تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني17%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113723 / تحميل: 9456
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

مِن هؤلاء مِن السيئات، وما عَضُد الدولة إلاّ بشرٌ يُخطئ ويُصيب، ومَلك يَعدل ويجور ويَرحم ويَظلم، وقد يكون أقلّ المُلوك الّذين هُم على شاكلته أوزاراً.

وكيف كان، فـ (كفى المرءَ نُبلاً أنْ تُعدّ معايبه).

عَضُد الدولة وابن سمعون الواعظ:

قيل لعَضُد الدولة - كما روى ابن كثير -: إنّ أهل بغداد قد قلّوا كثيراً بسبب الطاعون، وما وقع بينهم مِن الفِتن بسبب الرفض والسُنّة، وأصابهم حريق وغريق.

فقال: إنّما يهيج الشرّ بين الناس هؤلاء القُصّاص والوعّاظ. ثُمّ رَسم أنّ أحداً لا يقصّ ولا يَعظ في سائر بغداد، ولا يسأل سائل باسم أحد مِن الصحابة، وإنّما يقرأ القرآن فمَن أعطاه أخذ منه، فعُمل بذلك في البلد، ثُمّ بلغه أنّ أبا الحسين بن سمعون الواعظ - وكان مِن الصالحين - لم يترك الوعظ، بل استمرَّ على عادته، فأرسل إليه مَن جاءه به، وتحول عَضُد الدولة مِن مجلسه، وجلس وحده؛ لئلاّ يَبدر مِن ابن سمعون إليه بين الدولة كلام يكرهه، وقيل لابن سمعون: إذا دخلت على المَلك فتواضع في الخطاب، وقبّل التراب، فلمّا دخل دار المَلك وجده قد جلس وحده؛ لئلاّ يبدر مِن ابن سمعون في حقّه كلام بحضرة الناس يُؤثَر عنه، ودخل الحاجب بين يديه يستأذن له، ودخل ابن سمعون وراءه، ثُمّ استفتح القراءة:

( وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى‏ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) ، ثُمّ التفت بوجهه نحو دار عِزّ الدولة، ثُمّ قرأ:

( ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ ) ، ثُمّ أخذ في مُخاطبة المَلك وَوَعظِهِ، فبكى عَضُد الدولة بكاء كثيراً، وجزّاه خيراً، فلمّا خرج مِن عنده، قال للحاجب:

اذهب فخذ ثلاثة آلاف درهم وعشرة أثواب وادفعها له، فإنْ قَبِلها جئني برأسه.

قال الحاجب: فجئته فقلت، هذا أرسل به المَلك إليك، فقال: لا حاجةّ لي به، هذه ثيابي مِن عهد أبي مُنذ أربعين سَنة كلّما خرجتُ إلى الناس لبستُها فإذا رجعت طويتها، ولي دار آكل مِن أُجرتها تركها لي أبي، فأنا في غنية عمّا أرسل به المَلك، فقلت: فَرّقها في فُقراء أهلك، فقال: فقراء أهله أحقّ بها.

٢٤١

الخامس: عِزّ الدولة بختيار بن مُعِزّ الدولة أحمد بن بويه

الديلمي (أبو منصور)

مَولدهُ وولايتُهُ ومُخالفتُه وصيّة أبيه:

وُلد سَنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة للهجرة، وُلّي المِلك بعد وفاة أبيه مُعِزّ الدولة سَنة ستٍّ وخمسين وثلاثمئة، ولمّا حضرته الوفاة وصّى بختيار بطاعة عمّه رُكن الدولة، واستشارته في كلّ ما يفعله، وبطاعة عَضُد الدولة ابن عمّه؛ لأنّه أكبر منه سِنّاً وأقوم بالسياسة، ووصّاه بتقرير كاتبيه أبي الفضل العبّاس بن الحسين، وأبي الفرج محمّد بن العبّاس لكفايتهما وأمانتهما، ووصّاه بالديلم والأتراك، وبالحاجب سبكتكين، فخالف هذه الوصايا جميعها، واشتغل باللهو واللعِب وعِشرة النساء والمساخر والمُغنين، وشرع في إيحاش كاتبيه وسبكتكين، فاستوحشوا، وانقطع سبكتكين عنه فلم يحضر داره، ونفى كبار الدَيلم عن مَملكته شَرَهاً إلى إقطاعاتهم وأموالهم وأموال المُتّصلين بهم، فاتّفق أصاغرهم عليه وطلبوا الزيادات، واضطر إلى مرضاتهم، واقتدى بهم الأتراك، فعملوا مِثل ذلك، ولم يتمّ له على سبكتكين ما يُريد لاحتياطه، واتّفق الأتراك معه، وخرج الديلم إلى الصحراء، وطالعوا بختيار بإعادة مَن أسقط منهم، فاحتاج أنْ يُجيبهم لتغيّر سبكتكين عليه، وفعل الأتراك أيضاً مِثل فعلهم، واتصل خَبر موت مُعِزّ الدولة بكاتبه أبي الفرج محمّد بن العباس - وهو مُتولّي أمر عُمان - فسلّمها إلى نوّاب عَضُد الدولة، وسار نحو بغداد، وكان سَببُ تسليمها إلى عَضُد الدولة أنّ بختيار لمّا مَلك بعد

٢٤٢

موت أبيه تفرّد أبو الفضل بالنظر في الأُمور، فخاف أبو الفرج أنْ يستمرّ انفراده عنه، فسَلّم عُمان إلى عَضُد الدولة؛ لئلاّ يُؤمَر بالمَقام فيها لحفظها وإصلاحها، وسار إلى بغداد فلم يتمكّن مِن الذي أراد، وتفرّد أبو الفضل بالوزارة.

ما كَتبَ عنه المُؤرّخون:

قال ابن خُلّكان:

وُلّي عِزّ الدولة مملكة أبيه يوم موته، وتزوّج الإمام الطائع ابنته شاه زمان على صداقٍ مبلغه مئة ألف دينار، وخطب خطبة العَقد القاضي أبو بكر بن فريعة، وذلك سَنة أربع وستّين وثلاثمئة، وكان عِزّ الدولة مَلكاً سرياً شديد القوى يُمسك الثور العظيم بقرنيه فيصرعه، وكان متوسّعاً في الإخراجات والكُلَف والقيام بالوظائف.

حكى بشر الشمعي ببغداد، قال:

سُئِلنا عند دخول عَضُد الدولة بن بويه - وهو ابن عمّ عِزّ الدولة - إلى بغداد لمّا ملكها بعد قتله عِزّ الدولة عن وظيفة الشمع الموقد بين يدي عِزّ الدولة، فقُلنا: كانت وظيفة وزيره أبي الطاهر محمّد بن بقية ألف مَنٍّ في كلّ شهر، فلم يُعاودوا التقصّي استكثاراً لذلك.

وقال ابن كثير:

مَلك بعد أبيه وعُمره فوق العشرين سَنة بقليل، وكان حَسُن الجسم، شديد البطش، قويّ القلب، يُقال إنّه كان يأخذ بقوائم الثور فيُلقيه على الأرض مِن غير أعوان، ويقصد الأُسود في أماكنها، ولكنّه كان كثير اللهو واللعب والإقبال على اللذّات، ولمّا كسره ابن عمّه ببلاد الأهواز كان في جُملة ما أُخذ منه أمرد، وكان يُحبّه حبّاً شديداً لا يهنأ بالعيش إلاَّ معه، فبعث يترفّق في ردّه إليه، وأرسل إليه بتُحف كثيرة وأموال جزيلة وجاريتين عوّادتين لا قيمة لهما، فردّ عليه الغلام المذكور، فكُثر تعنيف الناس له عند ذلك، وسقط مِن أعيُن الملوك، فإنّه كان يقول:

ذهاب هذا الغُلام منّي أشدّ عليَّ مِن أخذ بغداد مِن يدي، بل وأرض العراق كلّها، فأنت ترى ممّا ذَكره هذان المُؤرّخان، وابن الأثير في كامله، وغيرهم مِن ضعف سياسة عِزّ الدولة، وسوء سيرته، وانصرافه إلى كلّ لذائذ الشباب، وهو يَملك منها الشيء الكثير ما يُمهّد لابن عمّه عَضُد الدولة، وهو على غير هذه السيرة يسير في سياسة المِلك، ويقوم له بالعُذر في إنقاذ المملكة العراقيّة منه، وهي على شفا الخطر، والطامعون فيها كثيرون.

٢٤٣

عصيان أخيه حبشي عليه:

في السنة الثانية مِن مِلك عِزّ الدولة - وهي سَنة سبعٍ وخمسين وثلاثمئة - عصا حبشي بن مُعِزّ الدولة على أخيه بختيار، وكان بالبصرة لمّا مات والده، فحَسّن له مَن عنده مِن أصحابه الاستبداد بالبصرة، وذكروا له أنّ أخاه بختيار لا يَقدر على قصده فشرع في ذلك، فانتهى الخبر إلى أخيه، فسيّر وزيره أبا الفضل العبّاس بن الحسين إليه، وأمره بأخذه كيف أمكن، فأظهر الوزير أنّه يُريد الانحدار إلى الأهواز، ولمّا بلغَ واسط أقام بها ليُصلح أمرها، وكَتب إلى حبشي يَعده أنّه يُسلّم إليه البصرة سِلماً، ويصالحه عليها ويقول له:

إنّني قد لزمني مال على الوزارة ولا بدّ مِن مُساعدتي، فنفذ إليه حبشي مائتي ألف درهم، وتيقّن حصول البصرة له، وأرسل الوزير إلى عسكر الأهواز يأمرهم بقصد الأُبُلّة في يوم ذَكره لهم، وسار هو مِن واسط نحو البصرة، فوصلها هو وعسكر الأهواز لميعادهم، فلم يتمكّن حبشي مِن إصلاح شأنه وما يحتاج إليه، فظفروا به وأخذوه أسيراً وحبسوه برامهرمز، فأرسل عمّه رُكن الدولة وخلّصه، فسار إلى عَضُد الدولة فأقطعه إقطاعاً وافراً، وأقام إلى أنْ مات في آخر سنَة تسعٍ وستّين وثلاثمئة، وأخذ الوزير مِن أمواله بالبصرة شيئاً كثيراً، ومِن جُملة ما أخذ له خمسة عشر ألف مُجلّد، سوى الأجزاء والمَسرس وما ليس له جلد.

بَعضُ تصرّفات عِزّ الدولة في عَزل بعض وزرائه وتَعيين آخر ونفي بعض رجاله:

وفي سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة، قبض بختيار على وزيره أبي الفضل العبّاس بن الحسين وعلى جميع أصحابه، وقبض أموالهم وأملاكهم، واستوزر أبا الفرج محمّد بن العبّاس، ثُمّ عزل أبا الفرج وأعاد أبا الفضل، وفيها نفى شيرزاد، وكان قد غلب على أمر بختيار، فصار يُحكّم على الوزير والجُند وغيرهم، فأوحش الأجناد، وعِزّم الأتراك على قَتله، فمنعهم سبكتكين وقال لهم:

خوّفوه ليهرب، فهرب مِن بغداد، وعهد إلى بختيار ليحفظ ماله ومِلكه، فلمّا سار عن بغداد قبضَ بختيار أمواله وأملاكه ودوره، وكان هذا ممّا يُعاب به بختيار.

ثُمّ إنّ شيرزاد سارَ إلى رُكن الدولة ليصلح أمره مع بختيار، فتوفّي بالري عند وصوله إليها.

٢٤٤

حصر بختيار لعِمران بن شاهين:

في شوال سَنة تسعٍ وخمسين وثلاثمئة انحدر بختيار إلى البطيحة لمُحاصرة عِمران بن شاهين، وقد ذكرنا ذلك في أخبار ابن شاهين فلا نُعيده.

تزويج بختيار ابنته لأبي تغلب بن حمدان:

في سَنة ٣٦٠ تزوّج أبو تغلب بن حمدان ابنة عِزّ الدولة بختيار، وعُمرها ثلاث سنين على صداق مئة ألف دينار، وكان الوكيل في قبول العقد أبا الحسن عليّ بن عمر بن ميمون صاحب أبي تغلب بن حمدان، ووقع العقد في صَفر.

الفتنة في بغداد وبختيار والمُطيع لله:

في سنة إحدى وستّين وثلاثمئة وقعت ببغداد فتنة عظيمة، وأظهروا العصبيّة الزائدة، وتحزّب الناس، وظهر العيارون وأظهروا الفساد وأخذوا أموال الناس، وكان سَبب ذلك ما ذكرناه مِن استنفار العامّة للغُزاة، وقد بلغهم ما فعل الروم بالجزيرة، وسكوت أُمراء الأطراف كالحمدانيّين وغيرهم عن دفعهم، ومسير جماعة مِن أهل تلك البلاد مُستنفرين، وقاموا في الجوامع والمشاهد واسنفروا المسلمين، وذكروا ما فعله الروم مِن النهب القتل والأسر والسبي، فاستعظمه الناس وخَوّفهم أهل الجزيرة مِن انفتاح الطريق وطمع الروم، وأنّهم لا مانع لهم عندهم، فاجتمع معهم أهل بغداد وقصدوا دار الخليفة الطائع لله، وأرادوا الهُجوم عليه، فمُنعوا مِن ذلك وأُغلقت الأبواب، فأُسمعوا ما يقبح ذِكره، وكان بختيار حينئذ يتصيّد بنواحي الكوفة، فخرج إليه وجوه أهل بغداد مُستغيثين، مُنكرين عليه اشتغاله بالصيد وقتال عِمران بن شاهين وهو مسلم، وتَرْك جهاد الروم ومنعهم عن بلاد الإسلام حتّى توغّلوها، فوعدهم التجّهز للغُزاة، وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره بالتجّهز للغزو، وأنْ يستنفر العامّة ففعل سبكتكين ذلك، فاجتمع مِن العامّة عدد كثير لا يُحصون كثرة، وكَتب بختيار إلى أبي تغلب بن حمدان صاحب الموصل يأمره بإعداد الميرة والعلوفات، ويُعرفه عَزمه على الغزاة، فأجابه بإظهار الفرح وإعداد ما طلب منه، ولمّا اجتمع عامّة

٢٤٥

بغداد وكثروا، وتولّد بينهم مِن أصناف البنوية والفتيان والسُنّة والشيعة والعيارين، فنُهبت الأموال وقُتل الرجال وأُحرقت الدور، وفي جُملة ما احترق محلّة الكرخ، وكانت معدن التجّار والشيعة، وجرى بسبب ذلك فتنة بين النقيب أبي أحمد الموسوي والوزير أبي الفضل الشيرازي وعداوة.

ثُمّ إنّ بختيار أنفذ إلى المُطيع لله يطلب منه مالاً يُخرجه في الغُزاة، فقال المطيع:

إنّ الغزاة والنفقة عليها وغيرها مِن مصالح المسلمين تلزمني إذا كانت الدُنيا في يدي وتُجبى إليّ الأموال، وأمّا إذا كان حالي هذه، فلا يلزمني شيء مِن ذلك، وإنّما يلزم مَن البلاد في يده وليس له إلاّ الخطبة، فإنْ شئتم أنْ أعتزل فعلت.

وتردّدت الرسائل بينهما حتّى بلغوا إلى التهديد، فبذل المُطيع لله أربعمئة ألف درهم، فاحتاج إلى بيع ثيابه وأنقاض داره وغير ذلك، وشاع بين الناس مِن العراقيين وحجافج خُراسان أنّ الخليفة قد صودر، فلمّا قبضَ بختيار المال صرفه في مصالحه وبطل حديث الغُزاة.

عزل أبي الفضل مِن وزارة عِزّ الدولة ووزاة ابن بقية:

وفي سنة ٣٦٢هـ عُزِل الوزير أبو الفضل العبّاس بن الحسين من وزارة عِزّ الدولة بختيار في ذي الحجّة، واستوزر محمّد بن بقية، فعجب الناس لذلك؛ لأنّه كان وضيعاً في نفسه مِن أهل أوانا، وكان أبوه أحد الزرّاعين لكنّه كان قريباً مِن بختيار، وكان يتولّى له المطبخ، ويُقدّم إليه الطعام ومنديل الخوان على كتفه إلى أنْ استوزر، وحُبس الوزير أبو الفضل فمات عن قريب، فقيل: إنّه مات مسموماً، وكان في ولايته مُضيّعاً لجانب الله، فمِن ذلك أنّه أحرق الكرخ ببغداد فهلك فيه مِن الناس والأموال ما لا يُحصى، ومِن ذلك أنّه ظلَم الرعيّة، وأخذ الأموال ليُفرّقها على الجُند ليَسلُم فما سلّمه الله تعالى ولا نفعه ذلك، وكان ما فعله مِن ذلك أبلغ الطرق التي سلكها أعداؤه مِن الوقيعة فيه والسعي به، وتمشّى لهم ما أرادوا لِما كان عليه مِن تفريطه في أمر دينه وظُلم رعيّته، وعقبَ ذلك أنْ ماتت زوجته وهو محبوس وحاجبه وكاتبه، فخربتْ داره وعفا أثرها.

وأمّا ابن بقية، فإنّه استقامت أُموره، ومشت الأحوال بين يديه بما أخذه مِن أموال أبي الفضل وأموال أصحابه، فلمّا فني ذلك عاد إلى ظُلم الرعيّة، فانتشرت الأُمور على يده، وخربت النواحي، وظهر العيارون وعلموا ما أرادوا، وزاد الاختلاف بين

٢٤٦

الأتراك وبين بختيار، فشرع ابن بقية في إصلاح الحال مع بختيار وسبكتكين، فاصطلحوا وكانت هدنة على دخن، وركب سبكتكين إلى بختيار ومعه الأتراك فاجتمع به، ثُمّ عاد الحال إلى ما كان عليه مِن الفساد، وسَبب ذلك أنّ ديلميّاً اجتاز بدار سبكتكين وهو سكران، فرمى الروشن بزوبين في يده فأثبته فيه، وأحسّ به سبكتكين فصاح بغلمانه فأخذوه، وظنّ سبكتكين أنّه قد وضع على قتله، فقرّره فلم يعترف، وأنفذه إلى بختيار، وعرّفه الحال فأمر به فقُتل، فقوي ظنّ سبكتكين أنّه كان وضعه عليه وإنّما قتله لئلاّ يُفشي ذلك، وتحرّك الديلم لقتله وحملوا السلاح، ثُمّ أرضاهم بختيار فرجعوا.

استيلاءُ بختيار على الموصل:

في ربيع الأول سنة ٣٦٣هـ سار بختيار إلى الموصل ليستولي عليها وعلى أعمالها وما بيد أبي تغلب بن حمدان، وقد ذكرنا ذلك في أخبار بني حمدان فلا نُعيده.

الفِتنةُ بينَ بختيار وأصحابه:

في هذه السنَة ابتدأت الفتنة بين الأتراك والديلم بالأهواز، فعمّت العراق جميعه واشتدّت، وكان سبَب ذلك أنّ عِزّ الدولة بختيار قلّتْ عنده الأموال، وكثر إدلال جنده عليه واطّراحهم لجانبه وشَغبهم عليه، فتعذّر عليه القرار، ولم يجد ديوانه ووزيره جهة يحتال منها بشيء، وتوجّهوا إلى الموصل لهذا السبب فلم ينفتح عليهم، فرأوا أنْ يتوجّهوا إلى الأهواز، ويتعرّضوا لبختكين آزادرويه وكان مُتولّيها، ويعملوا له حجّة يأخذون منه مالاً ومِن غيره، فسار بختيار وعسكره وتَخلّف عنه سبكتكين التُركي، فلمّا وصلوا إلى الأهواز خَدَم بختيار، وحَمل له أموالاً جليلة المقدار، وبذل له مِن نفسه الطاعة، وبختيار يُفكّر في طريق يأخذه به، فاتّفق أنّه جرى فتنة بين الأتراك والديلم، وكان سببها أنّ بعض الديلم نزلوا داراً بالأهواز، ونزل قريباً منه بعض الأتراك، وكان هُناك لِبْن موضوع، فأراد غُلام الديلمي يبني منه مَعلفاً للدواب، فمنعه غلام التركي فتضاربا، وخرج كلّ واحد مِن التُركي والديلمي إلى نُصرة غُلامه، فضعُف التركي عنه، فركب واستنصر بالأتراك، فركبوا وركب الديلم، وأخذوا السلاح فقُتِل بينهم بعضُ قوّاد الأتراك، وطلب الأتراك بثأر

٢٤٧

صاحبهم، وقتلوا به مِن الديلم قائداً أيضاً، وخرجوا إلى ظاهر البلد، واجتهد بختيار في تسكين الفتنة فلم يُمكنه ذلك، فاستشار الديلم فيما يفعله - وكان أُذناً يَتبع كلّ قائل - فأشاروا عليه بقبض رؤساء الأتراك لتصفو له البلاد، فأحضروا آزادرويه وكاتبه سهل بن بشر وسباشى الخوارزمي يكتيجور - وكان حِماً لسبكتكين - فحضروا فاعتقلهم وقيّدهم، وأطلق الديلم في الأتراك، فنهبوا أموالهم ودوابهم، وقُتل بينهم قتلى، وهرب الأتراك، واستولى بختيار على إقطاع سبكتكين فأخذه، وأمر فنودي بالبصرة بإباحة دمِ الأتراك.

حيلةٌ لبختيار عادتْ عليه:

كان بختيار قد واطأ والدته وإخوته أنّه إذا كَتب إليهم بالقبض على الأتراك يُظهرون أنّ بختيار قد مات ويجلسون للعِزّاء، فإذا حضر سبكتكين عندهم قبضوا عليه، فلمّا قَبض بختيار على الأتراك، كَتب إليهم على أجنحة الطيور يُعرفهم ذلك، فلمّا وقفوا على الكُتب وقع الصُراخ في داره، وأشاعوا موته ظنّاً منهم أنّ سبكتكين يَحضر عندهم ساعة يبلغه الخَبر، فلمّا سَمع الصُراخ أرسل يسأل عن الخَبر، فأعلموه، فأرسل يسأل عن الذي أخبرهم، وكيف أتاهم الخبر؟ فلم يجد نَقلاً يَثق القلب به، فارتاب بذلك ثُمّ وصله رُسله الأتراك بما جرى، فعَلِم أنّ ذلك كان مكيدة عليه، ووعّاه الأتراك إلى أنْ يتآمر عليهم فتوقف، وأرسل إلى أبي إسحاق بن مُعِزّ الدولة يُعلمه أنّ الحال قد انفسد بينه وبين أخيه، فلا يُرجى صلاحه، وأنّه لا يرى العُدول عن طاعة مواليه وإنْ أساؤوا إليه، ويدعوه إلى أنْ يَعقد الأمر له، فعَرض قوله على والدته فمنعته، فلمّا رأى سبكتكين ذلك ركب في الأتراك، وحصر دار بختيار يومين ثُمّ أحرقها، ودخلها وأخذ أبا إسحاق وأبا طاهر ابني مُعِزّ الدولة ووالدتهما ومَن كان معهما، فسألوه أنْ يُمكّنهم مِن الانحدار إلى واسط ففعل، وانحدروا وانحدر مَعهم المُطيع لله في الماء، فأنفذ سبكتكين فأعاده وردّه إلى داره، وذلك تاسع ذي القعدة، واستولى على ما كان لبختيار جميعه ببغداد، ونزل الأتراك في دور الديلم، وتتبّعوا أموالهم وأخذوها، وثارت العامّة مِن أهل السُنّة ينصرون سبكتكين؛ لأنّه كان يتسنّن، فخلع عليهم وجعل لهم العرفاء والقوّاد، فثاروا بالشيعة وحاربوهم، وسُفكتْ بينهم الدماء، وأُحرقت الكرخ حريقاً ثانياً، وظهرت السُنّة عليهم.

٢٤٨

وفي هذه السنة خُلع المطيع لله ووُلّي الخلافة مكانه ولده الطائع لله، واسمه أبو الفضل عبد الكريم.

حال بختيار بعد قبض الأتراك:

لمّا فَعل بختيار ما مَرّ ذِكره مِن قبض الأتراك ظفرَ بذخيرة لآزادرويه بجنديسابور فأخذه، ثُمّ رأى ما فعله الأتراك مع سبكتكين، وأنّ بعضهم بسواد الأهواز قد عصوا عليه، واضطرب عليه غُلمانه الّذين في داره، وأتاه مشايخ الأتراك مِن البصرة فعاتبوه على ما فعل بهم، وقال له عقلاء الديلم:

لا بدَّ لنا في الحرب مِن الأتراك يدفعون عنّا بالنشّاب، فاضطرب رأي بختيار ثُمّ أطلق آزادرويه، وجعله صاحب الجيش موضع سبكتكين، وظنّ أنّ الأتراك يأنسون به، وأطلق المُعتقلين وسار إلى والدته وإخوته بواسط، وكَتب إلى عمّه رُكن الدولة وابن عمّه عَضُد الدولة يسألهما أنْ يُنجداه، ويكشفا ما نزل به، وكَتب إلى أبي تغلب بن حمدان يطلب منه أنْ يُساعده بنفسه، وأنّه إذا فعل ذلك أسقط عنه المال الّذي عليه، وأرسل إلى عِمران بن شاهين بالبطيحة خِلَعاً وأسقط عنه باقي المال الّذي اصطلحا عليه، وخطب إليه إحدى بناته، وطلب منه أنْ يُسيِّر إليه عسكر.

فأمّا رُكن الدولة عمّه، فإنّه جهّز عسكراً مع وزيره أبي الفتح بن العميد، وكتب إلى ابنه عَضُد الدولة يأمره بالمسير إلى ابن عمّه، والاجتماع مع ابن العميد، فأمّا عَضُد الدولة، فإنّه وَعَد بالمسير وانتظر ببختيار الدوائر طَمعاً في مُلك العراق، وأمّا عِمران بن شاهين، فإنّه قال:

أمّا إسقاط المال، فنحن نَعلم أنّه لا أصل له وقد قبلته، وأمّا الوصلة، فإنّني لا أتزوج أحداً إلاّ أنْ يكون الذِكر مِن عندي، وقد خطب إليَّ العلويّون وهم موالينا فما أجبتهم إلى ذلك، وأمّا الخِلع والفرس، فإنّي لست ممَّن يلبس ملبوسكم وقد قبلها ابني، وأمّا إنفاذ عسكر، فإنّ رجالي لا يسكنون إليكم لكثرة ما قتلوا منكم.

ثُمّ ذَكر ما عامَله به هو وأبوه مرّة بعد أُخرى، وقال: ومع هذا فلا بد أنْ يحتاج إلى أنْ يدخل بيتي مُستجيراً بي والله لأُعاملنّه بضدّ ما عاملني به هو وأبوه فكان كذلك.

وأمّا أبو تغلب بن حمدان، فإنّه أجاب إلى المُسارعة، وأنفذ أخاه أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان إلى تكريت في عسكر، وانتظر انحدار الأتراك عن بغداد فإنْ ظفروا ببختيار دخل بغداد مالكاً له، فلمّا انحدر الأتراك عن بغداد

٢٤٩

سار أبو تغلب إليها يوجب على بختيار الحجّة في إسقاط المال الّذي عليه، ووصل إلى بغداد والناس في بلاء عظيم مع العيارين، فحمى البلد وكفّ أهل الفساد.

وأمّا الأتراك، فإنّهم انحدروا مع سبكتكين إلى واسط، وأخذوا معهم الخليفة الطائع لله والمُطيع أيضاً وهو مخلوع، فلمّا وصلوا إلى دير العاقول تُوفّي بها المُطيع لله، ومَرض سبكتكين فمات بها أيضاً، فحُملا إلى بغداد، وقدِم الأتراك عليهم الفتكين، وهو مِن أكابر قوّادهم وموالي مُعزّ الدولة، وفرح بختيار بموت سبكتكين، وظنّ أنْ أمرَ الأتراك ينحلّ وينتشر بموته، فلمّا رأى انتظام أُمورهم ساءه ذلك.

ثُمّ إنّ الأتراك ساروا إليه وهو بواسط، فنزلوا قريباً منه، وصاروا يُقاتلونه نوائب نحو خمسين يوم، ولم تزل الحرب بين الأتراك وبختيار مُتّصلة، والظَفر للأتراك في كلّ ذلك، وحصروا بختيار واشتدّ عليه الحصار وأحدقوا به، وصار خائفاً يترقّب، وتابع إنفاذ الرُسل إلى عَضُد الدولة بالحثّ والإسراع، وكَتب إليه:

فإنْ كُنتُ مأكولاً فكنْ أنت آكلي وإلاّ فأدرُكني ولمّا أُمزّق

فلمّا رأى عَضُد الدولة ذلك، وأنّ الهمّ قد بلغَ ببختيار ما كان يرجوه سارَ نحو العراق نجدة له وباطنه بِضدّ ذلك.

استيلاءُ عَضُد الدولة على العراق وقَبضُ بختيار:

تقدّم الخَبر عن ذلك في أخبار عَضُد الدولة مِن هذا الجُزء، وذلك في سنة ٣٦٤هـ فراجعه.

عودُ بختيار إلى مُلكه:

مرّ خبر عوده إلى مُلكه بواسطة عَمّه رُكن الدولة والد عَضُد الدولة في هذه السَنة في أخبار عَضُد الدولة، فراجعه.

مَسيرُ عَضُد الدولة إلى العراق والحرب بينه وبين بختيار وانهزام بختيار:

قد عرفتَ ممّا سَبقَ تركُ عَضُد الدولة العراق في سَنة أربع وستّين وثلاثمئة بعد مِلكها، وقبضه على بختيار واستياء رُكن الدولة مِن وَلده عَضُد

٢٥٠

الدولة، وإلجائه أخيراً إلى الرجوع إلى مملكته فارس، والتَخلّي عن العراق لبختيار تَركَ عَضُد الدولة العراق مُكرهاً مُلجأً مِن والده، وهو يضمر العودة إليه، وما كان ذلك إلاّ لأجَلٍ هو بالغه قريباً، وما بين والده والموت إلاّ أنْ يَنزُل به، وهو الذي أناف على السبعين أو الثمانين، وما مضى على تخليته العراق قِبلَة أنظاره سوى العام وبعض العام، ودخلت سَنة ستّ وستّين والأُمور عن بختيار في إدبار، وهو في جيش مُنقسم على نفسه مِن قبيلين مُختلفين مُتنازعين على السلطة: الديلم والترك، دعْ نضوب المال مِن خُزانته، وهو عَصب الدولة، بل كلّ عَمل في الدنيا، ممّا اضطرّه لاستنصار ابن عمّه عَضُد الدولة الطامع في مُلكه، وهو يستشهد في استنصاره وقد ضاق به الخِناق، وفسدت عليه العراق بالبيت المشهور:

فإنْ كُنتُ مأكولاً فكنْ أنتَ آكلي وإلاّ فأدرُكني ولمّا أُمزّق

فكان مِن طموح عَضُد الدولة وطمعه في العراق واستنجاد مَلكها المستضعف الفارّ مِن سلطة الأتراك مِن بغداد ما هيّأ له تحقيق آماله، كما عرفت الخَبر عن ذلك في أخبار عَضُد الدولة مِن هذا الجُزء.

استيلاء عَضُد الدولة على العراق ومَقتل بختيار:

دخلتْ سَنة سبع وستّين، ودخل عَضُد الدولة بغداد، وأخرج منها بختيار بعد أنْ خيره في المسير إلى الجهة التي يختارها على أنْ يَضمن له المُساعدة بما يحتاج إليه مِن مال وسلاح وغير ذلك، وبعد أنْ أجاب ولبس خلعته وغادر بغداد مؤكّداً لابن عمّه العمل بما أخذ عليه مِن العهود والمواثيق أنْ لا يقصد ولاية أبي تغلب بن حمدان، ولكنّه نَكث تلك العهود والمواثيق، وقصد ابن حمدان وجَرّد حملة، وسار هو وابن حمدان نحو العراق لمُقاتلة عَضُد الدولة، فانتهى الأمر بقتله - كما مَرّ الخبر عن ذلك في أخبار بني حمدان وعَضُد الدولة في سنة ٣٦٧ - ثُمّ باستيلاء عَضُد الدولة على مُلك بني حمدان الموصل وأعمالها، وفي سنة ٣٦٨ على ميافارقين وديار مضر، وفرار أبي تغلب إلى بلاد الشام وقتله سنة ٣٦٩، وقد بسطنا الخبر عن ذلك كلّه في أخبار الحمدانيّين فلا نُعيده.

قال ابن خُلّكان:

وكان بين عزّ الدولة وابن عمّه عَضُد الدولة مُنافسات في الممالك أدّت إلى التنازع، وأفضتْ إلى التصاف والمُحاربة،

٢٥١

فالتقيا يوم الأربعاء ثامن عشر شوال سنة سبعٍ وستّين وثلاثمئة، فقُتِل عِزّ الدولة في المصاف، وكان عُمره ستّاً وثلاثين سَنة، وحُمل رأسه في طست ووُضع بين يَدَي عَضُد الدولة، فلمّا رآه وضع منديله على عينيه وبكى.

تَناقضٌ في خَبر ابن كثير بيِّنٌ:

قال: مَلكَ [ بختيار ] بعد أبيه وعُمره فوق العشرين سَنة بقليل، ثُمّ قال بعد ذلك بقليل: فكانت مُدّة حياته ستّاً وثلاثين سَنة، ومُدّة دولته منها إحدى وعشرين سنَة وشُهور، وعلى هذا فإنْ كان عُمر بختيار عند مِلكه فوق العشرين، وكانت مُدّة دولته إحدى وعشرين سَنة وشهور، فإنّ مُدّة حياته تكون إحدى وأربعين سَنة ونيّف، وقال: وهو الذي أظهر الرفض ببغداد، وجرى بسبب ذلك شُرور، وقد ذَكر في خبر وفاة والده مُعزّ الدولة أنّه هو الذي أظهر الرفض ونَصر عليه.

السادس: أبو مَنصور بويه المُلقّب مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة بن بويه الدَيلمي:

مولده : وُلد في جمادى الآخرة سَنة ثلاثين وثلاثمئة.

تزوّجه: في سنة ثمان وأربعين وثلاثمئة سار مُؤيّد الدولة مِن الري إلى بغداد، فتزوج بابنة عمّه مُعزّ الدولة ونقلها معه إلى الري، ثُمّ عاد إلى أصبهان.

أبو منصور بويه في الولاية:

إنّ بويهاً كان في عهد أبيه رُكن الدولة يلي بعض بلاده ولعلّها خُراسان، فإنّ ابن الأثير يقول في أخبار سَنة ستّين وثلاثمئة:

وفيها استوزر مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة الصاحب أبا القاسم بن عبّاد، وأصلح أُموره كلّها.

وقال ابن خُلّكان في ترجمة الصاحب هذا نقلاً عن كتاب التاجي للصابئ:

أنّه إنّما قيل له الصاحب؛ لأنه صحب مُؤيّد الدولة بن بويه مُنذ الصبا، وسمّاه الصاحب فاستمرّ عليه هذا اللقب واشتهر به، ثُمّ سُميّ به كلّ مَن وُلّي الوزارة بعده، وكان أوّلاً وزير مُؤيّد الدولة أبي منصور بويه بن

٢٥٢

رُكن الدولة بن بويه الديلمي تولّى وزارته بعد أبي الفتح عليّ بن الفضل بن العميد.

وعلى هذا، فيكون الصاحب ثاني مَن استوزر لأبي منصور، ويَظهر ممّا جاء في كامل ابن الأثير - كما هو المعروف - أنّ أبا الفتح كان وزير أبيه رُكن الدولة، وَليها له بعد أبيه أبي الفضل بن العميد.

وفي سنة ٣٦٣ جهّز معه عسكراً لنجدة ابن أخيه بختيار في فتنة الأتراك في العراق، وإخراجهم له مِن بغداد ومُحاربتهم له كما مرّ ذلك في أخبار بختيار.

ولايته بعد وفاة أبيه رُكن الدولة:

وفي سنة ٣٦٥هـ بعد ترك عَضُد الدولة العراق إلى ابن عمّه بختيار بعد قبضه والاستيلاء على مُلكه، واستياء أبيه رُكن الدولة منه كما عرفت ذلك، خاف عَضُد الدولة - بعد أنْ شاع غَضب أبيه عليه عند الخاصّ والعام - أنْ يموت أبوه وهو على حال غَضبه، فيختلّ مُلكه وتزول طاعته، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد وزير أبيه يَطلب وساطته للحضور عند أبيه، وأنْ يُمهّد له بالمُلك بعده، فسعى أبو الفتح بذلك وأجابه رُكن الدولة إليه، وسار مع ضعفه ومَرضه وكِبَر سِنّه، وقد وجد مِن نفسه خِفّة مِن الريّ إلى أصبهان، وجمع عنده سائر أولاده وقوّاده وأجناده، وبعد الفراغ مِن طعام وليمة أولَمها لهم أبو الفتح عَهِد إلى ولده عَضُد الدولة بالمُلك بعده، وجعل لولده فَخر الدولة أبي الحسن على همذان وأعمال الجبل، ولولده مُؤيّد الدولة أصبهان وأعماله، وجعلهما في هذه البلاد بحُكم أخيهما عَضُد الدولة، وبعد الخَلع على عَضُد الدولة وسائر الناس في ذلك اليوم، وإجراء المراسيم والتقاليد المعروفة في ذلك العهد، والإيصاء إلى أولاده بالاتّفاق وتَرْك الاختلاف عادَ إلى الري، ولازمه المرض إلى أنْ توفّي في المحرّم سنة ٣٦٦، ولكن ما أوصى به مِن الاتّفاق وترك الاختلاف بين الإخوة، وما أهمّه وأمرضه وأرمضه مِن طَمع وَلده عَضُد الدولة بمملكة ابن أخيه بختيار، ومُلك عَضُد الدولة لها في حياته، ثُمّ تخلّيه عنها اجتناباً لغَضب والده، وما أعقبه ويُعقبه عليه ذلك الغَضب، لم يكن ذلك إلاّ موقوتاً لأجَلٍ وموصولاً حبله بحبل حياة والده، ولم يقضِ نَحبه حتى عاد عَضُد الدولة إلى تنفيذ خُطّته مِن امتلاك العراق على ابن عمّه بختيار، فكان له ما أراد وكانت النهاية ما عرفت.

٢٥٣

قبضُ مُؤيّد الدولة على ابن العميد:

وفي هذه السَنة لمّا مَلك عَضُد الدولة بعد موت أبيه كَتب إلى أخيه فَخر الدولة بالري يأمره بالقبض على أبي الفتح بن العميد، وعلى أهله وأصحابه؛ لأُمور نقمها عليه - وقد سبق بيانه - ففعل فَخر الدولة ما أُمر به.

ذَكر هذا ابن الأثير، وأن القابض على ابن العميد هو فخر الدولة، ولكنّه يقول بعد ذلك في مكان واحد: أنّ المُتولّي لقبضه هو مُؤيّد الدولة، وهذا هو الأصحّ، فقد جاء في وفيات الأعيان:

ولم يزل أبو الفتح في وزارة رُكن الدولة إلى أنْ تُوفّي، وقام بالأمر ولده مُؤيّد الدولة فاستوزره أيضاً، وأقام إلى ذلك مدّة مديدة، وكانت بينه وبين الصاحب بن عبّاد مُنافرة، ويُقال إنّه أغرى قلب مُؤيّد الدولة عليه، فظهر له منه التَنكّر والإعراض، وقبض عليه في بعض شهور سَنة ٣٦٦هـ.

وقال الثعالبي: اجتاح ماله وقَطع أنفه وجزّ لحيته.

وقال غيره: وقطع يديه، فلمّا أيس مِن نفسه، وعَلِم أنّه لا مَخلص له ممّا هو فيه ولو بذل جميع ما تحتوي عليه يَده، فشقّ جيب جُبّة كانت عليه، واستخرج منها رقعة فيها تَذكرة بجميع ما كان له ولوالده مِن الذخائر والدفائن وألقاها في النار، فلمّا عَلِم أنّها قد احترقت، قال للمُتوكّل به:

افعل ما أُمرت به فوالله لا يصل إلى صاحبك مِن أموالنا درهم واحد، فلم يزل يعرضه على أنواع العذاب حتّى تَلف.

قصدُ عَضُد الدولة أخاه فَخر الدولة وأخذه بلاده وتسليمها إلى أخيهما مُؤيّد الدولة:

وهذه الثانية مِن مُخالفة عَضُد الدولة لوصيّة والده له ولأخَويه، فإنّه في هذه السنة سار إلى بلاد الجبل فاحتوى عليه، وكان سَبب ذلك - كما سبق بيانه - ما كان قد جرى مِن المُكاتبة بين بختيار وفخر الدولة مِن الاتفاق على عَضُد الدولة، وحاول عَضُد الدولة أنْ يُصلح هذا الأمر، فراسل أخويه فخر الدولة ومُؤيّد الدولة وقابوس بن وشمكير يُشير عليه بحفظ العُهود.

أمّا جواب فخر الدولة، فكان جواب المناظر المناوئ، ناسياً كِبَر سنّ أخيه وسعة مُلكه وعهد أبيه، وجواب قابوس جواب المُراقب، وجواب مُؤيّد الدولة البقاء على الطاعة، ثُمّ انتهاء الأمر - كما سَبق في أخبار عَضُد الدولة - بمُلك عَضُد الدولة ما كان بيد فَخر الدولة: همذان والري وما بينهما، وتسليمها إلى

٢٥٤

أخيه مُؤيّد الدولة، وجعله خليفته ونائبه في تلك البلاد، ثُمّ نزوله الريّ واستيلاؤه على تلك النواحي.

إقطاع عَضُد الدولة أخاه مُؤيّد الدولة همذان:

وفي سنة ٣٧٠هـ أرسل الصاحب بن عبّاد إلى عَضُد الدولة بهمذان رسولاً مِن عند أخيه مُؤيّد الدولة يبذل له الطاعة والموافقة، فالتقاه عَضُد الدولة بنفسه، وأكرمه وأقطع أخاه مُؤيّد الدولة همذان وغيره، وأقام عند عَضُد الدولة إلى أنْ عاد إلى بغداد فردّه إلى مُؤيّده الدولة، فأقطعه أقطاعاً كثيرة، وسيّر معه عسكراً يكون عند مُؤيّد الدولة في خدمته.

استيلاءُ عَضُد الدولة على جرجان بواسطة مُؤيّد الدولة:

وفي سَنة ٣٧١هـ استولى عَضُد الدولة على بلاد جرجان وطبرستان، وأجلى عنها قابوس بن وشمكير؛ لاحتماء فَخر الدولة، ورَفضه طَلبه بتسليم أخيه مع ما بَذله له لقاء ذلك مِن رغائب في البلاد، ومن أموال وعُهود، فجهّز أخاه مُؤيّد الدولة، وسَيّر معه العساكر والأموال والعدد إلى جرجان والتقوا باستراباذ، فاقتتلوا فانهزم قابوس وأصحابه، وجرت حُروب أُخرى بعد انضمام نجدات إلى فَخر الدولة انتهت كلّها بظَفر مُؤيّد الدولة، كما سبقَ تفصيل ذلك في أخبار عَضُد الدولة.

وفاة مُؤيّد الدولة:

وفي شعبان سَنة ٣٧٣هـ توفي مُؤيّد الدولة بجرجان، وكانت علّته الخوانيق، وقال له الصاحب بن عبّاد: لو عهدت إلى أحد، فقال: أنا في شُغل عن هذا، ولم يَعهد بالمُلك إلى أحد، وكان عُمره ثلاث وأربعين سَنة، وجلس صمصام الدولة للعزاء ببغداد، فأتاه الطائع لله مُعزّياً فلقيه في طيارة.

قال ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية:

وممَّن توفّي مِن الأعيانبويه مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة ، وكان مَلكاً على بعض ما كان أبوه يَملكه، وكان الصاحب بن عبّاد وزيره، وقد تزوّج مُؤيّد الدولة هذا ابنة عمّه مُعزّ الدولة، فغَرم على عرسه سبعمئة ألف دينار، وهذا أمرٌ عظيم.

٢٥٥

السابع: أبو الحسن عليّ بن رُكن الدولة بن بويه المُلقّب فَخر الدولة الديلمي:

مولده: هو ثالث الأخوة مِن أولاد رُكن الدولة، وُلد سَنة إحدى وأربعين وثلاثمئة.

أوّل عهده في المُلك:

لم نجد له ذِكراً في ولايةٍ أو مُلك في عهد أبيه رُكن الدولة، وقد سبق أنّ أباه رُكن الدولة قبل وفاته عَهِد إلى أكبر أخَويه عَضُد الدولة بالمُلك، ولأخيه مُؤيّد الدولة بأصبهان بأعماله، ولهذا بهمذان وأعمال الجبل، على أنْ يكون هو وأخوه في هذه البلاد بحُكم أخيهم، وبعد وفاة رُكن الدولة قبضَ كلّ واحد منهم على عَمله، وذلك في سنة ٣٦٦هـ.

مُخالفته على أخيه عَضُد الدولة:

لقد ذكرنا خَبر مُخالفته على أخيه عَضُد الدولة، ومسيره إلى بلاد الجبل واحتواءه عليه، وتسليمها إلى أخيه مُؤيّد الدولة، وأسباب ذلك الاختلاف في أخبار عَضُد الدولة ومُؤيّد الدولة فلا نُعيده، وكان ذلك في سنة ٣٦٩ و٣٧١، ولم يرد له ذِكر بعد هذا إلى سَنة ٣٧٣.

عودُهُ إلى مَملكته:

في هذه السنة التّي مات فيها أخوه مُؤيّد الدولة، ولم يعهد بالمُلك لأحد كما سبق بيانه، تشاور أكابر دولته فيمَن يقوم مقامه، فأشار الصاحب بن عبّاد بإعادة فَخر الدولة إلى مَملكته إذ هو كبير البيت، ومالك تلك البلاد قبل مُؤيّد الدولة، ولمِا فيه مِن آيات الإمارة والمَلك، فكَتب إليه واستدعاه وهو بنيسابور، وأرسل الصاحب إليه واستخلفه لنفسه، وأقام في الوقت خسرو فيروز بن رُكن الدولة ليُسكّن الناس إلى قُدوم فَخر الدولة، فلمّا وصلت الأخبار إلى فَخر الدولة سار إلى جرجان، فلقيه العسكر بالطاعة، وجلس في دست ملكي في رمضان بغير منّة لأحد، فسُبحان مَن إذا أراد أمراً كان، ولمّا عاد إلى مَملكته، قال له الصاحب:

يا مولانا، قد بلغك الله

٢٥٦

وبلغني فيه ما أمّلته، ومِن حُقوق خدمتي لك إجابتي إلى ترك الجُنديّة، ومُلازمة داري، والتوفّر على أمر الله.

فقال: لا تقلْ هذا، فما أُريد المَلك إلاّ لك، ولا يستقيم لي أمرٌ إلاَّ بك، وإذا كَرهتَ مُلابسة الأُمور كَرهتُها أنا أيضاً وانصرفتُ.

فقبّل الأرض وقال: الأمر لك، فاستوزره وأكرمه وعظّمه، وصدر عن رأيه في جليل الأُمور وصغيرها، وسُيّرت الخِلع مِن الخليفة إلى فَخر الدولة والعهد، واتّفق فَخر الدولة وصمصام الدولة فصارا يداً واحدة.

استجارة أبي العبّاس تاش بفَخر الدولة:

لمّا عُزل أبو العبّاس عن خُراسان بابن سيمجور، عادَ عن بخارا إلى نيسابور، استوزر الأمير نوح عبد الله بن عزيز - وكان ضدّاً لأبي الحُسين العتبي وأبي العبّاس - فلمّا وُلّي الوزارة بدأ بعزل أبي العبّاس عن خُراسان، وإعادة أبي الحسن سيمجور إليه، فكَتب مَن بخُراسان مِن القوّاد إليه يسألونه أنْ يُقرّ أبا العبّاس على عمله، فلم يُجبهم إلى ذلك، فكَتب أبو العبّاس إلى فَخر الدولة بن بويه يستمدّه، فأمدّه بمال كثير وعَسكر، فأقاموا بنيسابور وأتاهم أبو محمّد عبد الله بن عبد الرزاق مُعضِداً لهم على ابن سيمجور، وكان أبو العبّاس حينئذ بمرو، فلمّا سمع أبو الحسن بن سيمجور وفائق بوصول عسكر فخر الدولة إلى نيسابور قصدوهم، فانحاز عسكر فَخر الدولة وابن عبد الرزاق وأقاموا ينتظرون أبا العبّاس، ونزل ابن سيمجور ومَن معه بظاهر نيسابور، ووصل أبو العبّاس فيمَن معه، واجتمع بعسكر الديلم ونزل بالجانب الآخر، وجرى بينهم حروب عدّة أيام، وتحصّن ابن سيمجور بالبلد، وأنفذ فَخر الدولة إلى أبي العبّاس عسكراً آخر أكثر مِن ألفي فارس، فلمّا رأى ابن سيمجور قوّة أبي العبّاس انحاز عن نيسابور، فسار عنها ليلاً، وتبعه عسكر أبي العبّاس فغنموا كثيراً مِن أموالهم ودوابهم، واستولى أبو العبّاس على نيسابور، وأرسل الأمير نوح بن منصور يستميله ويستعطفه، ولجّ ابن عزيز في عَزله، ووافقه على ذلك والدة الأمير نوح - وكانت تَحكم في دولة ولدها - وكانوا يصدرون عن رأيه، ولمّا انهزم ابن سيمجور أقام أبو العبّاس بنيسابور يستعطف الأمير نوحاً ووزيره ابن عزيز، وترك اتّباع ابن سيمجور وإخراجه مِن خراسان، فتراجع إلى ابن سيمجور أصحابه المنهزمون، وعادت قوّته وأتته الأمداد مِن بخارا، وكاتب شرف الدولة أبا

٢٥٧

الفوارس بن عَضُد الدولة وهو بفارس يستمدّه، فأمدّه بألفَي فارس مُراغمة لعمّه فَخر الدولة، فلمّا كثف جمعه قصد أبا العبّاس، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً إلى آخر النهار، فانهزم أبو العبّاس وأصحابه، وأُسر منهم جماعة كثيرة، وقَصد أبو العبّاس جرجان وبها فخر الدولة، فأكرمه وعظّمه وترك له جرجان ودهستان واستراباذ صافية له ومَن معه، وسار عنها إلى الري وأرسل إليه الأموال والآلات ما يحيل عن الوصف، وأقام أبو العبّاس بجرجان هو وأصحابه وجميع العساكر، وسار نحو خُراسان فلم يصل إليها، وعاد إلى جرجان وأقام فيها إلى أنْ مات سَنة ٣٧٧ مدّة ثلاث سِنين.

عصيان محمّد بن غانم على فَخر الدولة:

وفي هذه السنة (٣٧٣) عصا محمّد بن غانم البرزيكاني بناحية كوردر مِن أعمال قُم على فَخر الدولة، وأخذ بعض غَلاّت السلطان، وامتنع بحصن الهفتجان، وجمع البرزيكاني إلى نفسه فسارت إليه العساكر في شوّال لقتاله فهزمها، وأُعيدت إليه مِن الريّ مرّة أُخرى فهزمها، فأرسل فَخر الدولة إلى أبي النجم بدر بن حسنويه يُنكر ذلك عليه، ويأمره بإصلاح الحال معه ففعل، وراسله فاصطلحوا أوّل سَنة أربع وسبعين، وبقي إلى سَنة خمسٍ وسبعين، فسار إليه جيش لفخر الدولة فقاتله، فأصابه طعنة وأُخذ أسيراً فمات مِن طعنته.

التجاءُ أبي الحسين أحمد بن عَضُد الدولة إلى عمّه فَخر الدولة ثُمّ أمره بقَتله:

في سنة ٣٦٥هـ سار شرف الدولة أبو الفوارس بن عَضُد الدولة مِن فارس يطلب الأهواز، وأرسل إلى أخيه أبي الحسين وهو بها يُطيّب نفسه ويَعده الإحسان، وأنْ يُقرّه على ما بيده مِن الأعمال، وأعلمه أنّ مَقصده العراق، وتخليص أخيه الأمير أبي نصر مِن مَحبَسِه، فلم يثق أبو الحسين إلى قوله، وعزم على منعه وتجهّز لذلك، فأتاه الخبر بوصول شَرف الدولة إلى أرجان، ثُمّ إلى رامهرمز فتسلل أجناده إلى شَرف الدولة ونادوا بشعاره، فهرب أبو الحسين نحو الريّ إلى عمّه فَخر الدولة، فبلغ أصبهان وأقام بها، واستنصر عمّه فأطلق له مالاً ووعده بنَصره، فلمّا طال عليه الأمر قصد

٢٥٨

التَغلّب على أصبهان، ونادى بشعار أخيه شَرف الدولة، فثار به جُندها وأخذوه أسيراً، وسيّروه إلى الري، فحبسه عمّه وبقي محبوساً إلى أنْ مَرض عمّه فَخر الدولة مَرض الموت، فلمّا اشتدّ مرضه أرسل إليه مِن قتله، وكان يقول شِعراً، فمِن قوله:

هبِ الصَّبر أرضاني وأعتب صرفُه وأعقب بالحسنى مِن الحَبس والأسرِ

فمَن لي بأيام الشَّباب التي مضتْ ومَن لي بما أنفقتُ في الحبس مِن عُمري

ابن الأثير ج٩ ص١٨.

الخُطبة في الأهواز والبصرة لفَخر الدولة:

في سنة ٣٧٤هـ خَطب أبو الحسين بن عَضد الدولة بالأهواز لفَخر الدولة، وخطب له أبو طاهر بن عَضد الدولة بالبصرة ونقش اسمه على السكّة.

إهداءُ الصاحبِ له ديناراً زِنته ألف مِثقال مَكتوباً عليه أبياتٌ مِن الشعر:

في أوّل المُحرّم سنة ٣٧٨ أهدى الصاحب بن عَبّاد إلى فَخر الدولة ديناراً وزنُه ألفَ مثقال، وكان على أحد جانبيه مَكتوب:

وأحمر يحكي الشمس شكلاً وصورةً فأوصافه مُشتقّة مِن صفاته

فإنْ قيل دينار فقد صدَق اسمه وإنْ قيل ألفٌ كان بعض سِماته

بديعٌ ولم يُطبع على الدهر مثله ولا ضربتْ أضرابه لسراته

فقد أبرزته دولة فَلكيّة أقام بها الإقبال صدر قناته

وصار إلى شاهانشاه انتسابه على أنّه مُستصغر لعفاته

يخبر أنْ يبقى سنين كوزنه لتستبشر الدُنيا بطول حياته

تأنّق فيه عبده وابن عبده وغرس أياديه وكافي كفاته

وكان على الجانب الآخر سورة الإخلاص، ولَقَب الخليفة الطائع لله، ولَقَب فَخر الدولة واسم جُرجان؛ لأنّه ضُرب بها.

وقوله دولة فَلكيّة يعني أنّ لقب فَخر الدولة كان فَلك الأُمّة، وقوله كافي كفاته، فإنّ الصاحب كان لَقبه كافي الكفاة.

٢٥٩

عصيانُ أبي منصور بن كوريكنج على فَخر الدولة وعَوده إلى الطاعة:

في سنة ٣٧٧هـ عصى الأمير أبو منصور كوريكنج صاحب قزوين على فَخر الدولة، فلاطفه فَخر الدولة وبذل له الأمان والإحسان فعاد إلى طاعته.

عصيانُ ابن الفيرزان على فَخر الدولة ومُعاودته الطاعة:

في سنة ٣٧٨هـ عصا نَصر بن الحسن بن الفيرزان بالدامغان على فَخر الدولة، واجتاز به أحمد بن سعيد الشبيبي الخُراساني مُقبلاً مِن الري ومعه عسكر مِن الدَيلم لمُحاربته، فلمّا رأى الجدّ في أمره راسل فَخر الدولة وعاود طاعته، فأجابه إلى قبول ذلك منه وأقرّه على حاله.

مسيرُ فَخر الدولة إلى العراق وطَمعه في مُلكه وما كان منه:

في سنة ٣٧٩هـ سار فَخر الدولة مِن الري إلى همذان عازماً على قصد العراق والاستيلاء عليها، وكان سَبب حركته أنّ الصاحب بن عَبّاد كان يُحبّ العراق لا سيما بغداد، ويُؤثر التقدّم بها، ويَرصُد أوقات الفُرصة، فلمّا توفّي شَرف الدولة عَلمَ أنّ الفرصة قد أمكنت، فوضع على فَخر الدولة مَن يُعظّم عنده مُلك العراق، ويُسهّل أمرها عليه، ولم يباشر هو ذلك خوفاً مِن خَطر العاقبة، إلى أنْ قال له فَخر الدولة:

ما عندك في هذا الأمر؟ فأحال على أنّ سعادته تُسهّل كلّ صَعب وعظم البلاد، فتَجّهز وسار إلى همذان، وأتاه بدر بن حسنويه، وقصده دبيس بن عفيف الأسدي، فاستقر الأمر على أنْ يَسير الصاحب بن عَبّاد وبدر إلى العراق على الجادّة، ويسير فَخر الدولة على خوزستان، فلمّا صار الصاحب حَذر فَخر الدولة مِن ناحيته، وقيل له: ربّما استماله أولاد عَضُد الدولة فاستعاده إليه، وأخذه مَعه إلى الأهواز فملكها، وأساء السيرة مع جندها، وضيّق عليهم ولم يَبذل المال، فخابت ظُنون الناس فيه واستشعر مِنه أيضاً عَسكره، وقالوا: هكذا يفعل بِنا إذا تمكّن مِن إرادته فتخاذلوا، وكان الصاحب قد أمسك نفسه تأثّراً بما قيل عنه مِن اتّهامه فالأُمور بسكوته غير مُستقيمة، فلمّا سَمع بهاء الدولة بوصولهم إلى

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

والبعض الآخر قال : إنّها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزّة والذلّة فقط.

والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال : إنّ لله جيوشا ثلاثة : جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الامّهات ، وجيش يخرج إلى عالم الدنيا من أرحام الامّهات ، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.

وكما قلنا فإنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ خلق جديد وخلقة جديدة ، ويشمل كلّ تغيير وتحوّل في هذا العالم.

ونقرأ في رواية لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في أحد خطبه : «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن ، من إحداث بديع لم يكن»(١) .

ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسيره الآية الكريمة : «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين»(٢) .

ولا بدّ من الانتباه لهذه النقطة أيضا : إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة ، وكذلك الساعات واللحظات ، ومفهومه أنّ الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل.

كما أنّ البعض ذكروا شأنا نزوليا للآية ، وهو أنّها نزلت ردّا على قول اليهود الذين يعتقدون أنّ اللهعزوجل يعطّل كلّ الأعمال في يوم السبت ، ولا يصدر أي حكم(٣) . فالقرآن الكريم يقول : إنّ خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.

ومرّة اخرى ـ بعد هذه النعم المستمرّة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

__________________

(١) أصول الكافي مطابق نقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٣.

(٢) مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، ونقل هذا الحديث أيضا في روح المعاني من صحيح البخاري.

(٣) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٢.

٤٠١

بحوث

١ ـ ما هي حقيقة الفناء؟

ما مرّ بنا في الآيات السابقة وهو أنّ «الكلّ يفنى إلّا الله» ليس بمعنى الفناء المطلق ، وأنّ روح الإنسان تفنى أيضا أو أنّ التراب الناشئ من بدنه بعد الموت سينعدم أيضا ، إذ أنّ الآيات القرآنية صرّحت بوجود عالم البرزخ إلى يوم القيامة(١) .

ومن جهة اخرى فإنّ الله سبحانه يذكر لمرّات عدّة أنّ الموتى يخرجون من قبورهم يوم القيامة(٢) .

ويذكر سبحانه في آية اخرى أنّ رميم العظام يلبس الحياة مرّة اخرى بأمر الله(٣) .

وهذه الآيات كلّها شاهد على أنّ الفناء في الآية والآيات الاخرى بمعنى اضطراب نظام الجسم والروح وقطع الارتباط بينهما واضطراب عالم الخلقة كذلك ، وحلول عالم جديد محلّ العالم السابق.

٢ ـ استمرار الخلق والإبداع

قلنا : إنّ الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) تدلّ على دوام الخلقة واستمرار الخلق ، وأنّها مبعث أمل من جهة ، ونافية للغرور من جهة اخرى ، لذا فانّ القادة الإسلاميين يعتمدون عليها كثيرا لبعث الأمل في النفوس ، كما نقرأ ذلك في تبعيد الصحابي الجليل «أبى ذرّ الغفاري» إلى (الربذة) حيث يذكر التاريخ أنّ علياعليه‌السلام جاء لتوديعه فواساه بكلمات مؤثّرة ، ثمّ أعقبه ابنه الإمام الحسنعليه‌السلام حيث خاطب أبا ذر رضى الله عنه بقوله «يا عمّاه» تكريما له وأعقبه أخوه سيّد الشهداء الإمام

__________________

(١) المؤمنون ، ١٠٠.

(٢) سورة يس ، ٥١.

(٣) سورة يس ، ٧٩.

٤٠٢

الحسينعليه‌السلام بقوله لأبي ذرّ : «يا عمّاه إنّ الله تعالى قادر على أن يغيّر ما قد ترى. الله كلّ يوم في شأن ، وقد منعك هؤلاء القوم دنياهم ومنعتهم دينك فاسأل الله الصبر والنصر(١)

ونقرأ أيضا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام وهو في طريقه إلى كربلاء لقي الشاعر «الفرزدق» عند (صفاح) فسأله الإمامعليه‌السلام عن خبر الناس خلفه ـ إشارة إلى أهل العراق ـ فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء. فقال الإمام الحسينعليه‌السلام : (صدقت لله الأمر يفعل ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن)(٢) .

وكلّ ذلك يرينا أنّ هذه الآية هي الآية باعثة للأمل في نفوس المؤمنين.

وثمّة قصّة اخرى في هذا الصدد حيث ذكروا أنّ أحد الأمراء سأل وزيره عن تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ الوزير أعلن عن عدم علمه بها وطلب مهلة ليوم غد ، ورجع إلى البيت محزونا ، وكان لديه غلام أسود ذو علم ومعرفة ، فسأله عمّا به ، فحدّث غلامه بالقصّة ، فأجابه : إذا ذهبت إلى الأمير فأخبره إذا كان يرغب في معرفة تفسير هذه الآية فأنا مستعدّ لذلك فطلبه الأمير وسأله ، فأجابه الغلام : يا أمير ، شأنه يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحيّ من الميّت ، ويخرج الميّت من الحيّ ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، ويعافي مبتلى ، ويعزّ ذليلا ، ويذلّ عزيزا ، ويفقر غنيّا ، ويغني فقيرا

فقال الأمير : «فرّجت عنّي فرّج الله عنك» ثمّ أكرمه وأنعمه(٣) .

٣ ـ الحركة الجوهرية

__________________

(١) الغدير ، ج ٨ ، ص ٣٠١.

(٢) الكامل لابن الأثير ، ج ٤ ، ص ٤٠.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٣٧.

٤٠٣

بعض المؤيديّن للحركة الجوهرية يستدلّون لإثبات مرادهم بالآيات القرآنية أو يعتبرونها إشارة لمقصودهم ، ومن ضمن ما يستشهدون به الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

التوضيح : يعتقد الفلاسفة القدماء أنّ للحركة أربع مقولات عرضية هي : (أين ، كيف ، كم ، وضع).

وبتعبير أوضح أنّ حركة الجسم تكون بتغيير مكانه وذلك بانتقاله ، وهذه هي مقولة (الأين) ، أو بنموّه أو زيادة كمّيته وهذه مقولة «الكم». أو تغيّر اللون والطعم والرائحة (كشجرة التفاح) وهذا المقصود من «الكيف» ، أو أن يدور في مكانه حول نفسه كالحركة الوضعية للأرض وهذا ما يراد به من «الوضع».

وقد كان سائدا أنّ الحركة غير ممكنة في جوهر وذات الجسم أبدا ، لأنّه في كلّ حركة يجب أن تكون ذات الجسم المتحرّك ثابتة ، إلّا أنّ عوارضه قد تتغيّر ، فالحركة لا تتصوّر في ذات الشيء وجوهره ، بل في اعراضه.

لكنّ الفلاسفة المتأخرّين رفضوا هذه النظرية واعتقدوا بالحركة الجوهرية ، وقالوا : إنّ أساس الحركة هي الذات ، الجوهر ، والتي تظهر آثارها في العوارض.

وأوّل شخص طرح هذه النظرية بشكل تفصيلي استدلالي هو المولى صدر الدين الشيرازي حيث قال : إنّ كلّ ذرّات الكائنات وعالم المادّة في حركة دائبة ، أو بتعبير آخر : إنّ مادّة الأجسام وجود سيّال متغيّر الذات دائما ، وفي كلّ لحظة له وجود جديد يختلف عن الوجود السابق له ، ولكون هذه التغيّرات متّصلة مع بعضها فإنّها تحسب شيئا واحدا ، وبناء على هذا فإنّ لنا في كلّ لحظة وجودا جديدا ، إلّا أنّ هذه الوجودات متصلة ومستمرة ولها صورة واحدة ، أو بتعبير آخر : إنّ المادة لها أربعة أبعاد (طول وعرض وعمق وأمّا البعد الآخر فهو ما نسمّيه (الزمان) وهذا الزمان ليس بشيء إلّا مقدار الحركة في الجوهر) لاحظوا جيّدا.

وممّا يجدر ذكره أنّ الحركة الجوهرية لا ترتبط بمسألة الحركة في داخل

٤٠٤

الذرّة لأنّها حركة وضعية وعرضية ، أمّا الحركة في الجوهر فلها مفهوم عميق جدّا تشمل الذات والجوهر.

والعجيب هنا أنّ المتحرّك هو نفس الحركة.

ولإثبات هذا المقصود فإنّهم يستدلّون بدلائل عديدة لا مجال لذكرها هنا ، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إلى نتيجة هذا الرأي الفلسفي وهو أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ إدراكنا لمسألة معرفة الله أوضح من أي زمان ، لأنّ الخلق والخلقة لم تكن في بداية الخلق فحسب ، بل إنّها في كلّ ساعة وكلّ لحظة ، وإنّ الله سبحانه مستمر في خلقه ، ونحن مرتبطون به دائما ومستفيضون من فيض ذاته وهذا معنى( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

ومن الطبيعي أن لا مانع من أن يكون هذا المفهوم جزءا من المفهوم الواسع للآية الكريمة.

* * *

٤٠٥

الآيات

( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) )

التّفسير

التحدّي المشروط :

النعم الإلهيّة التي استعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم ، إلّا أنّ الآيات مورد البحث تتحدّث عن أوضاع يوم القيامة ، وخصوصيات المعاد ، وفي الوقت الذي تحمل تهديدا للمجرمين ، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين ، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه ، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة. لذلك بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كلّ نعمة من النعم السابقة.

٤٠٦

يقول سبحانه في البداية :( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ) (١) (٢) .

نعم ، إنّ الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجنّ حسابا دقيقا على جميع أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم ، ويعيّن لكلّ منهم الجزاء والعقاب.

ومع علمنا بأنّ الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل ، وعلمه محيط بالجميع في آن واحد ، ولا يشغله شيء عن شيء (ولا يشغله شأن عن شأن) ولكنّنا نواجه التعبير في (سنفرغ) والتي تستعمل غالبا بالتوجّه الجادّ لعمل ما ، والانصراف الكلّي له ، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها.

إلّا أنّه استعمل هنا لله سبحانه ، تأكيدا على مسألة حساب الله تعالى لعباده بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ولا يغفل عن مثقال ذرّة من أعمال الإنسان خيرا أو شرّا ، والأظرف من ذلك أنّ الله الكبير المتعال هو الذي يحاسب بنفسه عبده الصغير ، وعلينا أن نتصوّركم هي مرعبة ومخيفة تلك المحاسبة.

(الثقلان) من مادّة (ثقل) على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضا ، إلّا أنّ (ثقل) على وزن (خبر) تقال عادة لمتاع وحمل المسافرين ، وتطلق على جماعة الإنس والجنّ وذلك لثقلهم المعنوي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلا وشعورا وعلما ووعيا له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضا كما قال تعالى :( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) ،(٣) حيث ورد أنّ أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة ، إلّا أنّ التعبير في الآية مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي ، خاصّة وأنّ الجنّ ليس لهم ثقل مادّي.

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ رسم الخطّ القديم في القرآن المجيد كتبت (أيّها) في موارد بصورة (أيّه) والتي هي في الآية مورد البحث وآيتين أخريين (النور آية ٣١ ، والزخرف آية ٤٩) في الوقت الذي تكتب (أيّها) في الحالات الاخرى بالألف الممدودة ، والملاحظ أنّها كانت على أساس قاعدة رسم الخطّ القديم.

(٢) مع كون «الثقلين» تنبيه فالضمير في لكم أتى جمعا وذلك إشارة إلى مجموعتين.

(٣) الزلزلة ، ٢.

٤٠٧

التأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأنّ التكاليف الإلهيّة مختّصة بهما في الغالب.

وبعد هذا يكرّر الله سبحانه سؤاله مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وتعقيبا على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق ، يخاطب الجنّ والإنس مرّة اخرى بقوله :( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) للفرار من العقاب الإلهي( فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) أي بقوّة إلهية ، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.

وبهذه الصورة فإنّكم لن تستطيعوا أن تفرّوا من محكمة العدل الإلهي ، فحيثما تذهبون فهو ملكه وتحت قبضته ومحلّ حكومته تعالى ، ولا مناصّ لهذا المخلوق الصغير من الفرار من ميدان القدرة الإلهيّة؟ كما قال الإمام عليعليه‌السلام في دعاء كميل بن زياد المربي للروح : (ولا يمكن الفرار من حكومتك).

«معشر» في الأصل من (عشر) مأخوذ من عدد «عشرة» ، ولأنّ العدد عشرة عدد كامل ، فإنّ مصطلح (معشر) يقال : للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة.

«أقطار» جمع (قطر) بمعنى أطراف الشيء.

«تنفذوا» من مادّة (نفوذ) ، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شيء ، والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها.

وبالمناسبة فإنّ تقديم «الجنّ» هنا جاء لاستعدادهم الأنسب للعبور من السماوات ، وقد ورد اختلاف بين المفسّرين على أنّ الآية أعلاه هل تتحدّث عن القيامة ، أو أنّ حديثها عن عالم الدنيا ، أو كليهما؟

ولأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث عن وقائع العالم الآخر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن أنّ الآية تتحدّث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به

٤٠٨

العاصون في ذلك اليوم.

إلّا أنّ البعض بلحاظ جملة :( لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) اعتبرها إشارة إلى الرحلات الفضائية للإنسانية ، وقد ذكر القرآن شروطها من القدرة العلمية والصناعية.

ويحتمل أيضا أن يكون المقصود منها هو عالم الدنيا وعالم القيامة ، يعني أنّكم لن تتمكّنوا من النفوذ بدون قدرة الله في أقطار السماوات ليس في هذه الدنيا فحسب ، بل في عالم الآخرة أيضا ، حيث وضعت في الدنيا وسيلة محدودة لاختباركم ، أمّا في الآخرة فلا توجد أيّة وسيلة لكم.

وفسّرها البعض تفسيرا رابعا حيث قالوا : إنّ المقصود بالنفوذ هو النفوذ الفكري والعلمي في أقطار السماوات ، الذي يمكن للبشر إنجازه بواسطة القدرة الاستدلالية.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مناسب أكثر ، خاصّة وأنّ بعض الأخبار التي نقلت من المصادر الإسلامية تؤيّده ، ومن جملتها حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث يقول :

«إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد ، وذلك أن يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك ، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس والملائكة ، ثمّ يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين ، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجنّ والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثمّ ينادي مناد ،( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة»(١) .

__________________

(١) تفسير الصافي ص ٥١٧ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٥.

٤٠٩

كما أنّ الجمع بين التفاسير ممكن أيضا.

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين «الجنّ والإنس» بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والتهديد هنا لطف إلهي أيضا ، فالبرغم من أنّه يحمل تهديدا ظاهريا ، إلّا أنّه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية ، حيث أنّ وجود المحاسبة في كلّ نظام هو نعمة كبيرة.

وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة ، والذي يتعلّق بعدم قدرة الجنّ والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهيّة حيث يقول سبحانه :( يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ ) .

«شواظ» كما ذكر الراغب في المفردات ، وابن منظور في لسان العرب ، وكثير من المفسّرين أنّه بمعنى (الشعلة العديمة الدخان) وفسّرها آخرون بأنّها (ألسنة النار) التي تقتطع من النار نفسها حسب الظاهر ، وتكون خضراء اللون. وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى شدّة حرارة النار.

و «نحاس» بمعنى الدخان أو (الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان) والتي تكون بلون النحاس ، وفسّرها البعض بأنّها (النحاس المذاب) وهي لا تتناسب في الظاهر مع ما ورد في الآية مورد البحث ، لأنّها تتحدّث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.

وكم هي عجيبة (محكمة القيامة) حين يحاط الإنسان إحاطة تامّة بالملائكة والنار الحارقة والدخان القاتل ، ولا مناص إلّا التسليم لحكم الواحد الأحد في ذلك اليوم الرهيب.

ثمّ يضيف سبحانه قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.

* * *

٤١٠

الآيات

( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) )

التّفسير

يعرف المجرمون بسيماهم :

تكملة للآيات السابقة يتحدّث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة ، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود ، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب ، يقول سبحانه في بداية الحديث :( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ

٤١١

فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ) (١) .

ويستفاد من مجموع آيات «القيامة» بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغيّر ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّا في كلّ الوجود ، فتتغيّر الكواكب والسيّارات والأرض والسماء ، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها ، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه ، وهي انشقاق وتناثر الكرات السماوية ، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.

(وردة) و (ورد) هو الورد المتعارف ، ولأنّ لون الورد في الغالب يكون أحمر ، فإنّ معنى الاحمرار يتداعى للذهن منها.

ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى «الخيل الحمر» ، وبما أنّ لونها يتغيّر في فصول السنة حين يكون في الربيع مائلا إلى الصفرة ، وفي الشتاء يحمّر ، ويقتم لونها في البرد الشديد ، فتشبيه السماء يوم القيامة بها هو بلحاظ التغيّرات التي تحصل في ألوانها فتارة يكون لونها كالشعلة الوهاجة أحمر حارقا ، وأحيانا أصفر ، واخرى أسود قاتم ومعتم.

«دهان» على وزن (كتاب) ، بمعنى الدهن المذاب ، وتطلق أحيانا على الرسوبات المتخلّفة للمادّة الدهنية ، وغالبا ما تكون لها ألوان متعدّدة ، ومن هنا ورد هذا التشبيه حيث يصبح لون السماء كالدهن المذاب بلون الورد الأحمر ، أو إشارة إلى ذوبان الكرات السماوية أو اختلاف لونها.

وفسّر البعض «الدهان» بمعنى الجلد أو اللون الأحمر ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التشبيهات تجسّد لنا صورة من مشهد ذلك اليوم العظيم. حيث أنّ حقيقة الحوادث في ذلك اليوم ليس لها شبيه مع أيّة حوادث اخرى من حوادث عالمنا

__________________

(١) توجد احتمالات متعدّدة في أنّ (إذا) في الآية هل هي شرطية ، أم فجائية ، أم ظرفية ، والظاهر أنّ الاحتمال الأوّل هو الأولى ، وجزاء الشرط محذوف ويمكن تقديره هكذا : (فإذا انشقّت السماء فكانت وردة كالدهان ، كانت أهوال لا يطيقها البيان).

٤١٢

هذا. فهذه المشاهد لا نستطيع إدراكها إلّا إذا رأيناها.

ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة ـ أو قبلها ـ تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء ، ولطف من ألطاف الله سبحانه ، يتكرّر هذا السؤال :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم ، حيث يقول سبحانه :( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) .

ولماذا هذا السؤال وكلّ شيء واضح في ذلك اليوم ، فهو يوم البروز ، وكلّ شيء يقرأ في وجه الإنسان.

قد يتوهّم أنّ المعنى الوارد في هذه الآية يتنافى مع الآيات الاخرى التي تصرّح وتؤكّد مسألة سؤال الله تعالى لعباده في يوم القيامة ، كما ورد في الآية :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) ،(١) وكما في قوله تعالى :( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .(٢)

ويحلّ هذا الإشكال إذا علمنا أنّ يوم القيامة يوم طويل جدّا ، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعدّدة فيه ، حيث لا بدّ من التوقّف في كلّ محطّة مدّة زمنية ، وطبقا لبعض الرّوايات فإنّ عدد هذه المواقف خمسون موقفا ، وفي بعضها لا يسأل الإنسان إطلاقا ، إذ أنّ سيماء وجهه تحكي عمّا في داخله ، كما ستبيّنه الآيات اللاحقة.

كما أنّ بعض المواقف الاخرى لا يسمح له بالكلام ، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه قال تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا

__________________

(١) الصافات ، ٢٤.

(٢) الحجر ، ٩٢ ـ ٩٣.

٤١٣

يَكْسِبُونَ ) .(١)

كما أنّ في بعض المحطّات يسأل الإنسان وبدقّة متناهية عن كافّة أعماله(٢) .

وفي بعض المواقف يسلك الإنسان سبيل الجدل والدفاع والمخاصمة(٣) .

وخلاصة القول : إنّ كلّ محطّة لها شروطها وخصوصياتها ، وكلّ واحدة منها أشدّ رعبا من الاخرى.

ومرّة اخرى يخاطب سبحانه عباده حيث يقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

نعم إنّه لا يسأل حيث( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ) (٤) فهناك وجوه تطفح بالبشر والنور وتعبّر عن الإيمان وصالح الأعمال ، واخرى مسودّة قاتمة مكفهّرة غبراء تحكي قصّة كفرهم وعصيانهم قال تعالى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) .(٥)

ثمّ يضيف سبحانه :( فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ ) .

«النواصي» : جمع ناصية وكما يقول الراغب في المفردات أنّ الأصل بمعنى الشعر بمقدّمة الرأس من مادّة (نصأ) على وزن (نصر) وتعني الاتّصال والارتباط ، «وأخذ بناصيته» بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدّمة رأسه ، كما تأتي أحيانا كناية عن الغلبة الكاملة على الشيء.

أقدام : جمع «قدم» بمعنى الأرجل.

والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم ، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلّة ويلقونهم في

__________________

(١) سورة يس ، ٦٥.

(٢) كما ورد في الآية موضع البحث والآيتين المشار لهما أعلاه.

(٣) كما ورد في الآية في سورة النحل الآية (١١١).

(٤) (سيما) في الأصل بمعنى العلامة ، وتشمل كلّ علامة في الوجه وسائر مواضع البدن ، ولأنّ علامة الرضا والغضب تبدو في الوجه أوّلا ، فإنّه يتداعى ذكر الوجه في ذكر هذه المفردات.

(٥) عبس. ٣٩ ـ ٤١.

٤١٤

جهنّم ، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن ، حيث يقذفونهم في نار جهنّم بذلّة تامّة ، فما أشدّ هذا المشهد وما أرعبه!!

ومرّة اخرى يضيف سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.

ثمّ يقول سبحانه :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

وذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المخاطبين المقصودين في هذه الآية الكريمة ، وهل هم حضّار المحشر؟ أو أنّ المخاطب هو شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، وقد ذكر له هذا المعنى في الدنيا؟ والمرجّح في رأينا هو المعنى الثاني خاصّة ، لأنّ الفعل (يكذّب) جاء بصيغة المضارع. وأستفيد من (المجرمون) ما يحمل على الغائب ، وهذا يوضّح أنّ الله تعالى قال لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذه أوصاف جهنّم التي ينكرها المجرمون باستمرار في هذه الدنيا. وقيل : إنّ المخاطب هو جميع الجنّ والإنس حيث يوجّه لهم إنذار يقول لهم فيه : هذه جهنّم التي ينكرها المجرمون ، لها مثل هذه الأوصاف التي تسمعونها ، لذلك يجب أن تنتبهوا وتحذروا أن يكون مصيركم هذا المصير.

ويضيف سبحانه في وصف جهنّم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول :( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) .

«آن» و «آني» هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق ، وفي الأصل من مادّة (إنّا) على وزن (رضا) بمعنى الوقت لأنّ الماء الحارق وصل إلى وقت ومرحلة نهائية.

وبهذه الحالة فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنّم ، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم ، حيث يعطى لهم ماء مغلي (أو يصبّ عليهم) ممّا يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب

٤١٥

جهنّم ، ويلقى فيها من يستحقّ عذابها ثمّ في النار يسجرون ، قال تعالى :( يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) .(١)

والتعبير بـ( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) في الآية مورد البحث ، يتناسب أيضا مع هذا المعنى.

ومرّة اخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ ، الذي هو لطف من الله يقول البارئعزوجل :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ )

* * *

__________________

(١) المؤمن ، ٧١ ـ ٧٢.

٤١٦

الآيات

( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) )

التّفسير

الجنّتان اللتان أعدتا للخائفين :

يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة جديدة من صفحات يوم القيامة ، ويحدّثنا فيها عن الجنّة وأهلها ، وما أعدّ لهم من النعم فيها ، والتي يصوّرها سبحانه بشكل مشوّق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدّثت عنها الآيات السابقة ، وما ينتظر المؤمنين من جنّات وعيون وقصور وحور في الآيات

٤١٧

أعلاه ، يقول سبحانه :( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) .

«الخوف» من مقام الله ، جاء بمعنى الخوف من مواقف يوم القيامة والحضور أمام الله للحساب ، أو أنّها بمعنى الخوف من المقام العلمي لله ومراقبته المستمرّة لكلّ البشر(١) .

والتّفسير الثّاني يتناسب مع ما ذكر في الآية (٣٣) من سورة الرعد :( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) .

ونقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسيره لهذه الآية أنّه قال : «ومن علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعلمه من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى»(٢) .

ويوجد هنا تفسير ثالث. هو أنّ الخوف من الله تعالى لا يكون بسبب نار جهنّم ، والطمع في نعيم الجنّة ، بل هو الخوف من مقام الله وجلاله فقط.

وهنالك تفسير رابع أيضا ، وهو أنّ المقصود من (مقام الله) هو الخوف من مقام عدالته ، لأنّ ذاته المقدّسة لا تستلزم الخوف ، إنّما هو الخوف من عدالته ، الذي مردّه هو خوف الإنسان من أعماله ، والإنسان المنزّه لا يخشى الحساب.

ومن المعروف أنّ المجرمين إذا مرّوا بالمحكمة أو السجن ينتابهم شيء من الخوف بسبب جناياتهم على عكس الأبرار حيث يتعاملون بصورة طبيعيّة مع الأماكن المختلفة.

وللخوف من الله أسباب مختلفة ، فأحيانا يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف الأفكار ، واخرى بسبب القرب من الذات الإلهيّة حيث الشعور بالخوف والقلق من الغفلة والتقصير في مجال طاعة الله ، وأحيانا اخرى لمجرّد تصوّرهم لعظمة الله

__________________

(١) في الصورة الاولى يكون المقام اسم مكان ، وفي الثانية يكون مصدرا (ميميّا).

(٢) اصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٧ حيث يستفاد من ذيل الحديث أنّ الإمامعليه‌السلام ذكر هذا في تفسير الآية( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) سورة النازعات / ٤٠ بالرغم من كون محتوى الآيتين واحد

٤١٨

اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته العظيمة وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة لله سبحانه ، ويكون خاصا بالعارفين والمخلصين لحضرته.

ولا تضادّ بين هذه التفاسير فيمكن جمعها في مفهوم الآية.

وأمّا (جنّتان) فيمكن أن تكون الاولى ماديّة جسمية ، والثانية معنوية روحية ، كما في قوله تعالى :( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) .(١)

ففي هذه الآية مضافا إلى الجنّة الماديّة حيث الأنهار تجري من تحت الأشجار والمطهّرات من الزوجات ، هناك جنّة معنوية أيضا حيث الحديث عن رضوان الله تعالى.

أو أنّ الجنّة الاولى جزاء أعمالهم ، والجنّة الثانية تفضل على العباد وزيادة في الخير لهم ، يقول سبحانه :( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .(٢)

أو أنّ هناك جنّة للطاعة واخرى لترك المعصية.

أو أنّ أحدهما للإيمان ، والثانية للأعمال الصالحة.

أو لأنّ المخاطبين من الجنّ والإنس ، لذا فإنّ كلّ واحدة من هاتين الجنّتين تتعلّق بطائفة منهما.

ومن الطبيعي أن لا دليل على كلّ واحد من هذه التفاسير ، ويمكن جمعها في مفهوم هذه الآية ، إلّا أنّ من الطبيعي أنّ الله تعالى هيّأ لعباده الصالحين نعما عديدة لهم في الجنّة حيث مستقرّهم ، ولأهل النار (مياه حارقة وسعير لا يطاق).

ومرّة اخرى : وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

__________________

(١) آل عمران ، ١٥.

(٢) النور ، ٣٨.

٤١٩

ثمّ يضيف سبحانه في وصفه لهاتين الجنّتين بقوله :( ذَواتا أَفْنانٍ ) .

«ذواتا» تثنية (ذات) بمعنى صاحب ومالك(١) .

«أفنان» جمع (فنن) على وزن (قلم) والكلمة في الأصل بمعنى الغصون الطريّة المملوءة من الأوراق ، كما تأتي أحيانا بمعنى «النوع». ويمكن أن يستعمل المعنيان في الآية مورد البحث ، حيث في الصورة الاولى إشارة إلى الأغصان الطرية لأشجار الجنّة ، على عكس أشجار الدنيا حيث غصونها هرمة ويابسة.

كما يشير في الصورة الثانية إلى تنوّع نعم الجنّة وأنواع الهبات فيها ، لذا فلا مانع من استعمال المعنيين.

كما يحتمل أن يراد معنى آخر وهو أنّ لكلّ شجرة عدّة غصون مختلفة وفي كلّ غصن نوع من الفاكهة.

وبعد ذكر هذه النعم يكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى فيقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ولأنّ البساتين النضرة والأشجار الزاهية ينبغي أن تكون لها عيون ، أضاف سبحانه في وصفه لهذه الجنّة بقوله :( فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ) .

ثمّ يطرح مقابل هذه النعمة الإضافية قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه لم توضّح لنا شيئا عن طبيعة هاتين العينين الجاريتين وعبّرت عنها بصيغة نكرة ، فإنّ هذه الموارد عادة تكون دليلا على العظمة الإلهيّة ، وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المقصود بهاتين العينين هما «سلسبيل» وتسنيم» قال تعالى :( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ) ،(٢) وقال تعالى :

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ أصل ذات والتي هي مفرد مؤنث كانت ذوات ، والواو حذفت للتخفيف وأصبحت ذات ولكون التثنية ترجع الكلمة إلى أصلها ، لذا أصبحت (ذواتان) وقد حذفت النون عند الإضافة ، وجاء في مجمع البحرين أنّ أصل (ذو) هو (ذوا) على وزن (عصا) ولذلك فلا عجب أنّ مؤنثها يصبح (ذوات).

(٢) الإنسان ، ١٨.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442