تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني13%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113695 / تحميل: 9455
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

موتُ عمادِ الدولة بن بويه:

في جمادى الآخرة سَنة ٣٣٨هـ مات عماد الدولة في شيراز، وكانت عِلّته الّتي مات بها قرحة في كلاه طالت به، وتوالت عليه الأسقام والأمراض، فلمّا أحسَّ بالموت أنفذ إلى أخيه رُكن الدولة يَطلب منه أن ينفذ إليه ابنه عَضُد الدولة فناخسرو؛ ليجعله وليَّ عهده، ووارث مملكته بفارس؛ لأنّ عماد الدولة لم يكن له وَلَد ذَكر، فأنفذ رُكن الدولة ولده عَضُد الدولة فوصل في حياة عمّه قبل موته بسَنة، وسارَ في جُملة ثقات أصحاب رُكن الدولة، فخَرج عماد الدولة إلى لقائه في جميع عسكره، وأجلسه في داره على السرير، ووقف هو بين يديه، وأمر الناس بالسلام على عَضُد الدولة والانقياد له، وكان يوماً عظيماً مشهوداً، وكان في قوّاد عِماد الدولة جماعة مِن الأكابر يخافهم، ويعرفهم بطلب الرياسة، وكانوا يَرون أنفسهم أكبر منه نَفساً وبيتاً، وأحقّ بالتَقدّم، وكان منهم قائد كبير يُقال له شيرنحين، فقبض عليه، فتشفع فيه أصحابه وقوّاده، فقال لهم:

إنّي أُحدّثكم عنه بحديث، فإن رأيتم أن أُطلقه فعلت. فحدّثهم أنّه كان في خُراسان في خدمة نصر بن أحمد، ونحن شرذمة قليلة مِن الديلم ومَعنا هذا، فجلس يوماً نصر، وفي خدمته مِن مماليكه ومماليك أبيه بضعة عشر ألفاً سوى سائر العسكر، فرأيت شيرنحين هذا قد جرّد سليناً معه ولفّه في كسائه، فقلت: ما هذا؟ فقال: أُريد أن أقتل هذا الصبي - يعني نصراً - ولا أُبالي بالقتل بعده، فإنّي قد أنِفَتْ نفسي مِن القيام بخدمته. وكان عُمر نصر بن أحمد يومئذ عشرين سَنة، وقد خرجت لحيته، فعلمت أنّه إذا فعل ذلك لم يُقتل وحده، بل نُقتَل كُلّنا، فأخذت بيده وقلت له: بيني وبينك حديث، فمَضيتُ به إلى ناحية، وجمعت الديلم وحدّثتهم حديثه، فأخذوا منه السكين، فتريدون منّي بعد أن سمعتم حديثه في معنى نصر أن أُمكّنه مِن الوقوف بين يدَي هذا الصبي، يعني ابن أخي.

فأمسكوا عنه وبقي محبوساً حتّى مات في مَحَبسِه، ومات عماد الدولة وبقي عضد الدولة بفارس، فاختَلف أصحابه، فكَتب مُعزّ الدولة إلى وزيره الصيمري بالمسير إلى شيراز، وتَرْك مُحاربة عمران بن شاهين، فسار إلى فارس ووصل رُكن الدولة أيضاً، واتفقا على تقرير قاعدة عضُد الدولة، وكان رُكن الدولة قد استخلف على الري عليّ بن كامة، وهو

١٦١

مِن أعيان أصحابه، ولمّا وصل رُكن الدولة إلى شيراز ابتدأ بزيارة قبر أخيه باصطخر، فمشى حافياً حاسراً، ومعه العساكر على حاله ولزم القبر ثلاثة أيّام إلى أن سأله القوّاد الأكابر ليرجع إلى المدينة، فرجع إليها وأقام تسعة أشهر، وأنفذ إلى أخيه مُعزّ الدولة شيئاً مِن المال والسلاح وغير ذلك، وكان عماد الدولة في حياته هو أمير الأُمراء، فلمّا مات صار أخوه رُكن الدولة أمير الأُمراء، وكان مُعزّ الدولة هو المُستولي على العراق والخلافة وهو كالنائب عنهما، وكان عِماد الدولة كريماً حليماً عاقلاً حَسِن السياسة للمُلك والرعيّة.

وقد ترجم له ابن خلكان، وترجم لأخَويه رُكن الدولة ومُعزّ الدولة، وقال في ترجمته:

وكان عِماد الدولة سبب سعادتهم التامّة, وانتشار صيتهم، واستولوا على البلاد، ومَلَكوا العراقين والأهواز وفارس، وساسوا أُمور الرعيّة أحسن سياسة، وقال:

وكانت وفاته يوم الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت مِن جمادى الأولى سَنة ثمان وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين وثلاثمئة بشيراز، ودُفن في دار المَملكة، وأقام في المملكة ستّ عشرة سنة، وعاش سبعاً وخمسين سَنة، ولم يُعقب رحمه الله تعالى، وأتاه في مرضه أخوه رُكن الدولة واتّفقا على تسليم بلاد فارس إلى عضد الدولة بن رُكن الدولة فتسلّمها.

وفي رواية ابن الأثير ورواية ابن خلكان اختلاف في الشهر الّذي تُوفّي فيه، فالأوّل يُؤرّخها في جمادى الآخرة، والثاني في جمادى الأولى، وهذا الاختلاف هو الّذي دعانا لنقل رواية ابن خلكان في تاريخ وفاته.

وقال المؤرّخ ابن كثير في ترجمته في حوادث سنة ٣٣٨هـ ما هذا مُلخّصه:

وهو أكبر أولاد بويه وأول مَن تملك مِنهم، وكان عاقلاً حاذقاً حميد السيرة رئيساً في نفسه، كان أوّل ظُهوره في سنة ثنتين وعشرين وثلاثمئة، فلمّا كان هذا العام قويت عليه الأسقام، وتواترت عليه الآلام، فأحسّ مِن نفسه بالهلاك، ولم يُفاده ولا دَفَعَ عنه أمر الله ما هو فيه مِن الأموال، ولا ردّ عنه جيشه مِن الديالم والأتراك والأعجام، مع كثرة العدَد والعُدد، بل تخلّوا عنه أحوج ماكان إليهم، إلى أنْ قال: وكان مِمَّن حاز قصب السبق دون أقرانه، وكان هو أمير الأُمراء، وبذلك كان يكُاتبه

١٦٢

الخُلفاء، ولكنّ أخوه مُعزّ الدولة كان يَنوب عنه في العراق والسواد.

وبالجملة فإنّ كلّ مَن ذَكرَ الدولة البويهيّة مِن المًؤرِّخين وأوليتها أشاد بفضائل عميدها عِماد الدولة، وجَمْعِه لكلِّ مُقوّمات المُلك والسياسة مِن نُهى وحزم وتدبير وسياسة وكياسة وعدل وبذل نَدَى ومُساعدة الأقدار له الخلال الّتي مهّدت له لتأسيس الدولة البويهيّة، وإقامة بنيانها على هذه القواعد، فكانت لها وللقائمين بأُمورها المكانة الرفيعة في التاريخ الإسلامي.

الثاني: أبو عليّ الحسن بن بويه بن فناخسرو الديلمي المُلقّب بركن الدولة:

قال ابن خلكان في وفياته:

وكان رُكن الدولة صاحب أصبهان والري وهمذان وجميع عراق العجم، وهو والد عضد الدولة فناخسرو، ومُؤيّد الدولة أبي منصور بويه وفخر الدولة أبي الحسن علي، وكان مَلِكاً جليل المقدار عالي الهِمّة، وكان أبو الفضل بن العميد وزيره، ولمّا تُوفّي استوزر ولده أبا الفتح عليّاً.

أوائل أمره:

إنّ أوّل أمره مُرتبط بأوّل أمر الأُخوة الثلاثة بني بويه: عماد الدولة وقد عرفت في ترجمته انضمامهم إلى ماكان بن كالي الديلمي، ثُمّ إلى مرداويج ابن زيار - مِن ملوك الجبل - بعد ظفره بماكان، ثُمّ استبدادهم بالأمر بعد تنكّر مرداويج لهم، وقلبه لهم ظهر المجن، وعدوله عن تولية أخيهم الأكبر عِماد الدولة الكرج، وتولية مَن كان في اللاجئين معه مِن القوّاد غيرهما، وقد أحسَّ منهم الطُموح إلى الاستبداد بالمُلك، إلى غير ذلك ممّا استوفينا خَبره في تَرجمة عِماد الدولة فلا نُعيده هُنا، وكان هو وأخوه مُعزّ الدولة ظهيريه وسيفيه المُرهفين على خُصومه لتأسيس دولتهم الفتيّة، وكانوا نِعم الأُخوة إخلاصاً واتّفاقاً يدوخون معه البلاد، ويخوضون لُجج الحُروب ببسالة نادرة، وشجاعة فائقة، وتدبير سديد، حتّى انتهى إليهم ما انتهى مِن سعة مُلكٍ ونُفوذ سلطان.

١٦٣

وكان لمّا استولى عماد الدولة على أرجان وغيرها، ومَلَك على مرداويج المذاهب واقض مضجعه قد بعث بأخيه رُكن الدولة إلى كازرون وغيرها مِن أعمال فارس في سنة إحدى وعشرين وثلاثمئة، فاستخرج مِنها أموالاً جليلة، فأنفذ ياقوت عسكراً إلى كازرون، فواقعهم رُكن الدولة فهزمهم وهو في نَفَر يسير، وعاد غانماً سالماً إلى أخيه.

وفي سَنة ثنتين وعشرين وثلاثمئة بعد استيلاء مرداويج على الأهواز وعَقْد عماد الدولة الصُلح معه على أن يُطيعه ويَخطب له - وهو ماكان يَطلبه مرداويج منه وقد ظهر أمره، واستقرار الأمر بينهما على هذه القاعدة - أهدى له عِماد الدولة هدية جليلة، وأنفذ أخاه رُكن الدولة رهينة، وكانت بذلك قوّة لعماد الدولة، وبعد مَقتل مرداويج بَذلَ رُكن الدولة للموكّلين مالاً فأطلقوه، ونجا إلى أخيه عِماد الدولة بفارس.

استقلال رُكن الدولة بالمُلك:

إنّ الخطّة القويمة الّتي سلكها بنو بويه بعد تظافُرهم واتّفاقهم - والّتي مَكّنت لهم مِن امتلاك ناصية البلاد، وظُهور الأمر والتَغلُّب على مُنافسيهم - تكاد ترجع إلى سَدّهم أبواب التنازُع فيما بينهم على الاستقلال بالمُلك، وهو ماكان ولا يزال مثارة كلّ شِقاق بين كلّ طامح إليه مِن بعيد وقريب، وبين الأب وابنه، والأخ وأخيه، وبين كلّ ذوي قرابة، فقد تناسى الأُخوة عاطفة الاستئثار، بل قضوا عليها القضاء المُبرم ولم تجد أنانيّة المُلك وأُبّهة التفرُّد به إلى نفوسهم سبيلاً، فتَمشّوا على قاعدة لم يَسبقهم لها سابق مٍن كلّ ذي إمرة وسُلطان، حيث عملوا مُجتمعين على تمكين كلّ واحد منهم بمملكة مُستقلّة لا يطمع منهم طامع فيها، ولا يَمدُّ ببصره إليها في ريبة، وقد عرفتَ وسَتَعرف أنّ الأخَوين عِماد الدولة ورُكن الدولة المُترجَم له كيف اشتورا بينهما في أمر إنشاء دولة مستقلة لأخيهما الأصغر مُعزّ الدولة، بهذا التدبير الحكيم، وهذا الإنصاف العجيب، وهذه الغيرية الرائعة قضوا على أسباب النزاع فيما بينهم، وحسموا العلّة قبل سريان العلّة، بل حصّنوا نفوسهم بمناعة تُبعد عنها شبح العلّة، فكان لهم بهذه الحكمة ذلك الظُهور، وكان كلّ منهم ظهيراً لأخيه على ردّ كيد كلّ مَن تُحدّثه نفسه بالاعتداء على مملكته، فما استقرّ في سَنة ثلاث وعشرين وثلاثمئة مُلك عِماد الدولة

١٦٤

لفارس حتّى كانت الري وأصبهان والجبل في يد رُكن الدولة ويد وشمكير ابن زيار أخي مرداويج يتنازعان عليها.

وفي هذه السَنة وُلد وَلده عضُد الدولة أبو شجاع فناخسرو بأصبهان، وهو الّذي انتهى إليه كلّ ما شاد بنو بويه مِن الممالك ومِن الأُبّهة والمَجد والعَظَمة، وما استجدّه في مُدّته مِن الممالك الأُخرى، وما بَلَغه مِن القوّة والنُفوذ على عاصمة الخلافة بغداد وخلفائها، كما ستراه مبسوطاً في ترجمته.

غَلَبة وشمكير لرُكن الدولة على أصبهان:

في سنة سبع وعشرين وثلاثمئة:

أرسل وشمكير بن زيار أخو مرداويج جيشاً كثيفاً مِن الري إلى أصبهان، وبها رُكن الدولة فأزالوه عنها، واستولوا عليها، وخطبوا فيها لوشمكير، ثُمّ سار رُكن الدولة إلى بلاد فارس فنزل بظاهر اصطخر، وسار وشمكير إلى قلعة ألموت فملكها وعاد عنها.

مسيره إلى واسط:

في سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة:

سار رُكن الدولة إلى واسط، وكان سَبب ذلك أنّ أبا عبد الله البريدي أنفذ جيشاً إلى السوس، وقتل قائداً مِن الديلم، فتحصّن أبو جعفر الصيمري بقلعة السوس، وكان على خراجها، وكان مُعزّ الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه بالأهواز فخاف أن يسير إليه البريدي مِن البصرة، فكَتب إلى أخيه رُكن الدولة وهو بباب اصطخر قد عاد مِن أصبهان بعد غلبة جيش وشمكير عليها، فلمّا أتاه كتاب أخيه سار إليه مُجدّاً يَطوي المنازل حتّى وصل إلى السوس، ثُمّ سار إلى واسط ليستَولّي عليها، إذ كان قد خرج عن أصبهان وليس له مُلك ليستقلّ به، فنزل بالجانب الشرقي، وكان البريديون بالجانب الغربي، فاضطرب رجال ابن بويه فاستأمن منهم مئة رجل إلى البريدي.

استرداد رُكن الدولة أصبهان:

عاد رُكن الدولة مِن واسط في هذه السَنة، واستولى على أصبهان، وسار مِن رامهرمز فاستولى عليها وأخرج عنها أصحاب وشمكير، وقتل منهم

١٦٥

وأسر بضعة عشر قائداً، وكان سَبَب ذلك أنّ وشمكير كان قد أنفذ عسكره إلى (ماكان) نجدة له، فخلت بلاد وشمكير مِن العساكر، وسار رُكن الدولة إلى أصبهان وبها نَفَرٌ يسير مِن العساكر فهزمهم واستولى عليها.

مُحالفة رُكن الدولة وأخيه عماد الدولة لأبي عليّ بن محتاج.

ومدّ رُكن الدولة له بالجيش لمحاربة ماكان ووشمكير، وكاتب هو وأخوه عِماد الدولة أبا عليّ بن محتاج يُحرّضانه على ماكان ووشمكير ويَعدانه المُساعدة عليهما، فصار بذلك بينهما مودّة، وكان قصدهما مِن هذا التحريض والوعد بالمساعدة أنْ تُؤخذ الري مِن وشمكير، فإذا أخذها أبو علي لا يُمكنه المُقام بها لسعة ولايته بخُراسان، فيُغلبان عليها، وبَلغَ أمرُ اتّفاقهم إلى وشمكير، وكاتب ماكان بن كالي يستخدمه ويُعرّفه الحال، فسار ماكان بن كالي مِن طبرستان إلى الري، وسار أبو علي وأتاه عسكر رُكن الدولة بن بويه، فاجتمعوا معه باسحاقاباذ والتقوا هُم ووشمكير، ووقف ماكان بن كالي في القلب وباشرَ الحرب بنفسه، وعبّئ أبو علي أصحابه كردايس، وأمرَ مَن بإزاء القلب أنْ يُلحّوا عليهم في القتال، ثُمّ يتطاردوا لهم ويَستجرّوهم، ثُمّ وصّى مَن بإزاء الميمنة والميسرة أنْ يُناوشوهم مُناوشة بمقدار ما يشغلونهم عن مُساعدة مَن في القلب ولا يُناجزوهم، ففعلوا بذلك، وألحّ أصحابه على قلب وشمكير بالحرب، ثُمّ تطاردوا لهم فطمع فيهم ماكان ومَن معه، فتبعوهم وفارقوا مواقفهم، فحينئذ أمرَ أبو علي الكراديس الّتي بإزاء الميمنة والميسرة أنْ يَتقدّم بعضهم ويأتي مَن في قلب وشمكير مِن ورائهم، ففعلوا ذلك، فلمّا رأى أبو علي أصحابه قد أقبلوا مِن وراء ماكان ومَن معه مِن أصحابه أمَرَ المُتطاردون بالعَود والحملة على ماكان وأصحابه، وكانت نفوسهم قد قَويت بأصحابهم، فرجعوا وحملوا على أولئك وأخذهم السيف مِن بين أيديهم ومِن خَلفهم، فولّوا مُنهزمين، فلمّا رأى ماكان ذلك ترجّل وأبلى بلاء حسناً، وظهرتْ منه شجاعة لم يَرَ الناس مثلها، فأتاه سَهم غرب فوقع في جبينه، فنفذ في الخوذة والرأس حتّى طلع مِن قفاه وسقط ميّتاً، وهرب وشمكير ومَن سَلِم معه إلى طبرستان.

استيلاء رُكن الدولة على الري:

وفي سنة ثلاثين وثلاثمئة لمّا سمِع رُكن الدولة وأخوه عِماد الدولة

١٦٦

بملك وشمكير الري طمعا فيه؛ لأنّ وشمكير كان قد ضعُف، وقلّتْ رجاله وماله بتلك الحادثة مع أبي علي، فسار رُكن الدولة إلى الري واقتتل هو ووشمكير، فانهزم وشمكير، واستأمن كثير مِن رجاله إلى رُكن الدولة، فسار وشمكير إلى طبرستان، فقصده الحَسن بن الفيرزان فاستأمن إليه كثير مِن عسكره أيضاً، فانهزم وشمكير إلى خُراسان.

ثُمّ إنّ الحسن بن الفيرزان راسل رُكن الدولة وواصله، فتزوّج رُكن الدولة بنتاً للحسن، فولدت له ولده فَخر الدولة عليّاً.

مُحاولة أبي عليّ بن محتاج مُلْك الريّ وعوده قبل مُلكها:

لمّا استقرّ الأمير نوح في ولايته بما وراء النهر وخُراسان أمَرَ أبا عليّ بن محتاج أنْ يَسير في عساكر خُراسان إلى الريّ ويستنقذُها مِن يدِ رُكن الدولة، فسار في جمع كثير فلقيه وشمكير بخُراسان وهو يَقصد الأمير نوحاً فسيّره إليه، وكان نوح حينئذ بمرو، فلمّا قَدِم عليه أكرمه وأنزله وبالغ في إكرامه والإحسان إليه.

وأمّا أبو علي، فإنّه سار نحو الري، فلمّا نزل ببسطام خالف عليه بعض مَن معه، وعادوا عنه مع منصور بن قراتكين - وهو من أكابر أصحاب نوح وخواصه - فساروا نحو جرجان وبها الحسن بن الفيرزان، فصدّهم الحسن عنها فانصرفوا إلى نيسابور، وسار أبو علي نحو الري فيمَن بقي معه، فخرج إليه رُكن الدولة مُحارباً فالتقوا على ثلاثة فراسخ مِن الري، وكان مع أبي عليّ جماعة كثيرة مِن الأكراد، ففرّوا منه واستأمنوا إلى رُكن الدولة، فانهزم أبو علي وعاد نحو نيسابور، وغنموا بعض أثقاله.

استيلاءُ أبي عليّ على الري:

ثُمّ سار أبو عليّ في هذه السنة - وهي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمئة - مِن نيسابور إلى نوح وهو بمرو، فاجتمع به فأعاده إلى نيسابور، وأمدّه بجيش كثير فعاد إلى نيسابور، وسار منها إلى الري في جمادى الآخرة وبها رُكن الدولة، فلمّا عَلِم رُكن الدولة بكثرة جموعه سار عن الري، واستولى أبو عليّ عليها وعلى سائر أعمال الجبال، وأنفذ نوّابه إلى الأعمال، وذلك في شهر رمضان مِن هذه السَنة.

ثُمّ إنّ الأمير نوحاً سار مِن مرو إلى نيسابور

١٦٧

فوصل إليها في رجب، وأقام بها خمسين يوماً، فوضع أعداء أبي علي جماعة مِن الغوغاء والعامّة فاجتمعوا واستغاثوا عليه، وشكوا سوء سيرته وسيرة نوّابه، فاستعمل الأمير نوح على نيسابور إبراهيم بن سيمجور، وعاد عنها إلى بُخارى في رمضان، وكان مُرادهم بذلك أنْ يَقطعوا طمع أبي علي عن خُراسان ليُقيم بالري وبلاد الجبل، فاستوحش أبو عليّ لذلك؛ فإنّه كان يَعتقد أنه يُحسن إليه بسبب فتح الري وتلك الأعمال، فلمّا عُزل شقَّ عليه ذلك، ووجّه أخاه أبا العبّاس الفضل بن محمّد إلى كور الجبال وولاّه همذان، وجعله خليفة على مَن معه مِن العساكر، فقصدَ الفضل نهاوند والدينور وغيرهما واستولى عليها، واستأمن إليه رُؤساء الأكراد مِن تلك الناحية، وأنفذوا إليه رهائنهم.

اختلافُ أبي عليّ والأمير نوح ثُمّ مُصالحتهما وانتهاز عِماد الدولة الفُرصة لاستعادة رُكن الدولة الري:

ما كانَ لعمادِ الدولةِ مِن التدبير لاستعادة رُكن الدولة الري:

استقرّ الصُلح بين الأمير نوح وأبي علي بعد الخلاف، وكان ذلك في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة.

لمّا سار أبو علي نحو الري في عساكر خُراسان، كَتب رُكن الدولة إلى أخيه عِماد الدولة فأرسل إليه يأمره بُمفارقة الري والوصول إليه لتدبير له في ذلك، ففعل رُكن الدولة ذلك، ودخل أبو علي الريَّ فكَتب عماد الدولة إلى نوح سِرّاً يبذل له في الري في كُلّ سَنة زيادة على ما بذله أبو علي مئة ألف دينار، ويُعجّل ضمان سَنة، ويَبذل مِن نفسه مُساعدته على أبي علي حتّى يَظفر به وخوفه منه، فاستشار نوح أصحابه - وكانوا يحسدون أبا علي ويُعادونه - فأشاروا عليه بإجابته، فأرسل نوح إلى ابن بويه مَن يُقرّر القاعدة ويَقبض المال، فأكرم الرسول ووصله بمال جزيل، وأرسل إلى أبي علي يُعلمه خبر هذه الرسالة، وأنّه مُقيم على عهده وودّه وحذره مِن غدر الأمير نوح، فأنفذ أبو علي رسوله إلى إبراهيم وهو بالموصل يستدعيه ليُملّكه البلاد، فسار إبراهيم، فلقيه أبو علي بهمذان وساروا إلى خُراسان، وكَتب عِماد الدولة إلى أخيه رُكن الدولة يأمره بالمُبادرة إلى الريّ، فعاد إليه

١٦٨

واضطربت خُراسان، وردّ عماد الدولة رسول نوح بغير مال، وقال:

أخاف أنْ أنفذ المال فيأخذه أبو علي، وأرسل إلى نوح يُحذّره مِن أبي علي ويَعده بالمُساعدة عليه، وأرسل إلى أبي علي يعده بإنفاذ العساكر نجدة له، ويُشير عليه بسُرعة اللقاء. وإنّ نوحاً سار فالتقى هو وأبي علي بنيسابور، فانهزم نوح وعاد إلى سمرقند، واستولى أبو علي على بُخارا.

إنّ هذا الخلاف بين أبي علي ونوح وعودة أبي علي إلى خُراسان مكّنا لرُكن الدولة مِن الرُجوع إلى الري والاستيلاء عليها وعلى سائر أعمال الجبل، وأزال عنها الخُراسانيّة، دع ذلك، الدهاء العظيم الّذي أوقع به عِماد الدولة بين خَصميه وخَصمَي أخيه نوح وأبي علي، فكانت منه الفرصة وانتهازها لعَودة أخيه رُكن الدولة إلى الري، وانتهى ضعف خُصوم البويهيّين إلى قوّتهم وعِظَم مُلكهم، حتّى صار بأيديهم أعمال الري والجبل وفارس والأهواز والعراق، ويُحمل إليهم ضمان الموصل وديار بَكر وديار مُضر مِن الجزيرة.

مُلك رُكن الدولة طبرستان وجُرجان:

في ربيع الأوّل سنة ستّ وثلاثين وثلاثمئة اجتمع رُكن الدولة والحسن بن الفيرزان، وقصدا بلاد وشمكير فالتقاهما وانهزم منهما، ومَلك رُكن الدولة طبرستان وسار منها إلى جُرجان فملكها، واستأمن مِن قواد وشمكير مئة وثلاثة عشر قائداً، فأقام الحسن بن الفيرزان بجُرجان، ومضى وشمكير إلى خُراسان مُستجيراً ومستنجداً لإعادة بلاده.

مُلك مُعزّ الدولة الموصل على ناصر الدولة والصُلح بينهما على قاعدة ميل، والخطبة في بلاده له ولأخَويه عِماد الدولة ورُكن الدولة:

في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة قصد مُعزّ الدولة مِن بغداد ناصر الدولة بن حمدان، فلمّا سمع ناصر الدولة بذلك سار عن الموصل إلى نصيبين، ووصل مُعزّ الدولة فمَلك الموصل، ولمّا همَّ أنْ يملك جميع بلاد ناصر الدولة أتاه الخبر مِن أخيه رُكن الدولة بقصد عساكر خُراسان جرجان

١٦٩

والري، ويطلب منه العساكر نجدةً فاضطرّ إلى مُصالحة ناصر الدولة، واستقرار الحال بينهما على مالٍ والخُطبة له في بلاده ولأخَويه عِماد الدولة وناصر الدولة.

وسار في هذه السَنة منصور بن قراتكين في جيوش خُراسان إلى جُرجان وبصُحبته وشمكير، فتمّ لهما امتلاك جُرجان صُلحاً مع الحسين بن الفيرزان عامل رُكن الدولة عليها، وبقي وشمكير بجُرجان.

مسير المرزبان إلى الري:

في هذه السنة سار المرزبان محمّد بن مسافر صاحب أذربيجان إلى الري؛ وسبب ذلك أنّه بلغه خُروج عساكر خُراسان إلى الري، وأنّ ذلك يُشغل رُكن الدولة عنه.

ثُمّ إنّه كان أرسل رسولاً إلى مُعزّ الدولة، فحَلق مُعزّ الدولة لحيته، وسبّه وسبّ صاحبه وكان سفيهاً، فعظُم ذلك على المرزبان، وأخذ في جمع العساكر، واستأمن إليه بعض قوّاد رُكن الدولة وأطمعه في الري، وأخبره أنّ مَنْ وراءه مِن القوّاد يُريدونه، فطمع لذلك، وراسله ناصر الدولة يَعدُه المُساعدة، ويُشير عليه أنْ يَبتدئ ببغداد، فحالفه ثُمّ أحضر أباه وأخاه وهسوذان، واستشارهما في ذلك، فنهاه أبوه عن قصد الري فلم يقبل، فلمّا ودّعه بكى أبوه، وقال:

يا بُني، أين أطلبك بعد يومي هذا، قال: إمّا في دار الإمارة بالري، وإمّا بين القتلى، فلمّا عرف رُكن الدولة خبره كَتب إلى أخَوَيه عِماد الدولة ومُعزّ الدولة يَستمدّهما، فسَيّر عِماد الدولة ألفَي فارس، وسير إليه مُعزّ الدولة جيشاً مع سبكتكين التركي، وأنفذ عهداً مِن المُطيع لله لركن الدولة بخُراسان، فلمّا صاروا بالدينور خالف الدَيلم على سبكتكين وكبسوه ليلاً، فركب فرس النوبة ونجا، واجتمع الأتراك عليه، فعلم الديلم أنّهم لا قوّة لهم به، فعادوا إليه وتضرّعوا فقبِل عُذرهم، وكان رُكن الدولة قد شَرع مع المرزبان في المُخادعة وإعمال الحيلة، فكَتب إليه يتواضع له ويُعظّمه، ويَسأله أن ينصرف عنه على شرط أن يُسلّم إليه رُكن الدولة زنجان وأبهر وقزوين، وتردّدت الرُسل في ذلك إلى أنْ وصله المَدد مِن عِماد الدولة ومُعزّ الدولة، وأحضر معه محمّد بن عبد الرزّاق، وأنفذ له الحسن بن الفيرزان عسكراً مع محمّد بن ماكان، فلمّا كَثُر جمعه قبض على جماعة ممَّن كان يتّهمهم مِن قوّاده، وسار إلى قزوين فعلم المرزبان عجزه

١٧٠

عنه، وأنِفَ مِن الرُجوع فالتقيا، فانهزم عسكر المرزبان، وأُخذ أسيراً وحُمل إلى سميرم فحُبس بها، وعاد رُكن الدولة ونزل محمّد بن عبد الرزاق بنواحي أذربيجان.

وأمّا أصحاب المرزبان، فإنّهم اجتمعوا على أبيه محمّد بن مسافر وولّوه أمرهم، فهرب منه ابنه وهسوذان إلى حصنٍ له، فأساء محمّد السيرة مع العسكر، فأرادوا قَتْله فهرب إلى ابنه وهسوذان، فقبض عليه وضيّق عليه حتّى مات، ثُمّ تحيّر وهسوذان في أمره، فاستدعى ديسم الكردي لطاعة الأكراد له، وقوّاه وسيّره إلى محمّد بن عبد الرزّاق، فالتقيا فانهزم ديسم وقوي ابن عبد الرزّاق، فأقام بنواحي آذربيجان يجبي أموالها، ثُمّ رجع إلى الري.

مسير الخراسانيّين إلى الري:

في سَنة تسع وثلاثين وثلاثمئة سار منصور بن قراتكين مِن نيسابور إلى الري في صَفر، أمَرَه الأمير نوح بذلك، وكان رُكن الدولة بفارس في شيراز مُستخلفاً على الريّ عليّ بن كامة، فوصل منصور إلى الري، وبها عليّ بن كامة خليفة رُكن الدولة، فسار عنها علي إلى أصبهان، ودخل منصور الري واستولى عليها، وفرق العساكر في البلاد، فملكوا بلاد الجبل إلى قرميسين، وأزالوا عنها نوّاب رُكن الدولة، واستولوا على همذان وغيرها، فبلَغَ الخبر إلى رُكن الدولة وهو بفارس، فكَتب إلى أخيه مُعزّ الدولة يأمره بإنفاذ عسكر يَدفع تلك العساكر عن النواحي المُجاورة للعراق، فسَيَّر سبكتكين الحاجب في عسكر ضخم مِن الأتراك والديلم والعَرب، فلمّا سارَ سبكتكين عن بغداد خَلّف أثقاله وأسرى جريدة إلى مَن بقرميسين مِن الخُراسانيّين، فكبسوهم وهُم غارون فقَتل فيهم، وأسر مُقدّمهم مَن الحمام واسمه بجكم الخمار تكيني، فأنفذه مع الأسرى إلى مُعزّ الدولة، فحبسه مُدّة ثُمّ أطلقه، فلمّا بَلغَ الخراسانيّة ذلك اجتمعوا إلى همذان، فسار سبكتكين نحوهم، ففارقوا همذان ولم يُحاربوه، ودخل سبكتكين همذان، وأقام بها إلى أن وَرَد عليه رُكن الدولة، فلمّا بقيَ بينهما مقدار عشرين فَرسخاً عَدَلَ منصور إلى أصبهان، ولو قصد همذان لانحاز رُكن الدولة عنه، وكان مَلَك البلاد بسبب اختلافٍ كان في عسكر رُكن الدولة، ولكنّه عَدَلَ عنه لأمرٍ يُريده الله تعالى.

وتَقدّم رُكن الدولة إلى سبكتكين بالمسير في مُقدّمته، فلمّا أراد المسير

١٧١

شغب عليه بعض الأتراك مَرّة بعد أُخرى، فقال رُكن الدولة:

هؤلاء أعداؤنا ومعنا، والرأي أنْ نبدأ بهم فواقعهم واقتتلوا فانهزم الأتراك، وبلَغَ الخبر إلى مُعزّ الدولة، فكَتب إلى ابن أبي الشوك الكُردي وغيره يأمرهم بطلبهم والإيقاع بهم، فطلبوهم وأسروا منهم وقُتلوا، ومضى مَن سَلِمَ منهم إلى الموصل.

وسار رُكن الدولة نحو أصبهان، ووصل ابن قراتكين إلى أصبهان، فانتقل مَن كان بها مِن أصحاب رُكن الدولة وأهله وأسبابه، وركبوا الصعب والذلول حتّى البقر والحمير، وبلغ كراء الثور والحمار إلى خان لنجان مئة درهم، وهي على تسعة فراسخ مِن أصبهان، فلم يُمكنهم مُجاوزة ذلك الموضع، ولو سار إليهم منصور لغنمهم وأخذ ما معهم وملك ما وراءهم، إلاّ أنّه دخل أصبهان وأقام بها، ووصل رُكن الدول فنَزَل بخان لنجان، وجرت بينهما حُروب عدّة أيام وضاقت الميرة على الطائفتين، وبلغ بهم الأمر إلى أن ذبحوا دوابهم، ولو أمكن رُكن الدولة الانهزام لفعل، ولكنّه تَعذّر عليه ذلك، واستشار وزيره أبا الفضل بن العميد في بعض الليالي في الهرب، فقال له:

لا ملجأ لكَ إلاّ الله تعالى، فانوِ للمسلمين خيراً، وصمِّم العَزم على حُسن السيرة والإحسان إليهم، فإنّ الحِيَل البشريّة كُلّها تَقطّعت بنا، وإنْ انهزمنا تبعونا وأهلكونا، وهم أكثر مِنّا فلا يفلت منّا أحد.

فقال له: قد سبقتُك إلى هذا، فلمّا كان الثُلث الأخير مِن الليل أتاهم الخبر أنّ منصوراً وعسكره قد عادوا إلى الري وتركوا خيامهم؛ وكان سببُ ذلك أنّ الميرة والعلوفة ضاقت عليهم أيضاً، إلاّ أنّ الديلم كانوا يَصبرون ويَقنعون بالقليل مِن الطعام، وإذا ذبحوا دابّة أو جَمَلاً قسّمه الخَلْق الكثير منهم، وكان الخُراسانيّة بالضدِّ منهم - لا يصبرون ولا يكفيهم القليل - فشغبوا على المَنصور واختلفوا وعادوا إلى الري، فكان عودهم في المُحرّم سنة أربعين وثلاثمئة، فأتى الخبر رُكن الدولة فلم يُصدّقه حتّى تواتر عنده، فركب هو وعسكره واحتوى على ما خلّفه الخُراسانيّة.

حكى الفضل بن العميد، قال:

استدعاني رُكن الدولة تلك الليلة الثُلث الأخير، وقال لي: قد رأيت الساعة في منامي كأنّي على دابّتي فيروز، وقد انهزم عدوّنا وأنت تسير إلى جانبي وقد جاءنا الفَرَج مِن حيث لا نَحتسب، فمددّتُ عيني فرأيت على الأرض خاتماً فأخذته فإذا فصّه من فيروزج، فجعلته في أصبعي وتَبرّكت به، وانتبهت وقد أيقنت بالظَفَر؛ فإنّ

١٧٢

الفيروزج مَعناهُ الظَفَر، ولذلك لقّبَ الدابّة فيروز.

قال ابن العميد:

فأتانا الخبر والبشارة بأنّ العدوّ قد رَحَل فما صدّقنا حتّى تواترت الأخبار، فركبنا ولا نعرف سَبَبَ هَرَبهم، وسُرنا حذرين مِن كمين، وسرتُ إلى جانب رُكن الدولة وهو على فرسه فيروز، فصاح رُكن الدولة بغُلام بين يديه: ناولني ذلك الخاتم، فأخذ خاتماً مِن الأرض فناوله إيّاه فإذا هو فيروزج فجعله في إصبعه، وقال: هذا تأويل رؤياي، وهذا الخاتم الّذي رأيت مُنذ ساعة، وهذا مِن أحسن ما يُحكى وأعجبه.

مسير أبي علي إلى الري:

لمّا كان مِن أمر وشمكير ورُكن الدولة ما مرّ ذِكره في مُلك رُكن الدولة طبرستان وجرجان، في ربيع الأوّل سَنة سبعٍ وثلاثين وثلاثمئة، وانهزام وشمكير ومضيّه إلى خُراسان مُستجيراً ومستنجداً لإعادة بلاده كَتب وشمكير إلى الأمير نوح يستمدّه، فكتب نوح إلى أبي عليّ بن محتاج يأمره بالمسير في جيوش خُراسان إلى الري، وقتال ركن الدولة، فسار أبو علي في جيوش كثيرة واجتمع معه وشمكير، فسار إلى الري في شهر ربيع الأوّل مِن سَنة اثنتين وأربعين وثلاثمئة، وبلغَ الخبر رُكن الدولة، فعلم أنّه لا طاقة له بمَن قصده، فرأى أن يحفظ بَلدَه ويُقاتل عدوّه مِن وجه واحد، فحارب الخُراسانيّين بطبرك، وأتاهم الشِتاء وملّوا فلم يصبروا، فاضطرّ أبو علي إلى الصُلح فتراسلوا في ذلك، وكان الرسول أبا جعفر الخازن، وكان المُشير به محمّد بن عبد الرزّاق فتصالحا، وتقرّر على رُكن الدولة كلّ سَنة مائتا ألف دينار، وعاد أبو علي إلى خُراسان، وكَتبَ وشمكير إلى الأمير نوح يُعرّفه الحال، ويَذكُر له أنّ أبا علي لم يَصدُق في الحرب، وأنّه مالأ رُكن الدولة، فاغتاظ نوح مِن أبي علي.

وأمّا رُكن الدولة، فإنّه لمّا عاد عنه أبو علي سار نحو وشمكير، فانهزم وشمكير مِن بين يديه إلى اسفراين، واستولى رُكن الدولة على طبرستان.

عَزلُ نوح أبا علي عن خُراسان والتجاء أبي علي إلى رُكن الدولة:

لمّا اتّصل خَبر عود أبي علي عن الري إلى الأمير نوح ساءه ذلك، وكَتب وشمكير إلى نوح يُلزم الذنب أبا علي كما سبق بيانه، فكَتب نوح إلى

١٧٣

أبي علي يعزله عن خُراسان، وكَتب إلى القوّاد يُعرّفهم ذلك، وأقام قائداً على الجيوش أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني، فأنفذ أبو علي يعتذر، وأرسل جماعة مِن أعيان نيسابور يُقيمون عُذره، ويسألون أنْ لا يُعزَل عنهم، فلم يُجابوا إلى ذلك، ولمّا عُزل أبو علي عن خُراسان أظهر الخلاف، وخطبَ لنفسه بنيسابور، وكَتب نوح إلى وشمكير والحسن بن الفيرزان يأمرهما بالصُلح، وأنْ يتساعدا على مَن يُخالف الدولة ففعلا ذلك، فلما عَلِمَ أبو علي باتّفاق الناس مع نوح عليه كاتب رُكن الدولة في المصير إليه؛ لأنّه عَلِمَ أنّه لا يُمكنه المقام بخُراسان، ولا يُقدر على العود إلى الصغانيان، فاضطرّ إلى مُكاتبة رُكن الدولة في المصير إليه، فأذِن له في ذلك، فسار في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمئة إلى الري، فلقيه رُكن الدولة وأكرمه، وأقام له الأنزال والضيافة له ولمَن معه، وطلب أبو علي أن يكتُب له عهداً مِن جهة الخليفة بولاية خُراسان فأرسل رُكن الدولة إلى مُعزّ الدولة في ذلك، فسيَّر له عهداً بما طلب، وسيَّر له نجدة مِن عسكره، فسارَ أبو علي إلى خُراسان واستولى على نيسابور، وخطب للمُطيع بها وبما استولى عليه مِن خُراسان، ولم يكن يَخطب له بها قبل ذلك.

ثُمّ إنّ نوحاً مات في خلال ذلك، وتولّى بعده ولَدَه عبد المَلك، فلمّا استقرّ أمره سيّر بكر بن مالك إلى خُراسان مِن بُخارى، وجعله مُقدّماً على جيوشها، وأمره بإخراج أبي علي مِن خُراسان، فسار في العساكر نحو أبي علي فتفرّق عنه أصحابه وعسكره، وبقيَ معه مِن أصحابه مئتا رجل سوى مَن كان عنده مِن الديلم نجدة له، فاضطرّ إلى الهرب، فسار نحو رُكن الدولة فأنزله معه في الري، واستولى ابن مالك على خُراسان، فأقام بنيسابور وتتبّع أصحاب أبي علي.

خُروج الخُراسانيّة إلى الري وأصبهان وانهزامهم بعد ظَفَرهم:

في سَنة أربع وأربعين وثلاثمئة خَرج عَسكر خُراسان إلى الري، وبها رُكن الدولة كان قد قَدمها من جُرجان أوّل المُحرّم، فكَتب إلى أخيه مُعزّ الدولة يستمدّه، فأمدّه بعسكر مُقدّمهم الحاجب سبكتكين، وسيّر مِن خُراسان عسكراً آخر إلى أصبهان على طريق المفازة وبها الأمير أبو منصور بويه بن رُكن الدولة، فلمّا بَلَغَه خبرهم سار عن أصبهان بالخزائن والحُرم الّتي لأبيه، فبلغوا خان لنجان، وكان مُقدّم العسكر الخُراساني محمّد بن ماكان، فوصلوا

١٧٤

إلى أصبهان فدخلوها، وخرج ابن ماكان منها في طلب بويه، فأدرك الخزائن فأخذها وسار في أثره، وكان مِن لُطف الله به أنّ الأُستاذ أبا الفضل بن العميد وزير رُكن الدولة اتّصل بهم في تلك الساعة، فعارض ابن ماكان وقاتله، فانهزم أصحاب ابن العميد عنه، واشتغل أصحاب ابن ماكان بالنهب.

قال ابن العميد:

فبقيت وحدي وأردت اللحاق بأصحابي، ففكّرت وقلت: بأي وجه ألقى صاحبي وقد أسلمت أهله وأولاده وأمواله ومُلكه ونجوت بنفسي، فرأيت القتلَ أيسر عليَّ مِن ذلك، فوقفت وعسكر ابن ماكان يَنهب أثقالي وأثقال عسكري، فلحق بابن العميد نفر مِن أصحابه ووقفوا معه، وأتاهم غيرهم، فاجتمع معهم جماعة، فحمل على الخُراسانيّين وهُم مشغولون بالنهب وصاحوا فيهم، فانهزم الخُراسانيّون، فأُخذوا مِن بين قتيل وأسير، وأُسر ابن ماكان وأُحضر عند ابن العميد، وسار ابن العميد إلى أصبهان فأخرج مَن كان بها مِن أصحاب ابن ماكان، وأعاد أولاد رُكن الدولة وحَرمه إلى أصبهان واستنقذ أمواله.

ثُمّ إنّ رُكن الدولة أرسل بكر بن مالك صاحب جيوش خُراسان واستماله، فاصطلحا على مال يَحمله رُكن الدولة إليه ويكون الري وبلد الجبل مع رُكن الدولة، وأرسل رُكن الدولة إلى أخيه مُعزّ الدولة يَطلب خلعاً ولواء بولاية خُراسان لبكر بن مالك فأرسل إليه ذلك.

استيلاء رُكن الدولة على طبرستان وجُرجان:

في المُحرّم سَنة إحدى وخمسين وثلاثمئة سار رُكن الدولة إلى طبرستان وبها وشمكير، فنزل على مدينة سارية فحصرها وملكها، ففارق حينئذٍ وشمكير طبرستان وقصد جُرجان، فأقام رُكن الدولة بطبرستان إلى أن ملكها كلّها وأصلح أمورها، وسار في طلب وشمكير إلى جُرجان، فأزاحه عنها واستولى عليها، واستأمن إليه مِن عسكر وشمكير ثلاثة آلاف رجُل، فازداد قوّة وازداد وشمكير ضعفاً ووهناً، فدخل بلاد الجبل.

التجاء إبراهيم بن المرزبان إلى رُكن الدولة:

في سَنة خمس وخمسين وثلاثمئة سيّر أبو القاسم بن مسيكي مِن وهسوذان بالجيوش إلى إبراهيم بن المرزبان، وانهزم وتبعه الطلب فلم

١٧٥

يُدركوه، وسار وحده حتّى وصل إلى الري إلى رُكن الدولة، فأكرمه وأحسن إليه، وكان زوج أخت إبراهيم فبالغ في إكرامه، وأجزل له الهدايا والصلات.

الغُزاة الخُراسانيّة مع رُكن الدولة:

في هذه السنة في شهر رمضان خرج مِن خُراسان جمعٌ عظيم يبلغون عشرين ألفاً إلى الري بنيّة الغُزاة، فَبلغَ خبرهم إلى رُكن الدولة وكثرة جَمعهم وما فعلوه في أطراف بلاده مِن الفساد، وأنّ رؤساءهم لم يمنعوهم عن ذلك، فأشار عليه الأستاذ أبو الفضل بن العميد - وهو وزيره - بمنعهم مِن دُخول بلاده مُجتمعين، فقال:

لا، تتحدّث المُلوك أنّني خِفت جمعاً مِن الغُزاة. فأشار عليه بتأخيرهم إلى أن يجمع عسكره، وكانوا مُتفرّقين في أعمالهم، فلم يقبل منه، فقال له:

أخاف أنْ يكون لهُم مع صاحب خُراسان مواطأة على بلادك ودولتك. فلم يلتفت إلى قوله، فلمّا وردوا الري اجتمع رؤساؤهم وفيهم القفال الفقيه، وحضروا مجلس ابن العميد، وطلبوا مالاً يُنفقونه، فوعدهم فاشتطّوا في الطَلَب، وقالوا:

نُريد خراج هذه البلاد جيعها فإنّه لبيت المال، وقد فعل الروم بالمسلمين ما بَلغكم، واستولوا على بلادكم، وكذلك الأرمن، ونحن غُزاة وفقراء، وأبناء سبيل، فنحن أحقّ بالمال منكم. وطلبوا جيشاً يَخرج معهم واشتطّوا في الاقتراح، فعلم ابن العميد حينئذٍ خُبث سرائرهم، وتيقّن ما كان ظنّه فيهم فرفق بهم وداراهم، فعَدلوا عنه إلى مُشاتَمة الديلم ولعنهم وتَكفيرهم، ثُمّ قاموا عنه وشرعوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويُسلّبون العامّة بحُجّة ذلك.

ثُمّ إنّهم أثاروا الفتنة وحاربوا جماعة مِن الديلم إلى أنْ حَجز بينهم الليل، ثُمّ باكروا القتال ودخلوا المدينة ونهبوا دار الوزير ابن العميد وجرحوه وسَلِمَ مِن القتل، وخرج رُكن الدولة إليهم في أصحابه وكان في قلّة، فهزمه الخُراسانيّة، فلو تبعوه لأتوا عليه وملكوا البلد منه، لكنّهم عادوا عنه؛ لأنّ الليل أدركهم، فلمّا أصبحوا راسلهم رُكن الدولة ولطُف بهم؛ لعلّهم يَسيرون مِن بلده فلم يفعلوا، وكانوا ينتظرون مَدداً يأتيهم مِن صاحب خُراسان، فإنّه كان بينهم مواعدة على تلك البلاد.

ثُمّ إنّهم اجتمعوا وقصدوا البلد ليملكوه، فخرج رُكن الدولة إليهم فقاتلهم، وأمر نَفَراً مِن أصحابه أنْ يسيروا إلى مكانِ سيرهم، ثُمّ يُثيروا غُبرة شديدة ويُرسلوا إليه مَن يُخبره أنّ الجيوش قد أتته، ففعلوا ذلك، وكان

١٧٦

أصحابه قد خافوا لقلّتهم وكثرة عدوّهم، فلمّا رأوا الغُبرة وأتاهم مَن أخبرهم أنّ أصحابهم لحقوهم قويَت نفوسهم، وقال لهم رُكن الدولة:

احملوا على هؤلاء لعلّنا نَظفر بهم قبل وصول أصحابنا فيكون الظَفَر والغنيمة لنا، فكَبّروا وحملوا حملة صادقة، فكان لهم الظَفر، وانهزم الخُراسانيّة، وقُتل منهم خَلق كثير، وأُسر أكثر ممَّن قُتل، وتَفرّق الباقون، فطلبوا الأمان فأمّنهم رُكن الدولة، وكان قد دخل البلد جماعة منهم يُكبّرون كأنّهم يُقاتلون الكفار، ويقتلون كلّ مَن رأوه بزيِّ الديلم، ويقولون هؤلاء رافضة، فبلغهم خبر انهزام أصحابهم، وقصَدَهُم الديلم ليقتلوهم فمنعهم رُكن الدولة، وأمّنهم، وفتح لهم الطريق ليعودوا، ووصل بعدهم نحو ألفَي رجل بالعدّة والسلاح، فقاتلهم رُكن الدولة فهزمهم، وقتل فيهم ثُمّ أطلق الأُسارى، وأمر لهم بنفقات وردّهم إلى بلادهم، وكان إبراهيم بن المرزبان عند رُكن الدولة، فأثّر فيهم آثاراً حَسنة.

عود إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان ومعه ابن العميد نجدة:

في هذه السَنة عاد إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان واستولى عليها، وكان سبب ذلك أنّه لمّا قصد رُكن الدولة لاجئاً إليه بعد انهزامه مِن أبي القاسم بن مسيكي، جهّز العساكر معه، وسيّر معه الأُستاذ أبا الفضل بن العميد ليردّه إلى ولايته، ويُصلح له أصحاب الأطراف، فسار معه إليها، واستولى عليه، وأصلح له جستان بن شرمزن وقاده إلى طاعته، وغيره مِن طوائف الأكراد ومكّنه مِن البلاد، وكان ابن العميد لمّا وصل إلى تلك البلاد، ورأى كثرة دخلها وسعة مياهها، ورأى ما يَتحصّل لإبراهيم منها، فوجده قليلاً لسوء تدبيره، وطمع الناس فيه لاشتغاله بالشُرب والنساء، فكَتب إلى رُكن الدولة يُعرّفه الحال، ويُشير بأنْ يُعوّضه مِن بعض ولايته بمقدار ما يَتحصّل له مِن هذه البلاد، ويأخذها منه، فإنّه لا يَستقيم له حال مع الّذين بها، وأنّها تُؤخذ منه، فامتنع رُكن الدولة مِن قبول ذلك منه، وقال:

لا يتحدّث الناس عنّي أنّي استجارَ بي إنسان وطمعت فيه. وأمر أبا الفضل بالعود عنه، وتسليم البلاد إليه ففعل، وعاد وحكى لرُكن الدولة صورة الحال، وحذّره خروج البلاد مِن يد إبراهيم، وكان الأمر كما ذكره حتّى أُخذ إبراهيم وحُبس.

إنّك لَتَرى مِن سداد تدبيره في الغَلبَة على الغُزاة الخُراسانيّة ومِن مُعاملته

١٧٧

أُساراهم ومَن وقع في قبضته مِن الرِفق بهم، وردّهم إلى بلادهم مُزوَّدين بالنفقات، ومِن عفّة نفسه عن امتلاك آذربيجان وأخذها مِن إبراهيم بن المرزبان العائذ به، ومِن استعادتها بتدبير وزيره ابن العميد وقوّة جيشه، وملكها على طرف التمام، وأبى على وزيره المُشار إليه مشورته عليه بالاستيلاء عليها، إنّك لَترى مِن ذلك حِكمة هذا الرجل العظيم، وعِفّة نفسه وبُعده عن الطمع في توسيع مُلكه مِن أيّ طريق اتّفق، كما هو شأن المُلوك والأُمراء، وبِمَِثل هذه الحال استطاع أنْ يحتفظ بِمملكته المُضطربة اضطراب السفينة في البحر الهائج، حيث لا يَعرف الاستقرار والطمأنينة مِن كثرة الطامعين فيها مِن هُنا وهُناك، وطلب المُلك مِن كلّ طامع في المُلك في ذلك العهد، سواء كان ممَّن لهُم سابقة فيه، أم كان مِن المستحدثين، والباب مفتوح إليهم جميعاً على مصراعيه مِن أعظم ما مُني به ذلك العصر وأهله مِن البلاء العظيم، وسترى مُضافاً إلى هذا وما يماثله لهذا الرجل الكبير مِن الفضائل ما تقف عليه في خروج عساكر خُراسان إلى بلاده الري في هذا العام.

خُروج عساكر خُراسان إلى الري:

في سَنة ستّ وخمسين وثلاثمئة جهّز الأمير منصور بن نوح - صاحب خُراسان وما وراء النهر - الجيوش إلى الري، وكان سَبب ذلك أنّ أبا علي بن إلياس سار مِن كرمان إلى بُخارا مُلتجئاً إلى الأمير منصور، فلمّا ورد عليه أكرمه وعظّمه، فأطمَعَه في ممالك بني بويه، وحسَّنَ له قصدها، وعرّفه أنّ نوّابه لا يُناصحونه، وأنّهم يأخذون الرُشا مِن الديلم، فوافق ذلك ما كان يَذكره له وشمكير، فكاتب الأمير منصور وشمكير والحسن بن الفيرزان يُعرّفهما ما عَزم عليه مِن قصْد الري، ويأمرهما بالتجهُّز لذلك ليسيرا مع عسكره، ثُمّ إنّه جهّزَ العساكر وسيّرها مع صاحب جيوش خُراسان، وهو أبو الحسن محمّد ابن إبراهيم بن سيمجور الدواني، وأمره بطاعة وشمكير والانقياد له والتَصرّف بأمره، وجعله مُقدّم الجيوش جميعها، فلمّا بلغَ الخبر إلى رُكن الدولة أتاه ما لم يكن في حِسابه، وأخذه المُقيم المقعد، وعَلِمَ أنّ الأمر قد بَلغ الغاية، فسيّر أولاده وأهله إلى أصبهان، وكاتب ولده عضُد الدولة يَستمدّه، وكاتب ابن أخيه عِزّ الدولة بختيار يستنجده أيضاً، فأمّا عضُد الدولة، فإنّه جهَّز العساكر وسيّرهم إلى طريق خُراسان، وأظهر أنّه يُريد قَصد

١٧٨

خُراسان لخُلوّها مِن العساكر، فبَلَغ الخَبر أهل خُراسان، فأحجموا قليلاً ثُمّ ساروا حتّى بَلغوا الدامغان، وبرز رُكن الدولة في عساكره مِن الريّ نحوهم، فاتّفق موت وشمكير، فكان سَبب موته أنّه وصله مِن صاحب خُراسان هدايا مِن جملتها خيل، فاستعرض الخيل واختار أحدها وركبه للصيد، فعارضه خنزير قد رُمي بحربة وهي ثابتة فيه، فحمل الخنزير على وشمكير وهو غافل، فضرب الفرس فشبّ تحته فألقاه إلى الأرض، وخرج الدم من أُذنيه وأنفه فحُمِل ميّتاً، وذلك في المُحرّم مِن سَنة سبع وخمسين، وانتقض جميع ما كانوا فيه وكفى الله رُكن الدولة شرّهم، ولمّا مات وشمكير قام ابنه بيستون مقامه، وراسل رُكن الدولة وصالحه، فأمدّه رُكن الدولة بالمال والرِجال.

ومِن أعجب ما يُحكى ممّا يُرغِّب في حُسن النيّة وكرم المَقدرة أنّ وشمكير لمّا اجتمعت معه عساكر خُراسان وسار كَتب إلى رُكن الدولة يتهدّده بِضروب مِن الوعيد والتهديد، ويقول:

والله لئن ظفرتُ بك لأفعلنَّ بكَ ولأصنعنَّ - بألفاظ قبيحة - فلم يتجاسر الكاتب أنْ يقرأه، فأخذه رُكن الدولة فقرأه، وقال للكاتب:

اكتب إليه أمّا جمعُك وأحشادك، فما كُنت قط أهون منك عليَّ الآن، وأمّا تهديدك وإيعادك، فوالله لئن ظفرتُ بك لأُعاملنَّك بضدّه ولأُحسننَّ إليك ولأُكرمنّك، فلقي وشمكير سوء نيّته ولقي رُكن الدولة حُسن نيّته.

وكان بطرستان عدوٌّ لرُكن الدولة يُقال له نوح بن نصر، شديد العداوة له، لا يزال يَجمع له ويقصد أطراف بلاده، فمات الآن.

وعصى عليه بهمذان إنسان يُقال له أحمد بن هارون الهمذاني - لمّا رأى خُروج عساكر خُراسان - وأظهر العصيان، فلمّا أتاه خبر موت وشمكير مات لوقته، وكفى الله رُكن الدولة همّ الجميع.

مَسير ابن العميد إلى حسنويه الكُردي:

في سَنة تسع وخمسين وثلاثمئة جهّز رُكن الدولة وزير أبا الفضل بن العميد في جيش كَثيف، وسيّرهم إلى بلد حَسنَويه بن الحسين الكُردي، وسَبب ذلك أنّه كان قد قويَ واستفحل أمرُه؛ لاشتغال رُكن الدولة بما هو أهمُّ منه؛ ولأنّه كان يُعين الدولة على جيوش خُراسان إذا قصدتهم، فكان رُكن الدولة يُراعيه لذلك، ويُغضي على ما يبدو منه، وكان يَتعرّض إلى

١٧٩

القوافل وغيرها بخفارة، فبلغ ذلك رُكن الدولة فسكت عنه، فلمّا كان الآن وقع بينه وبين سهلان بن مُسافر خلاف أدّى إلى أنْ قصده سهلان وحاربه، وهزمه حسنويه، فانحاز هو وأصحابه إلى مكان اجتمعوا فيه، فقصدهم حسنويه وحصرهم فيه، ثُمّ إنّه جمع مِن الشوك والنبات وغيره شيئاً كثيراً، وفرّقه في نواحي أرض سهلان، وألقى فيه النار، وكان الزمان صيفاً فاشتدَّ عليهم الأمر حتّى كادوا يَهلكون، فلمّا عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأمّنهم، فأخذهم عن آخرهم، وبلغَ ذلك رُكن الدولة فلم يحتمله له، فحينئذٍ أمَر ابن العميد بالمسير إليه، وكان ابن العميد مريضاً، فتجهّز وسار في المُحرّم ومعه ولده أبو الفتح، وكان شابّاً مَرِحاً قد أبطره الشباب والأمر والنهي، وكان يَظهَر منه ما يَغضب بسببه والده، وازدادت علّته، وكان به نقرس وغيره مِن الأمراض، فلمّا وصل إلى همذان تُوفّي بها، وقام ولده مقامُه، فصالح حسنويه على مال أخذه منه، وعاد إلى الريّ إلى خدمة رُكن الدولة، وكان والده يقول عند موته:

ما قتلني إلاّ ولدي، وما أخاف على بيت العميد أنْ يَخرب ويهلكوا إلاّ منه، فكان على ما ظن، وكان أبو الفضل بن العميد مِن محاسن الدُنيا وبه تَخرّج عضُد الدولة، ومنه تعلّم سياسة المُلك ومحبّته العِلم والعُلماء.

الصُلح بين الأمير منصور بن نوح ورُكن الدولة وعضُد الدولة:

في سَنة إحدى وستين وثلاثمئة تمَّ الصُلح بين الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب خُراسان وما وراء النهر، وبين رُكن الدولة وابنه عضُد الدولة على أنْ يَحمل رُكن الدولة وعضُد الدولة إليه كلَّ سَنة مئة ألف وخمسين ألف دينار، وتزوّج نوح بابنة عضُد الدولة، وحَمل إليه مِن الهدايا والتُحف ما لم يَحمل مثله، وكُتب بينهم كتاب صلح، وشهّد فيه أعيان خُراسان وفارس والعراق، وكان الّذي سعى في هذا الصُلح وقرّره محمّد بن إبراهيم بن سيمجور صاحب جُيوش خُراسان مِن جِهة الأمير منصور.

مَزيّة جليلة مِن مزايا رُكن الدولة:

قد مرّ في تضاعيف أخبار الأُخوة الثلاثة بني بويه كلام في معنى تضامنهم العجيب، وحُرصهم على أنْ يكونوا كلّهم مُلوكاً لا يدخل الحسد في قلب واحد منهم على أخيه، وإنّ ذلك مِن أسباب فوزهم جميعاً بالمُلك،

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الفريقين ، فأمّا من يحمل أرضية شموله بالعفو الإلهي فسيلتحق بركب المتقين ، وأمّا من ثقلت كفة ذنوبه فسيحشر مع القابعين في أودية النّار ، ولكنها لا تكون مكانهم ومأواهم الأبدي.

* * *

٤٠١

الآيات

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦) )

التّفسير

يوما لقيامة : الوقت المجهول!

تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة) : فتقول أوّلا :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) (١) .

والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع

__________________

(١) جاءت كلمة «المرسى» بهذا الموضع مصدرا ، على مالها من استعمال اخرى ، فتأتي تارة اسم زمان ومكان ، وتارة اخرى اسم مفعول من «الإرساء» ، معناها المصدري هو : الوقوع والثبات ، ويستخدم المرسى كمكان لتوقف السفن ، وفي تثبيت الجبال على سطح الأرض ، وكقوله تعالى في الآية (٤١) من سورة هود :( وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) ، والآية (٣٢) من سورة النازعات :( وَالْجِبالَ أَرْساها ) .

٤٠٢

القيامة ، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها ، ويقول :( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) .

فما خفّي عليك (يا محمّد) ، فمن باب أولى أن يخفى على الآخرين ، والعلم بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه الله لنفسه ، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه إطلاقا!

وكما قلنا ، فسّر خفاء موعد الحق يرجع لأسباب تربوية ، فإذا كان ساعة قيام القيامة معلومة فستحل الغفلة على جميع إذا كانت بعيدة ، وبالمقابل ستكون التقوى اضطرارا والورع بعيدا عن الحرية والإختيار إذا كانت قريبة ، والأمران بطبيعتهما سيقتلان كلّ أثر تربوي مرجو.

وثمّة احتمالات اخرى قد عرضها بعض المفسّرين ، ومنها : إنّك لم تبعث لبيان وقت وقوع يوم القيامة ، وإنّما لتعلن وتبيّن وجودها (وليس لحظة وقوعها).

ومنها أيضا : إنّ قيامك وظهورك مبيّن وكاشف عن قرب وقوع يوم القيامة بدلالة ما

روي عن النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما جمع بين سبابتيه وقال : «بعثت أنا والقيامة كهاتين»(١)

ولكنّ التّفسير الأوّل أنسب من غيره وأقرب.

وتقول الآية التالية :( إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ) .

فالله وحده هو العالم بوقت موعدها دون غيره ولا فائدة من الخوض في معرفة ذلك.

ويؤكّد القرآن هذا المعنى في الآيتين : (٣٤) من سورة لقمان :( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ، وفي الآية (١٨٧) من سورة الأعراف :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) .

وقيل : المراد بالآية ، تحقق القيامة بأمر الله ، ويشير هذا القول إلى بيان علّة ما

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩ ، وذكرت ذات الموضوع في : تفاسير (مجمع البيان) ، (القرطبي) ، (في ظلال القرآن) بالإضافة لتفسير اخرى ، في ذيل الآية (١٨) من سورة محمّد.

٤٠٣

ورد في الآية السابقة ، ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين.

وتسهم الآية التالية في التوضيح :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) .

إنّما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحقّ ، وإنذار من لا يأبى بعقاب أخروي أليم ، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.

مع ملاحظة ، أنّ الإنذار الموجه في الآية فيمن يخاف ويخشى وعقاب الله ، هو يشابه الموضوع الذي تناولته الآية (٢) من سورة البقرة :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

ويشير البيان القرآني إلى أثر الدافع الذاتي في طلب الحقيقة وتحسس المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان أمام خالقه ، فإذا افتقد الإنسان إلى الدافع المحرك فسوف لا يبحث فيما جاءت به كتب السماء ، ولا يستقر له شأن في أمر المعاد ، بل وحتى لا يستمع لإنذارات الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام .

وتأتي آخر آية من السورة لتبيّن أنّ ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق ليس إلّا قليلا :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) .

فعمر الدنيا وحياة البرزخ من السرعة في الانقضاء ليكاد يعتقد الناس عند وقوع القيامة ، بأنّ كلّ عمر الدنيا والبرزخ ما هو إلّا سويعات معدودة!

وليس ببعيد لأنّ عمر الدنيا قصير بذاته ، وليس من الصواب أن نقايس بين زمني الدنيا والآخرة ، لأنّ الفاني ليس كالباقي.

«عشيّة» : العصر. و «الضحى» : وقت انبساط الشمس وامتداد النهار.

وقد نقلت الآيات القرآنية بعض أحاديث المجرمين في يوم القيامة ، فيما يختص بمدّة لبثهم في عالم البرزخ

فتقول الآية (١٠٣) من سورة طه :( يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ) ، و( يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ) .

وتقول الآية (٥٥) من سورة الروم :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما

٤٠٤

لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) .

واختلاف تقديرات مدّة اللبث ، يرجع لاختلاف القائلين ، وكلّ منهم قد عبّر عن قصر المدّة حسب ما يتصور ، والقاسم المشترك لكلّ التقديرات هو أنّ المدّة قصيرة جدّا ويكفي طرق باب هذا الموضوع بإيقاظ الغافل من خدره.

اللهمّ! هب لنا الأمن والسلامة في العوالم الثلاث ، الدنيا والبرزخ والقيامة

يا ربّ! لا ينجو من عقاب وشدائد يوم القيامة إلّا من رحمته بلطفك ، فاشملنا بخاصة لطفك ورحمتك

إلهي! اجعلنا ممن يخاف مقامك وينهى نفسه عن الهوى ، ولا تجعل لنا غير الجنّة مأوى

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة النّازعات

* * *

٤٠٥
٤٠٦

سورة

عبس

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية

٤٠٧
٤٠٨

«سورة عبس»

محتوى السورة :

تبحث هذه السورة على قصرها مسائل مختلفة مهمّة تدور بشكل خاص حول محور المعاد ، ويمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية.

١ ـ عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحقّ بأسلوب غير لائق.

٢ ـ أهمية القرآن الكريم.

٣ ـ كفران الإنسان للنعم والمواهب الإلهية.

٤ ـ بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة حسّ الشكر في الإنسان.

٥ ـ الإشارة إلى بعض الوقائع والحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفّار ذلك اليوم العظيم.

وتسمية هذه السورة بهذا الاسم بمناسبة الآية الاولى منها.

فضيلة السورة :

ورد في الحديث النّبوي الشريف أنّ : «من قرأ سورة «عبس» جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر»(١)

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٥.

٤٠٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) )

سبب النّزول

تبيّن الآيات المباركة عتاب الله تعالى بشكل إجمالي ، عتابه لشخص قدّم المال والمكانة الاجتماعية على طلب الحق أمّا من هو المعاتب؟ فقد اختلف فيه المفسّرون ، لكنّ المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم ، ما يلي :

إنّها نزلت في عبد الله بن ام مكتوم ، إنّه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبي واميّة بن خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعهم ، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين) ، فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلمني ممّا علمك الله ، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه ، وقال في

٤١٠

نفسه : يقول هؤلاء الصناديد ، إنّما أتباعه العميان والعبيد ، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فنزلت الآية.

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه قال : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي» ، ويقول له : «هل لك من حاجة».

واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين(١) .

والرأي الثّاني في شأن نزولها : ما

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّها نزلت في رجل من بني اميّة ، كان عند النّبي ، فجاء ابن ام مكتوم ، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك ، وأنكره عليه»(٢) .

وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ الآيات (٨ ـ ١٠) في السورة يمكن أن تكون قرينة ، حيث تقول :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير من ينطبق عليه هذا الخطاب الربّاني.

ويحتجّ الشريف المرتضى على الرأي الأوّل ، بأنّ ما في آية( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) لا يدل على أنّ المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّ العبوس ليس من صفاته مع أعدائه ، فكيف به مع المؤمنين المسترشدين! ووصف التصدّي للأغنياء والتلهي عن الفقراء ممّا يزيد البون سعة ، وهو ليس من أخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريمة ، بدلالة قول الله تعالى في الآية (٤) من سورة (ن) ، والتي نزلت قبل سورة عبس ، حيث وصفه الباري :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول ، فإنّ فعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال هذه لا يخرج من كونه (تركا للأولى) ، وهذا ما لا ينافي العصمة ،

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٧.

(٢) المصدر السابق.

٤١١

وللأسباب التالية :

أوّلا : على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق ، وتحطيم صف أعدائه.

ثانيا : إنّ العبوس أو الانبساط مع الأعمى سواء ، لأنّه لا يدرك ذلك ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ «عبد الله بن ام مكتوم» لم يراع آداب المجلس حينها ، حيث أنّه قاطع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرارا في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين ، ولكن بما أنّ الله تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الاعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلا على عظمة شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية ، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى) ، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق فيه ، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضا) فلا داعي لاستعتاب نفسه

ومن مكارم خلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد الله بن ام مكتوم ، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والاستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا ، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك ، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين.

ونأتي لنقول ثانية : إنّ المشهور بين المفسّرين في شأن النّزول ، هو نزولها في شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى.

* * *

٤١٢

التّفسير

عتاب ربّاني!

بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات ، ننتقل إلى تفسيرها :

يقول القرآن أولا :( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) .

لماذا؟ :( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) .

( وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) ، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ) ، فإن لم يحصل على التقوى ، فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة ، فتنفعه ذلك(١) .

ويستمر العتاب :( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ) ، من اعتبر نفسه غنيا ولا يحتاج لأحد.

( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) ، تتوجّه إليه ، وتسعى في هدايته ، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة والغرور يولد الطغيان والتكبر ، كما أشارت لهذا الآيتان (٦ و٧) من سورة العلق :( ... إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) .(٢)

( وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) ، أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان ، فليس عليك شيء.

فوظيفتك البلاغ ، سواء أمن السامع أم لم يؤمن ، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحقّ ، وإن كان هدفك أوسع ليشمل هداية كلّ أولئك الأغنياء المتحجرين.

__________________

(١) والفرق بين الآية والتي قبلها ، هو أنّ الحديث قد جرى حول التزكية والتقوى الكاملة ، في حين أنّ الحديث في الآية المبحوثة يتناول تأثير التذكر الإجمالي ، وإن لم يصل إلى مقام التقوى الكاملة ، وستكون النتيجة استفادة الأعمى المستهدي من التذكير ، سواء كانت الفائدة تامّة أم مختصرة. وقيل : إنّ الفرق بين الآيتين ، هو أنّ الأولى تشير إلى التطهير من المعاصي ، والثانية تشير إلى كسب الطاعات وإطاعة أمر الله عزوجل. والأوّل يبدو أقرب للصحة.

(٢) يقول الراغب في مفرداته : (غنى واستغنى وتغنى وتغانى) بمعنى واحد ، ويقول في (تصدّى) : إنّها من (الصدى) ، أي الصوت الراجع من الجبل.

٤١٣

وتأتي العتاب مرّة اخرى تأكيدا :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ) ، في طلب الهداية

( وَهُوَ يَخْشى ) (١) ، فخشيته من الله هي التي دفعته للوصول إليك ، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها ، ويعمل على مقتضاها.

( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (٢) .

ويشير التعبير بـ «أنت» إلى أنّ التغافل عن طالبي الحقيقة ، ومهما كان يسيرا ، فهو ليس من شأن من مثلك ، وإن كان هدفك هداية الآخرين ، فبلحاظ الأولويات ، فإنّ المستضعف الظاهر القلب والمتوجه بكلّه إلى الحقّ ، هو أولى من كلّ ذلك الجمع المشرك.

وعلى أيّة حال : فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى غيره ، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق ، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ الله لا يرضى بإيذاء رجل مؤمن مستضعف.

وعلّة ذلك ، إنّ الطبقة المحرومة من الناس تمثل : السند المخلص للإسلام دائما الأتباع الأوفياء لأئمّة دين الحق ، المجاهدين الصابرين في ميدان القتال والشهادة ، كما تشير إلى هذا المعنى رسالة أمير المؤمنينعليه‌السلام لمالك الأشتر : «وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأئمّة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم»(٣) .

* * *

__________________

(١) يراد بالخشية هنا : الخوف من الله تعالى ، الذي يدفع الإنسان ليتحقق بعمق وصولا لمعرفته جلّ اسمه ، وكما يعبر المتكلمون عنه بـ وجوب معرفة الله بدليل دفع الضرر المحتمل. واحتمل الفخر الرازي : يقصد بالخشية ، الخوف من الكفّار ، أو الخوف من السقوط على الأرض لفقدانه البصر. وهذا بعيد جدّا.

(٢) «التلهي» : من (اللهو). ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والاستغفال بغيره ، ليقف في قبال «التصّدي».

(٣) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٤١٤

الآيات

( كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) )

التّفسير

تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في النفوس ، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى الذي جاء لطلب الحق) ، ، فتقول( كَلَّا ) فلا ينبغي لك أن تعيد الكرّة ثانية.

( إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) ، إنّما الآيات القرآنية تذكرة للعباد ، فلا ينبغي الإعراض عن المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين ، أولئك الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.

ويحتمل أيضا ، كون الآيات ،( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) جواب لجميع التهم الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.

٤١٥

وفتقول الآية : إنّ الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة ، لا يمتلك من الصحة شيئا ، وإنّما الآيات القرآنية آيات تذكرة وإيمان ، ودليلها فيها ، وكلّ من اقترب منها سيجد أثر ذلك في نفسه (ما عدا المعاندين).

وتشير الآية التالية إلى اختيارية الهداية والتذكّر :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) (١) .

نعم ، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرّباني ، فالآيات القرآنية مطروحة وأسمعت كلّ الآذان ، وما على الإنسان إلّا أن يستفيد منها أو لا يستفيد.

ثمّ يضيف : أنّ هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح وأوراق) :( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) .

«الصحف» : جمع (صحيفة) بمعنى اللوح أو الورقة ، أو أيّ شيء يكتب عليه.

فالآية تشير إلى أنّ القرآن قد كتب على ألواح من قبل أن ينزّل على النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي ، والألواح بطبيعتها جليلة القدر وعظيمة الشأن.

وسياق الآية وارتباطها مع ما سبقها من آيات وما سيليها : لا ينسجم مع ما قيل من أنّ المقصود بالصحف هنا هو ، كتب الأنبياء السابقين.

وكذا الحال بالنسبة لما قيل من كون «اللوح المحفوظ» ، لأنّ «اللوح والمحفوظ» لا يعبر عنه بصيغة الجمع ، كما جاء في الآية : «صحف».

وهذه الصحف المكرمة :( مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) .

فهي مرفوعة القدر عند الله ، وأجلّ من أن تمتد إليها أيدي العابثين وممارسات المحرّفين ، ولكونها خالية من قذارة الباطل ، فهي أطهر من أن تجد فيها أثرا لأيّ تناقض أو تضاد أو شك أو شبهة.

__________________

(١) يعود ضمير : «ذكره» إلى ما يعود إليه ضمير «إنّها» ، وسبب اختلاف الصيغة بين الضميرين هو أنّ ضمير «إنّها» يرجع إلى الآيات القرآنية ، و «ذكره» إلى القرآن ، فجاء الأوّل مؤنثا والثّاني مذكرا.

٤١٦

وهي كذلك :( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) ، سفراء من الملائكة.

وهؤلاء السفراء :( كِرامٍ بَرَرَةٍ ) .

«سفرة» : جمع (سافر) من (سفر) على وزن (قمر) ، ولغة : بمعنى كشف الغطاء عن الشيء ، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنّه يزيل ويكشف الوحشة فيما بينهم ، ويطلق على الكاتب اسم (السافر) ، وعلى الكتاب (سفر) لما يقوم به من كشف موضوع ما وعليه فالسفرة هنا ، بمعنى : الملائكة الموكلين بإيصال الوحي الإلهي إلى النّبي ، أو الكاتبين لآياته.

وقيل : هم حفّاظ وقرّاء وكتّاب القرآن والعلماء ، الذين يحافظون على القرآن من أيدي العابثين وتلاعب الشياطين في كلّ عصر ومصر.

ويبدو هذا القول بعيدا ، لأنّ الحديث في الآيات كان يدور حول زمان نزول الوحي على صدر الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس عن المستقبل.

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، في وقوله : «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة»(١) . بجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة الكرام البررة ، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم ، لأنّ جلالة مقام حفظهم وعملهم ، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.

ونستنتج من كلّ ما تقدم : بأنّ من يسعى في حفظ القرآن وإحياء مفاهيمه وأحكامه ممارسة ، فله من المقام ما للكرام البررة.

«كرام» : جمع (كريم) ، بمعنى العزيز المحترم ، وتشير كلمة «كرام» في الآية إلى عظمة ملائكة الوحي عند الله وعلو منزلتهم.

وقيل : «كرام» : إشارة إلى طهارتهم من كلّ ذنب ، بدلالة الآيتين (٢٦ و٢٧) من سورة الأنبياء :( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٨.

٤١٧

«بررة» : جمع (بار) ، من (البرّ) ، بمعنى التوسع ، ولذا يطلق على الصحراء الواسعة اسم (البر) ، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خير وشمول بركاته على الآخرين.

و «البررة» : في الآية ، بمعنى : إطاعة الأمر الإلهي ، والطهارة من الذنوب.

ومن خلال ما تقدم تتوضح لنا ثلاث صفات للملائكة.

الاولى : إنّهم «سفرة» حاملين وحيه جلّ شأنه.

الثّانية : إنّهم أعزاء ومكرمون.

الثالثة : طهرة أعمالهم عن كلّ تقاعس أو مفسدة.

وعلى الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى الله ، ومنها ما في صحف المكرمة من تذكير وتوجيه ولكنّ الإنسان يبقى عنيدا متمردا :( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) (١) .

«الكفر» : في هذا الموضوع قد يحتمل على ثلاثة معان عدم الإيمان ، الكفران وعدم الشكر جحود الحق وستره بأيّ غطاء كان وعلى كلّ المستويات ، وهو المعنى الجامع والمناسب للآية ، لأنّها تعرضت لأسباب الهداية والإيمان ، فيما تتحدث الآيات التي تليها عن بيان النعم الإلهية التي لا تعد ولا تحصى.

( قُتِلَ الْإِنْسانُ ) : كناية عن شدّة غضب الباري جلّ وعلا ، وزجره لمن يكفر بآياته.

ثمّ يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي ، والذي غالبا ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة :( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) ؟

__________________

(١) «قتل الإنسان» : نوع من اللعن ، وهو أشدّها عن الزمخشري في (الكشاف). «ما» ، في «ما أكفره» : للتعجب ، التعجب من السير في متاهات الكفر والضلال ، مع ما للحق من سبيل واضحة ، وتوفير مختلف مصاديق واللطف والرحمة والرّبانية التي توصل الإنسان إلى شاطئ النجاة.

٤١٨

لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة ، ثمّ صنع منه مخلوقا موزونا مستويا قدّر فيه جميع أموره في مختلف مراحل حياته :( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) .

فلم لا يتفكر الإنسان بأصل خلقته؟!

لم ينسى تفاهة مبدأه؟!

ألّا يجدر به أن يتأمل في قدرة الباري سبحانه ، وكيف جعله موجودا بديع الهيئة والهيكل من تلك النطفة الحقيرة القذرة!! ألا يتأمل!!

فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات ، ومع ما منحه الله من مواهب واستعدادات لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.

«قدّره» : من (التقدير) ، وهو الحساب في الشيء وكما بات معلوما أنّ أكثر من عشرين نوعا من الفلزات وأشباه الفلزات داخلة في التركيب (البيولوجي) للإنسان ، ولكلّ منها مقدارا معينا ومحسوبا بدقّة متناهية من حيث الكمية الكيفية ، بل ويتجاوز التقدير حدّ البناء الطبيعي للبدن ليشمل حتى الاستعدادات والغرائز والميول المودعة في الإنسان الفرد ، بل وفي المجموع العام للبشرية ، وقد وضع الحساب في مواصفات تكوينية ليتمكن الإنسان بواسطتها من الوصول إلى السعادة الإنسانية المرجوة.

وتتجلّى عظمة تقدير الخالق سبحانه في تلك النطفة الحقيرة القذرة التي تتجلّى بأبهى صورها جمالا وجلالا ، حيث لو جمعنا الخلايا الأصلية للإنسان (الحيامن) لجميع البشر ، ووضعناها في مكان واحد ، لكانت بمقدار حمصة! نعم

فقد أودعت في هذا المخلوق العاقل الصغير كلّ هذه البدائع والقابليات.

وقيل : التقدير بمعنى التهيئة.

وثمّة احتمال آخر ، يقول التقدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.

٤١٩

فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كلّ هذه القدرة والاستطاعة ، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض ، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كلّ ما يحيط بها من قوى(١) .

ولا مانع من الأخذ بالتفاسير الثلاث جملة واحدة.

ويستمر القرآن في مشوار المقال :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) يسّر له طريق تكامله حينما كان جنينا في بطن امّه ، يسّر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك العالم المظلم.

ومن عجيب خلق الإنسان أنّه قبل خروجه من بطن امّه يكون على الهيئة التالية : رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل ، ووجهه متجها صوب ظهر امّه ، وما أن تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئة فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل وتتيسّر ولادته! وقد تشذ بعض حالات لولادة ، بحيث يكون الطفل في بطن امّه في هيئة مغايرة للطبيعة ، ممّا تسبب كثير من السلبيات على وضع الام عموما.

وبعد ولادته : يمرّ الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي ، ثمّ مرحلة نمو الغرائز ، فالرشد في مسير الهداية الايمانية والروحية ، ويساهم العقل ودعوة الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان ورحيا وإيمانيا.

وبلاغة بيان القرآن قد جمعت كلّ ذلك في جملة واحدة :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) .

والملفت للنظر أنّ الآية المباركة تؤكّد على حرية اختيار الإنسان حين قالت أنّ الله تعالى يسّر وسهّل له الطريق الى الحق ، ولم تقل أنّه تعالى أجبره على

__________________

(١) يقول الراغب في مفردات : «قدّره» (بالتشديد) : أعطاه القدرة ، ويقال : قدّرني الله على كذا وقواني عليه».

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442