ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب27%

ما يحتاجه الشباب مؤلف:
الناشر: ناظرين
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 214

ما يحتاجه الشباب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 155731 / تحميل: 8918
الحجم الحجم الحجم
ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب

مؤلف:
الناشر: ناظرين
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

من جهة أخرى؟

إلى غير ذلك من الأبحاث الكثيرة والمتعدّدة.

هذه الأمور والاحتمالات التي طرحناها لم تُعرض ضمن بحث مستقلٍ منفرد ومتميّز في الكتب، أو الأبواب الفقهيّة.

وقد يجدها المتتبّع في طيّات كلمات الفقهاء وأبحاثهم هنا وهناك في موارد متفرّقة، ومواضع مختلفة.

مثلاً: قد يجدها المتتبّع في موضوع حرمة تنجيس القرآن أو وجوب تطهيره إذا لاقته النجاسة.

وفي بحث الوقف والصدقات وإحياء الموات، وقضيّة حُرمة المؤمن، وحُرمة الكعبة، وفي باب الحدود، في حكم سبّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - والعياذ بالله تعالى - أو هتك مقدّسات الدين، حيث يبحث العلماء في هذه الموارد عن الشعائر الدينيّة، وإنّ هتكها هل هو موجب للكفر أم لا؟

ومضافاً إلى ذلك، هناك بعض الكتب والرسائل التي أُلِّفت في بحث الشعائر الحسينيّة(1)، وقد ذكروا فيها بعض الضوابط الشرعيّة إلى حدّ ما، فمن الجدير مراجعة تلك الكتب وملاحظة الخطوط العامّة لهذا البحث، وما تتضمّنه من نقض وإبرام.

____________________

(1) نذكر - على سبيل المثال - بعض تلك الرسائل والمؤلّفات:

الشعائر الحسينيّة في الميزان الفقهي، لآية الله الشيخ عبد الحسين الحلّي (رحمه الله).

نصرة المظلوم، لآية الله الشيخ حسن المظفّر (رحمه الله).

الشعائر الحسينيّة، سماحة السيّد حسن الشيرازيّ (رحمه الله).

نجاة الأمّة في إقامة العزاء، الحاج السيّد محمّد رضا الحسيني الحائري.

الشعائر الحسينيّة سُنّة أم بدعة، الشيخ أحمد الماحوزي.

٢١

الجانبُ الرابع: إطار موضوع القاعدة

قد تُضافُ الشعائر إلى لفظ الجلالة (الله) فنقول: (شعائر الله)، كما في الآيات الكريمة(1) ، ومنها قوله تعالى:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) .

وأيضاً الشعائر أو الشعيرة أو الشعارة - على اختلاف هيئات المادّة - قد تضاف إلى المذهب، فيقال: شعائر المذهب.

وأيضاً، قد تضاف إلى الحسين (عليه السلام) باسم الشعائر الحسينيّة.

وأيضاً، قد تضاف إلى الدين، فتُعرف باسم شعائر الدين وشعائر الإسلام.

وسيتبيّن أنّ هذه الإضافات ما هي إلاّ تفريعات وتطبيقات لنفس القاعدة الواحدة، فيقال: شعائر الله، أو يقال: الشعائر الحسينيّة، أو يقال: شعائر المذهب، أو يقال: شعائر الإسلام، أو شعائر الدين، وهي - على كلّ حال - تبويبات وتصنيفات لذكر فروع لأصل واحد، أو تكون مرادفات لنفس المسمّى.

وسيظهر ما في هذا التعبير من نواحٍ تربويّة متعدّدة، وتفريعات لنكاتٍ فقهيّة مختلفة.

____________________

(1) المائدة: 2، الحج: 32، البقرة: 158.

(2) الحجّ: 32.

٢٢

الجانبُ الخامس:

جرياً على ديدن العلماء في تصنيف كلّ مسألة بإدراجها في باب من الأبواب الفقهية، ففي أيّ باب من الأبواب يمكن درج هذه القاعدة؟ هل في باب الفقه السياسي، أم في باب الفقه الاجتماعي، أم باب فقه القضاء، أم فقه المعاملات؟

وسيظهر خلال مراحل البحث: أنّ من خصائص هذه القاعدة وهذا الواجب الدينيّ العظيم، أنّ هذا الواجب ليس واجباً ملقى على عاتق رموز الدولة الإسلاميّة أو الحكومة فحسب، وليس مُلقى على عاتق المرجعيّة فقط، الّتي قد تُسمّى بالاصطلاح الأكاديمي الحديث حكومة المرجع، ولا على عاتق الهيئات الدينيّة دون غيرها.

وإنّما هذا الواجب - كما سيتبيّن - هو واجب كفائيّ يُلقى على عاتق عموم المسلمين، ويتحمّل مسؤوليّة إقامته جميع طبقات وشرائح المجتمع الإسلامي، ومن ثُمّ كان الأولَى إدراج هذه القاعدة في أبواب فقه الاجتماع، من قبيل: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا في خصوص الفقه السياسي، ولا في خصوص فقه الأبواب الأُخرى، بل يكون انضمامها تحت باب الفقه الاجتماعي هو الأنسب لهذه القاعدة.

هذه جوانب ذكرناها بعنوان ديباجة وتمهيد للبحث، أمّا بالنسبة إلى تبويب وتصنيف جهات البحث؛ فإنّ البحث سيقع - إن شاء الله تعالى - في مقامين رئيسيّين:

٢٣

المقامُ الأول

في عُموم قاعِدة الشَعائر الدينيّة

وهذا المقام يتألّف من الجهات التالية:

الجهة الأولى: الأدلّة الإجماليّة الواردة في هذه القاعدة.

الجهة الثانية: أقوال الفقهاء والمتكلّمين والمفسّرين والمحدّثين حول قاعدة الشعائر الدينيّة.

الجهة الثالثة: البحث في معنى وماهيّة الموضوع، وهو الشعيرة والشعائر من الناحية اللُّغويّة.

الجهة الرابعة: كيفيّة تحقّق الموضوع، وهو الشعيرة والشعائر ومعالجة العديد من قواعد التشريع.

الجهة الخامسة: البحث في متعلّق الحكم لقاعدة الشعائر.

الجهة السادسة: نسبة حكم الشعائر مع العناوين الأوّليّة للأحكام من جهة، ومع العناوين الثانويّة للأحكام من جهة أُخرى.

الجهة السابعة: الموانع الطارئة على الشعائر، كالخرافة والاستهزاء والهتك والشنعة.

٢٤

المقامُ الثاني

الشَعائرُ الحُسينيّة

يقع البحث في خصوصيات الشعائر الحسينيّة، ودراسة قوّة وتماميّة الأدلّة الخاصّة الواردة فيها، وردّ الإشكالات والانتقادات التي وُجِّهت لها، وأُثيرَت حولها.

وهل يختلف حكمها عن الأحكام العامّة في الشعائر؟

أم هي تتضمّن الأحكام العامّة للشعائر وزيادة؟

ويقع البحث خلال الجهات الآتية:

الجهة الأولى: أهداف النهضة الحسينيّة.

الجهة الثانية: أدلّة الشعائر الحسينيّة.

الجهة الثالثة: أقسام الشعائر الحسينيّة.

الجهة الرابعة: الرواية في الشعائر الحسينيّة.

الجهة الخامسة: البكاء.

الجهة السادسة: الشعائر الحسينيّة والضرر.

الجهة السابعة: لبس السواد.

الجهة الثامنة: ضرورة لعن أعداء الدين.

الجهة التاسعة: العزاء والرثاء سُنّة قرآنيّة.

مِسكُ الختام: مآتم العزاء التي أقامها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسين (عليه السلام).

هذا ما سنتطرّق إليه مفصّلاً فيما يأتي من البحوث - إن شاء الله تعالى - ونبدأ البحث في جهات المقام الأول:

٢٥

٢٦

المقامُ الأوّل الشَعائرُ الدينيّة

٢٧

٢٨

الجهةُ الأوّلى:الأدلّةُ الإجماليّة

٢٩

٣٠

في بداية كلّ بحث لابدّ أن يعثر الفقيه أو المجتهد على أدلّة معيّنة لعنوان البحث، وهذه الأدلّة حسب قواعد علم الفقه والأصول لها ثلاثة محاور، هي: الموضوع، والمحمول، والمتعلّق.

الموضوع: هو ما يُشار به إلى قيود الحُكم.

والمحمول: هو الحكم الشرعي، إمّا وجوب، أو حُرمة، أو مِلكيّة، أو غير ذلك، بمعنى الحُكم الشرعي الشامل للحُكم التكليفي وللحُكم الوضعي.

المتعلَّق: وهو الفعل المطلوب حصوله في الخارج إذا كان الحُكم وجوباً، أو الفعل اللازم تركه إذا كان الحكم حرمةً.

على سبيل المثال: في دليل: (إذا زالت الشمس فصلِّ)، نلاحظ هذه المَحاور الثلاثة كالآتي:

الموضوع: هو الزوال.

والمحمول: الحُكم وهو الوجوب.

والمتعلّق: وهو صلاة الظهر.

ومِحور الموضوع الذي هو قيود الوجوب، ويُطلق على قيود أيّ حكم تكليفي أو وضعي بأنّه: موضوع أصولي، أو موضوع فقهي، وفي مثالنا السابق يعتبر الزوال من قيود الوجوب.

٣١

فاللازم استعراض الأدلّة الواردة في قاعدة الشعائر وتقرير مفادها على ضوء هذا التثليث.

الطائفة الأولى من الأدلّة:

(1) -( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ) (1) .

قد ورد في الآية عموم لفظ الشعائر، وهو حُكم من الأحكام القرآنيّة، فلنتعرّف على موضوع ومتعلّق هذا المورد، وعلى حكمه أيضاً.

الموضوع: هو الشعائر(2) .

المتعلّق: هو التعظيم إن جُعِل الحُكم إيجابيّاً، أو التهاون إن جُعِل الحكم تحريميّاً.

الحُكم: حرمة التحليل وحرمة التهاون، ويمكن جعل الحُكم وجوب التعظيم.

(2) -( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) وقد يقال للموضوع: متعلّق المتعلّق، ففي مثال حرمة شرب الخمر؛ فإنّ الحُرمة تتعلّق بالشُرب، والشرب بدوره يتعلّق بالخمر، فالخمر يقال له: متعلّق متعلّق الحكم.. وهذا تابع لقاعدة أصوليّة محرّرة عند علماء الأصول تقول: إنّ متعلّق متعلّق الحُكم يكون موضوعاً للحُكم، سواء كان الحكم تكليفيّاً أم وضعيّاً. اعتمدَت عليها مدرسة الميرزا النائيني (رحمه الله)، إلاّ أنّ مشهور الطبقات المتقدِّمة من العلماء على خلاف ذلك، وهو الأصح.

٣٢

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) .

هذا المقطع من الآية الشريفة( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ... ) ، أدرجهُ كثير من العلماء ضمن آيات الشعائر أيضاً، مع أنّه لم يرد فيه لفظة الشعائر، والوجه في ذلك: هو الاعتماد على قاعدة معروفة ومشهورة لدى أساطين الفقه.

وهي أنّ الموضوع أو المتعلّق كما يمكن الاستدلال له بالأدلّة الوارد فيها العنوان نفسه أو المتضمّنة له، أو مرادفاته، كذلك يمكن الاستدلال له بالأدلّة الوارد فيها العنوان نفسه أو المتضمّنة له، أو مرادفاته، كذلك يمكن الاستدلال له بما يشترك معه في الماهيّة النوعيّة أو الجنسيّة، أي المماثل أو المجانس، بشرط أن يكون الحُكم مُنصبّاً على تلك الماهيّة، وإلاّ كان التعدّي قياساً باطلاً، كما يمكن الاستدلال له بالدليل الذي يتضمّن جزء الماهيّة، كذلك يمكن الاستدلال له بما يدلّ على اللازم له أو الملزوم له، فتتوسّع دائرة دلالة الأدلّة الدالّة على المطلوب.

ففي هذه الآية الشريفة:

الموضوع: حُرمات الله.

المتعلّق: التعظيم.

الحكم: الوجوب، أي: وجوب التعظيم.

(3) -( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) .

____________________

(1) الحج: 27 - 30.

(2) الحج: 32.

٣٣

وهذه من أوضح الآيات على إثبات المطلوب، حيت تدلّ على محبوبيّة ورجحان التعظيم لشعائر الله، حسب التقسيم الثلاثي المذكور من الموضوع والمتعلّق والحُكم.

(4) -( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (1) .

هنا وردت (مِن) تبعيضيّة، والمعنى: أنّ البدن من مصاديق الشعائر.

(5) -( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (2) .

(6) -( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) (3) .

هذه الآية الشريفة تعرّضت للشعائر، ولكن بصيغة المشعر.

هذه الطائفة من الأدلّة وافية في المقام، وعلينا أن نسبر غَورها لنصل إلى المَحاور الأساسيّة فيها، ولنتعرّف على مفادها ودلالتها.

الطائفةُ الثانية من الأدلّة:

هذه الأدلّة لم يرد فيها لفظ (الشعائر)، إلاّ أنّ بعض العلماء والمحقّقين(4) ذهبوا إلى استفادة حُكم الشعائر منها، وهي:

____________________

(1) الحجّ: 36.

(2) البقرة: 158.

(3) البقرة: 198.

(4) الميرزا القمّي (قدِّس سرّه) ضمن فتواه في كتاب (جامع الشتات) حول الشعائر الحسينيّة، والسيّد اليزدي (قدِّس سرّه) صاحب العروة في فتواه، والسيّد جمال الدين الگلبايكاني، أشاروا إلى وجود عمومات أخرى إضافةً لأدلّة الطائفة الأولى في المقام.

٣٤

(1) -( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1) .

ومن سياق الآيات التي قبلها:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الأَخِرِ.. ) .

وآية:( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ.. ) .

يُفهم أنّ الآيات بصدد بيان مسألة وجوب الجهاد، وضرورة المعرفة الحقّة والتوحيد ونشر الدين وتبليغه..

ثُمّ بعد ذلك تُبيّن الآية:( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) أهميّة النور الإلهي، ومحاولات أعداء الدين لإطفاء ذلك النور، ولكنّ الله سبحانه كتبَ على نفسه إحباط تلك المحاولات الشيطانيّة، ويأبى سبحانه إلاّ إتمام النور ونشر الصلاح والهدى.

ففي هذه الآية الشريفة:

الموضوع: هو نور الله سبحانه، وهو بدل لفظ (الشعائر) في آية( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ... ) ، ونور الله سبحانه عام يشمل جميع الأحكام.

المتعلَّق: النشر والتبليغ والبيان، وهو بدل التعظيم في تلك الآية.

والحُكم: وهو الوجوب، وجوب النشر أو حرمة الإطفاء والكتمان.

فيكون هذا الدليل - كقضيّة شرعيّة - مرادفاً ومكافئاً للآية الشريفة:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ) .

- وهذا يعني أنّنا لا نقتصر في إثبات هذه القاعدة على الآيات من الطائفة

____________________

(1) التوبة: 32.

٣٥

الأولى من الأدلّة، بل يمكن الاستدلال أيضاً بما يفيد مفادها أيضاً.

(2) -( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ والآصَال ) (1) بملاحظة الآيات التي تسبق هذه الآية من سورة النور، وهي:( وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (2) من سياق هذه الآيات، يظهر أنّ المراد من لفظة( فِي بُيُوتٍ... ) : هي البيوت التي فيها نور الله، والمراكز التي تكون مصادر إشعاع الدين، ومحالّ نشر الهداية والحق، ومحطّات بيان أحكام الدين الحنيف.

وهذه (البيوت) النوريّة والباعثة للنور، شاء الله وأراد أن تُرفع وتُكرّم، وأن تُبجّل وتُحترم، وينبغي أن يستمرّ ويدوم فيها ذِكر الله وعبادته وطاعته.

فهذه الآية من سورة النور، مرادفة لآية تعظيم الشعائر(3) ، ولآية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ... ) .

فالآية الشريفة تدلّ على وجوب نشر ورفع كلّ موطن ومركز ومحلّ يتكفّل ببيان أحكام الله وتعاليم رسالة السماء، المكنّى عنه في الآية الشريفة بنور الله.

____________________

(1) النور: 36.

(2) النور: 34 - 35.

(3)( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: 32.

٣٦

ومن ذلك يظهر أنّ الشعائر لا تختصّ بباب دون آخر، فهي لا تختصّ بمناسك الحجّ، ولا بالعبادات.

وإنّما تشمل كلّ ما فيه نشر لأحكام الدين، وتعمّ جميع ما به بيان وتبليغ للمعارف الإسلاميّة المختلفة.

(3) -( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (1) .

هذه الآية تدلّ على أنّ حفظ الدين وحفظ ذِكر الله سبحانه، وكذلك حفظ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو قوام الدين، وحفظ ذِكر أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم العِدل الآخر للقرآن، كلّ ذلك يُعتبر من الأغراض الشرعيّة العُليا للحق سبحانه وتعالى.

(4) -( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (2) .

بتقريب أنّ كلّ ما يؤول إلى إعلاء كلمة الله سبحانه وإزهاق كلمة الكافرين، فهو من الأغراض الشرعيّة والمقاصد الدينيّة.

(5) -( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (3) .

تُقرِّر الآية الكريمة وجوب التفقّه على المسلمين بعد الهجرة، ثُمّ الرجوع إلى بلادهم ووجوب التبليغ والإنذار، مُقدّمةً لحصول حالة الحذر، فهذا الإنذار

____________________

(1) الحجر: 9.

(2) التوبة: 4.

(3) التوبة: 122.

٣٧

لنشر معالم الدين وترسيخ قواعده يُبيّن في الواقع ماهيّة الشعائر.

فهذه الآية (آية الإنذار) بمنزلة المُبيّن والمفسِّر لأحد أركان ماهيّة العناوين التي وردت في الألسنة الأخرى من الأدلّة، وهو التبليغ والنشر للدين الحنيف.

(6) -( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (1) .

لسان هذه الآية، يوضِّح بُعداً آخر في حقيقة الشعائر، حيث تتضمّن في متعلّقها جنبة أخرى غير الأحكام الأوّليّة، ألا وهي جنبة ازدياد العلو والسُموّ للإسلام والمسلمين، وهذه غير جهة الإعلام، وإن كانت هي أحد نتائج الإعلام والنشر والإنذار.

فالبُعد الآخر الذي تتضمّنه قاعدة الشعائر الدينيّة: هو جنبة إعلاء كلمة الله سبحانه، وإعزاز كلمة المسلمين.

وقد توفّرت الأدلّة في إثبات ذلك بقدر وافٍ.

الطائفةُ الثالثة من الأدلّة:

وقد استُدلّ أيضاً على هذه القاعدة بما وردَ في الأبواب الخاصّة من الأدلّة، مثل: أدلّة خاصّة في مناسك الحج، أو أدلّة خاصّة في الشعائر الحسينيّة وغير ذلك، مثل: قول الصادق (عليه السلام):(رحمَ الله مَن أحيا أمرَنا) (2) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(يا علي، مَن عمّر قبوركم، وتَعاهدها، فكأنّما أعانَ

____________________

(1) النساء: 141.

(2) بحار الأنوار 2: 151: 30.

٣٨

سليمان بن داوود على بناء بيت المَقدس) (1) وما شابه ذلك.

أو ما ورد على لسان العقيلة زينب الكبرى (عليها السلام) بالنسبة لعزاء سيّد الشهداءصلى‌الله‌عليه‌وآله :(وسيوكِّل الله مَن يُجدّد له العزاء في كلّ عام) (2) تلك العناوين خاصّة في أبواب خاصّة.

وهذا اللسان الثالث من الأدلّة هو عبارة عن أحكام خاصّة في الموارد الأخرى، التي مفادها هو عين مفاد الشعائر، من لزوم البثّ والإعلان.

فزبدة القول: إنّ لدينا ثلاثة أشكال من الأدلّة:

الأوّل: أدلّة عامّة وردَ فيها لفظ الشعائر.

الثاني: أدلّة عامّة ومطلقه يظهر منها جانب الإعلام والإعلاء للدين.

الثالث: أدلّة مختصّة ببعض الأبواب، وتكون مرادفة لتعظيم الشعائر ولنشر الدين وإعلاء كلمته.

____________________

(1) بحار الأنوار 100: 120: 22.

(2) بحار الأنوار 44: 292.

٣٩

الجهةُ الثانية أقوالُ العامّة والخاصّة حول هذه القاعدة

٤٠

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( كان الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) يُسلّم على النساء ويَرددن عليه، وكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يُسلّم على النساء، وكان يكره أن يُسلّم على الشابّة منهنّ، ويقول: أتخوّف أن يُعجبني صوتها فيدخل عليّ أكثر ممّا طلبتُ من الأجر ) (١) .

بل إنّ أئمّة الإسلام ( عليهم السلام ) يولون أهمية قصوى لمسألة الرقابة الأخلاقية والاجتماعية؛ بهدف تجنّب الوقوع في موارد التهمة وسوء الظنّ، حتّى قال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( اتّقوا مواضع الريَب، ولا يقفنَّ أحدكم مع أُمّهِ في الطريق؛ فإنّه ليس كلّ أحدٍ يعرفها ) (٢) .

وعلى كلّ حال، فإنّ العلاقات غير المشروعة بين الفتيان والفتيات مُضرّة ومحظورة بحكم الشرع والعقل، وقد أثبتَت التجارب العملية للكثير من الأشخاص ما في هذه الروابط من عواقب سيّئة، ومضافاً إلى ما تقدّم من الأضرار المترتّبة على هذه الروابط السيئة التي تُعدّ أحياناً خيانة وانتهاكاً لعفّة العائلة والمجتمع، فهناك محاذير أخرى من الاضطراب والقلق والإخفاق في الدراسة وترك المدرسة والتخلّف في الحياة.

أجل، فبالإضافة إلى ما تطالعنا به الصُحف والمجلاّت ونشاهده بأعيننا من الأضرار المترتّبة على اختلاط الفتيان بالفتيات، فقد أخذت المجتمعات الغربية تعترف حالياً بأضرار هذا النوع من الروابط، بعد أن كانت لا تُعيرها أهمية بل تحثّ عليها وتراها مفيدة!

ذَكرت إحدى الجرائد في إحصائية لها: أنّ المدارس غير المختلطة في انجلترا تحضى بمستوىً دراسي أفضل بالقياس إلى المدارس المختلطة،

____________________

(١) فروع الكافي: ٥ / ٥٣٥.

(٢) بحار الأنوار: ٧٢ / ٩١.

٤١

فقد جاء في تقرير لجريدة( ديلي تلغراف ) : تصدّرت خمسون مدرسة قائمة المدارس النموذجية من الناحية العلمية للطلاب، بعد إعلان نتائج امتحانات المرحلة الإعدادية في انجلترا الموسومة بـ (G.C.S.T)، وكانت خمس وأربعون مدرسة منها غير مختلطة(١) .

وعليه: فإنّ الطُهر والعفاف وبلوغ المراتب العلمية والإنسانية العالية، بحاجة إلى وعي ومقاومة ورياضة ومجاهدة، فلابدّ من اغتنام فرصة الشباب قبل الهرَم.

____________________

(١) جريدة جمهوري إسلامي: العدد ٥٥٦٩، ص١١.

٤٢

(٥)

معرفةُ الحدود وتجاوزها

إنّ سرّ نجاح الإنسان وتقدّمه في حياته الاجتماعية يكمن في معرفته لقدرته وحدوده، واستفادته من طاقاته وكفاءاته المادّية والمعنوية، فلو أقدمَ الإنسان على عملٍ دون أن يَدرك مقدار كفاءته وموقعيته الشخصية أو مع علمه بعجزه، أو تدخّل في مسؤوليات الآخرين، فإنّه في الحقيقة يكون قد تجاوز حدوده، فيورّط نفسه ويسيء للآخرين!

إنّ لمسألة التعرّف على الحدود - في مختلف المجالات، وما يتعقّبها من المآسي الناجمة عن عدم مراعاتها - أهمية مصيرية، حتّى قال الإمام علي ( عليه السلام ) فيها:( رَحمَ الله امرأً عَرف قدرهُ ولم يتعدّ طوره ) (١) .

وحينما نتحدّث في موضوع معرفة الحدود، نريد بذلك أن يتعرّف كلّ شخصٍ على موقعه في المواقف والروابط الاجتماعية، ويُحقّق الأُسس الأربعة الآتية:

١ - أن يعي كلّ شخص حدودهُ فيعمل في نطاقها.

٢ - أن يكون بمستوى المسؤولية التي اضطلع بانجازها.

____________________

(١) دُرر الكلم: ص٢٣٣، الحديث ٤٦٦٦.

٤٣

٣ - أن لا يهتك حرمة الآخرين وحقوقهم من خلال تجاوز حدودهم، خاصّة الكبار منهم: كأبيه وأمّه، فعليه صيانة حقوقهم وحفظ حيثيّتهم.

٤ - أن يتجنّب تجاوز الحدود، فلا يتدخّل في وظائف الآخرين، وأن يكفّ عن كلّ ما من شأنه أن يؤدّي إلى شلّ حركة الحياة.

إنّ تأكيدنا على( معرفة الحدود ) يعود إلى جهتين:

الأولى: إنّ أساس نظام الخلقة في العالَم والإنسان قائم على الحدود والمقادير الدقيقة، فكلّ عنصر من عناصر الكون يسير في حدوده الخاصّة به، فلا يصطدم بالعناصر الأخرى ولا يتدخّل في مجالها، كما أنّ كلّ عضو في الإنسان يتحرّك في مجاله المخصوص به دون أن يتدخّل في مجال سائر الأعضاء الأخرى.

وقد قال الله تعالى:( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) (١) ، إذاً فالغرض من الدقّة المرسومة لكلّ موجود في هذا الكون: هو أن لا نتجاوز هذا الميزان ولا نتعدّى الحدود المرسومة لنا.

وجاء في آيةٍ أخرى:( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ.. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ.. لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٢) .

كما أنّ لكلّ عضو من أعضاء جسمنا من الناحية الفسلجيّة: كالفم، والأسنان، والمريء، والمعدة، والاثني عشري، والكبد، والقلب، والعين، والأُذن وسائر الأعضاء الأخرى، وظيفة لا يتعدّاها ولا يتدخّل في وظيفة الأعضاء الأخرى، وهكذا الأمر بالنسبة إلى ماكنة السيّارة والقطار والطائرة إلى ماكنة الأجهزة الكبيرة التي تُحرّك مصنع السكّر، أو النسيج، أو مصفاة النفط،

____________________

(١) سورة الرحمن: الآية ٥ - ٩.

(٢) سورة يس: الآية ٣٧ - ٤٠.

٤٤

 فلكلّ جزءٍ من أجزائها وظيفته المخصوصة التي لا يتعدّاها إلى وظائف الأجهزة الأخرى، وبذلك تدور جميع العَجلات للوصول إلى الهدف المنشود، ومنه نصل إلى أنّ تجاوز الحدود يُعدّ تمرّداً ومخالفة لجميع النظم والقوانين العلمية والطبيعية، التي تسيطر على الكون وموازين خلقة الإنسان.

الثانية: إنّ لتجاوز الحدود أضراراً وعواقب خطيرة جدّاً، سواءً من الناحية الأخلاقية والحقوقية، أو من ناحية النظام الإداري في الحياة الاجتماعية وفي المجالات الثقافية، وضمان الاحتياجات الاقتصادية والنفسية، أهمّها: سوء الظنّ، وانعدام الثقة الاجتماعية، والحرمان من التعرّف على النماذج الصالحة التي يمكن التأسّي بها، والعُنف وهتك الستر، وانعدام الأمن والطمأنينة الاجتماعية، والاضطراب والقلق، وانعدام النظم في الحياة الاجتماعية.

التديّن ومعرفة الحدود

والأهمّ ممّا ذكرناه بشأن المسائل الأخلاقية والمواقف الإنسانية لمراعاة الحدود، ما وردَ في هذا المجال من الأحاديث الكثيرة التي تؤكّد على أصل التديّن ورعاية الحدود في الأحكام.

قال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( ما خلقَ الله حلالاً ولا حراماً إلاّ ولهُ حدّ كحدود داري هذه، فما كان منها من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار ) (١) .

وعن علي ( عليه السلام ):( إنّ الله افترضَ عليكم فرائض فلا تضيّعوها، وحدَّ لكم حدوداً فلا تعتدوها ) (٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٢ / ١٧٠، ح٨.

(٢) بحار الأنوار: ٢ / ٢٦٠، نهج البلاغة: تحقيق صبحي الصالح، ص٤٨٧.

٤٥

وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) لرجلٍ ذهب إلى مكّة ليسأل عن مسائل الحلال والحرام:( إنّه ليس شيء ممّا خَلق الله صغيراً ولا كبيراً إلاّ وقد جعلَ الله لهُ حدّاً، إذا جوِّز به ذلك الحدّ، فقد تعدّى حدّ الله فيه ) (١) .

وحينما نشاهد كلّ هذه التأكيدات من قِبل أئمّتنا ( عليهم السلام ) بشأن أحكام الدين ورعاية حدودها، وعدم تجاوزها ليبقى كلّ شيء في مكانه، ويعمل كلّ شخص في إطار تكليفه الخاص به فلا يتعدّاه، نستنتج من ذلك: أنّ على كلّ شخص أن يراعي الحدود المرسومة له في الروابط الأخلاقية، فلا يتجاوز حدود الآخرين، ولا يُسبّب الإخلال بالنظام العائلي والاجتماعي، فإذا حاولَ الطفل أن يؤدّي وظائف الشابّ، أو أراد الشابّ - مع قلّة تجربته - أن يتكفّل بإدارة العائلة، فسوف يُحمّل نفسه فوق طاقتها مضافاً إلى تجاوزه حدود صلاحيّته.

أجل، إنّ بإمكاننا تطبيق معرفة الحدود والآثار المترتّبة على تجاوزها في جميع الأمور الأخلاقية والحقوقية والاجتماعية، وبالنسبة لكلّ شخص أو جماعة، وأن ننظر في منافعها ومضارّها، وأن نجعلها نموذجاً ومعياراً لأفكارنا وسلوكياتنا، كما نقرأ في حديثٍ عميق عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال:( لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، قلت: ما يذلّ نفسه؟ قال:لا يدخل فيما ينبغي أن يعتذر منه ) (٢) .

وعليه: فإنّ تجاوز الحدود يؤدّي إلى هتك حرمة الآخرين، ويُعدّ ظلماً للنفس وللآخرين، ويُعرقل سير الأمور وانجاز الوظائف.

وقد قال العالِم الطبيعي المعروف( جان لاباك آفبوري ) : ( ليس من العسير معرفة المسؤولية، فكلّ شخص منّا يمكنه التعرّف على حدود مسؤولياته ووظائفه، إلاّ أنّ العسير هو أداء الوظائف، فلا يمكن لأيّ شخص أن يصل إلى مستوى الكمال في هذا المجال، نعم، بالإمكان من خلال السعي وبذل الجهد الاقتراب من مستوى الكمال،

____________________

(١) بحار الأنوار: ٢ / ١٧١، ح١٠.

(٢) مشكاة الأنوار: ص٢٤٤ - ٢٤٥.

٤٦

وإن كان أصعب ممّا يمكن تصوّره، ولكن ينبغي ترك الآمال الصبيانية والأهواء الخادعة، والتطلّع نحو الأعالي بُغية الوصول إلى قمّة الكمال الإنساني )(١) .

وقال هذا العالِم ليعرّفنا على المسؤوليّات والاستفادة القصوى من الفُرص المتاحة لنا: ( إنّ الشخص العاقل والنبيه: هو الذي يستفيد من تجارب الآخرين، إلاّ أنّ المتكبّرين يحاولون تجربة كلّ شيءٍ بأنفسهم، في حين أنّ الحياة قصيرة ومتقلّبة، فإذا أردنا أن نجرّب كلّ شيء بأنفسنا فسوف لا يبقى لنا مجال للاستفادة من تلك التجارب.. فعليه لابدّ من الاستفادة من تجارب الآخرين التي حصلوا عليها بمرور الأيّام، بعد أن تحمّلوا ما تحمّلوا من الصعاب، وفي الوقت نفسه لابدّ لنا من الاعتبار بما يعرض لنا من الوقائع والحوادث )(٢) .

منافعُ مراعاة الحدود

ولكي نُدرك منافع ومزايا( مراعاة الحدود ) بُغية استثمار قابلياتنا وطاقاتنا بشكلٍ أكثر، نذكر - مضافاً إلى ما تقدّم - بعض الأحاديث عن الإمام علي ( عليه السلام )، والإمام الصادق ( عليه السلام ) في هذا المجال:

١ -( العارفُ مَن عَرف نفسهُ، فأعتقها ونزّهها عن كلّ ما يُبعّدها ويوبّقها ) (٣) .

٢ -( مَن وقف عند قَدره، أكرمهُ الناس ) (٤) .

٣ -( مَن رضيَ بقسمه، لم يسخطه أحد ) (٥) .

٤ -( على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، مُقبلاً على شأنه ) (٦) .

٥ -( مَن قَنع بقسمه استراح ) (٧) .

____________________

(١) البحث عن السعادة: ص٢٢٣، ٢٢٧ بتصرّف قليل.

(٢) نفس المصدر.

(٣) غُرر الحِكم: ص٢٣٩ و ٢٣٣.

(٤) نفس المصدر.

(٥) غُرر الحِكم: ٢ / ٦٣٠.

(٦) بحار الأنوار: ٦٨ / ٣٠٧.

(٧) غُرر الحِكم: ص٣٩٨، الحديث ٩٢٣٠.

٤٧

أضرارُ تجاوز الحدود

وبعد أن ذكرنا شطراً من أضرار تجاوز الحدود، والتي كانت تتجلّى على هيئة الاختلالات والاضطرابات الأخلاقية والاجتماعية، نصل إلى هذه النتيجة وهي: إنّ على كلّ شخص أن يدرك الآثار المدمّرة لتجاوز الحدود والاعتداء على حقوق الآخرين ومسؤولياتهم، وعليه: فإنَّ كلاً من التلميذ ومعلّمه، والطالب الجامعي بالنسبة إلى أستاذه، والموظّف تجاه المدير، والعامل تجاه المقاول، والزوجة تجاه زوجها، والأبناء بالنسبة لأوليائهم، والجار إلى جاره، والموظّف إلى الموظف الآخر، حدوداً وحقوقاً متقابلة، يُعدّ تجاوزها وتعدّيها إلى مجال مسؤوليات الآخرين تجاوزاً للحدود وإخلالاً بالعلاقات الاجتماعية، وقد تكون أحياناً انتهاكاً للحدود الاعتقادية والدينية والأوامر الإلهية، هذا مضافاً إلى أنّ هذه الانتهاكات تعود بالدرجة الأولى بالضرر على الشخص المنتهِك نفسه، وفي الختام نذكر بعض الأحاديث المرويّة عن الإمام علي ( عليه السلام ) في هذا المجال:

١ -( لا جهل أعظم من تعدّي القدر ) (١) .

٢ -( مَن سأل فوق قَدره، استحقّ الحرمان ) (٢) .

٣ -( مَن تعدّى الحقّ، ضاقَ مذهبه ) (٣) .

٤ -( مَن بَغى، كُسِر ) (٤) .

____________________

(١) عيون الحِكم: ص٥٣٧.

(٢) غُرر الحِكم: ٢ / ٦٦٥ وص ٧٠، الحديث ١٠٠٧.

(٣) نفس المصدر.

(٤) غُرر الحِكم: ٢ / ٦١٣ دار الكتب الإسلامية.

٤٨

(٦)

استيعابُ أقوال الآخرين

لو نادينا شخصاً من مكانٍ بعيد، لمَا أمكنهُ أن يسمع صوتنا جيّداً ولمَا استوعبه، فلا نكون قد توصّلنا إلى عملٍ إيجابي يُذكر، وقد رويت بهذا الصدد قصّة عن أربعة أشخاص من جنسيات مختلفة اصطحبوا في طريقٍ، وبعد أن ضمّوا أموالهم إلى بعضها ليشتروا متاعاً لهم، رغم عدم معرفة بعضهم لغة بعض، قال الفارسي: من الأفضل أن نشتري( أنكور ) ، إلاّ أنّ العربي اعترضَ عليه قائلاً: لا، الأفضل أن نشتري( عِنباً ) ، فردّ عليه التركي: لا، الأفضل أن نشتري( أُزُم ) ، فاعترضَ الرومي قائلاً: الأفضل أن نشتري( استافيل ) ، ولو أنّهم دقّقوا جيّداً لاكتشفوا أنّهم لم يريدوا إلاّ شيئاً واحداً، وفي كلتا القضيّتين المتقدّمتين هناك بعض المشتركات، وهي:

١ - إنّ مراد المنادي والسامع، ومراد هؤلاء الأشخاص الأربعة شيءٌ واحد.

٢ - في القضية الأولى كان المانع من وصول صوت المنادي إلى السامع هو بُعد المسافة.

٣ - في القضية الثانية كان سبب الاختلاف بين الأشخاص هو عدم استيعابهم للغة بعضهم، ولكن ما الذي ينبغي لنا فعله لإيصال صوتنا ومرادنا والوصول إلى نتيجة عملية، للحيلولة دون وقوع النزاع والاختلاف والخصومة؟

٤٩

أوّلاً: في القضية الأولى، لابدّ من تقليل المسافة المكانيّة والتقرّب من بعضنا ليحصل التفاهم.

ثانياً: وفي القضية الثانية، لابدّ من القضاء على الجهل وعدم الوعي، وتقريب مسافة الفهم والتفكير، والتخفيف من حدّة الغضب للوصول إلى المراد الذي ينتهي لصالح الجميع.

ومن جملة المشاكل المعاصرة بين جيل الشباب والجيل المتقدّم عليه، فَهم مرادات بعضهم، فيقف الشباب المعاصرون في جهة، بينما يقف الوالدان والمعلّمون في الجهة الأخرى، مع أنّ عليهم أن يقيموا حياتهم على أساس السعادة والرخاء.

وبعبارة أخرى يمكن القول: إنَّ الوضع القائم بين الجيل المعاصر والجيل المتقدّم، وضعٌ متأزّم من الناحية الفكرية والثقافية، ولكي نتمكّن من اجتياز هذه المرحلة بسلام نحتاج إلى وعي وفهم ودراية وتدبّر؛ لأنّ الحاجز خطير! يقول أحد الخبراء في الاجتماع والسياسة:( إنّ تفكير الشباب يختلف عن تفكير آبائهم ) (١) .

وبوسعنا أن نُشبّه هذه الأزمة بالصراع، ومرادنا بذلك( الصراع الفكري ) ، ولكي نتمكّن من بيان أهمية الموضوع، ويتسنّى لمَن يريد دخول ساحة الصراع هذه ويَعدّ العدّة اللازمة له، لابدّ أن ندرك أنّه لا يمكن حسم هذه المرحلة وإحلال السلام الشامل عن طريق الغضب وممارسات العُنف، وعليه لابدّ لكلّ من الشباب وأوليائهم، وكلّ مَن له تأثير في تنظيم الكيان الأُسري والنظام الاجتماعي، من مراعاة الأمور التالية من أجل استيعاب كلام بعضهم وتقليل الفاصلة الزمانية بين الفكر والإرادة:

____________________

(١) صحيفة همشهري: العدد ١٦٠٧، ص٣.

٥٠

كظمُ الغيض واحتواء الغضب

إنّ الغضب والعُنف سلوكية غير معتدلة ولا منطقية في كيان الأسرة، فإنّه يؤزِّم الأجواء ويشلّ التفكير المنطقي، ويزيد من الحاجز القائم بين الأفكار والإرادات.

يقول الإمام علي ( عليه السلام ):( شدّة الغضب تُغيّر المنطق، وتقطع مادّة الحجّة، وتُفرّق الفهم ) (١) .

إنّ للغضب والعُنف ردود فعل وآثاراً مُدمّرة في الروابط الأخلاقية، وعلى الخصوص الروابط الأُسرية، ولكي ندرك هذه الأضرار ونسعى إلى الحيلولة دون وقوعها، نُقدّم عرضاً لنماذج أخرى من الأحاديث البليغة الواردة عن أئمّة الهدى ( عليهم السلام ):

١ - قال الإمام الصادق (عليه السلام ):( مَن لم يملك غضبهُ، لم يَملك عقله ) (٢) .

٢ - قال الإمام علي ( عليه السلام ):( الغضبُ يُفسد الألباب، ويُبعّد من الصواب ) (٣) .

٣ - وقال أيضاً:( الحِدَّة ضربٌ من الجنون؛ لأنّ صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونهُ مُستحكَم ) (٤) .

٤ - وقال أيضاً:( من طبائع الجهّال: التسرّع إلى الغضب في كلّ حال ) (٥) .

٥ - وقال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):( الغضبُ يُفسد الإيمان كما يُفسد الخلّ العسل ) (٦) .

٦ - وقال علي ( عليه السلام ):( الغضبُ يُردي صاحبه ويُبدي معايبه ) (٧) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٦٨ / ٤٢٨.

(٢) بحار الأنوار: ٧٥ / ٢٥٥.

(٣) غُرر الحِكم: ص٦٥، الحديث ٨٦٢.

(٤) نهج البلاغة: جعفر الحسيني، ص٥٤٣، الحكمة ٢٥٥.

(٥) غُرر الحِكم: ص٣٠١، الحديث ٦٨٧٥.

(٦) أصول الكافي: ٢ / ٣٠٢.

(٧) غُرر الحِكم: ص٣٠٢، الحديث ٦٨٩٢.

٥١

ولأجل الأضرار الهدّامة المترتّبة على الغضب، جاء في بعض الأحاديث التي تحاول وصف علاج هذه الصفة الفتّاكة:

( على مَن استولى عليه الغضب أن يتوضّأ بماءٍ بارد، وإن كان واقفاً فليقعد، وإن كان جالساً فلينطرح على الأرض، وإن أمكنهُ فليسجد خاضعاً متذلِّلاً لله، حتّى ينطفئ لهيب غضبه ) (١) .

الشجاعُ الحقيقي

لقد قرأنا كثيراً عن أضرار الغضب، وكثيراً ما شاهدنا الآثار الفظيعة أثناء النزاعات والخلافات، على الخصوص في علاقات الشباب الأخلاقية في الأسرة وأطلقنا الزَفرات والحَسرات عليها.

ولا يخلو التدبّر في القصّة التي رواها الإمام الصادق ( عليه السلام ) من فائدة، حيث قال:( مرّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بقومٍ يرفعون حَجراً فقال: ما هذا؟ فقالوا: نعرف بذلك أشدَّنا وأقوانا، فقال: ألا أُخبركم بأشدّكم وأقواكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أشدّكم وأقواكم الذي إذا رضيَ لم يدخلهُ رضاه في إثمٍ ولا باطل، وإذا سخطَ ولم يُخرجه سخطهُ من قول الحقّ، وإذا قدر لم يتعاطَ ما ليس بحقّ ) (٢) .

الفهمُ والإدراك

إذا أمكننا أن نسيطر على غضبنا وأن نخلق جوّاً هادئاً في المحيط الأسري أو غيره، نكون قد توصّلنا إلى إيجاد أرضية مساعدة لفهم مرادات بعضنا، وبذلك يزول الحاجز الفكري بيننا، وعندها يغدو بالإمكان فهم متطلّبات الشباب والآباء.

وكما تقدّم أن قلنا: فإنّ منطق الغضب لا يمكن أن يُعدَّ منطقاً للتفاهم والإصلاح، بل هو يقضي على الهدوء والاستقرار، ويزيد الأجواء تعقيداً، وعندها سيفقد العقل قابليته على التفكير، إذاً لابدّ من كظم الغيظ لنصل إلى فهم كلام بعضنا؛

____________________

(١) المحجّة البيضاء: ٥ / ٣٠٨.

(٢) مشكاة الأنوار: ص٢١٩.

٥٢

لأنّ الفهم والإدراك بمثابة المصباح الذي يُضيء لنا الطريق، ويجعل العقل قادراً على الإبداع والعطاء.

قال الإمام علي ( عليه السلام ):( ما افتقرَ مَن مَلكَ فَهماً ) (١) .

وقال أيضاً:( مَن أبصرَ فَهمَ، ومَن فهمَ عقل ) (٢) .

وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( إذا سألتَ عن شيء، ففرِّغ قلبك لفهمه ) (٣) .

وقال الإمام علي ( عليه السلام ):( مَن حَلُم سادَ، ومَن تفهّم ازداد، ولقاء أهل الخير عِمارة القلب ) (٤) .

وفي ختام هذا الفصل نوصي كِلا طرفي النزاع اللذين لا يفهمان أحياناً مراد الطرف الآخر، أو يحول الغضب عندهم دون ذلك، أن يتحلّوا بضبط النفس وسعة الصدر وعدم التسرّع في تخطئة الآخرين.

____________________

(١) غُرر الحِكم: ص٦٠، الحديث ٦٥١.

(٢) بحار الأنوار: ٧٥ / ٢٥٥.

(٣) بحار الأنوار: ٧٩ / ٢٧٣.

(٤) بحار الأنوار: ٧٤ / ٢٠٨.

٥٣

(٧)

ابنُ العَصر

إنّ الزمان هو مجموع هذه الأيّام والليالي التي تتعاقب علينا، والتي تحتوينا كما يحتوي الظرفُ المظروفَ، وما علينا إلاّ أن نترك المرحلة السابقة منه إلى مرحلته اللاحقة.

والسؤال الذي يستدعي الانتباه بشأننا وشأن الزمان هو: هل نحن الذين نترك الزمان، أم أنّ الزمان هو الذي يمرّ علينا ويتركنا، كما هو الحال بالنسبة إلى ضوء الشمس ونورها؟

إنّ ما نحسّه وثبتَ بالعلم والتجربة هو: أنّ الإنسان لم يتمكّن حتّى الآن من السيطرة على الزمان، فلا يمكنه أن يحول دون طول الليل، أو دون انقضاء الشباب وتحوّله إلى الشيخوخة والعجز!

إذاً، فما عسانا أن نصنع؟ هل لنا من خيار سوى أن نقطف باقة وردٍ من مزرعة الطبيعة الجميلة، وأن نستفيد من متجر العالَم ونرتقي مدارج الحياة نحو الأعالي؛ لنصل إلى قِمم المجد من خلال هذه الطبيعة الضيّقة لبلوغ التكامل الإنساني؟

٥٤

الفئاتُ الأربع

ينقسم الناس بالنسبة إلى العمود الزماني من الماضي والحاضر والمستقبل إلى أربعة أقسام:

١ - الذين يعيشون في الوقت الحاضر، إلاّ أنّهم لا يدركون مستلزمان وشروط الحياة المعاصرة، ولم يعدّوا العدّة التي تؤهّلهم للانسجام مع واقع هذه الحياة، فيتمّ تصنيفهم في خانة الجيل الماضي! فهم قد تخلّفوا عن قافلة المتقدّمين من الناس!

٢ - الذين يعيشون في العصر الحاضر، ويدركون مستلزمات وشروط الحياة الثقافية والاقتصادية، ويبذلون قصارى جهودهم من أجل الاستفادة القصوى من الإمكانيات المتاحة لتكامل أنفسهم والآخرين، فهؤلاء هم الناجحون الذين يدركون قيمة الوقت، وقد قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) بشأن هذه الفئة:( والعالِم بزمانه لا تَهجم عليه اللوابس ) (١) .

٣ - الذين يعيشون في هذا العصر، ولكن يُعدّون من المتقدّمين على زمانهم؛ لعدم استيعاب الوقت الحاضر لأفكارهم وآرائهم، وهذه الفئة تحتوي على القلائل من العباقرة والنوابغ عَبر التاريخ البشري.

٤ - الذين يعيشون في هذا العصر ويدركونه على حقيقته، والذين يحاولون ربط الماضي بالحاضر من خلال الاستفادة من الظروف والإمكانات الموجودة، وهذه الفئة - كما يقول عنها( رومن رولان ) العالِم والكاتب الفرنسي (١٨٦٦ - ١٩٤٤م) - ترى من خلال الاستفادة من تجارب الآخرين ضرورة اقتحام سدود الزمان، وإحياء العباقرة والعظماء من جديد(٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٧٥ / ٢٦٩، تُحف العقول: ص٣٥٦ طبع جامعة المدرّسين.

(٢) سرود جهشها: الطبعة الأولى، ص٢٩٢.

٥٥

الفئةُ الممتازة

الفئةُ الرابعة: هي أفضل الفئات الأربع المتقدّمة وأكثرها اعتدالاً، إذ إنَّ الأشخاص فيها يُعدّون ( أبناء زمانهم )، فهم يدركون زمانهم بشكلٍ صحيح، ويُخطّطون لمستقبلهم ومستقبل مجتمعهم، ويبذلون كامل جهدهم في هذا السبيل.

كما أنّ الحديث المنسوب إلى الإمام علي ( عليه السلام ):( كُن ابن زمانك ) ، لا يريد تأييد العوارض الواهية والناشئة من التقليد الأعمى وانعدام الثقة بالنفس؛ وإنّما هو ناظر إلى الاستيعاب الصحيح لمقتضيات الزمان، والاستفادة من إمكاناته الإيجابية والعقلائية، وعليه يكون معنى( ابن الزمان ) : أن تُربّي في نفسك الخصال والسجايا الإنسانية التي تناسب العصر الذي تعيش فيه.

وجاء في حديثٍ آخر عن الإمام علي ( عليه السلام ) أنّه قال:( لا تُقسروا أولادكم على آدابكم؛ فإنّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم ) (١) .

ولتوضيح هذا الحديث الذي يُساء فهمه أحياناً، نضطرّ إلى ذكر عدّة توضيحات بشأنه، وهي:

١ - إنّ الآداب بشكلٍ عام تُطلق على مجموعة التقاليد التي تحتوي على جوانب تشريفية، وإنّ الالتزام بها وعدمه لا يؤثّر في الأُسس الوجدانية والعقلائية والأخلاقية المتسالَم عليها.

٢ - إنّ الإمام علي ( عليه السلام ) لا يريد أن يقول: أدّبوا أبناءكم وفقاً لمقتضيات المستقبل، حتّى إذا سادَ فيه الكذب وعدم الوفاء والتقليد الأعمى والنفاق ونقض العهود والمعصية، وعُدّت هذه الأمور من مقوّمات الذكاء والرقي، ليمكنهم أن ينسجموا مع ذلك الزمان؛ لأنّ هذا ما لا ينسجم مع المباني الاعتقادية والأخلاقية الموجودة في كلمات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في نهج البلاغة.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٢٠ / ٢٦٧.

٥٦

٣ - تقدّم أن ذكرنا: أنّ الآداب عبارة عن سلسلة من التقاليد التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية، وينبغي تعلّمها الآن والسعي من أجلها.

 فمثلاً إذا قلنا: لا تُكرهوا أبناءكم على آداب زمانكم؛ لأنّهم ولِدوا لغير زمانكم،فمعنى ذلك: أنّك إذا أردتَ لابنك أن يكون طبيباً، فحاول أن ترشده إلى طبيب معاصر، لا أن ترشده إلى طبيب قديم، وإذا كان النسيج يتمّ عَبر آلات قديمة، فهو الآن يتمّ بواسطة آلات متطوّرة ذات كفاءة عالية، ولو كنتَ تعلم ركوب الخيل وحمل الأثقال والسفر بواسطة الخيل والحمير، فإنّها اليوم غير عقلائية، بل لابدّ من تعلّم السياقة والسفر بوسائط نقلية أكثر سرعة وكفاءة، وإذا كنتَ اليوم تُباشر الزراعة بالأدوات المتداولة، فعليك أن تتدبّر أمرك للمستقبل، وأن تتعلّم أساليب الاستفادة من الأدوات التي سوف تسود فيه.

٤ - إنّ الإمام ( عليه السلام ) أراد بهذا الحديث: أن يلفت الانتباه إلى ضرورة النظر إلى المستقبل وإعداد النفس له، والاستفادة القصوى من إمكانياته، ليحضى الجيل القادم بحياة أفضل، ولا يقيّدوا أنفسهم بزمانهم فيتخلّفوا عن قافلة التقدّم البشري من ناحية العلوم والفنون والصناعات.

نعم، ولأجل ذلك أيضاً نقرأ عنه ( عليه السلام ) أنّه قال:

حرِّض بنيك على الآداب في الصِغر

كيما تقرّ بهم عيناك في الكِبر

وإنّما مَثلُ الآداب تَجمعها

في عنفوانِ الصبا كالنقش في الحجر(١)

____________________

(١) الديوان المنسوب لأمير المؤمنين ( عليه السلام ): ص١٨٢.

٥٧

الانسجامُ مع الآداب

إنّ لبعض الأقوام والأعراق والأُمم والمجتمعات والقبائل والعشائر في القرى والمُدن المختلفة، أعرافاً وتقاليدَ يحترمونها ويعدّونها من الفضائل.

ومن جهة أخرى: فإنّ مراعاة هذا النوع من التقاليد لا تتنافى مع الأُسس والموازين الإسلامية، بل هي نوع من حُسن الخُلق والتواضع والمعاشرة الحسنة، وعليه: فإنّ اتباع هذه الأعراف والتقاليد بُغية اجتذاب أصحابها نحو الأسس الإسلامية، يُعدُّ أمراً مطلوباً وغاية محمودة.

وعلى كلّ حال: فإنّ معرفة الزمان والرضا بالتقاليد العقلائية لكلّ قوم وأمّة، لا يعني بالضرورة التنكّر للأصول والهوية الإنسانية والسقوط في هوّة الضياع والأغلال، بل يعني الوعي بمقتضيات الزمان، وعدم الغفلة عن اكتساب القابليات العلمية والمهارات الفنية والصناعية في إطار التحلّي بالمسؤولية، والرفعة لأنفسنا ومجتمعنا؛ ذلك أنّ شخصية كلّ فرد رَهنٌ بكفاءته وقابلياته الإنسانية.

يقول أحد الشعراء:

كُن ابن مَن شئتَ واكتسِب أدباً

يغنيكَ محموده عن النسبِ

فليس يُغني الحسيبَ نسبته

بلا لسانٍ لهُ ولا أدب

إنّ الفتى مَن قال ها أنا ذا

ليس الفتى مَن قال كان أبي

٥٨

(٨)

التأثيرُ والتأثّر

إنّ التأثير والتأثّر أحد القوانين الطبيعية في عناصر عالَم الخليقة ومنها الإنسان، إذ هو واحد من أرقى هذه العناصر، ولكن بفارقٍ: أنّ التأثير والتأثّر في الإنسان يتمّ عَبر اختياره وإرادته ممّا يميّزه عن سائر عناصر العالَم، وطبعاً نحن لا نروم الدخول في البحث الفلسفي والعلمي، وإنّما نريد من خلال هذه المقدّمة أن نفتح نافذة على العلاقات الأخلاقية والإنسانية، وأن نعثر على موقعنا وسط ضجيج الحياة.

ولكي نتعرَّف موقعنا بالقياس إلى أحد عناصر عالَم الطبيعة، نذكر قصّة التربة الزكية التي كانت تُستعمل قديماً في غَسل الرأس، والتي ذكرها ( سعدي الشيرازي ) في إحدى قصائده قال فيها ما معناه: ( وصلتني من المحبوب في الحمّام يوماً تربة عطرة، فقلت لها: هل أنتِ مسك أم أنتِ عنبر؟ فقد أسكرني شذاكِ، فأجابتني: لم أكن سوى تربة وضيعة، إلاّ أنّني جاورتُ وردة رَدحاً من الزمن، فأثّرت فيّ واكتسبتُ الكمال منها ).

الطريق الرابع:

ويمكن اختيار واحد من هذه الطُرق الأربعة:

١ - عدم التأثير والتأثّر.

٢ - التأثّر وعدم التأثير.

٣ - التأثير وعدم التأثّر.

٤ - التأثير والتأثّر.

٥٩

والطريق الأوّل من هذه الطرق: الذي لا يتأثّر فيه الشخص بصفات الآخرين الحسنة، ولا تكون له قدرة على التأثير فيهم، يمثّل مرحلة الجمود والانحطاط الإنساني، التي يكون فيها أدنى من مستوى الجمادات!

وفي الطريق الثاني: نجد أنّ الإنسان الذي لم يحصل على السجايا الفاضلة والصفات الحسنة، لا يمكنه في هذه الحالة أن يؤثّر في غيره، وقد قيل قديماً: إنّ فاقد الشيء لا يعطيه!

وفي الطريق الثالث: حيث إنّه لم يحصل على صلاح ولم يصل إلى مقام رفيع، وقد يكون عنصراً فاسداً، فإنّ تأثيره في غيره سيكون تأثيراً مُخرّباً وذا نتائج سيئة.

وعليه: فإنّ الطريق الرابع، هو أفضل الطُرق المتقدّمة وأنسبها، وهو الطريق الذي يكون فيه الإنسان مؤثّراً ومتأثّراً، ولكن شريطة أن يكون واعياً في كلتا حالَي التأثير والتأثّر، وأن يكون ثاقب البصيرة؛ ليميّز بين الجميل والقبيح، والمعروف والمنكر، والحسن والرديء، والصلاح والفساد، والخير والشر، والحقّ والباطل.

وعندها سيغدو الإنسان مَشعلاً وضّاءً، ويتمتّع بجمال نوراني من ناحية، ومن ناحية أخرى سيضيء الطريق للآخرين، وسيكون كالماءِ الجاري الذي ينبض بالحياة، وفي الوقت نفسه يسقي الضفاف اليابسة ليمدّها بالحياة.

حلاوةُ الإيمان

يُطالعنا القرآن الكريم بقصصٍ جميلة عن التأثير، التأثّر بالنسبة إلى جماعة من النصارى الذين آمنوا بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، حيث يقول:( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) (١) .

____________________

(١) سورة المائدة: الآية ٨٣.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214