ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب27%

ما يحتاجه الشباب مؤلف:
الناشر: ناظرين
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 214

ما يحتاجه الشباب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156258 / تحميل: 8968
الحجم الحجم الحجم
ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب

مؤلف:
الناشر: ناظرين
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وعليه: يتعيَّن على الأولياء والمعلّمين، وكذلك الشباب واليافعين فيما لو كانوا قد ابتلوا - لا قدَّر الله - بهذا المرض، أن يسعوا إلى معالجته قبل فوات الأوان؛ فإنّه إذا تجذّر المرض فسيكون الأمر كما قال القائل:( مَن لم يؤدّبهُ الأبوان أدّبهُ الزمان، ومَن لم يؤدّبه الزمان أدّبه سهمٌ مسموم ) .

٨١

(١١)

الانحرافاتُ الجنسية والسقوط الأخلاقي

هل من الضروري في ظلّ الظروف الاجتماعية الراهنة أن نبحث في( الانحرافات الجنسية ) ؟

هناك سببان لضرورة بيان المسائل المتعلّقة بناحية الشهوة الجنسية لدى كلّ من الذكر والأنثى:

١ - تتجلّى ضرورة ذلك من الأسئلة والرسائل وتقارير الصُحف والمراكز الاستشارية والتقارير الأخرى.

٢ - من الضروري بيان المسائل المتعلّقة بـ( سنّ تكليف الشباب )، وتبيين الفرق بين ( الحلال والحرام )، والالتفات إلى العواقب السيئة للانحراف الجنسي لطبقة الشباب الكبيرة في الظروف الراهنة وعصر الاتصالات، فلابدّ من رفع مستوى الوعي لدى الشباب والأولياء والمعلّمين بشكلٍ جادّ.

والمراد من( الانحرافات الجنسية ) : هو الاستفادة غير الطبيعية من ( المشاعر ) و( السلوكيات )، التي تَعتبرها الأديان الإلهية، والقوانين العقلائية، والفطرة الطاهرة لدى الناس، ذنباً ومعصية، ولها من الناحية العلمية آثار جسميّة ونفسية سيّئة، ولها من الناحية الدينية تَبَعات حقوقية وجزائية، وأهمّ تلك الانحرافات ما يلي:

٨٢

١ - النظرُ الحرام

إنّ النظر إلى المحرّم هو نوع من إطفاء الشهوة الجنسية عن طريق ( الحاسّة الباصرة )، يؤدّي إلى اضطراب القلب وتدنيسه، وهو في حدّ ذاته معصية وانحراف، وقد يؤدّي أحياناً إلى انحرافات هدّامة أكبر.

ومن هنا قال بعض الكبار، الذين سعوا في طريق السلوك المعنوي للوصول إلى مستقبلٍ ناصع في هذا المجال، بُغية تنبيه الجميع إلى مخاطر انحراف الباصرة :( الويلُ من أمر العين والقلب، إذ كلّ ما تراه العين احتفظَ به القلب، فلا محيص من أن أشحذ خنجراً فولاذياً لأفقأ به عيني حتّى يتحرّر قلبي ) (١) .

وقال الإمام علي ( عليه السلام ):( إذا أبصَرَت العين الشهوة، عَميَ القلب عن العاقبة ) (٢) .

وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( النظرةُ سهمٌ من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرةٍ أورثت حسرة طويلة ) (٣) .

استقبلَ شابٌ من الأنصار امرأة بالمدينة، وكان النساء يتقنَّعن خلف آذانهن، فنظرَ إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها، ودخلَ في زقاق قد سمّاه ببني فلان فجعل ينظر خلفها، واعترضَ وجههُ عظم في الحائط، أو زجاجة فشقّ وجهه، فلمّا مَضت المرأة، نظرَ فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره فقال: والله، لآتينّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ولأخبرنّهُ، فلمّا رآهُ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قال:( ما هذا؟ ) فأخبرهُ، فنزلَ جبرئيل ( عليه السلام ) بهذه الآية:( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) (٤) .

____________________

(١) دو ربيتي بابا طاهر العريان: ص٨.

(٢) غُرر الحِكم: ص٣٠٥.

(٣) وسائل الشيعة: ٢٠ / ١٩١ ( مؤسّسة آل البيت، قم ).

(٤) سورة النور: الآية ٣، وسائل الشيعة: ٢٠ / ١٩٢.

٨٣

  وعلى أيّ حال، فإنّ النظرَ إلى المحارم انحرافٌ جنسي يؤدّي إلى الافتتان والفساد، وقد عدَّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ذنباً ونوعاً من الزنا، وقال في بيان عقوبته الأخروية:( مَن مَلأ عينيه من حرام، مَلأ الله عينيه يوم القيامة من النار، إلاّ أن يتوب ويرجع ) (١) .

٢ - العادةُ السرّية

وهي المعبَّر عنها في الكتب الفقهية والرسائل العملية لعلماء الدين بـ( الاستمناء ) ، ويَعدّها الأطبّاء وعلماء الأحياء في جملة الانحرافات الجنسية، كما يراها الإسلام معصية وانحرافاً أخلاقياً.

والعادة السرّية: عبارة عن أن يتصوّر الإنسان أشياء تُثير شهوتهُ الجنسية، أو يقوم بعمل يؤدّي إلى خروج المَني منه، وبذلك يُطفئ لهيب شهوته ويُشبع غريزته الجنسية.

وطبقاً للروايات المروّية عن الإمام الصادق ( عليه السلام )، فقد عدّ الاستمناء عملاً قبيحاً ومعصية كبيرة، فقد سُئل عن الخضخضة؟ فقال:( إثمٌ عظيم، قد نهى الله عنه في كتابه وفاعله كناكح نفسه، ولو عَلمتَ بما يفعلهُ ما أكلتَ معهُ ، فقال السائل: فبيّن لي يابن رسول الله من كتاب الله فيه؟ فقال:قول الله: ( فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ ) وهو ممّا وراء ذلك ) (٢) .

كما قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في بيان مجازاة مَن يرتكب هذا النوع من الانحراف الجنسي:( إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أُتيَ برجل عَبث بذكره، فضربَ يدهُ حتّى احمرّت، ثمّ زوّجه من بيت المال ) (٣) .

ومن جهةٍ أخرى، فقد ذهبَ جميع المجتهدين إلى أنّ ( الاستمناء ) من الأمور المبطلة للصوم(٤) .

____________________

(١) وسائل الشيعة: ٢٠ / ١٩٦، بحار الأنوار: ١٠١ / ٣٢.

(٢) سورة المؤمنون: الآية ٧، وسائل الشيعة: ٢٨ / ٣٦٤، الحديث ٣٤٩٧٨.

(٣) وسائل الشيعة: ٢٨ / ٣٦٣، ٢٠ / ٣٥٢، مؤسّسة آل البيت ( عليهم السلام ).

(٤) تحرير الوسيلة: ١ / ٢٦٦، توضيح المسائل: ص٢١١.

٨٤

ومع الالتفات إلى أنّ الاستمناء عملية غير طبيعية، وإشباع ناقص للشهوة وكونهُ انحرافاً جنسياً، فقد ذكر الأطبّاء وعلماء النفس لهُ أضراراً جسدية ونفسية متعدّدة، أهمّها ما يأتي:الاضطراب والشعور بالضعة بعد إتمام العملية، إرهاق الجهاز التناسلي والأعصاب، إضعاف الإرادة، الكسل، شدّة الحياء، الأنانية، حدّة المزاج، التكبّر، الاكتئاب، سوء الظنّ (١) .

وقد ذكرَ الدكتورهوجين : ( إنّ أوّل ما يترتّب على هذه العادة الشنيعة هو: زوال قوّة العين وشفافيّتها، وذهاب اللون الطبيعي للبشرة وذُبولها، وقلّة الذكاء، وظهور حالة من الانقباض عليهم، وتعلو أجفانهم زرقة خفيفة، وضُعف الذاكرة، وقلّة الشهوة إلى الطعام، وعُسر الهضم، واختلال التنفّس، وحدّة الأخلاق والمزاج، والحسد، والحُزن والاكتئاب، وحُبّ العزلة والوحدة، وفقر الدم، وآلام الظهر، والصداع، وصفير الإذن، والضُعف والنحول، ورعشة اليد، وانعدام مناعة الجسم، وكلّها من الآثار السيئة للابتلاء بهذا الانحراف الجنسي )(٢) .

للوقاية من هذا المرض ولعلاجه أحياناً، لابّد في الدرجة الأولى من الإقبال على الأطعمة التي تعمل على تقوية الأعصاب والإرادة، اجتناب الاعتزال والنظر إلى المشاهد التي تثير الشهوة، وعدم ارتداء الثياب الضيّقة، وسائر الموارد المثيرة، والتمتّع بإرادة راسخة(٣) ، واللجوء إلى الزواج والاتصال الطبيعي والمشروع؛ فإنّ ذلك خير علاج للشباب، ولابدّ أيضاً من الرجوع إلى الطبيب للحيلولة دون المخاطر الأليمة لذلك.

____________________

(١) مُشكلات جنسي جوانان: ص١٤٠.

(٢) مسائل واختلالات جنسي: الدكتور مير أحمد هاشمي فرد، ص٦٣.

(٣) مسائل واختلالات جنسي: د. مير أحمد هاشمي فرد.

٨٥

٣ - اشتهاءُ المماثل

إنّ ممارسة الجنس مع المماثل من جملة الانحرافات الجنسية والأخلاقية المشؤومة والمُهلكة.

وإنّ هذه العملية القبيحة عريقة في القِدَم، وقد أوعزها القرآن الكريم إلى( قوم لوط ) في ثلاثة مواطن من القرآن الكريم، وقد صوّر القرآن كيف أنّ لوطاً ( عليه السلام ) شنّع هذه العملية، واصفاً مَن يمارسها بالجهل والانحراف(١) .

وهذه العملية التي تسمّى بالانجليزية ( Homosexuality ) أن حَصلت بين الإناث سميّت في الأحاديث والفقه الإسلامي بـ( المُساحقة ) ، وسواءٌ حَصلت هذه العملية بين الذكور أم الإناث، فهي عملية قبيحة ومنحرفة ومعصية كبيرة توجب انقطاع النسل، وانعدام السعادة، والآثار الجنسية السيئة، وتُخلّف تشويهات جسدية ونفسية، وتُتخذ بحقّ مَن يمارسها أشدّ العقوبات الجزائية(٢) .

ولكن للأسف الشديد، فإنّنا نشاهد في العالَم الغربي المعاصر بعض الجهات المنحرفة والمريضة والمتحلّلة، تدعو إلى إشاعة هذا الانحراف الأخلاقي وإعطائه صبغة قانونية(٣) ، بذريعة الحرّية والحدّ من النسل، وطبعاً أنّ هذه السلوكية مُخالفة للوجدان والشرف الإنساني، وقد ذَهبت جميع الأديان إلى تقبيحها والمنع منها، بل رَدعت عنها حتّى المذاهب غير الإلهية، فقد عُرض فيلم في الهند تحت عنوان( النار ) ، وقد صوّر هذه العملية بين امرأتين، فَشجَبهُ الهندوس وأوقفوا عرض الفيلم بمهاجمة السينما(٤) .

ومضافاً إلى عشرات الآثار السيئة المترتّبة على هذه العملية السيّئة، فإنّ مرض( الايدز ) الخطير من جملة الأمراض المترتّبة عليها، كما يترتّب عليها أثران وضعيان وحقوقيان آخران في الحياة الاجتماعية والأُسرية، كما ذَكرت الروايات الإسلامية:

____________________

(١) راجع سورة الأعراف: الآية ٨١، سورة النمل: الآية ٥٥، سورة العنكبوت: الآية ٢٩.

(٢) تحرير الوسيلة: ج٢، ص٦٠٠.

(٣) صحيفة كيهان: العدد ١٤٦٤٨، ص٧.

(٤) راديو (B.B.C).

٨٦

١ - فقد ورد في الحديث عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال:( مَن ألحّ في وطئ الرجال، لم يمت حتّى يدعو الرجال إلى نفسه ) (١) .

٢ - وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في رجلٍ عَبث بغلام:( إذا أوقبَ حرُمت عليه ابنتهُ وأخته ) (٢) .

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الفاجعة الأخلاقية( اشتهاء المماثل ) - والتي نَعدّها انحرافاً وانحطاطاً وسقوطاً للقيَم الأخلاقية - أدّت بالمجتمع الغربي إلى أن يعدَّها فضيلة، حتّى خَرجت مجموعة من هؤلاء المنحرفين في ألمانيا برفقة مليون شاب ألماني وغير ألماني، في مسيرة تمثّل عدم التزامهم بالقيَم الأخلاقية(٣) !

ولكن في قبال هذه الكارثة الأخلاقية التي تؤدّي إلى تحطيم الأُسرة، وبمناسبة بحث قضية ( زواج المتماثلين ) في المجلس الفرنسي، فقد نظّمت المنظّمات الدينية المسيحية والإسلامية واليهوديّة - التي قدّرها الشرطة بحوالي ٧٢٠٠ شخص فقط، في حين قدَّر المنظّمون عدد الجماهير التي شاركت من مختلف مُدن فرنسا بين ٦٠ إلى ١٣٠ ألف شخص - تظاهرات تُندّد بهذه العملية، وتدعو إلى حفظ القيَم الأسرية وعدم المصادقة على هذا القانون الذي ينافي القيَم الأخلاقية(٤) .

وطبقاً لأحاديثنا الدينية، فإنّ هذا النوع من الانحرافات والفجائع الأخلاقية في المجتمع سَيَعقبهُ غضبُ الله، فقد وردَ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال:( لمّا عَمل قوم لوط ما عَملوا، شَكَت السماء والأرض إلى الله عزّ وجل، فأوحى الله إلى السماء أن احصبيهم، وإلى الأرض أن اخسُفي بهم ) (٥) .

وإنّنا نشاهد حالياً هذه العقوبات تَتّخذ صورة الفيضانات والأعاصير والزلازل الفتّاكة، في المجتمعات التي تسودها هذه الانحرافات.

____________________

(١) الفصول المهمّة: الحرّ العاملي ٣ / ٣٩٩، الكافي: ٥ / ٥٤٦.

(٢) وسائل الشيعة: ١٤ / ٣٣٩ ( دار إحياء التراث العربي ).

(٣) صحيفة كيهان: العدد ١٦٢٩٤، ص٧.

(٤) صحيفة جمهوري إسلامي: العدد ٥٦٣٠، ص١٦.

(٥) دعائم الإسلام: ٢ / ٤٥٥.

٨٧

٤ - الأعمالُ المنافية للعفّة

إنّ العمل المنافي للعفّة، أو الاتصال غير المشروع الوارد في القرآن الكريم والروايات تحت عنوان ( الزنا )، معصية كبيرة وانحراف جنسي خطير، مَنعتهُ جميع الأديان السماوية والقوانين البشرية العقلائية المنبثقة عن الوجدان الطاهر.

وفي مجتمعنا لا يخفى على أحد قُبح هذه العملية والأضرار المترتّبة عليها، ومن خلال الالتفات إلى الملفّات الجنائية الموجودة في الصُحف، فإنّ الأمور الآتية جديرة بالملاحظة:

١ - إنّ القرآن الكريم يرى أنّ هذه العملية من القُبح والخطورة حتّى وردَ فيه:( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ) (١) .

٢ - وقد جَعل نبيّ الإسلام ( صلّى الله عليه وآله ) الزنا، مساوياً لقتل النبيّ، والإمام، وتخريب الكعبة(٢) .

٣ - وقال الإمام علي ( عليه السلام ):( ما زَنى غيورٌ قطّ ) (٣) .

٤ - وفي بيان سبب تحريم هذه العملية من وجهة نظر الإسلام، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( لمَا فيه من: الفساد، وذهاب المواريث، وانقطاع الأنساب، لا تعلم المرأة في الزنا مَن أحبلها، ولا المولود يَعلم مَن أبوه، ولا أرحام موصولة، ولا قرابة معروفة ) (٤) .

____________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٣٢.

(٢) بحار الأنوار: ٧٦ / ٢٠.

(٣) نهج البلاغة: صبحي الصالح، ص٥٢٩، الحديث ٣٠٥، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩ / ٢٠٩.

(٤) الاحتجاج للطبرسي: ٢ / ٩٣، بحار الأنوار: ١٠٠ / ٣٦٨.

٨٨

وقال الإمام الرضا ( عليه السلام ):( حرَّم الزنا لمَا فيه من الفساد من: قَتل الأنفُس، وذهاب الأنساب، وترك التربية للأطفال، وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد ) (١) .

ردودُ الفعل والعقوبات الإلهية

إنّ الآثار والأعراض الفظيعة والمُهلكة الناجمة عن هذه العملية المنافية للعفّة وغير المشروعة كعقوبة إلهية هي كالآتي:

١ - قال الإمام علي ( عليه السلام ):( إيّاكم والزنا؛ فإنّ فيه ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأمّا اللواتي في الدنيا: فيذهب بالبهاء، ويقطع الرزق الحلال، ويُعجّل الفناء إلى النار ) (٢) .

٢ - وقال أيضاً:( والزنا يورثُ الفقر ) (٣) .

٣ - وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( أربعٌ لا تدخل بيتاً واحدة منهنّ إلاّ خَربَ ولم يعمُر بالبركة: الخيانة، والسرقة، وشرب الخمر، والزنا ) (٤) .

٤ - إنّ العمل المنافي للعفّة والاعتداء الجنسي وما يترتّب من الآثار المتقدّمة على فاعله، يُحتّم الالتفات إلى مسؤولية الجميع في الحدّ من هذا الانحراف، فإذا لم يقم الجميع بما تُمليه مسؤوليتهم، فإنّ العقوبة الإلهية المترتّبة على هذه المعصية ستعمّ الجميع، وتترتّب عليها آثار وضعية سيّئة.

قال الإمام الباقر ( عليه السلام ):( وجدنا في كتابٍ لعلي ( عليه السلام ) عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال : إذا ظهرَ الزنا من بعدي ظهَرَت موتة الفجأة ) (٥) .

وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( إذا فشا الزنا ظهرت الزلازل ) (٦) .

____________________

(١) عِلل الشرائع: ٢ / ٤٧٩، بحار الأنوار: ٧٦ / ٢٤، الحديث رقم ١٩.

(٢) عِلل الشرائع: ص٤٨٠، عقاب الأعمال: ص٣١١.

(٣) الخصال للصدوق: ص٢٣٩، بحار الأنوار: ٧٦ / ١٩، الحديث رقم ٤.

(٤) أمالي الصدوق: ص٢٣٩، بحار الأنوار: ٧٦ / ١٩، الحديث ٤.

(٥) بحار الأنوار: ٧٦ / ٢٣.

(٦) المصدر السابق: ص٢١.

٨٩

٥ - وبما أنّ نظام هذا العالَم قائم على قاعدة:أنّ لكل فعل ردّ فعل ، وهو ما أثبتتهُ التجارب أيضاً، فقد وردَ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال:( أوصى الله إلى موسى ( عليه السلام ): لا تزنوا فَتزني نساؤكم، ومَن وَطَئ فراش امرئ مُسلم وطِئ فراشهُ، كما تُدين تُدان ) (١) .

كما يدين المرء يوماً يُدان به

مَن يزرع الشوك لا يحصدهُ ريحاناً

٦ - إنّ عُمق هذه الكارثة الأخلاقية والاعتداء الجنسي عظيم جدّاً، ومُخالف لسير النظام الطبيعي.

يُروى عن الإمام الصادق ( عليه السلام ):( أوصى يعقوب ( عليه السلام ) ابنهُ قائلاً: يا بُني لا تزنِ، لو أنّ الطير زنا لتناثرَ ريشه ) (٢) .

٧ - إنّ إحصائية ( الأمّهات الخليّات )، والفتيات اللاتي تزوّجن بشكلٍ غير قانوني في ٥٣ بلداً في الدول النامية، تُبيّن لنا وضعاً خطيراً ومُخجلاً!

وتحكي نتيجة تحقيق دولي في انجلترا عن ظاهرة ولادات من نساء خليّات، تتراوح أعمارهنّ بين ١٥ إلى ١٩ سنة في: أمريكا، وبولندا، واليابان، وانجلترا، وقد شكّلت أكبر نسبة من ولادة الأطفال غير الشرعيين، حيث بَلَغت ٨٧% من ولادات لأمّهات لم يتزوّجن بشكلٍ شرعي(٣) ، وقد تخبّطت انجلترا بسبب ذلك في وضع أخلاقي فظيع.

وعلى أيّ حال، فإنّ المفاسد الأخلاقية والضغوط الناجمة عن الفراغ المعنوي في العالم الغربي أدّت - كما جاء في تقرير لمجلّة( سكو لاستيك ) الأمريكية - إلى ارتفاع نسبة المسلمين الأمريكان البالغة بين أربعة إلى ستة ملايين نسمة، وإنّ آلاف التلاميذ من الفتيان والفتيات يفضّلون الانتساب إلى المدارس التي تَدرس الإسلام باللغة العربية(٤) .

____________________

(١) المحاسن: ص١٠٧، بحار الأنوار: ٧٦ / ٢٧، الحديث ٣٢.

(٢) المحاسن: ١ / ١٠٦، بحار الأنوار: ٧٦ / ٢٧، الحديث ٣٠.

(٣) صحيفة جمهوري إسلامي: العدد ٥٤٨٤، ص٥.

(٤) الملحق الخاص بصحيفة اطلاعات: ١٥ دي ماه ١٣٧٣، ص١.

٩٠

كما ذكرت جريدة( أنديبند نت ) الانجليزية تحت عنوان( ارتفاع نسبة المنتسبين إلى الإسلام في أوربا ) : ( إنّ الضغوط النفسية الناتجة عن الفراغ والخواء المعنوي في الغرب، واليأس من المسيحية الجوفاء، من الأسباب الرئيسة في لجوء الأوربيين خلال نصف القرن الأخير إلى الإسلام )(١) .

فإذا كانت أحكام الإسلام المبيّنة قد أوجدت مثل هذا التقدّم في العالم الغربي والأوربي، أفلا يجدر بنا أنّ نتمسّك أكثر بالفضيلة والعيش الطاهر الذي نادى به الإسلام؛ كي لا نتخلّف عن هذا الركب العظيم؟!

____________________

(١) صحيفة جمهوري إسلامي: العدد ٥٦٤٠، ص١٦.

٩١

(١٢)

النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) والشباب

إنّ الشباب ثروة عظيمة لا يدركها كافّة الشباب ما دامت في أيديهم، وحينما يفقدونها يكون قد فاتهم الأوان، واستحال الرجوع إلى الوراء!

وقلّما تجد شابّاً يدرك قيمة شبابه ويغتنمها بشكلٍ كامل، وقلّما يندم الكبار على الفُرص التي ضيّعوها في شبابهم!

وهنا تتجلّى أهمية حِكمة الإمام علي ( عليه السلام ) كي لا يغترّ الشباب بمستوى وعيهم، وأن لا يُضيّعوا فرصة الشباب الذهبية، وعلى أولياء الأمور أن يراقبوا بشدّة، وأن يتجاوزوا عن غفلة الشباب وعثراتهم الطفيفة، وأن يغضّوا الطرف عنها.

قال الإمام علي ( عليه السلام ):( جهلُ الشباب معذور، وعلمهُ محقور ).

كما أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) الذي عاشرَ فئات مختلفة من الناس، يلفت أنظار أصحابه إلى مشاعر الشباب الطاهرة وطاقاتهم الكبيرة، وقد أدّى الصدقُ في العمل والتواضع والعيش البسيط، والهدف المعنوي ورسم صورة وضّاءة للإسلام من قِبَل النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، إلى تأثّر طبقة الشباب بهداية النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، فكانوا من خُلّص أصحابه والمؤثّرين في دعوته، ممّا أدّى إلى استياء المشركين من هذا الأمر، وأحسّوا بالقلق على مستقبلهم، وسعوا جاهدين إلى اتّهام الشباب المؤمن الطاهر بالانحراف والفساد الأخلاقي!

٩٢

فقد قال( عتبة بن ربيعة ) أحد قادة الشرك في مكّة لـ( سعد بن زرارة ) ، عندما جاءه من المدينة ليتوسّط في حلّ الخلاف القائم بين قبيلة الخزرج وقبيلة الأوس:( بَعُدت دارنا من داركم، ولنا شغلٌ لا نتفرّغ لشيء، خرجَ فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسدَ شبابنا، وفرّق جماعتنا ) (١) .

كما أنّ جماعة أخرى من قادة الكفر والنفاق، أحسّت بالخوف الشديد من التفاف الشباب حول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وإطاعتهم له، فذهبت إلى أبي طالب عمّ النبي والمُستميت في الدفاع عنه، فشكوهُ قائلين:( يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك محمّداً خالفَ قومه، وسفّه أحلامهم، وعابَ آلهتهم وسبّها، وأفسدَ الشباب من رجالهم، وفرّق جماعتهم ) (٢) .

أجل، فبمقدار ما كان إيمان واعتقاد وتواجد الشباب في صفوف المجتمع، والتديّن ضرورياً ومصيرياً لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، وكان يسعى إلى المحافظة عليه، كان الأعداء والمشركون يصرّحون بتذمّرهم منه، وبذلوا جميع ما بوسعهم لإبطال هذا الدور الفاعل الذي يقوم به الشباب المؤمن، وإبعادهم عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) والمجتمع.

وقد ذَكرت كُتب التاريخ: أنّ المشركين لم يكفّوا عن إيذاء المسلمين، حتّى بعد أن هاجر ٨٣ رجلاً و١٨ امرأة سوى الأطفال إلى الحبشة، وتركوا أوطانهم بأمر النبي بُغية الخلاص ومن وطأة الكفّار وعذابهم، ومع ذلك لم يقرّ للمشركين قرار، فأرسلوا رجلين جِلفين هما:عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى النجاشي ( مَلك الحبشة ) بُغية تشويه صورة المهاجرين، فقال ( عمرو بن العاص ) للنجاشي:( خالَفوا ديننا، وسبّوا آلهتنا، وأفسدوا شبابنا، وفرّقوا جماعتنا ) (٣) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ١٩ / ٨ - ١٠.

(٢) بحار الأنوار: ٩٠ / ٨٠.

(٣) بحار الأنوار: ١٨ / ٤١٥.

٩٣

وعى أيّ حال، فهناك قصص كثيرة بشأن سعة أخلاق الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، وتمكّنه من استقطاب الشباب وتنمية طاقاتهم وشخصياتهم، والاستفادة منها في مختلف مجالات الحياة السياسية والثقافية والعسكرية والاجتماعية، وإليك نماذج منها:

١ - زيد بن حارثة

زيد بن حارثة: من كبار صحابة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وخُلَّص أنصاره، لم يفارق النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في جميع أسفاره، وقد جَعل من جسده وقاءً للرسول ( صلّى الله عليه وآله ) في سفره إلى الطائف، حيث تعرّض الرسول إلى هجوم شباب المشركين الذين رموهُ بالحجارة، فأخذَ زيد يقي الرسول بجسده ويدافع عنه(١) .

وهو الشخص الوحيد من بين أصحاب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، في قضية تطليق زوجته.

وقد نالَ زيد تحت تأثّره بتعاليم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) درجة إيمانية مرموقة، على أثرها لم يترك الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المدينة مرّة إلاّ وجَعلهُ فيها خليفة عنه، وتزعّم جيش الإسلام في تسع حروب بأمر الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، حتّى استشهد في غزوة مؤتة وكان فيها أيضاً قائداً للمسلمين.

وبملاحظة أنّ هذه الغزوة قد حَدثت في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، وأنّ الرسول قد تبنّاه وهو في الثامنة من عمره، وأقامَ معهُ ثلاث عشرة سنة في مكّة، وثماني سنوات في المدينة، فيمكن القول بأنّ عمره حين استشهاده لم يتجاوز الخامسة والعشرين، إلاّ أنّ الجانب المهمّ الذي يجدر ذكرهُ هنا من حياة زيد بن حارثة - والذي يعكس صفاءه وشخصيته الفريدة التي نالها بفعل تأثّره بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) - هو أنّه حينما كان لهُ من العمر ثماني سنوات ذهبَ بصحبة أمّه لزيارة أقربائه من قبيلة( بني معن ) ، وفي مدّة إقامتهم هناك تعرّضت القبيلة المذكورة لغارة شنّتها عليها قبيلة( بني قين ) ، وقعَ فيها زيد أسيراً فيمَن أُسّر، وكان العُرف السائد في عصر الجاهلية يقوم على بيع الأسرى واسترقاقهم،

____________________

(١) طبقات أبي سعد: ١ / ١٤٢.

٩٤

 فتوجّهوا بهم إلى سوق عُكاظ بُغية عَرضهم للبيع بوصفهم عبيداً، وهناك اشترى حكيم بن حزام زيداً لعمّته خديجة، فوهبتهُ خديجة إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، فأخذَ زيدٌ يتولّى خدمة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ).

ومن جهةٍ أخرى، كان( حارثة ) والد زيد، وعمّه( كعب ) يبحثان عنه، ولمّا توصّلا لمعرفة مكانه، توجّها إلى مكّة وراجعا أبا طالب عمّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في أمر شراء زيد وتحريره، فتركَ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) الأمر إليه، ولكنَّ زيداً آثر البقاء عند النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) برغم شوق أبيه إليه، وكان من أوائل المؤمنين بدعوة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، بعد علي ( عليه السلام ) وخديجة الكبرى ( عليها السلام )(١) ، فنالَ القسط الأوفر من إرشادات النبيّ التي أوصلتهُ إلى درجة سامية من بين الصحابة.

٢ - مُصعب بن عُمير

والشابّ الآخر الذي أجابَ دعوة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في مستهل ظهور الإسلام، وهَبَّ إلى نُصرته:( مُصعب بن عُمير ) ، وكان مصعب قد ترعَرعَ في عائلة ثريّة، إلاّ أنّه تأثّر على يد( عثمان بن طلحة ) بتعاليم الإسلام، فأخذَ يصلّي خِفية بعيداً عن أنظار أهله، وبرغم ما لاقاه من جفاءٍ من أسرته حتّى وقعَ تحت سطوة الفقر والفاقة، إلاّ أنّه ثبتَ على إيمانه ومعتقده.

وهكذا طوى( مُصعب ) حياة عصيبة، حتّى توجّه في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة إلى( الحَبَشة ) ، مع أوّل قافلة تخرج مهاجرة من ظلم الأعداء في مكّة.

ومضت على المسلمين سنوات قاسية، إلاّ أنّ شوكة الإسلام أخذت تقوى في مكّة وامتدّت إلى المدينة.

وفي السنة الثانية عشرة للبعثة، وفدَ على النبي اثنا عشر شخصاً من أهل المدينة، وبايعوا النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في( العَقَبة الثانية ) الواقعة في آخر( مِنى ) ، وسألوا الرسول أن يرسل إلى المدينة شخصاً ليعلّمهم القرآن والأحكام الإسلامية،

____________________

(١) السيرة النبوية: ١ / ٦٥ و ٢٦٤.

٩٥

 فأرسل النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) مُصعب بن عُمير لهذا الغرض؛ لكونه شابّاً مؤمناً صَلباً عالِماً بقراءة القرآن(١) .

وقد عبّرت كُتب التواريخ عن مُصعب بن عُمير بأنّه: فتىً حَدَث ممّا يدلّ على صِغر سِنّه(٢) .

وعندما دخلَ المدينة أقامَ في بيت( أسعد بن زرارة ) ، فأخذَ الشباب يختلفون إليه ويُعلنون إسلامهم.

وأخذ مُصعب ينتقل من بيت إلى بيت يرافقهُ المسلمون حديثاً من الشباب، يعلّمهم القرآن، ويدعو الناس إلى الإسلام، حتّى شاعَ الإسلام في المدينة ولم يبقَ بيتٍ فيها سوى القليل إلاّ ودخلهُ الإسلام، أو أخذَ أهله يتحدّثون عن هذا الدين الجديد.

وطبعاً لم تكن مهمّة مُصعب في تبليغ الإسلام في المدينة خالية من الصِعاب، فقد أشاعَ الكفّار أنّ شابّاً قرشياً قد وفدَ من مكّة إلى المدينة؛ ليعمل على إفساد شبابها وإضلالهم!

إلاّ أنّ إخلاص مُصعب وتضحيته، ودَعم كثير من الأصحاب المسلمين له، جَعل الدين يأخذ بالاتّساع بين أهل المدينة، وعزّز من إمامته لجماعة المسلمين، حتّى طلبَ من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أن يأذن لهُ بإقامة الجمعة لازدياد عدد المسلمين في المدينة، فأذِن لهُ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، فأقامها في بيت( سعد بن خُثيمة ) (٣) .

وبذلك أدّى مصعب الشابّ دوراً فعّالاً في تبليغ وإشاعة الأحكام، وتثبيت الأسس الإسلامية في المدينة، وحَضيَ عند الرسول بمكانة مرموقة.

____________________

(١) بحار الأنوار: ١٩ / ١٠.

(٢) المصدر نفسه: ص٢٤.

(٣) السيرة النبوية: ٢ / ٧٧، أُسد الغابة: ٤ / ٣٦٩، بحار الأنوار: ١٩ / ١٥ - ٢٠.

٩٦

٣ - كاتبُ الوحي والمُترجِم

والنموذج الآخر لقابلية الشباب على التأثّر فيما يرتبط بمسألة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، والاستفادة المؤثّرة والمفيدة التي جناها النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ):( زيد بن ثابت ) ، وكان أبوهُ( الضحّاك ) من أهل المدينة ومن قبيلة ( الخزرج )، وقُتلَ أبوه في( حرب بُغاث ) حينما كان لهُ من العمر إحدى عشرة سنة.

وقد كان زيد من أوائل الذين هبّوا للقاء النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، حين دخوله المدينة فاعتنقَ الإسلام، وعُدَّ من جملة أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، إلاّ أنّه لم يتمكّن من الاشتراك في ( بدر ) و( أحد ) في السنة الثانية والثالثة للهجرة؛ لصغر سنّه آنذاك، إلاّ أنّه عملَ على إعداد المُؤن من تحضير الطعام وما إلى ذلك، ولذلك كان النبيّ يحثّه ويشجّعه قائلاً:( باركَ الله فيك ) (١) .

وقد وفِّق زيد بن ثابت فيما بعد في السنة الخامسة للهجرة للاشتراك في واقعة الخَندق، وحينما كان الأصحاب يحفرون الخَندق كان زيد يعمل بنقل التراب(٢) ، إلاّ أنّ أهمّ منصب قلّدهُ إيّاه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) هو:( كتابةُ الوحي، والعمل في حقل الترجمة ) ، وبذلك صار زيد من جملة ( كُتّاب الوحي )، فكان يكتب الآيات النازلة على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ويحفظها، كما أنّه كان عالِماً بها.

وقد مَنحهُ الله ذكاءً حادّاً حتّى أشار عليه النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بتعلّم اللغة السريانية، إذ لم يكن يأمن جانب اليهود في مكاتباته مع علماء اليهود، وكان يخشى من تحريف الرسائل(٣) .

وقد تحدّث زيد الشابّ حول مهمّة الترجمة التي أمرهُ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بها قائلاً:( لقد تعلّمتُ اللغة السريانية كما كنتُ أقرأ رسائل اليهود لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ) (٤) .

____________________

(١) طبقات ابن سعد: ص١٦٠.

(٢) أُسد الغابة: ٢ / ٢٢٢.

(٣) أُسد الغابة: ٢ / ٢٢٢.

(٤) تاريخ الخميس: ١ / ٤٦٥.

٩٧

كما كان زيد عارفاً بالحساب والرياضيات، فكلّفه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بالإشراف على تقسيم غنائم غزوَتَي:( حُنين )، و( خَيبر ) ، وكانت عبارة عن كثيرٍ من البقر، والضأن، والإبل(١) .

ومضافاً إلى ذلك كلّه، أعطاهُ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) راية قبيلة( بني مالك ) في غزوة ( تبوك )، بعد أن أخذها رسول الله من( عمارة بن حزم ) ، ورفعها زيد بن ثابت، فقال عمارة: هل صدرَ منّي شيء؟ فأجابهُ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ):( كلاّ، ولكنّ زيداً أحفظُ منك للقرآن ) (٢) .

٤ - أُسامة بن زيد

ولِد أسامة بن زيد بن حارثة - الذي تقدّم الحَديث عن والده - من أمّ اسمها( بَرَكة ) وكُنيتها ( أم أيمن )، وتغذّى بتعاليم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في ظلّ المجتمع الإسلامي.

وكان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) لِمَا يوليه من أهمية لطبقة الشباب، واعتزازه بشخصيتهم والاستفادة من طاقاتهم، يحبُّ أُسامة بن زيد حبّاً جمّاً، وخوّله مهمّتين:ثقافية، وعسكرية، نشير إليهما فيما يأتي:

١ - في السنة السابعة للهجرة حيث رجع النبيّ بجيشه إلى المدينة منتصراً من غزوة ( خيبر )، أرسلَ أُسامة على رأس جماعة إلى قرية من قرى( فدك ) التي يقطنها اليهود، بُغية التبليغ والدعوة إلى الدين الإسلامي، فهربَ جميع سكّان تلك القرية حين سماعهم تكبيرات أصحاب أسامة، ماعدا( مرداس ) الذي كان قد أسلمَ قبل ذلك، وقد خفّ ( مرداس ) إلى استقبال ( أسامة )، وهو يُردّد شهادة( أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله ) ، إلاّ أنّ أسامة بادرَ إلى قتله ظنّاً منهُ أنّ ( مرداس ) إنّما نطقَ بالشهادتين خوفاً على نفسه وماله، دون أن يكون مسلماً في حقيقة الأمر، ثمّ أخذَ ماشيته غنيمة.

____________________

(١) طبقات ابن سعد: ٢ / ١١٥.

(٢) أُسد الغابة: ٢ / ٢٢٢.

٩٨

وحينما وصلَ الخبر إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) تأثّر كثيراً وقال لزيد:( لقد قتلتَ مسلماً! ) ثمّ نزلَ قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) (١) ، فندمَ أسامة على ما صدرَ منه نَدماً شديداً، وسألَ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أن يدعو له الله بالمغفرة، وأقسمَ أن لا يقتل مُسلماً أبداً(٢) .

٢ - وبعد أن استشهدَ جمعٌ من المسلمين في السنة الثامنة للهجرة في غزوة( مؤتة ) ، وكان منهم: جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام )، وزيد بن حارثة ( والد أسامة )، بادرَ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) إلى تنظيم جيش قوامهُ أربعة آلاف رجل، وأعطى قيادتهُ لأسامة ليتوجّهوا نحو الشام ليجبر الصَدع، ويحِدّ من خطر الروم والنصارى، ويحافظ على حياض الإسلام.

وعلى الرغم من وجود عدد من الكبار والأبطال بين أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) من المهاجرين والأنصار، إلاّ أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بادرَ - لكي يرفع من قيمة الشباب، ولِمَا كان يعرفهُ من كفاءة لدى أسامة، والمصالح التي كان يفكّر فيها في السنة العاشرة للهجرة - إلى جَعل القيادة العسكرية لجيش المسلمين لأسامة بن زيد، برغم أنّه لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره(٣) .

٥ - عتابُ بن أسيد

بعد أن فتحَ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) مكّة في السنة الثامنة للهجرة، اختارَ من بين الصحابة - وفيهم الكبار - شابّاً لهُ من العمر عشرون سنة وهو:( عتاب بن أسيد ) ، ونصّبهُ والياً على مكّة، لِمَا كان يتوسّمه فيه من كفاءات وقابليّات.

فقد ذَكرت السِيَر: أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أقامَ عتاب بن أسيد والياً على مكّة، وكان أوّل أمير يقيم الصلاة جماعة في مكّة بعد فتحها، قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) لابن أسيد:( يا عتاب، تدري على مَن استعملتك؟ استعملتُك على أهل الله عزّ وجل، ولو أعلمُ لهم خيراً منك استعملتهُ عليهم ) (٤) .

____________________

(١) سورة النساء: الآية ٩٤.

(٢) أُسد الغابة: ٢ / ٦٥، بحار الأنوار: ٢١ / ٤٨.

(٣) أُسد الغابة: ٢ / ٦٤.

(٤) أُسد الغابة: ٣ / ٣٥٨.

٩٩

وطبعاً أنّ اختيار شابّ لهُ من العمر ١٨ أو ٢١ سنة للإمارة والإمامة بعد فتح مكّة، كان له وقعٌ شديد على كبار الصحابة، ورأوا فيه إهانة لهم وقالوا: نحن أكبر سنّاً ونحن في جوار حَرَم الله الآمن، وإنّ هذه المدينة هي أفضل المُدن عند الله، وما أسيد سوى شاب حَدث له من العمر ١٨ سنة(١) !

إلاّ أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) الذي كان يلاحظ كفاءة ابن أسيد والمصالح الأخرى أجابهم قائلاً:( لقد اعترضَ بعضكم على حداثة ابن أسيد، فليس الأكبر هو الأفضل، بل الأفضل هو الأكبر ) (٢) .

أجل، إنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) من خلال التفاته لكفاءة عتاب بن أسيد - وقابليته لولاية مكّة ذلك البلد العظيم، والمقرّ التوحيدي الكبير - قد استفاد استفادة قصوى، وقد اضطلعَ أسيد إلى آخر عمره بمهام الإدارة والولاية، بقوّة وأمانة وصدق وتواضع.

٦ - عَظمةُ الإيمان والطاعة

تحدّثنا في هذا المقال عن إيمان الشباب وإطاعتهم للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، وقبل أن نذكر نموذجاً آخر لعظمة الإيمان والطاعة والذوبان والفناء في ذات الله لدى الشباب، نرى من المناسب أن نذكر جانباً من سلوكية النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، وكيف أنّه كان يشمل الجميع بظلّ عَطفه الوارف.

قال أبو ذر الغفاري:( كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو حتّى يسأل ) (٣) .

أجل، إنّ مثل هذه السلوكية الإيمانية والإلهية قد تركت آثاراً ملحوظة على أصحاب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )،

____________________

(١) بحار الأنوار: ٢١ / ١٢٢.

(٢) المصدر السابق: ص١٢٣.

(٣) مكارم الأخلاق: ص١٦.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ان علق الامر بزوال علة النهى... إلى غير ذلك (والتحقيق) أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال فانه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه غاية الامر يكون موجبا لاجمالها غير ظاهرة في واحد منها الا بقرينة أخرى كما أشرنا (المبحث الثامن) الحق أن صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فان المنصرف عنها ليس الا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها فلا دلالة لها على أحدهما لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة فانما هو

______________________________

(قوله: إن علق النهي بزوال) كما في قوله تعالى: فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين، وقوله تعالى: فإذا تطهرن فأتوهن، وقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا (قوله: لا مجال للتشبث) اشارة إلى إبطال استدلال بعضهم على مدعاه ببعض موارد الاستعمال كالايات المتقدمة (وحاصله) أن الكلام في المقام في أن وقوع الامر عقيب الحظر هل هو من القرائن العامة التي لا يجوز العدول عن مقتضاها إلا بدليل الموجبة لظهور الصيغة في الاباحة مطلقا أو الوجوب أو رجوع الحكم السابق على النهي أو غير ذلك ؟ والاستعمال لا يدل على شئ من ذلك لامكان استناد الظهور فيه إلى قرينة خاصة غير الوقوع عقيب الحظر فلا يصح الاستناد إليه في اثبات الدعوى (قوله: ومع فرض) يعني لو فرض التجريد عن القرائن الخاصة لم يظهر أن الوقوع عقيب الحظر من القرائن الموجبة لظهور الصيغة في غير الوجوب الذي تكون ظاهرة فيه لولا الوقوع عقيب الحظر (قوله: لاجمالها) وعليه فلا تحمل على الوجوب بناء على وضعها له الا بناء على كون حجية أصالة عدم القرينة من باب التعبد لا من باب حجية الظهور

المرة والتكرار

(قوله: مطلقا) يعنى حيث لا يقيد بمرة أو تكرار (قوله: على المرة والتكرار) سيأتي منه شرحهما (قوله: لا بهيئتها ولا بمادتها) إذ

١٨١

لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب كون النزاع ههنا في الهيئة - كما في الفصول - فانه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات بل هو صيغة مثلها

______________________________

الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة والمادة موضوعة لصرف الماهية لا بشرط، وكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما (قوله: لحصول الامتثال) إذ الامتثال يحصل بوجود المأمور به فإذا كان المأمور به صرف الطبيعة وكان يتحقق بالمرة كانت امتثالا للامر، ومنه يظهر بطلان استدلال القائل بالمرة بصدق الامتثال بها (قوله: لا يذهب عليك) قال في الفصول: الحق أن هيئة الامر لا دلالة لها على مرة ولا على تكرار... إلى أن قال: وانما حررنا النزاع في الهيئة لنص جماعة عليه، ولان الاكثر حرروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها، ولانه لا كلام في أن المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه... الخ فأشكل عليه المصنف (ره) بان الاتفاق على عدم دلالة المصدر المجرد الا على الماهية لا يدل على كون النزاع في المقام في الهيئة لا في المادة إذ المصدر ليس مادة للمشتقات التي منها صيغة الامر بل هو مشتق مثلها، والمادة هي الامر المشترك بينه وبينها حسبما حققه (أقول): ما في الفصول يرجع إلى أمرين أحدهما أن المصدر مادة للمشتقات وثانيهما ان الاتفاق على عدم دلالته على المرة والتكرار يقتضي الاتفاق على عدم دلالة مادة (افعل) عليه ويكون النزاع في مدلول الهيئة أما الاول فيمكن أن يكون جاريا على المشهور، وأما الثاني فلا غبار عليه لان المصدر إذا لم يدل على المرة والتكرار دل ذلك عدم دلالة مادته عليهما فيصح الاستدلال به على عدم دلالة مادة (افعل) عليهما فيلزم الاتفاق على الاول الاتفاق على الاخير (قوله: غفلة وذهول) قد عرفت أنه في محله (قوله: ضرورة أن)

١٨٢

كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ؟ فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها كما لا يخفى (إن قلت): فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (قلت): - مع أنه محل الخلاف - معناه أن الذى وضع اولا بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا ساير الصيغ التى تناسبه مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل فافهم (ثم) المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد ؟ والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع

______________________________

هذا لا يثبت الاشكال على الفصول إلا من جهة ظهور كلامه في كون المصدر مادة للمشتقات، وقد عرفت إمكان حمله على الاصطلاح المشهوري (قوله: فعليه يمكن) قد عرفت أنه لا يمكن (قوله: مع أنه محل) هذا لا دخل له في دفع السؤال إذ قول الكوفيين: ان الفعل هو الاصل في الاشتقاق أءكد في توجه الاشكال فتأمل (قوله: معناه أن) إذا كان هذا معنى كلامهم فليكن هو معنى كلام الفصول (قوله: جمعه معه) الضمير الاول راجع إلى (ما) التي هي عبارة عن سائر الصيغ والثاني راجع إلى (الذي) ويمكن العكس (قوله: ومعنى) معطوف على قوله: لفظ، يعني ومادة معنى متصورة في كل منها ومنه (قوله: هو المصدر) خبر أن (قوله: أو الفعل فافهم) لعله اشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر بقرينة دعوى الكوفيين ان الفعل هو الاصل إذ لا يراد منه أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي " ثم " ان الموجود في بعض النسخ الضرب على لفظة: وهو أولى (قوله: الدفعة والدفعات) الفرق بين الدفعة والفرد أن الدفعة تصدق على الافراد المتعددة الموجودة في وقت واحد ولا يصدق عليها أنها فرد واحد، وأن الفرد الموجود تدريجا مثل الكلام الممتد المتصل فرد واحد وليس دفعة فبينهما عموم من وجه كما بين الافراد والدفعات ايضا (قوله: والتحقيق أن يقعا) الذي استظهره في الفصول أن النزاع

١٨٣

وان كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول (وتوهم) أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الانسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك: وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث - كما فعلوه - وأما لو أريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين كما لا يخفى (فاسد) لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا فان الطلب - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ضرورة أن الطبيعة من حيث هي

______________________________

*

فيهما بالمعنى الاول، ونسب إلى القوانين كونه فيهما بالمعنى الثاني، والظاهر ان مراد المصنف (ره) امكان كون النزاع فيهما بالمعنيين لا تحقق النزاع فيهما بهما معا إذ ليس له وجه ظاهر (قوله: وان كان لفظهما) هذا من القرائن التي اعتمد عليها في الفصول لاثبات ما استظهره (قوله: وتوهم انه لو أريد) هذا التوهم للفصول والباعث له عليه ظهور لفظ الفرد المذكور في المسألتين بمعنى واحد وهو ما يقابل الطبيعة (قوله: فاسد لعدم العلقة) حاصله أن المراد بالفرد هنا غير المراد به في تلك المسألة إذ المراد به في تلك المسألة ما يتقوم بالخصوصية المميزة له عن بقية الافراد والمراد به هنا الوجود الواحد للمأمور به فان كان المأمور به هو الطبيعة يقع النزاع في أن صيغة الامر تدل على وجوب وجود واحد للطبيعة أو وجود متعدد لها أو مطلق وجودها فيتأتى النزاع على القول بتعلق الامر بالطبيعة بعين ما يتأتى به على القول بتعلقه بالفرد، والقرينة على إرادة هذا المعنى من الفرد جعله في قبال الدفعة (قوله: باعتبار وجودها) هذا ذكره المصنف (رحمه الله) تمهيدا لتأتي النزاع على القولين لا ردا على الفصول إذ لم يتوهم خلافه في الفصول كما يشهد به دعواه تأتي النزاع على القولين بناء على كون المراد الدفعة إذ لا يخفى أن القائل بالطبيعة لو كان مراده الطبيعة من حيث هي لا معنى لتأتى النزاع في المقام بكل معنى (قوله: ضرورة ان الطبيعة من) قد يقال: الماهية

١٨٤

ليست الا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها، أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد غاية الامر خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الامر بالطبايع - يلازم المطلوب وخارج عنه بخلاف القول بتعلقه بالافراد فانه مما يقومه (تنبيه) لا إشكال - بناء على القول بالمرة - في الامتثال وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا به الامتثال فانه من الامتثال بعد الامتثال (وأما) على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار فلا يخلو الحال إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان بل في مقام الاهمال أو الاجمال

______________________________

من حيث هي ليست الا هي، ويراد منه معنى أن كل ما هو خارج عنها فليس هو هي لا عينها ولا جزؤها، وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة ولا واحد ولا كثير ولا غيرها، وقد يقال ذلك بمعنى أن الخارج عنها ليس عارضا لها بما هي هي بل بشرط الوجود، ويختص النفي بعوارض الوجود كالكتابة والحركة وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا كاتبة ولا متحركة ولا لا كاتبة ولا لا متحركة، فان الكتابة لما كانت في الرتبة اللاحقة للوجود كان نقيضها هو العدم في الرتبة اللاحقة له أيضا لوحدة رتبة النقيضين فجاز ارتفاع النقيضين في غير تلك الرتبة وحيث أن الطلب ليس من عوارض الماهية من حيث هي بل بشرط الوجود صح أن يقال: الماهية من حيث هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة فتأمل (قوله: وبهذا الاعتبار) أي اعتبار الوجود (قوله: في الامتثال) يعني يتحقق بالمرة (قوله: من الامتثال بعد الامتثال) يعني وهو ممتنع لان الامتثال فعل المأمور به وبالامتثال الاول يسقط الامر فلا يكون فعله ثانيا امتثالا وسيجئ له

١٨٥

فالمرجع هو الاصل، وإما أن يكون اطلاقها في ذاك المقام فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز ان لا يقتصر عليها فان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة كما لا يخفى (والتحقيق) أن قضية الاطلاق انما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد فيكون ايجادها في ضمنها نحوا من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد لا جواز الاتيان بها مرة ومرات فانه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى بحيث يحصل بمجرده فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الامر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض

______________________________

تتمة (قوله: فالمرجع هو الاصل) يعني الاصل العملي فلو تردد الامر بين الطبيعة والتكرار فالاصل البراءة عن وجوب الزائد على المرة مع تعدد الوجود أما مع اتصاله - بناء على تحقق التكرار به - فاستصحاب الوجوب هو المرجع، ولو تردد بين الطبيعة والمرة فلا أثر للشك، ولو تردد بين المرة والتكرار والطبيعة فالحكم كما لو تردد بين الطبيعة والتكرار، وكذا لو تردد بين المرة والتكرار، وربما يختلف الاصل باختلاف تفسير المرة من حيث كونها لا بشرط أو بشرط لا فلاحظ (قوله: في ذاك المقام) أي في مقام البيان (قوله: في الاكتفاء بالمرة) لصدق الطبيعة على المرة (قوله: في جواز ان لا يقتصر) يعني في جواز الاتيان ثانيا بقصد امتثال الامر لا مجرد الاتيان ثانيا بلا قصد الامر فانه لا ريب في جوازه (قوله: أو مرارا) فيجوز الاتيان ثانيا وثالثا بقصد الامتثال (قوله: فرد أو أفراد) يعني افرادا دفعية (قوله: فانه مع الاتيان بها) هذا تعليل لعدم كون مقتضى الاطلاق جواز الاتيان زائدا على المرة، ومرجعه إلى ابداء المانع العقلي عن ثبوت

١٨٦

كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الاجزاء (المبحث التاسع) الحق انه لا دلالة للصيغة

______________________________

اطلاق المذكور لان الوجود الاول إذا كان علة تامة لسقوط الغرض كان علة تامة لسقوط الامر ايضا فيمتنع كون الوجود اللاحق موضوعا للامر كي يجوز الاتيان به بقصد امتثال الامر، وإذا امتنع كون الاتيان الثاني موضوعا للامر امتنع ان يكون اطلاق الصيغة شاملا للمرة والمرات " أقول ": يمكن منع الاطلاق المذكور مع قطع النظر عن المانع العقلي وذلك لان اطلاق المادة يقتضي أن يكون المراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق فانه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم فتأمل، وأما المانع الذي ذكره فهو يتوقف على امتناع التخيير بين الاقل والاكثر بكل وجه، وسيأتي الكلام فيه (قوله: كما إذا امر بالماء ليشرب) الغرض من الامر باحضار الماء: تارة يكون مجرد تمكن الآمر من شربه ولا ريب في حصوله بمجرد احضاره، واخرى يكون هو الشرب الفعلي فيشكل الامتثال ثانيا من جهة امتناع بقاء الامر مع حصول موضوعه الذي هو صرف الاحضار، فلا بد اما من الالتزام بأن موضوع الامر ليس مطلق الاحضار بل الاحضار المترتب عليه الشرب، والباعث على هذا الالتزام لزوم المساواة عقلا بين الغرض وموضوع الامر سعة وضيقا لامتناع التفكيك بينهما، وعليه فلا يتعين الاحضار الحاصل لان يكون مأمورا به الا بعد ترتب الغرض عليه، ولازمه ان المكلف في مقام الامتثال انما يأتي بالاحضار الاول رجاء كونه مأمورا به لا بقصد ذلك، وحينئذ فللمكلف الاتيان ثانيا وثالثا بهذا القصد بعينه ولا يكون فرق بين الوجود الاول وبقية الوجودات اللاحقة في كيفية الامتثال لكن لازم ذلك القول بالمقدمة الموصلة، واما من الالتزام بأن الغرض كما يبعث إلى الامر اولا بالاحضار يبعث ثانيا إلى صرف الاحضار المنطبق على بقاء الفرد الاول واحضار فرد آخر إذ لا يتعين للدخل في

١٨٧

لا على الفور ولا على التراخي (نعم) قضية إطلاقها جواز التراخي والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقيدها باحدهما فلا بد في التقييد من دلالة أخرى كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه منع الضرورة أن سياق آية: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية: (واستبقوا الخيرات) انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما أنسب كما لا يخفى " فافهم " مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات وكثير من الواجبات بل أكثرها فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه ارشادا إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في البعث على اصل الاطاعة فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن

______________________________

الغرض الفرد الاول بخصوصه بمجرد وجوده بل كما لم يتعين أولا قبل وجوده لم يتعين بعد وجوده، ولازم ذلك الالتزام باوامر طولية بحسب الزمان مادام الغرض باقيا ويكون المراد من بقاء الامر هذا المعنى لا بقاء الامر الشخصي بحدوده لامتناع بقائه بحصول موضوعه فتأمل جيدا.

الفور والتراخى

(قوله: لا على الفور ولا على) كما هو المشهور وعن الشيخ (ره) وجماعة القول بالفور، وعن السيد (ره) الاشتراك بين الفور والتراخي، وعن آخرين التوقف، والتحقيق الاول ويظهر ذلك بملاحظة ما تقدم في المرة والتكرار (قوله: قضية اطلاقها) يعني اطلاق المادة بالاضافة إلى الزمان (قوله: تبادر طلب) يعني ولو كان الوجه في التبادر مقدمات الاطلاق (قوله: ضرورة ان تركهما) يعني أن ظاهر تعليق المسارعة والاستباق بالمغفرة والخير كون تركهما

١٨٨

هناك أمر بها كما هو الشأن في الاوامر الارشادية " فافهم " (تتمة) بناء على القول بالفور فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا ايضا في الزمان الثاني أولا ؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب

______________________________

لا ينافي تحقق المغفرة والخير كما هو الحال في كل فعل متعلق بمفعوله، ولازم ذلك عدم وجوب المسارعة والاستباق والا كان تركهما موجبا للغضب والشر كما هو شأن ترك الواجب وهو خلف، بل كان الانسب حينئذ أن يقال: احذروا من الغضب والشر بالمسارعة والاستباق، لا التعبير بما في الآية، إلا أن يقال: ان الغضب الحاصل بترك المسارعة لا يضاد المغفرة التي هي موضوع المسارعة فوجوب المسارعة لا ينافي كون تركها لا يؤدي إلى الغضب بل إلى المغفرة، وكذا الحال في الآية الاخرى، ولكن هذا لو سلم لا ينافي ظهور السياق فيما ذكره المصنف (ره) فتأمل جيدا (والاولى) أن يقال: المغفرة في الآية الاولى يراد منها سببها وهو الاطاعة وكما يمتنع اخذ الاطاعة قيدا للواجب الشرعي يمتنع أخذ المسارعة إليها كذلك وكما أن الامر بالاطاعة ارشادي كذلك الامر بالمسارعة فيها، مع أن الآية على تقدير دلالتها على وجوب المسارعة لا تدل على تقييد الواجب بالفورية بل هي على خلاف ذلك أدل لان مادة المسارعة إلى الشئ إنما تكون فيما هو موسع كما لا يخفى، وكذا الحال في الآية الاخرى على تقدير كون المراد من الخيرات الخيرات الاخروية كما هو الظاهر، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم (قوله: الارشادية فافهم) لعله اشارة إلى لزوم الالتزام به لما عرفت، (قوله: فهل قضية الامر) ينبغي ان يجعل الاحتمال ثلاثي الاطراف فيقال: هل ظاهر الامر الاتيان به فورا فلو تركه عصى وسقط الامر أو الاتيان به فورا على نحو لو تركه في الزمان الاول عصى في ترك الفورية وبقي الامر بصرف الطبيعة أو الاتيان به فورا ففورا فلو تركه في الزمان الاول عصى ووجب الاتيان به بعد ذلك

١٨٩

أو تعدده ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده فتدبر جيدا

الفصل الثالث

الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغي تقديم أمور (أحدها) الظاهر ان المراد من (وجهه) في العنوان هو النهج الذى ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا

______________________________

فورا أيضا... وهكذا، ومبنى الاحتمال الاول ان الفورية في الزمان الاول مقومة لاصل المصلحة فتفوت بفوتها وهذا هو المراد من وحدة المطلوب، ومبنى الثاني ان يكون مصلحتان احداهما قائمة بذات الفعل مطلقا والاخرى قائمة بالفورية في الزمان الاول لا غير، ومبنى الثالث كذلك الا ان مصلحة الفورية ذات مراتب مختلفة يكون ترك الفورية في كل زمان مفوتا لمرتبة من مصلحتها لا لاصلها كما هو مبنى الثاني (قوله: أو تعدده) قد عرفت ان تعدده على نحوين يكونان مبنيين لاحتمالين (قوله: لو قيل بدلالتها على) اما لو كان الدليل على الفورية غير الصيغة فيختلف باختلاف تلك الادلة، وفي المعالم بنى القول بالسقوط على الاستناد لغير الآيتين والقول بعدمه على الاستناد اليهما، ولا يخلو من تأمل ليس هذا محل ذكره والله سبحانه اعلم، ثم انه حيث كان اطلاق يعتمد عليه في نفي الفور والتراخي فلا اشكال واما إذا لم يكن اطلاق كذلك فالمرجع الاصل فلو كان التردد بين الفور والتراخي فالواجب الجمع بين الوظيفتين للعلم الاجمالي بالتكليف باحدهما، ولو كان بين الفور والطبيعة فالمرجع اصل البراءة لو كان وجوب الفورية على نحو تعدد المطلوب ولو كان بنحو وحدة المطلوب فالحكم هو الحكم مع الشك بين الاقل والاكثر، وكذا الحكم لو كان التردد بين الطبيعة والتراخي والله سبحانه أعلم

١٩٠

وعقلا مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا فانه عليه يكون (على وجهه) قيدا - توضيحيا - وهو بعيد - مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدم من ان قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب فانه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات، لا وجه لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى

______________________________

الكلام في الاجزاء

(قوله: مثل ان يؤتى به) بيان للنهج اللازم عقلا بناء على خروج قصد التقرب عن موضوع الامر (قوله: لا خصوص) معطوف على النهج وفيه تعريض بما قد يظهر من عبارة التقريرات فتأملها (قوله: قيدا توضيحيا) لان ذكر المأمور به يغني عنه ثم إن كون القيد توضيحيا لازم للقائلين بأن قصد التقرب داخل في المأمور به (قوله: مع انه يلزم خروج) إذ لا إشكال في عدم الاجزاء لو كان المأمور به في العبادات فاقدا لقصد التقرب وان كان واجدا لجميع ما يعتبر فيه شرعا (قوله: بناء على المختار) أما على القول بكون قصد التقرب قيدا للمأمور به فهي داخلة في محل النزاع لدخولها في العنوان ويكون عدم الاجزاء مع فقد التقرب لعدم الاتيان بالمأمور به شرعا (قوله: ولا الوجه المعتبر) يعني الوجوب والندب (قوله: عند المعظم) فلا وجه لذكره في العنوان في كلام المعظم إلا أن يكون المقصود من ذكره الاحتياط في ذكر القيود لكنه بعيد (قوله: لا مطلق الواجبات) فلا وجه لاخذه قيدا في دعوى الاجزاء مطلقا (قوله: لاختصاصه) يعني من دون سائر القيود المعتبرة في الاطاعة مثل التقرب والتمييز إلا أن يدعى الاكتفاء به عنهما على بعض

١٩١

(ثانيها) الظاهر ان المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (ان قلت): هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره وأما بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بالنسبة إلى الامر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده (قلت): نعم لكنه لا ينافى كون النزاع فيها كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما انما هو الخلاف في دلالة دليلهما هل انه على نحو يستقل العقل بان الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره فانه لا يكون الا كبرويا لو كان هناك نزاع

______________________________

التقادير فتأمل (قوله: المراد من الاقتضاء ههنا) الواقع في القوانين والفصول وغيرهما في تحرير العنوان قولهم: الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء أولا ؟، وحيث أن ظاهر الاقتضاء فيه الكشف والدلالة كما في قولهم: الامر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، نبه المصنف (ره) على ان الاقتضاء في العنوان المذكور في المتن ليس بمعنى الكشف والدلالة بل بمعنى العلية والتأثير كما في قولهم: الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والوجه في ذلك نسبة الاقتضاء في عنوان المتن إلى الاتيان وفي عنوان غيره إلى الامر وحيث أنه لا معنى لتأثير الامر في الاجزاء وجب حمله على الدلالة يعني يدل الامر على أن موضوعه واف بتمام المصلحة بخلاف الاتيان فان تأثيره في الاجزاء ظاهر إذ لولا كونه علة لحصول الغرض لما كان مامورا به (قوله: هذا إنما يكون) يعني أن حمل الاقتضاء على العلية إنما يصح بالاضافة إلى نفس الامر المتعلق بالماتي فان إجزاءه يلازم سقوط امره لا بالنسبة إلى الامر المتعلق بغيره إذ النزاع في الحقيقة يكون في دلالة الدليل فالاقتضاء فيه بمعنى الدلالة (قوله: نعم) يعني كما ذكرت من أن النزاع في دلالة الدليل (قوله: صغرويا) صورة القياس في المقام هكذا: المأمور به

١٩٢

كما نقل عن بعض (فافهم) (ثالثها) الظاهر ان الاجزاء ههنا بمعناه لغة وهو الكفاية وان كان يختلف ما يكفى عنه فان الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفى فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهرى الجعلي فيسقط به القضاء لا انه يكون ههنا اصطلاحا بمعنى اسقاط التعبد أو القضاء فانه بعيد جدا

______________________________

*

بالامر الاضطراري مأمور به بالامر الواقعي - ولو تنزيلا - والمامور به بالامر الواقعي يقتضي الاجزاء، ينتج: المأمور به بالامر الاضطراري يقتضي الاجزاء. والنزاع في هذه المسألة بالنسبة إلى الامر الواقعي في الكبرى وبالنسبة إلى الامر الاضطراري في الصغرى بالنسبة إلى الامر الواقعي، وفي الكبرى بالنسبة إلى أمر نفسه والمحكم في الكبرى مطلقا العقل والمحكم في الصغرى الدليل الشرعي فإذا كان الاقتضاء في الكبرى بمعنى العلية كان في النتيجة كذلك، ومنه يظهر أن إثبات الاجزاء في الفعل الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي يتوقف على إثبات الصغرى والكبرى معا، وفي الفعل الواقعي على اثبات نفس الكبرى لانه عينها (قوله: فافهم) يمكن ان يكون اشارة إلى ان النزاع في مثل هذه الصغرى ليس نزاعا في المسألة الاصولية لان شأن المسائل الاصولية تنقيح الكبريات وأما الصغريات فوضيفة الفقيه، ولذا لم يتعرض في هذا المبحث لصغريات الافعال الاضطرارية والظاهرية تفصيلا فلاحظ (قوله: الظاهر ان الاجزاء) قد تضمنت جملة من العبارات كون الاجزاء له معنيان (احدهما) إسقاط التعبد بالفعل ثانيا (وثانيهما) إسقاط القضاء، وأن المراد هنا أي المعنيين ؟ وقد دفع المصنف (ره) ذلك - تبعا للتقريرات - بان لفظ الاجزاء لم يستعمل في المقام إلا بمعناه اللغوي وهو الكفاية غاية الامر أن ما يكفي عند الماتي به تارة يكون هو التعبد به ثانيا فيكون مسقطا للتعبد به واخرى الامر به قضاء فيكون مسقطا للقضاء لا أن له معنى اصطلاحيا ليتردد في أنه إسقاط التعبد أو إسقاط القضاء (قوله: يكفي فيسقط) يعنى يكفي في حصول الغرض فلا يحتاج إلى التعبد به ثانيا لتحصيله (قوله: فيسقط به) يعنى يكفي أيضا في حصول

١٩٣

(رابعها) الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فان البحث ههنا في ان الاتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلا بخلافه في تلك المسألة فانه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة اخرى (نعم) كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء فان البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها بخلاف هذه المسألة فانه كما عرفت في ان الاتيان بالمأمور يجزئ عقلا عن اتيانه ثانيا اداء أو

______________________________

*

الغرض فلا يثبت الامر بالقضاء ثم إن إجزاء المأمور به الواقعي لما كان بلحاظ الامر به ناسب التعبير باسقاط التعبد به ثانيا وإجزاء المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري لما كان بلحاظ الامر به قضاء ناسب التعبير باسقاط القضاء (قوله: الفرق بين هذه) قد يتوهم أن القول بالمرة قول بالاجزاء والقول بالتكرار قول بعدم الاجزاء (قوله: بما هو المأمور به) يعني بعد الفراغ عن تعيين تمام المأمور به (قوله: فانه في تعيين) وحينئذ فيكون النزاع في الاجزاء مترتبا على النزاع في المرة والتكرار لا أن النزاع فيهما نزاع في الموضوع والنزاع فيه نزاع في الحكم (قوله: بحسب دلالة) يعني فيكون النزاع في أمر لفظي (قوله: عملا) متعلق بقوله: موافقا، يعني هما من حيث العمل سواء لكنه موقوف على أن المراد بالتكرار فعل كل فرد ممكن بعد آخر أما لو كان المراد ما يشمل تكرار الصلاة اليومية وصوم رمضان كما يقتضيه استدلال بعضهم فلا ملازمة بينهما عملا ثم إن هذا بالنسبة إلى أمره أما بالنسبة إلى أمر غيره فلا مجال للتوهم ولا للموافقة عملا (قوله: لا بملاكه) إذ ملاك عدم الاجزاء عدم وفاء المأمور به بالغرض المقصود منه وملاك التكرار عدم حصول تمام المأمور به (قوله: وهكذا الفرق) يعني قد يتوهم أن القول بعدم الاجزاء عين القول بتبعية القضاء للاداء، والقول بالاجزاء قول بعدم تبعية القضاء للاداء (قوله: فان البحث حينئذ) يعني أن البحث في تبعية القضاء للاداء بحث في ان الامر بشئ في وقت

١٩٤

قضاء أولا يجزئ فلا علقة بين المسألة والمسئلتين اصلا (إذا) عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (الاول) أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزئ عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بانه لا مجال مع موافقة الامر باتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانيا. نعم لا يبعد ان يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا لا منضما إليه كما اشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم ان مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض وان كان وافيا به لو اكتفى

______________________________

*

هل يدل على لزوم فعله في خارج الوقت على تقدير عدم الاتيان به في الوقت بحيث يرجع إلى الامر به مطلقا لكونه في الوقت أولا يدل ؟ فيكون النزاع في تعيين المأمور به من حيث دلالة الامر، وأين هو من النزاع في المسألة ؟ (قوله: فلا علقة بين) أولا من جهة أن إحداهما متضمنة لتعيين نفس المأمور به والاخرى متضمنة لتعيين مقتضاه (وثانيا) من جهة أن النزاع في إحداهما لفظي وفى الاخرى عقلي " وثالثا " من جهة ان القول بعدم الاجزاء انما في ظرف الاتيان بالمأمور به والقول بالتبعية انما هو في ظرف عدم الاتيان به (قوله: بالامر الاضطراري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: أو الظاهري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: لاستقلال العقل بأنه) قد عرفت أن الامر الحقيقي لابد ان يكون حاكيا عن الارادة وأن الارادة حدوثا وبقاء تتوقف على العلم بالمصلحة المعبر عنها بالداعي تارة وبالغرض أخرى فالماتي به في الخارج إما أن لا يترتب عليه الغرض فلا يكون مامورا به فهو خلف أو يترتب عليه الغرض فبقاء الامر حينئذ إن كان بلا غرض فهو مستحيل كما عرفت وان كان عن غرض آخر غير الغرض الحاصل من الماتي به أولا فيلزمه أن يكون المأمور به فردين في الخارج يترتب على كل منهما غرض خاص فيكون الامر منحلا إلى أمرين يسقط كل منهما بالاتيان بمتعلقه وهو عين الاجزاء المدعى غاية الامر أنه لا يكون فعل أحدهما مسقطا لامر الآخر ومجزئا عنه ولكنه غير محل الكلام إذ الكلام - كما عرفت - في أن فعل المأمور به مجزئ عن الامر به ثانيا (قوله: لا منضما إليه)

١٩٥

به كما إذا اتى بماء امر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ولذا لو اهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه اتيانه ثانيا كما لم يأت به أولا ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما اوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع التبديل كما إذا أمر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله إليه السبيل، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلى فرادى جماعة وان الله تعالى يختار احبهما إليه (الموضع الثاني) وفيه مقامان (المقام الاول) في ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزئ عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت اعادة وفى خارجه قضاء أولا يجزئ ؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه (تارة) في بيان ما يمكن ان يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه (وأخرى) في تعيين ما وقع عليه فاعلم انه يمكن

______________________________

*

قد يمكن أن يكون منضما إليه كما في الافراد الدفعية التى تكون امتثالا واحدا لعدم المرجح. فتأمل (قوله: وجب عليه) يعني بعين وجوبه أولا كما تقدم الكلام فيه (قوله: بدلا عنه) قد عرفت أنه يمكن أن يكون منضما إليه (قوله: فلا يبقى موقع) إذ الثاني مما يعلم بعدم ترتب الاثر عليه (قوله: ما ورد من الروايات) كرواية أبي بصير قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أصلي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت فقال (عليه السلام): صل معهم يختار الله أحبهما إليه، ورواية هشام عنه (عليه السلام): في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال (عليه السلام): يصلي معهم ويجعلها الفريضة انشاء الله، ونحوها رواية حفص، وفي مرسلة الصدوق: يحسب له أفضلهما وأتمهما

١٩٦

ان يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة وكافيا فيما هو المهم والغرض ويمكن ان لا يكون وافيا به كذلك بل يبقى منه شئ امكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى انه ان كان وافيا به فيجزئ فلا يبقى مجال اصلا للتدارك لا قضاء ولا اعادة، وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة الا لمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الاهم فافهم

______________________________

الامر الاضطراري

(قوله: ان يكون التكليف) يعني موضوعه (قوله: كالتكليف الاختياري) يعني كموضوعه (قوله: وما أمكن كان) يعني أن المقدار الباقي من المصلحة الذي يمكن استيفاؤه قسمان فانه تارة يكون واجب التدارك وأخرى يكون مستحب التدارك (أقول): ما لا يمكن استيفاؤه ايضا قسمان تارة يكون محرم التفويت وأخرى لا يكون كذلك فالاقسام خمسة وإنما لم يتعرض للقسمين المذكورين لعدم اختلافهما في الاجزاء وإن كانا يختلفان في جواز البدار وعدمه (قوله: ولا يخفى) شروع في حكم الاقسام من حيث الاجزاء (قوله: اصلا للتدارك) لان التدارك إنما يكون في ظرف الفوت والمفروض عدمه (قوله: ولا يكاد يسوغ) يعني حيث يكون الفائت مما يحرم تفويته أما إذا لم يكن فلا تحريم للبدار كما أن نسبة التحريم إلى البدار لا تخلو من مسامحة إذ المحرم هو تفويت ذلك المقدار والبدار ليس تفويتا ولا مقدمة له وإنما هو ملازم له فلا ينسب إليه التحريم إلا بالعرض والمجاز ولذا لم تفسد العبادة، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فافهم (قوله: إلا لمصلحة) يعني إذا كانت مصلحة في البدار تصلح لمزاحمة المقدار الفائت لم يحرم التفويت الملازم للبدار حينئذ (قوله: لما فيه من)

١٩٧

(لا يقال): عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (فانه يقال): هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو ايجاب الانتظار في الصورة الاولى فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا أو بشرط الانتظار أو مع اليأس عن طرؤ الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض، وان لم يكن وافيا وقد امكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج

______________________________

تعليل لعدم جواز البدار لكن عرفت أن البدار لا تفويت فيه لغرض المولى وإنما هو يلازم التفويت (قوله: فلا مجال لتشريعه) يعني إذا كان البدل الاضطراري غير واف بمصلحة المبدل الاختياري كيف جاز تشريعه ولو في آخر الوقت ؟ لان في تشريعه تفويتا للمصلحة (قوله: هذا كذلك) (أقول): تشريع الاضطراري إنما جاز لاشتماله على المصلحة مع عدم كونه مقدمة للتفويت فالمنع عن تشريعه غير ظاهر الوجه الا ان يكون المراد من تشريعه الامر بفعله في الوقت أو الاذن كذلك الملازمين للاذن في التفويت (قوله: لولا المزاحمة) يعنى انما يكون تفويت التشريع ممنوعا عنه حيث يؤدي إلى تفويت المصلحة مع عدم مزاحمتها بمصلحة أخرى وإلا فلو فرض كون خصوصية الفعل في الوقت مشتملة على مصلحة تزاحم المقدار الفائت لم يكن مانع عن تشريعه كما تقدم مثل ذلك في جواز البدار ثم إنه حيث كان في خصوصية الوقت مصلحة يتدارك بها ما يفوت جاز البدار أول الوقت إذا علم الاضطرار في تمام الوقت ولا موجب للانتظار فتأمل (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما كان الاضطراري فيها وافيا بتمام المصلحة (قوله: الاضطرار مطلقا) وعليه يجوز البدار مطلقا (قوله: أو بشرط الانتظار) وعليه فلا يجوز البدار (قوله: أو مع اليأس) فلا يجوز البدار الا مع اليأس ثم إن هذه الاقسام لا تختص بالصورة الاولى بل تجري في الثانية أيضا إذ قد تكون خصوصية الوقت مطلقا ذات مصلحة تزاحم المقدار الفائت. وقد تكون بشرط الانتظار، وقد تكون بشرط اليأس وقد يكون بغير ذلك فيتبع كلا حكمه (قوله: وان لم يكن وافيا)

١٩٨

الوقت فان كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ فلا بد من ايجاب الاعادة أو القضاء وإلا فاستحبابه ولا مانع عن البدار في الصورتين غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه استحباب البدار واعادته بعد طروء الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين) هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ولا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (وبالجملة):

______________________________

*

معطوف على قوله: إن كان وافيا (قوله: فلا بد من ايجاب) لاجل تدارك الباقي (قوله: والا فاستحبابه) الظاهر أن أصل العبارة: والا فيجزئ، بمعنى عدم وجوب الاعادة والقضاء وان كان يستحب (قوله: ولا مانع عن) إذ لا تفويت فيهما (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما يكون الباقي فيها مما يجب تداركه (قوله: وفى الصورة الثانية) وهي ما كان الباقي فيها مما يستحب تداركه (قوله: استحباب البدار) هذا الاستحباب بنحو الكلية غير ظاهر الوجه إلا أن يستند فيه إلى مثل آيتي المسارعة والاستباق فتأمل (قوله: وأما ما وقع عليه) التعرض لذلك ينبغي أن يكون في الفقه لا هنا إذ ليس لدليله ضابطة كلية فقد يختلف الدليل باختلاف قرينة الحال أو المقال من حيث الدلالة على الوفاء وعدمه وكأن مقصود المصنف (ره) الاشارة إلى ما يكون كالانموذج لادلة البدل الاضطراري (قوله: هو الاجزاء) أما اقصاء ما كان بلسان البدلية مثل: أحد الطهورين، ونحوه فظاهر، فان اطلاق البدلية يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه بلحاظ جميع الآثار والخواص فلا بد من أن يفى بما يفي به المبدل من المصلحة بمرتبتها ويترتب عليه الاجزاء " فان قوله ": هذا الاطلاق

١٩٩

وان كان ثابتا الا انه معارض باطلاق دليل المبدل منه فانه يقتضي تعينه في جميع الاحوال ولازمه وجوب حفظ القدرة عليه الكاشف عن عدم وفاء البدل بمصلحته والا جاز تفويت القدرة عليه، وكما يمكن الجمع بينهما برفع اليد عن اطلاق دليل المبدل فيحمل على تعينه في ظرف القدرة عليه جاز رفع اليد عن اطلاق دليل البدل فيحمل على وفائه ببعض مراتب المصلحة التي يفي بها المبدل واذ لا مرجح يرجع إلى الاصل ويسقط الاطلاق عن المرجعية " قلت ": نسبة دليل البدل إلى دليل المبدل منه نسبة الحاكم إلى المحكوم لانه ناظر إليه موسع لموضوعه فيجب تقديمه عليه وجوب تقديم الحاكم على المحكوم. هذا كله بالنظر إلى طبع الكلام نفسه أما بملاحظة كون البدلية في حال الاضطرار فلا يبعد كون مقتضى الجمع العرفي كون البدل من قبيل الميسور للتام ولاجل ذلك نقول: لا يجوز تعجيز النفس اختيارا لانه تفويت للتام، فتأمل جيدا. وأما ما كان بلسان الامر فقد يشكل اطلاقه المقتضي للاجزاء إذ الامر انما يدل على وفاء موضوعه بمصلحة مصححة للامر به أما أنها عين مصلحة المبدل أو بعضها فلا يدل عليه الامر ولا يصلح لنفي وجوب الاعادة أو القضاء. نعم لو كان المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول الغرض المترتب على الاختياري مع عدم الامر بالاعادة أو القضاء أمكن الحكم بالاجزاء حينئذ اعتمادا على هذا الاطلاق المقامي المقدم على اطلاق دليل المبدل للحكومة، أو كون الامر واردا مورد جعل البدل فيجري فيه ما تقدم، اللهم إلا أن يقال: دليل المبدل ظاهر في التعيين في حال التمكن وعدمه ودليل البدل ظاهر في تعينه في حال عدم التمكن من المبدل وهما متنافيان للعلم بعدم تعينهما معا فيدور الامر (بين) رفع اليد عن ظهور دليل البدل في التعيين ودليل المبدل فيه بالاضافة إلى بعض مراتب المصلحة ولازمه الحكم بتعين المبدل في تحصيل تمام مرتبة الغرض والتخيير بينه وبين البدل في تحصيل بعضها ويترتب عليه عدم الاجزاء (وبين) رفع اليد عن اطلاق دليل المبدل بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه وحيث أن الثاني أقرب يكون هو المتعين ولازم ذلك اشتراط وجوب المبدل بحال التمكن فيترتب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214