تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني13%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113687 / تحميل: 9455
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

على طريق الساحل، وكان معهم الشيخ ظاهر حاكم الزاوية، ويوسف الشمر مِن كفر حانا، فعسكر الجبل شتّت المتاولة، فهرب بعضهم إلى ناحية بعلبك، وفرّ بعضهم في وادي المسيحان نحو الساحل، فالتقاهم العسكر الآتي مِن الساحل، فنكّل بهم، واحرق مزارعهم الّتي كانت بساحل جبيل، ولكنْ بينما كان بشارة كرم عائداً مع رجاله تحت المغيرة كَمِنَ له بعض المتاولة فقتلوه وستّة مِن رجاله.

وفي سنة ١٧٦٤م (ص٤٢٣): توجّه مشايخ الجبة إلى الأمير منصور الشهابي، فولاّهم على بلادهم، وأمدهم أيضاً بمُحافظين لردع المتاولة عن التعدّي، فلم يكن ذلك كافياً لكبتهم عن إقلاق أهل البلاد، إلى أن كان ما ذكرناه في عدد ١٠٤٢ مِن أن المشايخ الحماديّة دهموا الأمير بشير حيدر نائب الأمير يوسف في بلاد جبيل (تقدّم ذِكر ذلك).

وفي سنة ١٨٦١م وضع المشايخ المذكورون يدهم على بكاليك المتاولة واستمروا على ذلك إلى أن صالح المشايخ أهل القرى البكاليك على حقوقهم بها أو باعوهم هذه الحقوق.

ما كتبه الخالدي في تاريخه: لبنان في عهد الأمير فخر الدين المعني عن المشايخ الحماديّة:

في سنة ١٠٢٦هـ ١٦١٧م: وصل إلى الأمير علي - ابن الأمير فخر الدين المعني - وهو بصيدا خبر أنّ الأمير سليمان بن سيفا في برج تولا انحصر؛ وسبب ذلك أنّ أولاد حمادة وأولاد الشاعر وقفوا عند الأمير سليمان لمّا حَكَمَ البلاد، وجعلوا يُحسّنون له إبعاد جماعة ابن معن عنه، وقالوا له:

لا ينالك منهم إلاّ الكُلفة عليهم، ونحن لا نُحوجك إليهم. فأعطى إجازة لمَن كان عنده منهم، وهم أولاد الخازن والكساردة، وما بقي عنده أحد منهم يُناظر المذكورين، فعند ذلك كاتب أولاد حمادة وأولاد الشاعر يوسف باشا، فعين رجالاً كبسوا الأمير سليمان في تولا وحصروه في البُرج، فأرسل الأمير سليمان يُعلم الأمير عليّ بن معن بما كان، وفي الحال عيّن الأمير علي رجال بلاد صيدا مع مصطفى كتخدا، ورجال الغرب والجرد مع الأمير ناصر الدين، ورجال المتن مع بيت أبي اللمع المُقدّمين،

١٤١

ورجال كسروان مع طويل حسين بلوكباشي، فتوجّه الجميع برجالهم، وأرسل أيضاً إلى حسين اليازجي أن يتّجه إلى صيدا برجال بلد صفد وبلاد بشارة والشقيف حتّى لو احتاج الأمر يتوجّه الأمير علي نفسه ويأخذهم معه، فمع وصول حسين اليازجي - وكان وصوله لصيدا في شهر ربيع الثاني - بالرجال وصلت الأخبار أنّ الأمير سليمان سَلّم؛ لعدم وجود العازق، وقلّة وجوده عنده، وأخذوه إلى عمّه بترسيم حَشَمه إلى عكار، وكان ذلك في شهر جمادى الآخر مِن السَنة المذكورة، ولمّا واجه حسين باشا الجلالي سابقاً أرسل عمّه يوسف باشا دفع على سكّ الأمير سليمان خمسة وعشرين ألف قرش، وكان مصطفى كتخدا وصل بالرجال الّذين معه إلى نهر إبراهيم، فتشاور الأمير علي مع حسين اليازجي فاعتمد أريهما أنّهما يأمران العساكر الّذين تَقدّموهم أن يصلوا إلى قُرى أولاد حمادة وأولاد الشاعر لينهبوهم ويُحرقوهم، ففعلوا ذلك، وعاد كُلّ منهم إلى موضعه.

وفي سنة ١٠٣٠هـ ١٦٢٠م: وقد تقدّم ذِكر هذه الحادثة الّتي يذكرها الخالدي في هذه السَنة فلا يُفيد ذكرها.

هذا كُلّ ما كَتبه الخالدي عن الحماديّة.

ونقف فيما وقفنا عليه مِن المصادر عند هذا الحدّ، باحثين عن مصادر تاريخيّة أُخرى نعرض لذكرهم وذكر أواخرهم، والله المُوفّق والمُسدّد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

صار الانتهاء مِن كتابة هذا التاريخ عن هذه الأُسرة الّتي لعبت دوراً مُهمّاً في عهد الأحكام الإقطاعيّة صبيحة يوم الأحد في ١٣ جمادى الآخرة سنة ١٣٦١، و٢٨ حزيران سنة ١٩٤٢.

إنّ ما دونْتُهّ مِن تاريخ هذه الأُسرة هو ما رواه مَن عزوته إليهم مِن المُؤرِّخين، ولم نعلم مصادره، وهو لا يختلف عمّا كتبوه عن غير هذه الأُسرة مِن الأُسر اللبنانية غير معزوّة في جُلّها إلى مصادر معروفة، وكان واجبهم التاريخي يُحتّم عليهم أنْ يستمدّوا معلوماتهم مِن رجالات الأُسر، ولكنّهم لم يفعلوا ذلك.

وإنّ مَن يدّعي انتسابه إلى عشيرة، فالعادة المُتّبعة في الأنساب أن تُقرّ دعواه إلى أنْ يَعرض ما يُفسدها بدليل مقبول، والحماديّون معروف عندهم متناقل لديهم أنّهم عَرَبٌ أقحاح ينتسبون إلى هاني بن عروة المذحجي، وإنّ

١٤٢

أوائلهم كأوائل كثيرين مِن العرب الّذين كانوا يُهاجرون مِن بلادهم إلى البلاد الّتي انضوت تحت لواء السُلطان العربي الإسلامي لدوافع وعوامل كثيرة، وما زال في بلاد الفُرس، وفي غيرها مِن بلاد الأعاجم مَن هو مُحتفظ بنَسَبِه العربي.

ولمّا وقع بينهم وبين شاه إيران ما وقع، هجروا إيران بعشائرهم البالغة ثلاثين أُسرة إلى البلاد الشاميّة، فأقاموا في بعض جهات حلب مُدّة ثلاثة أشهر، ولمّا كانت لهم قواعد خاصّة في الزواج فلا يُصاهرون غير ذوي أرحامهم، فأراد بعض رجال عرب الموالي مُصاهرتهم على كريمة مِن كرائمهم، فأبوا ذلك عليه تَمسّكاً بتلك العادة، وأدّى ذلك إلى نزاع فحرب بين الفريقين، انتهى بفوز الموالي لكثرة عددهم، ولانضمام الكثير مِن القبائل العربيّة في تلك البوادي إليهم، فاضطرّوا للنزوح إلى لبنان وسُكنى القُرى الّتي دخلت في إقطاعهم، وامتدّ حُكمهم فيها إلى العهد الّذي ألغت فيه الدولة العثمانية الحُكم الإقطاعي مِن البلاد الشامية.

أمّا الأُسر الثلاثون المُنتمية إلى الحماديّة، فهي كما تلقيت ذلك في الهرمل عن الزعيم الكبير المرحوم محمّد سعيد باشا:

١ - شريف، ٢ - الحاج يوسف، ٣ - مِلحم، ٤ - زعيتر، ٥ - شمص، ٦ - ناصر الدين، ٧ - عواد، ٨ - دندش، ٩ - علّوه، ١٠ - جعفر، ١١ - المقداد، ١٢ - حجولا، ١٣ - قمهز، ١٤ - خير الدين، ١٥ - النمر، ١٦ - نون، ١٧ - الحاج حسن، ١٨ - جنبلاط، ٢٠ - بلوط، ٢١ - المستراح، ٢٢ - الحجل، ٢٣ - صفوان، ٢٤ - علام، ٢٥ شقير، ٢٦ - بدير، ٢٧ - حيدر أحمد، ٢٨ - عمرو، ٢٩ - أبو حيدر، ٣٠ - همدر.

١٤٣

١٤٤

تاريخُ البويهِيّين

الحمد لمَن له الحمد، ومَن إلى جلاله ينتهي كلُّ مجد، المخصوص بالكبرياء والجبروت، والمُلك والملكوت، مُصرّف الأُمور مِن حال إلى حال، ومُقلّب القُلوب والأبصار، يَعزّ مَن يشاء ويُذل مَن يشاء، بيده الأُمر وإليه مرجع العباد، والصلاة على أفضل مبعوث خُتمتْ بنبوّته النبوّات، وانتهت إليه الباقيات الصالحات، وعلى آله المخصوصين بالكرامات، وأصحابه القادة الهُداة.

وبعد، فإنّا نُدوِّن بهذا الجُزء مِن أجزاء تاريخ الشيعة السياسي أخبار مُلوك بني بويه، الّذين بلغوا مِن النُفوذ والسلطان في عهدِ تراجُع الخلافة العباسيّة ما سَتَراه مبسوطاً في هذا الجُزء إن شاء الله.

أوَّليَّتُهُم:

لم يكن لأوَّلهم سابق إمرة، ولا عهد في ولاية، بل ولا مَرفق مِن مَرافق الحياة يَدرُّ عليهم بالثروة، ويُمتّعهم بالرخاء، ويرفه عليهم ولو بعض الترفيه، بل اتّفق مَن أرّخ أوَّليتهم أنّ بويه - مُنجِب المُلوك البويهيّين ومَن إليه ينتسبون - كان يرتفق مِن كُلِّ مرافق الحياة، ويحترف مِن كُلِّ ما فيها مِن حِرف، لا لتحصيل دُنيا واسعة أو ثروة طائلة أو مُلك ثابت، بل لبُلوغ أيسر بلغة يبلغ بها الكَفاف، فحسب حِرفة صيد السمك، ويَحتطب بنوه الحَطب على رؤوسهم، حتّى كان مُعزّ الدولة بعد تَملُّكه البلاد يَعترف بنعمة الله تعالى، ويقول: كُنتُ أحتطب الحطب على رأسي.

وأمّا ابن خلدون، فإنّه يقول: إنّ بويه كان مِن رجالات الدَيلَم.

١٤٥

رُؤيا بويهٍ وتَأَويلُ المُنجِّمِ لها:

ذَكرَ هذه الرُؤيا غير واحد مِن المؤرّخين، ومنهم: ابن الأثير في كامله، وابن كثير في بدايته، وابن الطقطي في الآداب السلطانية. وسكت عن روايتها ابن خلدون وأبو الفداء، ولا نذكرها؛ لأنّه لا يَتعلّق بها كبيرُ أمر.

ومُلخّص تأويل المُنجّم لها بامتلاك أولاده الثلاثة وأعقابهم، وهُم: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة علي أبو الحسين، ومعز الدولة أبو الحسن أحمد. وهذه هي الحال في كلّ دولة ناشئة أن تكثر لها الرؤى ويَرهص لها المُرهّصون.

جيلُهُم:

إن البويهيّين لم يكونوا مِن جيل الدَيلم، وإنّما قيل لهم الديالمة؛ لأنّهم جاوروا الديلم وكانوا بين أظهرهم مدة.

العظاميّة بعد العصاميّة:

لا مُشاحّة أنّ دولة البويهيّين لم تَقم على أساس النَسَب العالي والقبيلة وعَصَبيّتها القاهرة، بل قامت على العبقريّة والعصاميّة والطموح، وتمكين أطراف المُلك العبّاسي الواسع المُضطرب والمُنتقص مِن الأيدي الغاصبة مِن ذلك الطموح، فالتَوثّب على غرار المشوبين مِن هُنا وهناك، ولا سيّما في البلاد النائية عن عاصمة الخلافة، على هذا الطموح وتلك العصاميّة، وما يحمل مؤسّس المُلك البويهي مِن جُرأة نادرة، إلى تدبير حكيم، وفطنة نافذة هي الّتي مكّنَتْ له مِن الأمر، وأدركوا بها ما صبَت إليه نفوسُهم.

أمّا العظاميّة وعصبيّة القبيلة والعنعنات النسبيّة الأُسريّة، فلم يكن لها مِن أثر في ذلك، ولا كان يُعنى بها العَجم عناية العَرب، ولعلّ انبساط سلطانهم في العرب، وامتداد أيديهم إلى أكبر زعامة تُمثّل سلطان العرب، مِن أكرم أُسرهم وأعرقها شَرَفاً ونَسباً، وهي تقبض على زمام الخلافة الإسلاميّة، ولها عصبيّتها العربيّة، كان مِن أسباب عنايتهم باتّصالهم بسلسلة نَسب عريق يرتفع بهم إلى الأُسر المالكة بلاد إيران القديمة، فقد نسبهم الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتابه، فقال:

إنّ أبا شُجاع بويه - أبا مؤسِّسي الدولة - ابن قبا خسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزيل الأصغر بن شيركيده بن

١٤٦

شيرزيل الأكبر بن شيران شاه بن شيرويه بن سيسان شاه بن سيس بن فيروزين شيرزيل بن سيسان بن بهرام جور الملك بن يزدجرد الملك بن سابور الملك بن سابور ذي الأكتاف الفارسي.

ثُمّ ارتفع بعضهم بنَسب بويه مِن واحد إلى واحد مِن مُلوك الفرسان حتّى يتّصل بيهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وكذا إلى آدم أبي البشر.

وأمّا أبو الفداء، فإنّه لم يعرض لنَسبهم، وابن خلدون قد شكّ في هذا النَسب، ورجّحه ابن الأثير.

وكيف كان، فقد أُسّست هذه الدولة ولم تتّخذ العظاميّة أساساً لها، ولئن ظهرت لمُؤسّسيها هذه السلسلة العريقة في النَسب، فقد كان ظهورها بعد التمكين لهم مِن المُلك، بل ومِن وضع الخُلفاء العباسيّين تحت نُفوذ سُلطانهم المُطلق.

اتّصالهم بمُلوك بلادهم:

رأى الأُخوة الثلاثة مصير المُلك العبّاسي الّذي انتهى إليه، ورأوه كيف يَنتقص مِن أطرافه كلُّ توثّب يملك أدوات التغلّب وأسبابها، وهُم لم يملكوا شيئاً مِن تلك الأدوات والأسباب.

أمّا المال، فقد عرفتَ أوّليتهم، وأنّهم لم يملكوا مِن مرافق الدُنيا شيئاً، وأنّهم كانوا يتكفّفون في معيشتهم مِن أحمز الطُرق وأشقّها: صيد السمك، والاحتطاب.

وأمّا العصبيّة، فقد كانوا غُرباء بين الديالمة، وهُم ليسوا مِن جيلهم، فلا يعتزّون بعشيرة ولا بقبيل.

وأمّا الجاه، فمِن أين يأتي به مَن لا يملك المال وما إليه، وليس له عشيرة يعتزُّ بها؟ فلم يبقَ أمامهم غير الشجاعة، وهي رأس مالهم، وغير التدبير والحِكمة وهُما كلّ شيء، وهل يظهر لها مِن أثر إذا لم تُستعمَل فيما يُظهِر كوامنها؟ وهل لذلك غير التَقرّب مِن الأُمراء والملوك؟ وهُم كثيرون في بلادهم وبلاد إيران عامّة، وميدان التنافس فيما بينهم جميعاً مُتّسع المجال، وهل يرى الأُخوة بعد فقد أدوات الزعامة والرئاسة والإمارة والمُلك فرصة يهتبلونها أقرب مِن هذه الفُرصة السانحة، ومُلوك تلك الأطراف المُتنازعون أحوج إلى تقريب هذه الأُخوة للاستعانة بهم على الخُصوم، ولتأييد سُلطانهم، وحسبك بُرهاناً على ما آل إليه أمر خُلفاء بغداد، ومُلوك الشرق والغرب بالأمس ما ذكره غير واحد مِن المُؤرِّخين بعد تسلّط ابن رائق على بغداد والخليفة:

١٤٧

(ولم يَبقَ للخليفة غير بغداد وأعمالها، والحُكم فيها لابن رائق، وليس للخليفة فيها حُكم.

وأمّا باقي الأطراف، فكانت: البصرة في يد ابن رائق المذكور، وخوزستان في يد البريدي، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه، وكرمان في يد أبي علي محمّد بن الياس، والري وأصفهان والجبل في يد رُكن الدولة بن بويه ويد وشمكير بن زيار أخي مرداويج يتنازعان عليها، والموصل وديار بكر ومُضر وربيعة في يد بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيد محمّد بن طغج، والمغرب وإفريقية في يد القائم العلوي بن المهدي، والأندلس في يد عبد الرحمان بن محمّد الأُموي المُلقّب بالناصر، وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن أحمد بن سامان الساماني، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، والبحرين واليمامة في يد أبي طاهر القُرمطي.

الأُخوة في خدمة ماكان بن كاني مَلِك طَبرستان ثُمّ في خِدمة مرداويج فخروجهم عليه:

قال ابن كثير:

إنّ هؤلاء الأُخوة الثلاثة كانوا عند ملكٍ يُقال له (ماكان بن كاني) في بلاد طبرستان، فتسلّط عليه مرداويج، فضَعُف ماكان، فتشاوروا في مُفارقته حتّى يكون مِن أمره ما يكون، فخرجوا عنه ومعهم جماعة مِن الأُمراء فصاروا إلى مرداويج، فأكرمهم واستعملهم على الأعمال في البُلدان، فأعطى عماد الدولة علي بويه نيابة الكرج، فأحسن فيها السيرة والتفَّ عليه الناس وأحبّوه، فحسده مرداويج، وبعث إليه يعزله عنها ويستدعيه إليه، فامتنع مِن القُدوم عليه، وصار إلى أصبهان، فحاربه نائبها، فهزمه عماد الدولة هزيمة مُنكرة واستولى على أصبهان، وإنّما كان معه سبعمائة فارس، فقهر بها عشرة آلاف فارس، وعَظُم في أعيُن الناس، فلمّا بلغ ذلك مرداويج قلِق منه، فأرسل إليه جيشاً فأخرجوه مِن أصبهان، فقصد أذربيجان فأخذها مِن نائبها، وحصل له مِن الأموال شيء كثير جدّاً، ثُمّ أخذ بُلداناً كثيرة، واشتهر أمرُه، وبعد صيته، وحسُنت سيرته؛ فقصده الناس مَحبّة وتعظيماً، فاجتمع إليه مِن الجُند خَلقٌ كثير وجمعٌ غفير، فلم يزل يترقّى في مراقي الدُنيا حتّى آل به وبأخَوَيه الحال إلى أن ملكوا بغداد مِن أيدي الخُلفاء العباسيّين، وصار لهم القطع والوصل، والولاية والعزل، وإليهم

١٤٨

تُجبى الأموال، ويُرجع إليهم في سائر الأُمور والأحوال.

رواية ابن الأثير:

بعد أن ذكر خُروج جماعة مِن الديلم لتملك البلاد، منهم: ماكان بن كاني، وليلى بنت النُعمان، وأسفار بن شيرويه، ومرداويج بن زيار، قال:

وخرج مع كلّ واحد منهم خلق كثير مِن الديلم، وخرج أولاد أبي شجاع في جُملة مَن خرج، وكان مِن جُملة قوّاد ماكان بن كاني، فلمّا كان مِن أمر ماكان ما ذكرناه مِن الاتّفاق تمّ الاختلاف بعد قتل أسفار واستيلاء مرداويج على ماكان بيد ماكان مِن طبرستان وجرجان، وعود ماكان مرَّة أُخرى إلى جُرجان والدامغان، وعوده إلى نيسابور مهزوماً، فلمّا رأى أولاد بويه ضعفه وعجزه قال له عماد الدولة وركن الدولة:

نحن في جماعة، وقد صُرنا ثقلاً عليك وعيالاً، وأنت مضيق والأصلح لك أن نُفارقك لنُخفّف عنك مؤنتنا، فإذا صلح أمرنا عدنا إليك، فأذِن لهما فسارا إلى مرداويج، واقتدى بهما جماعة مِن قوّاد ماكان وتبعوهما، فلمّا صاروا إليه قبلهم أحسن قبول، وخلع على ابنَي بويه وأكرمهما، وقلّد كلَّ واحد مِن قوّاد ماكان الواصلين إليه ناحية مِن نواحي الجبل، فأمّا عليّ بن بويه، فإنّه قلّده كرج.

الأُخوة الثلاثة المالكون وأعقابهم المُلوك:

رأينا أنّ مِن الفائدة لجعل تاريخ هذه الأُسرة - الّذي ملأ صفحةً كبيرةً مِن تاريخ العَرب والإسلام مِن متناول الأفهام - إفراد كلِّ واحد مِن الأُخوة الثلاثة مُؤسّسي هذه الدولة البويهيّة الفتيّة وأعقابهم بالترجُمة، وإن كان الكثير مِن أخبارهم مُتداخلاً بعضه في بعض، ولئن استقلّ كلُّ واحد منهم بمملكة، فهم كانوا جدّ مُتضامنين، ولا سيّما هؤلاء الأُخوة الّذين كان لتضامنهم الأثر الكبير في تكوين دولهم.

الأول: عماد الدولة أبو الحسن عليّ بن بويه:

هو أكبر الأُخوة سنّاً، وأعلاهم هِمّة، وأسدّهم تدبيراً، وأولاهم بالتقديم، بل يكاد يكون بمظاهرة الأَخوين هو الرِكن الأعظم في تكوين دولتهم.

قال ابن الأثير في كامله: كان السبب في ارتفاع عليّ بن بويه مِن بينهم بعد

١٤٩

الأقدار أنّه كان سَمِحاً حليماً شُجاعاً، فلمّا قلّده مرداويج كرج، وقلّد جماعة القوّاد المُستأمنة معه الأعمال، وكَتب لهم العُهود، ساروا إلى الري وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج، ومعه الحُسين بن محمّد المُلقّب بالعميد، وهو والد أبي الفضل الّذي وزر لركن الدولة بن بويه، وكان العميد يومئذٍ وزير مرداويج، وكان مع عماد الدولة بَغلة شَهباء مِن أحسن ما يكون، فعرضها للبيع فبلغ ثمنها مئتي دينار، فعُرضت على العميد فأخذها وأنفذ ثمنها، فلمّا حَمل الثمن إلى عِماد الدولة أخذ منه عشرة دنانير وردّ الباقي، وجعل معه هديّة جميلة.

ثُمّ إنّ مرداويج نَدِم على ما فعل مِن تولية أولئك القوّاد البلاد، فكَتب إلى أخيه وشمكير، وإلى العميد يأمرهما بمنعهم مِن المسير إلى أعمالهم، وإن كان بعضهم قد خرج فيردّ، وكانت الكُتب تصل إلى العميد قبل وشكمير، فيقرؤها ثُمّ يعرضها على وشكمير، فلمّا وقف العميد على هذا الكتاب أنفذ إلى عماد الدولة يأمره بالمسير مِن ساعته إلى عمله ويطوي المنازل، فسار مِن وقته وكان المَغرب.

وأمّا العميد، فلمّا أصبح عرض الكتاب على وشمكير، فمنع سائر القوّاد مِن الخُروج مِن الري، واستعاد التوقيعات الّتي معهم بالبلاد، وأراد وشكمير أن ينفذ خَلفَ عماد الدولة مَن يَردّه، فقال العميد:

إنّه لا يرجع طوعاً، وربّما قاتل مَن يقصده، ويخرج عن طاعتنا فتركه، وسار عماد الدولة إلى كرج، وأحسن إلى الناس، ولطُفَ بعمّال البلاد، فكتبوا إلى مرداويج يشكرونه، ويَصِفون ضبطه البلد وسياسته. وافتتح قلاعاً كانت للخرميّة، وظفر منها بذخائر كثيرة صرفها جميعها إلى استمالة الرِجال والصِلات والهبات، فشاع ذِكره وقصده الناس وأحبّوه، وكان مرداويج ذلك الوقت بطبرستان، فلمّا عاد إلى الري أطلق مالاً لجماعة مِن قوّاده على كرج، فاستمالهم عماد الدولة ووصلهم، وأحسن إليهم حتّى مالوا إليه وأحبّوا طاعته، وبلغ ذلك مرداويج فاستوحش وندِم على إنفاذ أولئك القوّاد إلى كرج، فكَتب إلى عماد الدولة وأولئك يستدعيهم إليه وتَلطّف بهم، فدافعه عماد الدولة، واشتغل بأخذ العُهود عليهم وخوَّفهم مِن سطوة مرداويج، فأجابوه جميعهم، فجبى مال كرج، واستأمن إليه شيرزاد - وهو مِن أعيان قوّاد الديلم - فقويت نفسه بذلك، وسار بهم عن كرج إلى أصبهان، وبها المُظفّر بن ياقوت في نحو عشرة آلاف مُقاتل، وعلى خراجها أبو علي بن رستم، فأرسل عماد الدولة إليهما يستعطفهما

١٥٠

ويستأذنهما في الانحياز إليهما، والدُخول في طاعة الخليفة ليمضي إلى الحضرة ببغداد، فلم يُجيباه إلى ذلك، وكان أبو علي أشدّهما كراهة، فاتّفق للسعادة أنّ أبا علي مات في تلك الأيّام، وبرز ابن ياقوت عن أصبهان ثلاثة فراسخ، وكان في أصحابه جيل وديلم مقدار ستمئة رجل، فاستأمنوا إلى عماد الدولة؛ لِما بلغهم مِن كرمه، فضعُف قلب ابن ياقوت، وقويَ جنان عماد الدولة فواقعه واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم ابن ياقوت واستولى عماد الدولة على أصبهان، وعظُم في عيون الناس؛ لأنه كان في تسعمائة رَجل هزم بهم ما يُقارب عشرة آلاف رجل، وبلغ ذلك الخليفة فاستعظمه، وبلغ خبر هذه الوقعة مرداويج فأقلقه، وخاف على ما بيده مِن البلاد، واغتمّ لذلك غمّاً شديداً.

استيلاؤه على أرجان وغيرها وملك مرداويج أصبهان:

لمّا بَلَغَ خبر الوقعة مرداويج خاف عماد الدولة بن بويه، فشرع في إعمال الحيلة، فراسله يُعاتبه ويستميله، ويطلب منه أن يُظهر طاعته حتّى يمدّه بالعساكر الكثيرة ليفتح بها البلاد، ولا يُكلّفه سوى الخطبة له في البلاد الّتي يَستولي عليها، فلمّا سار الرسول جهّز مرداويج أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبس ابن بويه، وهو مطمئن إلى الرسالة الّتي تقدّمت، فعلم ابن بويه بذلك، فرحل عن أصبهان بعد أن جباها شهرين، وتوجّه إلى أرجان، وبها أبو بكر بن ياقوت فانهزم أبو بكر مِن غير قتال، وقصد رامهُرمُز، واستولى ابن بويه على أرجان في ذي الحجّة، ولمّا سار عن أصبهان دخلها وشمكير وعسكر أخيه مرداويج وملكوها، فلمّا سَمِع القاهر أرسل إلى مرداويج قبل خلعه ليمنع أخاه عن أصبهان، ويُسلّمها إلى محمّد بن ياقوت ففعل ذلك ووليها محمّد.

وأمّا ابن بويه، فإنّه لمّا مَلك أرجان استخرج منها أموالاً فقويَ بها، ووردت عليه كُتب أبي طالب زيد بن علي النوبند جاني يستدعيه، ويُشير إليه بالمسير إلى شيراز، ويُهوّن عليه أمر ياقوت وأصحابه، ويُعرّفه تهوّره واشتغاله بجباية الأموال، وكثرة مؤنته ومؤنة أصحابه، وثِقل وطأتهم على الناس مع فشلهم وجُبنهم، فخاف ابن بويه أن يقصد ياقوتاً مع كثرة عساكره وأمواله، ويحصل بين ياقوت وولده، فلم يَقبل مشورته فلم يبرح مِن مكانه، فعاد أبو طالب وكَتب إليه يُشجّعه ويُعلِمه أنّ مرداويج قد كَتب إلى ياقوت

١٥١

يطلب مُصالحته، فإنْ تمّ ذلك اجتمعا على مُحاربته ولم يكن له بهما طاقة، ويقول له:

(إنّ الرأي لِمَن كان في مثل حاله أن يُعاجل مَن بين يديه، ولا ينتظر بهم الاجتماع والكثرة أن يُحدقوا به مِن كلّ جانب، فإنّه إذا هَزم مَن بين يديه خافه الباقون، ولم يَقدموا عليه.

ولم يزل أبو طالب يُراسله إلى أن سار نحو النوبندجان في ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وقد سبقه إليهما مُقدّمة ياقوت في نحو ألفي فارس مِن شُجعان أصحابه، فلمّا وافاهم ابن بويه لم يثبتوا له لمّا لقيهم، وانهزموا إلى كركان، وجاءهم ياقوت في جميع أصحابه إلى هذا الموضع، وتقدّم أبو طالب إلى وكلائه بالنوبندجان بخدمة ابن بويه، والقيام بما يحتاج إليه، وتنحّى هو عن البلد إلى بعض القُرى حتّى لا يُعتقد فيه المواطأة له، فكان مَبلغ ما خسر عليه في أربعين يوماً مقدار مئتي ألف دينار، وأنفذ عماد الدولة أخاه رُكن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها مِن أعمال فارس، فاستخرج منها أموالاً جليلة، فأنفذ ياقوت عسكراً إلى كازرون، فواقعهم ركن الدولة فهزمهم وهو في نفر يسير، وعاد غانماً سالماً إلى أخيه، ثُمّ إنّ عماد الدولة انتهى إليه مُراسلة مرداويج وأخيه وشمكير إلى ياقوت ومراسلته إليهما، فخاف اجتماعهم فسار مِن النوبندجان إلى اصطخر، ثُمّ إلى البيضاء وياقوت يتبعه، وانتهى إلى قنطرة على طريق كرمان فسبقه ياقوت إليها ومنعه مِن عُبورها، واضطر إلى الحرب، وذلك في آخر سَنة إحدى وعشرين ودخلت سَنة اثنتين وعشرين.

استيلاء عِماد الدولة على شيراز:

في هذه السنة ظفر عِماد الدولة بن بويه بياقوت وملك شيراز، وقد مرَّ ذِكر مسير عماد الدولة بن بويه إلى القنطرة، وسِبْق ياقوت إليها وصَدّه عن عبورها، وأنّه اضطرّ بسبب ذلك إلى مُحاربة ياقوت، وقد وقعت الحرب بينهما في جمادى الآخرة، وأحضر عليّ بن بويه أصحابه، ووعدهم أنّه يترجّل معهم عند الحرب ومنّاهُم ووعدهم الإحسان، وكان مِن سعادته أنّ جماعة مِن أصحابه استأمنوا إلى ياقوت فحين رآهم ياقوت أمر بضرب رقابهم، فأيقن مَن مع ابن بويه أنّهم لا أمان لهم عنده، فقاتلوا قتال مُستقتل.

ثُمّ إنّ ياقوتاً قدّم أمام أصحابه رَجّالة كثيرة يُقاتلون بقوارير النفط، فانقلبت الريح

١٥٢

في وجوههم واشتدّت، فلمّا ألقوا النار عادت النار عليهم، فعلقت بوجوههم وثيابهم فاختلطوا، وأكبَّ عليهم أصحاب ابن بويه فقتلوا أكثر الرجّالة، وخالطوا الفرسان فانهزموا، فكانت الدائرة على ياقوت وأصحابه، فلمّا انهزم صعد على نشز مُرتفع، ونادى في أصحابه الرجعة فاجتمع إليه نحو أربعة آلاف فارس، فقال لهم:

اثبتوا فإنّ الديلم يشتغلون بالنهب، ويتفرّقون فنأخذهم. فثبتوا معه، فلمّا رأى ابن بويه ثباتهم نهى أصحابه عن النهب، وقال:

إنّ عدوّكم يرصدكم لتشتغلوا بالنهب فيعطف عليكم، ويكون هلاككم، فاتركوا هذا وافرغوا مِن المنهزمين، ثُمّ عودا إليه ففعلوا ذلك. فلمّا رأى ياقوت أنّهم على قصده ولَّى مُنهزماً وأتبعه أصحاب ابن بويه يقتلون ويأسرون ويغنمون الخيل والسلاح - وكان مُعزّ الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه في ذلك اليوم مِن أحسن الناس أثراً، وكان صبيّاً لم تنبت لحيته، وكان عُمره تسع عشرة سنة - ثُمّ رجعوا إلى السواد فغنموا، ووجدوا في سواده برانس لبود عليها أذناب الثعالب، ووجدوا قيوداً وأغلالاً، فسألوا عنها، فقال أصحاب ياقوت:

إنّ هذه أُعدّت لكُم لتُجعل عليكم ويُطاف بكم في البلاد، فأشار أصحاب ابن بويه أن يُفعل بهم مِثل ذلك فامتنع، وقال:

إنّه بغيٌ ولؤم ظفر، ولقد لقيَ ياقوتُ بغيه. ثُمّ أحسن إلى الأُسارى وأطلقهم، وقال:

هذه نعمة، والشُكر عليها واجب يقتضي المزيد. وخَيَّر الأُسارى بين المُقام عنده واللحوق بياقوت، فاختاروا المقام عنده، فخلع عليهم وأحسن إليهم، وسار مِن موضع الوقعة حتّى نَزلَ شيراز، ونادى في الناس بالأمان وبثّ العدلَ، وأقام لهم شحنته يمنع مَن ظلمهم، واستولى على تلك البلاد، وطلب الجُند أرزاقهم فلم يكن عنده ما يُعطيهم، فكاد يَنحلُّ أمره.

الأقدارُ والحظوظُ تَخدم بني بويه:

فقعد في غُرفة في دار الإمارة بشيراز يُفكّر في أمره، فرأى حيّةً خرجت مِن موضع في سقف تلك الغُرفة، ودخلت في ثقب هناك، فخافَ أن تَسقط عليه فدعا الفرّاشين، ففتحوا الموضع فرأوا وراءه باباً، فدخلوا إلى غُرفة أُخرى وفيها عشرة صناديق مملوءة مالاً ومصوغاً، وكان فيها ما قيمته خمسمئة ألف دينار فأنفقها، وثبتَ مُلكه بعد أن كان قد أشرف على الزوال.

وحُكيَ أنّه أراد أن يُفصّل ثياباً، فدلّوه على خيّاط كان لياقوت

١٥٣

فأحضره، فحضر خائفاً وكان أصمّ، فقال له عماد الدولة:

لا تخف، فإنّما أحضرناك لتُفصّل ثياباً. فلم يَعلم ما قال، فابتدأ وحلف بالطلاق والبراءة مِن دين الإسلام أنّ الصناديق الّتي عنده لياقوت ما فتحها، فتعجّب الأمير مِن هذا الاتّفاق، فأمره بإحضارها، فأحضر ثمانية صناديق فيها مال وثياب قيمته ثلاثمائة ألف دينار، ثُمّ ظهر له ودائع ياقوت وذخائر يعقوب وعمر وابني الليث جُملة كثيرة فامتلأت خزائنه وثبت مُلكه.

اتّصاله بالراضي بالله وخُدعته رسوله:

فلمّا تمكّن مِن شيراز وفارس كَتب إلى الراضي بالله - وكانت الخلافة قد أفضت إليه - وإلى وزيره أبي علي بن مقلة يُعرفهما أنّه على الطاعة، ويطلب منه أن يُقاطع على ما بيده مِن البلاد، وبَذَل ألف ألف درهم، فأُجيب إلى ذلك فأنفذوا له الخلع، وشرطوا على الرسول أن لا يُسلّم إليه الخلع إلاّ بعد قبض المال، فلمّا وصل الرسول خرجَ عماد الدولة إلى لقائه، وطلب منه الخلع واللواء، فذكر له الشرط فأخذهما منه قهراً، ولبس الخلع ونشر اللواء بين يديه، ودخل البلد وغالط الرسول بالمال، فمات الرسول عنده سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وعظُم شأنه وقصده الرجال مِن الأطراف، ولمّا سمع مرداويج بما ناله مِن ابن بويه قام لذلك وقعد، وسار إلى أصبهان للتدبير عليه، وكان بها أخوه وشمكير، لأنّه لمّا خُلع القاهر وتأخّر محمّد بن ياقوت عنها عاد إليها وشمكير بعد أنْ بقيتْ تسعة عشر يوماً خالية مِن أمير، فلمّا وصلها مرداويج ردّ أخاه وشمكير إلى الري.

تَعليقٌ على ما سَبَق لا بُدّ مِنه:

لقد أقام عماد الدولة بن بويه البُرهان على تدبير في الحُروب سديد، وعلى حَذَر ويقظة وذكاء هي مِن أهم ّصفات القوّاد بصرفه جيشه الديلمي عن نهب أسلاب جيش ياقوت المُنهزم، وأمرِه بالثبات، وقد ظهرت له خِدعة ياقوت المُنهزم بجيشه حيث يجمع إليه مِن فُلوله أربعة آلاف، وهو على نشز مُرتفع، ويأمرهم بالثبات ليأخذ الجيش الديلمي على غرّة، وهو على غير النظام باشتغاله في النهب، فلم يترك حَذَر عماد الدولة ياقوتاً يَتمكّن مِن إتمام خدعته، كما أقام البُرهان الآخر على جدارته بالمُلك وهو يَجمع أنبل

١٥٤

صفات المالكين، ومَن يبنون على دعائمها الراسخة مُلكهم العتيد، حيث أبَتْ نفسه أن يَحذو حذو ياقوت في التشهير بالمغلوبين فيما إذا أُتيحت له الغلبة قائلاً:

إنّ ذلك بغيٌ ولؤمٌ. كما أحسن إلى الأُسارى بإطلاقهم، ثُمّ بتخييرهم بين المُقام عنده واللحاق بياقوت، وهو يَعلم أنّ في لحاقهم بخصمه قوّةٌ لخصمه، فكان مِن سداد سياسته وجميل إحسانه أن قادَهُم إليه، وقيّدهم عن قُيود الحديد بقُيود المعروف والإحسان، (ومَن وَجَدَ الإحسانَ قيداً تقيّدا).

بمثل هذا التدبير السديد، وبمثل هذا الإحسان، وبمثل تلك اليقظة في ميادين النِزال والقتال ظَهَرَ أمرُ بني بويه، وهبَّتْ لهم ريح النصر، وأسلس لهم المُلك مِن قياده فراضوا صِعابه.

وقد يُؤاخذ عماد الدولة بخُلفه وَعدَ الراضي بالله بالطاعة، وبذل المال بعد إنفاذ الخلع عليه واللواء، ولكن مَن يعلم ما آلت إليه حال الخلفاء العباسيّين مِن خَلعِ خليفة وتنصيب آخر وقتل ثالث ما بين عشيّة أو ضُحاها، وهُم كالريشةِ في مهبّ العواصف، قد يجد له عُذراً في هذا الخُلف، وإبقاء المال الكثير الّذي وَعدَ به الخليفة لصرفه في مهامّ أُموره، وفي ترسيخ بُنيان مُلكه، وهو مُحاط بالأعداء مِن هُنا وهُناك، وحَسبُهُ بخصمه مرداويج الشديد ودع خصومه الآخرين، وقد يدّخر هذا المال أو ما يَخلفه لمُصانعة خليفة آخر قد تصير إليه الخلافة في الوقت القريب.

وبعد، فإنّ للسياسة وجوهاً وألواناً ولا سيّما في ذلك العهد المُضطرب، وعماد الدولة مؤسّس الدولة بها جدّ عليم.

وممّا اتّفق له في شيراز، وهو ممّا لم يذكره ابن الأثير، وذكره ابن كثير، (وهو أنّه رَكِب ذات يوم يَتفرّج في جوانب البلد، وينظر إلى ما بَنَتْه الأوائل، ويتّعظ بمَن كان فيه قبله، فانخسفت الأرض مِن تحت قوائم فرسه، فأمَر فحُفِر هُنالك فوجد مِن الأموال شيئاً كثياً أيضاً).

استيلاء مرداويج على الأهواز:

لمّا بَلَغَ مرداويج استيلاء عليّ بن بويه على فارس اشتدّ ذلك عليه، فسار إلى أصبهان للتدبير على ابن بويه، فرأى أن ينفذ عسكراً إلى الأهواز ليستولي عليها، ويسدّ الطريق على عماد الدولة بن بويه إذا قصده، فلا يبقى له طريق إلى الخليفة، ويقصده هو مِن ناحية أصبهان، فلا يثبت لهم، فسارت

١٥٥

عساكر مرداويج في شهر رمضان حتّى بلغت اميزج، فخاف ياقوت أنْ يَحصل بينهم وبين ابن بويه، فسار إلى الأهواز ومعه ابنه المُظفّر، وكتب إلى الراضي ليُقلّده أعمال الأهواز فقلده ذلك، وصار أبو عبد الله بن البريدي كاتبه مُضافاً إلى ما بيده مِن أعمال الخراج بالأهواز، وصار أخوه أبو الحسين يَخلفه ياقوتاً ببغداد، ثُمّ استولى عسكر مرداويج على رامهرمز أوّل شوال مِن هذه السنة، وساروا نحو الأهواز، فوقف لهم ياقوت على قنطرة الربق فلم يُمكنْهم مِن العبور لشدّة جري الماء، فأقاموا بإزائه أربعين يوماً، ثُمّ رحلوا فعبروا على الأطواف نهر المسرقان، فبلغ الخبر إلى ياقوت وقد أتاه مَدَدٌ مِن بغداد قبل ذلك بيومين، فسار بهم إلى قرية الريخ، وسار منها إلى واسط، وبها حينئذ محمّد بن رائق، فأخلى له غربي واسط فنزل فيه ياقوت، ولمّا بَلغَ عماد الدولة استيلاء مرداويج على الأهواز كاتب نائب مرداويج يستميله، ويطلب منه أن يتوسّط الحال بينه وبين مرداويج، ففعل ذلك، وسعى فيه فأجابه مرداويج إلى ذلك على أن يُطيعه ويَخطب له، فاستقرَّ الحال بينهما، وأهدى له ابن بويه هديّة جليلة، وأنفذ أخاه رُكن الدولة رهينة، وخطب لمرداويج في بلاده فرضي مرداويج منه، واتّفق أنّه - مرداويج - قتل فقويَ أمر ابن بويه، وكان قتل مرداويج في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة بعد ذلك الاتّفاق بسَنة، وكان قتله لأُمور نَقَمَها عليه أتباعه، وتولّى ذلك جماعة مِن الأتراك، ولمّا قُتل كان رُكن الدولة بن بويه رهينة عنده كما سبق بيانه، فبذل للموكّلين مالاً فأطلقوه، فخرج إلى الصحراء ليفكّ قيوده، فأقبلت بغال عليها تبن وعليها أصحابه وغُلمانه، فأُلقي التبن، وكَسر أصحابه قُيوده، وركبوا الدواب ونجوا إلى أخيه عماد الدولة بفارس.

ولمّا قَتل الأتراك مرداويج سارت فرقة منهم إلى عماد الدولة بن بويه مع فخجج الّذي كان له شأن مَذكور في الدولة.

ظَفَرَ عِماد الدولة بياقوت مَرّة أُخرى:

لمّا انهزم ياقوت مِن الأهواز وقويَ بها أمرَ البريدي - وكان يَتولّى الكتابة إلى ياقوت ويتصرف في أعمال أسافل الأهواز - سار إليه، فأقام معه بواسط، فلمّا قبُض على ابنيه كَتبَ ابن مُقلة إلى ابن البريدي يأمره أن يُسكن ياقوتاً، ويُعرّفه أنّ الجُند اجتمعوا وطلبوا القبض على ولديه، فَقُبِضا

١٥٦

تسكيناً للجُند، وأنّهما يسيران إلى أبيهما عن قريب، وأنّ الرأي أنْ يسير هو لفتح فارس، فسار ياقوت مِن واسط على طريق السوس، وسار البريدي على طريق الماء إلى الأهواز، وكان إلى أخَوَيه أبي الحسين وأبي يوسف ضمان السوس وجنديسابور، وادَّعَيا أنّ دَخْلَ البلاد لسَنة اثنتين وعشرين أخذه عسكر مرداويج، وأنّ دَخْلَ سنة ثلاث وعشرين لا يَحصل منه شيء؛ لأنّ نواب مرداويج ظلموا الناس فلم يبقَ لهم ما يزرعونه، وكان الأمرُ بضدّ ذلك في السَنتين، فبلغ ذلك الوزير ابن مقلة، فأنفذ نائباً له ليُحقّق الحال، فواطأ ابني البريدي وكتب بصدقهم، فحصل لهم بذلك مال عظيم، وقَويتْ حالهم، وكان مَبلَغ ما أخذوه أربعة آلاف ألف دينار، وأشار ابن البريدي على ياقوت بالمسير إلى أرجان لفتح فارس، وأقام هو بجباية الأموال مِن البلاد، فحصل منها ما أراد، فلمّا سار ياقوت إلى فارس في جموعه لقيه ابن بويه بباب أرجان، فانهزم أصحاب ياقوت، وبقي إلى آخرهم ثُمّ انهزم، وسار ابن بويه خَلفه إلى رامهرمز، وسار ياقوت إلى عسكر مكرم، وأقام ابن بويه برامهرمز إلى أن وقع الصُلح بينهما.

استيلاءُ عِمادِ الدَولةِ على أصبهان وغيرها:

في هذه السَنة (سَنة ٣٢٣هـ) جهّز عماد الدولة بن بويه أخاه رُكن الدولة الحسن إلى بلاد الجبل، وسَيَّر معه العساكر بعد عوده لمَّا قُتل مرداويج، فسار إلى أصبهان فاستولى عليها، وأزال عنها وعن عدّة مِن بلاد الجبل نوّاب وشمكير، وأقبل وشمكير وجهّز العساكر نحوه، وبقي هو ووشمكير يتنازعان تلك البلاد، وهي: أصبهان، وهَمذان، وقُم، وقاجان، وكرج، والري، وكنكور، وقزوين وغيرها.

ظَفَرُهُ بطاهر الجبلي الخارج عن طاعته:

اتّصل طاهر هذا بياقوت - وهو مِن كِبار أصحاب ابن بويه - في ثمانمئة رجُل، وهو مِن أرباب المَراتب العالية، ومِمَن يسمو إلى مَعالي الأُمور، وسَبَب اتّصاله به خوفه مِن ابن بويه أن يقبض عليه خوفاً منه، فلمّا رأى حال ياقوت انصرف عنه إلى غربي تستر، وأراد أنْ يَتغلّب على ماء البصرة، وكان معه أبو جعفر الصيمري، وهو كاتبه، فسَمِع به عماد الدولة بن بويه

١٥٧

فكبسه، فانهزم هو وأصحابه، واستولى ابن بويه على عسكره وغنمه، وأسر الصيمري فأطلقه الخيّاط وزير عماد الدولة بن بويه، فمضى إلى كرمان، واتصل بالأمير مُعزّ الدولة بن بويه، وكان ذلك سبب إقباله.

تجهيزُ عِمادِ الدولةِ وأخيه رُكن الدولة أخاهما الأصغر مُعزّ الدولة بالجيوش لفتح كرمان:

في هذه السنة سَيَّر عِماد الدولة وركن الدولة أخاهما مُعزّ الدولة الأصغر بالجيوش لفتح كرمان ليستَبدّ بمُلكها، وقد جرى ما ستراه في غير هذا المكان مِن تَرجمة مُعزّ الدولة.

التجاءُ البريدي إلى عِماد الدولة:

لمّا انهزم البريدي أمام بجكم وابن رائق سار مِن جزيرة أوال إلى عماد الدولة بن بويه واستجار به، وأطمعه في العراق وهون عليه أمْرَ الخليفة وابن رائق، فَنَفَذ معه أخاه مُعزّ الدولة، فلمّا سَمِع ابن رائق بإقبالهم مِن فارس إلى الأهواز سيَّر بجكم إليها، فامتنع مِن المسير إلاّ أن يكون إليه الحرب والخراج، فأجابه إلى ذلك وسيّره إليها، ثُمّ إنّ جماعة مِن أصحاب البريدي قصدوا عسكر ابن رائق ليلاً فصاحوا في جوانبه، فانهزموا فلمّا رأى ابن رائق ذلك أمر بإحراق سواده وآلاته لئلاّ يغنمه البريدي، وسار إلى الأهواز جريدة، فأشار جماعة على بجكم بالقبض عليه فلم يفعل، وأقام ابن رائق أيّاماً وعاد إلى واسط، وكان باقي عسكره قد سبقه إليها.

تَسيير عِماد الدولة أخاه مُعزّ الدولة مع البريدي لفتح العراق:

في سنة ٣٢٦هـ سار مُعزّ الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه إلى الأهواز وتلك البلاد فملكها، وكان سبب ذلك ما تقدّم ذِكره مِن مسير أبي عبد الله البريدي إلى عماد الدولة، فلمّا وصلَ إليه أطمعه في العراق والاستيلاء عليه، فسيّر معه أخاه مُعزّ الدولة إلى الأهواز، وترك أبو عبد الله البريدي ولديه أبا الحسن محمّداً وأبا جعفر القاضي عند عِماد الدولة بن بويه رهينة وساروا، فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان فسار لحربهم، فانهزم مِن بين أيديهم، وكان سبب الهزيمة أنّ المطر اتّصل أيّاماً كثيرة،

١٥٨

فعُطّلت أوتار قُسي الأتراك، فلم يقدروا على رمي النشّاب، فعاد بجكم وأقام بالأهواز، وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم، فقاتلوا مُعزّ الدولة بها ثلاثة عشر يوماً، ثُمّ انهزموا إلى تستر، فاستولى مُعزّ الدولة على عسكر مكرم، وسار بجكم إلى تستر مِن الأهواز، وأخذ معه جماعة مِن أعيان الأهواز، وسار هو وعسكره إلى واسط، وأرسل مِن الطريق إلى ابن رائق يُعلِمه الخبر، ويقول له:

إنّ العسكر مُحتاج إلى المال، فإنْ كان مَعَك مئتا ألف دينار فتُقيم بواسط حتّى نصل إليك وتُنفق فيهم المال، وإن كان المال قليلاً فالرأي أنّك تعود إلى بغداد لئلاّ يجري مِن العسكر شَغَب.

فلمّا بلغَ الخبر إلى ابن رائق عاد مِن واسط إلى بغداد، ووصل بجكم إلى واسط، فأقام بها، واعتَقل مَن معه مِن الأهوازيّين، وطالبهم بخمسين ألف دينار، وكان فيهم أبو زكريّا يحيى بن سعيد السوسي، قال أبو زكريا:

أردّتُ أنْ أعلم ما في نفس بجكم، فأنفذتُ إليه أقول: عندي نصيحة فأحضرني عنده، فقلتُ: أيّها الأمير أنتَ تُحدّث نفسك بمملكة الدنيا، وخدمة الخلافة وتدبير أعمالك كيف يجوز أنُ تعتقل قوماً منكوبين قد سُلبوا نِعمتهم، وتُطالبهم بمالٍ وهم في بَلد غربةٍ، وتأمُر بتعذيبهم، حين جُعل أمس طشت فيه نار على بطن بعضهم، أمْا تعلم أنّ هذا إذا سُمِع عنك استوحش مِنك الناس، وعاداك مَن لا يعرفك، وقد أنكرت على ابن رائق إيحاشه لأهل البصرة؟ أتراه أساء إلى جميعهم؟ لا والله، بل أساء إلى بعضهم فأبغضوه كلّهم، وعوام بغداد لا تَحتمل أمثال هذا، وذَكرتُ له فِعل مداويج.

فلمّا سمع ذلك، قال: قد صدقتني ونصحتني، ثُمّ أمر بإطلاقهم.

ولمّا استولى ابن بويه والبريدي على عسكر مكرم سار أهل الأهواز إلى البريدي يُهنّئونه، وفيهم طبيب حاذق، وكان البريدي يَحمُّ بِحُمّى الربع، فقال لذلك الطبيب: أمّا ترى يا أبا زكريا حالي وهذه الحُمّى؟ فقال له: خَلطٌ، يعني في المأكول. فقال له: أكثر مِن هذا التخليط قد رهجت الدُنيا.

ثُمّ ساروا إلى الأهواز فأقاموا بها خمسة وثلاثين يوماً، ثُمّ هرب البريدي مِن ابن بويه إلى الباسيان، فكاتبه بِعَتَب كثير ويذكر عُذره في هربه، وكان سبب هربه أنّ ابن بويه طَلبَ عسكره الّذين بالبصرة ليسيروا إلى أخيه رُكن الدولة بأصبهان معونة له على حرب وشمكير، فأحضر منهم أربعة آلاف فلمّا حضروا، قال لمُعز الدولة:

إنْ أقاموا وقع بينهم وبين الديلم فتنة، والرأي أن يسيروا إلى السوس، ثُمّ يسيروا إلى أصبهان. فأذِن له

١٥٩

في ذلك، ثُمّ طالبه بأنْ يُحضر عسكره الّذين بحصن مهدي ليُسيّرهم في الماء إلى واسط، فخاف البريدي أن يُعمَل به مِثل ما عَمِل هو بياقوت، وكان الديلم يُهينونه ولا يَلتفتون إليه، فهرب وأمر جيشه الّذين بالسوس فساروا إلى البصرة، وكاتب مُعزّ الدولة بالإفراج له عن الأهواز حتّى يتمكّن مِن ضمانه، فإنّه كان قد ضَمِن الأهواز والبصرة مِن عماد الدولة بن بويه كُلّ سَنة بثمانية عشر ألف ألف درهم، فرحل عنها إلى عسكر مكرم خوفاً مِن أخيه عماد الدولة بن بويه؛ لئلا يقول له: كسرت المال.

فانتقل البريدي إلى بناباذ، وأنفذ خليفته إلى الأهواز، وأنفذ إلى مُعزّ الدولة يَذكر له حاله وخوفه منه، ويطلب أن ينتقل إلى السوس مِن عسكر مكرم ليَبعُد عنه، ويأمَن بالأهواز، فقال له أبو جعفر الصيمري وغيره:

إنّ البُريدي يُريد أنْ يفعل بك كما فعل بياقوت، ويُفرّق أصحابك عنك، ثُمّ يأخذك فيتقرّب بكَ إلى بجكم وابن رائق، ويستعيد أخاك لأجلك.

فامتنع مُعزّ الدولة مِن ذلك، وعلم بجكم بالحال فأنفذ جماعة مِن أصحابه، فاستولوا على السوس وجنديسابور، وبقيت الأهواز بيد البريدي، ولم يبقّ بيد مُعزّ الدولة مِن كوَر الأهواز إلاّ عسكر مكرم، فاشتدَّ الحال عليه، وفارقه بعض جنده، وأرادوا الرجوع إلى فارس فمنعهم أصفهووست وموسى قياذه - وهُما مِن أكابر القوّاد - وضمنا لهم أرزاقهم ليُقيموا شهراً فأقاموا، وكَتب إلى أخيه عِماد الدولة يُعرفه حاله فأنفذ له جيشاً فقَويَ بهم، وعاد استولى على الأهواز، وهرب البريدي إلى البصرة واستقرّ فيها، فاستقرَّ ابنُ بويه بالأهواز، وأقام بجكم بواسط طامعاً في الاستيلاء على بغداد ومكان ابن رائق، ولا يُظهر له شيئاً مِن ذلك.

وأنفذ ابنُ رائق عليَّ بن خلف بن طياب إلى بجكم ليسير معه إلى الأهواز، ويُخرج منها ابن بويه، فإذا فعل ذلك كانت ولايتها لبجكم والخراج إلى عليّ بن خلف، فلمّا وصل علي إلى بجكم بواسط استوزره بجكم، وأقام معه، وأخذ بجكم جميع مال واسط، ولمّا رأى أبو الفتح الوزير ببغداد إدبار الأُمور أطمع ابن رائق في مصر والشام، وصاهره، وعقد بينه وبين ابن طغج عهداً وصهراً، وقال لابن رائق:

أنا أُجبي إليك مال مصر والشام إن سيّرتني إليهما، فأمره بالتجهّز للحركة ففعل، وسار أبو الفتح إلى الشام.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

كانت ربّما استفيد الندب إليها من مثل قوله تعالى:( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم ) المؤمن: ٨٢، وقوله:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) الآية ١٢٢ من السورة إلّا أنّ إرادتها من قوله:( السائحون ) تبطل جودة الترتيب بين الصفات المنضودة.

وثالثاً: أنّ هذه الصفات الشريفة هي الّتى يتمّ بها إيمان المؤمن المستوجب للوعد القطعيّ بالجنّـة المستتبع للبشارة الإلهيّـة والنبويّـة وهى الملازمة للقيام بحقّ الله المستلزمة لقيام الله سبحانه بما جعله من الحقّ على نفسه.

قوله تعالى: ( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى ) إلى آخر الآيتين، معنى الآية ظاهر غير أنّه تعالى لمّا ذكر في الآية الثانية الّتى تبيّن سبب استغفار ابراهيم لأبيه مع كونه كافراً أنّه تبرّأ منه بعد ذلك لمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله، فدلّ ذلك على أنّ تبيّن كون المشركين أصحاب الجحيم إنّما يرشد إلى عدم جواز الاستغفار لكونه ملازماً لكونهم أعداء لله فإذا تبيّن للنبىّ والّذين آمنوا أنّ المشركين أعداء لله كشف ذلك لهم عن حكم ضروريّ وهو عدم جواز الاستغفار لكونه لغواً لا يترتّب عليه أثر وخضوع الإيمان مانع أن يلغو العبد مع ساحة الكبرياء.

وذلك أنّه تارة يفرض الله تعالى عدوّاً للعبد مبغضاً له لتقصير من ناحيته وسوء من عمله فمن الجائز بالنظر إلى سعة رحمة الله أن يستغفر له ويسترحم إذا كان العبد متذلّلاً غير مستكبر، وتارة يفرض العبد عدوّاً لله محارباً له مستكبراً مستعلياً كأرباب الجحود والعناد من المشركين، والعقل الصريح حاكم بأنّه لا ينفعه حينئذ شفاعة بمسألة أو استغفار إلّا أن يتوب ويرجع إلى الله وينسلخ عن الاستكبار والعناد ويتلبّس بلباس الذلّة والمسكنة فلا معنى لسؤال الرحمة والمغفرة لمن يأبى عن القبول، ولا للاستعطاء لمن لا يخضع للأخذ والتناول إلّا الهزؤ بمقام الربوبيّـة واللعب بمقام العبوديّـة وهو غير جائز بضرورة من حكم الفطرة.

وفي الآية نفى الجواز بنفى الحقّ بدليل قوله:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا ) أي ما كانوا يملكون الاستغفار بعد ما تبيّن لهم كذا وكذا، وقد تقدّم في ذيل قوله

٤٢١

تعالى:( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) الآية ١٧ من السورة أنّ حكم الجواز مسبوق في الشرع بجعل الحقّ.

والمعنى أنّ النبيّ والّذين آمنوا بعد ما ظهر وتبيّن بتبيين الله لهم أنّ المشركين أعداء لله مخلّدون في النار لم يكن لهم حقّ يملكون به أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اُولى قربى منهم، وأمّا استغفار إبراهيم لأبيه المشرك فإنّه ظنّ أنّه ليس بعدوّ معاند لله وإن كان مشركاً فاستعطفه بوعد وعدها إيّاه فاستغفر له فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ لله معاند على شركه وضلاله تبرّء منه.

وقوله:( إنّ إبراهيم لأوّاه حليم ) تعليل لوعد إبراهيم واستغفاره لأبيه بأنّه تحمّل جفوة أبيه ووعده وعداً حسناً لكونه حليماً واستغفر له لكونه أوّاهاً، والأوّاه هو الكثير التأوّه خوفاً من ربّه وطمعاً فيه.

قوله تعالى: ( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) إلى آخر الآيتين الآيتان متّصلتان بالآيتين قبلهما المسوقتين للنهى عن الاستغفار للمشركين.

أمّا الآية الاُولى أعني قوله:( وما كان الله ليضلّ ) الخ ففيه تهديد للمؤمنين بالإضلال بعد الهداية إن لم يتّقوا ما بيّن الله لهم أن يتّقوه ويجتنبوا منه، وهو بحسب ما ينطبق على المورد أنّ المشركين أعداء لله لا يجوز الاستغفار لهم والتودّد إليهم فعلى المؤمنين أن يتّقوا ذلك وإلّا فهو الضلال بعد الهدى، وعليك أن تذكر ما قدّمناه في تفسير قوله تعالى:( اليوم يئس الّذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني ) المائدة: ٣ في الجزء الخامس من الكتاب وفي تفسير آيات ولاية المشركين وأهل الكتاب الواقعة في السور المتقدّمة.

والآية بوجه في معنى قوله تعالى:( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) الأنفال: ٥٣ وما في معناه من الآيات، وهى جميعاً تهتف بأنّ من السنّة الإلهيّـة أن تستمرّ على العبد نعمته وهدايته حتّى يغيّر هو ما عنده بالكفران والتعدّى فيسلب الله منه النعمة والهداية.

٤٢٢

وأمّا الآية الثانية أعنى قوله:( إنّ الله له ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولىّ ولا نصير ) فذيلها بيان لعلّة الحكم السابق المدلول عليه بالآية السابقة وهو النهى عن تولّى أعداء الله أو وجوب التبرّى منهم إذ لا ولىّ ولا نصير حقيقة إلّا الله سبحانه وقد بيّنه للمؤمنين فعليهم بدلالة من إيمانهم أن يقصروا التولّى عليه تعالى أو من أذن في تولّيهم له من أوليائه وليس لهم أن يتعدّوا ذلك إلى تولّى أعدائه كائنين من كانوا.

وصدر الآية بيان لسبب هذا السبب وهو أنّ الله سبحانه هو الّذى يملك كلّ شئ وبيده الموت والحياة فإليه تدبير كلّ أمر فهو الولىّ لا ولىّ غيره.

وقد ظهر من عموم البيان والعلّة في الآيات الأربع أنّ الحكم عامّ وهو وجوب التبرّى أو حرمة التولّى لأعداء الله سواء كان التولّى بالاستغفار أو بغير ذلك وسواء كان العدوّ مشركاً أو كافراً أو منافقاً أو غيرهم من أهل البدع الكافرين بايات الله أو المصرّين على بعض الكبائر كالمرابى المحارب لله ورسوله.

قوله تعالى: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين ) إلى آخر الآيتين، الساعة مقدار من الزمان فساعة العسرة الزمان الّذى تعسر فيه الحياة لابتلاء الإنسان بما تشقّ معه العيشة عليه كعطش أو جوع أو حرّ شديد أو غير ذلك، والزيغ هو الخروج من الطريق والميل عن الحقّ، وإضافة الزيغ إلى القلوب وذكر ساعة العسرة وسائر ما يلوح من سياق الكلام دليل على أنّ المراد بالزيغ الاستنكاف عن امتثال أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخروج عن طاعته بالتثاقل عن الخروج إلى الجهاد أو الرجوع إلى الأوطان بقطع السير تحرّجاً من العسرة والمشقّة الّتى واجهتهم في مسيرهم.

والتخليف - على ما في المجمع - تأخير الشئ عمّن مضى فأمّا تأخير الشئ عنك في المكان فليس بتخليف، وهو من الخلف الّذى هو مقابل لجهة الوجه يقال، خلّفه أي جعله خلفه فهو مخلّف. انتهى والرحب هو السعة الّتى تقابل الضيق، وبما رحبت أي برحبها فما مصدريّة.

و الآيتان وإن كانت كلّ واحدة منهما ناظرة إلى جهة دون جهة الاُخرى

٤٢٣

فالاُولى تبيّن التوبة على النبيّ والمهاجرين والأنصار والثانية تبيّن توبة الثلاثة المخلّفين مضافاً إلى أنّ نوع التوبة على أهل الآيتين مختلف فأهل الآية الاُولى أو بعضهم تاب الله عليهم من غير معصية منهم، وأهل الآية الثانية تيب عليهم وهم عاصون مذنبون.

وبالجملة الآيتان مختلفتان غرضاً ومدلولاً غير أنّ السياق يدلّ على أنّهما مسوقتان لغرض واحد ومتّصلتان كلاماً واحداً تبيّن فيه توبته تعالى للنبىّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا، ومن الدليل عليه قوله:( لقد تاب الله على النبيّ - إلى أن قال -وعلى الثلاثة ) الخ فالآية الثانية غير مستقلّة عن الاُولى بحسب اللفظ وإن استقلّت عنها في المعنى، وذلك يستدعى نزولهما معاً وتعلّق غرض خاصّ بهذا الاتّصال والامتزاج.

ولعلّ الغرض الأصلىّ بيان توبة الله سبحانه لاُولئك الثلاثة المخلّفين وقد ضمّ إليها ذكر توبته تعالى للمهاجرين والأنصار حتّى للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتطيب قلوبهم بخلطهم بغيرهم وزوال تميّزهم من سائر الناس وعفو أثر ذلك عنهم حتّى يعود الجميع على نعت واحد وهو أنّ الله تاب عليهم برحمته فهم فيه سواء من غير أن يرتفع بعضهم عن بعض أو ينخفض بعضهم عن بعض.

وبهذا تظهر النكتة في تكرار ذكر التوبة في الآيتين فإنّ الله سبحانه يبدء بذكر توبته على النبيّ والمهاجرين والأنصار ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ) وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ثمّ يقول:( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) فليس إلّا أنّ الكلام مسوق على منهج الإجمال والتفصيل ذكر فيه توبته تعالى على الجميع إجمالاً ثمّ اُشير إلى حال كلّ من الفريقين على حدته فذُكرت عند ذلك توبته الخاصّـة به.

ولو كانت كلّ واحدة من الآيتين ذات غرض مستقلّ من غير أن يجمعها غرض جامع لكان ذلك تكراراً من غير نكتة ظاهرة.

على أنّ في الآية الاُولى دلالة واضحة على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له في ذلك ذنب

٤٢٤

ولا زيغ ولا كاد أن يزيغ قلبه فإنّ في الكلام مدحاً للمهاجرين والأنصار باتّباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يزغ قلبه ولا كاد أن يزيغ حتّى صار متّبعاً يقتدى به ولو لا ما ذكرناه من الغرض لم يكن لذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سائر المذكورين وجه ظاهر.

فيؤول معنى الآية إلى أنّ الله - اُقسم لذلك - تاب ورجع برحمته رجوعاً إلى النبيّ والمهاجرين والأنصار والثلاثة الّذين خلّفوا فأمّا توبته ورجوعه بالرحمة على المهاجرين والأنصار فإنّهم اتّبعوا النبيّ في ساعة العسرة وزمانها - وهو أيّـام مسيرهم إلى تبوك - اتّبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحقّ بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتّبعوه تاب الله عليهم إنّه بهم لرؤوف رحيم.

وأمّا الثلاثة الّذين خلّفوا فإنّهم آل أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ووسعت - وكان ذلك بسبب أنّ الناس لم يعاشروهم ولا كلّموهم حتّى أهلهم فلم يجدوا أنيساً يأنسون به - وضاقت عليهم أنفسهم - من دوام الغمّ عليهم - و أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه بالتوبة والإنابة فلمّا كان ذلك كلّه تاب الله عليهم وانعطف ورجع برحمته إليهم ليتوبوا إليه فيقبل توبتهم إنّه هو التوّاب - كثير الرجوع إلى عباده يرجع إليهم بالهداية والتوفيق للتوبة إليه ثمّ بقبول تلك التوبة - والرحيم بالمؤمنين.

وقد تبيّن بذلك كلّه أوّلاً: أنّ المراد بالتوبة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محض الرجوع إليه بالرحمة، ومن الرجوع إليه بالرحمة، الرجوع إلى اُمّته بالرحمة فالتوبة عليهم توبة عليه فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواسطة في نزول الخيرات والبركات إلى اُمّته.

وأيضاً فإنّ من فضله تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن: كلّما ذكر اُمّته أو الّذين معه بخير أفرده من بينهم وصدر الكلام بذكره تشريفاً له كما في قوله:( آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون ) البقرة: ٢٨٥ وقوله:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) التوبة ٢٦، وقوله:( لكن الرسول والّذين آمنوا معه جاهدوا ) التوبة ٨٨ إلى غير ذلك من الموارد.

وثانياً: أنّ المراد بما ذكر ثانياً وثالثاً من التوبه بقوله:( ثمّ تاب عليهم ) في

٤٢٥

الموضعين هو تفصيل ما ذكره إجمالاً بقوله:( لقد تاب الله ) .

وثالثاً: أنّ المراد بالتوبة في قوله:( ثمّ تاب عليهم ) في الموضعين رجوعه تعالى إليهم بالهداية إلى الخير والتوفيق فقد ذكرنا مراراً في الأبحاث السابقة أنّ توبة العبد محفوفة بتوبتين من الربّ تعالى، وأنّه يرجع إليه بالتوفيق وإفاضة رحمة الهداية وهو التوبة الاُولى منه فيهتدى العبد إلى الاستغفار وهو توبته فيرجع تعالى إليه بقبول توبته وغفران ذنوبه وهو التوبة الثانية منه تعالى.

والدليل على أنّ المراد بها في الموضعين ذلك أمّا في الآية الاُولى فلأنّه لم يذكر منهم فيها ذنباً يستغفرون له حتّى تكون توبته عليهم توبة قبول، وإنّما ذكر أنّه كان من المتوقّع زيغ قلوب بعضهم وهو يناسب التوبة الاُولى منه تعالى دون الثانية، وأمّا في الآية الثانية فلأنّه ذكر بعدها قوله:( ليتوبوا ) وهو الاستغفار، اُخذ غاية لتوبته تعالى فتوبته تعالى قبل توبتهم ليست إلّا التوبة الاُولى منه.

وربّما أيّد ذلك قوله تعالى في مقام تعليل توبته عليهم:( إنّه بهم رؤوف رحيم ) حيث لم يذكر من أسمائه ما يدلّ بلفظه على قبول توبتهم كما لم يذكر منهم توبة بمعنى الاستغفار.

ورابعاً: أنّ المراد بقوله في الآية الثانية:( ليتوبوا ) توبة الثلاثة الّذين خلّفوا المترتّب على توبته تعالى الاُولى عليهم، فالمعنى ثمّ تاب الله على الثلاثة ليتوب الثلاثة فيتوب عليهم ويغفر لهم إنّه هو التوّاب الرحيم.

فان قلت: فالآية لم تدلّ على قبول توبتهم وهذا مخالف للضرورة الثابتة من جهة النقل أنّ الآية نزلت في توبتهم.

قلت: القصّة ثابتة نقلاً غير أنّها لا توجد دلالة في لفظ الآية إلّا أنّ الآية تدلّ بسياقها على ذلك فقد قال تعالى قى مقام الإجمال:( لقد تاب الله ) وهو أعمّ بإطلاقه من التوبة بمعنى التوفيق وبمعنى القبول، وكذا قوله بعد:( إنّ الله هو التوّاب الرحيم ) وخاصّـة بالنظر إلى ما في الجملة من سياق الحصر الناظر إلى قوله:( وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلّا إليه ) فإذا كانوا أقدموا على التوبة ليأخذوا ملجاً من الله يأمنون فيه وقد هداهم

٤٢٦

الله إليه بالتوبة فتابوا فمن المحال أن يردّهم الله من بابه خائبين وهو التوّاب الرحيم، وكيف يستقيم ذلك؟ وهو القائل عزّ من قائل:( إنّما التوبة على الله للّذين يعملون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب فاُولئك يتوب الله عليهم ) النساء: ١٧.

وربّما قيل: إنّ معنى( ثمّ تاب عليهم ليتوبوا ) ثمّ سهّل الله عليهم التوبة ليتوبوا. وهو سخيف. وأسخف منه قول من قال: إنّ المراد بالتوبة في( ليتوبوا ) الرجوع إلى حالتهم الاُولى قبل المعصية. وأسخف منه قول آخرين: إنّ الضمير في( ليتوبوا ) راجع إلى المؤمنين والمعنى ثمّ تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأنّ الله قابل التوب.

وخامساً: أنّ الظنّ يفيد في الآية مفاد العلم لا لدلالة لفظيّـة بل لخصوص المورد.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين ) الصدق بحسب الأصل مطابقة القول والخبر للخارج، ويوصف به الإنسان إذا طابق خبره الخارج ثمّ لمّا عدّ كلّ من الاعتقاد والعزم - الإرادة - قولاً توسّع في معنى الصدق فعدّ الإنسان صادقاً إذا طابق خبره الخارج وصادقاً إذا عمل بما اعتقده وصادقاً إذا أتى بما يريده ويعزم عليه على الجدّ.

وما في الآية من إطلاق الأمر بالتقوى واطلاق الصادقين وإطلاق الأمر بالكون معهم - والمعيّة هي المصاحبة في العمل وهو الاتّباع - يدلّ على أنّ المراد بالصدق هو معناه آلوسيع العامّ دون الخاصّ.

فالآية تأمر المؤمنين بالتقوى واتّباع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وهو غير الأمر بالاتّصاف بصفتهم فإنّه الكون منهم لا الكون معهم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ) إلى آخر الآيتين الرغبة ميل خاصّ نفسانيّ والرغبة في الشئ الميل إليه لطلب منفعة فيه، والرغبة عن الشئ الميل عنه بتركه والباء للسببيّـة فقوله:( ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) معناه وليس لهم أن يشتغلوا بأنفسهم عن نفسه فيتركوه عند مخاطر المغازى وفي تعب الأسفار ودعثائها ويقعدوا

٤٢٧

للتمتّع من لذائذ الحياة، والظمأ العطش، والنصب التعب والمخمصة المجاعة، والغيظ أشدّ الغضب، والموطئ الأرض الّتى توطأ بالأقدام.

والآية تسلب حقّ التخلّف عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل المدينة والأعراب الّذين حولها ثمّ تذكر أنّ الله قابل هذا السلب منهم بأنّه يكتب لهم في كلّ مصيبة تصيبهم في الجهاد من جوع وعطش وتعب وفي كلّ أرض يطئونها فيغيطون به الكفّـار أو نيل نالوه منهم عملاً صالحاً فإنّهم محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين، وهذا معنى قوله:( ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظمأ ) الخ.

ثمّ ذكر أنّ نفقاتهم صغيرة يسيرة كانت أو كبيرة خطيرة وكذا كلّ واد قطعوه فإنّه مكتوب لهم محفوظ لأجلهم ليجزوا به أحسن الجزاء.

وقوله:( ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) غاية متعلّقة بقوله:( كتب لهم ) أي غاية هذه الكتابة هي أن يجزيهم بأحسن أعمالهم، وإنّما خصّ جزاء أحسن الأعمال بالذكر لأنّ رغبة العامل عاكفة عليه، أو لأنّ الجزاء بأحسنها يستلزم الجزاء بغيره، أو لأنّ المراد بأحسن الأعمال الجهاد في سبيل الله لكونه أشقّها وقيام الدعوة الدينيّـة به.

وههنا معنى آخر وهو أنّ جزاء العمل في الحقيقة إنّما هو نفس العمل عائداً إلى الله فأحسن الجزاء هو أحسن العمل فالجزاء بأحسن الأعمال في معنى الجزاء بأحسن الجزاء ومعنى آخر وهو أن يغفر الله سبحانه سيّئاتهم المشوبة بأعمالهم الحسنة ويستر جهات نقصها فيكون العمل أحسن بعد ما كان حسناً ثمّ يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فافهم ذلك وربّما رجع المعنيان إلى معنى واحد.

قوله تعالى: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ) السياق يدلّ على أنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعاً، وقوله:( فرقة منهم ) الضمير للمؤمنين الّذين ليس لهم أن ينفروا كافّة، ولازمه أن يكون النفر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم.

فالآية تنهى مؤمنى سائر البلاد غير مدينة الرسول أن ينفروا إلى الجهاد كافّة

٤٢٨

بل يحضّضهم أن ينف طائفة منهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه في الدين، وينفر إلى الجهاد غيرهم.

والأنسب بهذا المعنى أن يكون الضمير في قوله( رجعوا ) للطائفة المتفقّهين، وفي قوله:( إليهم ) لقومهم والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقّهون إلى قومهم، ويمكن العكس بأن يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطائفة بعد تفقّههم ورجوعهم إلى اوطانهم.

ومعنى الآية لا يجوز لمؤمنى البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً فهلّا نفر وخرج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائفة من كلّ فرقة من فرق المؤمنين ليتحقّقوا الفقه والفهم في الدين فيعملوا به لأنفسهم ولينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لاُصوله وفروعه قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلّهم يحذرون ويتّقون.

ومن هنا يظهر أوّلاً: أنّ المراد بالتفقّه تفهّم جميع المعارف الدينيّـة من اُصول وفروع لا خصوص الأحكام العمليّـة وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرّعة، والدليل عليه قوله:( لينذروا قومهم ) فإنّ ذلك أمر إنّما يتمّ بالتفقّه في جميع الدين وهو ظاهر.

وثانياً: أنّ النفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العلم الدينىّ بدلالة من الآية.

وثالثاً: أنّ سائر المعاني المحتملة الّتى ذكروها في الآية بعيده عن السياق كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( لينفروا كافّة ) نفرهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتفقّه، وقول بعضهم في( فلو لا نفر ) : أي إلى الجهاد، والمراد بقوله:( ليتفقهوا ) أي الباقون المتخلّفون فينذروا قومهم النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى اُولئك المتخلّفين. فهذه ونظائرها معان بعيدة لا جدوى في التعرّض لها والإطناب في البحث عنها.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّـار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) أمر بالجهاد العامّ الّذى فيه توسّع الإسلام حتّى يشيع في الدنيا فإنّ قتال كلّ طائفة من المؤمنين من يليهم من الكفّـار لا ينتهى إلّا باتّساع الإسلام اتّساعاً باستقرار سلطنته على الدنيا وإحاطته بالناس جميعاً.

والمراد بقوله:( وليجدوا فيكم غلظة ) أي الشدّة في ذات الله وليس يعنى بها

٤٢٩

الخشونة والفظاظة وسوء الخلق والقساوة والجفاء فجميع الاُصول الدينيّـة تذمّ ذلك وتستقبحه، ولحن آيات الجهاد ينهى عن كلّ تعدّ واعتداء وجفاء كما مرّ في سورة البقرة.

وفي قوله:( واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) وعد إلهى بالنصر بشرط التقوى، ويؤول معناه إلى إرشادهم إلى أن يكونوا دائماً مراقبين لأنفسهم ذاكرين مقام ربّهم منهم، وهو أنّه معهم ومولاهم فهم الأعلون إن كانوا يتّقون.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المسجد:( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ) الآية فكبّر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاريّ: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.

وفي الكافي بإسناده عن سماعة عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: لقى عبّاد البصريّ علىّ بن الحسينعليه‌السلام في طريق مكّة فقال له: يا علىّ بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينته إنّ الله يقول:( إنّ الله اشترى ) الخ، فقال علىّ بن الحسينعليه‌السلام إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ.

أقول: يريدعليه‌السلام ما في الآية الثانية:( التائبون العابدون ) الآية من الأوصاف.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سياحة اُمّتى في المساجد.

أقول: وروى عن أبى هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ السائحين هم الصائمون، وعن أبى اُمامة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ سياحة اُمّتى الجهاد في سبيل الله، وقد تقدّم الكلام فيه.

وفي المجمع:( التائبين العابدين ) إلى آخرها بالياء عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهما‌السلام .

٤٣٠

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) أخرج ابن أبى شيبة وأحمد والبخاريّ ومسلم والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال: لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أبوجهل وعبدالله بن أبى أميّة فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أى عمّ قل لا إله إلّا الله اُحاجّ لك بها عند الله فقال أبوجهل وعبدالله بن أبى اُميّة: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبدالمطّلب؟ وجعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرضها عليه وأبوجهل وعبدالله يعانوانه(١) بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلّمهم هو: على ملّة عبدالمطّلب، وأبى أن يقول: لا إله إلّا الله.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت:( ما كان للنبىّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) الآية، وأنزل الله في أبى طالب فقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ) .

اقول: وفي معناه روايات اُخرى من طرق أهل السنّة، وفى بعضها أنّ المسلمين لمّا رأوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر لعمّه وهو مشرك استغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية، وقد اتّفقت الرواية عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه كان مسلماً غير متظاهر بإسلامه ليتمكّن بذلك من حماية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيما روى بالنقل الصحيح من أشعاره شئ كثير يدلّ على توحيده وتصديقه النبوّة، وقد قدّمنا نبذة منها.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبى جعفر قال: الأوّاه الدّعاء.

وفي المجمع في قوله تعالى:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية قيل: مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض فقال المسلمون: يا رسول الله إخواننا المسلمون ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل:( وما كان الله ليضلّ قوماً ) الآية عن الحسن.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس في الآية قال: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الاُسارى(٢) قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتّى يؤذن لكم

____________________

(١) أي يفسرانه.

(٢) يعنى يوم بدر.

٤٣١

ولكن ما كان الله ليعذّب قوماً بذنب أذنبوه حتّى يبيّن لهم ما يتّقون. قال: حتّى ينهاهم قبل ذلك.

أقول: ظاهر الروايتين أنّهما من التطبيق دون النزول بمعناه المصطلح عليه، واتّصال الآية بالآيتين قبلها ودخولها في سياقهما ظاهر، وقد تقدّم توضيحه.

وفي الكافي بإسناده عن حمزة بن محمّـد الطيّار عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ) قال: يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه. الحديث.

أقول: ورواه أيضاً عن عبد الأعلى عنهعليه‌السلام ، ورواه البرقىّ أيضاً في المحاسن.

وفى تفسير القمّىّ:( لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة ) قال الصادقعليه‌السلام : هكذا نزلت وهم أبوذرّ وأبو خيثمة وعمير بن وهب الّذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: وقد استخرجناه من حديث طويل أورده القمّىّ في تفسيره في قوله تعالى:( ولو أرادوا الخروج لأعدوّا له عدّة ) الآية: ٤٦ من السورة، وروى قراءة( بالنبيّ ) في المجمع عنه وعن الرضاعليهما‌السلام .

وفي المجمع في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) وقرء علىّ بن الحسين زين العابدين ومحمّـد بن علىّ الباقرو جعفر بن محمّـد الصادقعليهم‌السلام وأبو عبد الرحمن السلمىّ. خالفوا.

وفيه في قوله:( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار ) الآية نزلت في غزاة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتّى همّ قوم بالرجوع ثمّ تداركهم لطف الله سبحانه قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثمّ ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم الشعير المسوّس والتمر المدوّد والإهالة السنخة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتّى يجد طعمها ثمّ يعطيها صاحبه فيمصّها ثمّ يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتّى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة.

وفيه في قوله:( وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا ) الآية نزلت في شأن كعب بن مالك

٤٣٢

ومرارة بن الربيع وهلال بن اُميّة، وذلك أنّهم تخلّفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يخرجوا معه لا عن نفاق ولكن عن توان ثمّ ندموا فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة جاؤوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم فهجرهم الناس حتّى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال: ولكن لا يقربوكنّ.

فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيؤون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضاً فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان، وبقوا على ذلك خمسين يوماً يتضرّعون إلى الله تعالى ويتوبون إليه، فقبل الله تعالى توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية.

أقول: وقد تقدّمت القصّة في حديث طويل نقلناه من تفسير القمّىّ في الآية ٤٦ من السورة، ورويت القصّة بطرق كثيرة.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب من تفسير أبى يوسف بن يعقوب بن سفيان حدّثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال:( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله ) قال: أمر الله الصحابة أن يخافوا الله. ثمّ قال:( وكونوا مع الصادقين ) يعنى مع محمّـد وأهل بيتهعليهم‌السلام .

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام وقد روى في الدرّ المنثورعن ابن مردويه عن ابن عبّـاس، وأيضاً عن ابن عساكر عن أبى جعفر في قوله:( وكونوا مع الصادقين ) قالا: مع علىّ بن أبى طالب.

وفي الكافي بإسناده عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبدالله (عيه السلام) إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عزّوجلّ:( فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الّذين ينتظرونهم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم.

٤٣٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، وهو ممّا يدلّ على أن المراد بالتفقّه في الآية أعمّ من تعلّم الفقه بالمعنى المصطلح عليه اليوم.

واعلم أنّ هناك أقوالاً اُخرى في أسباب نزول بعض الآيات السابقة تركناها لظهور ضعفها ووهنها.

٤٣٤

( سورة التوبة آيه ١٢٤ - ١٢٩)  

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمَاناً فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ١٢٤ ) وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى‏ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ( ١٢٥ ) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ثُمّ لاَيَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذّكّرُونَ ( ١٢٦ ) وَإِذا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِنْ أَحَدٍ ثُمّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ ( ١٢٧ ) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٢٨ ) فَإِن تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لاَإِلهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ١٢٩ )

( بيان)

هي آيات تختتم بها آيات براءة وهى تذكر حال المؤمنين والمنافقين عند مشاهدة نزول السور القرآنيّـة، يتحصّل بذلك أيضاً أمارة من أمارات النفاق يعرف بها المنافق من المؤمن، وهو قولهم عند نزول القرآن: أيّكم زادته هذه إيماناً ؟ ونظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد؟

وفيها وصفه تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفاً يحنّ به إليه قلوب المؤمنين، وأمره بالتوكّل عليه إن أعرضوا عنه.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً ) إلى آخر الآيتين. نحو السؤال في قولهم: هل يراكم من أحد؟ يدلّ على أنّ سائله لا يخلو من شئ في قلبه فإنّ هذا السؤال بالطبع سؤال من لا يجد في قلبه أثراً من

٤٣٥

نزول القرآن وكأنّه يذعن أنّ قلوب غيره كقلبه فيما يتلقّاه فيتفحّص عمّن أثّر في قلبه نزول القرآن كأنّه يرى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعى أنّ القرآن يصلح كلّ قلب سواء كان مستعدّاً مهيّئاً للصلاح أم لا وهو لا يذعن بذلك وكلّما تليت عليه سورة جديدة ولم يجد في قلبه خشوعاً لله ولا ميلاً وحناناً إلى الحقّ زاد شكّاً فبعثه ذلك إلى أن يسأل سائر من حضر عند النزول عن ذلك حتّى يستقرّ في شكّه ويزيد ثباتاً في نفاقه.

وبالجملة السؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق.

وقد فصل الله سبحانه أمر القلوب وفرّق بين قلوب المؤمنين والّذين في قلوبهم مرض فقال:( فأمّا الّذين آمنوا ) وهم الّذين قلوبهم خالية عن النفاق بريئة من المرض وهم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة( فزادتهم ) السورة النازلة( إيماناً ) فإنّها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الإيمان فيه، وهذه زيادة في الكيف، وباشتمالها على معارف وحقائق جديدة من المعارف القرآنيّـة والحقائق الإلهيّـة، وبسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان وهذه زيادة في الكمّيّة ونسبة زيادة الإيمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الأسباب الظاهرة وكيف كان فالسورة تزيد المؤمنين إيماناً فتنشرح بذلك صدورهم وتتهلّل وجوههم فرحاً( وهم يستبشرون ) .

( وأما الّذين في قلوبهم مرض ) وهم أهل الشكّ والنفاق( فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) أي ضلالاً جديداً إلى ضلالهم القديم وقد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً في قوله:( ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الانعام: ١٢٥ والمقابلة الواقعة بين( الّذين آمنوا ) و( الّذين في قلوبهم مرض ) يفيد أنّ هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح وإنّما هو الشكّ أو الجحد وكيف كان فهو الكفر ولذلك قال( وماتوا وهم كافرون ) .

والآية تدلّ على أنّ السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه فإن كان قلباً سليماً زادته إيماناً واستبشاراً وسروراً، وإن كان قلباً مريضاً زادته رجساً وضلالاً نظير ما يفيده قوله:( وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلّا

٤٣٦

خساراً ) أسرى: ٨٢.

قوله تعالى: ( أو لا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ) الآية الاستفهام للتقرير أي ما لهم لا يتفكّرون ولا يعتبرون وهم يرون أنّهم يبتلون ويمتحنون كلّ عام مرّة أو مرّتين فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهيّـة وهم لا يتوبون ولا يتذكّرون ولو تفكّروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم وأيقنوا أنّ الاستمرار على هذا الشأن ينتهى بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبّد.

قوله تعالى: ( وإذا ما اُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ) الآية وهذه خصيصة اُخرى من خصائصهم وهى أنّهم عند نزول سورة قرآنيّـة - ولا محالة هم حاضرون - ينظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد، وهذا قول من يسمع حديثاً لا يطيقه ويضيق بذلك صدره فيتغيّر لونه ويظهر القلق والاضطراب في وجهه فيخاف أن يلتفت إليه ويظهر السرّ الّذى طواه في قلبه فينظر إلى بعض من كان قد أودعه سرّه وأوقفه على باطن أمره كأنّه يستفسره هل يطّلع على ما بنا من القلق والاضطراب أحد؟

فقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي بعض المنافقين، وهذا من الدليل على أنّ الضمير في قوله في الآية السابقة:( فمنهم من يقول ) أيضاً للمنافقين، وقوله:( نظر بعضهم إلى بعض ) أي نظر قلق مضطرب يحذر ظهور أمره وانهتاك ستره، وقوله:( هل يراكم من أحد ) في مقام التفسير للنظر أي نظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد؟ ومن للتأكيد وأحد فاعل يراكم.

وقوله:( ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنّهم قوم لا يفقهون ) ظاهر السياق أنّ المعنى ثمّ انصرفوا من عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال صرف الله قلوبهم عن وعى الآيات الإلهيّـة والإيمان بها بسبب أنّهم قوم لا يفقهون الكلام الحقّ فالجملة حاليّة على ما يجوّزه بعضهممن خلوّا الجملة الحاليّة المصدّرة بالفعل الماضي عن قد.

وربّما احتمل كون قوله:( صرف الله قلوبهم ) دعاءً منه تعالى على المنافقين، وله

٤٣٧

نظائر في القرآن، والدعاء منه تعالى على أحد إيعاد له بالشرّ.

قوله تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) العنت هو الضرر والهلاك، وما في قوله:( ما عنتّم ) مصدريّة التأويل عنتكم، والمراد بالرسول على ما يشهد سياق الآيتين محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وصفه بأنّه من أنفسهم والظاهر أنّ المراد به أنّه بشر مثلكم ومن نوعكم إذ لا دليل يدلّ على تخصيص الخطاب بالعرب أو بقريش خاصّـة، وخاصّـة بالنظر إلى وجود رجال من الروم وفارس والحبشة بين المسلمين في حال الخطاب.

والمعنى لقد جاءكم أيّها الناس رسول من أنفسكم، من أوصافه أنّه يشقّ عليه ضرّكم أو هلاككم وأنّه حريص عليكم جميعاً من مؤمن أو غير مؤمن، وأنّه رؤوف رحيم بالمؤمنين منكم خاصّـة فيحقّ عليكم أن تطيعوا أمره لأنّه رسول لا يصدع إلّا عن أمر الله، وطاعته طاعة الله، وأن تأنسوا به وتحنّوا إليه لأنّه من أنفسكم، وأن تجيبوا دعوته وتصغوا إليه كما ينصح لكم.

ومن هنا يظهر أنّ القيود المأخوذة في الكلام من الأوصاف أعني قوله( رسول ) و( من أنفسكم ) و( عزيز عليه ما عنتّم ) الخ، جميعها مسوقة لتأكيد الندب إلى إجابته وقبول دعوته، ويدلّ عليه قوله في الآية التالية:( فإن تولّوا فقل حسبى الله ) .

قوله تعالى: ( فإن تولّوا فقل حسبى الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم ) أي وإن تولّوا عنك وأعرضوا عن قبول دعوتك فقل حسبى الله لا إله إلّا هو أي هو كافىّ لا إله إلّا هو.

فقوله:( لا إله إلّا هو ) في مقام التعليل لانقطاعه من الأسباب واعتصامه بربّه فهو كاف لا كافى سواه لأنّه الله لا إله غيره، ومن المحتمل أن تكون كلمة التوحيد جيئ بها للتعظيم نظير قوله:( وقالوا اتّخذ الله ولداً سبحانه ) البقرة: ١١٦.

وقوله:( عليه توكّلت ) وفيه معنى الحصر تفسير يفسّر به قوله:( حسبى الله ) الدالّ على معنى التوكّل بالالتزام، وقد تقدّم في بعض الأبحاث السابقة أنّ معنى التوكّل هو اتّخاذ العبد ربّه وكيلاً يحلّ محلّ نفسه ويتولّى تدبير اُموره أي انصرافه عن

٤٣٨

التسبب بذيل ما يعرفه من الأسباب، ولا محالة هو بعض الأسباب الّذى هو علّة ناقصة والاعتصام بالسبب الحقيقيّ الّذي إليه ينتهي جميع الأسباب.

ومن هنا يظهر وجه تذييل الكلام بقوله:( وهو ربّ العرش العظيم ) أي الملك والسلطان الّذي يحكم به على كلّ شئ ويدبّر به كلّ أمر.

وإنّما قال تعالى:( فقل حسبي الله ) الآية ولم يقل: فتوكّل على الله لإرشاده إلى أن يتوكّل على ربّه وهو ذاكر هذه الحقائق الّتي تنوّر حقيقة معنى التوكّل، وأنّ انظر المصيب هو أن لا يثق الإنسان بما يدر كه من الأسباب الظاهرة الّتي هي لا محالة بعض الأسباب بل يأخذ بما يعلمه منها على ما طبعه الله عليه ويثق بربّه ويتوكّل عليه في حصول بغيته وغرضه.

وفي الآية من الدلالة على عجيب اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باهتداء الناس ما ليس يخفى فإنّه تعالى يأمره بالتوكّل على ربّه فيما يهتمّ به من الأمر وهو ما تبيّنه الآية السابقة من شدّة رغبته وحرصه في اهتداء الناس وفوزهم بالسعادة فافهم ذلك.

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام - في حديث طويل يذكر فيه تمام الإيمان ونقصه، قال: قلت: قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عزّوجلّ:( وإذا ما اُنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) وقال:( نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى ) .

ولو كان كلّه واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر، ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّـة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان دخل المفرّطون النار.

٤٣٩

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة بن أعين عن أبى جعفرعليه‌السلام ( وأمّا الّذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ) يقول شكّاً إلى شكّهم.

وفي الدرّ المنثور في قوله:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) أخرج أبونعيم في الدلائل عن ابن عبّـاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يلتق أبواي قطّ على سفاح: لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّـبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذّباً لا تنشعب شعبتان إلّا كنت في خيرهما.

أقول: وقد أورد فيه روايات كثيرة في هذا المعنى عن رجال من الصحابة وغيرهم كالعبّـاس وأنس وأبى هريرة وربيعة بن الحارث بن عبدالمطّلب وابن عمر وابن عبّـاس وعلى ومحمّـد بن علىّ الباقر وجعفر بن محمّـد الصادقعليه‌السلام وغيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن وابن الأنباريّ في المصاحف وابن مردويه عن الحسن أنّ اُبىّ بن كعب كان يقول: إنّ أحدث القرآن عهداً بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الآيتان:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى آخر الآية.

أقول: و الرواية مرويّـة من طريق آخر عن اُبىّ بن كعب، وهى لا تخلو عن تعارض مع ما سيأتي من الرواية وكذا مع ما تقدّم من الروايات في قوله تعالى:( واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) الآية البقرة: ٢٨١ أنّها آخر آية نزلت من القرآن.

على أنّ لفظ الآيتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلّا أن يكون إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كحديث الدواة والقرطاس.

وفيه أخرج ابن إسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبى داود عن عباد بن عبدالله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم - إلى قوله -وهو ربّ العرش العظيم ) إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدرى والله إلّا أنّى أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فاُلحقت في آخر براءة.

أقول: وفي رواية أخرى أنّ عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بيّنه أبداً كذلك

٤٤٠

441

442