ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب27%

ما يحتاجه الشباب مؤلف:
الناشر: ناظرين
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 214

ما يحتاجه الشباب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156234 / تحميل: 8968
الحجم الحجم الحجم
ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب

مؤلف:
الناشر: ناظرين
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( كان الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) يُسلّم على النساء ويَرددن عليه، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يُسلّم على النساء، وكان يكره أن يُسلّم على الشابّة منهنّ، ويقول: أتخوّف أن يُعجبني صوتها فيدخل عليّ أكثر ممّا طلبتُ من الأجر ) (١) .

بل إنّ أئمّة الإسلام ( عليهم السلام ) يولون أهمية قصوى لمسألة الرقابة الأخلاقية والاجتماعية؛ بهدف تجنّب الوقوع في موارد التهمة وسوء الظنّ، حتّى قال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( اتّقوا مواضع الريَب، ولا يقفنَّ أحدكم مع أُمّهِ في الطريق؛ فإنّه ليس كلّ أحدٍ يعرفها ) (٢) .

وعلى كلّ حال، فإنّ العلاقات غير المشروعة بين الفتيان والفتيات مُضرّة ومحظورة بحكم الشرع والعقل، وقد أثبتَت التجارب العملية للكثير من الأشخاص ما في هذه الروابط من عواقب سيّئة، ومضافاً إلى ما تقدّم من الأضرار المترتّبة على هذه الروابط السيئة التي تُعدّ أحياناً خيانة وانتهاكاً لعفّة العائلة والمجتمع، فهناك محاذير أخرى من الاضطراب والقلق والإخفاق في الدراسة وترك المدرسة والتخلّف في الحياة.

أجل، فبالإضافة إلى ما تطالعنا به الصُحف والمجلاّت ونشاهده بأعيننا من الأضرار المترتّبة على اختلاط الفتيان بالفتيات، فقد أخذت المجتمعات الغربية تعترف حالياً بأضرار هذا النوع من الروابط، بعد أن كانت لا تُعيرها أهمية بل تحثّ عليها وتراها مفيدة!

ذَكرت إحدى الجرائد في إحصائية لها: أنّ المدارس غير المختلطة في انجلترا تحضى بمستوىً دراسي أفضل بالقياس إلى المدارس المختلطة،

____________________

(١) فروع الكافي: ٥ / ٥٣٥.

(٢) بحار الأنوار: ٧٢ / ٩١.

٤١

فقد جاء في تقرير لجريدة( ديلي تلغراف ) : تصدّرت خمسون مدرسة قائمة المدارس النموذجية من الناحية العلمية للطلاب، بعد إعلان نتائج امتحانات المرحلة الإعدادية في انجلترا الموسومة بـ (G.C.S.T)، وكانت خمس وأربعون مدرسة منها غير مختلطة(١) .

وعليه: فإنّ الطُهر والعفاف وبلوغ المراتب العلمية والإنسانية العالية، بحاجة إلى وعي ومقاومة ورياضة ومجاهدة، فلابدّ من اغتنام فرصة الشباب قبل الهرَم.

____________________

(١) جريدة جمهوري إسلامي: العدد ٥٥٦٩، ص١١.

٤٢

(٥)

معرفةُ الحدود وتجاوزها

إنّ سرّ نجاح الإنسان وتقدّمه في حياته الاجتماعية يكمن في معرفته لقدرته وحدوده، واستفادته من طاقاته وكفاءاته المادّية والمعنوية، فلو أقدمَ الإنسان على عملٍ دون أن يَدرك مقدار كفاءته وموقعيته الشخصية أو مع علمه بعجزه، أو تدخّل في مسؤوليات الآخرين، فإنّه في الحقيقة يكون قد تجاوز حدوده، فيورّط نفسه ويسيء للآخرين!

إنّ لمسألة التعرّف على الحدود - في مختلف المجالات، وما يتعقّبها من المآسي الناجمة عن عدم مراعاتها - أهمية مصيرية، حتّى قال الإمام علي ( عليه السلام ) فيها:( رَحمَ الله امرأً عَرف قدرهُ ولم يتعدّ طوره ) (١) .

وحينما نتحدّث في موضوع معرفة الحدود، نريد بذلك أن يتعرّف كلّ شخصٍ على موقعه في المواقف والروابط الاجتماعية، ويُحقّق الأُسس الأربعة الآتية:

١ - أن يعي كلّ شخص حدودهُ فيعمل في نطاقها.

٢ - أن يكون بمستوى المسؤولية التي اضطلع بانجازها.

____________________

(١) دُرر الكلم: ص٢٣٣، الحديث ٤٦٦٦.

٤٣

٣ - أن لا يهتك حرمة الآخرين وحقوقهم من خلال تجاوز حدودهم، خاصّة الكبار منهم: كأبيه وأمّه، فعليه صيانة حقوقهم وحفظ حيثيّتهم.

٤ - أن يتجنّب تجاوز الحدود، فلا يتدخّل في وظائف الآخرين، وأن يكفّ عن كلّ ما من شأنه أن يؤدّي إلى شلّ حركة الحياة.

إنّ تأكيدنا على( معرفة الحدود ) يعود إلى جهتين:

الأولى: إنّ أساس نظام الخلقة في العالَم والإنسان قائم على الحدود والمقادير الدقيقة، فكلّ عنصر من عناصر الكون يسير في حدوده الخاصّة به، فلا يصطدم بالعناصر الأخرى ولا يتدخّل في مجالها، كما أنّ كلّ عضو في الإنسان يتحرّك في مجاله المخصوص به دون أن يتدخّل في مجال سائر الأعضاء الأخرى.

وقد قال الله تعالى:( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) (١) ، إذاً فالغرض من الدقّة المرسومة لكلّ موجود في هذا الكون: هو أن لا نتجاوز هذا الميزان ولا نتعدّى الحدود المرسومة لنا.

وجاء في آيةٍ أخرى:( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ.. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ.. لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٢) .

كما أنّ لكلّ عضو من أعضاء جسمنا من الناحية الفسلجيّة: كالفم، والأسنان، والمريء، والمعدة، والاثني عشري، والكبد، والقلب، والعين، والأُذن وسائر الأعضاء الأخرى، وظيفة لا يتعدّاها ولا يتدخّل في وظيفة الأعضاء الأخرى، وهكذا الأمر بالنسبة إلى ماكنة السيّارة والقطار والطائرة إلى ماكنة الأجهزة الكبيرة التي تُحرّك مصنع السكّر، أو النسيج، أو مصفاة النفط،

____________________

(١) سورة الرحمن: الآية ٥ - ٩.

(٢) سورة يس: الآية ٣٧ - ٤٠.

٤٤

 فلكلّ جزءٍ من أجزائها وظيفته المخصوصة التي لا يتعدّاها إلى وظائف الأجهزة الأخرى، وبذلك تدور جميع العَجلات للوصول إلى الهدف المنشود، ومنه نصل إلى أنّ تجاوز الحدود يُعدّ تمرّداً ومخالفة لجميع النظم والقوانين العلمية والطبيعية، التي تسيطر على الكون وموازين خلقة الإنسان.

الثانية: إنّ لتجاوز الحدود أضراراً وعواقب خطيرة جدّاً، سواءً من الناحية الأخلاقية والحقوقية، أو من ناحية النظام الإداري في الحياة الاجتماعية وفي المجالات الثقافية، وضمان الاحتياجات الاقتصادية والنفسية، أهمّها: سوء الظنّ، وانعدام الثقة الاجتماعية، والحرمان من التعرّف على النماذج الصالحة التي يمكن التأسّي بها، والعُنف وهتك الستر، وانعدام الأمن والطمأنينة الاجتماعية، والاضطراب والقلق، وانعدام النظم في الحياة الاجتماعية.

التديّن ومعرفة الحدود

والأهمّ ممّا ذكرناه بشأن المسائل الأخلاقية والمواقف الإنسانية لمراعاة الحدود، ما وردَ في هذا المجال من الأحاديث الكثيرة التي تؤكّد على أصل التديّن ورعاية الحدود في الأحكام.

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( ما خلقَ الله حلالاً ولا حراماً إلاّ ولهُ حدّ كحدود داري هذه، فما كان منها من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار ) (١) .

وعن علي ( عليه السلام ):( إنّ الله افترضَ عليكم فرائض فلا تضيّعوها، وحدَّ لكم حدوداً فلا تعتدوها ) (٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٢ / ١٧٠، ح٨.

(٢) بحار الأنوار: ٢ / ٢٦٠، نهج البلاغة: تحقيق صبحي الصالح، ص٤٨٧.

٤٥

وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) لرجلٍ ذهب إلى مكّة ليسأل عن مسائل الحلال والحرام:( إنّه ليس شيء ممّا خَلق الله صغيراً ولا كبيراً إلاّ وقد جعلَ الله لهُ حدّاً، إذا جوِّز به ذلك الحدّ، فقد تعدّى حدّ الله فيه ) (١) .

وحينما نشاهد كلّ هذه التأكيدات من قِبل أئمّتنا ( عليهم السلام ) بشأن أحكام الدين ورعاية حدودها، وعدم تجاوزها ليبقى كلّ شيء في مكانه، ويعمل كلّ شخص في إطار تكليفه الخاص به فلا يتعدّاه، نستنتج من ذلك: أنّ على كلّ شخص أن يراعي الحدود المرسومة له في الروابط الأخلاقية، فلا يتجاوز حدود الآخرين، ولا يُسبّب الإخلال بالنظام العائلي والاجتماعي، فإذا حاولَ الطفل أن يؤدّي وظائف الشابّ، أو أراد الشابّ - مع قلّة تجربته - أن يتكفّل بإدارة العائلة، فسوف يُحمّل نفسه فوق طاقتها مضافاً إلى تجاوزه حدود صلاحيّته.

أجل، إنّ بإمكاننا تطبيق معرفة الحدود والآثار المترتّبة على تجاوزها في جميع الأمور الأخلاقية والحقوقية والاجتماعية، وبالنسبة لكلّ شخص أو جماعة، وأن ننظر في منافعها ومضارّها، وأن نجعلها نموذجاً ومعياراً لأفكارنا وسلوكياتنا، كما نقرأ في حديثٍ عميق عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال:( لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، قلت: ما يذلّ نفسه؟ قال:لا يدخل فيما ينبغي أن يعتذر منه ) (٢) .

وعليه: فإنّ تجاوز الحدود يؤدّي إلى هتك حرمة الآخرين، ويُعدّ ظلماً للنفس وللآخرين، ويُعرقل سير الأمور وانجاز الوظائف.

وقد قال العالِم الطبيعي المعروف( جان لاباك آفبوري ) : ( ليس من العسير معرفة المسؤولية، فكلّ شخص منّا يمكنه التعرّف على حدود مسؤولياته ووظائفه، إلاّ أنّ العسير هو أداء الوظائف، فلا يمكن لأيّ شخص أن يصل إلى مستوى الكمال في هذا المجال، نعم، بالإمكان من خلال السعي وبذل الجهد الاقتراب من مستوى الكمال،

____________________

(١) بحار الأنوار: ٢ / ١٧١، ح١٠.

(٢) مشكاة الأنوار: ص٢٤٤ - ٢٤٥.

٤٦

وإن كان أصعب ممّا يمكن تصوّره، ولكن ينبغي ترك الآمال الصبيانية والأهواء الخادعة، والتطلّع نحو الأعالي بُغية الوصول إلى قمّة الكمال الإنساني )(١) .

وقال هذا العالِم ليعرّفنا على المسؤوليّات والاستفادة القصوى من الفُرص المتاحة لنا: ( إنّ الشخص العاقل والنبيه: هو الذي يستفيد من تجارب الآخرين، إلاّ أنّ المتكبّرين يحاولون تجربة كلّ شيءٍ بأنفسهم، في حين أنّ الحياة قصيرة ومتقلّبة، فإذا أردنا أن نجرّب كلّ شيء بأنفسنا فسوف لا يبقى لنا مجال للاستفادة من تلك التجارب.. فعليه لابدّ من الاستفادة من تجارب الآخرين التي حصلوا عليها بمرور الأيّام، بعد أن تحمّلوا ما تحمّلوا من الصعاب، وفي الوقت نفسه لابدّ لنا من الاعتبار بما يعرض لنا من الوقائع والحوادث )(٢) .

منافعُ مراعاة الحدود

ولكي نُدرك منافع ومزايا( مراعاة الحدود ) بُغية استثمار قابلياتنا وطاقاتنا بشكلٍ أكثر، نذكر - مضافاً إلى ما تقدّم - بعض الأحاديث عن الإمام علي ( عليه السلام )، والإمام الصادق ( عليه السلام ) في هذا المجال:

١ -( العارفُ مَن عَرف نفسهُ، فأعتقها ونزّهها عن كلّ ما يُبعّدها ويوبّقها ) (٣) .

٢ -( مَن وقف عند قَدره، أكرمهُ الناس ) (٤) .

٣ -( مَن رضيَ بقسمه، لم يسخطه أحد ) (٥) .

٤ -( على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، مُقبلاً على شأنه ) (٦) .

٥ -( مَن قَنع بقسمه استراح ) (٧) .

____________________

(١) البحث عن السعادة: ص٢٢٣، ٢٢٧ بتصرّف قليل.

(٢) نفس المصدر.

(٣) غُرر الحِكم: ص٢٣٩ و ٢٣٣.

(٤) نفس المصدر.

(٥) غُرر الحِكم: ٢ / ٦٣٠.

(٦) بحار الأنوار: ٦٨ / ٣٠٧.

(٧) غُرر الحِكم: ص٣٩٨، الحديث ٩٢٣٠.

٤٧

أضرارُ تجاوز الحدود

وبعد أن ذكرنا شطراً من أضرار تجاوز الحدود، والتي كانت تتجلّى على هيئة الاختلالات والاضطرابات الأخلاقية والاجتماعية، نصل إلى هذه النتيجة وهي: إنّ على كلّ شخص أن يدرك الآثار المدمّرة لتجاوز الحدود والاعتداء على حقوق الآخرين ومسؤولياتهم، وعليه: فإنَّ كلاً من التلميذ ومعلّمه، والطالب الجامعي بالنسبة إلى أستاذه، والموظّف تجاه المدير، والعامل تجاه المقاول، والزوجة تجاه زوجها، والأبناء بالنسبة لأوليائهم، والجار إلى جاره، والموظّف إلى الموظف الآخر، حدوداً وحقوقاً متقابلة، يُعدّ تجاوزها وتعدّيها إلى مجال مسؤوليات الآخرين تجاوزاً للحدود وإخلالاً بالعلاقات الاجتماعية، وقد تكون أحياناً انتهاكاً للحدود الاعتقادية والدينية والأوامر الإلهية، هذا مضافاً إلى أنّ هذه الانتهاكات تعود بالدرجة الأولى بالضرر على الشخص المنتهِك نفسه، وفي الختام نذكر بعض الأحاديث المرويّة عن الإمام علي ( عليه السلام ) في هذا المجال:

١ -( لا جهل أعظم من تعدّي القدر ) (١) .

٢ -( مَن سأل فوق قَدره، استحقّ الحرمان ) (٢) .

٣ -( مَن تعدّى الحقّ، ضاقَ مذهبه ) (٣) .

٤ -( مَن بَغى، كُسِر ) (٤) .

____________________

(١) عيون الحِكم: ص٥٣٧.

(٢) غُرر الحِكم: ٢ / ٦٦٥ وص ٧٠، الحديث ١٠٠٧.

(٣) نفس المصدر.

(٤) غُرر الحِكم: ٢ / ٦١٣ دار الكتب الإسلامية.

٤٨

(٦)

استيعابُ أقوال الآخرين

لو نادينا شخصاً من مكانٍ بعيد، لمَا أمكنهُ أن يسمع صوتنا جيّداً ولمَا استوعبه، فلا نكون قد توصّلنا إلى عملٍ إيجابي يُذكر، وقد رويت بهذا الصدد قصّة عن أربعة أشخاص من جنسيات مختلفة اصطحبوا في طريقٍ، وبعد أن ضمّوا أموالهم إلى بعضها ليشتروا متاعاً لهم، رغم عدم معرفة بعضهم لغة بعض، قال الفارسي: من الأفضل أن نشتري( أنكور ) ، إلاّ أنّ العربي اعترضَ عليه قائلاً: لا، الأفضل أن نشتري( عِنباً ) ، فردّ عليه التركي: لا، الأفضل أن نشتري( أُزُم ) ، فاعترضَ الرومي قائلاً: الأفضل أن نشتري( استافيل ) ، ولو أنّهم دقّقوا جيّداً لاكتشفوا أنّهم لم يريدوا إلاّ شيئاً واحداً، وفي كلتا القضيّتين المتقدّمتين هناك بعض المشتركات، وهي:

١ - إنّ مراد المنادي والسامع، ومراد هؤلاء الأشخاص الأربعة شيءٌ واحد.

٢ - في القضية الأولى كان المانع من وصول صوت المنادي إلى السامع هو بُعد المسافة.

٣ - في القضية الثانية كان سبب الاختلاف بين الأشخاص هو عدم استيعابهم للغة بعضهم، ولكن ما الذي ينبغي لنا فعله لإيصال صوتنا ومرادنا والوصول إلى نتيجة عملية، للحيلولة دون وقوع النزاع والاختلاف والخصومة؟

٤٩

أوّلاً: في القضية الأولى، لابدّ من تقليل المسافة المكانيّة والتقرّب من بعضنا ليحصل التفاهم.

ثانياً: وفي القضية الثانية، لابدّ من القضاء على الجهل وعدم الوعي، وتقريب مسافة الفهم والتفكير، والتخفيف من حدّة الغضب للوصول إلى المراد الذي ينتهي لصالح الجميع.

ومن جملة المشاكل المعاصرة بين جيل الشباب والجيل المتقدّم عليه، فَهم مرادات بعضهم، فيقف الشباب المعاصرون في جهة، بينما يقف الوالدان والمعلّمون في الجهة الأخرى، مع أنّ عليهم أن يقيموا حياتهم على أساس السعادة والرخاء.

وبعبارة أخرى يمكن القول: إنَّ الوضع القائم بين الجيل المعاصر والجيل المتقدّم، وضعٌ متأزّم من الناحية الفكرية والثقافية، ولكي نتمكّن من اجتياز هذه المرحلة بسلام نحتاج إلى وعي وفهم ودراية وتدبّر؛ لأنّ الحاجز خطير! يقول أحد الخبراء في الاجتماع والسياسة:( إنّ تفكير الشباب يختلف عن تفكير آبائهم ) (١) .

وبوسعنا أن نُشبّه هذه الأزمة بالصراع، ومرادنا بذلك( الصراع الفكري ) ، ولكي نتمكّن من بيان أهمية الموضوع، ويتسنّى لمَن يريد دخول ساحة الصراع هذه ويَعدّ العدّة اللازمة له، لابدّ أن ندرك أنّه لا يمكن حسم هذه المرحلة وإحلال السلام الشامل عن طريق الغضب وممارسات العُنف، وعليه لابدّ لكلّ من الشباب وأوليائهم، وكلّ مَن له تأثير في تنظيم الكيان الأُسري والنظام الاجتماعي، من مراعاة الأمور التالية من أجل استيعاب كلام بعضهم وتقليل الفاصلة الزمانية بين الفكر والإرادة:

____________________

(١) صحيفة همشهري: العدد ١٦٠٧، ص٣.

٥٠

كظمُ الغيض واحتواء الغضب

إنّ الغضب والعُنف سلوكية غير معتدلة ولا منطقية في كيان الأسرة، فإنّه يؤزِّم الأجواء ويشلّ التفكير المنطقي، ويزيد من الحاجز القائم بين الأفكار والإرادات.

يقول الإمام علي ( عليه السلام ):( شدّة الغضب تُغيّر المنطق، وتقطع مادّة الحجّة، وتُفرّق الفهم ) (١) .

إنّ للغضب والعُنف ردود فعل وآثاراً مُدمّرة في الروابط الأخلاقية، وعلى الخصوص الروابط الأُسرية، ولكي ندرك هذه الأضرار ونسعى إلى الحيلولة دون وقوعها، نُقدّم عرضاً لنماذج أخرى من الأحاديث البليغة الواردة عن أئمّة الهدى ( عليهم السلام ):

١ - قال الإمام الصادق (عليه السلام ):( مَن لم يملك غضبهُ، لم يَملك عقله ) (٢) .

٢ - قال الإمام علي ( عليه السلام ):( الغضبُ يُفسد الألباب، ويُبعّد من الصواب ) (٣) .

٣ - وقال أيضاً:( الحِدَّة ضربٌ من الجنون؛ لأنّ صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونهُ مُستحكَم ) (٤) .

٤ - وقال أيضاً:( من طبائع الجهّال: التسرّع إلى الغضب في كلّ حال ) (٥) .

٥ - وقال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):( الغضبُ يُفسد الإيمان كما يُفسد الخلّ العسل ) (٦) .

٦ - وقال علي ( عليه السلام ):( الغضبُ يُردي صاحبه ويُبدي معايبه ) (٧) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٦٨ / ٤٢٨.

(٢) بحار الأنوار: ٧٥ / ٢٥٥.

(٣) غُرر الحِكم: ص٦٥، الحديث ٨٦٢.

(٤) نهج البلاغة: جعفر الحسيني، ص٥٤٣، الحكمة ٢٥٥.

(٥) غُرر الحِكم: ص٣٠١، الحديث ٦٨٧٥.

(٦) أصول الكافي: ٢ / ٣٠٢.

(٧) غُرر الحِكم: ص٣٠٢، الحديث ٦٨٩٢.

٥١

ولأجل الأضرار الهدّامة المترتّبة على الغضب، جاء في بعض الأحاديث التي تحاول وصف علاج هذه الصفة الفتّاكة:

( على مَن استولى عليه الغضب أن يتوضّأ بماءٍ بارد، وإن كان واقفاً فليقعد، وإن كان جالساً فلينطرح على الأرض، وإن أمكنهُ فليسجد خاضعاً متذلِّلاً لله، حتّى ينطفئ لهيب غضبه ) (١) .

الشجاعُ الحقيقي

لقد قرأنا كثيراً عن أضرار الغضب، وكثيراً ما شاهدنا الآثار الفظيعة أثناء النزاعات والخلافات، على الخصوص في علاقات الشباب الأخلاقية في الأسرة وأطلقنا الزَفرات والحَسرات عليها.

ولا يخلو التدبّر في القصّة التي رواها الإمام الصادق ( عليه السلام ) من فائدة، حيث قال:( مرّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بقومٍ يرفعون حَجراً فقال: ما هذا؟ فقالوا: نعرف بذلك أشدَّنا وأقوانا، فقال: ألا أُخبركم بأشدّكم وأقواكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أشدّكم وأقواكم الذي إذا رضيَ لم يدخلهُ رضاه في إثمٍ ولا باطل، وإذا سخطَ ولم يُخرجه سخطهُ من قول الحقّ، وإذا قدر لم يتعاطَ ما ليس بحقّ ) (٢) .

الفهمُ والإدراك

إذا أمكننا أن نسيطر على غضبنا وأن نخلق جوّاً هادئاً في المحيط الأسري أو غيره، نكون قد توصّلنا إلى إيجاد أرضية مساعدة لفهم مرادات بعضنا، وبذلك يزول الحاجز الفكري بيننا، وعندها يغدو بالإمكان فهم متطلّبات الشباب والآباء.

وكما تقدّم أن قلنا: فإنّ منطق الغضب لا يمكن أن يُعدَّ منطقاً للتفاهم والإصلاح، بل هو يقضي على الهدوء والاستقرار، ويزيد الأجواء تعقيداً، وعندها سيفقد العقل قابليته على التفكير، إذاً لابدّ من كظم الغيظ لنصل إلى فهم كلام بعضنا؛

____________________

(١) المحجّة البيضاء: ٥ / ٣٠٨.

(٢) مشكاة الأنوار: ص٢١٩.

٥٢

لأنّ الفهم والإدراك بمثابة المصباح الذي يُضيء لنا الطريق، ويجعل العقل قادراً على الإبداع والعطاء.

قال الإمام علي ( عليه السلام ):( ما افتقرَ مَن مَلكَ فَهماً ) (١) .

وقال أيضاً:( مَن أبصرَ فَهمَ، ومَن فهمَ عقل ) (٢) .

وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( إذا سألتَ عن شيء، ففرِّغ قلبك لفهمه ) (٣) .

وقال الإمام علي ( عليه السلام ):( مَن حَلُم سادَ، ومَن تفهّم ازداد، ولقاء أهل الخير عِمارة القلب ) (٤) .

وفي ختام هذا الفصل نوصي كِلا طرفي النزاع اللذين لا يفهمان أحياناً مراد الطرف الآخر، أو يحول الغضب عندهم دون ذلك، أن يتحلّوا بضبط النفس وسعة الصدر وعدم التسرّع في تخطئة الآخرين.

____________________

(١) غُرر الحِكم: ص٦٠، الحديث ٦٥١.

(٢) بحار الأنوار: ٧٥ / ٢٥٥.

(٣) بحار الأنوار: ٧٩ / ٢٧٣.

(٤) بحار الأنوار: ٧٤ / ٢٠٨.

٥٣

(٧)

ابنُ العَصر

إنّ الزمان هو مجموع هذه الأيّام والليالي التي تتعاقب علينا، والتي تحتوينا كما يحتوي الظرفُ المظروفَ، وما علينا إلاّ أن نترك المرحلة السابقة منه إلى مرحلته اللاحقة.

والسؤال الذي يستدعي الانتباه بشأننا وشأن الزمان هو: هل نحن الذين نترك الزمان، أم أنّ الزمان هو الذي يمرّ علينا ويتركنا، كما هو الحال بالنسبة إلى ضوء الشمس ونورها؟

إنّ ما نحسّه وثبتَ بالعلم والتجربة هو: أنّ الإنسان لم يتمكّن حتّى الآن من السيطرة على الزمان، فلا يمكنه أن يحول دون طول الليل، أو دون انقضاء الشباب وتحوّله إلى الشيخوخة والعجز!

إذاً، فما عسانا أن نصنع؟ هل لنا من خيار سوى أن نقطف باقة وردٍ من مزرعة الطبيعة الجميلة، وأن نستفيد من متجر العالَم ونرتقي مدارج الحياة نحو الأعالي؛ لنصل إلى قِمم المجد من خلال هذه الطبيعة الضيّقة لبلوغ التكامل الإنساني؟

٥٤

الفئاتُ الأربع

ينقسم الناس بالنسبة إلى العمود الزماني من الماضي والحاضر والمستقبل إلى أربعة أقسام:

١ - الذين يعيشون في الوقت الحاضر، إلاّ أنّهم لا يدركون مستلزمان وشروط الحياة المعاصرة، ولم يعدّوا العدّة التي تؤهّلهم للانسجام مع واقع هذه الحياة، فيتمّ تصنيفهم في خانة الجيل الماضي! فهم قد تخلّفوا عن قافلة المتقدّمين من الناس!

٢ - الذين يعيشون في العصر الحاضر، ويدركون مستلزمات وشروط الحياة الثقافية والاقتصادية، ويبذلون قصارى جهودهم من أجل الاستفادة القصوى من الإمكانيات المتاحة لتكامل أنفسهم والآخرين، فهؤلاء هم الناجحون الذين يدركون قيمة الوقت، وقد قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) بشأن هذه الفئة:( والعالِم بزمانه لا تَهجم عليه اللوابس ) (١) .

٣ - الذين يعيشون في هذا العصر، ولكن يُعدّون من المتقدّمين على زمانهم؛ لعدم استيعاب الوقت الحاضر لأفكارهم وآرائهم، وهذه الفئة تحتوي على القلائل من العباقرة والنوابغ عَبر التاريخ البشري.

٤ - الذين يعيشون في هذا العصر ويدركونه على حقيقته، والذين يحاولون ربط الماضي بالحاضر من خلال الاستفادة من الظروف والإمكانات الموجودة، وهذه الفئة - كما يقول عنها( رومن رولان ) العالِم والكاتب الفرنسي (١٨٦٦ - ١٩٤٤م) - ترى من خلال الاستفادة من تجارب الآخرين ضرورة اقتحام سدود الزمان، وإحياء العباقرة والعظماء من جديد(٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٧٥ / ٢٦٩، تُحف العقول: ص٣٥٦ طبع جامعة المدرّسين.

(٢) سرود جهشها: الطبعة الأولى، ص٢٩٢.

٥٥

الفئةُ الممتازة

الفئةُ الرابعة: هي أفضل الفئات الأربع المتقدّمة وأكثرها اعتدالاً، إذ إنَّ الأشخاص فيها يُعدّون ( أبناء زمانهم )، فهم يدركون زمانهم بشكلٍ صحيح، ويُخطّطون لمستقبلهم ومستقبل مجتمعهم، ويبذلون كامل جهدهم في هذا السبيل.

كما أنّ الحديث المنسوب إلى الإمام علي ( عليه السلام ):( كُن ابن زمانك ) ، لا يريد تأييد العوارض الواهية والناشئة من التقليد الأعمى وانعدام الثقة بالنفس؛ وإنّما هو ناظر إلى الاستيعاب الصحيح لمقتضيات الزمان، والاستفادة من إمكاناته الإيجابية والعقلائية، وعليه يكون معنى( ابن الزمان ) : أن تُربّي في نفسك الخصال والسجايا الإنسانية التي تناسب العصر الذي تعيش فيه.

وجاء في حديثٍ آخر عن الإمام علي ( عليه السلام ) أنّه قال:( لا تُقسروا أولادكم على آدابكم؛ فإنّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم ) (١) .

ولتوضيح هذا الحديث الذي يُساء فهمه أحياناً، نضطرّ إلى ذكر عدّة توضيحات بشأنه، وهي:

١ - إنّ الآداب بشكلٍ عام تُطلق على مجموعة التقاليد التي تحتوي على جوانب تشريفية، وإنّ الالتزام بها وعدمه لا يؤثّر في الأُسس الوجدانية والعقلائية والأخلاقية المتسالَم عليها.

٢ - إنّ الإمام علي ( عليه السلام ) لا يريد أن يقول: أدّبوا أبناءكم وفقاً لمقتضيات المستقبل، حتّى إذا سادَ فيه الكذب وعدم الوفاء والتقليد الأعمى والنفاق ونقض العهود والمعصية، وعُدّت هذه الأمور من مقوّمات الذكاء والرقي، ليمكنهم أن ينسجموا مع ذلك الزمان؛ لأنّ هذا ما لا ينسجم مع المباني الاعتقادية والأخلاقية الموجودة في كلمات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في نهج البلاغة.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٢٠ / ٢٦٧.

٥٦

٣ - تقدّم أن ذكرنا: أنّ الآداب عبارة عن سلسلة من التقاليد التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية، وينبغي تعلّمها الآن والسعي من أجلها.

 فمثلاً إذا قلنا: لا تُكرهوا أبناءكم على آداب زمانكم؛ لأنّهم ولِدوا لغير زمانكم،فمعنى ذلك: أنّك إذا أردتَ لابنك أن يكون طبيباً، فحاول أن ترشده إلى طبيب معاصر، لا أن ترشده إلى طبيب قديم، وإذا كان النسيج يتمّ عَبر آلات قديمة، فهو الآن يتمّ بواسطة آلات متطوّرة ذات كفاءة عالية، ولو كنتَ تعلم ركوب الخيل وحمل الأثقال والسفر بواسطة الخيل والحمير، فإنّها اليوم غير عقلائية، بل لابدّ من تعلّم السياقة والسفر بوسائط نقلية أكثر سرعة وكفاءة، وإذا كنتَ اليوم تُباشر الزراعة بالأدوات المتداولة، فعليك أن تتدبّر أمرك للمستقبل، وأن تتعلّم أساليب الاستفادة من الأدوات التي سوف تسود فيه.

٤ - إنّ الإمام ( عليه السلام ) أراد بهذا الحديث: أن يلفت الانتباه إلى ضرورة النظر إلى المستقبل وإعداد النفس له، والاستفادة القصوى من إمكانياته، ليحضى الجيل القادم بحياة أفضل، ولا يقيّدوا أنفسهم بزمانهم فيتخلّفوا عن قافلة التقدّم البشري من ناحية العلوم والفنون والصناعات.

نعم، ولأجل ذلك أيضاً نقرأ عنه ( عليه السلام ) أنّه قال:

حرِّض بنيك على الآداب في الصِغر

كيما تقرّ بهم عيناك في الكِبر

وإنّما مَثلُ الآداب تَجمعها

في عنفوانِ الصبا كالنقش في الحجر(١)

____________________

(١) الديوان المنسوب لأمير المؤمنين ( عليه السلام ): ص١٨٢.

٥٧

الانسجامُ مع الآداب

إنّ لبعض الأقوام والأعراق والأُمم والمجتمعات والقبائل والعشائر في القرى والمُدن المختلفة، أعرافاً وتقاليدَ يحترمونها ويعدّونها من الفضائل.

ومن جهة أخرى: فإنّ مراعاة هذا النوع من التقاليد لا تتنافى مع الأُسس والموازين الإسلامية، بل هي نوع من حُسن الخُلق والتواضع والمعاشرة الحسنة، وعليه: فإنّ اتباع هذه الأعراف والتقاليد بُغية اجتذاب أصحابها نحو الأسس الإسلامية، يُعدُّ أمراً مطلوباً وغاية محمودة.

وعلى كلّ حال: فإنّ معرفة الزمان والرضا بالتقاليد العقلائية لكلّ قوم وأمّة، لا يعني بالضرورة التنكّر للأصول والهوية الإنسانية والسقوط في هوّة الضياع والأغلال، بل يعني الوعي بمقتضيات الزمان، وعدم الغفلة عن اكتساب القابليات العلمية والمهارات الفنية والصناعية في إطار التحلّي بالمسؤولية، والرفعة لأنفسنا ومجتمعنا؛ ذلك أنّ شخصية كلّ فرد رَهنٌ بكفاءته وقابلياته الإنسانية.

يقول أحد الشعراء:

كُن ابن مَن شئتَ واكتسِب أدباً

يغنيكَ محموده عن النسبِ

فليس يُغني الحسيبَ نسبته

بلا لسانٍ لهُ ولا أدب

إنّ الفتى مَن قال ها أنا ذا

ليس الفتى مَن قال كان أبي

٥٨

(٨)

التأثيرُ والتأثّر

إنّ التأثير والتأثّر أحد القوانين الطبيعية في عناصر عالَم الخليقة ومنها الإنسان، إذ هو واحد من أرقى هذه العناصر، ولكن بفارقٍ: أنّ التأثير والتأثّر في الإنسان يتمّ عَبر اختياره وإرادته ممّا يميّزه عن سائر عناصر العالَم، وطبعاً نحن لا نروم الدخول في البحث الفلسفي والعلمي، وإنّما نريد من خلال هذه المقدّمة أن نفتح نافذة على العلاقات الأخلاقية والإنسانية، وأن نعثر على موقعنا وسط ضجيج الحياة.

ولكي نتعرَّف موقعنا بالقياس إلى أحد عناصر عالَم الطبيعة، نذكر قصّة التربة الزكية التي كانت تُستعمل قديماً في غَسل الرأس، والتي ذكرها ( سعدي الشيرازي ) في إحدى قصائده قال فيها ما معناه: ( وصلتني من المحبوب في الحمّام يوماً تربة عطرة، فقلت لها: هل أنتِ مسك أم أنتِ عنبر؟ فقد أسكرني شذاكِ، فأجابتني: لم أكن سوى تربة وضيعة، إلاّ أنّني جاورتُ وردة رَدحاً من الزمن، فأثّرت فيّ واكتسبتُ الكمال منها ).

الطريق الرابع:

ويمكن اختيار واحد من هذه الطُرق الأربعة:

١ - عدم التأثير والتأثّر.

٢ - التأثّر وعدم التأثير.

٣ - التأثير وعدم التأثّر.

٤ - التأثير والتأثّر.

٥٩

والطريق الأوّل من هذه الطرق: الذي لا يتأثّر فيه الشخص بصفات الآخرين الحسنة، ولا تكون له قدرة على التأثير فيهم، يمثّل مرحلة الجمود والانحطاط الإنساني، التي يكون فيها أدنى من مستوى الجمادات!

وفي الطريق الثاني: نجد أنّ الإنسان الذي لم يحصل على السجايا الفاضلة والصفات الحسنة، لا يمكنه في هذه الحالة أن يؤثّر في غيره، وقد قيل قديماً: إنّ فاقد الشيء لا يعطيه!

وفي الطريق الثالث: حيث إنّه لم يحصل على صلاح ولم يصل إلى مقام رفيع، وقد يكون عنصراً فاسداً، فإنّ تأثيره في غيره سيكون تأثيراً مُخرّباً وذا نتائج سيئة.

وعليه: فإنّ الطريق الرابع، هو أفضل الطُرق المتقدّمة وأنسبها، وهو الطريق الذي يكون فيه الإنسان مؤثّراً ومتأثّراً، ولكن شريطة أن يكون واعياً في كلتا حالَي التأثير والتأثّر، وأن يكون ثاقب البصيرة؛ ليميّز بين الجميل والقبيح، والمعروف والمنكر، والحسن والرديء، والصلاح والفساد، والخير والشر، والحقّ والباطل.

وعندها سيغدو الإنسان مَشعلاً وضّاءً، ويتمتّع بجمال نوراني من ناحية، ومن ناحية أخرى سيضيء الطريق للآخرين، وسيكون كالماءِ الجاري الذي ينبض بالحياة، وفي الوقت نفسه يسقي الضفاف اليابسة ليمدّها بالحياة.

حلاوةُ الإيمان

يُطالعنا القرآن الكريم بقصصٍ جميلة عن التأثير، التأثّر بالنسبة إلى جماعة من النصارى الذين آمنوا بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، حيث يقول:( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) (١) .

____________________

(١) سورة المائدة: الآية ٨٣.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يقرأ في كلّ ركعة الحمد مرّة، وخمسين مرّة قل هو الله احد.

وصلاة فاطمة،عليها‌السلام ، ركعتان: يقرأ في الأولى منهما الحمد مرّة واحدة، وإنا أنزلناه مائة مرّة، وفي الثّانية الحمد مرّة وقل هو الله أحد مائة مرّة.

وصلاة جعفر أربع ركعات بثلاثمائة مرّة « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر »: يبتدئ الصّلاة، فيقرأ الحمد ويقرأ في الأولى منهما إذا زلزلت. فإذا فرغ منها، سبّح خمس عشرة مرة، ثمَّ ليركع، ويقول ذلك عشرا. فإذا رفع رأسه، قاله عشرا. فإذا سجد، قاله عشرا. فإذا رفع رأسه من السّجود، قاله عشرا. فإذا سجد الثّانية، قاله عشرا. فإذا رفع رأسه من السّجود ثانيا، قاله عشرا. فهذه خمس وسبعون مرّة. ثمَّ لينهض إلى الثّانية، وليصلّ أربع ركعات على هذا الوصف، ويقرأ في الثّانية و « العاديات »، وفي الثّالثة إذا جاء نصر الله، وفي الرّابعة قل هو الله أحد ويقول في آخر سجدة منه « يا من لبس العزّ والوقار » إلى آخر الدّعاء.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان يوم الغدير إذا بقي إلى الزّوال نصف ساعة بعد أن يغتسل ركعتين: يقرأ في كلّ واحدة منهما الحمد مرّة، وقل هو الله أحد عشر مرّات وآية الكرسيّ

١٤١

عشر مرّات، وإنا أنزلناه عشر مرّات. فإذا سلّم، دعا بعدهما بالدعاء المعروف.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان يوم المبعث، وهو اليوم السابع والعشرون من رجب، اثنتي عشرة ركعة: يقرأ في كل واحدة منهما « الحمد ويس ». فان لم يتمكّن، قرأ ما سهل عليه من السّور. فإذا فرغ منها، جلس في مكانه، وقرأ أربع مرّات سورة الحمد، وقُلْ هو اللهُ أَحد مثل ذلك، والمعوذّتين، كلّ واحدة منهما أربع مرّات. ثمَّ يقول: « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر » أربع مرّات، ويقول: « الله الله لا أشرك به شيئا » أربع مرّات.

ويستحبّ أن يصلّي ليلة النّصف من شعبان أربع ركعات: يقرأ في كلّ واحدة منهما الحمد مرّة وقل هو الله أحد مائة مرّة.

وإذا أراد الإنسان أمرا من الأمور لدينه أو دنياه، يستحبّ له أن يصلّي ركعتين: يقرأ فيهما ما شاء من السّور، ويقنت في الثّانية. فإذا سلّم: دعا بما أراد، ثمَّ ليسجد وليستخر الله في سجوده مائة مرّة، يقول: « أستخير الله في جميع أموري »، ثمَّ يمضي في حاجته.

وإذا غرض للإنسان حاجة، فليصم الأربعاء والخميس والجمعة، ثمَّ ليبرز تحت السّماء في يوم الجمعة وليصلّ

١٤٢

ركعتين، يقرأ فيهما بعد الحمد مأتي مرّة وعشر مرّات قل هو الله أحد على ترتيب صلاة التّسبيح، إلّا أنه يجعل بدل التّسبيح في صلاة جعفر، خمس عشرة مرّة قل هو الله أحد في الرّكوع والسّجود وفي جميع الأحوال. فإذا فرغ منها سأل الله حاجته.

وإذا قضيت حاجته، فليصلّ ركعتين شكرا لله تعالى: يقرأ فيهما الحمد وإِنا أَنزلناه أو سورة قُلْ هو اللهُ أَحد، ثمَّ ليشكر الله تعالى على ما أنعم في حال السّجود والرّكوع وبعد التّسليم، إن شاء الله.

باب الصلاة على الموتى

الصّلاة على الأموات فريضة. وفرضه على الكفاية، إذا قام به البعض، سقط عن الباقين. ولا يختلف الحكم في ذلك، سواء كان الميّت رجلا أو امرأة، حرّا أو عبدا، إذا كان له ستّ سنين فصاعدا، وكان على ظاهر الإسلام. فإن نقص سنّه عن ستّ سنين، لم تجب الصّلاة عليه، بل يصلّى عليه استحبابا وتقيّة.

وإذا حضر القوم للصّلاة عليه، فليتقدّم أولى النّاس به، أو من يأمره الوليّ بذلك. وإن حضر الإمام العادل، كان أولى بالصّلاة عليه. وإن حضر رجل من بني هاشم معتقد للحقّ،

١٤٣

كان أيضا أولى بالصّلاة عليه، إذا قدّمه الولي. ويستحب له تقديمه. فإن لم يفعل، فليس له أن يتقدّم للصّلاة عليه. والزّوج أحقّ بالصّلاة على المرأة من أخيها وأبيها.

وإذا كانوا جماعة، فليتقدّم الإمام ويقف الباقون خلفه صفوفا أو صفا واحدا. وإن كان فيهم نساء، فليقفن آخر الصّفوف، فلا يختلطن بالرّجال. فإن كان فيهنّ حائض، فلتقف وحدها في صفّ بارزة عنهن وعنهم. وإن كان من يصلّي على الميّت نفسين، فليتقدّم واحد ويقف الآخر خلفه سواء، ولا يقف على جنبه.

وينبغي أن يقف الإمام من الجنازة، إن كانت لرجل، عند وسطها، وان كانت لامرأة، عند صدرها. وإذا اجتمع جنازة رجل وامرأة فلتقدّم المرأة إلى القبلة، ويجعل الرّجل ممّا يليها، ويقف الإمام عند الرّجل. وان كان رجل وامرأة وصبي، فليقدّم الصّبي، ثمَّ المرأة، ثمَّ الرّجل. وإن كان معهم عبد فليقدّم أوّلا الصّبي، ثمَّ المرأة، ثمَّ العبد، ثمَّ الرّجل، ويقف الإمام عند الرّجل ويصلّي عليهم صلاة واحدة. وكذلك الحكم، إن زادوا في العدد على ما ذكرناه، ويكون على هذا ترتيبهم.

وينبغي أن يكون بين الإمام وبين الجنازة شي‌ء يسير، ولا يبعد منها. وليتحفّ عند الصّلاة عليه، ان كان عليه نعلان.

١٤٤

فإن لم يكن عليه نعل، أو كان عليه خفّ، فلا بأس أن يصلّي كذلك.

ثمَّ يرفع الإمام يده بالتّكبير، ويكبّر خمس تكبيرات، يرفع يده في أوّل تكبيرة منها حسب، ولا يرفع فيما عداها. هذا هو الأفضل. فإن رفع يده في التّكبيرات كلّها، لم يكن به بأس. وإذا كبّر الأولة، فليشهد: أن لا إله إلّا الله. وأنّ محمدا رسول الله، ثمَّ يكبّر الثّانية ويصلّي على النّبي وآله، ثمَّ يكبّر الثّالثة ويدعوا للمؤمنين، ثمَّ يكبّر الرّابعة ويدعوا للميّت إن كان مؤمنا.

فإن لم يكن كذلك، وكان ناصبا معلنا بذلك، لعنه في صلاته، وتبرّأ منه. وإن كان مستضعفا فليقل: ربنا اغفر( لِلَّذِينَ تابُوا ) إلى آخر الآية. وإن كان ممّن لا يعرف مذهبه، فليدع الله أن يحشره مع من كان يتولّاه. وإن كان طفلا فليسأل الله أن يجعله له ولأبويه فرطا. فإذا فرغ من ذلك، كبّر الخامسة.

ولا يبرح من مكانه حتّى ترفع الجنازة، فيراها على أيدي الرّجال، ومن فاته شي‌ء من التّكبيرات، فليتمّه عند فراغ الإمام من الصّلاة متتابعة. فإن رفعت الجنازة، كبّر عليها، وان كانت مرفوعة. وإن كانت قد بلغت إلى القبر، كبّر على القبر ما بقي له، وقد أجزأه. ومن كبّر تكبيرة قبل

١٤٥

الإمام، فليعدها مع الإمام.

ومن فاتته الصّلاة على الجنازة، فلا بأس أن يصلّي على القبر بعد الدّفن يوما وليلة. فإن زاد على ذلك، لم يجز الصّلاة عليه. ويكره أن يصلّي على جنازة واحدة مرّتين.

ولا بأس أن يصلّى على الجنازة أيّ وقت كان من ليل أو نهار، ما لم يكن وقت فريضة. فإن كان وقت فريضة، بدئ بالفرض ثمَّ بالصّلاة على الميّت، اللهمّ إلّا أن يكون الميّت مبطونا أو ما أشبه ذلك ممّن يخاف عليه الحوادث، فإنّه يبدأ بالصّلاة عليه، ثمَّ بصلاة الفريضة.

ولا بأس بالصّلاة على الجنائز في المساجد. وإن صلّي عليها في مواضعها المختصّة بذلك، كان أفضل. ومتى صلّي على جنازة، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّها كانت مقلوبة، سوّيت، وأعيد عليها الصّلاة، ما لم يدفن. فإن دفن، فقد مضت الصّلاة.

والأفضل أن لا يصلّي الإنسان على الجنازة إلّا على طهر. فإن فاجأته جنازة، ولم يكن على طهارة، تيمّم، وصلّى عليها. فإن لم يمكنه، صلّى عليها بغير طهر. وكذلك الحكم في من كان جنبا، والمرأة إذا كانت حائضا، فإنّه لا بأس أن يصليا عليه من غير اغتسال. فإن تمكّنا من الاغتسال، اغتسلا، فإنّ ذلك أفضل.

وإذا كبّر الإمام على الجنازة تكبيرة أو تكبيرتين،

١٤٦

وأحضرت جنازة أخرى، فهو مخيّر بين أن يتمّ خمس تكبيرات على الجنازة الأولى، ثمَّ يستأنف الصّلاة على الأخرى، وبين أن يكبّر خمس تكبيرات من الموضع الذي انتهى إليه، وقد أجزأه ذلك عن الصّلاة عليهما.

فإذا حضر جماعة من النساء للصّلاة على الميّت، ليس فيهنّ رجل، فلتقف واحدة منهنّ في الوسط، والباقيات عن يمينها وشمالها ويصلّين عليها. وكذلك إذا صلّوا جماعة عراة على الجنازة، فلا يتقدّم منهم أحد، بل يقف في الوسط، ويكبّر، ويكبّر الباقون معه. فإن كان الميّت عريانا، ترك في القبر أوّلا، وغطّى سوأته، ثمَّ صلّي عليه بعد ذلك، ودفن.

١٤٧

كتاب الصيام

باب ماهية الصوم ومن يجب عليه ذلك ومن لا يجب عليه

الصوم في اللغة هو الإمساك، وهو في الشّريعة كذلك، إلا أنّه إمساك عن أشياء مخصوصة في زمان مخصوص.

والّذي يقع الإمساك عنه على ضربين: ضرب يجب الإمساك عنه، والآخر الأولى الإمساك عنه.

والذي يجب الإمساك عنه على ضربين: ضرب منهما متى لم يمسك الإنسان عنه، بطل صومه. والقسم الآخر متى لم يمسك عنه، كان مأثوما، وإن لم يبطل ذلك صومه.

فأما الذي يجب الإمساك عنه ممّا يبطل الصّوم بفعله. فهو الأكل والشّرب والجماع والارتماس في الماء والكذب على الله ورسوله وازدراد كلّ شي‌ء يفسد الصّيام والحقنة والقي‌ء على طريق العمد.

وأمّا الذي يجب الإمساك عنه، وإن لم يبطل الصّوم بفعله فهو النّظر إلى ما لا يجوز النظر اليه، والإصغاء إلى ما لا يحلّ

١٤٨

الإصغاء إليه من الغناء وقول الفحش، والكلام بما لا يسوغ التّكلّم به، ولمس ما لا يحلّ ملامسته، والمشي إلى المواضع المنهيّ عنها.

والذي الأولى الإمساك عنه، فالتّحاسد والتّنازع والمماراة وإنشاد الشعر، وما يجري مجرى ذلك ممّا نذكره من بعد في باب ما يفسد الصّيام وما لا يفسده.

والصّوم على ضربين: مفروض ومسنون.

فالمفروض على ضربين: ضرب يجب على كافّة المكلّفين مع التمكّن منه بالإطلاق. والضّرب الآخر يجب على من حصل فيه سبب وجوبه.

فالقسم الأوّل هو صوم شهر رمضان. فإنّه يلزم صيامه لسائر المكلّفين من الرّجال والنّساء والعبيد والأحرار، ويسقط فرضه عمّن ليس بكامل العقل من الصّبيان وغيرهما. ويستحبّ ان يؤخذ الصّبيان بالصّيام إذا أطافوه، وبلغوا تسع سنين وإن لم يكن ذلك واجبا عليهم. ويسقط فرض الصّيام عن العاجز عنه بمرض أو كبر أو ما يجري مجراهما ممّا سنبيّنه فيما بعد، إن شاء الله.

والذين يجب عليهم الصّيام على ضربين: منهم من إذا لم يصم متعمّدا، وجب عليه القضاء والكفّارة أو القضاء. ومنهم من لا يجب عليه ذلك. فالذين يجب عليهم ذلك، كل من

١٤٩

كان ظاهره ظاهر الإسلام. والذين لا يجب عليهم، هم الكفّار من سائر أصناف من خالف الإسلام. فإنه وإن كان الصّوم واجبا عليهم، فإنّما يجب بشرط الإسلام. فمتى يصوموه، لم يلزمهم. القضاء ولا الكفّارة.

والقسم الثّاني مثل صوم النّذور والكفّارات وما يجري مجراهما ونحن نبيّن كلّ ذلك في أبوابه، إن شاء الله.

باب علامة شهر رمضان وكيفية العزم عليه ووقت فرض الصوم ووقت الإفطار

علامة الشّهور رؤية الهلال مع زوال العوارض والموانع. فمتى رأيت الهلال في استقبال شهر رمضان، فصم بنيّة الفرض من الغد. فإن لم تره لتركك التّراءي له، ورؤي في البلد رؤية شائعة، وجب أيضا عليك الصّوم. فإن كان في السّماء علة، ولم يره جميع أهل البلد، ورآه خمسون نفسا، وجب أيضا الصّوم. ولا يجب الصّوم إذا رآه واحد أو اثنان، بل يلزم فرضه لمن رآه حسب، وليس على غيره شي‌ء.

ومتى كان في السّماء علة، ولم ير في البلد الهلال أصلا، ورآه خارج البلد شاهدان عدلان، وجب أيضا الصّوم. وإن لم

١٥٠

يكن هناك علة، وطلب فلم ير الهلال، لم يجب الصّوم إلّا أن يشهد خمسون نفسا من خارج البلد أنّهم رأوه.

ومتى لم ير الهلال في البلد، ولم يجي‌ء من الخارج من يخبر برؤيته، عددت من الشّهر الماضي ثلاثين يوما، وصمت بعد ذلك بنية الفرض. فان ثبت بعد ذلك بيّنة عادلة أنّه كان قد رئي الهلال قبله بيوم، قضيت يوما بدله.

والأفضل أن يصوم الإنسان يوم الشّكّ على أنّه من شعبان. فان قامت له البيّنة بعد ذلك أنّه كان من رمضان، فقد وفّق له، وأجزأ عنه، ولم يكن عليه قضاء. وإن لم يصمه، فليس عليه شي‌ء. ولا يجوز له أن يصوم ذلك اليوم على أنّه من شهر رمضان حسب ما قدّمناه، ولا أن يصومه وهو شاك فيه لا ينوي به صيام يوم من شعبان. فان صام على هذا الوجه، ثمَّ انكشف له أنّه كان من شهر رمضان، لم يجزئ عنه، وكان عليه القضاء.

والنيّة واجبة في الصّيام. ويكفي في نيّة صيام الشّهر كلّه أن ينوي في أوّل الشّهر، ويعزم على أن يصوم الشّهر كلّه. وإن جدّد النيّة في كلّ يوم على الاستيناف، كان أفضل. فإن لم يفعلها، لم يكن عليه شي‌ء. وإن نسي أن يعزم على الصّوم في أوّل الشّهر، وذكر في بعض النّهار، جدّد النّيّة، وقد أجزأه. فان لم يذكرها، وكان من عزمه قبل

١٥١

حضور الشّهر صيام الشّهر إذا حضر، فقد أجزأه أيضا. فإن لم يكن ذلك في عزمه، وجب عليه القضاء.

وإذا صام الإنسان يوم الشّكّ على أنّه من شعبان، ثمَّ علم بعد ذلك أنّه كان من شهر رمضان، فقد أجزأه. وكذلك إن كان في موضع لا طريق له إلى العلم بالشهر، فتوخّى شهرا فصامه، فوافق ذلك شهر رمضان، أو كان بعده، فقد أجزأه عن الفرض. وان انكشف له أنّه كان قد صام قبل شهر رمضان، وجب عليه استيناف الصّوم وقضاؤه.

وإذا نوى الإنسان الإفطار يوم الشّكّ، ثمَّ علم أنّه يوم من شهر رمضان، جدّد النّيّة ما بينه وبين الزّوال، وقد أجزأه، إذا لم يكن قد فعل ما يفسد الصّيام. وإن كان تناول ما يفسد الصّيام، أمسك بقيّة النّهار، وكان عليه القضاء. وإن لم يعلم الا بعد زوال الشمس، أمسك بقيّة النّهار عمّا يفسد الصّيام، وكان عليه قضاء ذلك اليوم.

والوقت الذي يجب فيه الإمساك عن الطّعام والشّراب، هو طلوع الفجر المعترض الذي يجب عنده الصّلاة، وقد بيّناه فيما مضى من الكتاب ومحلّل الأكل والشّرب إلى ذلك الوقت. فأما الجماع، فإنه محلّل إلى قبل ذلك بمقدار ما يتمكّن الإنسان من الاغتسال. فإن غلب على ظنّه، وخشي أن يلحقه الفجر قبل الغسل، لم يحلّ له ذلك.

١٥٢

ووقت الإفطار سقوط القرص. وعلامته ما قدّمناه من زوال الحمرة من جانب المشرق، وهو الوقت الذي يجب فيه الصّلاة. والأفضل أن لا يفطر الإنسان إلا بعد صلاة المغرب. فإن لم يستطع الصّبر على ذلك، صلّى الفرض، وأفطر، ثمَّ عاد، فصلّى نوافله. فإن لم يمكنه ذلك، أو كان عنده من يحتاج إلى الإفطار معه، قدّم الإفطار. فإذا فرغ منه، قام إلى الصّلاة، فصلّى المغرب.

باب ما على الصائم اجتنابه مما يفسد الصيام وما لا يفسده والفرق بين ما يلزم بفعله القضاء والكفارة وبين ما يلزم منه القضاء دون الكفارة

الذي على الصّائم اجتنابه على ضربين: ضرب يفسد الصّيام وضرب لا يفسده بل ينقضه. والذي يفسده على ضربين: ضرب منهما يجب منه القضاء والكفّارة، والضّرب الآخر يجب منه القضاء دون الكفّارة.

فأمّا الذي يفسد الصّيام ممّا يجب منه القضاء والكفّارة، فالأكل، والشّرب، وازدراد كلّ شي‌ء يقصد به إفساد الصّيام والجماع، والإمناء على جميع الوجوه، إذا كان عند ملاعبة أو ملامسة، وان لم يكن هناك جماع. والكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمّةعليهم‌السلام ، متعمّدا مع الاعتقاد لكونه

١٥٣

كذبا، وشمّ الرائحة الغليظة التي تصل إلى الحلق، والارتماس في الماء، والمقام على الجنابة والاحتلام باللّيل متعمّدا إلى طلوع الفجر. وكذلك، من أصابته جنابة، ونام من غير اغتسال، ثمَّ انتبه، ثمَّ نام، ثمَّ انتبه ثانيا، ثمَّ نام إلى طلوع الفجر. فهذه الأشياء كلّها تفسد الصّيام، ويجب منها القضاء والكفّارة.

والكفّارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستّين مسكينا، وقضاء ذلك اليوم. أيّ ذلك فعل، فقد أجزأه. فإن لم يتمكّن، فليتصدّق بما تمكّن منه. فإن لم يتمكّن من الصّدقة، صام ثمانية عشر يوما. فإن لم يقدر، صام ما تمكّن منه. فإن لم يستطع، قضا ذلك اليوم، وليستغفر الله تعالى، وليس عليه شي‌ء. ومتى وطئ الرّجل امرأته نهارا في شهر رمضان، كان عليها أيضا القضاء والكفّارة، إن كانت طاوعته على ذلك. وإن كان أكرهها، لم يكن عليها شي‌ء، وكان عليه كفّارتان.

وأمّا الذي يفسد الصّيام ممّا يجب منه القضاء دون الكفّارة، فمن أجنب في أوّل اللّيل، ونام، ثمَّ انتبه، ولم يغتسل، فنام ثانيا، واستمرّ به النّوم الى طلوع الفجر، كان عليه القضاء، وصيام ذلك اليوم، وليس عليه كفّارة. ومن تمضمض للتبرّد دون الطّهارة، فدخل الماء حلقه، وجب عليه

١٥٤

القضاء دون الكفّارة. وكذلك من تقيّأ متعمّدا، وجب عليه القضاء دون الكفّارة. فإن ذرعه القي‌ء، لم يكن عليه شي‌ء. وليبصق بما يحصل في فيه. فإن بلعه، كان عليه القضاء.

ومن أكل أو شرب عند طلوع الفجر من غير أن يرصده، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّه كان طالعا، كان عليه القضاء. فإن رصده ولم يتبيّنه لم يكن عليه شي‌ء. فإن بدأ بالأكل، فقيل له: قد طلع الفجر، فلم يمتنع، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّه كان طالعا، وجب عليه القضاء. ومن قلّد غيره في أنّ الفجر لم يطلع، ثمَّ تبيّن أنّه كان طالعا، وجب عليه القضاء.

ومن شكّ في دخول اللّيل لوجود عارض في السّماء، ولم يعلم بدخول الليل، ولا غلب على ظنّه ذلك، فأفطر، ثمَّ تبيّن بعد ذلك أنّه كان نهارا، كان عليه القضاء. فإن كان قد غلب على ظنّه دخول اللّيل، ثمَّ تبيّن أنّه كان نهارا، لم يكن عليه شي‌ء.

وجميع ما قدّمناه ممّا يفسد الصّيام، ممّا يجب منه القضاء والكفّارة، أو القضاء وحده، متى فعله الإنسان ناسيا وساهيا، لم يكن عليه شي‌ء. ومتى فعله متعمّدا، وجب عليه ما قدّمناه، وكان على الإمام أن يعزّره بحسب ما يراه. فإن تعمّد الإفطار ثلاث مرّات، يرفع فيها إلى الإمام: فإن كان عالما بتحريم ذلك عليه، قتله الإمام في الثّالثة والرّابعة. وإن لم

١٥٥

يكن عالما، لم يكن عليه شي‌ء.

ويكره للصّائم الكحل إذا كان فيه مسك. وإن لم يكن فيه ذلك، لم يكن به بأس.

ولا بأس للصّائم أن يحتجم ويفتصد، إذا احتاج إلى ذلك، ما لم يخف الضّعف. فإن خاف، كره له ذلك، إلّا عند الضّرورة اليه.

ويكره له تقطير الدّهن في أذنه إلّا عند الحاجة اليه، ويكره له أن يبلّ الثّوب على جسده. ولا بأس أن يستنقع في الماء الى عنقه، ولا يرتمس فيه حسب ما قدّمناه. ويكره ذلك للنّساء. ويكره للصّائم السّعوط. وكذلك الحقنة بالجامدات. ولا يجوز له الاحتقان بالمائعات. ويكره له دخول الحمّام إذا خاف الضّعف. فإن لم يخف، فليس به بأس.

ولا بأس بالسّواك للصّائم بالرّطب منه واليابس. فان كان يابسا، فلا بأس أن يبلّه أيضا بالماء. وليحفظ نفسه من ابتلاع ما حصل في فيه من رطوبته. ويكره له شمّ النّرجس وغيره من الرّياحين. وليس كراهية شمّ النّرجس مثل الرّياحين بل هي آكد. ولا بأس أن يدّهن بالأدهان الطيّبة وغير الطيّبة. ويكره له شمّ المسك وما يجري مجراه.

ويكره للصّائم أيضا القبلة، وكذلك مباشرة النّساء وملاعبتهنّ. فإن باشرهنّ بما دون الجماع أو لاعبهن بشهوة،

١٥٦

فأمذى، لم يكن عليه شي‌ء. فإن أمنى، كان عليه ما على المجامع. فإن أمنى من غير ملامسة لسماع كلام أو نظر، لم يكن عليه شي‌ء. ولا يعود إلى ذلك.

ولا بأس للصّائم أن يزقّ الطّائر، والطّباخ أن يذوق المرق، والمرأة أن تمضغ الطّعام للصّبي ولا تبلغ شيئا من ذلك. ولا يجوز للصائم مضغ العلك. ولا بأس ان يمص الخاتم والخرز وما أشبههما.

باب حكم المريض والعاجز عن الصيام

المريض الذي لا يقدر على الصّيام أو يضرّ به، يجب عليه الإفطار، ولا يجزي عنه إن صامه، وكان عليه القضاء إذا برأ منه. فإن أفطر في أوّل النّهار، ثمَّ صحّ فيما بقي منه، أمسك تأديبا، وكان عليه القضاء.

فإن لم يصحّ المريض، ومات من مرضه الذي أفطر فيه، يستحبّ لولده الأكبر من الذّكور أن يقضي عنه ما فاته من الصّيام. وليس ذلك بواجب عليه. فإن برأ من مرضه ذلك، ولم يقض ما فاته، ثمَّ مات، وجب على وليّه القضاء عنه. وكذلك إن كان قد فاته شي‌ء من الصّيام في السفر، ثمَّ مات قبل أن يقضي، وكان متمكّنا من القضاء، وجب على وليّه أن يصوم عنه.

١٥٧

فإن فات المريض صوم شهر رمضان، واستمرّ به المرض إلى رمضان آخر، ولم يصحّ فيما بينهما، صام الحاضر، وتصدّق عن الأول عن كلّ يوم بمدين من طعام. فإن لم يمكنه فبمد منه. فان لم يتمكّن، لم يكن عليه شي‌ء، وليس عليه قضاء. فإن صحّ فيما بين الرّمضانين، ولم يقض ما عليه، وكان في عزمه القضاء قبل الرّمضان الثّاني، ثمَّ مرض، صام الثّاني، وقضى الأوّل، وليس عليه كفّارة. فإن أخّر قضاءه بعد الصحّة توانيا، وجب عليه أن يصوم الثّاني، ويتصدّق عن الأوّل ويقضيه أيضا بعد ذلك. وحكم ما زاد على الرّمضانين حكم رمضانين على السّواء. وكذلك لا يختلف الحكم في أن يكون الذي فاته الشّهر كلّه أو بعضه، بل الحكم فيه سواء.

والمريض إذا كان قد وجب عليه صيام شهرين متتابعين، ثمَّ مات، تصدّق عنه عن شهر، ويقضي عنه وليّه شهرا آخر.

والمرأة أيضا، حكمها حكم ما ذكرناه، في أنّ ما يفوتها من الصّيام بمرض أو طمث، لا يجب على أحد القضاء عنها، إلا أن تكون قد تمكّنت من القضاء، فلم تقضه، فإنّه يجب القضاء عنها. ويجب أيضا القضاء عنها ما يفوتها بالسّفر حسب ما قدّمناه في حكم الرّجال.

وحدّ المرض الذي يجب معه الإفطار، إذا علم الإنسان من

١٥٨

نفسه: أنه إن صام، زاد ذلك في مرضه، أو أضرّ به. وسواء الحكم أن يكون المرض في الجسم، أو يكون رمدا، أو وجع الأضراس. فإن عند جميع ذلك يجب الإفطار مع الخوف من الضّرر.

والشّيخ الكبير والمرأة الكبيرة، إذا عجزا عن الصّيام، أفطرا وتصدّقا عن كل يوم بمدّين من طعام. فإن لم يقدرا عليه فبمدّ منه. وكذلك الحكم فيمن يلحقه العطاش ولا يقدر معه على الصّوم. وليس على واحد منهم القضاء. والحامل المقرب والمرضع القليلة اللّبن لا بأس أن تفطرا، إذا أضرّ بهما الصّوم وتتصدّقا عن كلّ يوم وتقضيا ذلك اليوم فيما بعد.

وكلّ هؤلاء الذين ذكرنا: أنه يجوز لهم الإفطار، فليس لهم أن يأكلوا شبعا من الطعام، ولا أن يشربوا ريّا من الشراب، ولا يجوز لهم أن يواقعوا النّساء.

باب حكم من أسلم في شهر رمضان ومن بلغ فيه والمسافر إذا قدم أهله والحائض إذا طهرت والمريض إذا برأ

من أسلم في شهر رمضان، وقد مضت منه أيّام، فليس عليه قضاء شي‌ء ممّا فاته من الصّيام، وعليه صيام ما يستأنف من الأيام. وحكم اليوم الذي يسلم فيه، إن أسلم قبل طلوع الفجر، كان عليه صيام ذلك اليوم. فإن لم يصمه. كان عليه

١٥٩

القضاء. وإذا أسلم بعد طلوع الفجر، لم يجب عليه صيام ذلك اليوم، وكان عليه أن يمسك تأديبا إلى آخر النّهار.

وحكم من بلغ في شهر رمضان أيضا ذلك الحكم في أنّه يجب عليه صيام ما بقي من الأيام بعد بلوغه، وليس عليه قضاء ما قد مضى ممّا لم يكن بالغا فيه.

والمسافر إذا قدم أهله، وكان قد أفطر، فعليه أن يمسك بقيّة النّهار تأديبا، وكان عليه القضاء. فإن لم يكن قد فعل شيئا ينقض الصّوم، وجب عليه الإمساك، ولم يكن عليه القضاء. فإن طلع الفجر، وهو بعد خارج البلد، كان مخيّرا بين الإمساك ممّا ينقض الصّوم، ويدخل بلده، فيتمّ صومه ذلك اليوم، وبين أن يفطر، فإذا دخل إلى بلده، أمسك بقيّة نهاره تأديبا، ثمَّ قضاه حسب ما قدّمناه. والأفضل، إذا علم أنّه يصل إلى بلده، أن يمسك عمّا ينقض الصّيام. فإذا دخل الى بلده، تمّم صومه، ولم يكن عليه قضاء.

والحائض، إذا طهرت في وسط النّهار، أمسكت بقيّة النّهار تأديبا، وكان عليها القضاء، سواء كانت أفطرت قبل ذلك، أو لم تفطر. ويجب عليها قضاء ما فاتها من الصّيام في أيّام حيضها.

والمريض، إذا برأ من مرضه في وسط النّهار، أو قدر على الصّوم، وكان قد تناول ما يفسد الصّوم، كان عليه الإمساك

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214