تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني13%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113613 / تحميل: 9450
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

بكل شيء ، لهذا فإن العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول :( وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ ) .

إذن فلا حاجة حتى للشهود ، لأنّ الله هو أعلم من كلّ أولئك الشهود ، ولكن لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود ، نعم فهذا هو مشهد يوم القيامة ، فليستعد الجميع لذلك اليوم.

* * *

١٦١

الآيتان

( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) )

التّفسير

الذين يدخلون جهنم زمرا :

تواصل الآيات هنا بحث المعاد ، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء المؤمنين والكافرين الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة. وتبدأ بأهل جهنم ، إذ تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ) .

فمن الذي يسوقهم إلى جهنم؟

كما هو معروف فإن ملائكة العذاب هي التي تسوقهم حتى أبواب جهنم ، ونظير هذه العبارة ورد في الآية (٢١) من سورة (ق) ، إذ تقول :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

١٦٢

عبارة «زمر» تعني الجماعة الصغيرة من الناس ، وتوضح أن الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات مجموعات صغيرة ومتفرقة.

و «سيق» من مادة (سوق) وتعني (الحث على أسير).

ثم تضيف( حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) (١) .

يتّضح بصورة جيدة من خلال هذه العبارة ، أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل سوق أولئك الكفرة ، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين يراد سجنهم ، وهذا الحدث المفاجئ يوجد رعبا ووحشة كبيرة في قلوب الكافرين ، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ ، الذين يقولون استهجانا وتوبيخا لهم : لم كفرتم وقد هيئت لكم كافة أسباب الهداية ، ألم يرسل إليكم أنبياء منكم يتلون آيات الله عليكم باستمرار ، ومعهم معجزات من خالقكم ، وإنذار وإعلام بالأخطار التي ستصيبكم إن كفرتم بالله(٢) ؟ فكيف وصل بكم الحال إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟

حقّا إنّ كلام خزنة جهنم يعد من أشد أنواع العذاب على الكافرين الذين يواجهون بمثل هذا اللوم فور دخولهم جهنم.

على أية حال ، فإنّ الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها الحسرات ، قائلين :( قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

مجموعة من المفسّرين الكبار اعتبروا( كَلِمَةُ الْعَذابِ ) إشارة إلى قوله تعالى حين هبط آدم على الأرض ، أو حينما قرر الشيطان إغواء بني آدم ، كما ورد في الآية (٣٩) من سورة البقرة( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

__________________

(١) «خزنة» جمع (خازن) من مادة (خزن) على وزن (جزم) وتعني حافظ الشيء ، و (خازن) تطلق على المحافظ والحارس.

(٢) «يتلون» و «ينذرون» : كليهما فعل مضارع ودليل على الاستمرارية.

١٦٣

وحينما قال الشيطان : لأغوينهم جميع إلّا عبادك المخلصين ، فأجابه البارئعزوجل ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (١) .

وبهذا الشكل اعترفوا بأنّهم كذبوا الأنبياء وأنكروا آيات الله ، وبالطبع فإن مصيرهم لن يكون أفضل من هذا.

كما يوجد احتمال في أنّ المراد من( حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) هو ما تعنيه الآية السابعة في سورة (يس)( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وهو إشارة إلى أن الإنسان يصل أحيانا ـ بسبب كثرة ذنوبه وعدائه ولجاجته وتعصبه أمام الحق ـ إلى درجة يختم معها على قلبه ولا يبقى أمامه أيّ طريق للعودة ، وفي هذه الحالة يصبح مستحقا تماما للعذاب.

وعلى أيّة حال ، فإن مصدر كلّ هذه الأمور هو عمل الإنسان ذاته ، وليس من الصحيح الاستدلال على معنى الجبر وفقدان حرية الإرادة.

هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

فأبواب جهنم ـ كما أشرنا إليها من قبل ـ يمكن أن تكون قد نظمت حسب أعمال الإنسان ، وإن كلّ مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها ، وذلك مثل أبواب الجنّة التي يطلق على أحد أبوابها اسم «باب المجاهدين» وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة»(٢) .

والذي يلفت النظر هو أن ملائكة العذاب تؤّكد على مسألة التكبر من بين بقية الصفات الرذيلة التي تؤدي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم ، وذلك إشارة إلى أن التكبر والغرور وعدم الانصياع والاستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي

__________________

(١) الم السجدة ، ١٣.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة (٢٧).

١٦٤

للكفر والانحراف وارتكاب الذنب.

نعم ، فالتكبر ستار سميك يغطي عيني الإنسان ويحول دون رؤيته للحقائق الساطعة المضيئة ، ولهذا نقرأ في رواية عن الإمامين المعصومين الباقر والصادقعليهما‌السلام «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(١) .

* * *

__________________

(١) الكافي ، المجلد الثّاني ، باب الكبر الحديث. ٦.

١٦٥

الآيات

( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥) )

التّفسير

المتقون يدخلون الجنّة أفواجا!!

هذه الآيات ـ التي هي آخر آيات سورة (الزمر) ـ تواصل بحثها حول موضوع المعاد ، حيث تتحدث عن كيفية دخول المؤمنين المتقين الجنّة ، بعد أن كانت الآيات السابقة قد استعرضت كيفية دخول الكافرين جهنم ، لتتوضح الأمور أكثر من خلال هذه المقارنة.

في البداية تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) .

استعمال عبارة (سيق) (والتي هي من مادة (سوق) على وزن (شوق) وتعني الحث على السير). أثار التساؤل ، كما لفت أنظار الكثير من المفسّرين ، لأنّ هذا

١٦٦

التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في تنفيذه ، ولذلك فإنّ هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم ، ولكن لم استعملت بشأن أهل الجنّة الذين يتوجهون إلى الجنّة بتلهف واشتياق؟

قال البعض : إنّ هذه العبارة استعملت هنا لأنّ الكثير من أهل الجنّة ينتظرون أصدقاءهم.

والبعض الآخر قال : إنّ تلهف وشوق المتقين للقاء البارئعزوجل يجعلهم يتحينون الفرصة لذلك اللقاء بحيث لا يقبلون حتّى بالجنّة.

فيما قال البعض : إنّ هناك وسيلة تنقلهم بسرعة إلى الجنّة.

مع أنّ هذه التّفسيرات جيدة ولا يوجد أي تعارض فيما بينهما ، إلّا أنّ هناك نقطة اخرى يمكن أن تكون هي التّفسير الأصح لهذه العبارة ، وهي مهما كان حجم عشق المتقين للجنّة ، فإن الجنّة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود أولئك عليهم ، كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق لضيف والمتلهف لوفوده عليه إذ أنّه لا يجلس لانتظاره وإنّما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت المستضيف ، فملائكة الرحمة هي كذلك مشتاقة لوفود أهل الجنّة.

والملاحظة أن (زمر) تعني هنا المجموعات الصغيرة ، وتبيّن أن أهل الجنّة يساقون إلى الجنّة على شكل مجموعات مجموعات كلّ حسب مقامه.

ثم تضيف الآية( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول بشأن أهل جهنم : إنّهم حينما يصلون إلى قرب جهنم تفتح لهم الأبواب ، ويقول بشأن أهل الجنّة ، إن أبواب الجنّة مفتحة لهم

__________________

(١) ما هو جواب الجملة الشرطية (إذا جاؤها)؟ ذكر المفسّرون آراء متعددة ، أنسبها الذي يقول : إن عبارة (قال لهم خزنتها) جوابها والواو زائدة. كما احتملوا أن جواب الجملة محذوف ، والتقدير (سلام من الله عليكم) ، أو أن حذف الجواب إشارة إلى أن سعة الموضوع وعلوه لا يمكن وصفها ، والبعض قال : (فتمت) هي الجواب و (الواو) زائدة.

١٦٧

من قبل ، وهذه إشارة إلى الاحترام والتبجيل الذي يستقبلون به من قبل ملائكة الرحمة ، كالمستضيف المحب الذي يفتح أبواب بيته للضيوف قبل وصولهم ، ويقف عند الباب بانتظارهم.

وقد قرأنا في الآيات السابقة أن ملائكة العذاب يستقبلون أهل جهنم باللوم والتوبيخ الشديدين ، عند ما يقولون لهم : قد هيئت لكم أسباب الهداية ، فلم تركتموها وانتهيتم إلى هذا المصير المشؤوم؟

أمّا ملائكة الرحمة فإنّها تبادر أهل الجنّة بالسلام المرافق للاحترام والتبجيل ، ومن ثمّ تدعوهم إلى دخول الجنّة.

عبارة «طبتم» من مادة (طيب) على وزن (صيد) وتعني الطهارة ، ولأنّها جاءت بعد السلام والتحية ، فمن الأرجح القول بأن لها مفهوما إنشائيا ، وتعني : لتكونوا طاهرين مطهرين ونتمنى لكم السعادة والسرور.

وبعبارة اخرى : طابت لكم هذه النعم الطاهرة ، يا أصحاب القلوب الطاهرة.

ولكن الكثير من المفسّرين ذكروا لهذه الجملة معنى خبريا عند تفسيرها ، وقالوا : إنّ الملائكة تخاطبهم بأنّكم تطهرتم من كلّ لوث وخبث ، وقد طهرتم بإيمانكم وبعملكم الصالح قلوبكم وأرواحكم ، وتطهرتم من الذنوب والمعاصي ، ونقل البعض رواية تقول : إنّ هناك شجرة عند باب الجنّة ، تفيض من تحتها عينا ماء صافيتان ، يشرب المؤمنون من إحداهما فيتطهر باطنهم ، ويغتسلون بماء العين الأخرى فيتطهر ظاهرهم ، و، هنا يقول خزنة الجنّة لهم :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملاحظ أن «الخلود» استخدم بشأن كلّ من أهل الجنّة وأهل النّار ، وذلك لكي لا يخشى أهل الجنّة من زوال النعم الإلهية ، ولكي يعلم أهل النّار بأنّه لا سبيل لهم للنجاة من النّار.

__________________

(١) تفسير القرطبي المجلد (٨) الصفحة. ٥٧٣.

١٦٨

الآية التّالية تتكون من أربع عبارات قصار غزيرة المعاني تنقل عن لسان أهل الجنّة السعادة والفرح اللذين غمراهم ، حيث تقول :( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ) .

وتضيف في العبارة التالية( وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ) .

المراد من الأرض هنا أرض الجنّة. واستخدام عبارة (الإرث) هنا ، إنّما جاء لكونهم حصلوا على كلّ هذه النعم في مقابل جهد قليل بذلوه ، إذ ـ كما هو معروف ـ فإنّ الميراث هو الشيء الذي يحصل عليه الإنسان من دون أي عناء مبذول.

أو أنّها تعني أن لكل إنسان مكان في الجنّة وآخر في جهنم ، فإن ارتكب عملا استحق به جهنم فإن مكانه في الجنّة سوف يمنح لغيره ، وإن عمل عملا صالحا استحق به الجنّة ، فيمنح مكانا في الجنّة ويترك مكانه في جهنم لغيره.

أو تعني أنّهم يتمتعون بكامل الحرية في الاستفادة من ذلك الإرث ، كالميراث الذي يحصل عليه الإنسان إذ يكون حرا في استخدامه.

هذه العبارة ـ في الواقع ـ تحقق عيني للوعد الإلهي الذي ورد في الآية (٦٣) من سورة مريم( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ) .

العبارة الثّالثة تكشف عن الحرية الكاملة التي تمنح لأهل الجنّة في الاستفادة من كافة ما هو موجود في الجنّة الواسعة ، إذ تقول :( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) .

يستشف من الآيات القرآنية أن في الجنّة الكثير من البساتين والحدائق وقد أطلقت عليها في الآية (٧٢) من سورة التوبة عبارة( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) وأهل الجنّة وفقا لدرجاتهم المعنوية يسكنون فيها ، وأن لهم كامل الحرية في التحرك في تلك الحدائق والبساتين في الجنّة.

أمّا العبارة الأخيرة فتقول :( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وهذه إشارة إلى أن هذه النعم الواسعة إنّما تعطى في مقابل العمل الصالح (المتولد من الايمان طبعا) ليكون صاحبه لائقا ومستحقا لنيل مثل هذه النعم.

١٦٩

وهنا يطرح هذه السؤال وهو : هل أنّ هذا القول صادر عن أهل الجنّة ، أم أنّه كلام الله جاء بعد كلام أهل الجنّة؟

المفسّرون وافقوا الرأيين ، ولكنّهم رجحوا المعنى الأوّل الذي يقول : إنّه كلام أهل الجنّة ويرتبط بالعبارات الأخرى في الآية.

وفي النهاية تخاطب الآية ـ مورد بحثنا وهي آخر آية من سورة الزمر ـ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) يسبحون الله ويقدّسونه ويحمدونه.

إذ تشير إلى وضع الملائكة الحافين حول عرش الله ، أو أنّها تعبر عن استعداد أولئك الملائكة لتنفيذ الأوامر الإلهية ، أو أنّها إشارة إلى خفايا قيمة تمنح في ذلك اليوم للخواص والمقرّبين من العرش الإلهي ، مع أنّه لا يوجد أي تعارض بين المعاني الثلاثة ، إلا أن المعنى الأوّل أنسب.

ولهذا تقول العبارة التالية( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ ) .

وباعتبار هذه الأمور هي دلائل على ربوبية البارئعزوجل واستحقاق ذاته المقدسة والمنزّهة لكل أشكال الحمد والثناء ، فإنّ الجملة الأخيرة تقول :( وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهنا يطرح هذا السؤال : هل أن هذا الخطاب صادر عن الملائكة ، أم عن أهل الجنّة المتقين ، أم أنّه صادر عن الاثنين؟

المعنى الأخير أنسب من غيره ، لأنّ الحمد والثناء على الله هو منهاج كلّ أولي الألباب ، ومنهاج كلّ الخواص والمقربين ، واستعمال كلمة (قيل) وهي فعل مبني للمجهول يؤيد ذلك.

نهاية سورة الزّمر

* * *

١٧٠
١٧١

سورة

المؤمن

مكيّة

وعدد آياتها خمس وثمانون آية

١٧٢

«سورة المؤمن»

نظرة مختصرة في محتوى السورة :

سورة المؤمن هي طليعة الحواميم ، والحواميم في القرآن الكريم سبع سور متتالية يلي بعضها بعضا ، نزلت جميعا في مكّة ، وهي تبدأ بـ «حم».

هذه السورة كسائر السور المكّية ، تثير في محتواها قضايا العقيدة و، تتحدث عن أصول الدين الإسلامي ومبانيه وفي ذلك تلبي حاجة المسلمين في تلك المرحلة إلى تشييد وإقامة قواعد الدين الجديد.

ومحتوى هذه السورة يضم بين دفتيه الشدة واللطف ، ويجمع في نسيجه بين الإنذار والبشارة السورة ـ إذا ـ مواجهة منطقية حادّة مع الطواغيت والمستكبرين ، كما هي نداء لطف ورحمة ومحبة بالمؤمنين وأهل الحق.

وتمتاز هذه السورة أيضا بخصوصية تنفرد بها دون سور القرآن الأخرى ، إذ تتحدّث عن «مؤمن آل فرعون» وهو مقطع من قصة موسىعليه‌السلام ، وقصد مؤمن آل فرعون لم ترد في كتاب الله سوى في سورة «المؤمن».

إنّ قصة «مؤمن آل فرعون» هي قصة ذلك الرجل المؤمن المخلص الذي كان يتحلى بالذكاء والمعرفة في الوقت الذي هو من بطانة فرعون ، ومحسوب ـ ظاهرا ـ من حاشيته ـ لقد كان هذا الرجل مؤمنا بما جاء به موسىعليه‌السلام ، وقد احتل وهو يعمل في حاشية فرعون ـ موقعا حساسا مميزا في الدفاع عن موسىعليه‌السلام وعن دينه ، حتى أنّه ـ في الوقت الذي تعرضت فيه حياة موسىعليه‌السلام

١٧٣

للخطر ـ تحرّك من موقعه بسلوك فطن وذكي وحكيم لكي يخلّص موسى من الموت المحقق الذي كان قد أحاط به.

إنّ اختصاص السورة باسم «المؤمن» يعود إلى قصة هذا الرجل الذي تحدّثت عشرون آية منها عن جهاده ، أي ما يقارب ربع السورة.

يكشف الأفق العام أنّ حديث السورة عن «مؤمن آل فرعون» ينطوي على أبعاد تربوية لمجتمع المسلمين في مكّة ، فقد كان بعض المسلمين ممّن آمن بالإسلام يحافظ على علاقات طيبة مع بعض المشركين والمعاندين ، وفي نفس الوقت فإن إسلامه وانقياده لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس عليهما غبار.

لقد كان الهدف من هذه العلاقة مع المشركين هو توظيفها في أيّام الخطر لحماية الرسالة الجديدة ودفع الضر عن أتباعها ، وفي هذا الإطار يذكر التاريخ أنّ أبا طالبعليه‌السلام عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من جملة هؤلاء ، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الإسلامية المروية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

وبشكل عام يمكن النظر إلى محتوى السورة في إطار ما تثيره النقاط والأقسام الآتية :

القسم الأوّل : وهو يضم طليعة آيات السورة التي تتحدث عن بعض من أسماء الله الحسنى ، خصوصا تلك التي ترتبط ببعث معاني الخوف والرجاء في القلوب ، مثل قوله تعالى:( غافِرِ الذَّنْبِ ) و( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

القسم الثّاني : تهديد الكفّار والطواغيت بعذاب هذه الدنيا الذي سبق وأن نال أقواما اخرى في ماضي التأريخ ، بالإضافة إلى التعرّض لعذاب الآخرة ، وتتناول بعض الصور والمشاهد التفصيلية فيه.

القسم الثّالث : بعد أن وقفت السورة على قصة موسى وفرعون ، بدأت بالحديث ـ بشكل واسع ـ عن قصة ذلك الرجل المؤمن الواعي الشجاع الذي

__________________

(١) الغدير ، المجلد الثامن ، ص ٣٨٨.

١٧٤

اصطلح عليه بـ «مؤمن آل فرعون» وكيف واجه البطانة الفرعونية وخلّص موسىعليه‌السلام من كيدها.

القسم الرّابع : تعود السورة مرّة اخرى للحديث عن مشاهد القيامة ، لتبعث في القلوب الغافلة الروح واليقظة.

القسم الخامس : تتعرض السورة المباركة فيه إلى قضيتي التوحيد والشرك ، بوصفهما دعامتين لوجود الإنسان وحياته ، وفي ذلك تتناول جانبا من دلائل التوحيد ، بالإضافة إلى ما تقف عليه من مناقشة لبعض شبهات المشركين.

القسم السّادس : تنتهي السورة ـ في محتويات القسم الأخير هذا ـ بدعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحمل والصبر ، ثمّ تختم بالتعرض إلى خلاصات سريعة ممّا تناولته مفصلا من قضايا ترتبط بالمبدأ والمعاد ، وكسب العبرة من هلاك الأقوام الماضية ، وما تعرضت له من أنواع العذاب الإلهي في هذه الدنيا ، ليكون ذلك تهديدا للمشركين. ثمّ تخلص السورة في خاتمتها إلى ذكر بعض النعم الإلهية.

لقد أشرنا فيما مضى إلى أنّ تسمية السورة بـ «المؤمن» يعود إلى اختصاص قسم منها بالحديث عن «مؤمن آل فرعون». أما تسميتها بـ «غافر» فيعود إلى كون هذه الكلمة هي بداية الآية الثّالثة من آيات السورة المباركة.

فضيلة تلاوة السورة :

في سلسلة الرّوايات الإسلامية المروية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، نرى كلاما واسعا من فضل تلاوة سور «الحواميم» وبالأخص سورة «غافر» منها.

ففي بعض هذه الأحاديث نقرأ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «الحواميم تاج

١٧٥

القرآن»(١) .

وعن ابن عباس ممّا يحتمل نقله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال : «لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم»(٢) .

وفي حديث عن الإمام الصادق نقرأ قولهعليه‌السلام : «الحواميم ريحان القرآن ، فحمدوا الله واشكروه بحفظها وتلاوتها ، وإنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر ، وإنّ الله ليرحم تاليها وقارئها ، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه وكلّ حميم أو قريب له ، وإنّه في القيامة يستغفر له العرش والكرسي وملائكة الله المقربون»(٣) .

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحواميم سبع ، وأبواب جهنّم سبع ، تجيء كلّ «حاميم» منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول : الّلهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني»(٤) .

وفي قسم من حديث مروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ «حاميم المؤمن» لم يبق روح نبيّ ولا صديق ولا مؤمن إلّا صلّوا عليه واستغفروا له»(٥) .

ومن الواضح أنّ هذه الفضائل الجزيلة ترتبط بالمحتوى الثمين للحواميم ، هذا المحتوى الذي إذا واظب الإنسان على تطبيقه في حياته والعمل به ، والالتزام بما يستلزمه من مواقف وسلوك ، فإنّه سيكون مستحقا للثواب العظيم والفضائل الكريمة التي قرأناها.

وإذا كانت الرّوايات تتحدث عن فضل التلاوة ، فإنّ التلاوة المعنية هي التي

__________________

(١) هذه الأحاديث في مجمع البيان في بداية تفسير سورة المؤمن.

(٢) المصدر السابق

(٣) مجمع البيان أثناء تفسير السورة

(٤) البيهقي طبقا لما نقله عنه الآلوسي في روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، صفحة ٣٦.

(٥) مجمع البيان في مقدمة تفسير السورة.

١٧٦

تكون مقدمة للاعتقاد الصحيح ، فيما يكون الإعتقاد الصحيح مقدمة للعمل الصحيح. إذا التلاوة المعنية هي تلاوة الإيمان والعمل ، وقد رأينا في واحد من الأحاديث ـ الآنفة الذكر – المنقولة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعبير «من كان يؤمن بي ويقرأني».

* * *

١٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) )

التّفسير

صفات تبعث الأمل في النفوس :

تواجهنا في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده في السور السابقة ، حيث افتتحت السورة بـ «جاء» و «ميم».

وبالنسبة للحروف المقطعة في مطلع السور كانت لنا بحوث كثيرة في معانيها ودلالاتها ، تعرضنا إليها أثناء الحديث عن بداية سورة «البقرة» ، وسورة «آل عمران» و «الأعراف» وسور اخرى.

الشيء الذي تضيفه هنا ، هو أنّ الحروف التي تبدأ به سورة المؤمن التي نحن الآن بصددها ، تشير ـ كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات ومن آراء المفسّرين ـ إلى أسماء الله التي تبدأ بحروف هذه السورة ، أي «حميد» و «مجيد» كما ورد ذلك

١٧٨

عن الامام الصادقعليه‌السلام (١) .

البعض الآخر ذهب إلى أنّ «ح» إشارة إلى أسمائه تعالى مثل «حميد» و «حليم» و «حنان» ، بينما «م» إشارة إلى «ملك» و «مالك» و «مجيد».

وهناك احتمال في أن حرف «الحاء» يشير إلى الحاكمية ، فيما يشير حرف «الميم» إلى المالكية الإلهية.

عن ابن عباس ، نقل القرطبي «في تفسيره» أن «حم» من أسماء الله العظمى(٢) .

ويتّضح في نهاية الفقرة أنّ ليس ثمّة من تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة الذكر ، بل هي تعمد جميعا إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.

في الآية الثّانية ـ كما جرى على ذلك الأسلوب القرآني ـ حديث عن عظمة القرآن ، وإشارة إلى أنّ هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحدّ ، إنّما يتشكّل في مادته الخام من حروف الألف باء وهنا يمكن معنى الإعجاز.

يقول تعالى :( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

إنّ قدرته تعالى تعجز الأشياء الأخرى عن الوقوف إزاءه ، فقدرته ماضية في كل شيء ، وعزته مبسوطة ، أمّا علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال ، بحيث يستوعب كلّ احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.

والآية التي بعدها تعدّد خمسا من صفاته تعالى ، يبعث بعضها الأمل والرجاء ، بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر.

ويقول تعالى :( غافِرِ الذَّنْبِ ) .

( قابِلِ التَّوْبِ ) (٣) .

__________________

(١) يلاحظ «معاني الأخبار» للشيخ الصدوق ، صفحة ٢٢ ، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور.

(٢) تفسير القرطبي أثناء تفسير الآية.

(٣) «توب» يمكن أن تكون جمع «توبة» وأن تكون مصدرا (يلاحظ مجمع البيان).

١٧٩

( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

( ذِي الطَّوْلِ ) (١) .

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

أجل إنّ من له هذه الصفات هو المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في العقاب والثواب.

* * *

ملاحظات

تنطوي الآيات الثلاث الآنفة الذكر على مجموعة من الملاحظات ، نقف عليها من خلال النقاط الآتية :

أولا : في الآيات أعلاه (آية ٢ و ٣) بعد ذكر الله وقبل ذكر المعاد( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) اشتملت الآيتان على ذكر سبع صفات للذات الإلهية ، بعضها من «صفات الذات» والبعض الآخر منها من «صفات الفعل» التي انطوت على إشارات للتوحيد والقدرة والرحمة والغضب ، ثمّ ذكرت «عزيز» و «عليم» وجعلتهما بمثابة القاعدة التي نزل الكتاب الإلهي (القرآن) على أساسهما.

أمّا صفات «غافر الذنب» و «قابل التوب» و «شديد العقاب» و «ذي الطول» فهي بمثابة المقدمات اللازمة لتربية النفوس وتطويعها لعبادة الواحدة الأحد.

ثانيا : ابتدأت الصفات الآنفة الذكر بصفة «غافر الذنب» أوّلا و «ذي الطول» أخيرا ، أي صاحب النعمة والفضل كصفة أخيرة. وفي موقع وسط جاءت صفة «شديد العقاب» وهكذا ذكرت الآية الغضب الإلهي بين رحمتين. ثمّ إنّنا نلاحظ أنّ

__________________

(١) «طول» على وزن «قول» بمعنى النعمة والفضل ، وبمعنى القدرة والقوة والمكنة وما يشبه ذلك. بعض المفسّرين يقول : إنّ «ذي الطول» هو الذي يبذل النعم الطويلة والجزيلة للآخرين ، ولذلك فإن معناها أخص من معنى «المنعم» كما يقول صاحب مجمع البيان.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

مِن هؤلاء مِن السيئات، وما عَضُد الدولة إلاّ بشرٌ يُخطئ ويُصيب، ومَلك يَعدل ويجور ويَرحم ويَظلم، وقد يكون أقلّ المُلوك الّذين هُم على شاكلته أوزاراً.

وكيف كان، فـ (كفى المرءَ نُبلاً أنْ تُعدّ معايبه).

عَضُد الدولة وابن سمعون الواعظ:

قيل لعَضُد الدولة - كما روى ابن كثير -: إنّ أهل بغداد قد قلّوا كثيراً بسبب الطاعون، وما وقع بينهم مِن الفِتن بسبب الرفض والسُنّة، وأصابهم حريق وغريق.

فقال: إنّما يهيج الشرّ بين الناس هؤلاء القُصّاص والوعّاظ. ثُمّ رَسم أنّ أحداً لا يقصّ ولا يَعظ في سائر بغداد، ولا يسأل سائل باسم أحد مِن الصحابة، وإنّما يقرأ القرآن فمَن أعطاه أخذ منه، فعُمل بذلك في البلد، ثُمّ بلغه أنّ أبا الحسين بن سمعون الواعظ - وكان مِن الصالحين - لم يترك الوعظ، بل استمرَّ على عادته، فأرسل إليه مَن جاءه به، وتحول عَضُد الدولة مِن مجلسه، وجلس وحده؛ لئلاّ يَبدر مِن ابن سمعون إليه بين الدولة كلام يكرهه، وقيل لابن سمعون: إذا دخلت على المَلك فتواضع في الخطاب، وقبّل التراب، فلمّا دخل دار المَلك وجده قد جلس وحده؛ لئلاّ يبدر مِن ابن سمعون في حقّه كلام بحضرة الناس يُؤثَر عنه، ودخل الحاجب بين يديه يستأذن له، ودخل ابن سمعون وراءه، ثُمّ استفتح القراءة:

( وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى‏ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) ، ثُمّ التفت بوجهه نحو دار عِزّ الدولة، ثُمّ قرأ:

( ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ ) ، ثُمّ أخذ في مُخاطبة المَلك وَوَعظِهِ، فبكى عَضُد الدولة بكاء كثيراً، وجزّاه خيراً، فلمّا خرج مِن عنده، قال للحاجب:

اذهب فخذ ثلاثة آلاف درهم وعشرة أثواب وادفعها له، فإنْ قَبِلها جئني برأسه.

قال الحاجب: فجئته فقلت، هذا أرسل به المَلك إليك، فقال: لا حاجةّ لي به، هذه ثيابي مِن عهد أبي مُنذ أربعين سَنة كلّما خرجتُ إلى الناس لبستُها فإذا رجعت طويتها، ولي دار آكل مِن أُجرتها تركها لي أبي، فأنا في غنية عمّا أرسل به المَلك، فقلت: فَرّقها في فُقراء أهلك، فقال: فقراء أهله أحقّ بها.

٢٤١

الخامس: عِزّ الدولة بختيار بن مُعِزّ الدولة أحمد بن بويه

الديلمي (أبو منصور)

مَولدهُ وولايتُهُ ومُخالفتُه وصيّة أبيه:

وُلد سَنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة للهجرة، وُلّي المِلك بعد وفاة أبيه مُعِزّ الدولة سَنة ستٍّ وخمسين وثلاثمئة، ولمّا حضرته الوفاة وصّى بختيار بطاعة عمّه رُكن الدولة، واستشارته في كلّ ما يفعله، وبطاعة عَضُد الدولة ابن عمّه؛ لأنّه أكبر منه سِنّاً وأقوم بالسياسة، ووصّاه بتقرير كاتبيه أبي الفضل العبّاس بن الحسين، وأبي الفرج محمّد بن العبّاس لكفايتهما وأمانتهما، ووصّاه بالديلم والأتراك، وبالحاجب سبكتكين، فخالف هذه الوصايا جميعها، واشتغل باللهو واللعِب وعِشرة النساء والمساخر والمُغنين، وشرع في إيحاش كاتبيه وسبكتكين، فاستوحشوا، وانقطع سبكتكين عنه فلم يحضر داره، ونفى كبار الدَيلم عن مَملكته شَرَهاً إلى إقطاعاتهم وأموالهم وأموال المُتّصلين بهم، فاتّفق أصاغرهم عليه وطلبوا الزيادات، واضطر إلى مرضاتهم، واقتدى بهم الأتراك، فعملوا مِثل ذلك، ولم يتمّ له على سبكتكين ما يُريد لاحتياطه، واتّفق الأتراك معه، وخرج الديلم إلى الصحراء، وطالعوا بختيار بإعادة مَن أسقط منهم، فاحتاج أنْ يُجيبهم لتغيّر سبكتكين عليه، وفعل الأتراك أيضاً مِثل فعلهم، واتصل خَبر موت مُعِزّ الدولة بكاتبه أبي الفرج محمّد بن العباس - وهو مُتولّي أمر عُمان - فسلّمها إلى نوّاب عَضُد الدولة، وسار نحو بغداد، وكان سَببُ تسليمها إلى عَضُد الدولة أنّ بختيار لمّا مَلك بعد

٢٤٢

موت أبيه تفرّد أبو الفضل بالنظر في الأُمور، فخاف أبو الفرج أنْ يستمرّ انفراده عنه، فسَلّم عُمان إلى عَضُد الدولة؛ لئلاّ يُؤمَر بالمَقام فيها لحفظها وإصلاحها، وسار إلى بغداد فلم يتمكّن مِن الذي أراد، وتفرّد أبو الفضل بالوزارة.

ما كَتبَ عنه المُؤرّخون:

قال ابن خُلّكان:

وُلّي عِزّ الدولة مملكة أبيه يوم موته، وتزوّج الإمام الطائع ابنته شاه زمان على صداقٍ مبلغه مئة ألف دينار، وخطب خطبة العَقد القاضي أبو بكر بن فريعة، وذلك سَنة أربع وستّين وثلاثمئة، وكان عِزّ الدولة مَلكاً سرياً شديد القوى يُمسك الثور العظيم بقرنيه فيصرعه، وكان متوسّعاً في الإخراجات والكُلَف والقيام بالوظائف.

حكى بشر الشمعي ببغداد، قال:

سُئِلنا عند دخول عَضُد الدولة بن بويه - وهو ابن عمّ عِزّ الدولة - إلى بغداد لمّا ملكها بعد قتله عِزّ الدولة عن وظيفة الشمع الموقد بين يدي عِزّ الدولة، فقُلنا: كانت وظيفة وزيره أبي الطاهر محمّد بن بقية ألف مَنٍّ في كلّ شهر، فلم يُعاودوا التقصّي استكثاراً لذلك.

وقال ابن كثير:

مَلك بعد أبيه وعُمره فوق العشرين سَنة بقليل، وكان حَسُن الجسم، شديد البطش، قويّ القلب، يُقال إنّه كان يأخذ بقوائم الثور فيُلقيه على الأرض مِن غير أعوان، ويقصد الأُسود في أماكنها، ولكنّه كان كثير اللهو واللعب والإقبال على اللذّات، ولمّا كسره ابن عمّه ببلاد الأهواز كان في جُملة ما أُخذ منه أمرد، وكان يُحبّه حبّاً شديداً لا يهنأ بالعيش إلاَّ معه، فبعث يترفّق في ردّه إليه، وأرسل إليه بتُحف كثيرة وأموال جزيلة وجاريتين عوّادتين لا قيمة لهما، فردّ عليه الغلام المذكور، فكُثر تعنيف الناس له عند ذلك، وسقط مِن أعيُن الملوك، فإنّه كان يقول:

ذهاب هذا الغُلام منّي أشدّ عليَّ مِن أخذ بغداد مِن يدي، بل وأرض العراق كلّها، فأنت ترى ممّا ذَكره هذان المُؤرّخان، وابن الأثير في كامله، وغيرهم مِن ضعف سياسة عِزّ الدولة، وسوء سيرته، وانصرافه إلى كلّ لذائذ الشباب، وهو يَملك منها الشيء الكثير ما يُمهّد لابن عمّه عَضُد الدولة، وهو على غير هذه السيرة يسير في سياسة المِلك، ويقوم له بالعُذر في إنقاذ المملكة العراقيّة منه، وهي على شفا الخطر، والطامعون فيها كثيرون.

٢٤٣

عصيان أخيه حبشي عليه:

في السنة الثانية مِن مِلك عِزّ الدولة - وهي سَنة سبعٍ وخمسين وثلاثمئة - عصا حبشي بن مُعِزّ الدولة على أخيه بختيار، وكان بالبصرة لمّا مات والده، فحَسّن له مَن عنده مِن أصحابه الاستبداد بالبصرة، وذكروا له أنّ أخاه بختيار لا يَقدر على قصده فشرع في ذلك، فانتهى الخبر إلى أخيه، فسيّر وزيره أبا الفضل العبّاس بن الحسين إليه، وأمره بأخذه كيف أمكن، فأظهر الوزير أنّه يُريد الانحدار إلى الأهواز، ولمّا بلغَ واسط أقام بها ليُصلح أمرها، وكَتب إلى حبشي يَعده أنّه يُسلّم إليه البصرة سِلماً، ويصالحه عليها ويقول له:

إنّني قد لزمني مال على الوزارة ولا بدّ مِن مُساعدتي، فنفذ إليه حبشي مائتي ألف درهم، وتيقّن حصول البصرة له، وأرسل الوزير إلى عسكر الأهواز يأمرهم بقصد الأُبُلّة في يوم ذَكره لهم، وسار هو مِن واسط نحو البصرة، فوصلها هو وعسكر الأهواز لميعادهم، فلم يتمكّن حبشي مِن إصلاح شأنه وما يحتاج إليه، فظفروا به وأخذوه أسيراً وحبسوه برامهرمز، فأرسل عمّه رُكن الدولة وخلّصه، فسار إلى عَضُد الدولة فأقطعه إقطاعاً وافراً، وأقام إلى أنْ مات في آخر سنَة تسعٍ وستّين وثلاثمئة، وأخذ الوزير مِن أمواله بالبصرة شيئاً كثيراً، ومِن جُملة ما أخذ له خمسة عشر ألف مُجلّد، سوى الأجزاء والمَسرس وما ليس له جلد.

بَعضُ تصرّفات عِزّ الدولة في عَزل بعض وزرائه وتَعيين آخر ونفي بعض رجاله:

وفي سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة، قبض بختيار على وزيره أبي الفضل العبّاس بن الحسين وعلى جميع أصحابه، وقبض أموالهم وأملاكهم، واستوزر أبا الفرج محمّد بن العبّاس، ثُمّ عزل أبا الفرج وأعاد أبا الفضل، وفيها نفى شيرزاد، وكان قد غلب على أمر بختيار، فصار يُحكّم على الوزير والجُند وغيرهم، فأوحش الأجناد، وعِزّم الأتراك على قَتله، فمنعهم سبكتكين وقال لهم:

خوّفوه ليهرب، فهرب مِن بغداد، وعهد إلى بختيار ليحفظ ماله ومِلكه، فلمّا سار عن بغداد قبضَ بختيار أمواله وأملاكه ودوره، وكان هذا ممّا يُعاب به بختيار.

ثُمّ إنّ شيرزاد سارَ إلى رُكن الدولة ليصلح أمره مع بختيار، فتوفّي بالري عند وصوله إليها.

٢٤٤

حصر بختيار لعِمران بن شاهين:

في شوال سَنة تسعٍ وخمسين وثلاثمئة انحدر بختيار إلى البطيحة لمُحاصرة عِمران بن شاهين، وقد ذكرنا ذلك في أخبار ابن شاهين فلا نُعيده.

تزويج بختيار ابنته لأبي تغلب بن حمدان:

في سَنة ٣٦٠ تزوّج أبو تغلب بن حمدان ابنة عِزّ الدولة بختيار، وعُمرها ثلاث سنين على صداق مئة ألف دينار، وكان الوكيل في قبول العقد أبا الحسن عليّ بن عمر بن ميمون صاحب أبي تغلب بن حمدان، ووقع العقد في صَفر.

الفتنة في بغداد وبختيار والمُطيع لله:

في سنة إحدى وستّين وثلاثمئة وقعت ببغداد فتنة عظيمة، وأظهروا العصبيّة الزائدة، وتحزّب الناس، وظهر العيارون وأظهروا الفساد وأخذوا أموال الناس، وكان سَبب ذلك ما ذكرناه مِن استنفار العامّة للغُزاة، وقد بلغهم ما فعل الروم بالجزيرة، وسكوت أُمراء الأطراف كالحمدانيّين وغيرهم عن دفعهم، ومسير جماعة مِن أهل تلك البلاد مُستنفرين، وقاموا في الجوامع والمشاهد واسنفروا المسلمين، وذكروا ما فعله الروم مِن النهب القتل والأسر والسبي، فاستعظمه الناس وخَوّفهم أهل الجزيرة مِن انفتاح الطريق وطمع الروم، وأنّهم لا مانع لهم عندهم، فاجتمع معهم أهل بغداد وقصدوا دار الخليفة الطائع لله، وأرادوا الهُجوم عليه، فمُنعوا مِن ذلك وأُغلقت الأبواب، فأُسمعوا ما يقبح ذِكره، وكان بختيار حينئذ يتصيّد بنواحي الكوفة، فخرج إليه وجوه أهل بغداد مُستغيثين، مُنكرين عليه اشتغاله بالصيد وقتال عِمران بن شاهين وهو مسلم، وتَرْك جهاد الروم ومنعهم عن بلاد الإسلام حتّى توغّلوها، فوعدهم التجّهز للغُزاة، وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره بالتجّهز للغزو، وأنْ يستنفر العامّة ففعل سبكتكين ذلك، فاجتمع مِن العامّة عدد كثير لا يُحصون كثرة، وكَتب بختيار إلى أبي تغلب بن حمدان صاحب الموصل يأمره بإعداد الميرة والعلوفات، ويُعرفه عَزمه على الغزاة، فأجابه بإظهار الفرح وإعداد ما طلب منه، ولمّا اجتمع عامّة

٢٤٥

بغداد وكثروا، وتولّد بينهم مِن أصناف البنوية والفتيان والسُنّة والشيعة والعيارين، فنُهبت الأموال وقُتل الرجال وأُحرقت الدور، وفي جُملة ما احترق محلّة الكرخ، وكانت معدن التجّار والشيعة، وجرى بسبب ذلك فتنة بين النقيب أبي أحمد الموسوي والوزير أبي الفضل الشيرازي وعداوة.

ثُمّ إنّ بختيار أنفذ إلى المُطيع لله يطلب منه مالاً يُخرجه في الغُزاة، فقال المطيع:

إنّ الغزاة والنفقة عليها وغيرها مِن مصالح المسلمين تلزمني إذا كانت الدُنيا في يدي وتُجبى إليّ الأموال، وأمّا إذا كان حالي هذه، فلا يلزمني شيء مِن ذلك، وإنّما يلزم مَن البلاد في يده وليس له إلاّ الخطبة، فإنْ شئتم أنْ أعتزل فعلت.

وتردّدت الرسائل بينهما حتّى بلغوا إلى التهديد، فبذل المُطيع لله أربعمئة ألف درهم، فاحتاج إلى بيع ثيابه وأنقاض داره وغير ذلك، وشاع بين الناس مِن العراقيين وحجافج خُراسان أنّ الخليفة قد صودر، فلمّا قبضَ بختيار المال صرفه في مصالحه وبطل حديث الغُزاة.

عزل أبي الفضل مِن وزارة عِزّ الدولة ووزاة ابن بقية:

وفي سنة ٣٦٢هـ عُزِل الوزير أبو الفضل العبّاس بن الحسين من وزارة عِزّ الدولة بختيار في ذي الحجّة، واستوزر محمّد بن بقية، فعجب الناس لذلك؛ لأنّه كان وضيعاً في نفسه مِن أهل أوانا، وكان أبوه أحد الزرّاعين لكنّه كان قريباً مِن بختيار، وكان يتولّى له المطبخ، ويُقدّم إليه الطعام ومنديل الخوان على كتفه إلى أنْ استوزر، وحُبس الوزير أبو الفضل فمات عن قريب، فقيل: إنّه مات مسموماً، وكان في ولايته مُضيّعاً لجانب الله، فمِن ذلك أنّه أحرق الكرخ ببغداد فهلك فيه مِن الناس والأموال ما لا يُحصى، ومِن ذلك أنّه ظلَم الرعيّة، وأخذ الأموال ليُفرّقها على الجُند ليَسلُم فما سلّمه الله تعالى ولا نفعه ذلك، وكان ما فعله مِن ذلك أبلغ الطرق التي سلكها أعداؤه مِن الوقيعة فيه والسعي به، وتمشّى لهم ما أرادوا لِما كان عليه مِن تفريطه في أمر دينه وظُلم رعيّته، وعقبَ ذلك أنْ ماتت زوجته وهو محبوس وحاجبه وكاتبه، فخربتْ داره وعفا أثرها.

وأمّا ابن بقية، فإنّه استقامت أُموره، ومشت الأحوال بين يديه بما أخذه مِن أموال أبي الفضل وأموال أصحابه، فلمّا فني ذلك عاد إلى ظُلم الرعيّة، فانتشرت الأُمور على يده، وخربت النواحي، وظهر العيارون وعلموا ما أرادوا، وزاد الاختلاف بين

٢٤٦

الأتراك وبين بختيار، فشرع ابن بقية في إصلاح الحال مع بختيار وسبكتكين، فاصطلحوا وكانت هدنة على دخن، وركب سبكتكين إلى بختيار ومعه الأتراك فاجتمع به، ثُمّ عاد الحال إلى ما كان عليه مِن الفساد، وسَبب ذلك أنّ ديلميّاً اجتاز بدار سبكتكين وهو سكران، فرمى الروشن بزوبين في يده فأثبته فيه، وأحسّ به سبكتكين فصاح بغلمانه فأخذوه، وظنّ سبكتكين أنّه قد وضع على قتله، فقرّره فلم يعترف، وأنفذه إلى بختيار، وعرّفه الحال فأمر به فقُتل، فقوي ظنّ سبكتكين أنّه كان وضعه عليه وإنّما قتله لئلاّ يُفشي ذلك، وتحرّك الديلم لقتله وحملوا السلاح، ثُمّ أرضاهم بختيار فرجعوا.

استيلاءُ بختيار على الموصل:

في ربيع الأول سنة ٣٦٣هـ سار بختيار إلى الموصل ليستولي عليها وعلى أعمالها وما بيد أبي تغلب بن حمدان، وقد ذكرنا ذلك في أخبار بني حمدان فلا نُعيده.

الفِتنةُ بينَ بختيار وأصحابه:

في هذه السنَة ابتدأت الفتنة بين الأتراك والديلم بالأهواز، فعمّت العراق جميعه واشتدّت، وكان سبَب ذلك أنّ عِزّ الدولة بختيار قلّتْ عنده الأموال، وكثر إدلال جنده عليه واطّراحهم لجانبه وشَغبهم عليه، فتعذّر عليه القرار، ولم يجد ديوانه ووزيره جهة يحتال منها بشيء، وتوجّهوا إلى الموصل لهذا السبب فلم ينفتح عليهم، فرأوا أنْ يتوجّهوا إلى الأهواز، ويتعرّضوا لبختكين آزادرويه وكان مُتولّيها، ويعملوا له حجّة يأخذون منه مالاً ومِن غيره، فسار بختيار وعسكره وتَخلّف عنه سبكتكين التُركي، فلمّا وصلوا إلى الأهواز خَدَم بختيار، وحَمل له أموالاً جليلة المقدار، وبذل له مِن نفسه الطاعة، وبختيار يُفكّر في طريق يأخذه به، فاتّفق أنّه جرى فتنة بين الأتراك والديلم، وكان سببها أنّ بعض الديلم نزلوا داراً بالأهواز، ونزل قريباً منه بعض الأتراك، وكان هُناك لِبْن موضوع، فأراد غُلام الديلمي يبني منه مَعلفاً للدواب، فمنعه غلام التركي فتضاربا، وخرج كلّ واحد مِن التُركي والديلمي إلى نُصرة غُلامه، فضعُف التركي عنه، فركب واستنصر بالأتراك، فركبوا وركب الديلم، وأخذوا السلاح فقُتِل بينهم بعضُ قوّاد الأتراك، وطلب الأتراك بثأر

٢٤٧

صاحبهم، وقتلوا به مِن الديلم قائداً أيضاً، وخرجوا إلى ظاهر البلد، واجتهد بختيار في تسكين الفتنة فلم يُمكنه ذلك، فاستشار الديلم فيما يفعله - وكان أُذناً يَتبع كلّ قائل - فأشاروا عليه بقبض رؤساء الأتراك لتصفو له البلاد، فأحضروا آزادرويه وكاتبه سهل بن بشر وسباشى الخوارزمي يكتيجور - وكان حِماً لسبكتكين - فحضروا فاعتقلهم وقيّدهم، وأطلق الديلم في الأتراك، فنهبوا أموالهم ودوابهم، وقُتل بينهم قتلى، وهرب الأتراك، واستولى بختيار على إقطاع سبكتكين فأخذه، وأمر فنودي بالبصرة بإباحة دمِ الأتراك.

حيلةٌ لبختيار عادتْ عليه:

كان بختيار قد واطأ والدته وإخوته أنّه إذا كَتب إليهم بالقبض على الأتراك يُظهرون أنّ بختيار قد مات ويجلسون للعِزّاء، فإذا حضر سبكتكين عندهم قبضوا عليه، فلمّا قَبض بختيار على الأتراك، كَتب إليهم على أجنحة الطيور يُعرفهم ذلك، فلمّا وقفوا على الكُتب وقع الصُراخ في داره، وأشاعوا موته ظنّاً منهم أنّ سبكتكين يَحضر عندهم ساعة يبلغه الخَبر، فلمّا سَمع الصُراخ أرسل يسأل عن الخَبر، فأعلموه، فأرسل يسأل عن الذي أخبرهم، وكيف أتاهم الخبر؟ فلم يجد نَقلاً يَثق القلب به، فارتاب بذلك ثُمّ وصله رُسله الأتراك بما جرى، فعَلِم أنّ ذلك كان مكيدة عليه، ووعّاه الأتراك إلى أنْ يتآمر عليهم فتوقف، وأرسل إلى أبي إسحاق بن مُعِزّ الدولة يُعلمه أنّ الحال قد انفسد بينه وبين أخيه، فلا يُرجى صلاحه، وأنّه لا يرى العُدول عن طاعة مواليه وإنْ أساؤوا إليه، ويدعوه إلى أنْ يَعقد الأمر له، فعَرض قوله على والدته فمنعته، فلمّا رأى سبكتكين ذلك ركب في الأتراك، وحصر دار بختيار يومين ثُمّ أحرقها، ودخلها وأخذ أبا إسحاق وأبا طاهر ابني مُعِزّ الدولة ووالدتهما ومَن كان معهما، فسألوه أنْ يُمكّنهم مِن الانحدار إلى واسط ففعل، وانحدروا وانحدر مَعهم المُطيع لله في الماء، فأنفذ سبكتكين فأعاده وردّه إلى داره، وذلك تاسع ذي القعدة، واستولى على ما كان لبختيار جميعه ببغداد، ونزل الأتراك في دور الديلم، وتتبّعوا أموالهم وأخذوها، وثارت العامّة مِن أهل السُنّة ينصرون سبكتكين؛ لأنّه كان يتسنّن، فخلع عليهم وجعل لهم العرفاء والقوّاد، فثاروا بالشيعة وحاربوهم، وسُفكتْ بينهم الدماء، وأُحرقت الكرخ حريقاً ثانياً، وظهرت السُنّة عليهم.

٢٤٨

وفي هذه السنة خُلع المطيع لله ووُلّي الخلافة مكانه ولده الطائع لله، واسمه أبو الفضل عبد الكريم.

حال بختيار بعد قبض الأتراك:

لمّا فَعل بختيار ما مَرّ ذِكره مِن قبض الأتراك ظفرَ بذخيرة لآزادرويه بجنديسابور فأخذه، ثُمّ رأى ما فعله الأتراك مع سبكتكين، وأنّ بعضهم بسواد الأهواز قد عصوا عليه، واضطرب عليه غُلمانه الّذين في داره، وأتاه مشايخ الأتراك مِن البصرة فعاتبوه على ما فعل بهم، وقال له عقلاء الديلم:

لا بدَّ لنا في الحرب مِن الأتراك يدفعون عنّا بالنشّاب، فاضطرب رأي بختيار ثُمّ أطلق آزادرويه، وجعله صاحب الجيش موضع سبكتكين، وظنّ أنّ الأتراك يأنسون به، وأطلق المُعتقلين وسار إلى والدته وإخوته بواسط، وكَتب إلى عمّه رُكن الدولة وابن عمّه عَضُد الدولة يسألهما أنْ يُنجداه، ويكشفا ما نزل به، وكَتب إلى أبي تغلب بن حمدان يطلب منه أنْ يُساعده بنفسه، وأنّه إذا فعل ذلك أسقط عنه المال الّذي عليه، وأرسل إلى عِمران بن شاهين بالبطيحة خِلَعاً وأسقط عنه باقي المال الّذي اصطلحا عليه، وخطب إليه إحدى بناته، وطلب منه أنْ يُسيِّر إليه عسكر.

فأمّا رُكن الدولة عمّه، فإنّه جهّز عسكراً مع وزيره أبي الفتح بن العميد، وكتب إلى ابنه عَضُد الدولة يأمره بالمسير إلى ابن عمّه، والاجتماع مع ابن العميد، فأمّا عَضُد الدولة، فإنّه وَعَد بالمسير وانتظر ببختيار الدوائر طَمعاً في مُلك العراق، وأمّا عِمران بن شاهين، فإنّه قال:

أمّا إسقاط المال، فنحن نَعلم أنّه لا أصل له وقد قبلته، وأمّا الوصلة، فإنّني لا أتزوج أحداً إلاّ أنْ يكون الذِكر مِن عندي، وقد خطب إليَّ العلويّون وهم موالينا فما أجبتهم إلى ذلك، وأمّا الخِلع والفرس، فإنّي لست ممَّن يلبس ملبوسكم وقد قبلها ابني، وأمّا إنفاذ عسكر، فإنّ رجالي لا يسكنون إليكم لكثرة ما قتلوا منكم.

ثُمّ ذَكر ما عامَله به هو وأبوه مرّة بعد أُخرى، وقال: ومع هذا فلا بد أنْ يحتاج إلى أنْ يدخل بيتي مُستجيراً بي والله لأُعاملنّه بضدّ ما عاملني به هو وأبوه فكان كذلك.

وأمّا أبو تغلب بن حمدان، فإنّه أجاب إلى المُسارعة، وأنفذ أخاه أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان إلى تكريت في عسكر، وانتظر انحدار الأتراك عن بغداد فإنْ ظفروا ببختيار دخل بغداد مالكاً له، فلمّا انحدر الأتراك عن بغداد

٢٤٩

سار أبو تغلب إليها يوجب على بختيار الحجّة في إسقاط المال الّذي عليه، ووصل إلى بغداد والناس في بلاء عظيم مع العيارين، فحمى البلد وكفّ أهل الفساد.

وأمّا الأتراك، فإنّهم انحدروا مع سبكتكين إلى واسط، وأخذوا معهم الخليفة الطائع لله والمُطيع أيضاً وهو مخلوع، فلمّا وصلوا إلى دير العاقول تُوفّي بها المُطيع لله، ومَرض سبكتكين فمات بها أيضاً، فحُملا إلى بغداد، وقدِم الأتراك عليهم الفتكين، وهو مِن أكابر قوّادهم وموالي مُعزّ الدولة، وفرح بختيار بموت سبكتكين، وظنّ أنْ أمرَ الأتراك ينحلّ وينتشر بموته، فلمّا رأى انتظام أُمورهم ساءه ذلك.

ثُمّ إنّ الأتراك ساروا إليه وهو بواسط، فنزلوا قريباً منه، وصاروا يُقاتلونه نوائب نحو خمسين يوم، ولم تزل الحرب بين الأتراك وبختيار مُتّصلة، والظَفر للأتراك في كلّ ذلك، وحصروا بختيار واشتدّ عليه الحصار وأحدقوا به، وصار خائفاً يترقّب، وتابع إنفاذ الرُسل إلى عَضُد الدولة بالحثّ والإسراع، وكَتب إليه:

فإنْ كُنتُ مأكولاً فكنْ أنت آكلي وإلاّ فأدرُكني ولمّا أُمزّق

فلمّا رأى عَضُد الدولة ذلك، وأنّ الهمّ قد بلغَ ببختيار ما كان يرجوه سارَ نحو العراق نجدة له وباطنه بِضدّ ذلك.

استيلاءُ عَضُد الدولة على العراق وقَبضُ بختيار:

تقدّم الخَبر عن ذلك في أخبار عَضُد الدولة مِن هذا الجُزء، وذلك في سنة ٣٦٤هـ فراجعه.

عودُ بختيار إلى مُلكه:

مرّ خبر عوده إلى مُلكه بواسطة عَمّه رُكن الدولة والد عَضُد الدولة في هذه السَنة في أخبار عَضُد الدولة، فراجعه.

مَسيرُ عَضُد الدولة إلى العراق والحرب بينه وبين بختيار وانهزام بختيار:

قد عرفتَ ممّا سَبقَ تركُ عَضُد الدولة العراق في سَنة أربع وستّين وثلاثمئة بعد مِلكها، وقبضه على بختيار واستياء رُكن الدولة مِن وَلده عَضُد

٢٥٠

الدولة، وإلجائه أخيراً إلى الرجوع إلى مملكته فارس، والتَخلّي عن العراق لبختيار تَركَ عَضُد الدولة العراق مُكرهاً مُلجأً مِن والده، وهو يضمر العودة إليه، وما كان ذلك إلاّ لأجَلٍ هو بالغه قريباً، وما بين والده والموت إلاّ أنْ يَنزُل به، وهو الذي أناف على السبعين أو الثمانين، وما مضى على تخليته العراق قِبلَة أنظاره سوى العام وبعض العام، ودخلت سَنة ستّ وستّين والأُمور عن بختيار في إدبار، وهو في جيش مُنقسم على نفسه مِن قبيلين مُختلفين مُتنازعين على السلطة: الديلم والترك، دعْ نضوب المال مِن خُزانته، وهو عَصب الدولة، بل كلّ عَمل في الدنيا، ممّا اضطرّه لاستنصار ابن عمّه عَضُد الدولة الطامع في مُلكه، وهو يستشهد في استنصاره وقد ضاق به الخِناق، وفسدت عليه العراق بالبيت المشهور:

فإنْ كُنتُ مأكولاً فكنْ أنتَ آكلي وإلاّ فأدرُكني ولمّا أُمزّق

فكان مِن طموح عَضُد الدولة وطمعه في العراق واستنجاد مَلكها المستضعف الفارّ مِن سلطة الأتراك مِن بغداد ما هيّأ له تحقيق آماله، كما عرفت الخَبر عن ذلك في أخبار عَضُد الدولة مِن هذا الجُزء.

استيلاء عَضُد الدولة على العراق ومَقتل بختيار:

دخلتْ سَنة سبع وستّين، ودخل عَضُد الدولة بغداد، وأخرج منها بختيار بعد أنْ خيره في المسير إلى الجهة التي يختارها على أنْ يَضمن له المُساعدة بما يحتاج إليه مِن مال وسلاح وغير ذلك، وبعد أنْ أجاب ولبس خلعته وغادر بغداد مؤكّداً لابن عمّه العمل بما أخذ عليه مِن العهود والمواثيق أنْ لا يقصد ولاية أبي تغلب بن حمدان، ولكنّه نَكث تلك العهود والمواثيق، وقصد ابن حمدان وجَرّد حملة، وسار هو وابن حمدان نحو العراق لمُقاتلة عَضُد الدولة، فانتهى الأمر بقتله - كما مَرّ الخبر عن ذلك في أخبار بني حمدان وعَضُد الدولة في سنة ٣٦٧ - ثُمّ باستيلاء عَضُد الدولة على مُلك بني حمدان الموصل وأعمالها، وفي سنة ٣٦٨ على ميافارقين وديار مضر، وفرار أبي تغلب إلى بلاد الشام وقتله سنة ٣٦٩، وقد بسطنا الخبر عن ذلك كلّه في أخبار الحمدانيّين فلا نُعيده.

قال ابن خُلّكان:

وكان بين عزّ الدولة وابن عمّه عَضُد الدولة مُنافسات في الممالك أدّت إلى التنازع، وأفضتْ إلى التصاف والمُحاربة،

٢٥١

فالتقيا يوم الأربعاء ثامن عشر شوال سنة سبعٍ وستّين وثلاثمئة، فقُتِل عِزّ الدولة في المصاف، وكان عُمره ستّاً وثلاثين سَنة، وحُمل رأسه في طست ووُضع بين يَدَي عَضُد الدولة، فلمّا رآه وضع منديله على عينيه وبكى.

تَناقضٌ في خَبر ابن كثير بيِّنٌ:

قال: مَلكَ [ بختيار ] بعد أبيه وعُمره فوق العشرين سَنة بقليل، ثُمّ قال بعد ذلك بقليل: فكانت مُدّة حياته ستّاً وثلاثين سَنة، ومُدّة دولته منها إحدى وعشرين سنَة وشُهور، وعلى هذا فإنْ كان عُمر بختيار عند مِلكه فوق العشرين، وكانت مُدّة دولته إحدى وعشرين سَنة وشهور، فإنّ مُدّة حياته تكون إحدى وأربعين سَنة ونيّف، وقال: وهو الذي أظهر الرفض ببغداد، وجرى بسبب ذلك شُرور، وقد ذَكر في خبر وفاة والده مُعزّ الدولة أنّه هو الذي أظهر الرفض ونَصر عليه.

السادس: أبو مَنصور بويه المُلقّب مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة بن بويه الدَيلمي:

مولده : وُلد في جمادى الآخرة سَنة ثلاثين وثلاثمئة.

تزوّجه: في سنة ثمان وأربعين وثلاثمئة سار مُؤيّد الدولة مِن الري إلى بغداد، فتزوج بابنة عمّه مُعزّ الدولة ونقلها معه إلى الري، ثُمّ عاد إلى أصبهان.

أبو منصور بويه في الولاية:

إنّ بويهاً كان في عهد أبيه رُكن الدولة يلي بعض بلاده ولعلّها خُراسان، فإنّ ابن الأثير يقول في أخبار سَنة ستّين وثلاثمئة:

وفيها استوزر مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة الصاحب أبا القاسم بن عبّاد، وأصلح أُموره كلّها.

وقال ابن خُلّكان في ترجمة الصاحب هذا نقلاً عن كتاب التاجي للصابئ:

أنّه إنّما قيل له الصاحب؛ لأنه صحب مُؤيّد الدولة بن بويه مُنذ الصبا، وسمّاه الصاحب فاستمرّ عليه هذا اللقب واشتهر به، ثُمّ سُميّ به كلّ مَن وُلّي الوزارة بعده، وكان أوّلاً وزير مُؤيّد الدولة أبي منصور بويه بن

٢٥٢

رُكن الدولة بن بويه الديلمي تولّى وزارته بعد أبي الفتح عليّ بن الفضل بن العميد.

وعلى هذا، فيكون الصاحب ثاني مَن استوزر لأبي منصور، ويَظهر ممّا جاء في كامل ابن الأثير - كما هو المعروف - أنّ أبا الفتح كان وزير أبيه رُكن الدولة، وَليها له بعد أبيه أبي الفضل بن العميد.

وفي سنة ٣٦٣ جهّز معه عسكراً لنجدة ابن أخيه بختيار في فتنة الأتراك في العراق، وإخراجهم له مِن بغداد ومُحاربتهم له كما مرّ ذلك في أخبار بختيار.

ولايته بعد وفاة أبيه رُكن الدولة:

وفي سنة ٣٦٥هـ بعد ترك عَضُد الدولة العراق إلى ابن عمّه بختيار بعد قبضه والاستيلاء على مُلكه، واستياء أبيه رُكن الدولة منه كما عرفت ذلك، خاف عَضُد الدولة - بعد أنْ شاع غَضب أبيه عليه عند الخاصّ والعام - أنْ يموت أبوه وهو على حال غَضبه، فيختلّ مُلكه وتزول طاعته، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد وزير أبيه يَطلب وساطته للحضور عند أبيه، وأنْ يُمهّد له بالمُلك بعده، فسعى أبو الفتح بذلك وأجابه رُكن الدولة إليه، وسار مع ضعفه ومَرضه وكِبَر سِنّه، وقد وجد مِن نفسه خِفّة مِن الريّ إلى أصبهان، وجمع عنده سائر أولاده وقوّاده وأجناده، وبعد الفراغ مِن طعام وليمة أولَمها لهم أبو الفتح عَهِد إلى ولده عَضُد الدولة بالمُلك بعده، وجعل لولده فَخر الدولة أبي الحسن على همذان وأعمال الجبل، ولولده مُؤيّد الدولة أصبهان وأعماله، وجعلهما في هذه البلاد بحُكم أخيهما عَضُد الدولة، وبعد الخَلع على عَضُد الدولة وسائر الناس في ذلك اليوم، وإجراء المراسيم والتقاليد المعروفة في ذلك العهد، والإيصاء إلى أولاده بالاتّفاق وتَرْك الاختلاف عادَ إلى الري، ولازمه المرض إلى أنْ توفّي في المحرّم سنة ٣٦٦، ولكن ما أوصى به مِن الاتّفاق وترك الاختلاف بين الإخوة، وما أهمّه وأمرضه وأرمضه مِن طَمع وَلده عَضُد الدولة بمملكة ابن أخيه بختيار، ومُلك عَضُد الدولة لها في حياته، ثُمّ تخلّيه عنها اجتناباً لغَضب والده، وما أعقبه ويُعقبه عليه ذلك الغَضب، لم يكن ذلك إلاّ موقوتاً لأجَلٍ وموصولاً حبله بحبل حياة والده، ولم يقضِ نَحبه حتى عاد عَضُد الدولة إلى تنفيذ خُطّته مِن امتلاك العراق على ابن عمّه بختيار، فكان له ما أراد وكانت النهاية ما عرفت.

٢٥٣

قبضُ مُؤيّد الدولة على ابن العميد:

وفي هذه السَنة لمّا مَلك عَضُد الدولة بعد موت أبيه كَتب إلى أخيه فَخر الدولة بالري يأمره بالقبض على أبي الفتح بن العميد، وعلى أهله وأصحابه؛ لأُمور نقمها عليه - وقد سبق بيانه - ففعل فَخر الدولة ما أُمر به.

ذَكر هذا ابن الأثير، وأن القابض على ابن العميد هو فخر الدولة، ولكنّه يقول بعد ذلك في مكان واحد: أنّ المُتولّي لقبضه هو مُؤيّد الدولة، وهذا هو الأصحّ، فقد جاء في وفيات الأعيان:

ولم يزل أبو الفتح في وزارة رُكن الدولة إلى أنْ تُوفّي، وقام بالأمر ولده مُؤيّد الدولة فاستوزره أيضاً، وأقام إلى ذلك مدّة مديدة، وكانت بينه وبين الصاحب بن عبّاد مُنافرة، ويُقال إنّه أغرى قلب مُؤيّد الدولة عليه، فظهر له منه التَنكّر والإعراض، وقبض عليه في بعض شهور سَنة ٣٦٦هـ.

وقال الثعالبي: اجتاح ماله وقَطع أنفه وجزّ لحيته.

وقال غيره: وقطع يديه، فلمّا أيس مِن نفسه، وعَلِم أنّه لا مَخلص له ممّا هو فيه ولو بذل جميع ما تحتوي عليه يَده، فشقّ جيب جُبّة كانت عليه، واستخرج منها رقعة فيها تَذكرة بجميع ما كان له ولوالده مِن الذخائر والدفائن وألقاها في النار، فلمّا عَلِم أنّها قد احترقت، قال للمُتوكّل به:

افعل ما أُمرت به فوالله لا يصل إلى صاحبك مِن أموالنا درهم واحد، فلم يزل يعرضه على أنواع العذاب حتّى تَلف.

قصدُ عَضُد الدولة أخاه فَخر الدولة وأخذه بلاده وتسليمها إلى أخيهما مُؤيّد الدولة:

وهذه الثانية مِن مُخالفة عَضُد الدولة لوصيّة والده له ولأخَويه، فإنّه في هذه السنة سار إلى بلاد الجبل فاحتوى عليه، وكان سَبب ذلك - كما سبق بيانه - ما كان قد جرى مِن المُكاتبة بين بختيار وفخر الدولة مِن الاتفاق على عَضُد الدولة، وحاول عَضُد الدولة أنْ يُصلح هذا الأمر، فراسل أخويه فخر الدولة ومُؤيّد الدولة وقابوس بن وشمكير يُشير عليه بحفظ العُهود.

أمّا جواب فخر الدولة، فكان جواب المناظر المناوئ، ناسياً كِبَر سنّ أخيه وسعة مُلكه وعهد أبيه، وجواب قابوس جواب المُراقب، وجواب مُؤيّد الدولة البقاء على الطاعة، ثُمّ انتهاء الأمر - كما سَبق في أخبار عَضُد الدولة - بمُلك عَضُد الدولة ما كان بيد فَخر الدولة: همذان والري وما بينهما، وتسليمها إلى

٢٥٤

أخيه مُؤيّد الدولة، وجعله خليفته ونائبه في تلك البلاد، ثُمّ نزوله الريّ واستيلاؤه على تلك النواحي.

إقطاع عَضُد الدولة أخاه مُؤيّد الدولة همذان:

وفي سنة ٣٧٠هـ أرسل الصاحب بن عبّاد إلى عَضُد الدولة بهمذان رسولاً مِن عند أخيه مُؤيّد الدولة يبذل له الطاعة والموافقة، فالتقاه عَضُد الدولة بنفسه، وأكرمه وأقطع أخاه مُؤيّد الدولة همذان وغيره، وأقام عند عَضُد الدولة إلى أنْ عاد إلى بغداد فردّه إلى مُؤيّده الدولة، فأقطعه أقطاعاً كثيرة، وسيّر معه عسكراً يكون عند مُؤيّد الدولة في خدمته.

استيلاءُ عَضُد الدولة على جرجان بواسطة مُؤيّد الدولة:

وفي سَنة ٣٧١هـ استولى عَضُد الدولة على بلاد جرجان وطبرستان، وأجلى عنها قابوس بن وشمكير؛ لاحتماء فَخر الدولة، ورَفضه طَلبه بتسليم أخيه مع ما بَذله له لقاء ذلك مِن رغائب في البلاد، ومن أموال وعُهود، فجهّز أخاه مُؤيّد الدولة، وسَيّر معه العساكر والأموال والعدد إلى جرجان والتقوا باستراباذ، فاقتتلوا فانهزم قابوس وأصحابه، وجرت حُروب أُخرى بعد انضمام نجدات إلى فَخر الدولة انتهت كلّها بظَفر مُؤيّد الدولة، كما سبقَ تفصيل ذلك في أخبار عَضُد الدولة.

وفاة مُؤيّد الدولة:

وفي شعبان سَنة ٣٧٣هـ توفي مُؤيّد الدولة بجرجان، وكانت علّته الخوانيق، وقال له الصاحب بن عبّاد: لو عهدت إلى أحد، فقال: أنا في شُغل عن هذا، ولم يَعهد بالمُلك إلى أحد، وكان عُمره ثلاث وأربعين سَنة، وجلس صمصام الدولة للعزاء ببغداد، فأتاه الطائع لله مُعزّياً فلقيه في طيارة.

قال ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية:

وممَّن توفّي مِن الأعيانبويه مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة ، وكان مَلكاً على بعض ما كان أبوه يَملكه، وكان الصاحب بن عبّاد وزيره، وقد تزوّج مُؤيّد الدولة هذا ابنة عمّه مُعزّ الدولة، فغَرم على عرسه سبعمئة ألف دينار، وهذا أمرٌ عظيم.

٢٥٥

السابع: أبو الحسن عليّ بن رُكن الدولة بن بويه المُلقّب فَخر الدولة الديلمي:

مولده: هو ثالث الأخوة مِن أولاد رُكن الدولة، وُلد سَنة إحدى وأربعين وثلاثمئة.

أوّل عهده في المُلك:

لم نجد له ذِكراً في ولايةٍ أو مُلك في عهد أبيه رُكن الدولة، وقد سبق أنّ أباه رُكن الدولة قبل وفاته عَهِد إلى أكبر أخَويه عَضُد الدولة بالمُلك، ولأخيه مُؤيّد الدولة بأصبهان بأعماله، ولهذا بهمذان وأعمال الجبل، على أنْ يكون هو وأخوه في هذه البلاد بحُكم أخيهم، وبعد وفاة رُكن الدولة قبضَ كلّ واحد منهم على عَمله، وذلك في سنة ٣٦٦هـ.

مُخالفته على أخيه عَضُد الدولة:

لقد ذكرنا خَبر مُخالفته على أخيه عَضُد الدولة، ومسيره إلى بلاد الجبل واحتواءه عليه، وتسليمها إلى أخيه مُؤيّد الدولة، وأسباب ذلك الاختلاف في أخبار عَضُد الدولة ومُؤيّد الدولة فلا نُعيده، وكان ذلك في سنة ٣٦٩ و٣٧١، ولم يرد له ذِكر بعد هذا إلى سَنة ٣٧٣.

عودُهُ إلى مَملكته:

في هذه السنة التّي مات فيها أخوه مُؤيّد الدولة، ولم يعهد بالمُلك لأحد كما سبق بيانه، تشاور أكابر دولته فيمَن يقوم مقامه، فأشار الصاحب بن عبّاد بإعادة فَخر الدولة إلى مَملكته إذ هو كبير البيت، ومالك تلك البلاد قبل مُؤيّد الدولة، ولمِا فيه مِن آيات الإمارة والمَلك، فكَتب إليه واستدعاه وهو بنيسابور، وأرسل الصاحب إليه واستخلفه لنفسه، وأقام في الوقت خسرو فيروز بن رُكن الدولة ليُسكّن الناس إلى قُدوم فَخر الدولة، فلمّا وصلت الأخبار إلى فَخر الدولة سار إلى جرجان، فلقيه العسكر بالطاعة، وجلس في دست ملكي في رمضان بغير منّة لأحد، فسُبحان مَن إذا أراد أمراً كان، ولمّا عاد إلى مَملكته، قال له الصاحب:

يا مولانا، قد بلغك الله

٢٥٦

وبلغني فيه ما أمّلته، ومِن حُقوق خدمتي لك إجابتي إلى ترك الجُنديّة، ومُلازمة داري، والتوفّر على أمر الله.

فقال: لا تقلْ هذا، فما أُريد المَلك إلاّ لك، ولا يستقيم لي أمرٌ إلاَّ بك، وإذا كَرهتَ مُلابسة الأُمور كَرهتُها أنا أيضاً وانصرفتُ.

فقبّل الأرض وقال: الأمر لك، فاستوزره وأكرمه وعظّمه، وصدر عن رأيه في جليل الأُمور وصغيرها، وسُيّرت الخِلع مِن الخليفة إلى فَخر الدولة والعهد، واتّفق فَخر الدولة وصمصام الدولة فصارا يداً واحدة.

استجارة أبي العبّاس تاش بفَخر الدولة:

لمّا عُزل أبو العبّاس عن خُراسان بابن سيمجور، عادَ عن بخارا إلى نيسابور، استوزر الأمير نوح عبد الله بن عزيز - وكان ضدّاً لأبي الحُسين العتبي وأبي العبّاس - فلمّا وُلّي الوزارة بدأ بعزل أبي العبّاس عن خُراسان، وإعادة أبي الحسن سيمجور إليه، فكَتب مَن بخُراسان مِن القوّاد إليه يسألونه أنْ يُقرّ أبا العبّاس على عمله، فلم يُجبهم إلى ذلك، فكَتب أبو العبّاس إلى فَخر الدولة بن بويه يستمدّه، فأمدّه بمال كثير وعَسكر، فأقاموا بنيسابور وأتاهم أبو محمّد عبد الله بن عبد الرزاق مُعضِداً لهم على ابن سيمجور، وكان أبو العبّاس حينئذ بمرو، فلمّا سمع أبو الحسن بن سيمجور وفائق بوصول عسكر فخر الدولة إلى نيسابور قصدوهم، فانحاز عسكر فَخر الدولة وابن عبد الرزاق وأقاموا ينتظرون أبا العبّاس، ونزل ابن سيمجور ومَن معه بظاهر نيسابور، ووصل أبو العبّاس فيمَن معه، واجتمع بعسكر الديلم ونزل بالجانب الآخر، وجرى بينهم حروب عدّة أيام، وتحصّن ابن سيمجور بالبلد، وأنفذ فَخر الدولة إلى أبي العبّاس عسكراً آخر أكثر مِن ألفي فارس، فلمّا رأى ابن سيمجور قوّة أبي العبّاس انحاز عن نيسابور، فسار عنها ليلاً، وتبعه عسكر أبي العبّاس فغنموا كثيراً مِن أموالهم ودوابهم، واستولى أبو العبّاس على نيسابور، وأرسل الأمير نوح بن منصور يستميله ويستعطفه، ولجّ ابن عزيز في عَزله، ووافقه على ذلك والدة الأمير نوح - وكانت تَحكم في دولة ولدها - وكانوا يصدرون عن رأيه، ولمّا انهزم ابن سيمجور أقام أبو العبّاس بنيسابور يستعطف الأمير نوحاً ووزيره ابن عزيز، وترك اتّباع ابن سيمجور وإخراجه مِن خراسان، فتراجع إلى ابن سيمجور أصحابه المنهزمون، وعادت قوّته وأتته الأمداد مِن بخارا، وكاتب شرف الدولة أبا

٢٥٧

الفوارس بن عَضُد الدولة وهو بفارس يستمدّه، فأمدّه بألفَي فارس مُراغمة لعمّه فَخر الدولة، فلمّا كثف جمعه قصد أبا العبّاس، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً إلى آخر النهار، فانهزم أبو العبّاس وأصحابه، وأُسر منهم جماعة كثيرة، وقَصد أبو العبّاس جرجان وبها فخر الدولة، فأكرمه وعظّمه وترك له جرجان ودهستان واستراباذ صافية له ومَن معه، وسار عنها إلى الري وأرسل إليه الأموال والآلات ما يحيل عن الوصف، وأقام أبو العبّاس بجرجان هو وأصحابه وجميع العساكر، وسار نحو خُراسان فلم يصل إليها، وعاد إلى جرجان وأقام فيها إلى أنْ مات سَنة ٣٧٧ مدّة ثلاث سِنين.

عصيان محمّد بن غانم على فَخر الدولة:

وفي هذه السنة (٣٧٣) عصا محمّد بن غانم البرزيكاني بناحية كوردر مِن أعمال قُم على فَخر الدولة، وأخذ بعض غَلاّت السلطان، وامتنع بحصن الهفتجان، وجمع البرزيكاني إلى نفسه فسارت إليه العساكر في شوّال لقتاله فهزمها، وأُعيدت إليه مِن الريّ مرّة أُخرى فهزمها، فأرسل فَخر الدولة إلى أبي النجم بدر بن حسنويه يُنكر ذلك عليه، ويأمره بإصلاح الحال معه ففعل، وراسله فاصطلحوا أوّل سَنة أربع وسبعين، وبقي إلى سَنة خمسٍ وسبعين، فسار إليه جيش لفخر الدولة فقاتله، فأصابه طعنة وأُخذ أسيراً فمات مِن طعنته.

التجاءُ أبي الحسين أحمد بن عَضُد الدولة إلى عمّه فَخر الدولة ثُمّ أمره بقَتله:

في سنة ٣٦٥هـ سار شرف الدولة أبو الفوارس بن عَضُد الدولة مِن فارس يطلب الأهواز، وأرسل إلى أخيه أبي الحسين وهو بها يُطيّب نفسه ويَعده الإحسان، وأنْ يُقرّه على ما بيده مِن الأعمال، وأعلمه أنّ مَقصده العراق، وتخليص أخيه الأمير أبي نصر مِن مَحبَسِه، فلم يثق أبو الحسين إلى قوله، وعزم على منعه وتجهّز لذلك، فأتاه الخبر بوصول شَرف الدولة إلى أرجان، ثُمّ إلى رامهرمز فتسلل أجناده إلى شَرف الدولة ونادوا بشعاره، فهرب أبو الحسين نحو الريّ إلى عمّه فَخر الدولة، فبلغ أصبهان وأقام بها، واستنصر عمّه فأطلق له مالاً ووعده بنَصره، فلمّا طال عليه الأمر قصد

٢٥٨

التَغلّب على أصبهان، ونادى بشعار أخيه شَرف الدولة، فثار به جُندها وأخذوه أسيراً، وسيّروه إلى الري، فحبسه عمّه وبقي محبوساً إلى أنْ مَرض عمّه فَخر الدولة مَرض الموت، فلمّا اشتدّ مرضه أرسل إليه مِن قتله، وكان يقول شِعراً، فمِن قوله:

هبِ الصَّبر أرضاني وأعتب صرفُه وأعقب بالحسنى مِن الحَبس والأسرِ

فمَن لي بأيام الشَّباب التي مضتْ ومَن لي بما أنفقتُ في الحبس مِن عُمري

ابن الأثير ج٩ ص١٨.

الخُطبة في الأهواز والبصرة لفَخر الدولة:

في سنة ٣٧٤هـ خَطب أبو الحسين بن عَضد الدولة بالأهواز لفَخر الدولة، وخطب له أبو طاهر بن عَضد الدولة بالبصرة ونقش اسمه على السكّة.

إهداءُ الصاحبِ له ديناراً زِنته ألف مِثقال مَكتوباً عليه أبياتٌ مِن الشعر:

في أوّل المُحرّم سنة ٣٧٨ أهدى الصاحب بن عَبّاد إلى فَخر الدولة ديناراً وزنُه ألفَ مثقال، وكان على أحد جانبيه مَكتوب:

وأحمر يحكي الشمس شكلاً وصورةً فأوصافه مُشتقّة مِن صفاته

فإنْ قيل دينار فقد صدَق اسمه وإنْ قيل ألفٌ كان بعض سِماته

بديعٌ ولم يُطبع على الدهر مثله ولا ضربتْ أضرابه لسراته

فقد أبرزته دولة فَلكيّة أقام بها الإقبال صدر قناته

وصار إلى شاهانشاه انتسابه على أنّه مُستصغر لعفاته

يخبر أنْ يبقى سنين كوزنه لتستبشر الدُنيا بطول حياته

تأنّق فيه عبده وابن عبده وغرس أياديه وكافي كفاته

وكان على الجانب الآخر سورة الإخلاص، ولَقَب الخليفة الطائع لله، ولَقَب فَخر الدولة واسم جُرجان؛ لأنّه ضُرب بها.

وقوله دولة فَلكيّة يعني أنّ لقب فَخر الدولة كان فَلك الأُمّة، وقوله كافي كفاته، فإنّ الصاحب كان لَقبه كافي الكفاة.

٢٥٩

عصيانُ أبي منصور بن كوريكنج على فَخر الدولة وعَوده إلى الطاعة:

في سنة ٣٧٧هـ عصى الأمير أبو منصور كوريكنج صاحب قزوين على فَخر الدولة، فلاطفه فَخر الدولة وبذل له الأمان والإحسان فعاد إلى طاعته.

عصيانُ ابن الفيرزان على فَخر الدولة ومُعاودته الطاعة:

في سنة ٣٧٨هـ عصا نَصر بن الحسن بن الفيرزان بالدامغان على فَخر الدولة، واجتاز به أحمد بن سعيد الشبيبي الخُراساني مُقبلاً مِن الري ومعه عسكر مِن الدَيلم لمُحاربته، فلمّا رأى الجدّ في أمره راسل فَخر الدولة وعاود طاعته، فأجابه إلى قبول ذلك منه وأقرّه على حاله.

مسيرُ فَخر الدولة إلى العراق وطَمعه في مُلكه وما كان منه:

في سنة ٣٧٩هـ سار فَخر الدولة مِن الري إلى همذان عازماً على قصد العراق والاستيلاء عليها، وكان سَبب حركته أنّ الصاحب بن عَبّاد كان يُحبّ العراق لا سيما بغداد، ويُؤثر التقدّم بها، ويَرصُد أوقات الفُرصة، فلمّا توفّي شَرف الدولة عَلمَ أنّ الفرصة قد أمكنت، فوضع على فَخر الدولة مَن يُعظّم عنده مُلك العراق، ويُسهّل أمرها عليه، ولم يباشر هو ذلك خوفاً مِن خَطر العاقبة، إلى أنْ قال له فَخر الدولة:

ما عندك في هذا الأمر؟ فأحال على أنّ سعادته تُسهّل كلّ صَعب وعظم البلاد، فتَجّهز وسار إلى همذان، وأتاه بدر بن حسنويه، وقصده دبيس بن عفيف الأسدي، فاستقر الأمر على أنْ يَسير الصاحب بن عَبّاد وبدر إلى العراق على الجادّة، ويسير فَخر الدولة على خوزستان، فلمّا صار الصاحب حَذر فَخر الدولة مِن ناحيته، وقيل له: ربّما استماله أولاد عَضُد الدولة فاستعاده إليه، وأخذه مَعه إلى الأهواز فملكها، وأساء السيرة مع جندها، وضيّق عليهم ولم يَبذل المال، فخابت ظُنون الناس فيه واستشعر مِنه أيضاً عَسكره، وقالوا: هكذا يفعل بِنا إذا تمكّن مِن إرادته فتخاذلوا، وكان الصاحب قد أمسك نفسه تأثّراً بما قيل عنه مِن اتّهامه فالأُمور بسكوته غير مُستقيمة، فلمّا سَمع بهاء الدولة بوصولهم إلى

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442