تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني8%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113725 / تحميل: 9456
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

موتُ عمادِ الدولة بن بويه:

في جمادى الآخرة سَنة ٣٣٨هـ مات عماد الدولة في شيراز، وكانت عِلّته الّتي مات بها قرحة في كلاه طالت به، وتوالت عليه الأسقام والأمراض، فلمّا أحسَّ بالموت أنفذ إلى أخيه رُكن الدولة يَطلب منه أن ينفذ إليه ابنه عَضُد الدولة فناخسرو؛ ليجعله وليَّ عهده، ووارث مملكته بفارس؛ لأنّ عماد الدولة لم يكن له وَلَد ذَكر، فأنفذ رُكن الدولة ولده عَضُد الدولة فوصل في حياة عمّه قبل موته بسَنة، وسارَ في جُملة ثقات أصحاب رُكن الدولة، فخَرج عماد الدولة إلى لقائه في جميع عسكره، وأجلسه في داره على السرير، ووقف هو بين يديه، وأمر الناس بالسلام على عَضُد الدولة والانقياد له، وكان يوماً عظيماً مشهوداً، وكان في قوّاد عِماد الدولة جماعة مِن الأكابر يخافهم، ويعرفهم بطلب الرياسة، وكانوا يَرون أنفسهم أكبر منه نَفساً وبيتاً، وأحقّ بالتَقدّم، وكان منهم قائد كبير يُقال له شيرنحين، فقبض عليه، فتشفع فيه أصحابه وقوّاده، فقال لهم:

إنّي أُحدّثكم عنه بحديث، فإن رأيتم أن أُطلقه فعلت. فحدّثهم أنّه كان في خُراسان في خدمة نصر بن أحمد، ونحن شرذمة قليلة مِن الديلم ومَعنا هذا، فجلس يوماً نصر، وفي خدمته مِن مماليكه ومماليك أبيه بضعة عشر ألفاً سوى سائر العسكر، فرأيت شيرنحين هذا قد جرّد سليناً معه ولفّه في كسائه، فقلت: ما هذا؟ فقال: أُريد أن أقتل هذا الصبي - يعني نصراً - ولا أُبالي بالقتل بعده، فإنّي قد أنِفَتْ نفسي مِن القيام بخدمته. وكان عُمر نصر بن أحمد يومئذ عشرين سَنة، وقد خرجت لحيته، فعلمت أنّه إذا فعل ذلك لم يُقتل وحده، بل نُقتَل كُلّنا، فأخذت بيده وقلت له: بيني وبينك حديث، فمَضيتُ به إلى ناحية، وجمعت الديلم وحدّثتهم حديثه، فأخذوا منه السكين، فتريدون منّي بعد أن سمعتم حديثه في معنى نصر أن أُمكّنه مِن الوقوف بين يدَي هذا الصبي، يعني ابن أخي.

فأمسكوا عنه وبقي محبوساً حتّى مات في مَحَبسِه، ومات عماد الدولة وبقي عضد الدولة بفارس، فاختَلف أصحابه، فكَتب مُعزّ الدولة إلى وزيره الصيمري بالمسير إلى شيراز، وتَرْك مُحاربة عمران بن شاهين، فسار إلى فارس ووصل رُكن الدولة أيضاً، واتفقا على تقرير قاعدة عضُد الدولة، وكان رُكن الدولة قد استخلف على الري عليّ بن كامة، وهو

١٦١

مِن أعيان أصحابه، ولمّا وصل رُكن الدولة إلى شيراز ابتدأ بزيارة قبر أخيه باصطخر، فمشى حافياً حاسراً، ومعه العساكر على حاله ولزم القبر ثلاثة أيّام إلى أن سأله القوّاد الأكابر ليرجع إلى المدينة، فرجع إليها وأقام تسعة أشهر، وأنفذ إلى أخيه مُعزّ الدولة شيئاً مِن المال والسلاح وغير ذلك، وكان عماد الدولة في حياته هو أمير الأُمراء، فلمّا مات صار أخوه رُكن الدولة أمير الأُمراء، وكان مُعزّ الدولة هو المُستولي على العراق والخلافة وهو كالنائب عنهما، وكان عِماد الدولة كريماً حليماً عاقلاً حَسِن السياسة للمُلك والرعيّة.

وقد ترجم له ابن خلكان، وترجم لأخَويه رُكن الدولة ومُعزّ الدولة، وقال في ترجمته:

وكان عِماد الدولة سبب سعادتهم التامّة, وانتشار صيتهم، واستولوا على البلاد، ومَلَكوا العراقين والأهواز وفارس، وساسوا أُمور الرعيّة أحسن سياسة، وقال:

وكانت وفاته يوم الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت مِن جمادى الأولى سَنة ثمان وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين وثلاثمئة بشيراز، ودُفن في دار المَملكة، وأقام في المملكة ستّ عشرة سنة، وعاش سبعاً وخمسين سَنة، ولم يُعقب رحمه الله تعالى، وأتاه في مرضه أخوه رُكن الدولة واتّفقا على تسليم بلاد فارس إلى عضد الدولة بن رُكن الدولة فتسلّمها.

وفي رواية ابن الأثير ورواية ابن خلكان اختلاف في الشهر الّذي تُوفّي فيه، فالأوّل يُؤرّخها في جمادى الآخرة، والثاني في جمادى الأولى، وهذا الاختلاف هو الّذي دعانا لنقل رواية ابن خلكان في تاريخ وفاته.

وقال المؤرّخ ابن كثير في ترجمته في حوادث سنة ٣٣٨هـ ما هذا مُلخّصه:

وهو أكبر أولاد بويه وأول مَن تملك مِنهم، وكان عاقلاً حاذقاً حميد السيرة رئيساً في نفسه، كان أوّل ظُهوره في سنة ثنتين وعشرين وثلاثمئة، فلمّا كان هذا العام قويت عليه الأسقام، وتواترت عليه الآلام، فأحسّ مِن نفسه بالهلاك، ولم يُفاده ولا دَفَعَ عنه أمر الله ما هو فيه مِن الأموال، ولا ردّ عنه جيشه مِن الديالم والأتراك والأعجام، مع كثرة العدَد والعُدد، بل تخلّوا عنه أحوج ماكان إليهم، إلى أنْ قال: وكان مِمَّن حاز قصب السبق دون أقرانه، وكان هو أمير الأُمراء، وبذلك كان يكُاتبه

١٦٢

الخُلفاء، ولكنّ أخوه مُعزّ الدولة كان يَنوب عنه في العراق والسواد.

وبالجملة فإنّ كلّ مَن ذَكرَ الدولة البويهيّة مِن المًؤرِّخين وأوليتها أشاد بفضائل عميدها عِماد الدولة، وجَمْعِه لكلِّ مُقوّمات المُلك والسياسة مِن نُهى وحزم وتدبير وسياسة وكياسة وعدل وبذل نَدَى ومُساعدة الأقدار له الخلال الّتي مهّدت له لتأسيس الدولة البويهيّة، وإقامة بنيانها على هذه القواعد، فكانت لها وللقائمين بأُمورها المكانة الرفيعة في التاريخ الإسلامي.

الثاني: أبو عليّ الحسن بن بويه بن فناخسرو الديلمي المُلقّب بركن الدولة:

قال ابن خلكان في وفياته:

وكان رُكن الدولة صاحب أصبهان والري وهمذان وجميع عراق العجم، وهو والد عضد الدولة فناخسرو، ومُؤيّد الدولة أبي منصور بويه وفخر الدولة أبي الحسن علي، وكان مَلِكاً جليل المقدار عالي الهِمّة، وكان أبو الفضل بن العميد وزيره، ولمّا تُوفّي استوزر ولده أبا الفتح عليّاً.

أوائل أمره:

إنّ أوّل أمره مُرتبط بأوّل أمر الأُخوة الثلاثة بني بويه: عماد الدولة وقد عرفت في ترجمته انضمامهم إلى ماكان بن كالي الديلمي، ثُمّ إلى مرداويج ابن زيار - مِن ملوك الجبل - بعد ظفره بماكان، ثُمّ استبدادهم بالأمر بعد تنكّر مرداويج لهم، وقلبه لهم ظهر المجن، وعدوله عن تولية أخيهم الأكبر عِماد الدولة الكرج، وتولية مَن كان في اللاجئين معه مِن القوّاد غيرهما، وقد أحسَّ منهم الطُموح إلى الاستبداد بالمُلك، إلى غير ذلك ممّا استوفينا خَبره في تَرجمة عِماد الدولة فلا نُعيده هُنا، وكان هو وأخوه مُعزّ الدولة ظهيريه وسيفيه المُرهفين على خُصومه لتأسيس دولتهم الفتيّة، وكانوا نِعم الأُخوة إخلاصاً واتّفاقاً يدوخون معه البلاد، ويخوضون لُجج الحُروب ببسالة نادرة، وشجاعة فائقة، وتدبير سديد، حتّى انتهى إليهم ما انتهى مِن سعة مُلكٍ ونُفوذ سلطان.

١٦٣

وكان لمّا استولى عماد الدولة على أرجان وغيرها، ومَلَك على مرداويج المذاهب واقض مضجعه قد بعث بأخيه رُكن الدولة إلى كازرون وغيرها مِن أعمال فارس في سنة إحدى وعشرين وثلاثمئة، فاستخرج مِنها أموالاً جليلة، فأنفذ ياقوت عسكراً إلى كازرون، فواقعهم رُكن الدولة فهزمهم وهو في نَفَر يسير، وعاد غانماً سالماً إلى أخيه.

وفي سَنة ثنتين وعشرين وثلاثمئة بعد استيلاء مرداويج على الأهواز وعَقْد عماد الدولة الصُلح معه على أن يُطيعه ويَخطب له - وهو ماكان يَطلبه مرداويج منه وقد ظهر أمره، واستقرار الأمر بينهما على هذه القاعدة - أهدى له عِماد الدولة هدية جليلة، وأنفذ أخاه رُكن الدولة رهينة، وكانت بذلك قوّة لعماد الدولة، وبعد مَقتل مرداويج بَذلَ رُكن الدولة للموكّلين مالاً فأطلقوه، ونجا إلى أخيه عِماد الدولة بفارس.

استقلال رُكن الدولة بالمُلك:

إنّ الخطّة القويمة الّتي سلكها بنو بويه بعد تظافُرهم واتّفاقهم - والّتي مَكّنت لهم مِن امتلاك ناصية البلاد، وظُهور الأمر والتَغلُّب على مُنافسيهم - تكاد ترجع إلى سَدّهم أبواب التنازُع فيما بينهم على الاستقلال بالمُلك، وهو ماكان ولا يزال مثارة كلّ شِقاق بين كلّ طامح إليه مِن بعيد وقريب، وبين الأب وابنه، والأخ وأخيه، وبين كلّ ذوي قرابة، فقد تناسى الأُخوة عاطفة الاستئثار، بل قضوا عليها القضاء المُبرم ولم تجد أنانيّة المُلك وأُبّهة التفرُّد به إلى نفوسهم سبيلاً، فتَمشّوا على قاعدة لم يَسبقهم لها سابق مٍن كلّ ذي إمرة وسُلطان، حيث عملوا مُجتمعين على تمكين كلّ واحد منهم بمملكة مُستقلّة لا يطمع منهم طامع فيها، ولا يَمدُّ ببصره إليها في ريبة، وقد عرفتَ وسَتَعرف أنّ الأخَوين عِماد الدولة ورُكن الدولة المُترجَم له كيف اشتورا بينهما في أمر إنشاء دولة مستقلة لأخيهما الأصغر مُعزّ الدولة، بهذا التدبير الحكيم، وهذا الإنصاف العجيب، وهذه الغيرية الرائعة قضوا على أسباب النزاع فيما بينهم، وحسموا العلّة قبل سريان العلّة، بل حصّنوا نفوسهم بمناعة تُبعد عنها شبح العلّة، فكان لهم بهذه الحكمة ذلك الظُهور، وكان كلّ منهم ظهيراً لأخيه على ردّ كيد كلّ مَن تُحدّثه نفسه بالاعتداء على مملكته، فما استقرّ في سَنة ثلاث وعشرين وثلاثمئة مُلك عِماد الدولة

١٦٤

لفارس حتّى كانت الري وأصبهان والجبل في يد رُكن الدولة ويد وشمكير ابن زيار أخي مرداويج يتنازعان عليها.

وفي هذه السَنة وُلد وَلده عضُد الدولة أبو شجاع فناخسرو بأصبهان، وهو الّذي انتهى إليه كلّ ما شاد بنو بويه مِن الممالك ومِن الأُبّهة والمَجد والعَظَمة، وما استجدّه في مُدّته مِن الممالك الأُخرى، وما بَلَغه مِن القوّة والنُفوذ على عاصمة الخلافة بغداد وخلفائها، كما ستراه مبسوطاً في ترجمته.

غَلَبة وشمكير لرُكن الدولة على أصبهان:

في سنة سبع وعشرين وثلاثمئة:

أرسل وشمكير بن زيار أخو مرداويج جيشاً كثيفاً مِن الري إلى أصبهان، وبها رُكن الدولة فأزالوه عنها، واستولوا عليها، وخطبوا فيها لوشمكير، ثُمّ سار رُكن الدولة إلى بلاد فارس فنزل بظاهر اصطخر، وسار وشمكير إلى قلعة ألموت فملكها وعاد عنها.

مسيره إلى واسط:

في سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة:

سار رُكن الدولة إلى واسط، وكان سَبب ذلك أنّ أبا عبد الله البريدي أنفذ جيشاً إلى السوس، وقتل قائداً مِن الديلم، فتحصّن أبو جعفر الصيمري بقلعة السوس، وكان على خراجها، وكان مُعزّ الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه بالأهواز فخاف أن يسير إليه البريدي مِن البصرة، فكَتب إلى أخيه رُكن الدولة وهو بباب اصطخر قد عاد مِن أصبهان بعد غلبة جيش وشمكير عليها، فلمّا أتاه كتاب أخيه سار إليه مُجدّاً يَطوي المنازل حتّى وصل إلى السوس، ثُمّ سار إلى واسط ليستَولّي عليها، إذ كان قد خرج عن أصبهان وليس له مُلك ليستقلّ به، فنزل بالجانب الشرقي، وكان البريديون بالجانب الغربي، فاضطرب رجال ابن بويه فاستأمن منهم مئة رجل إلى البريدي.

استرداد رُكن الدولة أصبهان:

عاد رُكن الدولة مِن واسط في هذه السَنة، واستولى على أصبهان، وسار مِن رامهرمز فاستولى عليها وأخرج عنها أصحاب وشمكير، وقتل منهم

١٦٥

وأسر بضعة عشر قائداً، وكان سَبَب ذلك أنّ وشمكير كان قد أنفذ عسكره إلى (ماكان) نجدة له، فخلت بلاد وشمكير مِن العساكر، وسار رُكن الدولة إلى أصبهان وبها نَفَرٌ يسير مِن العساكر فهزمهم واستولى عليها.

مُحالفة رُكن الدولة وأخيه عماد الدولة لأبي عليّ بن محتاج.

ومدّ رُكن الدولة له بالجيش لمحاربة ماكان ووشمكير، وكاتب هو وأخوه عِماد الدولة أبا عليّ بن محتاج يُحرّضانه على ماكان ووشمكير ويَعدانه المُساعدة عليهما، فصار بذلك بينهما مودّة، وكان قصدهما مِن هذا التحريض والوعد بالمساعدة أنْ تُؤخذ الري مِن وشمكير، فإذا أخذها أبو علي لا يُمكنه المُقام بها لسعة ولايته بخُراسان، فيُغلبان عليها، وبَلغَ أمرُ اتّفاقهم إلى وشمكير، وكاتب ماكان بن كالي يستخدمه ويُعرّفه الحال، فسار ماكان بن كالي مِن طبرستان إلى الري، وسار أبو علي وأتاه عسكر رُكن الدولة بن بويه، فاجتمعوا معه باسحاقاباذ والتقوا هُم ووشمكير، ووقف ماكان بن كالي في القلب وباشرَ الحرب بنفسه، وعبّئ أبو علي أصحابه كردايس، وأمرَ مَن بإزاء القلب أنْ يُلحّوا عليهم في القتال، ثُمّ يتطاردوا لهم ويَستجرّوهم، ثُمّ وصّى مَن بإزاء الميمنة والميسرة أنْ يُناوشوهم مُناوشة بمقدار ما يشغلونهم عن مُساعدة مَن في القلب ولا يُناجزوهم، ففعلوا بذلك، وألحّ أصحابه على قلب وشمكير بالحرب، ثُمّ تطاردوا لهم فطمع فيهم ماكان ومَن معه، فتبعوهم وفارقوا مواقفهم، فحينئذ أمرَ أبو علي الكراديس الّتي بإزاء الميمنة والميسرة أنْ يَتقدّم بعضهم ويأتي مَن في قلب وشمكير مِن ورائهم، ففعلوا ذلك، فلمّا رأى أبو علي أصحابه قد أقبلوا مِن وراء ماكان ومَن معه مِن أصحابه أمَرَ المُتطاردون بالعَود والحملة على ماكان وأصحابه، وكانت نفوسهم قد قَويت بأصحابهم، فرجعوا وحملوا على أولئك وأخذهم السيف مِن بين أيديهم ومِن خَلفهم، فولّوا مُنهزمين، فلمّا رأى ماكان ذلك ترجّل وأبلى بلاء حسناً، وظهرتْ منه شجاعة لم يَرَ الناس مثلها، فأتاه سَهم غرب فوقع في جبينه، فنفذ في الخوذة والرأس حتّى طلع مِن قفاه وسقط ميّتاً، وهرب وشمكير ومَن سَلِم معه إلى طبرستان.

استيلاء رُكن الدولة على الري:

وفي سنة ثلاثين وثلاثمئة لمّا سمِع رُكن الدولة وأخوه عِماد الدولة

١٦٦

بملك وشمكير الري طمعا فيه؛ لأنّ وشمكير كان قد ضعُف، وقلّتْ رجاله وماله بتلك الحادثة مع أبي علي، فسار رُكن الدولة إلى الري واقتتل هو ووشمكير، فانهزم وشمكير، واستأمن كثير مِن رجاله إلى رُكن الدولة، فسار وشمكير إلى طبرستان، فقصده الحَسن بن الفيرزان فاستأمن إليه كثير مِن عسكره أيضاً، فانهزم وشمكير إلى خُراسان.

ثُمّ إنّ الحسن بن الفيرزان راسل رُكن الدولة وواصله، فتزوّج رُكن الدولة بنتاً للحسن، فولدت له ولده فَخر الدولة عليّاً.

مُحاولة أبي عليّ بن محتاج مُلْك الريّ وعوده قبل مُلكها:

لمّا استقرّ الأمير نوح في ولايته بما وراء النهر وخُراسان أمَرَ أبا عليّ بن محتاج أنْ يَسير في عساكر خُراسان إلى الريّ ويستنقذُها مِن يدِ رُكن الدولة، فسار في جمع كثير فلقيه وشمكير بخُراسان وهو يَقصد الأمير نوحاً فسيّره إليه، وكان نوح حينئذ بمرو، فلمّا قَدِم عليه أكرمه وأنزله وبالغ في إكرامه والإحسان إليه.

وأمّا أبو علي، فإنّه سار نحو الري، فلمّا نزل ببسطام خالف عليه بعض مَن معه، وعادوا عنه مع منصور بن قراتكين - وهو من أكابر أصحاب نوح وخواصه - فساروا نحو جرجان وبها الحسن بن الفيرزان، فصدّهم الحسن عنها فانصرفوا إلى نيسابور، وسار أبو علي نحو الري فيمَن بقي معه، فخرج إليه رُكن الدولة مُحارباً فالتقوا على ثلاثة فراسخ مِن الري، وكان مع أبي عليّ جماعة كثيرة مِن الأكراد، ففرّوا منه واستأمنوا إلى رُكن الدولة، فانهزم أبو علي وعاد نحو نيسابور، وغنموا بعض أثقاله.

استيلاءُ أبي عليّ على الري:

ثُمّ سار أبو عليّ في هذه السنة - وهي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمئة - مِن نيسابور إلى نوح وهو بمرو، فاجتمع به فأعاده إلى نيسابور، وأمدّه بجيش كثير فعاد إلى نيسابور، وسار منها إلى الري في جمادى الآخرة وبها رُكن الدولة، فلمّا عَلِم رُكن الدولة بكثرة جموعه سار عن الري، واستولى أبو عليّ عليها وعلى سائر أعمال الجبال، وأنفذ نوّابه إلى الأعمال، وذلك في شهر رمضان مِن هذه السَنة.

ثُمّ إنّ الأمير نوحاً سار مِن مرو إلى نيسابور

١٦٧

فوصل إليها في رجب، وأقام بها خمسين يوماً، فوضع أعداء أبي علي جماعة مِن الغوغاء والعامّة فاجتمعوا واستغاثوا عليه، وشكوا سوء سيرته وسيرة نوّابه، فاستعمل الأمير نوح على نيسابور إبراهيم بن سيمجور، وعاد عنها إلى بُخارى في رمضان، وكان مُرادهم بذلك أنْ يَقطعوا طمع أبي علي عن خُراسان ليُقيم بالري وبلاد الجبل، فاستوحش أبو عليّ لذلك؛ فإنّه كان يَعتقد أنه يُحسن إليه بسبب فتح الري وتلك الأعمال، فلمّا عُزل شقَّ عليه ذلك، ووجّه أخاه أبا العبّاس الفضل بن محمّد إلى كور الجبال وولاّه همذان، وجعله خليفة على مَن معه مِن العساكر، فقصدَ الفضل نهاوند والدينور وغيرهما واستولى عليها، واستأمن إليه رُؤساء الأكراد مِن تلك الناحية، وأنفذوا إليه رهائنهم.

اختلافُ أبي عليّ والأمير نوح ثُمّ مُصالحتهما وانتهاز عِماد الدولة الفُرصة لاستعادة رُكن الدولة الري:

ما كانَ لعمادِ الدولةِ مِن التدبير لاستعادة رُكن الدولة الري:

استقرّ الصُلح بين الأمير نوح وأبي علي بعد الخلاف، وكان ذلك في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة.

لمّا سار أبو علي نحو الري في عساكر خُراسان، كَتب رُكن الدولة إلى أخيه عِماد الدولة فأرسل إليه يأمره بُمفارقة الري والوصول إليه لتدبير له في ذلك، ففعل رُكن الدولة ذلك، ودخل أبو علي الريَّ فكَتب عماد الدولة إلى نوح سِرّاً يبذل له في الري في كُلّ سَنة زيادة على ما بذله أبو علي مئة ألف دينار، ويُعجّل ضمان سَنة، ويَبذل مِن نفسه مُساعدته على أبي علي حتّى يَظفر به وخوفه منه، فاستشار نوح أصحابه - وكانوا يحسدون أبا علي ويُعادونه - فأشاروا عليه بإجابته، فأرسل نوح إلى ابن بويه مَن يُقرّر القاعدة ويَقبض المال، فأكرم الرسول ووصله بمال جزيل، وأرسل إلى أبي علي يُعلمه خبر هذه الرسالة، وأنّه مُقيم على عهده وودّه وحذره مِن غدر الأمير نوح، فأنفذ أبو علي رسوله إلى إبراهيم وهو بالموصل يستدعيه ليُملّكه البلاد، فسار إبراهيم، فلقيه أبو علي بهمذان وساروا إلى خُراسان، وكَتب عِماد الدولة إلى أخيه رُكن الدولة يأمره بالمُبادرة إلى الريّ، فعاد إليه

١٦٨

واضطربت خُراسان، وردّ عماد الدولة رسول نوح بغير مال، وقال:

أخاف أنْ أنفذ المال فيأخذه أبو علي، وأرسل إلى نوح يُحذّره مِن أبي علي ويَعده بالمُساعدة عليه، وأرسل إلى أبي علي يعده بإنفاذ العساكر نجدة له، ويُشير عليه بسُرعة اللقاء. وإنّ نوحاً سار فالتقى هو وأبي علي بنيسابور، فانهزم نوح وعاد إلى سمرقند، واستولى أبو علي على بُخارا.

إنّ هذا الخلاف بين أبي علي ونوح وعودة أبي علي إلى خُراسان مكّنا لرُكن الدولة مِن الرُجوع إلى الري والاستيلاء عليها وعلى سائر أعمال الجبل، وأزال عنها الخُراسانيّة، دع ذلك، الدهاء العظيم الّذي أوقع به عِماد الدولة بين خَصميه وخَصمَي أخيه نوح وأبي علي، فكانت منه الفرصة وانتهازها لعَودة أخيه رُكن الدولة إلى الري، وانتهى ضعف خُصوم البويهيّين إلى قوّتهم وعِظَم مُلكهم، حتّى صار بأيديهم أعمال الري والجبل وفارس والأهواز والعراق، ويُحمل إليهم ضمان الموصل وديار بَكر وديار مُضر مِن الجزيرة.

مُلك رُكن الدولة طبرستان وجُرجان:

في ربيع الأوّل سنة ستّ وثلاثين وثلاثمئة اجتمع رُكن الدولة والحسن بن الفيرزان، وقصدا بلاد وشمكير فالتقاهما وانهزم منهما، ومَلك رُكن الدولة طبرستان وسار منها إلى جُرجان فملكها، واستأمن مِن قواد وشمكير مئة وثلاثة عشر قائداً، فأقام الحسن بن الفيرزان بجُرجان، ومضى وشمكير إلى خُراسان مُستجيراً ومستنجداً لإعادة بلاده.

مُلك مُعزّ الدولة الموصل على ناصر الدولة والصُلح بينهما على قاعدة ميل، والخطبة في بلاده له ولأخَويه عِماد الدولة ورُكن الدولة:

في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة قصد مُعزّ الدولة مِن بغداد ناصر الدولة بن حمدان، فلمّا سمع ناصر الدولة بذلك سار عن الموصل إلى نصيبين، ووصل مُعزّ الدولة فمَلك الموصل، ولمّا همَّ أنْ يملك جميع بلاد ناصر الدولة أتاه الخبر مِن أخيه رُكن الدولة بقصد عساكر خُراسان جرجان

١٦٩

والري، ويطلب منه العساكر نجدةً فاضطرّ إلى مُصالحة ناصر الدولة، واستقرار الحال بينهما على مالٍ والخُطبة له في بلاده ولأخَويه عِماد الدولة وناصر الدولة.

وسار في هذه السَنة منصور بن قراتكين في جيوش خُراسان إلى جُرجان وبصُحبته وشمكير، فتمّ لهما امتلاك جُرجان صُلحاً مع الحسين بن الفيرزان عامل رُكن الدولة عليها، وبقي وشمكير بجُرجان.

مسير المرزبان إلى الري:

في هذه السنة سار المرزبان محمّد بن مسافر صاحب أذربيجان إلى الري؛ وسبب ذلك أنّه بلغه خُروج عساكر خُراسان إلى الري، وأنّ ذلك يُشغل رُكن الدولة عنه.

ثُمّ إنّه كان أرسل رسولاً إلى مُعزّ الدولة، فحَلق مُعزّ الدولة لحيته، وسبّه وسبّ صاحبه وكان سفيهاً، فعظُم ذلك على المرزبان، وأخذ في جمع العساكر، واستأمن إليه بعض قوّاد رُكن الدولة وأطمعه في الري، وأخبره أنّ مَنْ وراءه مِن القوّاد يُريدونه، فطمع لذلك، وراسله ناصر الدولة يَعدُه المُساعدة، ويُشير عليه أنْ يَبتدئ ببغداد، فحالفه ثُمّ أحضر أباه وأخاه وهسوذان، واستشارهما في ذلك، فنهاه أبوه عن قصد الري فلم يقبل، فلمّا ودّعه بكى أبوه، وقال:

يا بُني، أين أطلبك بعد يومي هذا، قال: إمّا في دار الإمارة بالري، وإمّا بين القتلى، فلمّا عرف رُكن الدولة خبره كَتب إلى أخَوَيه عِماد الدولة ومُعزّ الدولة يَستمدّهما، فسَيّر عِماد الدولة ألفَي فارس، وسير إليه مُعزّ الدولة جيشاً مع سبكتكين التركي، وأنفذ عهداً مِن المُطيع لله لركن الدولة بخُراسان، فلمّا صاروا بالدينور خالف الدَيلم على سبكتكين وكبسوه ليلاً، فركب فرس النوبة ونجا، واجتمع الأتراك عليه، فعلم الديلم أنّهم لا قوّة لهم به، فعادوا إليه وتضرّعوا فقبِل عُذرهم، وكان رُكن الدولة قد شَرع مع المرزبان في المُخادعة وإعمال الحيلة، فكَتب إليه يتواضع له ويُعظّمه، ويَسأله أن ينصرف عنه على شرط أن يُسلّم إليه رُكن الدولة زنجان وأبهر وقزوين، وتردّدت الرُسل في ذلك إلى أنْ وصله المَدد مِن عِماد الدولة ومُعزّ الدولة، وأحضر معه محمّد بن عبد الرزّاق، وأنفذ له الحسن بن الفيرزان عسكراً مع محمّد بن ماكان، فلمّا كَثُر جمعه قبض على جماعة ممَّن كان يتّهمهم مِن قوّاده، وسار إلى قزوين فعلم المرزبان عجزه

١٧٠

عنه، وأنِفَ مِن الرُجوع فالتقيا، فانهزم عسكر المرزبان، وأُخذ أسيراً وحُمل إلى سميرم فحُبس بها، وعاد رُكن الدولة ونزل محمّد بن عبد الرزاق بنواحي أذربيجان.

وأمّا أصحاب المرزبان، فإنّهم اجتمعوا على أبيه محمّد بن مسافر وولّوه أمرهم، فهرب منه ابنه وهسوذان إلى حصنٍ له، فأساء محمّد السيرة مع العسكر، فأرادوا قَتْله فهرب إلى ابنه وهسوذان، فقبض عليه وضيّق عليه حتّى مات، ثُمّ تحيّر وهسوذان في أمره، فاستدعى ديسم الكردي لطاعة الأكراد له، وقوّاه وسيّره إلى محمّد بن عبد الرزّاق، فالتقيا فانهزم ديسم وقوي ابن عبد الرزّاق، فأقام بنواحي آذربيجان يجبي أموالها، ثُمّ رجع إلى الري.

مسير الخراسانيّين إلى الري:

في سَنة تسع وثلاثين وثلاثمئة سار منصور بن قراتكين مِن نيسابور إلى الري في صَفر، أمَرَه الأمير نوح بذلك، وكان رُكن الدولة بفارس في شيراز مُستخلفاً على الريّ عليّ بن كامة، فوصل منصور إلى الري، وبها عليّ بن كامة خليفة رُكن الدولة، فسار عنها علي إلى أصبهان، ودخل منصور الري واستولى عليها، وفرق العساكر في البلاد، فملكوا بلاد الجبل إلى قرميسين، وأزالوا عنها نوّاب رُكن الدولة، واستولوا على همذان وغيرها، فبلَغَ الخبر إلى رُكن الدولة وهو بفارس، فكَتب إلى أخيه مُعزّ الدولة يأمره بإنفاذ عسكر يَدفع تلك العساكر عن النواحي المُجاورة للعراق، فسَيَّر سبكتكين الحاجب في عسكر ضخم مِن الأتراك والديلم والعَرب، فلمّا سارَ سبكتكين عن بغداد خَلّف أثقاله وأسرى جريدة إلى مَن بقرميسين مِن الخُراسانيّين، فكبسوهم وهُم غارون فقَتل فيهم، وأسر مُقدّمهم مَن الحمام واسمه بجكم الخمار تكيني، فأنفذه مع الأسرى إلى مُعزّ الدولة، فحبسه مُدّة ثُمّ أطلقه، فلمّا بَلغَ الخراسانيّة ذلك اجتمعوا إلى همذان، فسار سبكتكين نحوهم، ففارقوا همذان ولم يُحاربوه، ودخل سبكتكين همذان، وأقام بها إلى أن وَرَد عليه رُكن الدولة، فلمّا بقيَ بينهما مقدار عشرين فَرسخاً عَدَلَ منصور إلى أصبهان، ولو قصد همذان لانحاز رُكن الدولة عنه، وكان مَلَك البلاد بسبب اختلافٍ كان في عسكر رُكن الدولة، ولكنّه عَدَلَ عنه لأمرٍ يُريده الله تعالى.

وتَقدّم رُكن الدولة إلى سبكتكين بالمسير في مُقدّمته، فلمّا أراد المسير

١٧١

شغب عليه بعض الأتراك مَرّة بعد أُخرى، فقال رُكن الدولة:

هؤلاء أعداؤنا ومعنا، والرأي أنْ نبدأ بهم فواقعهم واقتتلوا فانهزم الأتراك، وبلَغَ الخبر إلى مُعزّ الدولة، فكَتب إلى ابن أبي الشوك الكُردي وغيره يأمرهم بطلبهم والإيقاع بهم، فطلبوهم وأسروا منهم وقُتلوا، ومضى مَن سَلِمَ منهم إلى الموصل.

وسار رُكن الدولة نحو أصبهان، ووصل ابن قراتكين إلى أصبهان، فانتقل مَن كان بها مِن أصحاب رُكن الدولة وأهله وأسبابه، وركبوا الصعب والذلول حتّى البقر والحمير، وبلغ كراء الثور والحمار إلى خان لنجان مئة درهم، وهي على تسعة فراسخ مِن أصبهان، فلم يُمكنهم مُجاوزة ذلك الموضع، ولو سار إليهم منصور لغنمهم وأخذ ما معهم وملك ما وراءهم، إلاّ أنّه دخل أصبهان وأقام بها، ووصل رُكن الدول فنَزَل بخان لنجان، وجرت بينهما حُروب عدّة أيام وضاقت الميرة على الطائفتين، وبلغ بهم الأمر إلى أن ذبحوا دوابهم، ولو أمكن رُكن الدولة الانهزام لفعل، ولكنّه تَعذّر عليه ذلك، واستشار وزيره أبا الفضل بن العميد في بعض الليالي في الهرب، فقال له:

لا ملجأ لكَ إلاّ الله تعالى، فانوِ للمسلمين خيراً، وصمِّم العَزم على حُسن السيرة والإحسان إليهم، فإنّ الحِيَل البشريّة كُلّها تَقطّعت بنا، وإنْ انهزمنا تبعونا وأهلكونا، وهم أكثر مِنّا فلا يفلت منّا أحد.

فقال له: قد سبقتُك إلى هذا، فلمّا كان الثُلث الأخير مِن الليل أتاهم الخبر أنّ منصوراً وعسكره قد عادوا إلى الري وتركوا خيامهم؛ وكان سببُ ذلك أنّ الميرة والعلوفة ضاقت عليهم أيضاً، إلاّ أنّ الديلم كانوا يَصبرون ويَقنعون بالقليل مِن الطعام، وإذا ذبحوا دابّة أو جَمَلاً قسّمه الخَلْق الكثير منهم، وكان الخُراسانيّة بالضدِّ منهم - لا يصبرون ولا يكفيهم القليل - فشغبوا على المَنصور واختلفوا وعادوا إلى الري، فكان عودهم في المُحرّم سنة أربعين وثلاثمئة، فأتى الخبر رُكن الدولة فلم يُصدّقه حتّى تواتر عنده، فركب هو وعسكره واحتوى على ما خلّفه الخُراسانيّة.

حكى الفضل بن العميد، قال:

استدعاني رُكن الدولة تلك الليلة الثُلث الأخير، وقال لي: قد رأيت الساعة في منامي كأنّي على دابّتي فيروز، وقد انهزم عدوّنا وأنت تسير إلى جانبي وقد جاءنا الفَرَج مِن حيث لا نَحتسب، فمددّتُ عيني فرأيت على الأرض خاتماً فأخذته فإذا فصّه من فيروزج، فجعلته في أصبعي وتَبرّكت به، وانتبهت وقد أيقنت بالظَفَر؛ فإنّ

١٧٢

الفيروزج مَعناهُ الظَفَر، ولذلك لقّبَ الدابّة فيروز.

قال ابن العميد:

فأتانا الخبر والبشارة بأنّ العدوّ قد رَحَل فما صدّقنا حتّى تواترت الأخبار، فركبنا ولا نعرف سَبَبَ هَرَبهم، وسُرنا حذرين مِن كمين، وسرتُ إلى جانب رُكن الدولة وهو على فرسه فيروز، فصاح رُكن الدولة بغُلام بين يديه: ناولني ذلك الخاتم، فأخذ خاتماً مِن الأرض فناوله إيّاه فإذا هو فيروزج فجعله في إصبعه، وقال: هذا تأويل رؤياي، وهذا الخاتم الّذي رأيت مُنذ ساعة، وهذا مِن أحسن ما يُحكى وأعجبه.

مسير أبي علي إلى الري:

لمّا كان مِن أمر وشمكير ورُكن الدولة ما مرّ ذِكره في مُلك رُكن الدولة طبرستان وجرجان، في ربيع الأوّل سَنة سبعٍ وثلاثين وثلاثمئة، وانهزام وشمكير ومضيّه إلى خُراسان مُستجيراً ومستنجداً لإعادة بلاده كَتب وشمكير إلى الأمير نوح يستمدّه، فكتب نوح إلى أبي عليّ بن محتاج يأمره بالمسير في جيوش خُراسان إلى الري، وقتال ركن الدولة، فسار أبو علي في جيوش كثيرة واجتمع معه وشمكير، فسار إلى الري في شهر ربيع الأوّل مِن سَنة اثنتين وأربعين وثلاثمئة، وبلغَ الخبر رُكن الدولة، فعلم أنّه لا طاقة له بمَن قصده، فرأى أن يحفظ بَلدَه ويُقاتل عدوّه مِن وجه واحد، فحارب الخُراسانيّين بطبرك، وأتاهم الشِتاء وملّوا فلم يصبروا، فاضطرّ أبو علي إلى الصُلح فتراسلوا في ذلك، وكان الرسول أبا جعفر الخازن، وكان المُشير به محمّد بن عبد الرزّاق فتصالحا، وتقرّر على رُكن الدولة كلّ سَنة مائتا ألف دينار، وعاد أبو علي إلى خُراسان، وكَتبَ وشمكير إلى الأمير نوح يُعرّفه الحال، ويَذكُر له أنّ أبا علي لم يَصدُق في الحرب، وأنّه مالأ رُكن الدولة، فاغتاظ نوح مِن أبي علي.

وأمّا رُكن الدولة، فإنّه لمّا عاد عنه أبو علي سار نحو وشمكير، فانهزم وشمكير مِن بين يديه إلى اسفراين، واستولى رُكن الدولة على طبرستان.

عَزلُ نوح أبا علي عن خُراسان والتجاء أبي علي إلى رُكن الدولة:

لمّا اتّصل خَبر عود أبي علي عن الري إلى الأمير نوح ساءه ذلك، وكَتب وشمكير إلى نوح يُلزم الذنب أبا علي كما سبق بيانه، فكَتب نوح إلى

١٧٣

أبي علي يعزله عن خُراسان، وكَتب إلى القوّاد يُعرّفهم ذلك، وأقام قائداً على الجيوش أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني، فأنفذ أبو علي يعتذر، وأرسل جماعة مِن أعيان نيسابور يُقيمون عُذره، ويسألون أنْ لا يُعزَل عنهم، فلم يُجابوا إلى ذلك، ولمّا عُزل أبو علي عن خُراسان أظهر الخلاف، وخطبَ لنفسه بنيسابور، وكَتب نوح إلى وشمكير والحسن بن الفيرزان يأمرهما بالصُلح، وأنْ يتساعدا على مَن يُخالف الدولة ففعلا ذلك، فلما عَلِمَ أبو علي باتّفاق الناس مع نوح عليه كاتب رُكن الدولة في المصير إليه؛ لأنّه عَلِمَ أنّه لا يُمكنه المقام بخُراسان، ولا يُقدر على العود إلى الصغانيان، فاضطرّ إلى مُكاتبة رُكن الدولة في المصير إليه، فأذِن له في ذلك، فسار في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمئة إلى الري، فلقيه رُكن الدولة وأكرمه، وأقام له الأنزال والضيافة له ولمَن معه، وطلب أبو علي أن يكتُب له عهداً مِن جهة الخليفة بولاية خُراسان فأرسل رُكن الدولة إلى مُعزّ الدولة في ذلك، فسيَّر له عهداً بما طلب، وسيَّر له نجدة مِن عسكره، فسارَ أبو علي إلى خُراسان واستولى على نيسابور، وخطب للمُطيع بها وبما استولى عليه مِن خُراسان، ولم يكن يَخطب له بها قبل ذلك.

ثُمّ إنّ نوحاً مات في خلال ذلك، وتولّى بعده ولَدَه عبد المَلك، فلمّا استقرّ أمره سيّر بكر بن مالك إلى خُراسان مِن بُخارى، وجعله مُقدّماً على جيوشها، وأمره بإخراج أبي علي مِن خُراسان، فسار في العساكر نحو أبي علي فتفرّق عنه أصحابه وعسكره، وبقيَ معه مِن أصحابه مئتا رجل سوى مَن كان عنده مِن الديلم نجدة له، فاضطرّ إلى الهرب، فسار نحو رُكن الدولة فأنزله معه في الري، واستولى ابن مالك على خُراسان، فأقام بنيسابور وتتبّع أصحاب أبي علي.

خُروج الخُراسانيّة إلى الري وأصبهان وانهزامهم بعد ظَفَرهم:

في سَنة أربع وأربعين وثلاثمئة خَرج عَسكر خُراسان إلى الري، وبها رُكن الدولة كان قد قَدمها من جُرجان أوّل المُحرّم، فكَتب إلى أخيه مُعزّ الدولة يستمدّه، فأمدّه بعسكر مُقدّمهم الحاجب سبكتكين، وسيّر مِن خُراسان عسكراً آخر إلى أصبهان على طريق المفازة وبها الأمير أبو منصور بويه بن رُكن الدولة، فلمّا بَلَغَه خبرهم سار عن أصبهان بالخزائن والحُرم الّتي لأبيه، فبلغوا خان لنجان، وكان مُقدّم العسكر الخُراساني محمّد بن ماكان، فوصلوا

١٧٤

إلى أصبهان فدخلوها، وخرج ابن ماكان منها في طلب بويه، فأدرك الخزائن فأخذها وسار في أثره، وكان مِن لُطف الله به أنّ الأُستاذ أبا الفضل بن العميد وزير رُكن الدولة اتّصل بهم في تلك الساعة، فعارض ابن ماكان وقاتله، فانهزم أصحاب ابن العميد عنه، واشتغل أصحاب ابن ماكان بالنهب.

قال ابن العميد:

فبقيت وحدي وأردت اللحاق بأصحابي، ففكّرت وقلت: بأي وجه ألقى صاحبي وقد أسلمت أهله وأولاده وأمواله ومُلكه ونجوت بنفسي، فرأيت القتلَ أيسر عليَّ مِن ذلك، فوقفت وعسكر ابن ماكان يَنهب أثقالي وأثقال عسكري، فلحق بابن العميد نفر مِن أصحابه ووقفوا معه، وأتاهم غيرهم، فاجتمع معهم جماعة، فحمل على الخُراسانيّين وهُم مشغولون بالنهب وصاحوا فيهم، فانهزم الخُراسانيّون، فأُخذوا مِن بين قتيل وأسير، وأُسر ابن ماكان وأُحضر عند ابن العميد، وسار ابن العميد إلى أصبهان فأخرج مَن كان بها مِن أصحاب ابن ماكان، وأعاد أولاد رُكن الدولة وحَرمه إلى أصبهان واستنقذ أمواله.

ثُمّ إنّ رُكن الدولة أرسل بكر بن مالك صاحب جيوش خُراسان واستماله، فاصطلحا على مال يَحمله رُكن الدولة إليه ويكون الري وبلد الجبل مع رُكن الدولة، وأرسل رُكن الدولة إلى أخيه مُعزّ الدولة يَطلب خلعاً ولواء بولاية خُراسان لبكر بن مالك فأرسل إليه ذلك.

استيلاء رُكن الدولة على طبرستان وجُرجان:

في المُحرّم سَنة إحدى وخمسين وثلاثمئة سار رُكن الدولة إلى طبرستان وبها وشمكير، فنزل على مدينة سارية فحصرها وملكها، ففارق حينئذٍ وشمكير طبرستان وقصد جُرجان، فأقام رُكن الدولة بطبرستان إلى أن ملكها كلّها وأصلح أمورها، وسار في طلب وشمكير إلى جُرجان، فأزاحه عنها واستولى عليها، واستأمن إليه مِن عسكر وشمكير ثلاثة آلاف رجُل، فازداد قوّة وازداد وشمكير ضعفاً ووهناً، فدخل بلاد الجبل.

التجاء إبراهيم بن المرزبان إلى رُكن الدولة:

في سَنة خمس وخمسين وثلاثمئة سيّر أبو القاسم بن مسيكي مِن وهسوذان بالجيوش إلى إبراهيم بن المرزبان، وانهزم وتبعه الطلب فلم

١٧٥

يُدركوه، وسار وحده حتّى وصل إلى الري إلى رُكن الدولة، فأكرمه وأحسن إليه، وكان زوج أخت إبراهيم فبالغ في إكرامه، وأجزل له الهدايا والصلات.

الغُزاة الخُراسانيّة مع رُكن الدولة:

في هذه السنة في شهر رمضان خرج مِن خُراسان جمعٌ عظيم يبلغون عشرين ألفاً إلى الري بنيّة الغُزاة، فَبلغَ خبرهم إلى رُكن الدولة وكثرة جَمعهم وما فعلوه في أطراف بلاده مِن الفساد، وأنّ رؤساءهم لم يمنعوهم عن ذلك، فأشار عليه الأستاذ أبو الفضل بن العميد - وهو وزيره - بمنعهم مِن دُخول بلاده مُجتمعين، فقال:

لا، تتحدّث المُلوك أنّني خِفت جمعاً مِن الغُزاة. فأشار عليه بتأخيرهم إلى أن يجمع عسكره، وكانوا مُتفرّقين في أعمالهم، فلم يقبل منه، فقال له:

أخاف أنْ يكون لهُم مع صاحب خُراسان مواطأة على بلادك ودولتك. فلم يلتفت إلى قوله، فلمّا وردوا الري اجتمع رؤساؤهم وفيهم القفال الفقيه، وحضروا مجلس ابن العميد، وطلبوا مالاً يُنفقونه، فوعدهم فاشتطّوا في الطَلَب، وقالوا:

نُريد خراج هذه البلاد جيعها فإنّه لبيت المال، وقد فعل الروم بالمسلمين ما بَلغكم، واستولوا على بلادكم، وكذلك الأرمن، ونحن غُزاة وفقراء، وأبناء سبيل، فنحن أحقّ بالمال منكم. وطلبوا جيشاً يَخرج معهم واشتطّوا في الاقتراح، فعلم ابن العميد حينئذٍ خُبث سرائرهم، وتيقّن ما كان ظنّه فيهم فرفق بهم وداراهم، فعَدلوا عنه إلى مُشاتَمة الديلم ولعنهم وتَكفيرهم، ثُمّ قاموا عنه وشرعوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويُسلّبون العامّة بحُجّة ذلك.

ثُمّ إنّهم أثاروا الفتنة وحاربوا جماعة مِن الديلم إلى أنْ حَجز بينهم الليل، ثُمّ باكروا القتال ودخلوا المدينة ونهبوا دار الوزير ابن العميد وجرحوه وسَلِمَ مِن القتل، وخرج رُكن الدولة إليهم في أصحابه وكان في قلّة، فهزمه الخُراسانيّة، فلو تبعوه لأتوا عليه وملكوا البلد منه، لكنّهم عادوا عنه؛ لأنّ الليل أدركهم، فلمّا أصبحوا راسلهم رُكن الدولة ولطُف بهم؛ لعلّهم يَسيرون مِن بلده فلم يفعلوا، وكانوا ينتظرون مَدداً يأتيهم مِن صاحب خُراسان، فإنّه كان بينهم مواعدة على تلك البلاد.

ثُمّ إنّهم اجتمعوا وقصدوا البلد ليملكوه، فخرج رُكن الدولة إليهم فقاتلهم، وأمر نَفَراً مِن أصحابه أنْ يسيروا إلى مكانِ سيرهم، ثُمّ يُثيروا غُبرة شديدة ويُرسلوا إليه مَن يُخبره أنّ الجيوش قد أتته، ففعلوا ذلك، وكان

١٧٦

أصحابه قد خافوا لقلّتهم وكثرة عدوّهم، فلمّا رأوا الغُبرة وأتاهم مَن أخبرهم أنّ أصحابهم لحقوهم قويَت نفوسهم، وقال لهم رُكن الدولة:

احملوا على هؤلاء لعلّنا نَظفر بهم قبل وصول أصحابنا فيكون الظَفَر والغنيمة لنا، فكَبّروا وحملوا حملة صادقة، فكان لهم الظَفر، وانهزم الخُراسانيّة، وقُتل منهم خَلق كثير، وأُسر أكثر ممَّن قُتل، وتَفرّق الباقون، فطلبوا الأمان فأمّنهم رُكن الدولة، وكان قد دخل البلد جماعة منهم يُكبّرون كأنّهم يُقاتلون الكفار، ويقتلون كلّ مَن رأوه بزيِّ الديلم، ويقولون هؤلاء رافضة، فبلغهم خبر انهزام أصحابهم، وقصَدَهُم الديلم ليقتلوهم فمنعهم رُكن الدولة، وأمّنهم، وفتح لهم الطريق ليعودوا، ووصل بعدهم نحو ألفَي رجل بالعدّة والسلاح، فقاتلهم رُكن الدولة فهزمهم، وقتل فيهم ثُمّ أطلق الأُسارى، وأمر لهم بنفقات وردّهم إلى بلادهم، وكان إبراهيم بن المرزبان عند رُكن الدولة، فأثّر فيهم آثاراً حَسنة.

عود إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان ومعه ابن العميد نجدة:

في هذه السَنة عاد إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان واستولى عليها، وكان سبب ذلك أنّه لمّا قصد رُكن الدولة لاجئاً إليه بعد انهزامه مِن أبي القاسم بن مسيكي، جهّز العساكر معه، وسيّر معه الأُستاذ أبا الفضل بن العميد ليردّه إلى ولايته، ويُصلح له أصحاب الأطراف، فسار معه إليها، واستولى عليه، وأصلح له جستان بن شرمزن وقاده إلى طاعته، وغيره مِن طوائف الأكراد ومكّنه مِن البلاد، وكان ابن العميد لمّا وصل إلى تلك البلاد، ورأى كثرة دخلها وسعة مياهها، ورأى ما يَتحصّل لإبراهيم منها، فوجده قليلاً لسوء تدبيره، وطمع الناس فيه لاشتغاله بالشُرب والنساء، فكَتب إلى رُكن الدولة يُعرّفه الحال، ويُشير بأنْ يُعوّضه مِن بعض ولايته بمقدار ما يَتحصّل له مِن هذه البلاد، ويأخذها منه، فإنّه لا يَستقيم له حال مع الّذين بها، وأنّها تُؤخذ منه، فامتنع رُكن الدولة مِن قبول ذلك منه، وقال:

لا يتحدّث الناس عنّي أنّي استجارَ بي إنسان وطمعت فيه. وأمر أبا الفضل بالعود عنه، وتسليم البلاد إليه ففعل، وعاد وحكى لرُكن الدولة صورة الحال، وحذّره خروج البلاد مِن يد إبراهيم، وكان الأمر كما ذكره حتّى أُخذ إبراهيم وحُبس.

إنّك لَتَرى مِن سداد تدبيره في الغَلبَة على الغُزاة الخُراسانيّة ومِن مُعاملته

١٧٧

أُساراهم ومَن وقع في قبضته مِن الرِفق بهم، وردّهم إلى بلادهم مُزوَّدين بالنفقات، ومِن عفّة نفسه عن امتلاك آذربيجان وأخذها مِن إبراهيم بن المرزبان العائذ به، ومِن استعادتها بتدبير وزيره ابن العميد وقوّة جيشه، وملكها على طرف التمام، وأبى على وزيره المُشار إليه مشورته عليه بالاستيلاء عليها، إنّك لَترى مِن ذلك حِكمة هذا الرجل العظيم، وعِفّة نفسه وبُعده عن الطمع في توسيع مُلكه مِن أيّ طريق اتّفق، كما هو شأن المُلوك والأُمراء، وبِمَِثل هذه الحال استطاع أنْ يحتفظ بِمملكته المُضطربة اضطراب السفينة في البحر الهائج، حيث لا يَعرف الاستقرار والطمأنينة مِن كثرة الطامعين فيها مِن هُنا وهُناك، وطلب المُلك مِن كلّ طامع في المُلك في ذلك العهد، سواء كان ممَّن لهُم سابقة فيه، أم كان مِن المستحدثين، والباب مفتوح إليهم جميعاً على مصراعيه مِن أعظم ما مُني به ذلك العصر وأهله مِن البلاء العظيم، وسترى مُضافاً إلى هذا وما يماثله لهذا الرجل الكبير مِن الفضائل ما تقف عليه في خروج عساكر خُراسان إلى بلاده الري في هذا العام.

خُروج عساكر خُراسان إلى الري:

في سَنة ستّ وخمسين وثلاثمئة جهّز الأمير منصور بن نوح - صاحب خُراسان وما وراء النهر - الجيوش إلى الري، وكان سَبب ذلك أنّ أبا علي بن إلياس سار مِن كرمان إلى بُخارا مُلتجئاً إلى الأمير منصور، فلمّا ورد عليه أكرمه وعظّمه، فأطمَعَه في ممالك بني بويه، وحسَّنَ له قصدها، وعرّفه أنّ نوّابه لا يُناصحونه، وأنّهم يأخذون الرُشا مِن الديلم، فوافق ذلك ما كان يَذكره له وشمكير، فكاتب الأمير منصور وشمكير والحسن بن الفيرزان يُعرّفهما ما عَزم عليه مِن قصْد الري، ويأمرهما بالتجهُّز لذلك ليسيرا مع عسكره، ثُمّ إنّه جهّزَ العساكر وسيّرها مع صاحب جيوش خُراسان، وهو أبو الحسن محمّد ابن إبراهيم بن سيمجور الدواني، وأمره بطاعة وشمكير والانقياد له والتَصرّف بأمره، وجعله مُقدّم الجيوش جميعها، فلمّا بلغَ الخبر إلى رُكن الدولة أتاه ما لم يكن في حِسابه، وأخذه المُقيم المقعد، وعَلِمَ أنّ الأمر قد بَلغ الغاية، فسيّر أولاده وأهله إلى أصبهان، وكاتب ولده عضُد الدولة يَستمدّه، وكاتب ابن أخيه عِزّ الدولة بختيار يستنجده أيضاً، فأمّا عضُد الدولة، فإنّه جهَّز العساكر وسيّرهم إلى طريق خُراسان، وأظهر أنّه يُريد قَصد

١٧٨

خُراسان لخُلوّها مِن العساكر، فبَلَغ الخَبر أهل خُراسان، فأحجموا قليلاً ثُمّ ساروا حتّى بَلغوا الدامغان، وبرز رُكن الدولة في عساكره مِن الريّ نحوهم، فاتّفق موت وشمكير، فكان سَبب موته أنّه وصله مِن صاحب خُراسان هدايا مِن جملتها خيل، فاستعرض الخيل واختار أحدها وركبه للصيد، فعارضه خنزير قد رُمي بحربة وهي ثابتة فيه، فحمل الخنزير على وشمكير وهو غافل، فضرب الفرس فشبّ تحته فألقاه إلى الأرض، وخرج الدم من أُذنيه وأنفه فحُمِل ميّتاً، وذلك في المُحرّم مِن سَنة سبع وخمسين، وانتقض جميع ما كانوا فيه وكفى الله رُكن الدولة شرّهم، ولمّا مات وشمكير قام ابنه بيستون مقامه، وراسل رُكن الدولة وصالحه، فأمدّه رُكن الدولة بالمال والرِجال.

ومِن أعجب ما يُحكى ممّا يُرغِّب في حُسن النيّة وكرم المَقدرة أنّ وشمكير لمّا اجتمعت معه عساكر خُراسان وسار كَتب إلى رُكن الدولة يتهدّده بِضروب مِن الوعيد والتهديد، ويقول:

والله لئن ظفرتُ بك لأفعلنَّ بكَ ولأصنعنَّ - بألفاظ قبيحة - فلم يتجاسر الكاتب أنْ يقرأه، فأخذه رُكن الدولة فقرأه، وقال للكاتب:

اكتب إليه أمّا جمعُك وأحشادك، فما كُنت قط أهون منك عليَّ الآن، وأمّا تهديدك وإيعادك، فوالله لئن ظفرتُ بك لأُعاملنَّك بضدّه ولأُحسننَّ إليك ولأُكرمنّك، فلقي وشمكير سوء نيّته ولقي رُكن الدولة حُسن نيّته.

وكان بطرستان عدوٌّ لرُكن الدولة يُقال له نوح بن نصر، شديد العداوة له، لا يزال يَجمع له ويقصد أطراف بلاده، فمات الآن.

وعصى عليه بهمذان إنسان يُقال له أحمد بن هارون الهمذاني - لمّا رأى خُروج عساكر خُراسان - وأظهر العصيان، فلمّا أتاه خبر موت وشمكير مات لوقته، وكفى الله رُكن الدولة همّ الجميع.

مَسير ابن العميد إلى حسنويه الكُردي:

في سَنة تسع وخمسين وثلاثمئة جهّز رُكن الدولة وزير أبا الفضل بن العميد في جيش كَثيف، وسيّرهم إلى بلد حَسنَويه بن الحسين الكُردي، وسَبب ذلك أنّه كان قد قويَ واستفحل أمرُه؛ لاشتغال رُكن الدولة بما هو أهمُّ منه؛ ولأنّه كان يُعين الدولة على جيوش خُراسان إذا قصدتهم، فكان رُكن الدولة يُراعيه لذلك، ويُغضي على ما يبدو منه، وكان يَتعرّض إلى

١٧٩

القوافل وغيرها بخفارة، فبلغ ذلك رُكن الدولة فسكت عنه، فلمّا كان الآن وقع بينه وبين سهلان بن مُسافر خلاف أدّى إلى أنْ قصده سهلان وحاربه، وهزمه حسنويه، فانحاز هو وأصحابه إلى مكان اجتمعوا فيه، فقصدهم حسنويه وحصرهم فيه، ثُمّ إنّه جمع مِن الشوك والنبات وغيره شيئاً كثيراً، وفرّقه في نواحي أرض سهلان، وألقى فيه النار، وكان الزمان صيفاً فاشتدَّ عليهم الأمر حتّى كادوا يَهلكون، فلمّا عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأمّنهم، فأخذهم عن آخرهم، وبلغَ ذلك رُكن الدولة فلم يحتمله له، فحينئذٍ أمَر ابن العميد بالمسير إليه، وكان ابن العميد مريضاً، فتجهّز وسار في المُحرّم ومعه ولده أبو الفتح، وكان شابّاً مَرِحاً قد أبطره الشباب والأمر والنهي، وكان يَظهَر منه ما يَغضب بسببه والده، وازدادت علّته، وكان به نقرس وغيره مِن الأمراض، فلمّا وصل إلى همذان تُوفّي بها، وقام ولده مقامُه، فصالح حسنويه على مال أخذه منه، وعاد إلى الريّ إلى خدمة رُكن الدولة، وكان والده يقول عند موته:

ما قتلني إلاّ ولدي، وما أخاف على بيت العميد أنْ يَخرب ويهلكوا إلاّ منه، فكان على ما ظن، وكان أبو الفضل بن العميد مِن محاسن الدُنيا وبه تَخرّج عضُد الدولة، ومنه تعلّم سياسة المُلك ومحبّته العِلم والعُلماء.

الصُلح بين الأمير منصور بن نوح ورُكن الدولة وعضُد الدولة:

في سَنة إحدى وستين وثلاثمئة تمَّ الصُلح بين الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب خُراسان وما وراء النهر، وبين رُكن الدولة وابنه عضُد الدولة على أنْ يَحمل رُكن الدولة وعضُد الدولة إليه كلَّ سَنة مئة ألف وخمسين ألف دينار، وتزوّج نوح بابنة عضُد الدولة، وحَمل إليه مِن الهدايا والتُحف ما لم يَحمل مثله، وكُتب بينهم كتاب صلح، وشهّد فيه أعيان خُراسان وفارس والعراق، وكان الّذي سعى في هذا الصُلح وقرّره محمّد بن إبراهيم بن سيمجور صاحب جُيوش خُراسان مِن جِهة الأمير منصور.

مَزيّة جليلة مِن مزايا رُكن الدولة:

قد مرّ في تضاعيف أخبار الأُخوة الثلاثة بني بويه كلام في معنى تضامنهم العجيب، وحُرصهم على أنْ يكونوا كلّهم مُلوكاً لا يدخل الحسد في قلب واحد منهم على أخيه، وإنّ ذلك مِن أسباب فوزهم جميعاً بالمُلك،

١٨٠

وتجد هذه المزيّة ظاهرة كمال الظُهور في رُكن الدولة، حين كَتب له المرزبان ابن بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة بقبض عضُد الدولة وأبي الفتح بن العميد على والده وعَمّيه سَنة أربع وستّين وثلاثمئة، ويذكر له الحيلة الّتي تمّت عليه، فألقى بنفسه عن سريره إلى الأرض وتمرّغ عليها، وامتنع مِن الأكل والشُرب عدّة أيّام، ومَرِض مرضاً لم يستقلّ منه باقي حياته، ولمّا كاتب ابن بقية رُكن الدولة بحاله وحال بختيار كَتب رُكن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممَّن احتمى لبختيار يأمرهم بالثبات والصبر، ويُعرّفهم أنّه على المسير إلى العراق لإخراج عضُد الدولة وإعادة بختيار، فاضطربت النواحي على عضُد الدولة، وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه، وانقطعت عنه مواد فارس والبحر، وسترى ذلك مبسوطاً في ترجمة عضُد الدولة - إن شاء الله - وجواب رسول عضُد الدولة الّذي أرسله لوالده يدلي إليه بعُذره ويُبيّن له أسباب قبضه على بختيار، فردّ رُكن الدولة الرسول ردّاً قبيحاً ولم يقبل لابنه عُذراً، وكان الرسول أبا الفتح بن العميد الّذي اتخذ شتّى الوسائط لاسترضائه عليه، وما ذنبه إلاّ أداؤه رسالة ابنه، ولم يرضَ إلاّ بإعادة عضُد الدولة إلى فارس مملكته وتقرير العراق لبختيار، فأنت ترى أنّ رُكن الدولة عرّض مملكة ولده، بل حياته للخطر في سبيل صلته لرحمِه، ومُراعاته لابن أخيه مُعزّ الدولة الّذي كان يُحبّه محبّة شديدة؛ لأنّه رباه فكان عنده بمنزلة الولد.

وفاة رُكن الدولة ومُلك عضُد الدولة:

في المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة تُوفّي رُكن الدولة أبو علي الحسن بن بويه واستخلف على ممالكه ابنه عضُد الدولة، وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة، وكان ابنه عضُد الدولة قد عاد مِن بغداد بعد أن أطلق بختيار على الوجه الّذي قد تقرّر، وظهر عند الخاصّ والعامّ غَضَب والده عليه، فخاف أنْ يموت أبوه وهو على حال غضبه فيختلّ مُلكه، وتزول طاعته، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد وزير والده يطلب منه أنْ يتوصّل مع أبيه وإحضاره عنده، وأنْ يعهد إليه بالمُلك بعده، فسعى أبو الفتح في ذلك فأجابه إليه رُكن الدولة، وكان قد وجد في نفسه خِفّة، فسار مِن الريّ إلى أصبهان، فوصلها في جمادى الأُولى سنة خمس وستّين وثلاثمئة،

١٨١

وأحضر ولده عضُد الدولة مِن فارس، وجمع عنده أيضاً سائر أولاده بأصبهان، فعمِل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها رُكن الدولة وأولاده والقوّاد والأجناد، فلمّا فَرِغوا مِن الطعام عهِد رُكن الدولة إلى ولده عضُد الدولة بالمُلك بعده، وجعل لولده فَخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل، ولولده مؤيّد الدولة أصبهان وأعمالها، وجعلهما في هذه البلاد بحُكم أخيما عضُد الدولة، وخلع عضُد الدولة على سائر الناس ذلك اليوم الأقبية والأكسية على زيّ الديلم، وحيّاه القوّاد وإخوته بالريحان على عادتهم مع مُلوكهم، وأوصى رُكن الدولة أولاده بالاتّفاق، وترك الاختلاف وخلع عليهم، ثُمّ سار عن أصبهان في رجب نحو الريّ فدام مرضه إلى أنْ تُوفّي فأُصيب به الدين والدُنيا جميعاً لاستكمال جميع خلال الخير فيه، وكان عُمره قد زاد على سبعين سَنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سَنة.

بعض سيرته:

قال ابن الأثير:

بعد هذا الّذي نقلنا عن تاريخه الكامل - ذاكراً بعض سيرته - كان حليماً، كريماً، واسع الكرم، كثير البذل، حَسِن السياسة لرعاياه وجُنده، رؤوفاً بهم، عادلاً في الحُكم بينهم، وكان بعيد الهمّة، عظيم الجدّ والسعادة، مُتحرّجاً مِن الظُلم، مانعاً لأصحابه منه، عفيفاً عن الدِماء، يرى حقنها واجباً، إلاّ فيما لا بُدّ مِنه، وكان يُحامي على أهل البيوتات، أو كان يُجري عليهم الأرزاق، ويصونهم عن التبذل، وكان يَقصد المساجد الجامعة في أشهر الصيام للصلاة، وينتصب لردِّ المظالم، ويتعهّد العلويّين بالأموال الكثيرة، ويتصدّق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات، ويُلين جانبه للخاصّ والعام.

قال له بعض أصحابه في ذلك، وذَكر له شدّة مرداويج على أصحابه، فقال:

انظر كيف اخترم ووثب عليه أخصّ أصحابه به وأقربهم منه؛ لعُنفه وشدّته، وكيف عمرتُ وأحبّني الناس للين جانبي. وحُكي عنه أنّه سار في سفر، فنزل في خركاه قد ضُربت له قِبَل أصحابه، وقُدّم إليه طعام، فقال لبعض أصحابه:

لأيّ شيء قيل في المثل: خيرُ الأشياءِ في القريةِ الإمارة.

فقال صاحبه: لقعودك في الخركاه وهذا الطعام بين يديك، وأنا لا خركاه ولا طعام، فضحك وأعطاه الخركاه والطعام.

فانظر إلى هذا الخُلُق ما

١٨٢

أحسنه ما أجمله، وفي فعله في حادثة بختيار ما يَدلّ على كمال مروءته وحُسن عهده وصلته لرحمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكان له حُسن عهد ومودّة وإقبال.

قال ابن خلكان في وَفَياته:

وكان مسعوداً ورُزق السعادة في أولاده الثلاثة، وقَسّم عليهم الممالك، فقاموا بها أحسن قيام، وتُوفّي رُكن الدولة ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت مِن المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة بالري، ودُفن في مشهده، ومولده تقديراً في سَنة أربع وثمانين، قال أبو إسحاق الصابي: ومَلك أربعاً وأربعين سَنة وشهراً وتسعة أيّام، وتولّى بعده ولده مؤيّد الدولة رحمهما الله تعالى.

وقال ابن كثير في حوادث سنة ٣٥٦:

فيها قَسّم رُكن الدولة بن بويه ممالكه بين أولاده (الثلاثة) عندما كَبُرت سِنّه، فجعل لولده عضُد الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان، ولولده مؤيَّد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدينور، وجعل ولده أبا العبّاس في كنف عضُد الدولة وأوصاه به.

أمّا ذكره بلاد فارس فيما اختص به ولده عضُد الدولة، فإنّ بلاد فارس لم تكن مِن ممالكه، بل كانت مملكة أخيه عِماد الدولة الّذي لم يُرزق وَلداً ذَكراً يرثها منه، بل عهِد بها لعضُد الدولة كما مرّ بيان ذلك في ترجمة عِماد الدولة.

وقال في حوادث سنة (٣٦٦):

فيها توفّي رُكن الدولة بن علي بن بويه، وقد جاوز التسعين سَنة، ثُمّ ذَكر بعد ذلك قَصد عضُد الدولة العراق ليأخذها مِن ابن عمّه بختيار، والتقائه به في الأهواز، وانهزامه منه، واستظهاره عليه وإذلاله، ثُمّ القبض على وزيره ابن بقية إلى أنْ قال: وكذلك أمرُ رُكن الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح بن العميد لموجدة تقدّمت منه إليه.

وفي ذلك أغلاط نربأ بابن كثير أنْ يرتكبها:

الأول: جعله عليّاً أباً لرُكن الدولة، وعلي وهو عماد الدولة أكبر الأُخوة الثلاثة أخو رُكن الدولة.

الثاني: قوله: إنّ رُكن الدولة قد جاوز التسعين، وقد عرفتَ ممّا نقلناه عن ابن الأثير وابن خلكان، أمّا الأوّل فيقول إنّ عُمره قد زاد على السبعين، والثاني يُقدّر عُمره باثنتين وثمانين سَنة، فقول ابن كثير قولاً ثالث، إنْ كانت التسعين غير مُحرّفة عن السبعين.

الثالث: قوله: إنّ رُكن الدولة أمرَ بالقبض

١٨٣

على وزير أبيه أبي الفتح، فإنّ أبا رُكن الدولة وهو بويه لم يكن مَلكاً ليستوزر، وإنّما كان أولاده الثلاثة مُلوكاً، وأوسطهم سِنّاً رُكن الدولة، وأبو الفتح كان وزير رُكن الدولة بعد أبيه أبي الفضل بن العميد، والآمر بالقبض عليه هو عضُد الدولة، وكان ذلك بعد وفاة أبيه رُكن الدولة، وإنّنا لَنَحسَب هذه الأغلاط مِن تحريف الناسخين؛ لأنّه مِن المُستبعد أنْ تقع مِن هذا المؤرّخ الكبير.

الثالث: أبو الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه مُعزّ الدولة:

هو أصغر الأُخوة الثلاثة مُؤسّسي الدولة البويهيّة، وقد كنّاه بعضُ المُؤرّخين بأبي الحسن، وهي كُنية أخيه عماد الدولة والحسن اسم رُكن الدولة.

قال ابن خلكان:

وهو عمُّ عضُد الدولة وأحد مُلوك الديلم، كان صاحب العراق والأهواز، وكان يُقال له الأقطع؛ لأنّه كان مقطوع اليد اليُسرى وبعض أصابع اليُمنى.

مولده ووفاته:

وُلد في سَنة ثلاث وثلاثمئة، وتُوفّي يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سَنة ستّ وخمسين وثلاثمئة ببغداد، ودفن في داره، ثُمّ نُقل إلى مشهد بُني له في مقابر قُريش.

أوّل عهده في المُلك:

قال ابن خلكان في سبب تلقيبه بالأقطع:

إنّه كان في مَبدأ عُمره وحداثة سِنّه تَبَعاً لأخيه عِماد الدولة، وكان قد توجّه إلى كرمان بإشارة أخَويه عِماد الدولة ورُكن الدولة، فلمّا وصلها سمِع به صاحبها، فتركها ورَحل إلى سجستان مِن غَير حَرب فملكها، وكان بتلك الأعمال طائفة مِن الأكراد قد تغلّبوا عليها، وكانوا يحملون لصاحب كرمان في كلّ سَنة شيئاً مِن المال بشرط أنْ لا يطأوا بِساطه، فلمّا وصلَ مُعزّ الدولة سَيّر إليه رئيس القوم، وأخذ عُهوده ومواثيقه بإجرائهم على عادتهم، ففعل ذلك، ثُمّ أشار عليه كاتبه بنقض العهد، وأنْ يسري إليهم على غَفلة، ويأخذ أموالهم وذخائرهم ففعل

١٨٤

مُعزّ الدولة ذلك، وقصدهم في الليل في طريق مُتوعّرة فأحسّوا به، فقعدوا له على مَضيق، فلمّا وصل إليهم بعسكره ثاروا عليهم مِن جميع الجوانب، فقتلوا وأسروا، ولم يَفلُت منهم إلاّ اليسير، ووقع بمُعزّ الدولة ضربات كثيرة، وطاحت يدُه اليُسرى وبعض أصابع يده اليمنى، وأُثخن بالضرب في رأسه وسائر جسده، وسقط بين القتلى، ثُمّ سَلُم بعد ذلك.

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢٤:

في هذه السَنة سار أبو الحُسين أحمد بن بويه المُلقَّب بمُعزّ الدولة إلى كرمان، وسببُ ذلك أنّ عِماد الدولة بن بويه وأخاه رُكن الدولة لمّا تمكّنا مِن بلاد فارس وبلاد الجبل، وبقي أخوهما الأصغر أبو الحسين أحمد بغير ولاية يستبدّ بها، رأيا أنْ يُسيّراه إلى كرمان ففعلا ذلك، وسار إلى كرمان في عسكرٍ ضَخم شثجعان، فلمّا بَلغَ السيرجان استولى عليها وجبى أموالها وأنفقها في عسكره، وكان إبراهيم بن سيمجور والدواني يُحاصِر محمّد بن غلياس بن اليسع بقلعة هُناك بعساكر نصر بن أحمد صاحب خُراسان، فلمّا بَلغَه إقبال مُعزّ الدولة سار عن كرمان إلى خُراسان، ونَفّس عن محمّد بن إلياس، فتَخلّص مِن القلعة، وسار إلى مدينته بَم، وهي على طرف المفازة بين كرمان وسجستان، فسار إليه أحمد بن بويه، فرَحل مِن مكانه إلى سجستان بغير قتال، فسار أحمد إلى جيرفت - وهي قصبة كرمان - واستخلف على بَم بعض أصحابه، فلمّا قارب جيرفت أتاه رسول عليّ بن الزنجي المعروف بعلي كلويه، وهو رئيس القفص والبلوص، وكان هو وأسلافه مُتغلّبين على تلك الناحية، إلاّ أنّهم يُجاملون كلّ سلطان يَرِد البلاد، ويُطيعونه ويَحملون إليه مالاً مَعلوماً ولا يطؤون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع أحمد مِن قبوله إلاّ بعد دُخول جيرفت، فتأخّر عليّ بن كلويه نحو عشرة فراسخ، ونَزل بمكان صَعِب المَسلك، ودخل أحمد بن بويه جيرفت، واصطلح هو وعلي وأخذ رهائنه وخَطَب له، فلمّا استقرّ الصُلح وانفصل الأمر أشار بعضُ أصحاب ابن بويه عليه بأنْ يَقصد عليّاً ويَغدر به، ويَسري إليه سرّاً على غَفلة، وأطمعه في أمواله وهوّن عليه أمره بسكونه إلى الصُلح، فأصغى الأمير أبو الحسين أحمد إلى ذلك لحداثة سِنّه، وجمع أصحابه وأسرى نحوهم جريدة، وكان عليّ مُحترزاً، ومَن معه قد وضعوا العيون على ابن بويه، فساعة تَحرّك بلغته الأخبار، فجمع أصحابه ورتَبَهُم بمضيق على الطريق، فلمّا اجتاز بهم ابن بويه ثاروا به ليلاً مِن

١٨٥

جوانبه، فقتلوا في أصحابه وأسروا، ولم يُفلِت منهم إلاّ اليسير، ووقعت بالأمير أبي الحسين ضربات كثيرة، ووقعت ضربة منها في يَده اليُسرى فقطعتها مِن نصف الذراع، وأصاب يده اليُمنى ضَربة أُخرى سقط منها بعض أصابعه، وسقط مثخناً بالجراح بين القتلى، وبلغ الخَبر بذلك إلى جيرفت فهرب كلّ مَن بها مِن أصحابه، ولمّا أصبح علي كلويه تتبّع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين قد أشرف على التلف، فحمله إلى جيرفت، وأحضر له الأطبّاء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رُسله يَعتذر إلى أخيه عماد الدولة بن بويه، ويُعرّفه غدر أخيه، ويَبذل مِن نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقرّ بينهما الصُلح، وأطلق عليّ كلّ مَن عنده مِن الأسرى وأحسن إليهم، ووصل الخبر إلى محمّد بن إلياس بما جرى على أحمد بن بويه، فسار مِن سجستان إلى البلد المعروف بجنابة، فتوجّه إليه ابن بويه وواقعه، ودامت الحرب بينهما عِدّة أيّام، فانهزم ابن إلياس، وعاد أحمد بن بويه ظافراً، وسار نحو علي كلويه لينتقم منه، فلمّا قاربه أسرى إليه في أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلاً في ليلة شديدة المَطر ن فأثّروا فيهم، وقتلوا ونهبوا وعادوا، وبقي ابن بويه باقي ليلته، فلمّا أصبح سار نحوهم فقَتَل منهم عدداً كثيراً، وانهزم علي كلويه، وكتب ابن بويه إلى أخيه عِماد الدولة بما جرى له مَعه ومع ابن إلياس وهزيمته، فأجابه أخوه يأمره بالوقوف بمكانه ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائداً مِن قوّاده يأمره بالعودة إلى فارس ويُلزمه بذلك. فعاد إلى أخيه، وأقام عنده باصطخر إلى أن قصدهم أبو عبد الله البريدي منهزماً مِن ابن رائق وبجكم، فأطمع عماد الدولة في العراق وسهّل عليه مُلكه.

استيلاء مُعزّ الدولة على الأهواز:

كان مِن نتيجة إطماع البريدي عِماد الدولة في العراق، وتسهيله عليه مُلكه أنْ سار مُعزّ الدولة في سَنة ستّ وعشرين إلى الأهواز وتلك البلاد، فملكها واستولى عليها ومعه البريدي، وترك البريدي ولديه أبا الحسن محمّداً وأبا جعفر الفياض عند عماد الدولة رهينة وساروا، فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان، فسار لحربهم فانهزم مِن بين أيديهم، وكان سَبَب الهزيمة أنّ المطر اتّصل أيّاماً كثيرة، فعطلت أوتار قُسي الأتراك، فلم يقدروا على رمي

١٨٦

النشّاب، فعاد بجكم وأقام بالأهواز، وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم، فقاتلوا مُعزّ الدولة بها ثلاثة عشر يوماً، ثُمّ انهزموا إلى تستر، فاستولى مُعزّ الدولة على عسكر مكرم، وسار بجكم إلى تستر مِن الأهواز، وأخذ معه جماعة مِن أعيان الأهواز، وسار هو وعسكره إلى واسط، وأرسل مِن الطرق إلى ابن رائق يُعلمه الخبر، ويقول له:

إن العسكر مُحتاج إلى المال، فإن كان معك مائتا ألف دينار فتُقيم بواسط حتّى نَصل إليك ونُنفق فيهم المال، وقد مرّ تفصيل ذلك كلّه في أخبار عِماد الدولة، فليُرجَع إليها.

مُخالفة البريدي على مُعزّ الدولة:

في أخبار عِماد الدولة في تلك الصفحات - الّتي ذَكر فيها استيلاء مُعزّ الدولة - خبر خلاف البريدي عليه بعد تمهيده لأخيه عِماد الدولة، وله أمر الاستيلاء على العراق وإبقاء ولديه رهينة عند عماد الدولة، واستقرار البريدي أخيراً في البصرة، وبقاء مُعزّ الدولة في الأهواز، ثُمّ تقلّبت على البريدي أُمور وأحوال، وهو لم يكن يَثبُت على حال، ولا يُبرم عهداً إلاّ، وهو يَضمر في دخيلة نفسه نقضه.

ذهاب مُعزّ الدولة إلى البصرة وعوده منها على غير ما يُريد:

في المُحرّم سَنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة وصل مُعزّ الدولة إلى البصرة، فحارب البريدييّن وأقام عليهم مدّة، ثُمّ استأمن جماعة مِن قوّاد إلى البريديّين، فاستوحش مِن الباقين فانصرف عنهم.

وصول مُعزّ الدولة إلى واسط وعوده عنها:

في آخر رجب سنة ٣٣٣هـ وصل مُعزّ الدولة إلى مدينة واسط، فسمع تورون به، فسار هو والمُستكفي بالله مِن بغداد إلى واسط، فلمّا سَمِع مُعزّ الدولة بمسيرهم إليه فارقها سادس رمضان.

استيلاء مُعزّ الدولة على بغداد:

لمّا مات تورون ووُلّي مكانه شيرزاد، وزاد هذا الأجناد زيادة ضاقت عليه الأموال بسببها، فكثر الظُلم والاعتداء على الناس كَاتبَ ينال كوشة - وكان يلي لشيرزاد عمل واسط - مُعزّ الدولة وهو بالأهواز يَستقدِمه، ودخل

١٨٧

في طاعته، فسار مُعزّ الدولة نحوه، فاضطرب الناس ببغداد، فلمّا وصل إلى باجسرى اختفى المُستكفي بالله وابن شيرزاد، فلمّا استَتر شيرزاد سار الأتراك إلى الموصل، فلمّا أبعدوا ظهر المُستكفي، وعاد إلى بغداد إلى دار الخلافة، وقدم أبو محمّد الحسن بن محمّد المهلبي صاحب مُعزّ الدولة إلى بغداد، فاجتمع بابن شيرزاد بالمكان الّذي استتر فيه، ثُمّ اجتمع بالمُستكفي، فأظهر المُستكفي السُرور بقدوم مُعزّ الدولة، وأعلمه أنّه إنّما استَتَر مِن الأتراك ليتَفرّقوا فيحصل الأمر لمُعزّ الدولة بلا قِتال، ووصل مُعزّ الدولة إلى بغداد حادي عشر جمادى الأولى سنة ٣٣٤، فنزل بباب الشماسيّة، ودخل مِن الغد إلى الخليفة المُستكفي وبايعه وحَلف له المُستكفي، وسأله مُعزّ الدولة أنْ يأذن لابن شيرزاد بالظُهور، وأنْ يأذن أنْ يَستكتبه، فأجابه إلى ذلك، فظَهر ابن شيرزاد، ولقي مُعزّ الدولة فولاّه الخراج وجباية الأموال، وخَلعَ الخليفة على مُعزّ الدولة، ولقّبه ذلك اليوم مُعزّ الدولة، ولقّب أخاه عليّاً عِماد الدولة، ولقّب أخاه الحسن رُكن الدولة، وأمَر أنْ تُضرب ألقابهم وكُناهم على الدنانير والدراهم، ونَزَل مُعزّ الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه في دور الناس، فلحِق الناس مِن ذلك شدّة عظيمة، وصار - نزول الجيش في دور الناس - رسماً عليهم بعد ذلك، وهو أوّل مَن فعله ببغداد، ولم يُعرف بها قبله، وأُقيم للمُستكفي بالله كلّ يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته، وكان ربما تأخرت عنه، فأُقرّت له مع ذلك ضياع سُلّمت إليه تولاّها أبو أحمد الشيرازي كاتبه.

خَلْعُ المُستكفي بالله:

وفي هذه السنة خُلِعَ المُستكفي بالله لثمان بقين مِن جمادى الآخرة؛ وكان سبَبُ ذلك أنّ علم القهرمانة صنعتْ دعوةً عظيمةً حضرها جماعةٌ مِن قوّاد الديلم والأتراك، فاتّهمها مُعزّ الدولة أنّها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمُستكفي، ويُزيلوا مُعزّ الدولة، فساء ظنّه لذلك لمّا رأى مِن إقدام عَلَم، وحضر اسفهدوت عند مُعزّ الدولة، وقال:

قد راسلني الخليفة في أنْ ألقاه مُتنكّراً، فلمّا مضى اثنتان وعشرون يوماً مِن جمادى الآخرة حضر مُعزّ الدولة والناس عند الخليفة، وحضر رسول صاحب خُراسان، ومُعزّ الدولة جالس، ثُمّ حَضَر رجلان مِن نُقباء الدَيلم يصيحان، فتناولا يد المُستكفي بالله، فظّن أنّهما يُريدان تقبيلهُا، فمدّها إليهما فجذباه عن سريره

١٨٨

وجعلا عِمامته في حَلقه، ونهض مُعزّ الدولة، واضطرب الناس، ونهبت الأموال، وساق الديلميّان المُستكفي بالله ماشياً إلى دار مُعزّ الدولة، فاعتُقل بها، ونُهبت دار الخلافة حتّى لم يبقَ بها شيء، وقُبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المُستكفي، وأُخذت عَلَم القهرمانة فقُطع لسانها.

خلافة المُطيع واستيلاء مُعزّ الدولة على أُمور الخلافة:

لمّا وُلّي المُستكفي بالله الخلافة خافه المُطيع واستَتَرَ منه، فطلبه المُستكفي أشدّ الطَلَب، فلم يظفر به، فلمّا قدِم مُعزّ الدولة بغداد قيل إنّ المطيع انتقل إليه واستتر عنده، وأغراه بالمُستكفي حتّى قبض عليه وسَمله، فلمّا قُبِض المُستكفي بويعَ للمُطيع لله بالخلافة، ولقُب المطيع لله، وأُحضر المُستكفي عنده فسلّم عليه بالخلافة، وأُشهد على نفسه بالخَلع، وازداد أمر الخلافة إدباراً، ولم يبقَ لهم مِن الأمر شيء البتّة، وكانوا يُراجَعون ويؤخذ أمرهم فيما يُفعل والحرمةُ قائمةٌ بعض الشيء، فلمّا كان أيّام مُعزّ الدولة زال ذلك جميعه، بحيث إنّ الخليفة لم يبقَ له وزير، إنّما كان له كاتب يُدير إقطاعه وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمُعزّ الدولة يستوزر لنفسه مَن يريد، وكان مِن أعظم الأسباب في ذلك أنّ الديلم كانوا يتشيّعون ويُغالون في التشيّع، ويعتقدون أنّ العباسيّين قد غصبوا الخلافة وأخذوها مِن مُستحقّيها، فلم يكنْ عِندهم باعث ديني يَحثّهم على الطاعة، حتّى لقد بلغني أنّ مُعزّ الدولة استشار جماعة مِن خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة مِن العباسيّين، والبيعة للمُعزّ لدين الله العلوي، أو لغيره مِن العلويّين، فكلّهم أشار عليه بذلك ما عدا بعض خواصّه، فإنّه قال :

ليس هذا برأي، فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنّه ليس مِن أهل الخلافة ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مُستحلّين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك مَن تعتقد أنت وأصحابك صحّة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن ذلك، وتسلم مُعزّ الدولة العراق بأسره، ولم يبقَ بيد الخليفة منه شيء البتة، إلاّ ما أقطعه مُعزّ الدولة ممّا يقوم ببعض حاجته.

هذا ما جاء في كامل ابن الأثير، أمّا ما جاء مِن تعليله عَدم إخلاص الديلم الطاعة للعباسيّين، واستشارة مُعزّ الدولة خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة منهم إلى المُعزّ لدين الله العلوي أو لغيره مِن العلويين، ففي ذلك

١٨٩

بَعْد:

(١) إنّ الديلم مِن الشيعة الإماميّة، والإماميّة كما لا يَرون صحّة الخلافة العباسيّة ووجوب طاعة الخُلفاء العباسيّين، لا يرون وجوب طاعة مَن يليها مِن العلويّين أيضاً، سواء أكانوا سُنّة أم شيعة، ومذهبهم في الإمامة والخلافة مَعروف، وهي أنّها لا تكون إلاّ بالنصّ.

(٢) إنّ مُعزّ الدولة الّذي يَركن إليه أخوه عِماد الدولة، وهو مؤسّس الدولة البويهيّة، والداهية المُحنّك في الاستيلاء على العراق، ويفوض إليه هذا الأمر، وهو جدّ عليم أنّ ذلك لا يَتطلّب الشجاعة وقوّة الجيش وكثرة العدد فحسب، بل يَتطلّب الحكمة والتدبير وبراعة السياسة، ولا سيّما في قُطر كقُطر العراق، والطامحون في الاستيلاء عليه والنُفوذ على سُلطان الخلافة مِن التُرك والأكراد والعرب والديلم كثيرون، فهل يخفى على مُعزّ الدولة أنّ مِثل هذه المُحاولة لا تتمّ له إنْ قصد إليها، وهل يَجهل أنّ صرف الخلافة عن العباسيّين ليست مِن الأُمور الهيّنة، وحتّى مِن الشيعة العَرب مَن يتعصّب لها، دع ما لها مِن العصبيّة السنيّة مِن مُختلف العناصر، على أنّه لا يجهل أنّ إفريقيا قاعدة الخُلفاء العلويّين لا تَزيد في نُفوذ سلطانه، بل هي أحوج إلى مَن يردّ عنها أيدي المُتغلّبين، دع ما بين ممالك أخَويه وبين العراق مِن قُرب المسافات، والبُعد ما بينها وبين إفريقية، ولِقُربِ المواصلات وبُعدها أثرها البيِّن في سَوق الجيوش، ونقل العَتاد إذا احتاج إلى نجدتهم.

(٣) على افتراض صحَّة الخلافة العلويّة عند الإماميّة الاثني عشريّة، ومُعزّ الدولة والديالمة منهم، فهل يَرون صحّة خلافة مَن لم يكن على طريقتهم ومَذهبهم؟ فهل والحالة هذه لا يرون خلافة العلوي الإسماعيلي أو غيره أصحّ مِن خلافة العبّاسي السُنّي؟

فأنت ترى أنّ مُحاولة مِثل هذا الأمر لا تنطبق على المذهب الإماميّ، ولا على السياسة الملكيّة الرشيدة، وهُما ممّا لا يجهلهما مُعزّ الدولة ومُستشاروه.

الحربُ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني:

في رجب سنة ٣٣٤ جرت حربٌ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني انتهت بفوز مُعزّ الدولة في المُحرّم سَنة ٣٣٥ فاستقرار الصُلح بينه وبين ناصر الدولة. وقد بسطنا ذلك في تاريخ بني حَمدان وأخبار ناصر الدولة.

١٩٠

إقطاع البلاد وتخريبها واضطراب الأُمور:

وفي هذه السَنة شَغَبَ الجُند على مُعزّ الدولة وأسمعوه المكروه، فضمن لهم إيصال أرزاقهم في مُدّة ذكرها لهم، فاضطرّ إلى خبط الناس وأخذ الأموال مِن غير وجوهها، وأقطع قوّاده وأصحاب القُرى جميعها الّتي للسلطان وأصحاب الأملاك، فبطل لذلك أكثر الدواوين، وزالت أيدي العُمّال، وكانت البلاد قد خَرِبَت مِن الاختلاف والغلاء والنَهب، فأخذ القوّاد القُرى العامرة، وزادت عِمارتها معهم، وتَوفّر دخلها بسَبَب الجاه، فلم يُمكن مُعزّ الدولة العود عليهم بذلك.

وأما الأتباع، فإنّ الّذي أخذوه ازداد خَراباً فردّوه، وطلبوا العوض عنه فعُوّضوا، وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القُرى وتسوية طُرقها، فهلكت وبطل الكثير منها، وأخذ غُلمّان المُقطعين في ظُلم وتحصيل العاجل، فكان أحدُهم إذا عجز الحاصل تمّمه بمُصادراتها.

ثُمّ إنّ مُعزّ الدولة فوّض حماية كلّ موضع إلى بعض أكابر أصحابه، فاتّخذه مُسكناً وأطمعه، فاجتمع إليهم الأُخوة وصار القوّاد يَدّعون الخسارة في الحاصل، فلا يقدر وزيره ولا غيره على تحقيق ذلك، فإنْ اعترضهم مُعترض صاروا أعداءً له، فتُركوا وما يُريدون، فازداد طَمعهم ولم يقِفوا عند غاية، فتَعذّر على مُعزّ الدولة جَمعُ ذخيرة تكون للنوائب والحوادث، وأكثَرَ مِن إعطاء غُلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع، فحسدهم الديلم، وتولّد مِن ذلك الوحشة والمُنافرة، فكان منهُما البلاء على مُعزّ الدولة.

صُلح مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السنة اصطلح مُعزّ الدولة وأبو القاسم البريدي، وضَمِن أبو القاسم مدينة واسط وأعمالها منه.

استقرار مُعزّ الدولة ببغداد وإعادة المُطيع إلى دار الخلافة وصُلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة:

في المُحرّم سَنة ٣٣٥ استقرّ مُعزّ الدولة ببغداد، وأعاد المُطيع لله إلى دار الخلافة بعد أن استوثق منه، وفيها اصطلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة

١٩١

كما سبق بيان ذلك، وكانت الرُسل تَتردّد بينهما بغير عِلمٍ مِن الأتراك التورونيّة.

اختلاف مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السَنة اختلف مُعزّ الدولة وأبو القاسم بن البريدي والي البصرة، فأرسل مُعزّ الدولة جيشاً إلى واسط، فسيَّر إليهم ابن البريدي جيشاً مِن البصرة في المّاء وعلى الظَهر، فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب البريدي، وأُسِر مِن أعيانهم جماعة كثيرة.

استيلاء مُعزّ الدولة على البصرة:

في سنة ٣٣٦ سار مُعزّ الدولة ومعه المُطيع لله إلى البصرة؛ لاستنقاذها مِن يد أبي القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي، وسلكوا البريّة إليها، فأرسل القرامطة مِن هَجَر إلى مُعزّ الدولة يُنكرون عليه مسيره إلى البريّة بغير أمرهم وهي لهم، فلم يُجبهم عن كتابهم، وقال للرسول:

قل لهم: مَن أنتم حتّى تستأمروا، وليس قصدي مِن أخذ البصرة غيركم، وستعلمون ما تقولون منّي.

ولمّا وصل مُعزّ الدولة إلى الدرهميّة استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسم في الرابع والعشرين مِن ربيع الآخر إلى هَجَر والتجأ إلى القرامطة، ومَلَك مُعزّ الدولة البصرة، فانحلّت الأسعار ببغداد انحلالاً كثيراً، وسار مُعزّ الدولة مِن البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عِماد الدولة، وأقام الخليفة وأبو جعفر الصيمري بالبصرة، وخالف كوركير - وهو مِن أكابر القوّاد - على مُعزّ الدولة، فسيّر إليه الصيمري فقاتله فانهزم كوركير، وأُخذ أسيراً فحبسه مُعزّ الدولة بقلعة رامهرمز، ولقي مُعزّ الدولة أخاه عِماد الدولة بأرجان في شعبان، وقبَّلَ الأرض بين يديه، وكان يقف قائماً عنده فيأمره بالجلوس فلا يفعل، ثُمّ عاد إلى بغداد، وعاد المُطيع أيضاً إليها، وأظهر مُعزّ الدولة أنّه يُريد أنْ يسيرَ إلى الموصل، فتردّدت الرُسل بينه وبين ناصر الدولة واستقر الصُلح، وحَمل المّال إلى مُعزّ الدولة فسكت عنه.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل

١٩٢

قاصداً ناصر الدولة، وانتهى الأمر مَعه إلى ما مرَّ في ترجمة رُكن الدولة.

حرب الصيمري وزير مُعزّ الدولة لعِمران بن شاهين وعوده بأمر مُعزّ الدولة بعد تَضييقه على عِمران:

في سنة ٣٣٨ استفحل أمرُ عِمران بن شاهين وقوي شأنه، وخافته القوافل حتّى انتهى الأمر بتسيير مُعزّ الدولة وزيره أبي جعفر الصيمري لمُحاربته، فعودته بأمره مِن محاربته، بسبب موت أخيه عماد الدولة، واضطراب جيشه بفارس، وإرسال الصيمري إلى شيراز لإصلاح الأُمور فيها، وقد ذكرنا ذلك في تاريخ بني عِمران بن شاهين، كما استوفينا جميع أخبارهم مِن مُبتدأ أمرهم إلى انتهائه، فليُطلَب في موضعه مِن هذا التاريخ.

وفي سنة ٣٣٩ توفّي أبو جعفر محمّد بن أحمد الصيمري بأعمال الجامدة الّتي كانت تحت سلطة عِمران بن شاهين، وكان قد عاد مِن فارس مُحاصِراً لابن شاهين، فاستوزر مُعزّ الدولة بعده أبا محمّد الحسن بن محمّد المهلبي، وكان يَخلُف الصيمري بحضرة مُعزّ الدولة، فعرف أحوال الدواوين، فامتحنه مُعزّ الدولة، فرأى فيه ما يُريد مِن الأمانة والكفاية والمَعرفة بمصالح الدولة وحُسن السيرة، فاستوزره ومكّنه مِن وزارته فأحسن السيرة، وأزال كثيراً مِن المظالم خُصوصاً بالبصرة، فإنّ البريديّين كانوا قد أظهروا فيها كثيراً مِن المظالم، فأزالها وقرّب أهل العِلم والأدب وأحسن إليهم، وتنقّل في البلاد لكشف ما فيها مِن المظالم وتخليص الأموال، فحَسُن أثره رحمه الله.

مُعاودة مُعزّ الدولة حرب عِمران بن شاهين:

في هذه السنة بعد موت الصيمري ازداد ابن شاهين قوّة وجُرأة، فسيّر إليه مُعزّ الدولة جيشاً يقوده المهلبي، فانهزم جيش المهلبي، وجرتْ أُمور انتهت بمُصالحة مُعزّ الدولة لابن شاهين، وتقليده له أعمال البطائح ممّا زاد في استفحال أمره، ولا يُفيد تفاصيل هذه الأخبار؛ لأنّها مبسوطة في تاريخ دولة بني شاهين مِن هذا الكتاب.

١٩٣

حِصار يوسف بن وجيه البصرة وانهزامه:

في سنة ٣٤١ سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في البحر والبرّ إلى البصرة فحصرها، وكان سَبَب ذلك أنْ مُعزّ الدولة لمّا سلك البريّة إلى البصرة، وأرسل القرامطة يُنكرون عليه ذلك، وأجابهم بما سبق ذِكره في غير هذا المكان، عَلِم يوسف بن وجيه استيحاشهم مِن مُعزّ الدولة، فكَتب إليهم يُطمعهم في البصرة، وطلب منهم أنْ يَمدّوه مِن ناحية البر، فأمدّوه بجمع كثير منهم، وسار يوسف في البحر فبلغَ الخبر إلى الوزير المهلبي، وقد فرغ مِن الأهواز والنظر فيها، فسار مُجدّاً في العساكر إلى البصرة، فدخلها قَبل وصول يوسف إليها وشحنها بالرجال، وأمدَّه مُعزّ الدولة بالعساكر وما يحتاج إليه، وتحارب هو وابن وجيه أيّاماً، ثُمّ انهزم ابن وجيه وظَفرَ المهلبي بمراكبه وما معه مِن سلاح وغيره.

ضَربُ مُعزّ الدولة وزيره المهلبي بالمقارع:

وفي هذه السنة في ربيع الأوّل ضَربَ مُعزّ الدولة وزيره أبا محمّد المهلبي بالمقارع مئةً وخمسين مقرعة، ووكّل به في داره ولم يَعزله مِن وزارته، وكان نَقِم عليه أُموراً ضربه بسببها.

الخطبة لمُعزّ الدولة في مكة:

في سنة ٣٤٢ سيَّر الحجّاج الشريفين أبا الحسن محمّد بن عبد الله وأبا عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العلويّين، فجرى بينهما وبين عساكر المصريّين مِن أصحاب ابن طغج حَرب شديدة، وكان الظفر لهُما فُخطِب لمُعزّ الدولة بمكّة، فلمّا خرجا مِن مكّة لحقهما عسكر مصر فقاتلهما، فظفرا به أيضاً.

وفي سنة ٣٤٣ وقعت الحرب بمكّة بين أصحاب مُعزّ الدولة، فخُطب بمكة والحجاز لرُكن الدولة ومُعزّ الدولة وولده عزّ الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.

١٩٤

إرسالُ مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش لشهرزور:

وفي هذه السَنة أرسل مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش إلى شهرزور في رجب، ومعه المنجنيقات لفتحها، فسار إليها وأقام بتلك الولاية إلى المُحرّم مِن سَنة أربع وأربعين وثلاثمئة، فعاد ولم يُمكنه فتحها؛ لأنّه اتّصل به خروج عساكر خُراسان إلى الري.

مَرض مُعزّ الدولة وانتقاض ابن شاهين:

في سنة ٣٤٣ في ذي القعدة عرض لمُعزّ الدولة مَرض، وهو دوام الإنعاظ - يُسمى فريافسمس - مع وجع شديد في ذَكَرِه مع تَوتُّر أعصابه، وكان مُعزّ الدولة خوّاراً في أمراضه، فأرجف الناس به، واضطربت بغداد، فاضطرّ إلى الرُكوب فركب في ذي الحجّة على ما به مِن شِدّة المرض، فلمّا كان في المُحرّم مِن سنة ٣٤٤ أوصى إلى ابنه بختيار، وقلَّده الأمر بعده وجعله أمير الأُمراء، وبلغَ عِمران بن شاهين أنّ مُعزّ الدولة قد مات، فجرتْ منه أُمور أدّت إلى انفساخ الصُلح، وقد ذُكِر هذا في دولة بني شاهين.

إنجاده أخاه رُكن الدولة بعسكر لمُدافعة الخُراسانيّة:

وفي هذه السَنة استمدّ أخوه رُكن الدولة لمُدافعة الخُراسانيّة الخارجين إلى مملكته في الري، فأمدّه بعسكر مُقدّمهم الحاجب سبكتكين، وقد مرَّ خَبر ذلك في ترجمة رُكن الدولة.

عصيان روزبهان على مُعزّ الدولة:

في سَنة ٣٤٥ خَرج روزبهان بن ونداد خرشيد الديلمي على مُعزّ الدولة، وعصى عليه، وخرج أخوه بلكا بشيراز، وخرج أخوهما أسفار بالأهواز، ولحق به روزبهان إلى الأهواز، وكان يُقاتل عِمران بالبطيحة، فعاد إلى واسط وسار إلى الأهواز في رَجب وبها الوزير المهلبي، فأراد مُحاربة روزبهان فاستأمن رجاله إلى روزبهان، فانحاز المهلبي عنه، وورد الخبر بذلك إلى مُعزّ الدولة فلم يُصدّق به، لإحسانه إليه، لأنّه رفعه بعد الضِعَة ونَوّه

١٩٥

بذِكره بعد الخُمول، فتجّهز مُعزّ الدولة إلى محاربته، ومال الديلم بأسرهم إلى روزبهان، ولقوا مُعزّ الدولة بما يَكره، واختلفوا عليه وتتابعوا على المسير إلى روزبهان، وسار مُعزّ الدولة عن بغداد خامس شعبان، وخرج الخليفة المُطيع لله مُنحدراً إلى مُعزّ الدولة؛ لأنّ ناصر الدولة لمّا بَلغه الخبر سيَّر العساكر مِن الموصل مع ولده أبي المرجا جابر لقصد بغداد والاستيلاء عليها، فلمّا بَلغَ ذلك الخليفة انحدر مِن بغداد، فأعاد مُعزّ الدولة الحاجب سبكتكين وغيره ممَّن يثقُ بهم مِن عسكره إلى بغداد، فشَغبَ الديلم الّذين ببغداد، فوُعِدوا بأرزاقهم فسكنوا، وهُم على قنوط مِن مُعزّ الدولة.

وأمّا مُعزّ الدولة، فإنّه سار إلى أنْ بلغ قنطرة أدبق فنزل هُناك، وجعل على الطرق مَن يحفظ أصحاب الديلم مِن الاستئمان إلى روزبهان؛ لأنّهم كانوا يأخذون العطاء منه ثُمّ يهربون عنه، وكان اعتماد مُعزّ الدولة على أصحابه الأتراك ومماليكه ونَفَرٌ يسيرٌ مِن الديلم، فلمّا كان سلخ رمضان أراد مُعزّ الدولة العُبور هو وأصحابه الّذين يثقُ بهم إلى مُحاربة روزبهان، فاجتمع الديلم وقالوا لمُعزّ الدولة:

إنْ كُنّا رجالك فأخرجنا معك نقاتل بين يديك، فإنّه لا صبر لنا على القعود مع الصبيان والغُلمّان، فإنْ ظفرت كان الاسم لهؤلاء دوننا، وإنْ ظفرَ عدوّك لَحِقنا العار. وإنّما قالوا هذا الكلام خديعة ليُمكّنهم مِن العبور معه فيتمكّنون منه، فلمّا سمع قولهم سألهم التوقّف، وقال:

إنّما أُريد أنْ أذوق حَربهم ثُمّ أعود، فإذا كان الغد لقيناهم بأجمعنا وناجزناهم. وكان يُكثر لهم العطاء فأمسكوا عنه، وعبر مُعزّ الدولة وعبر أصحابه كراديس تتناوب الحملات، فما زالوا كذلك إلى غروب الشمس، ففني نشّاب الأتراك وتعبوا، وشكوا إلى مُعزّ الدولة ما أصابهم مِن التَعب، وقالوا:

نَستريح الليلة ونعود غَداً، فعلِم مُعزّ الدولة أنّه إنْ رجِع رجف إليه روزبهان والديلم، وثار معهم أصحابه الدَيلم يهلُك ولا يُمكنه الهَرب، فبكى بين يَدَي أصحابه وكان سريع الدمعة، ثُمّ سألهم أنْ تُجمع الكراديس كلّها ويحملوا حَملة واحدة، وهو في أوّلهم فإمّا أنْ يَظفروا، وإمّا أنْ يُقتل أوّل مَن يُقتل، فطالبوه بالنشاب، فقال:

قد بقيَ مع صغار الغُلمّان نشّاب فخذوه واقسّموه، وكان جماعة صالحة مِن الغُلمّان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد وعليهم اللبس الجيّد، كانوا سألوا مُعزّ الدولة أنْ يأذن لهم في الحرب فلم يَفعل، وقال:

إذا جاء وقت يَصلح لكم أذنت لكُم في القتال، فوجّه إليهم

١٩٦

تلك الساعة مَن يأخذ منهم النشّاب، وأومأ مُعزّ الدولة إليهم بيده أنْ اقبلوا منه، وسلّموا إليه النشّاب، فظنّوا أنّه يأمرهم بالحملة، فحملوا وهُم مستريحون، فصدموا صفوف روزبهان فخرقوها، وألقوا بعضها فوق بعض فصاروا خَلفهم، وحمل مُعزّ الدولة فيمَن معه باللتوت، فكانت الهزيمة على روزبهان وأصحابه، وأُخذ روزبهان أسيراً وجماعة مِن قوّاده، وقتَل مِن أصحابه خَلق كثير، وكَتب مُعزّ الدولة بذلك، فلمْ يُصدِق الناس لما علموا مِن قُوّة روزبهان وضعف مُعزّ الدولة، وعاد إلى بغداد ومَعَه روزبهان يراه الناس، وسَيَّر سبكتكين إلى أبي المرجا بن ناصر الدولة، وكان بعكبرا فلم يَلحقه؛ لأنّه لمّا بلغه الخبر عاد إلى الموصل، وسَجن مُعزّ الدولة روزبهان، فبلغه أنْ الديلم قد عزموا على إخراجه قهراً، والمُبايعة له فأخرجه ليلاً وغَرّقه.

وأمّا أخو روزبهان الّذي خرج بشيراز، فإنّ الأُستاذ أبا الفضل بن العميد سار إليه في الجيوش فقاتله فظفرَ به، وأعاد عضُد الدولة بن رُكن الدولة إلى مُلكه، وانطوى خبَر روزبهان وأخوته، وكان قد اشتعل اشتعال النار، فقَبض مُعزّ الدولة على جماعة مِن الديلم وترك مَن سواهم، واصطنع الأتراك وقدّمهم، وأمرهم بتوبيخ الديلم والاستطالة عليهم، ثُمّ أطلق للأتراك إطلاقات زائدة على واسط والبصرة، فساروا لقبضها مُدلين بما صنعوا، فأخربوا البلاد ونهبوا الأموال، وصار ضرَرُهم أكثر مِن نفعهم.

استيلاء مُعزّ الدولة على الموصل:

لم يكن ناصر الدولة يَثبت مع مُعزّ الدولة على عَهد وصلح، فما يَبرم معه عهداً وصُلحاً حتّى يُنقضه ما بين عشيّة، كلمّا لاحت له فرصة الخروج فقد اختلفا كثيراً، وانتهى اختلافهما إلى اتّفاق وسُرعان ما يعود ناصر الدولة فينسخ ذلك الاتّفاق، وقد عرفت في خَبر خُروج روزبهان وأخَوَيه أنْ ناصر الدولة انتهزها فُرصة فسيّر ولده أبا المرجا إلى بغداد، وكان ذلك بعد صُلح معقود على ألفَي ألف درهم كلّ سَنة، ولكنّ ناصر الدولة أخّر حمل المال مُضافاً إلى ما أساء إليه في وقت الشدّة، وكان ذلك في سنة ٣٤٧، ممّا اضطرّ مُعزّ الدولة للتجهُّز إلى الموصل، فسار نحوها في مُنتصف جمادى الأولى ومعه وزيره المهلبي، وانتهى الأمر بعد مواقع وحُروب بينهما إلى فِرار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدين في

١٩٧

حلب، وتوسّط سيف الدولة في الصُلح وكفالته المال المُرتّب عليه، إلى غير ذلك ممّا بسطناه في تاريخ الحمدانيّين أحد أجزاء هذا الكتاب.

زواجُ مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة بابنة عمّه مُعزّ الدولة:

في سنة ٣٤٨ سار مؤيّد الدولة بن رُكن الدولة مِن الريّ إلى بغداد، فتَزوّج بابنة عمّه مُعزّ الدولة، ونقلها معه إلى الري، ثُمّ عاد إلى أصبهان.

بِناءُ مُعزّ الدولة دورَه ببغداد بعد إبلاله مِن مرض أقلقه:

في المُحرّم سنة ٣٥٠هـ مرض مُعزّ الدولة وامتنع عليه البول، ثُمّ كان يبول بعد جُهد ومشقّة دماً، وتبعه البول والحصار، فاشتدّ جَزعه وقلقه، وأحضر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين، فأصلح بينهما ووصّاهما بابنه بختيار، وسلّم جميع ماله إليه، ثُمّ إنّه عوفي، فعَزِم على المسير إلى الأهواز؛ لأنّه اعتقد أنّ ما اعتاده مِن الأمراض إنّما هو بسبب مقامه ببغداد، وظنّ أنّه إنْ عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه مِن الصحّة ونَسيَ الكِبَر والشباب، فلمّا انحدر إلى كلواذا ليتوجّه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمَقام، وأنْ يُفكّر في هذه الحَركة ولا يَعجل، فأقام بها، ولم يُؤثِر أحدٌ مِن أصحابه انتقاله لمُفارَقة أوطانهم، وأسَفَاً على بغداد كيف تَخرب بانتقال دار المَلك عنها، فأشاروا عليه بالعود إلى بغداد، وأنْ يبني بها له داراً في أعلى بغداد لتكون أرقّ هواء وأصفى ماء ففعل، وشَرع في بناء داره في موضع المسناة المُعزيّة، فكان مَبلَغ ما خَرَجَ عليها إلى أنْ مات: ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج بسَبَب ذلك إلى مُصادرة جماعة مِن أصحابه.

تَوليتهُ القضاءِ بالضمان:

في هذه السَنة تولّى قضاء القضاة أبو العبّاس بن عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب، وضَمِن أنْ يؤدّي كلّ سَنة مئتي ألف دِرهم، وهو أوّل مَن ضَمِن القضاء، وكان ذلك أيام مُعزّ الدولة، ولم يُسمع بذلك قبله، فلم يأذن له الخليفة المُطيع لله بالدخول عليه، وأمر بأنْ لا يحضر الموكب لِما ارتكبه مِن ضمان القضاء، ثُمّ ضُمِنَت بعدُ الحُسبة والشَرطة ببغداد.

١٩٨

استئمانُ أبي القاسم أخي عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة:

في هذه السَنة وصل أبو القاسم أخو عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة مُستأمِناً.

ما كُتِبَ على مساجد بغداد بأمر مُعزّ الدولة:

في ربيع الآخر مِن سنة ٣٥١هـ كَتب عامّة الشيعة ببغداد بأمر مُعزّ الدولة على المساجد ما هذه صورته:(لُعِن معاوية بن أبي سفيان، ولُعِن مَن غَصب فاطمة (رضي الله عنها) فَدكاً، ومَن مَنع مِن أنْ يُدفن الحسن عند قبر جدّه (عليه السلام)، ومَن نفى أبا ذرٍّ الغفاري، ومَن أخرج العبّاس مِن الشورى).

فأمّا الخليفة، فكان مَحكوماً عليه لا يقدر على المَنع، وأمّا مُعزّ الدولة، فبأمره كان ذلك، فلمّا كان الليل حكّه بعضُ الناس، فأراد مُعزّ الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير أبو محمّد المهلبي بأنْ يَكتب مكان ما مُحي:(لعن الله الظالمين لآل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)) ، ولا يَذكر أحداً في اللعن إلاّ معاوية، ففعل ذلك.

وفاةُ المهلبي وأُمور غريبة صدرت مِن مُعزّ الدولة:

في جمادى الآخرة سن ٣٥٢هـ سار الوزير المهلبي وزير مُعزّ الدولة في جيش كَثيف إلى عُمان ليفتحها، فلمّا بلغَ البحر اعتلّ واشتدّت عِلّته فأُعيد إلى بغداد فدُفن بها، وقبضَ مُعزّ الدولة أمواله وذخائره وكلّ ما كان له، وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه حتّى ملاّحه ومَن خدمه يوماً واحداً، فقبض عليهم وحبسهم، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه، وكانت مُدّة وزارته ثلاث عشرة سَنة وثلاثة أشهر، وكان كريماً فاضلاً ذا عقل ومروءة فمات بموته الكرم، ونظر في الأُمور بعده أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي، وأبو الفَرَج محمّد بن العبّاس بن فسانجس مِن غير تسمية لأحدهما بوزارة.

أمرُ مُعزّ الدولة الناس بإبطال أعمالهم وإقامة عزاء الحسين بن علي (عليه السلام):

في عاشر المُحرّم مِن هذه السَنة أمر مُعزّ الدولة الناس أنْ يُغلقوا دكاكينهم، ويُبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأنْ يُظهروا النياحة ويلبسوا قباباً

١٩٩

عملوها بالمسوح، وأنْ يَخرُج النساء مُنشرات الشُعور، مُسودّات الوجوه، قد شققنَ ثيابهنّ، يَدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسُنّة قُدرة على المنع منه؛ لكثرة الشيعة، ولأنّ السلطان معهم.

ومُعزّ الدولة هو أوّل مَن سنَّ هذه السُنّة، وألزم الناس بها في كلِّ يوم عاشر مِن مُحرّم كلّ سَنة، وكانت مَثارة فِتن بين السُنّة والشيعة.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

وفي رجب سنة ٣٥٣هـ سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل وملكها، وبعد تضييقه على ناصر الدولة وفراره منه أعاده إليه، وقرّر بينهما الصُلح، وقد استوفينا خَبر ذلك في أخبار الحمدانيّين فلا نُعيده.

طاعةُ أهل عُمان مُعزّ الدولة وما كان مِنهم:

وفي سنة ٣٥٤هـ سيَّر مُعزّ الدولة عسكراً إلى عُمان، فلقوا أميرها وهو نافع مولى يوسف بن وجيه، وكان يوسف قد هَلك ومَلكَ نافع البلد بعده، وكان أسود، فدخل نافع في طاعة مُعزّ الدولة، وخطب له وضرب له اسمه على الدينار والدرهم، فلمّا عادَ العسكر عنه وثب به أهل عُمان فأخرجوه عنهم، وأدخلوا القرامطة الهَجريّين إليهم، وتَسلّموا البَلد فكانوا يُقيمون فيها نهاراً ويَخرجون ليلاً إلى مُعسكرهم، وكتبوا إلى أصحابهم بهَجَر يُعرّفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون.

ما تَجدّد لعُمان واستيلاء مُعزّ الدولة عليها:

بعد هرب نافع عن عُمان واستيلاء القرامطة عليها، كان معهم كاتب يُعرَف بعلي بن أحمد ينظر في أُمور البلد، وكان بعُمان قاضٍ له عشيرة وجاه، فاتّفق هو وأهل البلد أنْ يَنصبوا في الإمرة رجلاً يُعرف بابن طغان، وكان مِن صِغار القوّاد بعُمان وأدناهم مَرتبة، فلمّا استقرّ في الإمرة خافَ ممَّن فوقه مِن القوّاد، فقبضَ على ثمانين قائداً، فقتل بعضهم وغَرّق بعضهم، وقَدِم البلد ابنا أُخت رجُل ممَّن قد غرَّقهم فأقاما مُدّة، ثُمّ إنّهما دخلا على طغان يوماً مِن أيّام السلام، فسلما عليه فلمّا تقوّض المجلس قتلاه، فاجتمع

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442