نظام حقوق المرأة في الإسلام

نظام حقوق المرأة في الإسلام8%

نظام حقوق المرأة في الإسلام مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: المرأة
الصفحات: 446

  • البداية
  • السابق
  • 446 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57648 / تحميل: 9228
الحجم الحجم الحجم
نظام حقوق المرأة في الإسلام

نظام حقوق المرأة في الإسلام

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

نظام حقوق المرأة في الإسلام

١

٢

نظام حقوق المرأة في الإسلام

الشهيد آية الله مرتضى المطهّري

٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٤

مقدّمة المؤلِّف

تقتضي متطلّبات هذا العصر أن يعاد تقويم كثير من المسائل، وإلاّ يكتفى بالتقويمات القديمة، و(نظام الحقوق والواجبات الأُسرية) من جملة هذه المسائل.

في هذا العصر، ولأسباب سأشير إليها لاحقاً، أفترض أن تكون المسألة الأساسية في هذا الباب هي (حرية المرأة) و(حق المساواة) بين المرأة والرجل، وأنّ جميع المسائل الأُخرى متفرّعة عن هاتين المسألتين.

أمّا في نظرنا، فإنّ المسألة الأساسية في باب (نظام حقوق الأُسرة) - أو على الأقل في مرتبة المسائل الأساسية - هي أنّ نظام الأُسرة هل هو نظام مستقل عن باقي النظم الاجتماعية؟ وهل هو معيار خاص به يختلف عن المعايير المتبعة في سائر النظم الاجتماعية؟ أم ليس هناك أي فرق بين هذه الوحدة الاجتماعية وبين سائر الوحدات الأُخرى، وهو محكوم بنفس المنطق ونفس الفلسفة ونفس المعايير التي تحكم بقيّة الوحدات الاجتماعية؟

أساس هذا التردّد هو كون ركني هذه الوحدة جنسين من جهة، وتوالي أجيال الوالدين والأبناء من جهةٍ أُخرى. وقد منح الخالق تعالى أعضاء هذه الوحدة أوضاعاً متفاوتة وغير متساوية فيما بينها وكيفيات

٥

متباينة. ومجتمع الأُسرة مجتمع (طبيعي - وضعي) أي مجتمع وسط بين المجتمع الغريزي كمجتمع النحل والنمل الذي وضعت الطبيعة له حدوده وحقوقه ومقرّراته فلا يزيغ عنها، والمجتمع الوضعي مثل مجتمع الحضارة الإنسانية الذي يتميّز بدرجة قليلة من الطبيعية والغريزية.

وكما نعلم فإنّ قدماء الفلاسفة كانوا يعدّون فلسفة الحياة الأُسرية فرعاً مستقلاًّ من (الحكمة العملية)، ويعتقدون بمنطق ومعيار خاصّين لهذا الجانب من الحياة الإنسانية... وأنّ أفلاطون في رسالة (الجمهورية)، وأرسطو في كتاب (السياسة)، وابن سينا في كتاب (الشفاء)، قد نظروا إلى هذا الموضوع من هذه الزاوية.

وفيما يخصّ حقوق المرأة في المجتمع، هناك أيضاً تساؤل واستفهام فيما إذا كانت الحقوق الطبيعية والإنسانية للمرأة والرجل متشابهة أم غير متشابهة. أي أنّ الخلق والطبيعة التي منحت الإنسان مجموعة من الحقوق، هل جعلت هذه الحقوق جنسين أم جنساً واحداً؟ وهل وجدت (الذكورة) و(الأُنوثة) طريقها إلى الحقوق والواجبات الاجتماعية، أم أنّ الحقوق في نظر الطبيعة وفي منطق التكوين والخلق جنس واحد؟

* * *

في الغرب، منذ القرن السابع عشر وما بعده، اقترنت النهضة العلمية والفلسفية بنهضة اجتماعية وباسم (حقوق الإنسان). وقد نشط كتّاب

٦

ومفكّروا القرنين السابع عشر والثامن عشر بنشر أفكارهم بين الناس حول الحقوق الطبيعية والفطرية - غير القابلة للسلب - للبشر، ومن بين هؤلاء الكتّاب والمفكّرين: جان جاك روسو، وفولتير، ومنتسكيو. وقد كان لهذه المجموعة من المفكّرين فضل عظيم على المجتمع البشري، وقد يمكن القول: إنّ فضل هؤلاء على المجتمع الإنساني لا يقل عن فضل المكتشفين والمخترعين الكبار.

وقد كان المبدأ الأساس الذي اعتمده هؤلاء المفكّرون هو أنّ الإنسان يستحق مجموعة من الحقوق والحرّيّات بالفطرة، وبأمر الخلق والطبيعة. هذه الحقوق والحرّيّات لا يمكن لأيّ فردٍ أو جماعة - تحت أي اسم أو عنوان - سلبها عن فرد أو جماعة آخرين، وحتى صاحب الحق نفسه ليس له - طبقاً لهواه وإرادته - أن يحرم نفسه من هذه الحقوق ويهبها لغيره. كما أنّ جميع الناس: الحاكم والمحكوم... الأبيض والأسود... الغني والفقير، يتساوون في هذه الحقوق والحرّيّات.

وقد ظهرت ثمار هذه النهضة الفكرية والاجتماعية لأوّل مرة في انكلترا، ثم في أمريكا، ثم في فرنسا (على شكل ثورات وتغيير في الأنظمة ونشر بيانات)، وانتشرت بالتدريج إلى البلدان الأخرى.

في القرن التاسع عشر، ظهرت أفكار جديدة ترتبط بحقوق الإنسان في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وحدثت تحوّلات أخرى انتهت بظهور الاشتراكية ووجوب منح الأرباح إلى

٧

الطبقات الكادحة، وانتقال الحاكم من الطبقة الرأسمالية إلى المدافعين عن الطبقة العاملة.

وحتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان كل ما قيل حول حقوق الإنسان، أو ما نفذ عملياً في المجتمع هو ما يتعلّق بحقوق الشعوب مقابل حكوماتها، أو حقوق الطبقة العاملة والكادحين مقابل أصحاب العمل.

وفي القرن العشرين طُرحت مسألة (حقوق المرأة) في مقابل (حقوق الرجل) وأعلن بصراحة ولأوّل مرة - في لائحة حقوق الإنسان التي نشرتها منظمة الأُمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٨م - عن تساوي حقوق المرأة والرجل.

في جميع النهضات الاجتماعية في الغرب من القرن السابع عشر وحتى القرن الحالي، كان المحور الأساس لهذه النهضات: (التحرّر) و(المساواة) ونظراً لأنّ نهضة حقوق المرأة في الغرب جاءت في أعقاب سائر النهضات: كما أنّ تاريخ المرأة في أوروبا من ناحية الحريات والمساواة كان مشحوناً بالمرارة، ففي هذا المجال أيضاً لم تجن المرأة غير شعار (الحرية) و(المساواة).

وقد اعتبر روّاد هذه النهضة تحرّر المرأة ومساواتها بالرجل في الحقوق متمّماً لنهضة حقوق الإنسان التي بدأت في القرن السابع عشر، وادعوا أنّه بدون تأمين حرية المرأة ومساواتها في الحقوق مع الرجل

٨

يصبح الكلام عن حرية وحقوق الإنسان بلا معنى، إضافةً إلى أنّ جميع مشاكل الأُسرة ناشئة عن عدم تحرّر المرأة وعدم مساواتها بالرجل، وبتأمين هذا الجانب تحل مشكلات الأُسرة كلها مرة واحدة.

في هذه النهضة، نسي ما كان قد اعتبرناه (المسألة الأساسية في نظام حقوق الأُسرة) وهو هل أنّ هذا النظام - بطبعه - نظام مستقل، وله منطق ومعيار مستقلاّن عن منطق ومعيار باقي المؤسّسات الاجتماعية أم لا، وإنّما الذي انصرفت إليه الأذهان هو تعميم مبدأ الحرية والمساواة على النساء في مقابل الرجال. وبتعبيرٍ آخر: في مجال حقوق المرأة كان موضوع البحث فقط (الحقوق الطبيعية والفطرية للإنسان غير القابلة للسلب) لا غير. فكانت جميع الأحاديث وهي إنسان كامل ولذا يجب أن تتمتّع - كالرجل، وفي المقابل - بالحقوق الفطرية للإنسان غير القابلة للسلب.

وقد بحثنا في بعض فصول الكتاب مسألة: (مصادر الحقوق الطبيعية) بحثاً كافياً. وأثبتنا فيها أنّ أساس الحقوق الطبيعية والفطرية هو الطبيعة نفسها. أي أنّ الإنسان كان يتمتّع بحقوق خاصة يفتقدها الحصان والخروف والدجاجة والسمكة فإنّما أساس ذلك الطبيعة والخلقة، وإذا كان الناس جميعاً متساوين في الحقوق الطبيعية ويجب أن يحيوا جميعاً (أحراراً)، فإنّما أساس ذلك أمر متوفّر في أصل الخلقة، وليس لذلك أي سبب آخر؛ والعلماء المناصرون للحرية والمساواة إنّما يطرحونها على

٩

أنّها حقوق فطرية للناس وليس لديهم أي دليل غير ذلك، بالطبع، فإنّ المسألة لنظام الأُسرة ليس لها مرجع غير الطبيعة.

والآن يجب أن ننظر لماذا لم تحز تلك المسألة - التي سمّيناها المسألة الأساسية لنظام حقوق الأُسرة - اهتماماً كافياً؟ فهل تبيّن على ضوء العلوم العصرية أنّ تفاوت واختلاف المرأة عن الرجل هو اختلاف عضوي بسيط لا تأثير له في أساس بناء جسميهما وروحيهما، ولا في الحقوق التي يجب أن يتمتّعا بها أو المسؤوليات التي يجب أن يتعهّدا بها؟ وعلى هذا الأساس لم تفتح الفلسفة الاجتماعية الحديثة حسابين منفصلين لهما؟

ومن غرائب الصدف أنّ القضية على عكس ما ذكر، فإنّ الاختلاف بين الجنسين قد أصبح أوضح على ضوء الاكتشافات العلمية والحياتية والنفسية، وقد بحثنا ذلك في بعض فصول هذا الكتاب مستندين إلى تحقيقات علماء الأحياء والفسيولوجيين وعلماء النفس، ومع ذلك كلّه فقد أمست المسألة الأساسية مغمورة وطي النسيان، وهذا ما يثير العجب.

وقد يكون سبب هذا الانصراف عن المسألة الأساسية هو أنّ هذه النهضة تمّت بسرعة كبيرة؛ ولذلك فإنّها في الوقت الذي أنقذت المرأة من جملة تعاسات، أضافت تعاسات جديدة لها وللمجتمع البشري. وسنرى في فصول هذا الكتاب أنّ المرأة الغربية كانت حتى أوائل القرن

١٠

العشرين محرومة من أبسط الحقوق، ولم تفكّر شعوب الغرب بتلافي ذلك إلاّ في بداية هذا القرن، ولما كانت النهضة النسوية تبعاً لباقي النهضات التي قامت على أساس (الحرية) و(المساواة)، فقد طلبوا بهاتين الكلمتين جميع المعجزات، غافلين عن كون الحرية والمساواة إنّما ترتبطان بروابط البشر ببعضهم من ناحية كونهم بشراً وبتعبير أنصار (الحرية والمساواة حق للإنسان بما هو إنسان) إنّ المرأة من ناحية كونها إنساناً، قد خُلقت - ككل إنسان آخر - حرة وتتمتّع بحقوق مساوية لباقي حقوق الناس، لكن المرأة إنسان بكيفيّة خاصّة والرجل إنسان بكيفيّة أُخرى، والمرأة والرجل (متساويان) في الإنسانية لكنّهما نوعان من الإنسان، بنوعين من الخواص ونوعين من الصفات النفسية. وهذا الاختلاف ليس ناتجاً عن عوامل جغرافية أو تاريخية أو اجتماعية، إنّما مخطّط ذلك قد نُقش في أصل الخلقة. إنّ للطبيعة من وراء صنع نوعين من الإنسان هدفاً معيّناً، وكل عمل ضد الطبيعة والفطرة لابد أن يؤدّي إلى عوارض غير مرغوبة. ونحن كما استلهمنا من الطبيعة فكرة حرية الإنسان والمساواة بين الناس - بما في ذلك المرأة والرجل - كذلك يجب أن نستلهم منها درس (النوع الواحد) أو (النوعين) في حقوق المرأة والرجل، وهل أنّ مجتمع الأُسرة هو مجتمع نصف طبيعي - على الأقل - أم لا؟ وعلى الأقل فإنّ مسألة كون الحيوانات - ومنها الإنسان - جنسين هل هو من قبيل الصدفة أم ضمن مخطّط الخلقة، مسألة تستحق البحث. وهل اختلاف هذين الجنسين اختلاف سطحي وعضوي أم كما

١١

يقول الكسيس كارل إنّ كل خلية من خلايا الإنسان تحمل علامة جنسية؟ وهل في منطق ولغة الفطرة أن يحمل كل من المرأة والرجل رسالة خاصة به أم لا؟ والحقوق هل هي نوع واحد أم نوعان؟ وهل الأخلاق والتربية جنسان أم جنس واحد؟ وماذا عن العقوبات وكذلك المسؤوليات والرسالات؟

في هذه النهضة لم يلتفت إلى أنّ هناك مسائل أخرى مؤثّرة، غير الحرية والمساواة، الحرية والمساواة شرطان لازمان لا كافيان، فتساوي الحقوق شيء وتشابهها شيء آخر، وتساوي حقوق المرأة والرجل من حيث القيمة المادية والمعنوية شيء والتشابه والتماثل شيء آخر.

في هذه النهضة: حل (التساوي) محل (التشابه) و(المساواة) محل (التماثل).

واختفت (الكيفية) في ظل (الكمية).

كون المرأة (إنساناً) أدّى إلى نسيان كونها (امرأة).

والحقيقة أنّ هذا الإهمال لا يعزى إلى غفلة فلسفية ناشئة عن العجلة، بل هناك عوامل أخرى أيضاً مؤثّرة تتعلّق بالرغبة في استثمار عنوان (الحرية) و(المساواة) للمرأة.

من هذه العوامل: مطامع الرأسماليين، فأصحاب المعامل من أجل اجتذاب المرأة من البيت إلى المعمل واستثمار طاقاتها اقتصادياً، رفعوا شعارات: حقوق المرأة، الاستقلال الاقتصادي للمرأة، حرية المرأة،

١٢

مساواة المرأة بالرجل في الحقوق. وكان هؤلاء الرأسمالييون هم الذين جعلوا لهذه الشعارات: الصفة الرسمية القانونية.

ويل ديورانت - في الفصل التاسع من كتاب لذات الفلسفة - بعد أن يذكر بعض الآراء التي تحتقر المرأة عن أرسطو ونيتشه وشوبنهاور وبعض الكتب اليهودية المقدّسة، والإشارة إلى أنّ الثورة الفرنسية بالرغم من حديثها عن تحرّر المرأة، إلاّ أنّ تغيّراً عملياً لم يحدث، يقول: (حتى حدود عام ١٩٠٠م لم يكن القانون ليجبر الرجل على احترام المرأة) وعندها يتطرّق إلى أسباب تغيّر وضع المرأة في القرن العشرين، فيقول: (تحرّر المرأة من آثار الثورة الصناعية) ويكمل حديثه قائلاً:

(.... كانت العاملات أقل أجراً من العمّال، وكان أصحاب المعامل يفضّلونهن على الرجال لثكرة تمرّدهم. قبل قرن من الزمان كان الحصول على عمل في انكلترا أمراً عسيراً على الرجال لكن الإعلانات كانت تدعوا الرجال إلى إرسال نسائهم وأطفالهم إلى المعامل... وكانت أوّل خطوة على طريق تحرير جداتنا تتمثّل في قانون عام ١٨٨٢م إذ بموجب هذا القانون أصبحت نساء بريطانيا العظمى يتمتّعن بميزة لم يسبق لها مثيل هي أنّ من حقّهن الاحتفاظ لأنفسهن بالمال الذي يكتسبنه(١) .

هذا القانون المسيحي الأخلاقي وضعه أصحاب المعامل

____________________

(١) في شرح القانون المدني الإيراني، ص: ٣٦٦ يقول الدكتور على شايغان: (إنّ الاستقلال الذي تتمتّع به المرأة في أموالها والذي اعترف به فقه الشيعة من البداية، =

١٣

في مجلس العموم من أجل أن يجتذبوا نساء انكلترا إلى المعامل. ومنذ ذلك العام وحتى العام الحالي أدّى البحث عن الربح الذي لا يقاوم إلى أن تتحرّر النساء من العذاب والاستعباد في البيت، لتصبح رهن العذاب في المتجر والمعمل....)(١) .

إنّ تكامل الآلة، والزيادة اليومية للإنتاج فوق ما يحتاجه واقع الإنسان والرغبة في استنزاف المستهلك بألف حجّة وحيلة، واستعمال الوسائل السمعية والبصرية والفكرية والشعورية والذوقية والفنيّة والشهوانية من أجل صنع إنسان مستهلك بلا إرادة، أدّت مرةً أخرى إلى أن تحتاج الرأسمالية إلى جهود المرأة، ولكن هذه المرّة لم تكن الحاجة إلى قدرتها البدنية وطاقتها الإنتاجية وجمالها وتخلّيها عن شرفها وكرامتها، وإلى قدرتها السحرية على تسخير الفكر والإرادة واستثمارهما في فرض السلع على المستهلك، وبديهي أنّ عنوان ذلك

____________________

= لم يكن موجوداً في اليونان، ولا روما ولا ألمانيا، ولا حتى وقت قريب في أغلب بلدان العالم، أي أنّها كانت محجوراً عليها مثل الصغير والمجنون ولا يحق لها التصرّف في أموالها، وفي بريطانيا حيث كانت شخصية المرأة سابقاً محجوبة بشخصية زوجها وقد رفع الحجر عنها بقانون عام ١٨٧٠م وقانون ١٨٨٢م باسم قانون الملكية.

(١) لذات الفلسفة: ص ١٥٥ - ١٥٩.

١٤

كلّه الحرية والمساواة مع الرجل.

والسياسة بدورها لم تكن غافلة عن استعمال هذا العمل، فأنت تقرأ أخبار الجرائد والمجلاّت، وفي جميع ذلك يستفاد من وجود المرأة؛ حتى غدت المرأة أداة لتنفيذ مآرب الرجل تحت ستار الحرية والمساواة.

وبديهي أنّ شباب القرن العشرين لم يغفل عن اغتنام هذه الفرصة الثمينة، من أجل أن يتخلّص من الالتزامات التقليدية تجاه المرأة عند الزواج، ويصطادها حيثما شاء رخيصة أو بالمجّان، ففاق الجميع في ذرف دموع التماسيح حزناً وأسفاً على تعاسة بصورة أفضل في هذا الجهاد المقدّس! أخر سن زواجه إلى الأربعين وأحياناً بقي أعزب طول حياته!!!

لا شك في أنّ القرن الأخير هذا قد خلّص المرأة من مجموعة تعاسات، ولكنّ الحديث في أنّه قد جاءها بمجموعة من التعاسات، لماذا؟ وهل أنّ المرأة محكومة بإحدى التعاستين ولابد لها قسراً أن تختار إحداهما؟ أم ليس هناك مانع من أن تقوم المرأة بطرد مصائبها القديمة والجديدة معاً؟

هذه هي الحقيقة، وهي ألاّ جبر في الموضوع، فالمصائب القديمة كانت غالباً نتيجة نسيان إنسانية المرأة، أما الجديدة فناتجة عن أنّهم

١٥

أغفلوا عمداً أو سهواً كونها امرأة، كما أغفلوا موقفها الطبيعي والفطري ورسالتها ومدارها وحاجاتها الغريزية واستعداداتها الخاصة.

العجيب أنّه حين يجري الحديث عن الاختلافات الفطرية بين المرأة والرجل يتلقّاه البعض على أنّه نقص المرأة وكمال الرجل ويؤدّي بالتالي إلى سلسلة من الحقوق بالنسبة للرجل وسلسلة من الحقوق المهدورة بالنسبة للمرأة، غافلين عن أنّ المسألة ليست مسألة نقص وكمال، فإنّ الخالق لم يرد بهذه الاختلافات أن يجعل أحدهما ناقصاً والثاني كاملاً، وبالتالي يكون أحدهما ذا حقوق وامتيازات والثاني محروماً.

هذا البعض - بعد ردّ فعله المنطقي والحكيم! - يقول: حسناً، إذا كانت طبيعة المرأة قد ظلمتها وجعلتها ضعيفة وناقصة، أيحسن أن نأتي نحن أيضاً لنزيد في مظلوميّتها؟ فإذا نسينا أو تناسينا وضع المرأة الطبيعي ألاّ نكون قد أدّينا عملاً إنسانياً لها؟

لكن الحق أنّ العكس هو الصحيح، فإنّ إهمال الوضع الطبيعي والفطري يؤدّي إلى إهدار حقوقها أكثر فأكثر، فلو أنّ الرجل أقام جبهة ضدّ المرأة فقال لها: أنتِ فرد وأنا فرد، فيجب إذاً أن تتشابه الأعمال والمسؤوليات والأرباح والأُجور والجزاء، ويجب أن تشاركيني الأعمال صعبها وثقيلها على السواء، فتأخذي أجركِ بمستوى عملكِ لا تنتظري منّي احتراماً ولا دفاعاً عنكِ، وعليكِ أن تتكلّفي جميع

١٦

مصروفاتك وتشاركيني في نفقة أطفالنا، وتدفعي عن نفسك الأخطار، وتنفقي عليّ بمقدار ما أنفق عليكِ من مال؛ في هذه الحالة تكون المرأة في وضع لا تُحسد عليه.

ذلك أنّ طاقة المرأة وإنتاجها بالطبع أقل من الرجل، واستهلاكها للثروة أكثر منه، علاوة على مرضها الشهري، وصعوبات أيام الحمل والولادة وحضانة الرضيع، ممّا يجعل المرأة محتاجة إلى حماية الرجل وأن تكون مسؤوليّاتها أقلّ وحقوقها أكثر. وهذا لا يخص الإنسان وحده، فكل الحيوانات التي تحيا حياةً زوجيّة هكذا، ففي جميع أنواع الأحياء، يبادر الذكر إلى رعاية الأُنثى بحكم الغريزة.

فإذا أخذنا بنظر الاعتبار الوضع الطبيعي والفطري لكل من المرأة والرجل مع التأكيد على تساويهما في الإنسانية والحقوق المشتركة للإنسان، لوجدنا أنّ الفطرة قد وضعت المرأة في موقع مناسب لها جداً لا يدكّ شخصها ولا شخصيّتها.

ومن أجل أن نطّلع قليلاً على النتائج العملية التي قاد إليها نسيان الموقع الطبيعي والفطري لكل من المرأة والرجل والاعتماد فقط على الحرية والمساواة، فمن الأفضل أن ننظر إلى الذين ساروا قبلنا على هذا الطريق ووصلوا إلى نهايته ماذا يقولون وماذا يكتبون؟

في مجلة (مختارات للقراء) العدد ٧٩، السنة ٣٤، الصادر في

١٧

٤ / تير سنة ١٣٥٣ هـ ش(١) نشرت مقالة من المجلة الشهرية للشرطة تحت عنوان (قصص عن النساء العاملات في المجتمع الأمريكي). وهي مقالة مترجمة من مجلة كورونت، هذه المقالة مفصّلة وتستحق القراءة، في البداية تعرض المقالة شكوى إحدى السيّدات العاملات التي تتحدث كيف أنّه باسم المساواة بين المرأة والرجل، حُرمت المرأة العاملة من العناية التي كانوا يحيطونها بها سابقاً. فمثلاً (لا ترفع المرأة حملاً يزيد وزنه على (٢٥ ) رطلاً، بينما لا توجد مثل هذه الميزات بالنسبة للرجل)، فتقول: (تغيّرت في الوقت الحاضر ظروف العمل في معمل جنرال موتورز في ولاية أوهايو أو بتعبير آخر المكان الذي تتعذّب فيه ما يقارب الـ (٢٥٠٠ ) امرأة... وترى هذه السيدة نفسها أمام ماكنة جبّارة أو منهمكة بتنظيف فرن معدني زنته (٢٥ ) رطلاً كان قد وضعه في مكانه قبل لحظات رجل مفتول العضلات وتقول في نفسها: أجد جسمي محطّماً مليئاً بالكدمات والجروح) وأضافت: (يجب عليّ في كل دقيقة أن أعلق بالرافعة حزمة ذات (٢٥ -٥٠ ) إنجاً يزيد وزنها على (٣٥ ) رطلاً، وأجد يدي على الدوام متورّمتين وتؤلماني كثيراً).

ثم تنتقل المجلة إلى عرض شكاوى وقلق سيدة أُخرى يعمل زوجها بحّاراً لدى القوّة البحرية، وكانت قيادة القوّة البحرية قد صمّمت

____________________

(١) المصادف ٧ حزيران (يونيو) عام ١٩٧٤م. والتاريخ المذكور أعلاه هو التاريخ الهجري الشمسي.

١٨

أخيراً على استخدام عدد من النساء في السفن التي يعمل عليها الرجال. فتقول: (إنّ القوّة البحرية أرسلت في هذه الأثناء سفينة في مهمّة، شاركت فيها أربعون امرأة وأربعمئة وثمانون بحّاراً. لكن عندما عادت هذه السفينة من أوّل سفرة (مختلطة) لها، تأكّدت مخاوف وتوجّسات زوجات البحّارة؛ إذ تبيّن أنّه لم تجر قصص عشق كثيرة على السفينة فحسب، بل إنّ أغلب النساء قد مارسن الجنس ليس مع بحّار واحد فقط، بل مع عدّة منهم).

وتقول أيضاً: (في ولاية فلوريد!)، وبعد التحرّي - امتد النزاع حتى شمل (الأرامل) فقد أعلن أحد قضاة هذه الولاية واسمه (توماس تستا) عدم شرعية المادة القانونية التي تعفي الأرامل اللاتي يملكن (٥٠٠) دولار فما دون من ضريبة الدخل، قائلاً إنّ هذا القانون تحيّز للنساء ضد الرجال).

ثم تضيف المجلة: (إنّ السيدة ماك دانيل تعاني من حرقة الكفين، والسيدة استون (زوجة أحد البحارة) أصبحت فريسة الاضطراب والقلق، وأرامل فلوريدا يدفعن الغرامات النقدية، والباقون أيضاً سيذوق كل واحد منهم طعم الحرية حسب إمكانه.

ويخطر سؤال على بال الكثيرين هو: ألم تخسر السيدات أكثر ممّا كنّ يتمتعن به من الحقوق؟

لكن لا فائدة الآن من هذا التساؤل والبحث؛ فإنّ اللعبة قد بدأت فعلاً واتخذ المتفرّجون أماكنهم أمام الملعب، وقد تمّت المصادقة هذا العام على سبع وعشرين مادة معدّلة في الدستور الأمريكي، وقد اعتبرت بموجب ذلك جميع الامتيازات المتعلّقة بجنس الفرد غير قانونية...

١٩

وعلى هذا فقد تحقّقت نبوءة (رسكوباوند) أُستاذ كلية الحقوق في هارفارد إذ قال: (إنّ تحرير النساء بداية لنتائج مؤسفة للمكانة القانونية للمرأة في أمريكا).

... وقد اقترح السناتور (جي اروين) من ولاية كارولينا الشمالية بعد دراسة المجتمع الأمريكي (تساوي الحقوق بين النساء والرجال.... فجميع قوانين الأُسرة يجب أن تتغيّر، ولا يكون الرجال بعد ذلك مسؤولين عن تأمين ميزانية الأُسرة).

وتكتب المجلّة: (تقول السيدة ماك دانيل: (إنّ إحدى النساء أُصيبت بنزف داخلي من جرّاء حمل بعض الأثقال. إنّنا نريد العودة إلى الوضع السابق، نرغب في أن يعاملنا الرجال على أنّنا نساء لا عمّال. أمّا بالنسبة لأنصار تحرّر المرأة فهذا الموضوع سهل جداً، إذ يجلسون في غرفة فخمة ليقولوا: (يجب أن يتساوى النساء بالرجال)؛ ذلك أنّهم لم يعرفوا العمل في المعمل بعد. إنّهم يجهلون أن جميع العاملات بأجر في هذه البلاد يعملن مثلي ويشقين في المعامل. إنّني لا أريد هذه المساواة، إذ أنّني لا أستطيع إنجاز أعمال الرجال. إنّ الرجال أقوى منّا أجساماً وإذا كان المطلوب أن ننافسهم في العمل والإنتاج ويقاس عملنا بأعمالهم فإنّني - من جانبي - أُفضّل الاعتزال. إنّ الميزات التي خسرتها عاملات ولاية أوهايو أكثر بكثير من المزايا التي كسبتها عن طريق قانون حماية العمّال. لقد خسرنا شخصيتنا النسائية. إنّني لا أفهم ماذا

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446