تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 486
المشاهدات: 72870
تحميل: 9114


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72870 / تحميل: 9114
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

٣٨١

امتلاك الفرنج بعض أعمال طرابلس ومصير فخر الملك

لمّا فرغ الفرنج من طرابلس، سار طنكري صاحب أنطاكية إلى بانيس وحصرها وافتتحها، وأمن أهلها، ونزل مدينة جبيل، وفيها فخر الملك ابن عمّار الذي كان صاحب طرابلس، وكان القوت فيها قليلاً، فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجّة من السنة بالأمان.

وخرج فخر الملك بن عمّار سالماً، ووصل عقيب ملك طرابلس الأسطول المصري بالرجال والمال والغلال وغيرها ما يكفيهم سنة، فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيّام، للقضاء النازل بأهلها، وفرّقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور وصيداء وبيروت.

وأمّا فخر الملك ابن عمّار فإنّه قصد شيزر ؛ فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني واحترمه، وسأله أن يقيم عنده فلم يفعل، وسار إلى دمشق فأنزله طغتكين صاحبها وأجزل له في الحمل والعطيّة وأقطعه أعمال الزبداني، وهو عمل كبير من أعمال دمشق، وكان ذلك في المحرّم سنة اثنتين وخمسمئة.

وفي ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي: كان ذلك في محرّم سنة ٥٠٣، وكان سفر فخر الملك بن عمّار مع ظهير الدين اتابك إلى بغداد في جمادى الأُولى من هذه السنة، أي بعد امتلاك الفرنج لطرابلس.

ولم يرد ذكرٌ لفخر الملك بن عمّار من هذه السنة إلى سنة ٥١٤ في المصادر التي نعتمدها، فقد جاء في الجزء العاشر من كامل ابن الأثير في أحداث هذه السنة:

٣٨٢

وفي هذه السنة سار أبو علي بن عمّار - الذي كان صاحب طرابلس - مع سديد الدولة ابن الأنباري إلى إيلغازي، وكان قد أرسل المسترشد بالله خلعاً معه إليه، وشكره على ما فعله من غزو الفرنج، ليقيم عنده يعبر الأوقات بما ينقم به عليه، وكان إيلغازي هذا صاحب حلب توفّي سنة ٥١٦.

وجاء قبل هذا في الجزء العاشر من كامل ابن الأثير في حوادث سنة ٥١٤ ما يتعلّق بابن عمّار ما يلي:

واتّصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني الطغرائي بالملك مسعود، فكان ولده أبو المؤيّد محمد بن أبي إسماعيل يكتب الطغراء مع الملك، فلمّا وصل والده استوزره مسعود بعد أن عزل أبا علي بن عمّار - صاحب طرابلس - سنة ثلاث عشرة بباب خوي.

وبعد هذا لم نجد لابن عمّار ذكراً، وانقطعت أخباره، والظاهر أنّه صرف أُخريات أيّامه في حلب، وقد لجأ إلى صاحبها نجم الدين إيلغازي بصحبة سديد الدولة بن الأنباري، الذي أوفده المسترشد بالله إليه كما سبق بيانه.

قرأت في الجزء ١٨٢ من مجلّة الجديد مقالاً تحت عنوان: ابن عمّار أبي علي بطل طرابلس، بقلم لحد خاطر، فرأيت الإفادة بضمّه إلى سلسلة تاريخه.. قال:

(كان أبو علي فخر الملك ابن عمّار حاكماً لطرابلس من قِبَل ظهير الدين طغتكين نائب الدولة السلجوقية في دمشق، وهذه الدولة من الترك ظهرت في العجم واستولت على العراق ودمشق، ولم تلبث أن استولت على بعض المدن الساحليّة والإقطاعات الجنوبيّة من لبنان، منتزعة إيّاها من الدولة الفاطميّة التي نشأت في المغرب، وجعلت قاعدة حكمها القاهرة، وبسطت سلطانها على أنحاء كثيرة من الشرق الأدنى منها: سورية وبعض جهات لبنان.

كانت طرابلس في ذلك العهد أهم عمل على الشاطىء اللبناني، وقد أسند طغتكين ولايتها إلى ابن عمّار، لما كان قد خبره فيه من الألمعيّة

٣٨٣

والدهاء، وقوّة الشكيمة، عاهداً إليه في أن يواصله بالتقارير عن حالة لبنان، يشبعها درساً ويبثّ إليه بالخطّة الواجب سلوكها لتطهيره من أحلاف الفاطميّين، ووضعه نهائيّاً تحت السيطرة السلجوقيّة.

وكان لبنان بلداً مقسّماً لا حدود ثابتة له ؛ لوفرة ما كان يحيط به من المطامع، وقصارى ما يمكن قوله عنه: إنّه كان يتألّف من عدّة إقطاعات، على كلٍّ منها أمير أو مقدّم يكاد يكون مستقلاًّ تمام الاستقلال في أعماله.

ومن أخصّ الإقطاعات في الساحل اللبناني بذلك العهد: طرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور، وهي إقطاعات كان يتنازعها يومئذٍ السلجوقيّون والفاطميّون، فبينا هي اليوم لهؤلاء إذا بها في اليوم الثاني لأولئك.

وكان السلجوقيّون يتقوّون عليها بجيشهم البرّي، بينما كان الفاطميّون يحرزونها بقوّة أسطولهم البحريّ المؤلّف من مئات المراكب الحسنة التنظيم المشحونة بالمقاتلة وأنواع الأسلحة والذخائر.

أمّا الإقطاعات الجبليّة، فكانت الشماليّة منها من أقصى لبنان إلى حمانا ونهر الجعماني، فكانت بأيدي أمراء الموارنة وبني فوارس جدود آل أبي اللمع المعروفين بالأمراء الجرديّين.

وأمير النصيريّين الملقّب بشيخ الجبل، فكان هؤلاء على تباينهم في الدين، يؤلّفون حلفاً قوميّاً فيما بينهم يعمل بكلّ وسيلةٍ على صيانة استقلالهم، والوقوف في وجه كلّ طامعٍ يبسط أيّة سيطرةٍ عليهم.

أمّا الإقطاعات الجنوبيّة من حمانا وما حاذاها شرقاً وغرباً فقد كانت بأيدي أمراء الغرب التنوخيين، وكان هؤلاء نزلوا مواطنهم بأمر العبّاسيين، فاضطرّوا إلى مماشاتهم، ثمّ ماشوا من بعدهم الفاطميّين والسلجوقيّين، على أنّ تلك المماشاة كانوا يقصرونها على ما يرون فيه منفعتهم وتقوية نفوذهم.

وممّا يُؤسف له أنّهم أطاعوهم مراراً في مهاجمة الشماليّين وقتالهم لنزع استقلالهم، فنشأت بسبب ذلك بين اللبنانيين دهراً عصبيّة ممقوتة دهتهم بالفواجع وزادت في تخاذلهم وإيهان قوّتهم.

درس أبو علي حالة لبنان تلك، ورفع عنها التقارير إلى مولاه طغتكين،

٣٨٤

فوردته الأوامر بالاستعداد لتدويخ لبنان برمّته، وطرد الأحزاب الفاطميّة منه، وإرغامه على الخضوع للدولة السلجوقيّة وجعله عملاً من أعمالها، على أن يكون هو العامل الأعلى من قِبَلها، ولكن حدث له حينئذٍ ما صرفه عن نيّته تلك واضطرّه إلى تحويل جهوده إلى ناحيةٍ أُخرى بُلي فيها بالخذلان على ما أبداه من البطولة والشدّة في المقاومة، وكان خذلانه ذلك وسيلة علويّة لصيانة لبنان.

ذلك أنّ جموع الإفرنج المستنفرين إلى الشرق من جميع ممالك أوروبة إثر ما سمعوه عنه من الأحاديث ذات الشجون، تحوّلوا عن بعلبك والبقاع في طريقهم إلى بيت المقدس، ومالوا إلى الغرب وساروا على سيف البحر جنوباً، يكتسحون البلدان ويفتحون المدن، ممّا دلّ على الصولة والبطش.

وكان أبو علي حادّ الذهن ذكيّاً ؛ فعرف أنّهم واصلون إليه، ولا ريب، وشيكاً فلم يجبن إزاء هذا الاستنتاج، ولا تردّد بل نهض في الحال - بما عُرف به من همّةٍ عاليةٍ ونيّرة وقّادة - إلى حشد الجنود وجمع المؤن وترميم الحصون والأسوار، ولكنّ الفرنجة فاجأُوه قبل أن يستكمل معدّات دفاعه، وفيما كان يفكّر في أمره جاءه مَن أخبره أنّ أُمراء الجبال الشمالية لاقوا الفرنجة مرحبين، وقد نالوا لديهم حظوة، وكانت له صلة ولاء بأحد نبلائهم الأمير موسى حاكم بشراي، فرأى توسيطه في صرفهم بالحسنى عن المدينة، ريثما يتيّسر له إنجاز ما بدأ به.

وكان الأمير موسى يحب في أبي عليٍّ شجاعته وسموّ مؤهّلاته، ولكنّه كان ينكر عليه أشياء منها: تضييقه أحياناً على بعض الضعفاء من سكّان المدينة، وتسامحه في إرهاق بعض العامّة من اللبنانيين المختلفين إليها، فلمّا جاء يكلّفه التوسّط، وعده بإجابة طلبه على أن يرجع عمّا كان يؤاخذه عليه من أعماله، فأسمعه هو أيضاً أحسن المواعد.

نجح الأمير موسى في مهمّته، وصالح الإفرنج ابن عمّار، على أن يقدّم لهم بعض المؤن والذخائر بثمنٍ عادل ؛ فتابعوا طريقهم في الساحل دون أن يدخلوا المدينة، وبعد رحيلهم عاد أبو علي إلى استعداداته، لا يعرف فيها ليناً ولا هوداة، وبعد مدّةٍ جعل يعتقل بعض الأبرياء، خصوصاً ممّن أصلهم من الجبال التابعة للأمير موسى بناءً على وشاياتٍ كاذبةٍ، ويودعهم السجن، وأمر بإقفال الأسوار.

وكان من المعتقلين أسرة بشراويّة

٣٨٥

الأصل فيها فتاة أحبّها الأمير موسى منذ صغره تُدعى جميلة، وكان ينوي الاقتران بها، فلمّا بلغه الخبر كتب إلى صديقه ابن عمّار يسأله إطلاق سراحها مع أُسرتها وإرسالهم إلى بشراي، فلم يردّ عليه الوالي جواباً ؛ فأظلمت الدنيا في عينيّ الأمير، وبينما كان يفكّر فيما يعمله لإنقاذ هذه الأسرة المسكينة، إذا بريموند كونت دي تولوز المعروف عند العرب بصنجيل الفرنجي يصل في سنة ١١٠٢م ويقيم عليها الحصار، وكانت جموعه قليلة، فاشتدّ ابن عمّار في مغالبته، فلم يفز من طرابلس بطائل، وبعث ابن عمّار مَن أقنعه أنّ طرابلس لا تُؤخذ وفيها أبو علي، فتحوّل صنجيل عنها لقاء مبلغ من المال، وسار يحاصر طرطوس وغيرها، وعاد الأمير موسى يكتب إلى ابن عمّار، ويذكّره بوعوده، طالباً الإفراج عن مَن سجنهم وفيهم من يحب، فلم يلق إلاّ إعراضاً.

وفتح ريموند طرطوس وحمص وعاد في سنة ١١٠٤م إلى طرابلس، فحاصرها ثانيةً برّاً وبحراً، مستعيناً ببعض النجدات من الإفرنج والوطنيّين الناقمين على ابن عمّار، لكنّ هذا الرجل الفولاذي العزيمة كان يحسن البلاء في الدفاع عنها، مستخدماً تارةً البطش وطوراً الحيلة في مماطلة الإفرنج، إلى أن أغراهم ببعض المال، فتركوه وساروا إلى جبيل، وكانت واهنة فتسلّموها سلماً، ولم يلبثوا أن عادوا إلى طرابلس، وكان صاحبها تنفّس الصعداء زمناً واستطرد التحصّن، فاشتدّ في قتالهم عهداً مديداً لا يقلّ عن خمس سنين، حتّى لقد أصبح اسمه (أبو علي) مثلاً ما زال يُضرب في لبنان حتّى اليوم لكلّ (قبضاي) متفوّق بشجاعته واستهتاره بالأخطار.

وبنى ريموند دي صنجيل على جبل الحجّاج وراء طرابلس حصناً دعي باسمه (حصن صنجيل) وأقام تحته ربضاً، فخرج فخر الملك أبو علي إليه فأحرق الربض، وكان صنجيل واقفاً على بعض سقوفه المحروقة، فانخسف به السطح ومات بعد عشرة أيّام، فحلّ ابنه برتران محلّه وواصل الحصار، وأظهر ابن عمّار صبراً عظيماً في مجالدته إلى أن قلّت الأقوات، ووفّرت الويلات فانسلّ من طرابلس ليلاً، وقصد إلى بغداد مستفزّاً صاحبها الملك السلجوقي لمعونته على إزاحة خصومه، حاملاً إليه الهدايا النفيسة، وذلك بعد أن استناب عنه ابن عمّه (أبا المناقب)، ورتّب معه الأجناد لمواصلة الحرب برّاً وبحراً، وأعطاهم (جامكية) ستّة أشهر سلفاً، فانقلب

٣٨٦

ابن عمّه في غيابه ونادى بشعار الفاطميّين، ولكنّ أصحاب أبي عليٍّ اعتقلوه وأودعوه السجن في حصن (الخوابي) حيث سُجنت الأميرة اللبنانية وأُسرتها.

ورأى أهل طرابلس أنّهم أضحوا بدون رئيس يتولّى قيادتهم، فراسلوا الأفضل أمير الجيوش في دولة المستعلي بالله ملك مصر الفاطمي، يلتمسون منه والياً يكون عليهم ومعه الميرة والذخيرة في البحر، فسيَّر إليهم شرف الدولة ابن أبي الطيّب ومعه الأعتدة والمؤن، وغيرها ممّا يحتاجون إليه في الحصار، فلمّا صار بينهم قبض على جماعةٍ من أهل ابن عمّار وأصحابه، فقتل بعضهم وسجن آخرين، وأخذ ما وجد من ذخائره وآلاته، وحملها كلّها إلى مصر في البحر.

وشعر المحاصرون بضعف المدينة بعدما صارت إليه في غياب ابن عمّار، فساروا إليها من كلّ جهة، واضطرّ الأمير جرجس وأحلافه اللبنانيّون إلى نجدتهم لإنقاذ أسراهم.

وأرسل ملك مصر إليها أسطولاً، ولكنّ ريحاً عاصفاً ثارت على الأسطول فصدّته عن الوصول، فملكها الإفرنج بعد أن طلب أهلها الأمان فأمنوهم، وأذن لهم بالخروج منها حاملين من أموالهم وأمتعتهم ما أمكنهم حمله.

جعلت طرابلس بعد هذا الحصار الطويل عملاً رابعاً من أعمال الإفرنج في الشرق، وولّى عليها برتران بن ريموند صنجيل، ووُجدت الأسرة البشراوية في دهليز من دهاليز حصن الخوابي على آخر رمق من الحياة فزفّت فتاتها (جميلة) إلى الأمير موسى، واضطرّ ابن عمّار بعد عوده من بغداد وضياع منصبه أن يلجأ إلى لبنان، فارّاً من وجه الإفرنج مستجيراً بالأمير موسى، فأحلّه هذا الأمير عنده على الرحب والسعة.

٤ - ذو المناقب ابن عمّ فخر الملك بن عمّار:

وهو الذي استنابه على ولاية طرابلس سنة ٥٠١، حين سافر إلى بغداد يستنجد السلطان محمد بن ملك شاه على الفرنج، وقد عرفت عصيانه أمر ابن عمّه ومناداته بشعار الأفضل ابن أمير الجيوش بمصر.

وهذا كلّ ما وقفنا عليه من خبره في المصادر التاريخية التي بأيدينا، ولعلّه هو أبو المناقب ممدوح بن الخيّاط.

٣٨٧

٥ - أبو الكتائب أحمد بن محمد بن عمّار:

هو معاصر لأبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الملقّب بالرحّالة الإمامي، المتوفّى سنة ٤٤٩ هـ، وبأمره ألّف له كتاب: نهج البيان في مناسك النسوان، وكتاب: عدّة البصير في حجّ يوم الغدير.

٦ - القاضي أبو طالب عبد الله بن محمد بن عمّار:

ألّف الكراجكي المذكور باسمه كتاب البستان في الفقه، وهو معنى لم يطرق وسبيل لم يُسلك، قسّم فيه أبواباً من الفقه وفرّع كلّ فنٍّ منها، حتّى حصل كلّ باب شجرة كاملة يكون نيّفاً وثلاثين شجرة.

٧ - شمس الملك أبو الفرج محمد بن أمين الدولة عبد الله بن عمّار، وهو كما يظهر ابن المترجَم له الخامس من أبناء عمار.

لم نجد له ذكراً في غير ديوان الشاعر ابن الخيّاط الدمشقي، وهو من ممدوحيه كما جاء في هذا الديوان.

وقال في مدح شمس الملك إلى آخر نسبه المصدّرة به (ترجمته) يهنّئه بولده وأنشده إيّاها بطرابلس، مستهلّها:

أترى الهلال أنار ضوء جبينه حـتّى أبان الليل عن مكنونه

٨ - شرف الدولة بن فخر الملك بن عمّار:

هو ابن فخر الملك أبي علي محمد بن عمّار المترجَم له الخامس، وهو الذي مرّت ترجمته مفصّلة، وما أبلاه في الدفاع عن طرابلس ونهاية أمره، ورد له ذكر في ديوان ابن الخيّاط الشاعر الدمشقي الآنف الذكر، وله فيه قصيدة يمدحه بها ويهنّئه بعيد الفطر والبرء، مستهلّها:

لنا كلّ يومٍ هناء جديد وعيد محاسنه لا تبيد

وهذا شرف الدولة هو الذي هنّأ أباه فخر الملك ارتجالاً بظهوره يوم ركوبه، مستهلّها:

ألا هكذا تستهلّ البدور محلٌ عليٌ ووجه منير

وقد جاء في مجلّة المباحث الطرابلسيّة للمؤرّخ المحقّق جرجي يني

٣٨٨

ذكر لقاضيين من قضاة بني عمّار لم نجده في المصادر التاريخية التي اعتمدناها في مباحث هذا الكتاب، ولعلّه استقى ذلك من مصادر تاريخية افرنجية، فرأينا أن نعتمده في ذكرهما حتّى لا يفوتنا شيءٌ ممّا يتعلّق بهؤلاء القضاة:

الأول: القاضي الحسن بن عمّار هو القاضي أبو طالب، وهو أوّل من استبدّ بإمرة طرابلس، وهو أوّل مَن ذكرناه مِن ولاة طرابلس، وقام بعده على إمارتها ابن أخيه جلال الملك الثاني أمين الدولة، فإنّه يقول:

كرّت على البلدة (طرابلس) العصور وتقلّبت الأحوال ؛ حتّى بدأ القرن الثاني عشر للمسيح فظهرت كأنّ الحيّين البحريّين قد انضمّا فصارا حيّاً ممتدّاً من الموضع المسمّى الآن فوق الريح إلى البحصاص، وثمّت حيٌ آخر عند سفح الأكمة على بعد نحو ميلين عن البحر، وبينهما مدى فسيح مملوء بالجنائن والحقول، وكان الأهلون يشغلون منه مقداراً عظيماً من قصب السكر، يقول بوركارد: إن ريعه ناهز ٣٠٠ ألف ذهب، ومنه نقل الزراعة إلى أوروبة، وكانت المدينة يومئذٍ منيعة الجانب ذات أسوار وخنادق وحصون، وقد قام فيها منذ القرن السابق قاضيها حسن بن عمّار، فامتلكها وحسّنها فارتقت واغتنت، وصارت مستودعاً كبيراً للتجارة، وداراً للعلم بمدارسها ومكاتبها، فلمّا مات سنة ١٠٧١م اختلف نسيباه جلال الملك وأمين الدولة، مع أنّ الإفرنج كانا على قرب وقد جاؤوا سورية يكتسحونها، وقد طمحت عيونهم لامتلاك طرابلس مدينة العلم والعلماء ومستودع التجارة والصناعة.

وإنّا لنستدرك هنا ما جاء في المباحث من أخبار مهاجمة الإفرنج لطرابلس، ومدافعة فخر الملك لهم، لما فيه من زيادة تفصيل عمّا أوردناه من فتح هذا البلد وانتهاء أمر حكم بني عمّار، قال: ولمّا اقترب ريمون سان جيل كونت دي تولوز، وهو المسمّى في التواريخ العربية باسم صنجيل خرج الطرابلسيّون، فحاربوه فما نال منهم إرباً بل ارتدّ عنهم ولكنّه عاد عليهم سنة ١١٠٢م فخاب - أيضاً - ولم يظفر بفتح البلد، فاكتفى بأن يضرب عليها مالاً، ثمّ ملك ذروة المرتفع من الأرض على عدوة نهر قاديشا، وأنشأ فيها محلّةً وحصّنها وأقام فيها برجاً له، فأطلق على الموضع اسم تل الغرباء أو الحجّاج، كأنّ التسمية مستفادة من الحال الذي صار إليه

٣٨٩

الموضع باحتلال قوم ريمون فيه، غير أنّ المرتفع فوق حي من البلدة وقريب منه، ولذلك أخذ ريمون بتحصينه حذراً وحيطةً، وجعل يزيد الحصن منعة حتّى صار قلعةً يأوي إليها رجاله فتشدّدت بها عزائمه، وشرع يعيد الكرّة على البلدة، ويعبث في أطرافها، ولكنّه لا يجدها إلاّ أعزّ مِن أن تُنال، وكان يستعين بسفن جنوا ولكن من غير طائل ؛ لأنّ المدد كان يأتي البلدة ويعين حماتها على دفع العدو.

وفي ذات مرّة تكاثر المدد في طرابلس فاشتدّ بهم ساعد فخر الدولة ابن عمّار، وخرج على الإفرنج في محلّتهم فامتلكها وهدم القلعة، ولكن لم يمض زمنٌ طويلٌ حتّى كرّ عليه ريمون، واسترجع الموقع وزاده تحصياً وأقام فيه يُواثب الطرابلسيين مرّةً بعد أُخرى ويزعجهم، حتّى أوشك ابن عمّار أن يعاقده على تسليم أرباض المدينة على أن تبقى المدينة له، ولكنّه قبل أن يتمّ الاتفاق حمل على الأعداء ليلاً، واعتلى تلّ الغرباء فأحرق منازل الإفرنج، فارتاعوا لاعتلاق النار في دورهم، وأسرع ريمون من القلعة بمَن معه من الرجال، وأجهدوا أنفسهم فردّوا الهاجمين على الأعقاب، إلاّ أنّ النار علقت بريمون فآذته وأفضت به إلى الموت متأثّراً منها.

وفي روايةٍ أُخرى آثرها العلاّمة سوبرنهايم عن ريمون أنّه أصابته النار من نوافذ البيوت المحترقة، فأحدثت في جسمه حروقاً ذات شأن أفضت به إلى الموت بعد أيّام فقضى في ١٠ جمادى الآخرة سنة ٥٩٨ هـ - ٢٧ شباط سنة ١١٠٥م، عاهداً بالإمارة من بعده لابن أخيه الكونت كليوم جوردان دي سرداين، فأقام على مثاغرة البلدة وزادها ضغطاً وبلاءً سيّما إذ حاول منع أخذها الميرة والزاد من عرقة إلاّ أنّ حصانة البلدة وشدّة بأس أهليها حالا دون تمكّن الأعداء منها، ولم يضرّها إلاّ ما وقع بين زعمائها من التضغّن والخلاف، لأسباب لا يسعنا بسطها لضيق المجال، فأفضى بها ذلك إلى التخاذل وإلى الوهن، على أنّ المحاصرين لم يسلموا أيضاً من دبيب المطامع والتحاسد إليهم ؛ لأنّهم فيما كانوا على وشك أخذ طرابلس، جاءهم من أوروبة الكونت برتران دي تولوز وهو ابن ريمون مطالباً بالإمارة خلفاً لأبيه، فعارضه ابن عمّه بوصاية ريمون واعتصب لكلٍّ من الفريقين حزبٌ من قومهم، فكان أمير أنطاكية من أنصار كليوم، وكان ملك القدس طهيراً لابن ريمون، ولو لم يتدارك هؤلاء الأنصار الأمر لوقع الخلف والشقاق

٣٩٠

ولكنّهم اتفقوا على العهد بإمارة طرابلس وجبيل للكونت برتران بن ريمون وإعطاء طرطوس حتّى عرقة لابن عمّه كليوم.

وبهذا فضّ الخلاف واتّفق الجميع فشدّدوا الحصارعلى المدينة، واستطالوا عليها برّاً وبحراً، حتّى فازوا بفتحها صلحاً(١) في (٣ ذي الحجّة سنة ٥٠٢هـ) ٤ تموز سنة ١١٠٩م بعد إذ جرت على قتالهم سبعة أعوام أو تزيد.

____________________

(١) قد تقدّم فيما ذكر أكثر المؤرّخين فتحها عنوةً، وممّن ذكر ذلك ابن خِلّكان في ترجمة الأمير بأحكام الله الفاطمي، وأنّ فتحها كان لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ٥٠٢ وفي تاريخ فتحها خلاف سنعرض له في مكانٍ آخر إن شاء الله.

٣٩١

نكبة مكتبة بني عمّار من الفرنج وأقوال المؤرِّخين

رأينا أن نفرد فصلاً خاصّاً في هذا الكتاب للبحث عن مكتبة بني عمّار التي تُعد من أعظم آثارهم، إلى ما كان لهم من مآثر عمرانيّة في مدينة طرابلس، ونفي استبعاد محتوياتها كما أحصاها المؤرّخ ابن فرات، ونفي استبعاد وحرق الفرنج لها وهذا تتمّة ما سبق إجماله وما يليها من هذا الكتاب.

أمّا محتويات هذه المكتبة والاختلاف في عددها، فقد عرفت ممّا سبق أنّ هناك مَن يقول كابن الفرات بمناهزتها ثلاثة ملايين، ومَن يقول بنزولها إلى مئة ألف، وهما بين إفراط وتفريط، ونرجّح أنّ العدد هو دون ما يقول ابن الفرات، وأكثر ممّا يقوله الآخر، ولا نستبعد أن يكون عددها قد بلغ زهاء نصف المليون، وهذا العدد هو أقرب إلى المعقول، فإنّ عناية المسلمين في التأليف وجمع الكتب في عصر ازدهار العلوم والعرفان في البلاد الإسلامية بلغ مبلغاً عظيماً، فقد نقل المؤرّخون عن طائفةٍ من العلماء مَن جمعوا على انفرادهم ما يزيد على مئة ألف مجلّد، فقد رووا أنّ الشريف المرتضى احتوى مكتبةً كان عدد كتبها مئة ألف وعشرين ألف مجلّد، وأنّه تخلّف بعد إهداء ما أهداه منها عن ثمانين ألف مجلدٍ، وأنّ الصاحب بن عبّاد كان يحتاج إلى ثلاثمئة جمل لحمل كتبه، وقد استقرب صاحب خطط الشام أن يكون ما أحصاه ابن الفرات قريباً من الواقع، بأن تكون ثلاثة الملايين هو كلّ ما في مكاتب طرابلس مع مكتبة بني عمّار، كما نقلنا ذلك سابقاً، وقال دافعاً الاستبعاد:

(ولا ينبغي أن يذهب عن الخاطر أنّ ما كانوا يسمّونه جزءاً أو مجلداً

٣٩٢

أو مجلّدة لا يتجاوز بضع كراريس من كرّاساتنا، والكرّاسة قد لا تكون أكثر من ثمان صحائف، بمعنى أنّ ألف المجلّدة أو المجلّد لا تبلغ في مصطلحنا أكثر من خمسين أو ستّين أو سبعين كتاباً، فكان المجلّد في تلك العصور قليل الأوراق ؛ لأنّ الورق أو الرق غليظ، فإذا جعل كلّ مجلّد مئتين أو ثلاثمئة أو أربعمئة أو خمسمئة ورقة يصعب تناوله وحمله ونقله، ولا يصحّ ما قاله ابن الفرات من أنّه كان في دار العلم في طرابلس ثلاثة آلاف ألف يوم نكبتها، إلاّ على هذه الصورة، أي: أنّ كتبها كانت بين مئتين وثلاثمئة ألف، ومنها أجزاء صغيرة ورسائل، وقد يكون الجزء من كتاب لا تتجاوز سطوره سطور مقالةٍ من مقالاتنا، أو إملاءة من أمالينا، أو محاضرة أو مسامرة من محاضراتنا ومسامراتنا اليوم).

وقد عرفت فيما سبق في مبحث تاريخ طرابلس، أنّ الرحّالة الفارسي ناصر خسرو قد ذكر في رحلته أنّه مرّ بها سنة ٤٣٨ هـ، ووصفها في رحلته وصفاً دقيقاً، وذكر من معاملها الكثيرة لمختلف الصناعات معمل لورق الكتابة كمعمل كاغد سمرقند، وكانت في ذلك العهد في حوزة ملوك مصر الفاطميّين، وأنّهم أعفوها من أداء الضرائب ؛ لأمانة أهلها في واقعة سابقة، انهزم فيها الروم، وفي وجود مثل هذا المعمل للورق ما يسهل على المؤلّفين والناسخين: التأليف والنسخ وصناعة الوراقة، التي كانت تشبه مهنة الصحافة والطباعة في هذه الأيّام، أضف إلى ذلك انصراف الهمم في تلك العصور إلى الرغبة في العلم والتعليم، وتوفّر العزائم على جمع الكتب، وإذا علمت أنّ بلاد الشام كانت في ذلك العهد من البلاد التي كان يرتحل إليها في طلب العلم، وكانت طرابلس من قواعد البلاد الشامية، وكان لها شأو رفيع في العمران، وقد دخلت في حكم الفاطميّين سنة ٣٦٠.

وقد كان عصرهم منذ افتتحوا الديار المصريّة والشاميّة عصر علم وعصر منافسة في العلم، وحسبهم في ذلك أثرهم الخالد (الجامع الأزهر) الذي كان وما يزال إلى اليوم الجامعة الكبرى للعلوم الإسلامية، وغيرها من مختلف العلوم والفنون، فلا يستبعد والحالة هذه أن تكون طرابلس وقد أصبحت قاعدةً من قواعد مدنهم الساحليّة، ولها مكانها من حيث الموقع ومن حيث تهيئة أسباب استبحار العمران فيها، أن تساهم مساهمةً عظيمةً في هذه الناحية من نواحي الحياة، وأن يكون لبني عمّار قضاتها منذ حلوّها وأقاموا فيها، وأصبحوا

٣٩٣

أمراءها والمستبدّين بأحكامها، وقد امتدّت سكناهم فيها مدّةً طويلةً منذ سنة ٤٤٠ أو ما يتقدّم هذا التاريخ إلى أن سقطت من أيديهم.

وهل يُستبعد، وقد أصبحت بلداً علميّاً، أن تحتوي مكاتبها العدد الذي أحصى ابن الفرات به كتبها، أو ما يزيد على تقدير مَن قدّره بمئة ألف.

وكيف ينكر على بلدٍ بلغ ما بلغ من العمران والترفيه، وحوى من معامل الحرير خاصّةً، دون دخول الإفرنج إليها أربعة آلاف معمل دع المعامل الأُخرى، وأصبح محجّة للعلماء يغشونه من كلّ صوب، فقد قيل إنّ أبا العلاء المعرّي كان ممّن قصدوه للاستفادة من مكاتبه، وعرفت أنّ الرحّالة الكراجكي كان ممّن غشيه وألف عدّة مؤلّفات باسم بعض قضاته وأهله، وكان ذلك في العقد الرابع والخامس من القرن الخامس الهجري، كيف نكر على مثل هذا البلد، وهو على الحال التي وصفناها، أن تحتوي مكتباته العامّة ومكتبة بني عمّار العدد الكثير من الكتب.

إنّ غير ابن الفرات من المؤرّخين إن لم يعرض لإحصاء عدد ما حوته مكتبة بني عمّار من الكتب وغيرها من المكتبات، فقد جاء في عرض كلامهم عند استيلاء الفرنج على طرابلس عنوةً ما يدلّ على الكثرة التي تتجاوز أقلّ الإحصاء الذي اعتمده بعض المؤرّخين وهو مئة ألف مجلد، فيقول ابن الأثير:

ونهبوا (الإفرنج) ما فيها (طرابلس) وأسروا الرجال، وسبوا النساء والأطفال، ونبهوا الأموال، وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة، وكتب دور العلم الموقوفة ما لا يُحد ولا يُحصى.

وقال ابن القلانسي:

(وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر علمها وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يُحد عدده ولا يُحصر فيُذكر).

وقال ابن خِلّكان في ترجمة الآمر بأحكام الله:

(وأخذوا طرابلس الشام بالسيف، يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة سنة ٥٠٢، وكان أخذهم لها بالسيف، ونهبوا ما فيها واسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وحصل في أيدهم من أمتعتها وذخائرها وكتب دار علمها، وما كان في خزائن أربابها ما لا يُحد ولا يُحصى).

جاء في خطط الشام:

وكان الحسن بن عمّار قاضي طرابلس للفاطميّين والمتغلّب عليها، أقام في طرابلس دار حكمة أو شبه مدرسة جامعة، على نحو دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله في مصر سنة ٤٠٠.

٣٩٤

وفيه: ولم تعهد الشام دار حكمةٍ إلاّ في القرن الخامس، أنشأها بنو عمّار في طرابلس.

وكان في كلّ من كفر طاب والمعرّة، في زمن أبي العلاء المعري، خزانة كتب، وقد زارهما كما زار خزانة طرابلس. وهذه الخزانة كانت قبل بني عمّار خلافاً لما وهم بعض المؤرّخين المعاصرين ؛ لأنّ القضاة بني عمّار لم يستولوا على طرابلس إلاّ بعد الأربعين وأربعمئة، وكان أبو العلاء المعرّي زار طرابلس قبل هذا التاريخ، أي في أواخر القرن الرابع، وانتفع بخزانتها وكتبها الموقوفة، وأوّل مَن حكم من قضاة بني عمّار: أبو طالب عبد الله بن محمد بن عمّار في دولة المستنصر الفاطمي، في حدود سنة ٤٤٠.

وقد تقدّم سابقاً عن أوّل مَن وقف مكتبة بني عمّار من قضاة بني عمّار هو أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمّار ثمّ تجديد الأمير علي بن محمد بن عمّار لدار العلم سنة ٤٧٢، ثمّ طبع الأمير فخر الملك عمّار بن محمد بن عمّار على غرارهم.

وقد تقدّم ما نقلناه عن المؤرّخ جرجي يني ما احتوته هذه المكتبة من مختلف العلوم والفنون.

أمّا حرق الإفرنج لهذه المكتبة ن فقد أنكره البعض من متأخّري المؤرّخين، وحجّتهم أنّ متقدّمي مؤرّخي المسلمين لم يذكروه، وأنّه قد تفرّد بذكره ابن طي، وأنّ مؤرّخي الفرنج لم يعرضوا له، ولكنّ شيئاً من ذلك لا ينهض بحجّة النافي، وما كان سكوت مَن سكت عن ذكر حرق هذه المكتبة من مؤرّخي المسلمين دليلاً على العدم، وأمّا سكوت مؤرّخي الصليبيّين فلعلّه كان كما استظهر المؤرّخ يني ستراً لزلة قومهم، ولعلّ ذكر ابن طي خبر الحرق الذي لم يذكره مَن تقدّمه من المؤرّخين، مبنيٌّ على اطّلاعه من خبره ما لا يطلع عليه أولئك، ومََن يعرف سيرة مؤرّخي المسلمين مِن البحث والتحرّي عمّا يدوّنونه، لا يرمي هذا المؤرّخ الثبت بالاختلاق والافتراء.

على أنّ مِن مؤرّخي الإفرنج وبعض أهل الاستشراق، منهم مَن ذكر خبر حرق الصليبيين لهذه المكتبة ؛ فقد جاء في كتاب لغة التاريخ والجغرافية الذي نشره مسيو بويه أن الصليبيين أحرقوا تلك المكتبة الثمينة.

وذكر المستشرق (رونه دوسو) في مقالته التي كتبها برسم انسيقلوبه دي الكبير، وبحث فيه عن أحوال طرابلس الشام العامّة: (أنّ مستخلصي

٣٩٥

القدس من النصارى أحرقوا تلك المكتبة العربية الطائرة الصيت).

ثمّ إنّنا لا نعرف وجهاً لاستبعاد حرق الصليبيين لهذه المكتبة، وهم كانوا كما وصف روبرنسون المؤرّخ الإنكليزي، وغير أهل أوروبا بما هذا خلاصته:

(هو أنّه في الزمن الذي كان يتدارس به العرب هذه العلوم، وينشرونها في بلادهم، كانت أهالي أوروبا في حالة لا زالوا هم ذواتهم يندبونها حتى اليوم، ولم يستفيقوا من ذلك الجهل المفرط، والنوم العميق إلاّ بواسطة شروعهم في تلك الغزوات الصليبية الوحشيّة، التي أجروها مع المسلمين، بقصد استخلاص الأراضي المقدّسة من أيديهم، حيث مرّوا في غزواتهم هذه، وسيرهم جهة بلاد أورشليم بأراض نضرة ؛ لحسن زراعتها أكثر من أراضيهم، وبدول متمدّنة أكثر من تمدّن دولهم)(١) .

وما يمنع قوماً هذه صفتهم، وهم لا يعرفون قيمة الكتب وقيمة هذه المكتبة، وقد دخلوا طرابلس بعد محاولة دخولها بضع سنين دخول الثائر المنتقم، وهو لا يتحرّج عن قتل النفوس البريئة، وهدم معالم العمران ودك القصور على الحضيض، وإعفاء ما في هذا البلد من آثار عمرانيّة، أن ينتقم غمار جيشه المتغلّب في جملة ما انتقم من تلك المكتبة بحرقها، وهو لا يعرف قيمتها، بل قد يرى في حرقها وهي عزيزة على أهلها أبرز آثار إرواء غليل المنتقم الحاقد، يقول صاحب صنّاجة الطرب:

أمّا العرب، فإنّه لم يبق عندهم من تلك المكاتب التي أشرنا إليها بأنّهم جمعوها، والمدارس التي شيّدوها، حتّى ولا ذكرها، فكأنّ دولة علومهم كانت مرتبطةً بدولهم السياسيّة، التي منذ أضاعوها أضاعوا كلّ هذه العلوم والمعارف معها ؛ إذ إنّه لم تسقط دولة من دولهم، سواء كانت في المغرب أو في المشرق، إلاّ وهدمت جيوش أعدائهم مدارسها، وأشعلوا نيران حقدهم في مكاتبها.

وفي مجلّة المقتطف:

لمّا افتتح الأسبانيّون تلاد البلاد (الأندلس) واستخلصوها من يد العرب على ما رواه بعض المؤلّفين، فإنّ كردينالهم المسمّى شيمنز أمر بحرق ثمانين ألف كتاب في ساحات مدينة غرناطة بعد

____________________

(١) صنّاجة الطرب.

٣٩٦

استظهارهم عليهم في سنة ٨٩٨ للهجرة سنة ١٤٩٢م، إلى أن قال نقلاً عن مؤرّخ إسباني يُقال له ربلس: بأنّ الأسبانيّين أفنوا ألف ألف وخمسة آلاف مجلّد، كلّها خطّتها أقلام العرب، وأنّهم ظفروا بثلاث سفن كانت مشحونةً بالمجلّدات العربية الضخمة طالبة ديار سلطان مراكش، فسلبوها وألقوا كتبها في قصر الأسكوريال إلى سنة ١٦٧١م ١٠٨٢هـ حيث لعبت بها النيران فأكلت ثلاثة أرباعها، ولم يستخلصوا منها إلاّ الربع الأخير، حين استفاقوا من غفلتهم، ففوّضوا إلى رجلٍ ماروني من أهالي طرابلس يُقال له ميخائيل القيصري، فكتب لهم أسماء ألف وثمانمئة وإحدى وخمسين كتاباً منها.

هذا ما جرى من الأسبان في عصر بدء يقظة أوروبا من غفلتها، وفي زمن تطلّعها إلى الأخذ من علوم العرب واحتذاء مدنيّة العرب، فما بالك فيما سبق هذا العصر بقرون على غفلة أوروبا وتسكّعها في مجاهل جهلها، فلا جرم أن يكون ما نُقل عن حرق مكتبة بني عمّار ومكتبات طرابلس صحيحاً.

على أنّ تناول أيدي الفاتحين المتغلبين ولا سيّما مَن كانوا على شاكلة الإفرنج ين غزواتهم البلاد الإسلامية، من حيث الانغماس في الجهل والارتطام في حمأة الحقد والانتقام، إلى تدمير معالم العمران وثل صروح العلم وإتلاف محتويات مكتباتها، ممّا درج عليه أولئك المتغلّبون، وكان عظيم بلائهم منصبّاً على العلم، انصبابه على مَن أوقعه القدر في قبضة سلطانهم وتحت حكم سيفه، فكان أمثال هذا البلاء منصبّاً على مدارس بغداد وكتب علومها، من هولاكو وتيمورلنك ومَن سلفه جنكيزخان على مدارس سمرقند وبخارى وإيران.

وهكذا الحال في كلّ بلدٍ تمكّن منه الغالب، من حيث الجناية على العلوم وكتبها ومدارسها، وحسبنا فيما ذكرناه من هذه الجملة - وهي غيضٌ من فيض وقطر من بحر - ما يكفي في التدليل على عدم استبعاد حرق الإفرنج لمكتبة بني عمّار ومكتبات طرابلس، بل وعلى وقوع ذلك كما يذكره ابن طي.

٣٩٧

حدود إمارة طرابلس في عهد القضاة بني عمّار

أمّا تحديد هذه الإمارة في عهد قضاتها بني عمّار، فلم نجد فيه كلاماً واضحاً تطمئنّ إليه نفس الباحث، فهو كغيره من الأبحاث المتعلّقة بالأمراء بني عمّار من عدم الوضوح، إلاّ أنّه يمكننا الاستنتاج من تضاعيف كلمات المؤرّخين أنّها كانت على شيءٍ من الاتّساع، وإن لم تحدّد تخومها.

فقد عرفت ممّا سبق في ما نقلناه عن الشريف الإدريسي المتوفّى سنة ١١٨٧، حيث وصفها بقوله: مدينة عظيمة، عليها سور من حجرٍ منيع، ولها رساتيق وأكوار وضياع جليلة.

ولعلّ ما يذكره القلقشندي في صبحه في تحديدها ما يمكننا معه استصحاب أنّها كانت في عهد الأمراء بني عمّار مشتملة على ذلك التحديد أو ما يقرب منه، فقد قال:

(وحدُّها من القبلة جبل لبنان، ممتدّاً على ما يليه من مرج الأسد، حيث يمتد النهر العاصي، وحدُّها من الشمال قلاع الدعوة، وحدُّها من الغرب البحر الرومي.

وأعمالها على قسمين (الأعمال الكبار ) التي يكاتب نوّابها من الأبواب السلطانية، وهي على ضربين:

الضرب الأوّل: مضافاتها نفسها، وهي ستّ نيابات:

الأوّل: حصن الأكراد

الثاني: عمل حصن عكار

الثالث: عمل بلاطُنُس

الرابع: عمل صهيون

الخامس: عمل اللاذقية

السادس: عمل المرقب.

(الضرب الثاني : قلاع الدعوة، وهي سبع قلاع عظيمة الشأن، رفيعة المقدار، لا تُسامى منعةً ولا تُرام حصانةً، وكانت أوّلاً كلّها مضافة إلى طرابلس، ثمّ نُقلت مصياف منها إلى دمشق، والبقيّة على ما كانت عليه من إضافتها إلى طرابلس، وهي ستّة أعمال.

٣٩٨

(الأوّل: عمل الرُصافة.الثاني: عمل الخوابي.الثالث: عمل القَدَمُوس.الرابع: عمل الكهف.الخامس: عمل المنَقة.السادس : عمل العُلّيقة.

(القسم الثاني: الأعمال الصغار.

الأوّل: عمل انطرطوس. الثاني: عمل جُبة المنِيطَرة. الثالث: عمل الظنيين. الرابع: عمل بَشَرّيه. الخامس: عمل جَبَلة. السادس: عمل أَنَفة).

ولا مراء أنّ هذه الحدود كانت تضيق وتتّسع، وكان يُضاف إليها بعض الأعمال، ويتغلّب على البعض الآخر تبعاً لتقلّبات ذلك الزمن، الذي كان الاستبداد فيه بالأعمال من ذوي الأعمال سنّة متّبعة، وقوّة الغالب هي كلّ شيءٍ في عرف متغلّبي تلك الأيّام، والبلاد كالأُكرة في يد اللاعب، والخلافة الفاطميّة في أدوار التقهقر، والغزوات على بلادها متدفقة من هنا وهناك. ومثلها كانت الخلافة العبّاسية، مقطّعة الأوصال، تقوم سلطنةٌ على أنقاض أُخرى وإمارة على تقليص ظلّ إمارة، ووراء ذلك طموح الروم إلى اجتياح البلاد، ثمّ الغزو الصليبي، قال ابن الأثير في كامله الجزء العاشر ص ٢٠٩ / ١:

(على أنّ إمارة طرابلس التي استطاعت في عهد بعض قضاتها، وخاصّةً في عهد آخرهم فخر الملك: أن تقف في أتي الغزو الصليبي سبع سنين وما يزيد، وتنفق ما تنفق من الأموال والأعتدة في سبيل ذلك الموقف، من المستبعد حقّاً إن لم يكن من المستحيل عادةً وعرفاً، أن تقوم بتلك المقاومة، وسلطانها محصور في البلد وأرباضها منها فحسب، وقد عرفت من تضاعيف هذه المباحث: أنّ انطرطوس وجبلة والخوابي وجبيل وعرقة(١) ، كانت داخلةً في سلطان إمارتها في عهد بني عمّار(٢) .

وكيف كان، فإنّا لا نستبعد أن يكون ما حدّده صاحب صبح الأعشى هو القريب من الواقع في عهدة إمارة بني عمّار.

____________________

(١) قال المؤرّخ جرجي يني: والظاهر من بعض الروايات أنّ عرقة وجبيل كانتا إذ ذاك من أميريتها (طرابلس).

(٢) ويظهر أنّ حصن أوتاج قد ضُمّ إلى إمارة طرابلس في عهد فخر الملك سنة ٤٩٧ (القلانسي ص ١٤٨) ينظر تاريخ ابن الأثير ج ١٠ ص ١٦٤.

٣٩٩

تاريخ طرابلس بعد استيلاء الفرنج عليها إلى العصر الحاضر

قد رأينا بعد كتابة هذه الفصول، وقد احتوت مع تاريخ بني عمّار قسماً كبيراً من تاريخ طرابلس، أن نستوفي تاريخها من العهد الصليبي، فتخليصها منهم إلى العصر الحاضر، ليجيء تاريخنا هذا تاريخاً لبني عمّار، وتاريخاً لهذا البلد الخالد ؛ لتكون الفائدة أعم والبحث أتم.

تراجع مدينة طرابلس في عهد حصار الفرنج لها واستيلائهم عليها

كانت طرابلس في عهد بني عمّار مشهورة: بغنى طبيعتها، وحسن رونقها، ونجاحها، وكانت حاصلاتها غزيرة جدّاً، حتّى أنّ السهول والتلال والأكم المجاورة كانت مصدر الكثير من الغلال الفاخرة والزيتون والحرير، بالإضافة إلى ما كان هنالك من قصب السكّر والكرْم وأنواع الفاكهة والأشجار.

وحسبنا بذلك شهادة المؤرّخ ميشود الذي تبع قوله بقوله:

إنّ في المدينة أكثر من أربعة آلاف نول لنسج الأقمشة الصوفية والحريرية والقطنية، غير أنّ قسماً كبيراً من هذا الغنى بات طعاماً لانتقام الإفرنج، أو معطّلاً من جرّاء حروبهم وحصارهم الطويل، فإنّهم كانوا في زمان الحصار قد أضرّوا بجوار البلدة، ولمّا تملّكوها لم يعتنوا بما فيها من المعامل الصناعية، فانحطّت انحطاطاً عظيماً.

ولم يكن ما ذكر لكلّ ما اشتهرت به طرابلس من الغنى في ذلك الزمن، فإنّ خزائنها كانت قد مُلئت من الكتب المفيدة، التي أحالها الإفرنج رماداً(١) .

____________________

(١) تاريخ سورية ليني.

٤٠٠