كانوا يلتزمون به في حياة النبيّ، ولم تكن فكرة خلقتها الظروف والأحداث.

كان أبوذر وقت أخذ البيعة غائباً، ولمّا جاء، قال: أصبتم قناعة، وتركتم قرابة، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم، لَمَا اختلف عليكم اثنان. (2)

وقال سلمان: أصبتم ذا السن، وأخطأتم المعدن، أمّا لو جعلتموه فيهم، ما اختلف منكم اثنان، ولأكلتموها رغداً.

وروى الزبير بن بكار في الموفقيّات: إنّ عامّة المهاجرين، وجلّ الأنصار، كانوا لا يشكّون أنّ عليّاً هو صاحب الأمر.

____________________

(1) تاريخ الطبري: 2/443 - 444.

(2) تاريخ اليعقوبي: 2/103.

١٥٥

وروى الجوهري في كتاب السقيفة: إنّ سلمان والزبير وبعض الأنصار، كان هواهم أن يبايعوا عليّاً.

وروى أيضاً: إنّه لمّا بويع أبو بكر واستقرَّ أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وهتفوا باسم الإمام عليّ، ولكنّه لم يوافقهم. (1)

ومن المستحيل عادة، اختمار تلك الفكرة بين هؤلاء، في يوم واحد، بل يُعرب ذلك عن وجود جذور لها، قبل رحلة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويؤكد ذلك نداءاته الّتي ذكرها في حق عليّ وعترته، في مواقف متعدّدة، فامتناع الصحابة عن بيعة الخليفةن ومطالبتهم بتسليم الأمر إلى عليّ؛ إنّما هو لأجل مشايعتهم لعليّ زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وما هذا إلاّ إخلاصاً و وفاءاً منهم للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأين هو من تكوّن التشيع يوم السقيفة؟!

الشبهة الثانية:

التشيّع صنيع عبد الله بن سبأ

كتب الطبري في تاريخه يقول:

كان عبد الله بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء، أُمّه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثُمَّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم، فبدأ بالحجاز، ثُمَّ البصرة، ثُمَّ الكوفة، ثُمَّ الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشّام، فأخرجوه حتّى أتى

____________________

(1) شرح نهج البلاغة: 6/43 - 44.

١٥٦

مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب ممّن يزعم أنّ عيسى يرجع، ويكذِّب بأنّ محمّداً يرجع، وقد قال الله عز وجل: ( إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادّكَ إِلَى‏ مَعَادٍ ) (1) ، فمحمّد أحق بالرجوع من عيسى، قال: فقُبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة، فتكلّموا فيها، ثُمَّ قال لهم بعد ذلك: إنّه كان ألف نبيّ، ولكلّ نبيّ وصيّ، وكان عليّ وصيّ محمّد، ثُمَّ قال: محمّد خاتم الأنبياء، وعليّ خاتم الأوصياء، وإنّ عثمان غاصب حق هذا الوصيّ وظالمه، فيجب مناهضته لإرجاع الحق إلى أهله.

وقد بثّ عبد الله بن سبأ دُعاته في البلاد الإسلاميّة، وأشار عليهم أن يُظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطعن في الأُمراء، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير، والتابعي الصالح، من أمثال: أبي ذر، وعمّار بن ياسر، ومحمّد بن حذيفة، وعبد الرحمن بن عديس، ومحمّد بن أبي بكر، وصعصعة بن صوحان العبدي، ومالك الأشتر، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم، فكانت السبئيّة تثير الناس على ولاتهم، تنفيذاً لخطة زعيمها، وتضع كتباً في عيوب الأمراءن وترسل إلى غير مصرهم من الأمصار، فنتج عن ذلك قيام جماعات من المسلمين؛ بتحريض السبئيّين، وقدومهم إلى المدينة، وحصرهم عثمان في داره؛ حتّى قتل فيها، كلّ ذلك كان بقيادة السبئيّين ومباشرتهم.

إنّ المسلمين بعدما بايعوا علياً، ونكث طلحة والزبير بيعتهما، وخرجا إلى البصرة، رأى السبئيّون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون، وأنّه إن تمّ ذلك

____________________

(1) القصص: 85.

١٥٧

سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلاً وقرروا أن يندسّوا بين الجيشين، ويثيروا الحرب بكرة، دون علم غيرهم، وإنّهم استطاعوا أن ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل، قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان، فناوش المندسّون من السبئيّين في جيش عليّ، من كان بإزائهم من جيش البصرة، ففزع الجيشان وفزع رؤساؤهما، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً، ثُمَّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم. (1)

إلى هنا انتهت قصة السبئيّة؛ الّتي ذكرها الطبري في تاريخه.

نظرنا في الموضوع:

1 - إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصة، لا يصحّ نسبته إلاّ إلى عفاريت الأساطير ومردة الجن؛ إذ كيف يصحّ لإنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء من صنعاء، وأسلم في عصر عثمان، استطاع أنّ يُغري كبار الصحابة والتابعين ويخدعهم، ويطوف بين البلاد، واستطاع أن يكوّن خلايا ضدَّ عثمان، ويستقدمهم إلى المدينة، ويؤلّبهم على الخلافة الإسلاميّة، فيهاجموا داره ويقتلوه، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم بإحسان، هذا شيء لا يحتمله العقل، وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب!!

إنّ هذه القصّة تمسّ كرامة المسلمين والصحابة والتابعين، وتصوّرهم أُمّه ساذجة؛ يغترّون بفكر يهوديٍّ وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكرون.

2 - إنّ القراءة الموضوعيّة للسيرة والتاريخ، تُوقفنا على سيرة عثمان بن

____________________

(1) انظر تاريخ الطبري: 3/378، نقل بتصرف وتلخيص.

١٥٨

عفّان، ومعاوية بن أبي سفيان، فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم، وينفون المخالفين ويضربونهم، فهذا أبوذر الغفاري نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة؛ لاعتراضه عليه في تقسيم الفيء وبيت المال بين أبناء بيته، كما أنّ غلمانه ضربوا عمّار بن ياسر؛ حتّى أنفتق له فتق في بطنه، وكسروا ضلعاً من أضلاعه. إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم، ومع ذلك نرى أنّ رجال الخلافة وعمالها، يغضّون الطرف عمّن يؤلّب الصحابة والتابعين على إخماد حكمهم، وقتل خليفتهم في عقر داره، ويجر الويل والويلات على كيانهم!!

3 - إنّ رواية الطبري، نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم؛ مثلاً: السري؛ الّذي يروي عنه الطبري، إنّما هو أحد رجلين:

أ - السري بن إسماعيل الهمداني؛ الّذي كذّبه يحيى بن سعيد، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ. (1)

ب - السري بن عاصم بن سهل الهمداني؛ نزيل بغداد (المتوفّى عام 258هـ)، وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته؛ يربو على ثلاثين سنة، كذّبه ابن خراش، ووهّاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث، وزاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات؛ لا يحلّ الاحتجاج به، فالاسم مشترك بين كذّابين، لا يهمّنا تعيين أحدهما.

4 - عبد الله بن سبأ، أسطورة تاريخيّة، لأنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حق الرجل ومولده، وزمن إسلامه، ومحتوى دعوته، يُشرف

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 2/117.

١٥٩

المحقّق على القول: بأنّ عبد الله بن سبأ، شخصيّة خرافيّة، وضعها القصّاصون، وأرباب السمر والمجون، في عصر الدولتين: الأُمويّة والعباسيّة.

وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين، يدعم كون الرجل أسطورة تاريخيّة، حاكها أعداء الشيعة، نكاية بالشيعة؛ حيث قال:

وأكبر الظنِّ أنّ عبد الله بن سبأ هذا، إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغلَّ الفتنة ولم يثرها.

إنّ خصوم الشيعة أيّام الأُمويّين والعباسيّين، قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته، من ناحية، وليشنعوا على عليّ وشيعته من، ناحية أُخرى، فيردوا بعض أُمور الشيعة إلى يهوديٍّ أسلم كيداً للمسلمين، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة؟!، وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم؛ في أمر عثمان، وفي غير أمر عثمان؟

فلنقف من هذا كلّه، موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنُكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم، رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديّاً وكانت أُمّه سوداء، وكان هو يهوديّاً ثُمَّ أسلم لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثُمَّ أُتيح له من النجاح ما كان يبتغي، فحرّض المسلمين على خليفتهم حتّى قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها أُمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أنّ تُقام عليها أُمور التاريخ. (1)

____________________

(1) الفتنة الكبرى: 134.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214