تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني13%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113727 / تحميل: 9456
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وتجد هذه المزيّة ظاهرة كمال الظُهور في رُكن الدولة، حين كَتب له المرزبان ابن بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة بقبض عضُد الدولة وأبي الفتح بن العميد على والده وعَمّيه سَنة أربع وستّين وثلاثمئة، ويذكر له الحيلة الّتي تمّت عليه، فألقى بنفسه عن سريره إلى الأرض وتمرّغ عليها، وامتنع مِن الأكل والشُرب عدّة أيّام، ومَرِض مرضاً لم يستقلّ منه باقي حياته، ولمّا كاتب ابن بقية رُكن الدولة بحاله وحال بختيار كَتب رُكن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممَّن احتمى لبختيار يأمرهم بالثبات والصبر، ويُعرّفهم أنّه على المسير إلى العراق لإخراج عضُد الدولة وإعادة بختيار، فاضطربت النواحي على عضُد الدولة، وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه، وانقطعت عنه مواد فارس والبحر، وسترى ذلك مبسوطاً في ترجمة عضُد الدولة - إن شاء الله - وجواب رسول عضُد الدولة الّذي أرسله لوالده يدلي إليه بعُذره ويُبيّن له أسباب قبضه على بختيار، فردّ رُكن الدولة الرسول ردّاً قبيحاً ولم يقبل لابنه عُذراً، وكان الرسول أبا الفتح بن العميد الّذي اتخذ شتّى الوسائط لاسترضائه عليه، وما ذنبه إلاّ أداؤه رسالة ابنه، ولم يرضَ إلاّ بإعادة عضُد الدولة إلى فارس مملكته وتقرير العراق لبختيار، فأنت ترى أنّ رُكن الدولة عرّض مملكة ولده، بل حياته للخطر في سبيل صلته لرحمِه، ومُراعاته لابن أخيه مُعزّ الدولة الّذي كان يُحبّه محبّة شديدة؛ لأنّه رباه فكان عنده بمنزلة الولد.

وفاة رُكن الدولة ومُلك عضُد الدولة:

في المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة تُوفّي رُكن الدولة أبو علي الحسن بن بويه واستخلف على ممالكه ابنه عضُد الدولة، وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة، وكان ابنه عضُد الدولة قد عاد مِن بغداد بعد أن أطلق بختيار على الوجه الّذي قد تقرّر، وظهر عند الخاصّ والعامّ غَضَب والده عليه، فخاف أنْ يموت أبوه وهو على حال غضبه فيختلّ مُلكه، وتزول طاعته، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد وزير والده يطلب منه أنْ يتوصّل مع أبيه وإحضاره عنده، وأنْ يعهد إليه بالمُلك بعده، فسعى أبو الفتح في ذلك فأجابه إليه رُكن الدولة، وكان قد وجد في نفسه خِفّة، فسار مِن الريّ إلى أصبهان، فوصلها في جمادى الأُولى سنة خمس وستّين وثلاثمئة،

١٨١

وأحضر ولده عضُد الدولة مِن فارس، وجمع عنده أيضاً سائر أولاده بأصبهان، فعمِل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها رُكن الدولة وأولاده والقوّاد والأجناد، فلمّا فَرِغوا مِن الطعام عهِد رُكن الدولة إلى ولده عضُد الدولة بالمُلك بعده، وجعل لولده فَخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل، ولولده مؤيّد الدولة أصبهان وأعمالها، وجعلهما في هذه البلاد بحُكم أخيما عضُد الدولة، وخلع عضُد الدولة على سائر الناس ذلك اليوم الأقبية والأكسية على زيّ الديلم، وحيّاه القوّاد وإخوته بالريحان على عادتهم مع مُلوكهم، وأوصى رُكن الدولة أولاده بالاتّفاق، وترك الاختلاف وخلع عليهم، ثُمّ سار عن أصبهان في رجب نحو الريّ فدام مرضه إلى أنْ تُوفّي فأُصيب به الدين والدُنيا جميعاً لاستكمال جميع خلال الخير فيه، وكان عُمره قد زاد على سبعين سَنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سَنة.

بعض سيرته:

قال ابن الأثير:

بعد هذا الّذي نقلنا عن تاريخه الكامل - ذاكراً بعض سيرته - كان حليماً، كريماً، واسع الكرم، كثير البذل، حَسِن السياسة لرعاياه وجُنده، رؤوفاً بهم، عادلاً في الحُكم بينهم، وكان بعيد الهمّة، عظيم الجدّ والسعادة، مُتحرّجاً مِن الظُلم، مانعاً لأصحابه منه، عفيفاً عن الدِماء، يرى حقنها واجباً، إلاّ فيما لا بُدّ مِنه، وكان يُحامي على أهل البيوتات، أو كان يُجري عليهم الأرزاق، ويصونهم عن التبذل، وكان يَقصد المساجد الجامعة في أشهر الصيام للصلاة، وينتصب لردِّ المظالم، ويتعهّد العلويّين بالأموال الكثيرة، ويتصدّق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات، ويُلين جانبه للخاصّ والعام.

قال له بعض أصحابه في ذلك، وذَكر له شدّة مرداويج على أصحابه، فقال:

انظر كيف اخترم ووثب عليه أخصّ أصحابه به وأقربهم منه؛ لعُنفه وشدّته، وكيف عمرتُ وأحبّني الناس للين جانبي. وحُكي عنه أنّه سار في سفر، فنزل في خركاه قد ضُربت له قِبَل أصحابه، وقُدّم إليه طعام، فقال لبعض أصحابه:

لأيّ شيء قيل في المثل: خيرُ الأشياءِ في القريةِ الإمارة.

فقال صاحبه: لقعودك في الخركاه وهذا الطعام بين يديك، وأنا لا خركاه ولا طعام، فضحك وأعطاه الخركاه والطعام.

فانظر إلى هذا الخُلُق ما

١٨٢

أحسنه ما أجمله، وفي فعله في حادثة بختيار ما يَدلّ على كمال مروءته وحُسن عهده وصلته لرحمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكان له حُسن عهد ومودّة وإقبال.

قال ابن خلكان في وَفَياته:

وكان مسعوداً ورُزق السعادة في أولاده الثلاثة، وقَسّم عليهم الممالك، فقاموا بها أحسن قيام، وتُوفّي رُكن الدولة ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت مِن المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة بالري، ودُفن في مشهده، ومولده تقديراً في سَنة أربع وثمانين، قال أبو إسحاق الصابي: ومَلك أربعاً وأربعين سَنة وشهراً وتسعة أيّام، وتولّى بعده ولده مؤيّد الدولة رحمهما الله تعالى.

وقال ابن كثير في حوادث سنة ٣٥٦:

فيها قَسّم رُكن الدولة بن بويه ممالكه بين أولاده (الثلاثة) عندما كَبُرت سِنّه، فجعل لولده عضُد الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان، ولولده مؤيَّد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدينور، وجعل ولده أبا العبّاس في كنف عضُد الدولة وأوصاه به.

أمّا ذكره بلاد فارس فيما اختص به ولده عضُد الدولة، فإنّ بلاد فارس لم تكن مِن ممالكه، بل كانت مملكة أخيه عِماد الدولة الّذي لم يُرزق وَلداً ذَكراً يرثها منه، بل عهِد بها لعضُد الدولة كما مرّ بيان ذلك في ترجمة عِماد الدولة.

وقال في حوادث سنة (٣٦٦):

فيها توفّي رُكن الدولة بن علي بن بويه، وقد جاوز التسعين سَنة، ثُمّ ذَكر بعد ذلك قَصد عضُد الدولة العراق ليأخذها مِن ابن عمّه بختيار، والتقائه به في الأهواز، وانهزامه منه، واستظهاره عليه وإذلاله، ثُمّ القبض على وزيره ابن بقية إلى أنْ قال: وكذلك أمرُ رُكن الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح بن العميد لموجدة تقدّمت منه إليه.

وفي ذلك أغلاط نربأ بابن كثير أنْ يرتكبها:

الأول: جعله عليّاً أباً لرُكن الدولة، وعلي وهو عماد الدولة أكبر الأُخوة الثلاثة أخو رُكن الدولة.

الثاني: قوله: إنّ رُكن الدولة قد جاوز التسعين، وقد عرفتَ ممّا نقلناه عن ابن الأثير وابن خلكان، أمّا الأوّل فيقول إنّ عُمره قد زاد على السبعين، والثاني يُقدّر عُمره باثنتين وثمانين سَنة، فقول ابن كثير قولاً ثالث، إنْ كانت التسعين غير مُحرّفة عن السبعين.

الثالث: قوله: إنّ رُكن الدولة أمرَ بالقبض

١٨٣

على وزير أبيه أبي الفتح، فإنّ أبا رُكن الدولة وهو بويه لم يكن مَلكاً ليستوزر، وإنّما كان أولاده الثلاثة مُلوكاً، وأوسطهم سِنّاً رُكن الدولة، وأبو الفتح كان وزير رُكن الدولة بعد أبيه أبي الفضل بن العميد، والآمر بالقبض عليه هو عضُد الدولة، وكان ذلك بعد وفاة أبيه رُكن الدولة، وإنّنا لَنَحسَب هذه الأغلاط مِن تحريف الناسخين؛ لأنّه مِن المُستبعد أنْ تقع مِن هذا المؤرّخ الكبير.

الثالث: أبو الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه مُعزّ الدولة:

هو أصغر الأُخوة الثلاثة مُؤسّسي الدولة البويهيّة، وقد كنّاه بعضُ المُؤرّخين بأبي الحسن، وهي كُنية أخيه عماد الدولة والحسن اسم رُكن الدولة.

قال ابن خلكان:

وهو عمُّ عضُد الدولة وأحد مُلوك الديلم، كان صاحب العراق والأهواز، وكان يُقال له الأقطع؛ لأنّه كان مقطوع اليد اليُسرى وبعض أصابع اليُمنى.

مولده ووفاته:

وُلد في سَنة ثلاث وثلاثمئة، وتُوفّي يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سَنة ستّ وخمسين وثلاثمئة ببغداد، ودفن في داره، ثُمّ نُقل إلى مشهد بُني له في مقابر قُريش.

أوّل عهده في المُلك:

قال ابن خلكان في سبب تلقيبه بالأقطع:

إنّه كان في مَبدأ عُمره وحداثة سِنّه تَبَعاً لأخيه عِماد الدولة، وكان قد توجّه إلى كرمان بإشارة أخَويه عِماد الدولة ورُكن الدولة، فلمّا وصلها سمِع به صاحبها، فتركها ورَحل إلى سجستان مِن غَير حَرب فملكها، وكان بتلك الأعمال طائفة مِن الأكراد قد تغلّبوا عليها، وكانوا يحملون لصاحب كرمان في كلّ سَنة شيئاً مِن المال بشرط أنْ لا يطأوا بِساطه، فلمّا وصلَ مُعزّ الدولة سَيّر إليه رئيس القوم، وأخذ عُهوده ومواثيقه بإجرائهم على عادتهم، ففعل ذلك، ثُمّ أشار عليه كاتبه بنقض العهد، وأنْ يسري إليهم على غَفلة، ويأخذ أموالهم وذخائرهم ففعل

١٨٤

مُعزّ الدولة ذلك، وقصدهم في الليل في طريق مُتوعّرة فأحسّوا به، فقعدوا له على مَضيق، فلمّا وصل إليهم بعسكره ثاروا عليهم مِن جميع الجوانب، فقتلوا وأسروا، ولم يَفلُت منهم إلاّ اليسير، ووقع بمُعزّ الدولة ضربات كثيرة، وطاحت يدُه اليُسرى وبعض أصابع يده اليمنى، وأُثخن بالضرب في رأسه وسائر جسده، وسقط بين القتلى، ثُمّ سَلُم بعد ذلك.

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢٤:

في هذه السَنة سار أبو الحُسين أحمد بن بويه المُلقَّب بمُعزّ الدولة إلى كرمان، وسببُ ذلك أنّ عِماد الدولة بن بويه وأخاه رُكن الدولة لمّا تمكّنا مِن بلاد فارس وبلاد الجبل، وبقي أخوهما الأصغر أبو الحسين أحمد بغير ولاية يستبدّ بها، رأيا أنْ يُسيّراه إلى كرمان ففعلا ذلك، وسار إلى كرمان في عسكرٍ ضَخم شثجعان، فلمّا بَلغَ السيرجان استولى عليها وجبى أموالها وأنفقها في عسكره، وكان إبراهيم بن سيمجور والدواني يُحاصِر محمّد بن غلياس بن اليسع بقلعة هُناك بعساكر نصر بن أحمد صاحب خُراسان، فلمّا بَلغَه إقبال مُعزّ الدولة سار عن كرمان إلى خُراسان، ونَفّس عن محمّد بن إلياس، فتَخلّص مِن القلعة، وسار إلى مدينته بَم، وهي على طرف المفازة بين كرمان وسجستان، فسار إليه أحمد بن بويه، فرَحل مِن مكانه إلى سجستان بغير قتال، فسار أحمد إلى جيرفت - وهي قصبة كرمان - واستخلف على بَم بعض أصحابه، فلمّا قارب جيرفت أتاه رسول عليّ بن الزنجي المعروف بعلي كلويه، وهو رئيس القفص والبلوص، وكان هو وأسلافه مُتغلّبين على تلك الناحية، إلاّ أنّهم يُجاملون كلّ سلطان يَرِد البلاد، ويُطيعونه ويَحملون إليه مالاً مَعلوماً ولا يطؤون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع أحمد مِن قبوله إلاّ بعد دُخول جيرفت، فتأخّر عليّ بن كلويه نحو عشرة فراسخ، ونَزل بمكان صَعِب المَسلك، ودخل أحمد بن بويه جيرفت، واصطلح هو وعلي وأخذ رهائنه وخَطَب له، فلمّا استقرّ الصُلح وانفصل الأمر أشار بعضُ أصحاب ابن بويه عليه بأنْ يَقصد عليّاً ويَغدر به، ويَسري إليه سرّاً على غَفلة، وأطمعه في أمواله وهوّن عليه أمره بسكونه إلى الصُلح، فأصغى الأمير أبو الحسين أحمد إلى ذلك لحداثة سِنّه، وجمع أصحابه وأسرى نحوهم جريدة، وكان عليّ مُحترزاً، ومَن معه قد وضعوا العيون على ابن بويه، فساعة تَحرّك بلغته الأخبار، فجمع أصحابه ورتَبَهُم بمضيق على الطريق، فلمّا اجتاز بهم ابن بويه ثاروا به ليلاً مِن

١٨٥

جوانبه، فقتلوا في أصحابه وأسروا، ولم يُفلِت منهم إلاّ اليسير، ووقعت بالأمير أبي الحسين ضربات كثيرة، ووقعت ضربة منها في يَده اليُسرى فقطعتها مِن نصف الذراع، وأصاب يده اليُمنى ضَربة أُخرى سقط منها بعض أصابعه، وسقط مثخناً بالجراح بين القتلى، وبلغ الخَبر بذلك إلى جيرفت فهرب كلّ مَن بها مِن أصحابه، ولمّا أصبح علي كلويه تتبّع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين قد أشرف على التلف، فحمله إلى جيرفت، وأحضر له الأطبّاء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رُسله يَعتذر إلى أخيه عماد الدولة بن بويه، ويُعرّفه غدر أخيه، ويَبذل مِن نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقرّ بينهما الصُلح، وأطلق عليّ كلّ مَن عنده مِن الأسرى وأحسن إليهم، ووصل الخبر إلى محمّد بن إلياس بما جرى على أحمد بن بويه، فسار مِن سجستان إلى البلد المعروف بجنابة، فتوجّه إليه ابن بويه وواقعه، ودامت الحرب بينهما عِدّة أيّام، فانهزم ابن إلياس، وعاد أحمد بن بويه ظافراً، وسار نحو علي كلويه لينتقم منه، فلمّا قاربه أسرى إليه في أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلاً في ليلة شديدة المَطر ن فأثّروا فيهم، وقتلوا ونهبوا وعادوا، وبقي ابن بويه باقي ليلته، فلمّا أصبح سار نحوهم فقَتَل منهم عدداً كثيراً، وانهزم علي كلويه، وكتب ابن بويه إلى أخيه عِماد الدولة بما جرى له مَعه ومع ابن إلياس وهزيمته، فأجابه أخوه يأمره بالوقوف بمكانه ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائداً مِن قوّاده يأمره بالعودة إلى فارس ويُلزمه بذلك. فعاد إلى أخيه، وأقام عنده باصطخر إلى أن قصدهم أبو عبد الله البريدي منهزماً مِن ابن رائق وبجكم، فأطمع عماد الدولة في العراق وسهّل عليه مُلكه.

استيلاء مُعزّ الدولة على الأهواز:

كان مِن نتيجة إطماع البريدي عِماد الدولة في العراق، وتسهيله عليه مُلكه أنْ سار مُعزّ الدولة في سَنة ستّ وعشرين إلى الأهواز وتلك البلاد، فملكها واستولى عليها ومعه البريدي، وترك البريدي ولديه أبا الحسن محمّداً وأبا جعفر الفياض عند عماد الدولة رهينة وساروا، فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان، فسار لحربهم فانهزم مِن بين أيديهم، وكان سَبَب الهزيمة أنّ المطر اتّصل أيّاماً كثيرة، فعطلت أوتار قُسي الأتراك، فلم يقدروا على رمي

١٨٦

النشّاب، فعاد بجكم وأقام بالأهواز، وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم، فقاتلوا مُعزّ الدولة بها ثلاثة عشر يوماً، ثُمّ انهزموا إلى تستر، فاستولى مُعزّ الدولة على عسكر مكرم، وسار بجكم إلى تستر مِن الأهواز، وأخذ معه جماعة مِن أعيان الأهواز، وسار هو وعسكره إلى واسط، وأرسل مِن الطرق إلى ابن رائق يُعلمه الخبر، ويقول له:

إن العسكر مُحتاج إلى المال، فإن كان معك مائتا ألف دينار فتُقيم بواسط حتّى نَصل إليك ونُنفق فيهم المال، وقد مرّ تفصيل ذلك كلّه في أخبار عِماد الدولة، فليُرجَع إليها.

مُخالفة البريدي على مُعزّ الدولة:

في أخبار عِماد الدولة في تلك الصفحات - الّتي ذَكر فيها استيلاء مُعزّ الدولة - خبر خلاف البريدي عليه بعد تمهيده لأخيه عِماد الدولة، وله أمر الاستيلاء على العراق وإبقاء ولديه رهينة عند عماد الدولة، واستقرار البريدي أخيراً في البصرة، وبقاء مُعزّ الدولة في الأهواز، ثُمّ تقلّبت على البريدي أُمور وأحوال، وهو لم يكن يَثبُت على حال، ولا يُبرم عهداً إلاّ، وهو يَضمر في دخيلة نفسه نقضه.

ذهاب مُعزّ الدولة إلى البصرة وعوده منها على غير ما يُريد:

في المُحرّم سَنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة وصل مُعزّ الدولة إلى البصرة، فحارب البريدييّن وأقام عليهم مدّة، ثُمّ استأمن جماعة مِن قوّاد إلى البريديّين، فاستوحش مِن الباقين فانصرف عنهم.

وصول مُعزّ الدولة إلى واسط وعوده عنها:

في آخر رجب سنة ٣٣٣هـ وصل مُعزّ الدولة إلى مدينة واسط، فسمع تورون به، فسار هو والمُستكفي بالله مِن بغداد إلى واسط، فلمّا سَمِع مُعزّ الدولة بمسيرهم إليه فارقها سادس رمضان.

استيلاء مُعزّ الدولة على بغداد:

لمّا مات تورون ووُلّي مكانه شيرزاد، وزاد هذا الأجناد زيادة ضاقت عليه الأموال بسببها، فكثر الظُلم والاعتداء على الناس كَاتبَ ينال كوشة - وكان يلي لشيرزاد عمل واسط - مُعزّ الدولة وهو بالأهواز يَستقدِمه، ودخل

١٨٧

في طاعته، فسار مُعزّ الدولة نحوه، فاضطرب الناس ببغداد، فلمّا وصل إلى باجسرى اختفى المُستكفي بالله وابن شيرزاد، فلمّا استَتر شيرزاد سار الأتراك إلى الموصل، فلمّا أبعدوا ظهر المُستكفي، وعاد إلى بغداد إلى دار الخلافة، وقدم أبو محمّد الحسن بن محمّد المهلبي صاحب مُعزّ الدولة إلى بغداد، فاجتمع بابن شيرزاد بالمكان الّذي استتر فيه، ثُمّ اجتمع بالمُستكفي، فأظهر المُستكفي السُرور بقدوم مُعزّ الدولة، وأعلمه أنّه إنّما استَتَر مِن الأتراك ليتَفرّقوا فيحصل الأمر لمُعزّ الدولة بلا قِتال، ووصل مُعزّ الدولة إلى بغداد حادي عشر جمادى الأولى سنة ٣٣٤، فنزل بباب الشماسيّة، ودخل مِن الغد إلى الخليفة المُستكفي وبايعه وحَلف له المُستكفي، وسأله مُعزّ الدولة أنْ يأذن لابن شيرزاد بالظُهور، وأنْ يأذن أنْ يَستكتبه، فأجابه إلى ذلك، فظَهر ابن شيرزاد، ولقي مُعزّ الدولة فولاّه الخراج وجباية الأموال، وخَلعَ الخليفة على مُعزّ الدولة، ولقّبه ذلك اليوم مُعزّ الدولة، ولقّب أخاه عليّاً عِماد الدولة، ولقّب أخاه الحسن رُكن الدولة، وأمَر أنْ تُضرب ألقابهم وكُناهم على الدنانير والدراهم، ونَزَل مُعزّ الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه في دور الناس، فلحِق الناس مِن ذلك شدّة عظيمة، وصار - نزول الجيش في دور الناس - رسماً عليهم بعد ذلك، وهو أوّل مَن فعله ببغداد، ولم يُعرف بها قبله، وأُقيم للمُستكفي بالله كلّ يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته، وكان ربما تأخرت عنه، فأُقرّت له مع ذلك ضياع سُلّمت إليه تولاّها أبو أحمد الشيرازي كاتبه.

خَلْعُ المُستكفي بالله:

وفي هذه السنة خُلِعَ المُستكفي بالله لثمان بقين مِن جمادى الآخرة؛ وكان سبَبُ ذلك أنّ علم القهرمانة صنعتْ دعوةً عظيمةً حضرها جماعةٌ مِن قوّاد الديلم والأتراك، فاتّهمها مُعزّ الدولة أنّها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمُستكفي، ويُزيلوا مُعزّ الدولة، فساء ظنّه لذلك لمّا رأى مِن إقدام عَلَم، وحضر اسفهدوت عند مُعزّ الدولة، وقال:

قد راسلني الخليفة في أنْ ألقاه مُتنكّراً، فلمّا مضى اثنتان وعشرون يوماً مِن جمادى الآخرة حضر مُعزّ الدولة والناس عند الخليفة، وحضر رسول صاحب خُراسان، ومُعزّ الدولة جالس، ثُمّ حَضَر رجلان مِن نُقباء الدَيلم يصيحان، فتناولا يد المُستكفي بالله، فظّن أنّهما يُريدان تقبيلهُا، فمدّها إليهما فجذباه عن سريره

١٨٨

وجعلا عِمامته في حَلقه، ونهض مُعزّ الدولة، واضطرب الناس، ونهبت الأموال، وساق الديلميّان المُستكفي بالله ماشياً إلى دار مُعزّ الدولة، فاعتُقل بها، ونُهبت دار الخلافة حتّى لم يبقَ بها شيء، وقُبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المُستكفي، وأُخذت عَلَم القهرمانة فقُطع لسانها.

خلافة المُطيع واستيلاء مُعزّ الدولة على أُمور الخلافة:

لمّا وُلّي المُستكفي بالله الخلافة خافه المُطيع واستَتَرَ منه، فطلبه المُستكفي أشدّ الطَلَب، فلم يظفر به، فلمّا قدِم مُعزّ الدولة بغداد قيل إنّ المطيع انتقل إليه واستتر عنده، وأغراه بالمُستكفي حتّى قبض عليه وسَمله، فلمّا قُبِض المُستكفي بويعَ للمُطيع لله بالخلافة، ولقُب المطيع لله، وأُحضر المُستكفي عنده فسلّم عليه بالخلافة، وأُشهد على نفسه بالخَلع، وازداد أمر الخلافة إدباراً، ولم يبقَ لهم مِن الأمر شيء البتّة، وكانوا يُراجَعون ويؤخذ أمرهم فيما يُفعل والحرمةُ قائمةٌ بعض الشيء، فلمّا كان أيّام مُعزّ الدولة زال ذلك جميعه، بحيث إنّ الخليفة لم يبقَ له وزير، إنّما كان له كاتب يُدير إقطاعه وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمُعزّ الدولة يستوزر لنفسه مَن يريد، وكان مِن أعظم الأسباب في ذلك أنّ الديلم كانوا يتشيّعون ويُغالون في التشيّع، ويعتقدون أنّ العباسيّين قد غصبوا الخلافة وأخذوها مِن مُستحقّيها، فلم يكنْ عِندهم باعث ديني يَحثّهم على الطاعة، حتّى لقد بلغني أنّ مُعزّ الدولة استشار جماعة مِن خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة مِن العباسيّين، والبيعة للمُعزّ لدين الله العلوي، أو لغيره مِن العلويّين، فكلّهم أشار عليه بذلك ما عدا بعض خواصّه، فإنّه قال :

ليس هذا برأي، فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنّه ليس مِن أهل الخلافة ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مُستحلّين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك مَن تعتقد أنت وأصحابك صحّة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن ذلك، وتسلم مُعزّ الدولة العراق بأسره، ولم يبقَ بيد الخليفة منه شيء البتة، إلاّ ما أقطعه مُعزّ الدولة ممّا يقوم ببعض حاجته.

هذا ما جاء في كامل ابن الأثير، أمّا ما جاء مِن تعليله عَدم إخلاص الديلم الطاعة للعباسيّين، واستشارة مُعزّ الدولة خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة منهم إلى المُعزّ لدين الله العلوي أو لغيره مِن العلويين، ففي ذلك

١٨٩

بَعْد:

(١) إنّ الديلم مِن الشيعة الإماميّة، والإماميّة كما لا يَرون صحّة الخلافة العباسيّة ووجوب طاعة الخُلفاء العباسيّين، لا يرون وجوب طاعة مَن يليها مِن العلويّين أيضاً، سواء أكانوا سُنّة أم شيعة، ومذهبهم في الإمامة والخلافة مَعروف، وهي أنّها لا تكون إلاّ بالنصّ.

(٢) إنّ مُعزّ الدولة الّذي يَركن إليه أخوه عِماد الدولة، وهو مؤسّس الدولة البويهيّة، والداهية المُحنّك في الاستيلاء على العراق، ويفوض إليه هذا الأمر، وهو جدّ عليم أنّ ذلك لا يَتطلّب الشجاعة وقوّة الجيش وكثرة العدد فحسب، بل يَتطلّب الحكمة والتدبير وبراعة السياسة، ولا سيّما في قُطر كقُطر العراق، والطامحون في الاستيلاء عليه والنُفوذ على سُلطان الخلافة مِن التُرك والأكراد والعرب والديلم كثيرون، فهل يخفى على مُعزّ الدولة أنّ مِثل هذه المُحاولة لا تتمّ له إنْ قصد إليها، وهل يَجهل أنّ صرف الخلافة عن العباسيّين ليست مِن الأُمور الهيّنة، وحتّى مِن الشيعة العَرب مَن يتعصّب لها، دع ما لها مِن العصبيّة السنيّة مِن مُختلف العناصر، على أنّه لا يجهل أنّ إفريقيا قاعدة الخُلفاء العلويّين لا تَزيد في نُفوذ سلطانه، بل هي أحوج إلى مَن يردّ عنها أيدي المُتغلّبين، دع ما بين ممالك أخَويه وبين العراق مِن قُرب المسافات، والبُعد ما بينها وبين إفريقية، ولِقُربِ المواصلات وبُعدها أثرها البيِّن في سَوق الجيوش، ونقل العَتاد إذا احتاج إلى نجدتهم.

(٣) على افتراض صحَّة الخلافة العلويّة عند الإماميّة الاثني عشريّة، ومُعزّ الدولة والديالمة منهم، فهل يَرون صحّة خلافة مَن لم يكن على طريقتهم ومَذهبهم؟ فهل والحالة هذه لا يرون خلافة العلوي الإسماعيلي أو غيره أصحّ مِن خلافة العبّاسي السُنّي؟

فأنت ترى أنّ مُحاولة مِثل هذا الأمر لا تنطبق على المذهب الإماميّ، ولا على السياسة الملكيّة الرشيدة، وهُما ممّا لا يجهلهما مُعزّ الدولة ومُستشاروه.

الحربُ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني:

في رجب سنة ٣٣٤ جرت حربٌ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني انتهت بفوز مُعزّ الدولة في المُحرّم سَنة ٣٣٥ فاستقرار الصُلح بينه وبين ناصر الدولة. وقد بسطنا ذلك في تاريخ بني حَمدان وأخبار ناصر الدولة.

١٩٠

إقطاع البلاد وتخريبها واضطراب الأُمور:

وفي هذه السَنة شَغَبَ الجُند على مُعزّ الدولة وأسمعوه المكروه، فضمن لهم إيصال أرزاقهم في مُدّة ذكرها لهم، فاضطرّ إلى خبط الناس وأخذ الأموال مِن غير وجوهها، وأقطع قوّاده وأصحاب القُرى جميعها الّتي للسلطان وأصحاب الأملاك، فبطل لذلك أكثر الدواوين، وزالت أيدي العُمّال، وكانت البلاد قد خَرِبَت مِن الاختلاف والغلاء والنَهب، فأخذ القوّاد القُرى العامرة، وزادت عِمارتها معهم، وتَوفّر دخلها بسَبَب الجاه، فلم يُمكن مُعزّ الدولة العود عليهم بذلك.

وأما الأتباع، فإنّ الّذي أخذوه ازداد خَراباً فردّوه، وطلبوا العوض عنه فعُوّضوا، وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القُرى وتسوية طُرقها، فهلكت وبطل الكثير منها، وأخذ غُلمّان المُقطعين في ظُلم وتحصيل العاجل، فكان أحدُهم إذا عجز الحاصل تمّمه بمُصادراتها.

ثُمّ إنّ مُعزّ الدولة فوّض حماية كلّ موضع إلى بعض أكابر أصحابه، فاتّخذه مُسكناً وأطمعه، فاجتمع إليهم الأُخوة وصار القوّاد يَدّعون الخسارة في الحاصل، فلا يقدر وزيره ولا غيره على تحقيق ذلك، فإنْ اعترضهم مُعترض صاروا أعداءً له، فتُركوا وما يُريدون، فازداد طَمعهم ولم يقِفوا عند غاية، فتَعذّر على مُعزّ الدولة جَمعُ ذخيرة تكون للنوائب والحوادث، وأكثَرَ مِن إعطاء غُلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع، فحسدهم الديلم، وتولّد مِن ذلك الوحشة والمُنافرة، فكان منهُما البلاء على مُعزّ الدولة.

صُلح مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السنة اصطلح مُعزّ الدولة وأبو القاسم البريدي، وضَمِن أبو القاسم مدينة واسط وأعمالها منه.

استقرار مُعزّ الدولة ببغداد وإعادة المُطيع إلى دار الخلافة وصُلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة:

في المُحرّم سَنة ٣٣٥ استقرّ مُعزّ الدولة ببغداد، وأعاد المُطيع لله إلى دار الخلافة بعد أن استوثق منه، وفيها اصطلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة

١٩١

كما سبق بيان ذلك، وكانت الرُسل تَتردّد بينهما بغير عِلمٍ مِن الأتراك التورونيّة.

اختلاف مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السَنة اختلف مُعزّ الدولة وأبو القاسم بن البريدي والي البصرة، فأرسل مُعزّ الدولة جيشاً إلى واسط، فسيَّر إليهم ابن البريدي جيشاً مِن البصرة في المّاء وعلى الظَهر، فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب البريدي، وأُسِر مِن أعيانهم جماعة كثيرة.

استيلاء مُعزّ الدولة على البصرة:

في سنة ٣٣٦ سار مُعزّ الدولة ومعه المُطيع لله إلى البصرة؛ لاستنقاذها مِن يد أبي القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي، وسلكوا البريّة إليها، فأرسل القرامطة مِن هَجَر إلى مُعزّ الدولة يُنكرون عليه مسيره إلى البريّة بغير أمرهم وهي لهم، فلم يُجبهم عن كتابهم، وقال للرسول:

قل لهم: مَن أنتم حتّى تستأمروا، وليس قصدي مِن أخذ البصرة غيركم، وستعلمون ما تقولون منّي.

ولمّا وصل مُعزّ الدولة إلى الدرهميّة استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسم في الرابع والعشرين مِن ربيع الآخر إلى هَجَر والتجأ إلى القرامطة، ومَلَك مُعزّ الدولة البصرة، فانحلّت الأسعار ببغداد انحلالاً كثيراً، وسار مُعزّ الدولة مِن البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عِماد الدولة، وأقام الخليفة وأبو جعفر الصيمري بالبصرة، وخالف كوركير - وهو مِن أكابر القوّاد - على مُعزّ الدولة، فسيّر إليه الصيمري فقاتله فانهزم كوركير، وأُخذ أسيراً فحبسه مُعزّ الدولة بقلعة رامهرمز، ولقي مُعزّ الدولة أخاه عِماد الدولة بأرجان في شعبان، وقبَّلَ الأرض بين يديه، وكان يقف قائماً عنده فيأمره بالجلوس فلا يفعل، ثُمّ عاد إلى بغداد، وعاد المُطيع أيضاً إليها، وأظهر مُعزّ الدولة أنّه يُريد أنْ يسيرَ إلى الموصل، فتردّدت الرُسل بينه وبين ناصر الدولة واستقر الصُلح، وحَمل المّال إلى مُعزّ الدولة فسكت عنه.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل

١٩٢

قاصداً ناصر الدولة، وانتهى الأمر مَعه إلى ما مرَّ في ترجمة رُكن الدولة.

حرب الصيمري وزير مُعزّ الدولة لعِمران بن شاهين وعوده بأمر مُعزّ الدولة بعد تَضييقه على عِمران:

في سنة ٣٣٨ استفحل أمرُ عِمران بن شاهين وقوي شأنه، وخافته القوافل حتّى انتهى الأمر بتسيير مُعزّ الدولة وزيره أبي جعفر الصيمري لمُحاربته، فعودته بأمره مِن محاربته، بسبب موت أخيه عماد الدولة، واضطراب جيشه بفارس، وإرسال الصيمري إلى شيراز لإصلاح الأُمور فيها، وقد ذكرنا ذلك في تاريخ بني عِمران بن شاهين، كما استوفينا جميع أخبارهم مِن مُبتدأ أمرهم إلى انتهائه، فليُطلَب في موضعه مِن هذا التاريخ.

وفي سنة ٣٣٩ توفّي أبو جعفر محمّد بن أحمد الصيمري بأعمال الجامدة الّتي كانت تحت سلطة عِمران بن شاهين، وكان قد عاد مِن فارس مُحاصِراً لابن شاهين، فاستوزر مُعزّ الدولة بعده أبا محمّد الحسن بن محمّد المهلبي، وكان يَخلُف الصيمري بحضرة مُعزّ الدولة، فعرف أحوال الدواوين، فامتحنه مُعزّ الدولة، فرأى فيه ما يُريد مِن الأمانة والكفاية والمَعرفة بمصالح الدولة وحُسن السيرة، فاستوزره ومكّنه مِن وزارته فأحسن السيرة، وأزال كثيراً مِن المظالم خُصوصاً بالبصرة، فإنّ البريديّين كانوا قد أظهروا فيها كثيراً مِن المظالم، فأزالها وقرّب أهل العِلم والأدب وأحسن إليهم، وتنقّل في البلاد لكشف ما فيها مِن المظالم وتخليص الأموال، فحَسُن أثره رحمه الله.

مُعاودة مُعزّ الدولة حرب عِمران بن شاهين:

في هذه السنة بعد موت الصيمري ازداد ابن شاهين قوّة وجُرأة، فسيّر إليه مُعزّ الدولة جيشاً يقوده المهلبي، فانهزم جيش المهلبي، وجرتْ أُمور انتهت بمُصالحة مُعزّ الدولة لابن شاهين، وتقليده له أعمال البطائح ممّا زاد في استفحال أمره، ولا يُفيد تفاصيل هذه الأخبار؛ لأنّها مبسوطة في تاريخ دولة بني شاهين مِن هذا الكتاب.

١٩٣

حِصار يوسف بن وجيه البصرة وانهزامه:

في سنة ٣٤١ سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في البحر والبرّ إلى البصرة فحصرها، وكان سَبَب ذلك أنْ مُعزّ الدولة لمّا سلك البريّة إلى البصرة، وأرسل القرامطة يُنكرون عليه ذلك، وأجابهم بما سبق ذِكره في غير هذا المكان، عَلِم يوسف بن وجيه استيحاشهم مِن مُعزّ الدولة، فكَتب إليهم يُطمعهم في البصرة، وطلب منهم أنْ يَمدّوه مِن ناحية البر، فأمدّوه بجمع كثير منهم، وسار يوسف في البحر فبلغَ الخبر إلى الوزير المهلبي، وقد فرغ مِن الأهواز والنظر فيها، فسار مُجدّاً في العساكر إلى البصرة، فدخلها قَبل وصول يوسف إليها وشحنها بالرجال، وأمدَّه مُعزّ الدولة بالعساكر وما يحتاج إليه، وتحارب هو وابن وجيه أيّاماً، ثُمّ انهزم ابن وجيه وظَفرَ المهلبي بمراكبه وما معه مِن سلاح وغيره.

ضَربُ مُعزّ الدولة وزيره المهلبي بالمقارع:

وفي هذه السنة في ربيع الأوّل ضَربَ مُعزّ الدولة وزيره أبا محمّد المهلبي بالمقارع مئةً وخمسين مقرعة، ووكّل به في داره ولم يَعزله مِن وزارته، وكان نَقِم عليه أُموراً ضربه بسببها.

الخطبة لمُعزّ الدولة في مكة:

في سنة ٣٤٢ سيَّر الحجّاج الشريفين أبا الحسن محمّد بن عبد الله وأبا عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العلويّين، فجرى بينهما وبين عساكر المصريّين مِن أصحاب ابن طغج حَرب شديدة، وكان الظفر لهُما فُخطِب لمُعزّ الدولة بمكّة، فلمّا خرجا مِن مكّة لحقهما عسكر مصر فقاتلهما، فظفرا به أيضاً.

وفي سنة ٣٤٣ وقعت الحرب بمكّة بين أصحاب مُعزّ الدولة، فخُطب بمكة والحجاز لرُكن الدولة ومُعزّ الدولة وولده عزّ الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.

١٩٤

إرسالُ مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش لشهرزور:

وفي هذه السَنة أرسل مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش إلى شهرزور في رجب، ومعه المنجنيقات لفتحها، فسار إليها وأقام بتلك الولاية إلى المُحرّم مِن سَنة أربع وأربعين وثلاثمئة، فعاد ولم يُمكنه فتحها؛ لأنّه اتّصل به خروج عساكر خُراسان إلى الري.

مَرض مُعزّ الدولة وانتقاض ابن شاهين:

في سنة ٣٤٣ في ذي القعدة عرض لمُعزّ الدولة مَرض، وهو دوام الإنعاظ - يُسمى فريافسمس - مع وجع شديد في ذَكَرِه مع تَوتُّر أعصابه، وكان مُعزّ الدولة خوّاراً في أمراضه، فأرجف الناس به، واضطربت بغداد، فاضطرّ إلى الرُكوب فركب في ذي الحجّة على ما به مِن شِدّة المرض، فلمّا كان في المُحرّم مِن سنة ٣٤٤ أوصى إلى ابنه بختيار، وقلَّده الأمر بعده وجعله أمير الأُمراء، وبلغَ عِمران بن شاهين أنّ مُعزّ الدولة قد مات، فجرتْ منه أُمور أدّت إلى انفساخ الصُلح، وقد ذُكِر هذا في دولة بني شاهين.

إنجاده أخاه رُكن الدولة بعسكر لمُدافعة الخُراسانيّة:

وفي هذه السَنة استمدّ أخوه رُكن الدولة لمُدافعة الخُراسانيّة الخارجين إلى مملكته في الري، فأمدّه بعسكر مُقدّمهم الحاجب سبكتكين، وقد مرَّ خَبر ذلك في ترجمة رُكن الدولة.

عصيان روزبهان على مُعزّ الدولة:

في سَنة ٣٤٥ خَرج روزبهان بن ونداد خرشيد الديلمي على مُعزّ الدولة، وعصى عليه، وخرج أخوه بلكا بشيراز، وخرج أخوهما أسفار بالأهواز، ولحق به روزبهان إلى الأهواز، وكان يُقاتل عِمران بالبطيحة، فعاد إلى واسط وسار إلى الأهواز في رَجب وبها الوزير المهلبي، فأراد مُحاربة روزبهان فاستأمن رجاله إلى روزبهان، فانحاز المهلبي عنه، وورد الخبر بذلك إلى مُعزّ الدولة فلم يُصدّق به، لإحسانه إليه، لأنّه رفعه بعد الضِعَة ونَوّه

١٩٥

بذِكره بعد الخُمول، فتجّهز مُعزّ الدولة إلى محاربته، ومال الديلم بأسرهم إلى روزبهان، ولقوا مُعزّ الدولة بما يَكره، واختلفوا عليه وتتابعوا على المسير إلى روزبهان، وسار مُعزّ الدولة عن بغداد خامس شعبان، وخرج الخليفة المُطيع لله مُنحدراً إلى مُعزّ الدولة؛ لأنّ ناصر الدولة لمّا بَلغه الخبر سيَّر العساكر مِن الموصل مع ولده أبي المرجا جابر لقصد بغداد والاستيلاء عليها، فلمّا بَلغَ ذلك الخليفة انحدر مِن بغداد، فأعاد مُعزّ الدولة الحاجب سبكتكين وغيره ممَّن يثقُ بهم مِن عسكره إلى بغداد، فشَغبَ الديلم الّذين ببغداد، فوُعِدوا بأرزاقهم فسكنوا، وهُم على قنوط مِن مُعزّ الدولة.

وأمّا مُعزّ الدولة، فإنّه سار إلى أنْ بلغ قنطرة أدبق فنزل هُناك، وجعل على الطرق مَن يحفظ أصحاب الديلم مِن الاستئمان إلى روزبهان؛ لأنّهم كانوا يأخذون العطاء منه ثُمّ يهربون عنه، وكان اعتماد مُعزّ الدولة على أصحابه الأتراك ومماليكه ونَفَرٌ يسيرٌ مِن الديلم، فلمّا كان سلخ رمضان أراد مُعزّ الدولة العُبور هو وأصحابه الّذين يثقُ بهم إلى مُحاربة روزبهان، فاجتمع الديلم وقالوا لمُعزّ الدولة:

إنْ كُنّا رجالك فأخرجنا معك نقاتل بين يديك، فإنّه لا صبر لنا على القعود مع الصبيان والغُلمّان، فإنْ ظفرت كان الاسم لهؤلاء دوننا، وإنْ ظفرَ عدوّك لَحِقنا العار. وإنّما قالوا هذا الكلام خديعة ليُمكّنهم مِن العبور معه فيتمكّنون منه، فلمّا سمع قولهم سألهم التوقّف، وقال:

إنّما أُريد أنْ أذوق حَربهم ثُمّ أعود، فإذا كان الغد لقيناهم بأجمعنا وناجزناهم. وكان يُكثر لهم العطاء فأمسكوا عنه، وعبر مُعزّ الدولة وعبر أصحابه كراديس تتناوب الحملات، فما زالوا كذلك إلى غروب الشمس، ففني نشّاب الأتراك وتعبوا، وشكوا إلى مُعزّ الدولة ما أصابهم مِن التَعب، وقالوا:

نَستريح الليلة ونعود غَداً، فعلِم مُعزّ الدولة أنّه إنْ رجِع رجف إليه روزبهان والديلم، وثار معهم أصحابه الدَيلم يهلُك ولا يُمكنه الهَرب، فبكى بين يَدَي أصحابه وكان سريع الدمعة، ثُمّ سألهم أنْ تُجمع الكراديس كلّها ويحملوا حَملة واحدة، وهو في أوّلهم فإمّا أنْ يَظفروا، وإمّا أنْ يُقتل أوّل مَن يُقتل، فطالبوه بالنشاب، فقال:

قد بقيَ مع صغار الغُلمّان نشّاب فخذوه واقسّموه، وكان جماعة صالحة مِن الغُلمّان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد وعليهم اللبس الجيّد، كانوا سألوا مُعزّ الدولة أنْ يأذن لهم في الحرب فلم يَفعل، وقال:

إذا جاء وقت يَصلح لكم أذنت لكُم في القتال، فوجّه إليهم

١٩٦

تلك الساعة مَن يأخذ منهم النشّاب، وأومأ مُعزّ الدولة إليهم بيده أنْ اقبلوا منه، وسلّموا إليه النشّاب، فظنّوا أنّه يأمرهم بالحملة، فحملوا وهُم مستريحون، فصدموا صفوف روزبهان فخرقوها، وألقوا بعضها فوق بعض فصاروا خَلفهم، وحمل مُعزّ الدولة فيمَن معه باللتوت، فكانت الهزيمة على روزبهان وأصحابه، وأُخذ روزبهان أسيراً وجماعة مِن قوّاده، وقتَل مِن أصحابه خَلق كثير، وكَتب مُعزّ الدولة بذلك، فلمْ يُصدِق الناس لما علموا مِن قُوّة روزبهان وضعف مُعزّ الدولة، وعاد إلى بغداد ومَعَه روزبهان يراه الناس، وسَيَّر سبكتكين إلى أبي المرجا بن ناصر الدولة، وكان بعكبرا فلم يَلحقه؛ لأنّه لمّا بلغه الخبر عاد إلى الموصل، وسَجن مُعزّ الدولة روزبهان، فبلغه أنْ الديلم قد عزموا على إخراجه قهراً، والمُبايعة له فأخرجه ليلاً وغَرّقه.

وأمّا أخو روزبهان الّذي خرج بشيراز، فإنّ الأُستاذ أبا الفضل بن العميد سار إليه في الجيوش فقاتله فظفرَ به، وأعاد عضُد الدولة بن رُكن الدولة إلى مُلكه، وانطوى خبَر روزبهان وأخوته، وكان قد اشتعل اشتعال النار، فقَبض مُعزّ الدولة على جماعة مِن الديلم وترك مَن سواهم، واصطنع الأتراك وقدّمهم، وأمرهم بتوبيخ الديلم والاستطالة عليهم، ثُمّ أطلق للأتراك إطلاقات زائدة على واسط والبصرة، فساروا لقبضها مُدلين بما صنعوا، فأخربوا البلاد ونهبوا الأموال، وصار ضرَرُهم أكثر مِن نفعهم.

استيلاء مُعزّ الدولة على الموصل:

لم يكن ناصر الدولة يَثبت مع مُعزّ الدولة على عَهد وصلح، فما يَبرم معه عهداً وصُلحاً حتّى يُنقضه ما بين عشيّة، كلمّا لاحت له فرصة الخروج فقد اختلفا كثيراً، وانتهى اختلافهما إلى اتّفاق وسُرعان ما يعود ناصر الدولة فينسخ ذلك الاتّفاق، وقد عرفت في خَبر خُروج روزبهان وأخَوَيه أنْ ناصر الدولة انتهزها فُرصة فسيّر ولده أبا المرجا إلى بغداد، وكان ذلك بعد صُلح معقود على ألفَي ألف درهم كلّ سَنة، ولكنّ ناصر الدولة أخّر حمل المال مُضافاً إلى ما أساء إليه في وقت الشدّة، وكان ذلك في سنة ٣٤٧، ممّا اضطرّ مُعزّ الدولة للتجهُّز إلى الموصل، فسار نحوها في مُنتصف جمادى الأولى ومعه وزيره المهلبي، وانتهى الأمر بعد مواقع وحُروب بينهما إلى فِرار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدين في

١٩٧

حلب، وتوسّط سيف الدولة في الصُلح وكفالته المال المُرتّب عليه، إلى غير ذلك ممّا بسطناه في تاريخ الحمدانيّين أحد أجزاء هذا الكتاب.

زواجُ مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة بابنة عمّه مُعزّ الدولة:

في سنة ٣٤٨ سار مؤيّد الدولة بن رُكن الدولة مِن الريّ إلى بغداد، فتَزوّج بابنة عمّه مُعزّ الدولة، ونقلها معه إلى الري، ثُمّ عاد إلى أصبهان.

بِناءُ مُعزّ الدولة دورَه ببغداد بعد إبلاله مِن مرض أقلقه:

في المُحرّم سنة ٣٥٠هـ مرض مُعزّ الدولة وامتنع عليه البول، ثُمّ كان يبول بعد جُهد ومشقّة دماً، وتبعه البول والحصار، فاشتدّ جَزعه وقلقه، وأحضر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين، فأصلح بينهما ووصّاهما بابنه بختيار، وسلّم جميع ماله إليه، ثُمّ إنّه عوفي، فعَزِم على المسير إلى الأهواز؛ لأنّه اعتقد أنّ ما اعتاده مِن الأمراض إنّما هو بسبب مقامه ببغداد، وظنّ أنّه إنْ عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه مِن الصحّة ونَسيَ الكِبَر والشباب، فلمّا انحدر إلى كلواذا ليتوجّه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمَقام، وأنْ يُفكّر في هذه الحَركة ولا يَعجل، فأقام بها، ولم يُؤثِر أحدٌ مِن أصحابه انتقاله لمُفارَقة أوطانهم، وأسَفَاً على بغداد كيف تَخرب بانتقال دار المَلك عنها، فأشاروا عليه بالعود إلى بغداد، وأنْ يبني بها له داراً في أعلى بغداد لتكون أرقّ هواء وأصفى ماء ففعل، وشَرع في بناء داره في موضع المسناة المُعزيّة، فكان مَبلَغ ما خَرَجَ عليها إلى أنْ مات: ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج بسَبَب ذلك إلى مُصادرة جماعة مِن أصحابه.

تَوليتهُ القضاءِ بالضمان:

في هذه السَنة تولّى قضاء القضاة أبو العبّاس بن عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب، وضَمِن أنْ يؤدّي كلّ سَنة مئتي ألف دِرهم، وهو أوّل مَن ضَمِن القضاء، وكان ذلك أيام مُعزّ الدولة، ولم يُسمع بذلك قبله، فلم يأذن له الخليفة المُطيع لله بالدخول عليه، وأمر بأنْ لا يحضر الموكب لِما ارتكبه مِن ضمان القضاء، ثُمّ ضُمِنَت بعدُ الحُسبة والشَرطة ببغداد.

١٩٨

استئمانُ أبي القاسم أخي عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة:

في هذه السَنة وصل أبو القاسم أخو عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة مُستأمِناً.

ما كُتِبَ على مساجد بغداد بأمر مُعزّ الدولة:

في ربيع الآخر مِن سنة ٣٥١هـ كَتب عامّة الشيعة ببغداد بأمر مُعزّ الدولة على المساجد ما هذه صورته:(لُعِن معاوية بن أبي سفيان، ولُعِن مَن غَصب فاطمة (رضي الله عنها) فَدكاً، ومَن مَنع مِن أنْ يُدفن الحسن عند قبر جدّه (عليه السلام)، ومَن نفى أبا ذرٍّ الغفاري، ومَن أخرج العبّاس مِن الشورى).

فأمّا الخليفة، فكان مَحكوماً عليه لا يقدر على المَنع، وأمّا مُعزّ الدولة، فبأمره كان ذلك، فلمّا كان الليل حكّه بعضُ الناس، فأراد مُعزّ الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير أبو محمّد المهلبي بأنْ يَكتب مكان ما مُحي:(لعن الله الظالمين لآل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)) ، ولا يَذكر أحداً في اللعن إلاّ معاوية، ففعل ذلك.

وفاةُ المهلبي وأُمور غريبة صدرت مِن مُعزّ الدولة:

في جمادى الآخرة سن ٣٥٢هـ سار الوزير المهلبي وزير مُعزّ الدولة في جيش كَثيف إلى عُمان ليفتحها، فلمّا بلغَ البحر اعتلّ واشتدّت عِلّته فأُعيد إلى بغداد فدُفن بها، وقبضَ مُعزّ الدولة أمواله وذخائره وكلّ ما كان له، وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه حتّى ملاّحه ومَن خدمه يوماً واحداً، فقبض عليهم وحبسهم، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه، وكانت مُدّة وزارته ثلاث عشرة سَنة وثلاثة أشهر، وكان كريماً فاضلاً ذا عقل ومروءة فمات بموته الكرم، ونظر في الأُمور بعده أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي، وأبو الفَرَج محمّد بن العبّاس بن فسانجس مِن غير تسمية لأحدهما بوزارة.

أمرُ مُعزّ الدولة الناس بإبطال أعمالهم وإقامة عزاء الحسين بن علي (عليه السلام):

في عاشر المُحرّم مِن هذه السَنة أمر مُعزّ الدولة الناس أنْ يُغلقوا دكاكينهم، ويُبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأنْ يُظهروا النياحة ويلبسوا قباباً

١٩٩

عملوها بالمسوح، وأنْ يَخرُج النساء مُنشرات الشُعور، مُسودّات الوجوه، قد شققنَ ثيابهنّ، يَدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسُنّة قُدرة على المنع منه؛ لكثرة الشيعة، ولأنّ السلطان معهم.

ومُعزّ الدولة هو أوّل مَن سنَّ هذه السُنّة، وألزم الناس بها في كلِّ يوم عاشر مِن مُحرّم كلّ سَنة، وكانت مَثارة فِتن بين السُنّة والشيعة.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

وفي رجب سنة ٣٥٣هـ سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل وملكها، وبعد تضييقه على ناصر الدولة وفراره منه أعاده إليه، وقرّر بينهما الصُلح، وقد استوفينا خَبر ذلك في أخبار الحمدانيّين فلا نُعيده.

طاعةُ أهل عُمان مُعزّ الدولة وما كان مِنهم:

وفي سنة ٣٥٤هـ سيَّر مُعزّ الدولة عسكراً إلى عُمان، فلقوا أميرها وهو نافع مولى يوسف بن وجيه، وكان يوسف قد هَلك ومَلكَ نافع البلد بعده، وكان أسود، فدخل نافع في طاعة مُعزّ الدولة، وخطب له وضرب له اسمه على الدينار والدرهم، فلمّا عادَ العسكر عنه وثب به أهل عُمان فأخرجوه عنهم، وأدخلوا القرامطة الهَجريّين إليهم، وتَسلّموا البَلد فكانوا يُقيمون فيها نهاراً ويَخرجون ليلاً إلى مُعسكرهم، وكتبوا إلى أصحابهم بهَجَر يُعرّفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون.

ما تَجدّد لعُمان واستيلاء مُعزّ الدولة عليها:

بعد هرب نافع عن عُمان واستيلاء القرامطة عليها، كان معهم كاتب يُعرَف بعلي بن أحمد ينظر في أُمور البلد، وكان بعُمان قاضٍ له عشيرة وجاه، فاتّفق هو وأهل البلد أنْ يَنصبوا في الإمرة رجلاً يُعرف بابن طغان، وكان مِن صِغار القوّاد بعُمان وأدناهم مَرتبة، فلمّا استقرّ في الإمرة خافَ ممَّن فوقه مِن القوّاد، فقبضَ على ثمانين قائداً، فقتل بعضهم وغَرّق بعضهم، وقَدِم البلد ابنا أُخت رجُل ممَّن قد غرَّقهم فأقاما مُدّة، ثُمّ إنّهما دخلا على طغان يوماً مِن أيّام السلام، فسلما عليه فلمّا تقوّض المجلس قتلاه، فاجتمع

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442