ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب27%

ما يحتاجه الشباب مؤلف:
الناشر: ناظرين
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 214

ما يحتاجه الشباب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156177 / تحميل: 8964
الحجم الحجم الحجم
ما يحتاجه الشباب

ما يحتاجه الشباب

مؤلف:
الناشر: ناظرين
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الصدق مَنجاة

ما أكثر الأفراد الذين التزموا الصدق، في المواقع الحرجة، والمآزق الشديدة؛ وكان ذلك سبب خلاصهم.

لا يجهل أحد، مدى الجرائم التي قام بها الحَجَّاج بن يوسف الثقفي، والدماء التي أراقها بغير حَقٍّ.

وفي يوم مِن الأيَّام، جيء بجماعة مِن أصحاب عبد الرحمان مأسورين، وكان قد صمَّم على قتلهم جميعاً، فقام أحدهم واستأذن الأمير في الكلام، ثمَّ قال:

إنَّ لي عليك حَقَّاً! فأنقذني وفاءً لذلك الحَقَّ.

قال الحَجَّاج: وما هو؟

قال: كان عبد الرحمان يسبُّك في بعض الأيَّام، فقمت ودافعت عنك.

قال الحَجَّاج: ألك شهود؟

فقام أحد الأُسارى وأيَّد دعوى الرجل، فأطلقه الحَجَّاج، ثمَّ التفت إلى الشاهد، وقال له: ولماذا لم تُدافع عنِّي في ذلك المجلس؟

أجاب الشاهد - في أتمِّ صراحة ـ: لأنِّي كنت أكرهك.

فقال الحَجَّاج: أطلقوا سراحه لصدقه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج1.

٤١

احِفظ الله يَحفظك

خطب الحَجَّاج مَرَّة فأطال، فقام رجل فقال: الصلاة، فإنَّ الوقت لا ينتظرك، والرَّبَّ لا يعذرك، فأمر بحبسه، فأتاه قومه، وزعموا أنَّه مجنون، وسألوه أنْ يُخلِّي سبيله، فقال: إنْ أقرَّ بالجنون خلَّيت سبيله.

فقيل له، فقال: مَعاذ الله، لا أزعم أنَّ الله ابتلاني، وقد عافاني.

فبلغ ذلك الحَجَّاج فعفا عنه لصدقه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج1.

٤٢

المَنطق السليم

بلغ المنصور الدوانيقي، أنَّ مَبْلغاً ضَخماً مِن أموال بني أُميَّة مُودعة عند رجل، فأمر الربيع بإحضاره.

يقول الربيع: فأحضرت الرجل، وأخذته إلى مجلس المنصور.

فقال له المنصور: بلغني أنَّ أموال بَني أُميَّة مودَعة عندك، ويجب أنْ تُسلِّمني إيَّاها بأجمعها.

فقال الرجل: هل الخليفة وارث الأُمويِّين؟!

فأجاب: كلاَّ.

فقال: هل الخليفة وصيُّ الأُمويِّين؟!

فقال المنصور: كلاَّ.

فقال الرجل: فكيف تُطالبني بأموال بَني أُميَّة؟!

فأطرق المنصور بُرهةً، ثمَّ قال: إنَّ الأُمويِّين ظلموا المسلمين، وانتهكوا حُقوقهم، وغصبوا أموال المسلمين وأودعوها في بيت المال.

فقال الرجل: إنَّ الأُمويِّين امتلكوا أموالاً كثيرة، كانت خاصَّة بهم، وعلى الخليفة أنْ يُقيم شاهداً عدلاً، على أنَّ الأموال التي في يدي لبَني أُميَّة، هي مِن الأموال التي غصبوها وابتزُّوها مِن غير حَقٍّ.

فكَّر المنصور ساعة، ثمَّ قال للربيع: إنَّ الرجل يصدق.

فابتسم بوجهه، وقال له: ألك حاجة؟!

قال الرجل: لي حاجتان:

٤٣

الأُولى: أنْ تأمر بإيصال هذه الرسالة إلى أهلي بأسرع وقت؛ حتَّى يهدأ اضطرابهم، ويذهب رَوعهم.

والثانية: أنْ تأمر بإحضار مَن أبلغك بهذا الخبر؛ فو الله، لا توجد عندي لبَني أُميَّة وديعة أصلاً، وعندما أُحضرت بين يدي الخليفة، وعلمت بالأمر، تصوَّرت أنِّي لو تكلَّمت بهذه الصورة كان خلاصي أسهل.

فأمر المنصور الربيع بإحضار المُخبِر.

وعندما حضر نظر إليه الرجل نظرة، ثمَّ قال: إنَّه عبدي سَرَق مِنِّي ثلاثة آلاف دينار وهرب.

فأغلظ المنصور في الحديث مع الغلام، وأيَّد الغلام كلام سيِّده في أتمِّ الخَجَل، وقال: إنِّي اختلقت هذه التُّهمة لأنجو مِن القَبض عليَّ.

هنا رَقَّ قلب المنصور لحال العبد، وطلب مِن سيِّده أنْ يعفو عنه، فقال الرجل: عفوت عنه، وسأُعطيه ثلاثة آلاف أُخرى، فتعجَّب المنصور مِن كرامة الرجل وعظمته.

وكلَّما ذُكِر اسمه كان يقول: لم أرَ مثل هذا الرجل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٤

النبي أولى بالمسلمين مِن أنفسهم

وزَّع رسول الله غنائم حُنين - تبعاً لمصالح مُعيَّنة - على المُهاجرين فقط، ولم يُعط الأنصار سَهماً واحداً...

ولمَّا كان الأنصار قد بذلوا جهوداً عظيمة، في رُفعة لواء الإسلام، وخدمات جليلة في نُصرة هذا الدين؛ فقد غَضب بعضهم مِن هذا التصرُّف، وحملوه على التحقير والإهانة، فبلغ الخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمر بأنْ يُجمع الأنصار في مكان ما، وأن لا يشترك معهم غيرهم في ذلك المجلس، ثمَّ حضر هو وعلي (عليهما السلام)، وجلسا في وسط الأنصار، ثمَّ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: (أُريد أنْ أسألكم عن بعض الأمور فأجيبوني عليها).

قال الأنصار: سَلْ، يا رسول الله.

قال لهم: (ألم تكونوا في ضَلال مُبين، وهداكم الله بيَّ؟).

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: (ألم تكونوا على شَفا حُفرة مِن الهلاك والنار، والله أنقذكم بيَّ؟).

قالوا: بلى.

قال: (ألم يكن بعضكم عدوَّ بعض، فألَّف الله بين قلوبكم على يديَّ؟).

قالوا: بلى.

فسكت لحظة، ثمَّ قال لهم: (لماذا لا تُجيبونني بأعمالكم؟).

قالوا: ما نقول؟!

قال: (أما لو شِئتم لقُلتم: وأنت قد جئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا خائفاً فآمنَّاك، وجئتنا مُكَذَّباً فصدَّقناك...).

هذه الكلمات الصادرة عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أفهمت الأنصار

٤٥

أنه لا يُنكَر فضلهم، ولا يُنسى جهودهم، ولم يكن ما صدر منه تِجاههم صادراً عن احتقار أو إهانة...

ولذلك فقد أثَّر فيهم هذا الكلام تأثيراً بالغاً، وارتفعت أصواتهم بالبُكاء، ثمَّ قالوا له: هذه أموالنا بين يديك، فإنَّ شِئت فاقسمها على قومك، وبهذا أظهروا ندمهم على غضبهم واستغفروه.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (اللَّهمَّ اغفر للأنصار، ولأبنا الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار) (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٦

الكريم يَسأل عن الكريم

في إحدى الغزوات، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُصلِّي في مُعسكره، فمَرَّ بالمُعسكر عِدَّة رجال مِن المسلمين، وتوقَّفوا ساعة، وسألوا بعض الصحابة عن حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوا له، ثمَّ اعتذروا مِن عدم تمكُّنهم مِن انتظار النبي حتَّى يفرغ مِن الصلاة فيُسلِّموا عليه؛ لأنَّهم كانوا على عَجلٍ، ومضوا إلى سبيلهم. فانفتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُغضباً، ثم قال لهم: (يقف عليكم الركب ويسألونكم عنِّي، ويُبلِّغوني السلام، ولا تعرضون عليهم الطعام!).

ثمَّ أخذ يتحدَّث عن جعفر الطيار، وعظمة نفسه، وكمال أدبه، واحترامه للآخرين... (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٧

مَن كانت أفعاله كريمة اتَّبعه الناس

ليست فضيلة احترام الناس، وتكريمهم في الشريعة الإسلاميَّة الغرَّاء، خاصَّة بالمسلمين فيما بينهم فقط، فإنَّ غير المسلمين أيضاً، كانوا ينالون هذا الاحترام والتكريم مِن المسلمين، فقد تصاحب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مع رجل ذِمِّيٍّ خارج الكوفة، في أيَّام حكومته، وكان الذِمِّيُّ لا يعرف الإمام، فقال له: أين تُريد يا عبد الله؟

قال الإمام علي (عليه السلام): (أُريد الكوفة).

ولمَّا وصلا إلى مُفترق الطُّرق المؤدِّية إلى الكوفة، توجَّه الذِّمِّيِّ إلى الطريق الذي يُريده، وانفصل عن الإمام (عليه السلام)... ولكنَّه لم يَخطُ أكثر مِن بِضع خُطوات، حتَّى شاهد أمراً عَدَّه غريباً؛ فقد رأى أنَّ صاحبه الذي كان قاصداً الكوفة، ترك طريقه وشايعه قليلاً. فسأله ألست تقصد الكوفة؟

قال الإمام: (بلى؟).

قال الذِّمِّيُّ: (ذلك هو الطريق المؤدِّي إلى الكوفة).

قال الإمام: (أعلم ذلك).

سأل الذِّمِّيُّ باستغراب: ولماذا تركت طريقك؟

قال الإمام (عليه السلام): (هذا مِن تمام حُسن الصُّحبة، أنْ يُشيِّع الرجل صاحبه هُنيَّهة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبيِّنا).

قال الذِّمِّيُّ: هكذا أمر نبيُّكم؟!

قال الإمام: (أجلْ).

٤٨

قال الذِّمِّيُّ: لا جَرَمَ، أنَّما تبعه مَن تبعه لأفعاله الكريمة.

ثمَّ ترك طريقه الذي كان يقصده، وتوجَّه مع الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة، وهما يتحدَّثان عن الإسلام وتعاليمه العظيمة، فأسلم الرجل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٤٩

انزل عن مِنبر أبي!

زيد بن علي، عن أبيه: (إنَّ الحسين بن علي (عليهما السلام) أتى عمر بن الخطاب، وهو على المنبر يوم الجمعة، فقال: انزل عن مِنبر أبي، فبكى عمر، ثم قال: صدقت - يا بُني - مِنبر أبيك لا منبر أبي. وقام عليٌّ (عليه السلام).

وقال: ما هو - والله - عن رأيي.

قال: صدقت! والله، ما اتَّهمتك يا أبا الحسن).

هذا دليل على أنَّ عمر أيضاً، كان يعرف أنَّ الحسين ذو شخصيَّة مُمتازة، وله إرادة مُستقلَّة، وليس كلامه صادراً عن تلقين مِن أبيه، بل هو نِتاج فِكره (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٠

يَفرُّ مَن أخطأ!

قصد المأمون بغداد بعد وفاة الإمام الرضا (عليه السلام)، وخرج يوماً للصيد، فمَرَّ في أثناء الطريق برَهط مِن الأطفال يلعبون، ومحمد بن علي الجواد (عليه السلام) معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حوله... فلمَّا رآه الأطفال فرُّوا، بينما وقف الجواد (عليه السلام) في مكانه ولم يَفرَّ. مِمَّا أثار تَعجُّب المأمون؛ فسأله:

لماذا لم تلحق بالأطفال حين فرُّوا؟

ـ يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضِيقٌ لأوسِّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظنِّي بك حَسنٌ أنَّك لا تضرب مَن لا ذنب له فوقفت.

تعجَّب المأمون مِن هذه الكلمات الحكيمة، والمنطق الموزون، والنبرات المُتَّزنة للطفل فسأله: ما اسمك؟

ـ محمد.

ـ محمد ابن مَن؟

ابن عليٍّ الرضا...

عند ذاك ترحَّم المأمون على الرضا (عليه السلام)، ثمَّ ذهب لشأنه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥١

رِفقاً بالحسين!

روي عن أُمِّ الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، مُرضعة الحسين (عليه السلام) أنَّها قالت: أخذ مِنِّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسيناً أيَّام رضاعه، فحمله فأراق شيئاً على ثوبه، فأخذتُه بعنف حتَّى بكى. فقال (صلى الله عليه وآله): (مَهلاً يا أُمَّ الفضل، إنَّ هذا مِمَّا يُطهِّره الماء، فأيُّ شيء يُزيل هذا الغبار عن قلب الحسين؟!) (1).

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٢

كرهت أنْ أُعجِّله!

دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى صلاة، والحسن مُتعلِّق، فوضعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جانبه وصلَّى، فلمَّا سجد أطال السجود، فرفعت رأسي مِن بين القوم، فإذا الحسن على كتف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمَّا سلَّم قال له القوم: يا رسول الله، لقد سَجدت في صلاتك هذه سَجدةً ما كنت تسجدها! كأنَّما يوحى إليك؟!

فقال: (لم يوحَ إليَّ، ولكنَّ ابني كان على كتفي، فكرهت أنْ أُعجِّله حتَّى نزل).

هذا العمل مِن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاه ولده الصغير، أمام ملأٍ مِن الناس، نموذج بارز مِن سلوكه في تكريم الطفل.

إنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عمل أقصى ما يُمكن مِن احترام الطفل، في إطالته سجدته، وأرشد الناس ضمناً إلى كيفيَّة بناء الشخصيَّة عند الطفل (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٣

تكريم الطفل

عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنَّه قال: (صلَّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالناس الظهر، فخفَّف في الرَّكعتين الأخيرتين.

فلمَّا انصرف قال له الناس: هل حدث في الصلاة شيء؟!

قال: وما ذاك؟

قالوا: خفَّفت في الرَّكعتين الأخيرتين.

فقال لهم: أما سمعتم صُراخ الصبي؟!).

هكذا نجد النبي العظيم، يُطيل في سجدته تكريماً للطفل تارة، ويُخفِّف في صلاته تكريماً للطفل أيضاً تارة أُخرى، وهو في كلتا الحالتين، يُريد التأكيد في احترام شخصيَّة الصبي، وتعليم المسلمين طريق ذلك (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٤

هلاَّ ساويتَ بينهما؟!

نظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى رجل له ابنان، فقبَّل أحدهما وترك الآخر.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (فهلاَّ ساويت بينهما!).

وفي حديث آخر: (اعدلوا بين أولادكم، كما تُحبُّون أنْ يعدلوا بينكم).

إنَّ الأمل الوحيد للطفل، ومبعث فرحه ونشاطه، هو عطف الوالدين وحنانهما، ولا يوجد عامل يُهدِّئ خاطر الطفل، ويبعث فيه الاطمئنان والسكينة، مِثل عَطف الوالدين، كما لا يوجد عامل يبعث فيه القَلق والاضطراب، مِثل فُقدان جزء مِن حَنان الوالدين أو جميعه.

إنَّ حسد الولد تِجاه أخيه الصغير، الذي وِلد حديثاً لا غرابة فيه؛ لأنَّه يشعر بأنَّ قِسماً مِن العناية، التي كانت مُخصَّصة له، قد سُلِبت منه، والآن لا يُستأثر باهتمام الوالدين. بلْ إنَّ الحُبَّ والحنان يجب أنْ يتوزَّع عليه وعلى أخيه الأصغر (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٥

التصابي مع الصبي

عن يعلى العامري: أنَّه خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طعام دُعي إليه، فإذا هو بحسين (عليه السلام) يلعب مع الصبيان، فاستقبل النبي (صلى الله عليه وآله) أمام القوم، ثمَّ بسط يديه، فطفر الصبي ههنا مَرَّة وههنا مَرَّة أُخرى، وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُضاحكه حتَّى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذِقنه، والأُخرى تحت قَفاه، ووضع فاه على فيه وقبَّله.

إنَّ نبيَّ الإسلام العظيم، يُعامل سِبطه بهذه المُعاملة أمام الناس؛ لكي يُرشد الناس إلى ضرورة إدخال السرور على قلوب الأطفال، وأهميَّة اللعب معهم، فضلاً عن قيامه بواجب تربوي عظيم (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٦

أو ما ترضى أنْ تحمل بدناً حمله الرسول؟!

عن أبي رافع، قال: كنت أُلاعب الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) وهو صبيٌّ بالمَداحي، فإذا أصابت مِدحاتي مِدحاته؛ قلت احملني فيقول: (ويحَك! أتركب ظهراً حمله رسول الله؟!)، فأتركه.

فإذا أصابت مُدحاته مُدحاتي قلت: لا أحملك كما لا تحملني!

فيقول: (أوَ ما ترضى أنْ تحمل بدناً حمله رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!)، فأحمله.

مِن هذا الحديث يظهر جليَّاً إباء الحسن (عليه السلام)، وعِزَّة نفسه، وعُظم شخصيَّته.

إنَّ الطفل الذي يُربيه الإسلام في حِجره، ويُحيي شخصيَّته النفسيَّة، يعتقد بسموِّ مقامه، ولا يرضى التكلُّم بذلَّة وحقارة (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٧

وا حيائي مِنك يا أمير المؤمنين!

رأى الإمام علي (عليه السلام) امرأة في بعض الطُّرقات، تحمل قِربة مِن الماء، فتقدَّم لمُساعدتها، وأخذ القِربة وأوصلها إلى حيث تُريد، وفي الطريق سألها عن حالها، فقالت: إنَّ عليَّاً أرسل زوجي إلى إحدى النواحي فقُتِل، وقد خلَّف لي عِدَّة أطفال، لا أقدر على إعالتهم؛ فاضطررت للخدمة في بعض البيوت. فرجع عليٌّ (عليه السلام) وأمضى تلك الليلة في مُنتهى الانكسار والاضطراب، وعند الصباح حمل جِراباً مَملوءاً بالطعام، واتَّجه إلى دار تلك المرأة. وفي الطريق كان بعض الأشخاص يطلبون منه أنْ يَحمل عنه الجراب فيقول لهم: (مَن يحمل عني أوزاري يوم القيامة؟).

وصل إلى الدار، وطرق الباب، فقالت المرأة: مَن الطارق؟

قال: (الرجل الذي أعانك في الأمس على حمل القِربة. لقد جئتك ببعض الطعام لأطفالك).

فتحت الباب وقالت: رضي الله عنك، وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب!

فقال لها: (أتخبزين أم تُسكِّتين الأطفال فأخبز؟).

قالت: أنا أقدر على الخبز، فقُم أنت بتسكيت الأطفال.

أخذتْ المرأة تعجن الدقيق، وأخذ عليٌّ (عليه السلام) يخلط اللَّحم بالتمر، ويُطعم الأطفال منه، وكلَّما ألقم طفلاً لقمة قال له برفق ولين: (يا بُني، اجعل علي بن أبي طالب في حِلٍّ).

ولمَّا اختمر العجين، أوقد عليٌّ (عليه السلام) التنور، وفي الأثناء دخلت امرأة تعرفه، وما أنْ رأته حتَّى صاحت بصاحبة الدار ويحَك! هذا أمير المؤمنين!

فبادرته المرأة، وهي تقول: وا حيائي منك يا أمير المؤمنين!

فقال: بلْ وا حيائي منكِ - يا أمة الله - فيما قصَّرت مِن أمرك (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٨

لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصِّبيان

ورد في الحديث: أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يُصلِّي يوماً في فِئة، والحسين صغير بالقُرب منه، فكان النبي إذا سجد جاء الحسين (عليه السلام) فركب ظهره، ثمَّ حرَّك رجليه فقال: (حَلٍ، حَلٍ!).

فإذا أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنْ يرفع رأسه، أخذه فوضعه إلى جانبه، فإذا سجد عاد إلى ظهره، وقال: (حَلٍ، حَلٍ!)، فلم يزل يفعل ذلك حتَّى فرغ النبي مِن صلاته.

فقال يهودي: يا محمد، إنَّكم لتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أما لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصبيان).

قال: فإنِّي أؤمن بالله وبرسوله؛ فأسلم لمَّا رأى كرمه مع عظيم قدره (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٥٩

أين الدُّرُّ والذهب مِن سورة الفاتحة؟

كان عبد الرحمان السلمي، يُعلِّم وَلداً للإمام الحسين (عليه السلام) سورة الحمد، فعندما قرأ الطفل السورة كاملة أمام والده مَلأ الإمام فمَ مُعلِّمه دُّرَّاً، بعد أنْ أعطاه نقوداً وهدايا أُخَر. فقيل له في ذلك!

فقال (عليه السلام): (وأين يقع هذا مِن عطائه)، يعني: تعليمه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وعليه: يتعيَّن على الأولياء والمعلّمين، وكذلك الشباب واليافعين فيما لو كانوا قد ابتلوا - لا قدَّر الله - بهذا المرض، أن يسعوا إلى معالجته قبل فوات الأوان؛ فإنّه إذا تجذّر المرض فسيكون الأمر كما قال القائل:( مَن لم يؤدّبهُ الأبوان أدّبهُ الزمان، ومَن لم يؤدّبه الزمان أدّبه سهمٌ مسموم ) .

٨١

(١١)

الانحرافاتُ الجنسية والسقوط الأخلاقي

هل من الضروري في ظلّ الظروف الاجتماعية الراهنة أن نبحث في( الانحرافات الجنسية ) ؟

هناك سببان لضرورة بيان المسائل المتعلّقة بناحية الشهوة الجنسية لدى كلّ من الذكر والأنثى:

١ - تتجلّى ضرورة ذلك من الأسئلة والرسائل وتقارير الصُحف والمراكز الاستشارية والتقارير الأخرى.

٢ - من الضروري بيان المسائل المتعلّقة بـ( سنّ تكليف الشباب )، وتبيين الفرق بين ( الحلال والحرام )، والالتفات إلى العواقب السيئة للانحراف الجنسي لطبقة الشباب الكبيرة في الظروف الراهنة وعصر الاتصالات، فلابدّ من رفع مستوى الوعي لدى الشباب والأولياء والمعلّمين بشكلٍ جادّ.

والمراد من( الانحرافات الجنسية ) : هو الاستفادة غير الطبيعية من ( المشاعر ) و( السلوكيات )، التي تَعتبرها الأديان الإلهية، والقوانين العقلائية، والفطرة الطاهرة لدى الناس، ذنباً ومعصية، ولها من الناحية العلمية آثار جسميّة ونفسية سيّئة، ولها من الناحية الدينية تَبَعات حقوقية وجزائية، وأهمّ تلك الانحرافات ما يلي:

٨٢

١ - النظرُ الحرام

إنّ النظر إلى المحرّم هو نوع من إطفاء الشهوة الجنسية عن طريق ( الحاسّة الباصرة )، يؤدّي إلى اضطراب القلب وتدنيسه، وهو في حدّ ذاته معصية وانحراف، وقد يؤدّي أحياناً إلى انحرافات هدّامة أكبر.

ومن هنا قال بعض الكبار، الذين سعوا في طريق السلوك المعنوي للوصول إلى مستقبلٍ ناصع في هذا المجال، بُغية تنبيه الجميع إلى مخاطر انحراف الباصرة :( الويلُ من أمر العين والقلب، إذ كلّ ما تراه العين احتفظَ به القلب، فلا محيص من أن أشحذ خنجراً فولاذياً لأفقأ به عيني حتّى يتحرّر قلبي ) (١) .

وقال الإمام علي ( عليه السلام ):( إذا أبصَرَت العين الشهوة، عَميَ القلب عن العاقبة ) (٢) .

وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( النظرةُ سهمٌ من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرةٍ أورثت حسرة طويلة ) (٣) .

استقبلَ شابٌ من الأنصار امرأة بالمدينة، وكان النساء يتقنَّعن خلف آذانهن، فنظرَ إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها، ودخلَ في زقاق قد سمّاه ببني فلان فجعل ينظر خلفها، واعترضَ وجههُ عظم في الحائط، أو زجاجة فشقّ وجهه، فلمّا مَضت المرأة، نظرَ فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره فقال: والله، لآتينّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ولأخبرنّهُ، فلمّا رآهُ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قال:( ما هذا؟ ) فأخبرهُ، فنزلَ جبرئيل ( عليه السلام ) بهذه الآية:( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) (٤) .

____________________

(١) دو ربيتي بابا طاهر العريان: ص٨.

(٢) غُرر الحِكم: ص٣٠٥.

(٣) وسائل الشيعة: ٢٠ / ١٩١ ( مؤسّسة آل البيت، قم ).

(٤) سورة النور: الآية ٣، وسائل الشيعة: ٢٠ / ١٩٢.

٨٣

  وعلى أيّ حال، فإنّ النظرَ إلى المحارم انحرافٌ جنسي يؤدّي إلى الافتتان والفساد، وقد عدَّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ذنباً ونوعاً من الزنا، وقال في بيان عقوبته الأخروية:( مَن مَلأ عينيه من حرام، مَلأ الله عينيه يوم القيامة من النار، إلاّ أن يتوب ويرجع ) (١) .

٢ - العادةُ السرّية

وهي المعبَّر عنها في الكتب الفقهية والرسائل العملية لعلماء الدين بـ( الاستمناء ) ، ويَعدّها الأطبّاء وعلماء الأحياء في جملة الانحرافات الجنسية، كما يراها الإسلام معصية وانحرافاً أخلاقياً.

والعادة السرّية: عبارة عن أن يتصوّر الإنسان أشياء تُثير شهوتهُ الجنسية، أو يقوم بعمل يؤدّي إلى خروج المَني منه، وبذلك يُطفئ لهيب شهوته ويُشبع غريزته الجنسية.

وطبقاً للروايات المروّية عن الإمام الصادق ( عليه السلام )، فقد عدّ الاستمناء عملاً قبيحاً ومعصية كبيرة، فقد سُئل عن الخضخضة؟ فقال:( إثمٌ عظيم، قد نهى الله عنه في كتابه وفاعله كناكح نفسه، ولو عَلمتَ بما يفعلهُ ما أكلتَ معهُ ، فقال السائل: فبيّن لي يابن رسول الله من كتاب الله فيه؟ فقال:قول الله: ( فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ ) وهو ممّا وراء ذلك ) (٢) .

كما قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في بيان مجازاة مَن يرتكب هذا النوع من الانحراف الجنسي:( إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أُتيَ برجل عَبث بذكره، فضربَ يدهُ حتّى احمرّت، ثمّ زوّجه من بيت المال ) (٣) .

ومن جهةٍ أخرى، فقد ذهبَ جميع المجتهدين إلى أنّ ( الاستمناء ) من الأمور المبطلة للصوم(٤) .

____________________

(١) وسائل الشيعة: ٢٠ / ١٩٦، بحار الأنوار: ١٠١ / ٣٢.

(٢) سورة المؤمنون: الآية ٧، وسائل الشيعة: ٢٨ / ٣٦٤، الحديث ٣٤٩٧٨.

(٣) وسائل الشيعة: ٢٨ / ٣٦٣، ٢٠ / ٣٥٢، مؤسّسة آل البيت ( عليهم السلام ).

(٤) تحرير الوسيلة: ١ / ٢٦٦، توضيح المسائل: ص٢١١.

٨٤

ومع الالتفات إلى أنّ الاستمناء عملية غير طبيعية، وإشباع ناقص للشهوة وكونهُ انحرافاً جنسياً، فقد ذكر الأطبّاء وعلماء النفس لهُ أضراراً جسدية ونفسية متعدّدة، أهمّها ما يأتي:الاضطراب والشعور بالضعة بعد إتمام العملية، إرهاق الجهاز التناسلي والأعصاب، إضعاف الإرادة، الكسل، شدّة الحياء، الأنانية، حدّة المزاج، التكبّر، الاكتئاب، سوء الظنّ (١) .

وقد ذكرَ الدكتورهوجين : ( إنّ أوّل ما يترتّب على هذه العادة الشنيعة هو: زوال قوّة العين وشفافيّتها، وذهاب اللون الطبيعي للبشرة وذُبولها، وقلّة الذكاء، وظهور حالة من الانقباض عليهم، وتعلو أجفانهم زرقة خفيفة، وضُعف الذاكرة، وقلّة الشهوة إلى الطعام، وعُسر الهضم، واختلال التنفّس، وحدّة الأخلاق والمزاج، والحسد، والحُزن والاكتئاب، وحُبّ العزلة والوحدة، وفقر الدم، وآلام الظهر، والصداع، وصفير الإذن، والضُعف والنحول، ورعشة اليد، وانعدام مناعة الجسم، وكلّها من الآثار السيئة للابتلاء بهذا الانحراف الجنسي )(٢) .

للوقاية من هذا المرض ولعلاجه أحياناً، لابّد في الدرجة الأولى من الإقبال على الأطعمة التي تعمل على تقوية الأعصاب والإرادة، اجتناب الاعتزال والنظر إلى المشاهد التي تثير الشهوة، وعدم ارتداء الثياب الضيّقة، وسائر الموارد المثيرة، والتمتّع بإرادة راسخة(٣) ، واللجوء إلى الزواج والاتصال الطبيعي والمشروع؛ فإنّ ذلك خير علاج للشباب، ولابدّ أيضاً من الرجوع إلى الطبيب للحيلولة دون المخاطر الأليمة لذلك.

____________________

(١) مُشكلات جنسي جوانان: ص١٤٠.

(٢) مسائل واختلالات جنسي: الدكتور مير أحمد هاشمي فرد، ص٦٣.

(٣) مسائل واختلالات جنسي: د. مير أحمد هاشمي فرد.

٨٥

٣ - اشتهاءُ المماثل

إنّ ممارسة الجنس مع المماثل من جملة الانحرافات الجنسية والأخلاقية المشؤومة والمُهلكة.

وإنّ هذه العملية القبيحة عريقة في القِدَم، وقد أوعزها القرآن الكريم إلى( قوم لوط ) في ثلاثة مواطن من القرآن الكريم، وقد صوّر القرآن كيف أنّ لوطاً ( عليه السلام ) شنّع هذه العملية، واصفاً مَن يمارسها بالجهل والانحراف(١) .

وهذه العملية التي تسمّى بالانجليزية ( Homosexuality ) أن حَصلت بين الإناث سميّت في الأحاديث والفقه الإسلامي بـ( المُساحقة ) ، وسواءٌ حَصلت هذه العملية بين الذكور أم الإناث، فهي عملية قبيحة ومنحرفة ومعصية كبيرة توجب انقطاع النسل، وانعدام السعادة، والآثار الجنسية السيئة، وتُخلّف تشويهات جسدية ونفسية، وتُتخذ بحقّ مَن يمارسها أشدّ العقوبات الجزائية(٢) .

ولكن للأسف الشديد، فإنّنا نشاهد في العالَم الغربي المعاصر بعض الجهات المنحرفة والمريضة والمتحلّلة، تدعو إلى إشاعة هذا الانحراف الأخلاقي وإعطائه صبغة قانونية(٣) ، بذريعة الحرّية والحدّ من النسل، وطبعاً أنّ هذه السلوكية مُخالفة للوجدان والشرف الإنساني، وقد ذَهبت جميع الأديان إلى تقبيحها والمنع منها، بل رَدعت عنها حتّى المذاهب غير الإلهية، فقد عُرض فيلم في الهند تحت عنوان( النار ) ، وقد صوّر هذه العملية بين امرأتين، فَشجَبهُ الهندوس وأوقفوا عرض الفيلم بمهاجمة السينما(٤) .

ومضافاً إلى عشرات الآثار السيئة المترتّبة على هذه العملية السيّئة، فإنّ مرض( الايدز ) الخطير من جملة الأمراض المترتّبة عليها، كما يترتّب عليها أثران وضعيان وحقوقيان آخران في الحياة الاجتماعية والأُسرية، كما ذَكرت الروايات الإسلامية:

____________________

(١) راجع سورة الأعراف: الآية ٨١، سورة النمل: الآية ٥٥، سورة العنكبوت: الآية ٢٩.

(٢) تحرير الوسيلة: ج٢، ص٦٠٠.

(٣) صحيفة كيهان: العدد ١٤٦٤٨، ص٧.

(٤) راديو (B.B.C).

٨٦

١ - فقد ورد في الحديث عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال:( مَن ألحّ في وطئ الرجال، لم يمت حتّى يدعو الرجال إلى نفسه ) (١) .

٢ - وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في رجلٍ عَبث بغلام:( إذا أوقبَ حرُمت عليه ابنتهُ وأخته ) (٢) .

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الفاجعة الأخلاقية( اشتهاء المماثل ) - والتي نَعدّها انحرافاً وانحطاطاً وسقوطاً للقيَم الأخلاقية - أدّت بالمجتمع الغربي إلى أن يعدَّها فضيلة، حتّى خَرجت مجموعة من هؤلاء المنحرفين في ألمانيا برفقة مليون شاب ألماني وغير ألماني، في مسيرة تمثّل عدم التزامهم بالقيَم الأخلاقية(٣) !

ولكن في قبال هذه الكارثة الأخلاقية التي تؤدّي إلى تحطيم الأُسرة، وبمناسبة بحث قضية ( زواج المتماثلين ) في المجلس الفرنسي، فقد نظّمت المنظّمات الدينية المسيحية والإسلامية واليهوديّة - التي قدّرها الشرطة بحوالي ٧٢٠٠ شخص فقط، في حين قدَّر المنظّمون عدد الجماهير التي شاركت من مختلف مُدن فرنسا بين ٦٠ إلى ١٣٠ ألف شخص - تظاهرات تُندّد بهذه العملية، وتدعو إلى حفظ القيَم الأسرية وعدم المصادقة على هذا القانون الذي ينافي القيَم الأخلاقية(٤) .

وطبقاً لأحاديثنا الدينية، فإنّ هذا النوع من الانحرافات والفجائع الأخلاقية في المجتمع سَيَعقبهُ غضبُ الله، فقد وردَ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال:( لمّا عَمل قوم لوط ما عَملوا، شَكَت السماء والأرض إلى الله عزّ وجل، فأوحى الله إلى السماء أن احصبيهم، وإلى الأرض أن اخسُفي بهم ) (٥) .

وإنّنا نشاهد حالياً هذه العقوبات تَتّخذ صورة الفيضانات والأعاصير والزلازل الفتّاكة، في المجتمعات التي تسودها هذه الانحرافات.

____________________

(١) الفصول المهمّة: الحرّ العاملي ٣ / ٣٩٩، الكافي: ٥ / ٥٤٦.

(٢) وسائل الشيعة: ١٤ / ٣٣٩ ( دار إحياء التراث العربي ).

(٣) صحيفة كيهان: العدد ١٦٢٩٤، ص٧.

(٤) صحيفة جمهوري إسلامي: العدد ٥٦٣٠، ص١٦.

(٥) دعائم الإسلام: ٢ / ٤٥٥.

٨٧

٤ - الأعمالُ المنافية للعفّة

إنّ العمل المنافي للعفّة، أو الاتصال غير المشروع الوارد في القرآن الكريم والروايات تحت عنوان ( الزنا )، معصية كبيرة وانحراف جنسي خطير، مَنعتهُ جميع الأديان السماوية والقوانين البشرية العقلائية المنبثقة عن الوجدان الطاهر.

وفي مجتمعنا لا يخفى على أحد قُبح هذه العملية والأضرار المترتّبة عليها، ومن خلال الالتفات إلى الملفّات الجنائية الموجودة في الصُحف، فإنّ الأمور الآتية جديرة بالملاحظة:

١ - إنّ القرآن الكريم يرى أنّ هذه العملية من القُبح والخطورة حتّى وردَ فيه:( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ) (١) .

٢ - وقد جَعل نبيّ الإسلام ( صلّى الله عليه وآله ) الزنا، مساوياً لقتل النبيّ، والإمام، وتخريب الكعبة(٢) .

٣ - وقال الإمام علي ( عليه السلام ):( ما زَنى غيورٌ قطّ ) (٣) .

٤ - وفي بيان سبب تحريم هذه العملية من وجهة نظر الإسلام، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( لمَا فيه من: الفساد، وذهاب المواريث، وانقطاع الأنساب، لا تعلم المرأة في الزنا مَن أحبلها، ولا المولود يَعلم مَن أبوه، ولا أرحام موصولة، ولا قرابة معروفة ) (٤) .

____________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٣٢.

(٢) بحار الأنوار: ٧٦ / ٢٠.

(٣) نهج البلاغة: صبحي الصالح، ص٥٢٩، الحديث ٣٠٥، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٩ / ٢٠٩.

(٤) الاحتجاج للطبرسي: ٢ / ٩٣، بحار الأنوار: ١٠٠ / ٣٦٨.

٨٨

وقال الإمام الرضا ( عليه السلام ):( حرَّم الزنا لمَا فيه من الفساد من: قَتل الأنفُس، وذهاب الأنساب، وترك التربية للأطفال، وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد ) (١) .

ردودُ الفعل والعقوبات الإلهية

إنّ الآثار والأعراض الفظيعة والمُهلكة الناجمة عن هذه العملية المنافية للعفّة وغير المشروعة كعقوبة إلهية هي كالآتي:

١ - قال الإمام علي ( عليه السلام ):( إيّاكم والزنا؛ فإنّ فيه ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأمّا اللواتي في الدنيا: فيذهب بالبهاء، ويقطع الرزق الحلال، ويُعجّل الفناء إلى النار ) (٢) .

٢ - وقال أيضاً:( والزنا يورثُ الفقر ) (٣) .

٣ - وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( أربعٌ لا تدخل بيتاً واحدة منهنّ إلاّ خَربَ ولم يعمُر بالبركة: الخيانة، والسرقة، وشرب الخمر، والزنا ) (٤) .

٤ - إنّ العمل المنافي للعفّة والاعتداء الجنسي وما يترتّب من الآثار المتقدّمة على فاعله، يُحتّم الالتفات إلى مسؤولية الجميع في الحدّ من هذا الانحراف، فإذا لم يقم الجميع بما تُمليه مسؤوليتهم، فإنّ العقوبة الإلهية المترتّبة على هذه المعصية ستعمّ الجميع، وتترتّب عليها آثار وضعية سيّئة.

قال الإمام الباقر ( عليه السلام ):( وجدنا في كتابٍ لعلي ( عليه السلام ) عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال : إذا ظهرَ الزنا من بعدي ظهَرَت موتة الفجأة ) (٥) .

وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ):( إذا فشا الزنا ظهرت الزلازل ) (٦) .

____________________

(١) عِلل الشرائع: ٢ / ٤٧٩، بحار الأنوار: ٧٦ / ٢٤، الحديث رقم ١٩.

(٢) عِلل الشرائع: ص٤٨٠، عقاب الأعمال: ص٣١١.

(٣) الخصال للصدوق: ص٢٣٩، بحار الأنوار: ٧٦ / ١٩، الحديث رقم ٤.

(٤) أمالي الصدوق: ص٢٣٩، بحار الأنوار: ٧٦ / ١٩، الحديث ٤.

(٥) بحار الأنوار: ٧٦ / ٢٣.

(٦) المصدر السابق: ص٢١.

٨٩

٥ - وبما أنّ نظام هذا العالَم قائم على قاعدة:أنّ لكل فعل ردّ فعل ، وهو ما أثبتتهُ التجارب أيضاً، فقد وردَ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال:( أوصى الله إلى موسى ( عليه السلام ): لا تزنوا فَتزني نساؤكم، ومَن وَطَئ فراش امرئ مُسلم وطِئ فراشهُ، كما تُدين تُدان ) (١) .

كما يدين المرء يوماً يُدان به

مَن يزرع الشوك لا يحصدهُ ريحاناً

٦ - إنّ عُمق هذه الكارثة الأخلاقية والاعتداء الجنسي عظيم جدّاً، ومُخالف لسير النظام الطبيعي.

يُروى عن الإمام الصادق ( عليه السلام ):( أوصى يعقوب ( عليه السلام ) ابنهُ قائلاً: يا بُني لا تزنِ، لو أنّ الطير زنا لتناثرَ ريشه ) (٢) .

٧ - إنّ إحصائية ( الأمّهات الخليّات )، والفتيات اللاتي تزوّجن بشكلٍ غير قانوني في ٥٣ بلداً في الدول النامية، تُبيّن لنا وضعاً خطيراً ومُخجلاً!

وتحكي نتيجة تحقيق دولي في انجلترا عن ظاهرة ولادات من نساء خليّات، تتراوح أعمارهنّ بين ١٥ إلى ١٩ سنة في: أمريكا، وبولندا، واليابان، وانجلترا، وقد شكّلت أكبر نسبة من ولادة الأطفال غير الشرعيين، حيث بَلَغت ٨٧% من ولادات لأمّهات لم يتزوّجن بشكلٍ شرعي(٣) ، وقد تخبّطت انجلترا بسبب ذلك في وضع أخلاقي فظيع.

وعلى أيّ حال، فإنّ المفاسد الأخلاقية والضغوط الناجمة عن الفراغ المعنوي في العالم الغربي أدّت - كما جاء في تقرير لمجلّة( سكو لاستيك ) الأمريكية - إلى ارتفاع نسبة المسلمين الأمريكان البالغة بين أربعة إلى ستة ملايين نسمة، وإنّ آلاف التلاميذ من الفتيان والفتيات يفضّلون الانتساب إلى المدارس التي تَدرس الإسلام باللغة العربية(٤) .

____________________

(١) المحاسن: ص١٠٧، بحار الأنوار: ٧٦ / ٢٧، الحديث ٣٢.

(٢) المحاسن: ١ / ١٠٦، بحار الأنوار: ٧٦ / ٢٧، الحديث ٣٠.

(٣) صحيفة جمهوري إسلامي: العدد ٥٤٨٤، ص٥.

(٤) الملحق الخاص بصحيفة اطلاعات: ١٥ دي ماه ١٣٧٣، ص١.

٩٠

كما ذكرت جريدة( أنديبند نت ) الانجليزية تحت عنوان( ارتفاع نسبة المنتسبين إلى الإسلام في أوربا ) : ( إنّ الضغوط النفسية الناتجة عن الفراغ والخواء المعنوي في الغرب، واليأس من المسيحية الجوفاء، من الأسباب الرئيسة في لجوء الأوربيين خلال نصف القرن الأخير إلى الإسلام )(١) .

فإذا كانت أحكام الإسلام المبيّنة قد أوجدت مثل هذا التقدّم في العالم الغربي والأوربي، أفلا يجدر بنا أنّ نتمسّك أكثر بالفضيلة والعيش الطاهر الذي نادى به الإسلام؛ كي لا نتخلّف عن هذا الركب العظيم؟!

____________________

(١) صحيفة جمهوري إسلامي: العدد ٥٦٤٠، ص١٦.

٩١

(١٢)

النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) والشباب

إنّ الشباب ثروة عظيمة لا يدركها كافّة الشباب ما دامت في أيديهم، وحينما يفقدونها يكون قد فاتهم الأوان، واستحال الرجوع إلى الوراء!

وقلّما تجد شابّاً يدرك قيمة شبابه ويغتنمها بشكلٍ كامل، وقلّما يندم الكبار على الفُرص التي ضيّعوها في شبابهم!

وهنا تتجلّى أهمية حِكمة الإمام علي ( عليه السلام ) كي لا يغترّ الشباب بمستوى وعيهم، وأن لا يُضيّعوا فرصة الشباب الذهبية، وعلى أولياء الأمور أن يراقبوا بشدّة، وأن يتجاوزوا عن غفلة الشباب وعثراتهم الطفيفة، وأن يغضّوا الطرف عنها.

قال الإمام علي ( عليه السلام ):( جهلُ الشباب معذور، وعلمهُ محقور ).

كما أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) الذي عاشرَ فئات مختلفة من الناس، يلفت أنظار أصحابه إلى مشاعر الشباب الطاهرة وطاقاتهم الكبيرة، وقد أدّى الصدقُ في العمل والتواضع والعيش البسيط، والهدف المعنوي ورسم صورة وضّاءة للإسلام من قِبَل النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، إلى تأثّر طبقة الشباب بهداية النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، فكانوا من خُلّص أصحابه والمؤثّرين في دعوته، ممّا أدّى إلى استياء المشركين من هذا الأمر، وأحسّوا بالقلق على مستقبلهم، وسعوا جاهدين إلى اتّهام الشباب المؤمن الطاهر بالانحراف والفساد الأخلاقي!

٩٢

فقد قال( عتبة بن ربيعة ) أحد قادة الشرك في مكّة لـ( سعد بن زرارة ) ، عندما جاءه من المدينة ليتوسّط في حلّ الخلاف القائم بين قبيلة الخزرج وقبيلة الأوس:( بَعُدت دارنا من داركم، ولنا شغلٌ لا نتفرّغ لشيء، خرجَ فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسدَ شبابنا، وفرّق جماعتنا ) (١) .

كما أنّ جماعة أخرى من قادة الكفر والنفاق، أحسّت بالخوف الشديد من التفاف الشباب حول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وإطاعتهم له، فذهبت إلى أبي طالب عمّ النبي والمُستميت في الدفاع عنه، فشكوهُ قائلين:( يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك محمّداً خالفَ قومه، وسفّه أحلامهم، وعابَ آلهتهم وسبّها، وأفسدَ الشباب من رجالهم، وفرّق جماعتهم ) (٢) .

أجل، فبمقدار ما كان إيمان واعتقاد وتواجد الشباب في صفوف المجتمع، والتديّن ضرورياً ومصيرياً لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، وكان يسعى إلى المحافظة عليه، كان الأعداء والمشركون يصرّحون بتذمّرهم منه، وبذلوا جميع ما بوسعهم لإبطال هذا الدور الفاعل الذي يقوم به الشباب المؤمن، وإبعادهم عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) والمجتمع.

وقد ذَكرت كُتب التاريخ: أنّ المشركين لم يكفّوا عن إيذاء المسلمين، حتّى بعد أن هاجر ٨٣ رجلاً و١٨ امرأة سوى الأطفال إلى الحبشة، وتركوا أوطانهم بأمر النبي بُغية الخلاص ومن وطأة الكفّار وعذابهم، ومع ذلك لم يقرّ للمشركين قرار، فأرسلوا رجلين جِلفين هما:عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى النجاشي ( مَلك الحبشة ) بُغية تشويه صورة المهاجرين، فقال ( عمرو بن العاص ) للنجاشي:( خالَفوا ديننا، وسبّوا آلهتنا، وأفسدوا شبابنا، وفرّقوا جماعتنا ) (٣) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ١٩ / ٨ - ١٠.

(٢) بحار الأنوار: ٩٠ / ٨٠.

(٣) بحار الأنوار: ١٨ / ٤١٥.

٩٣

وعى أيّ حال، فهناك قصص كثيرة بشأن سعة أخلاق الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، وتمكّنه من استقطاب الشباب وتنمية طاقاتهم وشخصياتهم، والاستفادة منها في مختلف مجالات الحياة السياسية والثقافية والعسكرية والاجتماعية، وإليك نماذج منها:

١ - زيد بن حارثة

زيد بن حارثة: من كبار صحابة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وخُلَّص أنصاره، لم يفارق النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في جميع أسفاره، وقد جَعل من جسده وقاءً للرسول ( صلّى الله عليه وآله ) في سفره إلى الطائف، حيث تعرّض الرسول إلى هجوم شباب المشركين الذين رموهُ بالحجارة، فأخذَ زيد يقي الرسول بجسده ويدافع عنه(١) .

وهو الشخص الوحيد من بين أصحاب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، في قضية تطليق زوجته.

وقد نالَ زيد تحت تأثّره بتعاليم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) درجة إيمانية مرموقة، على أثرها لم يترك الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المدينة مرّة إلاّ وجَعلهُ فيها خليفة عنه، وتزعّم جيش الإسلام في تسع حروب بأمر الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، حتّى استشهد في غزوة مؤتة وكان فيها أيضاً قائداً للمسلمين.

وبملاحظة أنّ هذه الغزوة قد حَدثت في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، وأنّ الرسول قد تبنّاه وهو في الثامنة من عمره، وأقامَ معهُ ثلاث عشرة سنة في مكّة، وثماني سنوات في المدينة، فيمكن القول بأنّ عمره حين استشهاده لم يتجاوز الخامسة والعشرين، إلاّ أنّ الجانب المهمّ الذي يجدر ذكرهُ هنا من حياة زيد بن حارثة - والذي يعكس صفاءه وشخصيته الفريدة التي نالها بفعل تأثّره بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) - هو أنّه حينما كان لهُ من العمر ثماني سنوات ذهبَ بصحبة أمّه لزيارة أقربائه من قبيلة( بني معن ) ، وفي مدّة إقامتهم هناك تعرّضت القبيلة المذكورة لغارة شنّتها عليها قبيلة( بني قين ) ، وقعَ فيها زيد أسيراً فيمَن أُسّر، وكان العُرف السائد في عصر الجاهلية يقوم على بيع الأسرى واسترقاقهم،

____________________

(١) طبقات أبي سعد: ١ / ١٤٢.

٩٤

 فتوجّهوا بهم إلى سوق عُكاظ بُغية عَرضهم للبيع بوصفهم عبيداً، وهناك اشترى حكيم بن حزام زيداً لعمّته خديجة، فوهبتهُ خديجة إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، فأخذَ زيدٌ يتولّى خدمة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ).

ومن جهةٍ أخرى، كان( حارثة ) والد زيد، وعمّه( كعب ) يبحثان عنه، ولمّا توصّلا لمعرفة مكانه، توجّها إلى مكّة وراجعا أبا طالب عمّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في أمر شراء زيد وتحريره، فتركَ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) الأمر إليه، ولكنَّ زيداً آثر البقاء عند النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) برغم شوق أبيه إليه، وكان من أوائل المؤمنين بدعوة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، بعد علي ( عليه السلام ) وخديجة الكبرى ( عليها السلام )(١) ، فنالَ القسط الأوفر من إرشادات النبيّ التي أوصلتهُ إلى درجة سامية من بين الصحابة.

٢ - مُصعب بن عُمير

والشابّ الآخر الذي أجابَ دعوة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في مستهل ظهور الإسلام، وهَبَّ إلى نُصرته:( مُصعب بن عُمير ) ، وكان مصعب قد ترعَرعَ في عائلة ثريّة، إلاّ أنّه تأثّر على يد( عثمان بن طلحة ) بتعاليم الإسلام، فأخذَ يصلّي خِفية بعيداً عن أنظار أهله، وبرغم ما لاقاه من جفاءٍ من أسرته حتّى وقعَ تحت سطوة الفقر والفاقة، إلاّ أنّه ثبتَ على إيمانه ومعتقده.

وهكذا طوى( مُصعب ) حياة عصيبة، حتّى توجّه في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة إلى( الحَبَشة ) ، مع أوّل قافلة تخرج مهاجرة من ظلم الأعداء في مكّة.

ومضت على المسلمين سنوات قاسية، إلاّ أنّ شوكة الإسلام أخذت تقوى في مكّة وامتدّت إلى المدينة.

وفي السنة الثانية عشرة للبعثة، وفدَ على النبي اثنا عشر شخصاً من أهل المدينة، وبايعوا النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في( العَقَبة الثانية ) الواقعة في آخر( مِنى ) ، وسألوا الرسول أن يرسل إلى المدينة شخصاً ليعلّمهم القرآن والأحكام الإسلامية،

____________________

(١) السيرة النبوية: ١ / ٦٥ و ٢٦٤.

٩٥

 فأرسل النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) مُصعب بن عُمير لهذا الغرض؛ لكونه شابّاً مؤمناً صَلباً عالِماً بقراءة القرآن(١) .

وقد عبّرت كُتب التواريخ عن مُصعب بن عُمير بأنّه: فتىً حَدَث ممّا يدلّ على صِغر سِنّه(٢) .

وعندما دخلَ المدينة أقامَ في بيت( أسعد بن زرارة ) ، فأخذَ الشباب يختلفون إليه ويُعلنون إسلامهم.

وأخذ مُصعب ينتقل من بيت إلى بيت يرافقهُ المسلمون حديثاً من الشباب، يعلّمهم القرآن، ويدعو الناس إلى الإسلام، حتّى شاعَ الإسلام في المدينة ولم يبقَ بيتٍ فيها سوى القليل إلاّ ودخلهُ الإسلام، أو أخذَ أهله يتحدّثون عن هذا الدين الجديد.

وطبعاً لم تكن مهمّة مُصعب في تبليغ الإسلام في المدينة خالية من الصِعاب، فقد أشاعَ الكفّار أنّ شابّاً قرشياً قد وفدَ من مكّة إلى المدينة؛ ليعمل على إفساد شبابها وإضلالهم!

إلاّ أنّ إخلاص مُصعب وتضحيته، ودَعم كثير من الأصحاب المسلمين له، جَعل الدين يأخذ بالاتّساع بين أهل المدينة، وعزّز من إمامته لجماعة المسلمين، حتّى طلبَ من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أن يأذن لهُ بإقامة الجمعة لازدياد عدد المسلمين في المدينة، فأذِن لهُ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، فأقامها في بيت( سعد بن خُثيمة ) (٣) .

وبذلك أدّى مصعب الشابّ دوراً فعّالاً في تبليغ وإشاعة الأحكام، وتثبيت الأسس الإسلامية في المدينة، وحَضيَ عند الرسول بمكانة مرموقة.

____________________

(١) بحار الأنوار: ١٩ / ١٠.

(٢) المصدر نفسه: ص٢٤.

(٣) السيرة النبوية: ٢ / ٧٧، أُسد الغابة: ٤ / ٣٦٩، بحار الأنوار: ١٩ / ١٥ - ٢٠.

٩٦

٣ - كاتبُ الوحي والمُترجِم

والنموذج الآخر لقابلية الشباب على التأثّر فيما يرتبط بمسألة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، والاستفادة المؤثّرة والمفيدة التي جناها النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ):( زيد بن ثابت ) ، وكان أبوهُ( الضحّاك ) من أهل المدينة ومن قبيلة ( الخزرج )، وقُتلَ أبوه في( حرب بُغاث ) حينما كان لهُ من العمر إحدى عشرة سنة.

وقد كان زيد من أوائل الذين هبّوا للقاء النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، حين دخوله المدينة فاعتنقَ الإسلام، وعُدَّ من جملة أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، إلاّ أنّه لم يتمكّن من الاشتراك في ( بدر ) و( أحد ) في السنة الثانية والثالثة للهجرة؛ لصغر سنّه آنذاك، إلاّ أنّه عملَ على إعداد المُؤن من تحضير الطعام وما إلى ذلك، ولذلك كان النبيّ يحثّه ويشجّعه قائلاً:( باركَ الله فيك ) (١) .

وقد وفِّق زيد بن ثابت فيما بعد في السنة الخامسة للهجرة للاشتراك في واقعة الخَندق، وحينما كان الأصحاب يحفرون الخَندق كان زيد يعمل بنقل التراب(٢) ، إلاّ أنّ أهمّ منصب قلّدهُ إيّاه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) هو:( كتابةُ الوحي، والعمل في حقل الترجمة ) ، وبذلك صار زيد من جملة ( كُتّاب الوحي )، فكان يكتب الآيات النازلة على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ويحفظها، كما أنّه كان عالِماً بها.

وقد مَنحهُ الله ذكاءً حادّاً حتّى أشار عليه النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بتعلّم اللغة السريانية، إذ لم يكن يأمن جانب اليهود في مكاتباته مع علماء اليهود، وكان يخشى من تحريف الرسائل(٣) .

وقد تحدّث زيد الشابّ حول مهمّة الترجمة التي أمرهُ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بها قائلاً:( لقد تعلّمتُ اللغة السريانية كما كنتُ أقرأ رسائل اليهود لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ) (٤) .

____________________

(١) طبقات ابن سعد: ص١٦٠.

(٢) أُسد الغابة: ٢ / ٢٢٢.

(٣) أُسد الغابة: ٢ / ٢٢٢.

(٤) تاريخ الخميس: ١ / ٤٦٥.

٩٧

كما كان زيد عارفاً بالحساب والرياضيات، فكلّفه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بالإشراف على تقسيم غنائم غزوَتَي:( حُنين )، و( خَيبر ) ، وكانت عبارة عن كثيرٍ من البقر، والضأن، والإبل(١) .

ومضافاً إلى ذلك كلّه، أعطاهُ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) راية قبيلة( بني مالك ) في غزوة ( تبوك )، بعد أن أخذها رسول الله من( عمارة بن حزم ) ، ورفعها زيد بن ثابت، فقال عمارة: هل صدرَ منّي شيء؟ فأجابهُ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ):( كلاّ، ولكنّ زيداً أحفظُ منك للقرآن ) (٢) .

٤ - أُسامة بن زيد

ولِد أسامة بن زيد بن حارثة - الذي تقدّم الحَديث عن والده - من أمّ اسمها( بَرَكة ) وكُنيتها ( أم أيمن )، وتغذّى بتعاليم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) في ظلّ المجتمع الإسلامي.

وكان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) لِمَا يوليه من أهمية لطبقة الشباب، واعتزازه بشخصيتهم والاستفادة من طاقاتهم، يحبُّ أُسامة بن زيد حبّاً جمّاً، وخوّله مهمّتين:ثقافية، وعسكرية، نشير إليهما فيما يأتي:

١ - في السنة السابعة للهجرة حيث رجع النبيّ بجيشه إلى المدينة منتصراً من غزوة ( خيبر )، أرسلَ أُسامة على رأس جماعة إلى قرية من قرى( فدك ) التي يقطنها اليهود، بُغية التبليغ والدعوة إلى الدين الإسلامي، فهربَ جميع سكّان تلك القرية حين سماعهم تكبيرات أصحاب أسامة، ماعدا( مرداس ) الذي كان قد أسلمَ قبل ذلك، وقد خفّ ( مرداس ) إلى استقبال ( أسامة )، وهو يُردّد شهادة( أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله ) ، إلاّ أنّ أسامة بادرَ إلى قتله ظنّاً منهُ أنّ ( مرداس ) إنّما نطقَ بالشهادتين خوفاً على نفسه وماله، دون أن يكون مسلماً في حقيقة الأمر، ثمّ أخذَ ماشيته غنيمة.

____________________

(١) طبقات ابن سعد: ٢ / ١١٥.

(٢) أُسد الغابة: ٢ / ٢٢٢.

٩٨

وحينما وصلَ الخبر إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) تأثّر كثيراً وقال لزيد:( لقد قتلتَ مسلماً! ) ثمّ نزلَ قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) (١) ، فندمَ أسامة على ما صدرَ منه نَدماً شديداً، وسألَ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أن يدعو له الله بالمغفرة، وأقسمَ أن لا يقتل مُسلماً أبداً(٢) .

٢ - وبعد أن استشهدَ جمعٌ من المسلمين في السنة الثامنة للهجرة في غزوة( مؤتة ) ، وكان منهم: جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام )، وزيد بن حارثة ( والد أسامة )، بادرَ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) إلى تنظيم جيش قوامهُ أربعة آلاف رجل، وأعطى قيادتهُ لأسامة ليتوجّهوا نحو الشام ليجبر الصَدع، ويحِدّ من خطر الروم والنصارى، ويحافظ على حياض الإسلام.

وعلى الرغم من وجود عدد من الكبار والأبطال بين أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) من المهاجرين والأنصار، إلاّ أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بادرَ - لكي يرفع من قيمة الشباب، ولِمَا كان يعرفهُ من كفاءة لدى أسامة، والمصالح التي كان يفكّر فيها في السنة العاشرة للهجرة - إلى جَعل القيادة العسكرية لجيش المسلمين لأسامة بن زيد، برغم أنّه لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره(٣) .

٥ - عتابُ بن أسيد

بعد أن فتحَ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) مكّة في السنة الثامنة للهجرة، اختارَ من بين الصحابة - وفيهم الكبار - شابّاً لهُ من العمر عشرون سنة وهو:( عتاب بن أسيد ) ، ونصّبهُ والياً على مكّة، لِمَا كان يتوسّمه فيه من كفاءات وقابليّات.

فقد ذَكرت السِيَر: أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أقامَ عتاب بن أسيد والياً على مكّة، وكان أوّل أمير يقيم الصلاة جماعة في مكّة بعد فتحها، قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) لابن أسيد:( يا عتاب، تدري على مَن استعملتك؟ استعملتُك على أهل الله عزّ وجل، ولو أعلمُ لهم خيراً منك استعملتهُ عليهم ) (٤) .

____________________

(١) سورة النساء: الآية ٩٤.

(٢) أُسد الغابة: ٢ / ٦٥، بحار الأنوار: ٢١ / ٤٨.

(٣) أُسد الغابة: ٢ / ٦٤.

(٤) أُسد الغابة: ٣ / ٣٥٨.

٩٩

وطبعاً أنّ اختيار شابّ لهُ من العمر ١٨ أو ٢١ سنة للإمارة والإمامة بعد فتح مكّة، كان له وقعٌ شديد على كبار الصحابة، ورأوا فيه إهانة لهم وقالوا: نحن أكبر سنّاً ونحن في جوار حَرَم الله الآمن، وإنّ هذه المدينة هي أفضل المُدن عند الله، وما أسيد سوى شاب حَدث له من العمر ١٨ سنة(١) !

إلاّ أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) الذي كان يلاحظ كفاءة ابن أسيد والمصالح الأخرى أجابهم قائلاً:( لقد اعترضَ بعضكم على حداثة ابن أسيد، فليس الأكبر هو الأفضل، بل الأفضل هو الأكبر ) (٢) .

أجل، إنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) من خلال التفاته لكفاءة عتاب بن أسيد - وقابليته لولاية مكّة ذلك البلد العظيم، والمقرّ التوحيدي الكبير - قد استفاد استفادة قصوى، وقد اضطلعَ أسيد إلى آخر عمره بمهام الإدارة والولاية، بقوّة وأمانة وصدق وتواضع.

٦ - عَظمةُ الإيمان والطاعة

تحدّثنا في هذا المقال عن إيمان الشباب وإطاعتهم للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، وقبل أن نذكر نموذجاً آخر لعظمة الإيمان والطاعة والذوبان والفناء في ذات الله لدى الشباب، نرى من المناسب أن نذكر جانباً من سلوكية النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )، وكيف أنّه كان يشمل الجميع بظلّ عَطفه الوارف.

قال أبو ذر الغفاري:( كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو حتّى يسأل ) (٣) .

أجل، إنّ مثل هذه السلوكية الإيمانية والإلهية قد تركت آثاراً ملحوظة على أصحاب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله )،

____________________

(١) بحار الأنوار: ٢١ / ١٢٢.

(٢) المصدر السابق: ص١٢٣.

(٣) مكارم الأخلاق: ص١٦.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214