تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني13%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113617 / تحميل: 9451
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وفي سَنة ١٠٣٠ هـ - ١٦٢٠م تُوفّي الأمير أحمد بن الأمير يونس الحرفوش، وكان صهر الأمير فَخر الدين، لأنّه كان متزوّجاً ابنته.

وفي سَنة ١٠٣١ هـ، ١٦٢٠م بَلغَ الأمير يونس الحرفوش توجّه الحاج كيوان إلى الأمير فَخر الدين؛ ليوسّط معه بإبقاء ابنته زوجة الأمير أحمد المُتوفّى لتربية ولدها الصغير، ويتزوّجها أخوه الأمير حسين، ويدفع له ثمانية آلاف قرش، فعُرض ذلك على الأمير فَخر الدين فقبله، وسمح له في تزويجها مِن الأمير حسين أخي الأمير أحمد، ووكّل بذلك الحاج كيوان، وطلب أنْ يُدفع المال إلى خزينة الشام، ورجع الحاج كيوان إلى بعلبك، وأبلغ الأمير يونس الحرفوش قبول الأمير فَخر الدين، وقبض منه المال.

وفي هذه السَنة بعد وصول عمر باشا إلى طرابلس، أرسل الأمير فَخر الدين يطلب منه أنْ يُسلّم حمص إلى الأمير يونس الحرفوش، وأدّى له عليها اثني عشر ألف قرش، فأصدر له أوامر بذلك.

وأرسل الأمير يونس ولده الأمير حسيناً حاكماً على حمص، فجمع منها مالاً زائداً وأدّى الاثني عشر ألف قرش إلى عمر باشا.

وفي سنة ١٠٣٢ هـ - ١٦٢٢م عُزل عمر باشا عن طرابلس وابن الحرفوش عن حمص، وتولّى عليهما عُمر بك بن يوسف باشا ابن سيفا.

وفي هذه السنة تولّى عمر باشا على طرابلس، وعُزل يوسف باشا ابن سيفا، وأرسل أوامر إلى الأمير فَخر الدين وللأمير يونس الحرفوش أنْ يكونا مُساعدين له على ضبط أملاك ابن سيفا.

واتّفق في هذه السَنة أنّ الأمير يونس بن الحرفوش أرسل كتاباً إلى كرد حمزة - مأمور سنجق حمص - يُعلمه بما توقّع للأمير فَخر الدين، وعن عزله عن بلاد صفد ونابلس وعجلون، وعن ضبط ابن قانصوه للمواشي والجمال، ويطلب منه أنْ يغتنم الفُرصة، ومِن القضاء والقدر أنّ هذا الكتاب اختلط بكُتب أرسلها كرد حمزة إلى الأمير فَخر الدين، فلمّا وقف الأمير فَخر الدين على هذا الكتاب تغيّر على ابن الحرفوش، وفي الحال رتّب وأخذ مِن عنده مِن السكمان؛ لأنّه أكثر سكمانة كانوا مِن بلاد صفد.

ولمّا وصل إلى قب الياس نزل إلى النهر، فعلم به الأمير حسين بن الحرفوش ونزل إليه، ودعاه إلى داره فقَبِل دعوته وصعد معه إلى القلعة

٢١

بجميع السكمانية، ولمّا استقرّ الأمير فَخر الدين بالقلعة أظهر صكوكاً وأوامر سلطانيّة بمشتراه قلعة قب الياس مِن تَركة الأمير منصور بن عسّاف، وأعطاها للأمير حسين الحرفوش، وقال له:

على موجب هذه الحُجج الدار هي مُلكنا، ونحن أسكنّاكم بها هذه المُدّة، والآن احتجنا إليها فتوجّه أنت إلى والدك بالأمان.

فلمّا سمع الأمير حسين الحرفوش ذلك الكلام تغيّرت أحواله، وما أمكنه أنْ يردّ جواباً، وودّع الأمير فَخر الدين وتوجّه إلى والده إلى بعلبك وأخبره بما حصل، فرحل بعياله إلى الزبداني وخربت بلاد بعلبك، ثُمّ أمر الأمير فَخر الدين بهدم دار قب الياس، وأرسل ابنته زوجة الأمير حسين الحرفوش وولدها إلى والدتها في صيدا، وأمر بنهب غلال أهل بلاد ابن حرفوش فنُهبت، ونُهبت البقاع، وأرسل الأمير بضبط جميع مواشيهم الّتي كانت في البقاع، واستدعى البنّائين وشرعوا في هدم الدار.

ولمّا بلغ الأمير يونس وصول الأمير فَخر الدين بجيشه إلى جسر المجامع، أرسل إلى كرد حمزة أنْ يُوافيه إلى الشام، واجتمعوا بمصطفى باشا، وجعل له تقدمةً على بلاد صفد ثلاثة آلاف قرش زيادة عن المال المربوط عليها، فكَتب الباشا له الأوامر بإحالة سنجقيتها إليه عن يد كرد حمزة بلوكباشية.

ولمّا بلغ الأمير فَخر الدين ذلك كَتب إلى مصطفى باشا وأغاوات الانكشارية في الشام:

(بَلغنا أنّ ابن الحرفوش زاد على سنجق صفد ألف ذهب وقبلتم ذلك منه وأحلتموه إليه، فنحن عندنا تَقدُمة إلى مولانا السلطان مئة ألف ذهب، وإنْ كان ذلك لحزازة في الصدر وقصدكم حدوث الفتنة، وما قبلتم المال يصل إليكم فالأمر لله ثُمّ إليكم).

فلمّا وصلت هذه الكُتب إلى مصطفى باشا، لم يقدر أنْ يَردّ عليها جوباً خوفاً مِن كرد حمزة، وبعد أنْ قضى ابن الحرفوش مصالحه في الشام رجع إلى بعلبك.

وفي هذه السَنة أُعيدت إليه سنجقية صفد بأمر الوزير علي باشا بواسطة الحاج درويش، ولكن والي الشام مصطفى باشا الّذي أبلغه الأمير فَخر الدين الأوامر بذلك لم يُعره التفاتاً؛ ظنّاً أنّها تزوير، وكذلك بقيّة مأموري الشام، فلمّا رجعتْ رُسل الأمير بغير جواب، وأعلموا الأمير عليّاً واقع الحال، ركب بمَن معه مِن صفد، ثُمّ أرسل إلى قب الياس، ولمّا اجتمعت العساكر في قب الياس، ووصل الأمير فَخر الدين والأمير عليّ الشهابي إلى

٢٢

القرعون، وكان إذ ذاك الأمير يونس الحرفوش وابنه الأمير حسين وجميع أقاربهم في بعلبك، وعندهم الأمير عمر بن سيفا وجميع سكمانه وعربه، وبلغهم اجتماع بيت معن وعساكرهم في قب الياس، توجّهوا بعسكرهم إلى مصطفى باشا والي الشام ونزلوا على جسر دير زيتون، وبعد عَلف خيلهم ركبوا وأدركوا الديماس صباحاً، والتقوا بعسكر الشام.

وأمّا الأمير علي، فقد ركب مِن القرعون إلى قب الياس، ولم ينزل بها إلاّ ليدبّر عليق خيوله، فتابع سيره إلى الكرك بجميع الخيل، وكان في الكرك نحو مئة رجل مِن سكمان ابن الحرفوش، فلمّا هجمت الخيل دخلوا إلى مزار نوح (عليه السلام)، وأخذوا يُطلقون نيران بنادقهم على العسكر، فلمّا رأى الأمير ذلك أمر أنْ يكسروا الباب بالفؤوس، فقُتل مِن عسكر ابن معن خمسة رجال، وتسلّموا المزار، وقُتل مِن اللاجئين به نحو أربعين قتيلاً.

وعند ذلك أرسل الأمير إلى ولده الأمير علي، أنْ يَحضر في باقي عسكر الفرسان، وأنّ المُشاة تبقى مع أخيه الأمير يونس في الخيام، وحضر الجميع إلى مدينة الكرك، وعند الصباح أحرق العسكر جميع ما فيها حتّى لم يبقَ بيت، ثُمّ توجّهوا إلى قرية سرعين - الّتي كانت قديماً مَسكن بيت الحرفوش - فوجدوا أهلها قد ارتحلوا إلى الزبداني، فأخذوا منها العليق ثُمّ حرقوها، ورجعوا إلى الشرقي فأحرقوا جميع قُرى بلاد بعلبك.

وأمّا أهل بعلبك، فإنّهم لمّا علموا ذلك تحصّنوا في القلعة، ورجع الأمير إلى قب الياس.

وفي سَنة ١٠٣٣ هـ - ١٦٢٣م خرج مصطفى باشا بجيش كثيف ينيف عدده عن اثني عشر ألفاً، اجتمع مِن أعداء بيت معن، وانضم إليه سكمانية ابن سيفا وابن الحرفوش، وكان عدد جيش الأمير فَخر الدين يبلغ أربعة آلاف، ولمّا وصل عسكر الشام إلى ينبوع عنجر، انتشب القتال بينهم وبين رجال بني شهاب، فهجم عليهم عسكر الشام هجمة واحدة، فأخرجوهم مِن قرية مجدل عنجر، وملك سكمانية ابن سيفا وابن الحرفوش البلدة، وحاصر رجال بيت شهاب في البرج، وظلّ دُخان البارود صاعداً إلى السماء، وسمع الأمير فَخر الدين فَرقَعَة البارود، فغار في عساكره إلى أنْ وصل، ولمّا عَلم رجال بيت شهاب بقدوم الأمير هجموا على الّذين في القرية، واجتمعوا مع فرسانهم واصطفّ العسكر قُبالة ينبوع عنجر بزمورهم وطبولهم ونشروا الأعلام، وبقيت الساقة والذخيرة وراءهم ووقفوا لانتظار عسكر ابن معن،

٢٣

فجاءت مُشاة الأمير فَخر الدين مِن جانب الشمال عند الثغرة التي تنفذ إلى ينبوع عنجر، وأتى عسكر الأمير علي مِن ناحية برج المجدل، وعسكر الأمير يونس مِن الناحية الجنوبية تحت قرية المجدل، ولمّا ظَهرت العساكر المذكورة خرج مِن عسكر الشام - نحو ألف فارس - وأغاروا على العسكر، فثبت أمامهم عساكر ابن معن، وكانت هجمتهم لنحو عسكر الأمير علي، فثبت رجال البلاد.

ولمّا رأى الأمير ميل الفرسان نحو عسكر ولده، أغار في فرسان السكمان على مُقدّمة عساكر الباشا، واجتهد مصطفى كتخدا أنْ يُنجد الأمير عليّاً بمَن معه، إلاّ أنّه لمّا ضَرب الأمير فَخر الدين مُقدمّة الجيش ولّت مِن أمامه، ونكّسوا السنجق الّذي فوق رأس الباشا، ونادى عسكر ابن مَعن بالنصر، فلمّا رأى الفرسان أنّ مُقدّمة جيش الباشا وابن سيفا وابن الحرفوش انكسرت مِن الوراء، ردّوا رؤوس خيولهم ورجعوا مُنكسرين، وتشاغلت عساكر ابن مَعن بالغنيمة والمكَسب ونهب الخيم، ولولا ذلك لهلك مِن عسكر الشام قتلاً ما لا يُحصى.

وأمّا مصطفى باشا، فلم يُمكنه الفرار، وأحاطت به خيل السمكانيّة مِن كلّ جانب وأمسكوه بأيديهم، وأتوا به أسيراً إلى الأمير فَخر الدين والأمير علي، فلمّا رأياه نزلا عن خيلهما وقبّلا ذيل ثيابه، وقدّم له الأمير فَخر الدين فرسه وأركبه عليها، وأمر محمّد بلوكباشي أنْ يتوجّه معه إلى قب الياس، ولم يبقَ معه مِن عسكره سوى مملوكَين قبَض عليهما السكمان، فأمر الأمير بردّ سلاحهم وخيلهم، والّذين أُسروا مِن العسكر أمر بإطلاقهم.

وأمّا الأمير يونس الحرفوش والأمير عمر بن سيفا ورجالهما وكرد حمزة وبلوكباشيّته، فلم يبيتوا إلاّ في مدينة بعلبك، وعند الصباح توجّه الأمير يونس إلى حصن اللبوة، وأبقى عياله في القلعة، والأمير عمر وكرد حمزة توجّها إلى حِمص، وبعد ثلاثة أيّام أرسل الأمير يونس عياله إلى قلعة حصن راويد، وتوجّه هو إلى حماة.

ولمّا دخل الأمير على مصطفى باشا في قب الياس، اعتذر له عن هذه الحرب الّتي لم تكن عن رضاه، والباشا اعتذر له أنْ هذه الحرب لم تكن بخاطره، وأنّ كرد حمزة هو الّذي سبّب ذلك مع ابن الحرفوش، وطلب الأمير مِن الباشا التوجّه إلى بعلبك ليُنظّم أحوالها، وركب الباشا والأمير والحاج كيوان ونزلوا في تمنين، ومنها ساروا إلى مدينة بعلبك فرأوها خراباً، ولم يكن فيها في قلعتها غير مئتي رجل مِن السكمانيّة، فنزل مصطفى باشا

٢٤

والحاج كيوان في دار الأمير شلهوب الحرفوش، ونزل الأمير فخر الدين في دار الأمير يونس، والأمير سليمان بن سيفا في دار الأمير حسين.

وأمّا الأمير يونس الحرفوش، فإنّه لمّا بلغه أنّ الأمير فخر الدين دخل بعلبك توجّه هو وكرد حمزة إلى حلب، ونزلوا على وجاق الاسبهاتيّة وقابلوا مُراد باشا الوزير، وكان الأمير شلهوب الحرفوش قد رجع مِن حمص وقابل مصطفى باشا والأمير فخر الدين، فطَمأنا خاطره وتصرّف في أملاكه، والأمير حسين بقي في حمص عند الأمير عمر بن سيفا، وبعد ذهاب مصطفى باشا مِن بعلبك، أرسل الأمير فخر الدين إلى جبة عسال مَن ضبط معزى ابن الحرفوش، وكانت نحو عشرة آلاف رأس، فأرسل منها ألفين إلى مصطفى باشا.

وفي أواخر صفر هذه السَنة، انضمّ الأمير شلهوب الحرفوش إلى عسكر الأمير فخر الدين، الّذي قدم لإنجاد الأمير مدلج الحياري على ابن عمّه الأمير حسين، وبعد عودة الأمير فخر الدين مِن مُحاربة الأمير حسين الحياري إلى بعلبك أمر السكمان أنْ يُحيطوا بالقلعة، ويُشدّدوا عليها الحصار، وفرّق عليهم هبة، لكلّ واحد خمسة قروش، ولكنّه لمّا وجد منهم إهمالاً بأمر الحصار خرج بنفسه ونصب خيامه على الخندق، فرأى البلوكباشية أنّ الأمير تغيّر خاطره عليهم، فشرعوا في بناء المتاريس وعملوا خنادق، وشدّدوا الحصار إلى أنْ صاروا تحت حائط القلعة، فأمر البنّائين بأنْ يَفتحوا ألغاماً فلم يقدروا؛ لأنّ بناء تلك القلعة مِن عجائب الدنيا، وكان الأمير لا يُفارق المتاريس لا ليلاً ولا نهاراً، ووضعوا أخشاباً مِن الحور على حائط القلعة بحيث إذا رموا الحجارة لا يُصيبون البنّائين، وبقي الحصار مُدّة طويلة، وفي تلك الأيّام حَضر الأمير حسن بن الحرفوش في أواخر ربيع الثاني، وقابل الأمير فخر الدين عن يد خاله الأمير شلهوب، فأقام في بعلبك.

وفي هذه السَنة أوصى مراد باشا الأمير خالداً - الّذي حضر إليه مِن قِبَل الأمير مدلج - أنْ يَمرّ على معرة النعمان، ويقبض على الأمير يونس الحرفوش ويرفعه إلى القلعة، فامتثل الأمر وقبض عليه وأرسله إلى قلعة سلمية، وكان ذلك في أواخر جمادى الأُولى مِن هذه السَنة، فلمّا بلغ الأمير حسين إلقاء القبض على والده - وكان في حماة عند خاله محمّد باشا - خاف على نفسه وخرج ليلاً بسكمانيته، وجاء إلى بلاد الحصن؛ لأنّ عيالهم كانت هُناك، وأرسل إلى خاله الأمير شلهوب أنْ يتوسّط مع الأمير فخر الدين في

٢٥

المُصالحة، وأنْ لا تجري منه مُراسلات إلى مُراد باشا بضرر والده، وأنْ يكون له أربعون ألف قرش، فقَبِل الأمير فخر الدين ذلك.

وفي تلك الأيام: سلّم السكمان الّذين كانوا مُحاصرين في قلعة اللبوة، وحضروا إلى بعلبك لمّا عَلموا بإلقاء مراد باشا القبض على ابن الحرفوش، فأرسلهم الأمير ليُخبروا أصحابهم الّذين في القلعة عن ذلك، ولمّا أخبروهم يئسوا مِن الفرج، وقبلوا بالتسليم شريطة أنْ يخرجوا بسلاحهم، وخرج منهم ثلاثة بلوكباشية، وحضروا عند الأمير فطيّب خواطرهم وأعطاهم الأمان، ثُمّ رجعوا وفتحوا باب القلعة، فخرج جميع مَن فيها بسلاحهم وسباياهم.

وعيّن الأمير عنده جماعة منهم، وكانت مُدّة الحصار أربعة أشهر، ولمّا تسلّم الأمير فَخر الدين القلعة أمر البنّائين بهدمها، فظلّوا مُدّةً لم يهدموا منها إلا اليسير، وبعد تسليم القلعة أرسل الأمير فخر الدين إلى الأمير مدلج يَستعلم منه عن أخبار ابن الحرفوش، فرجع الجواب أنّ مُراد باشا أحضره إلى حَلب، وحال وصوله تَوسَّط له كرد حمزة؛ فأطلقه تحت ضمانة ماليّة لم يُعرف مقدارها، ولم يزل مُقيماً في حلب.

ولم يزل الأمير فَخر الدين يُقيم الفينة بعد الفينة في بعلبك، ولمّا كان قد احتاج وهو فيها إلى مال أرسل الأمير عليّاً الحرفوش إلى أخيه الأمير حسين يطلب منه المال الّذي وقع عليه الصُلح، وعاد مِن أخيه وصحبته أخوه سيد أحمد وأقاربه ووكيل الأمير مدلج الحياري ومعه ستّة عشر ألف قرش، وأبقى الباقي إلى عيد الفطر، فتسلّم الأمير عليّ بن معن المال، ووقع الصلح بينهما، وعاد وكيل الأمير مدلج والأمير سيد أحمد مجبوريّ الخاطر.

ثُمّ في هذه السَنة رجع الأمير يونس إلى جبة عسال، وأرسل هديّة إلى مصطفى باشا عند رجوعه إلى بلاد بعلبك، على أنْ يسمح له بقتل ابن عمّه الأمير شلهوب الحاكم مِن قِبَل الأمير فخر الدين، وجعل له لقاء ذلك ثلاثين ألف قرش هديّة، فلمّا قبضَ الباشا المال بعث مَنْ قبض على الأمير شلهوب، ورفعه إلى القلعة، وضبط جميع مُقتنياته، وبعد يومين قتله، وبعد ذلك تزوّج الأمير عليّ ابن الحرفوش بزوجة الأمير شلهوب.

سَنة ١٠٣٤هـ - ١٦٢٤م في هذه السنة - بعد وصول الأمير فخر الدين إلى صيدا مِن بيروت - حضر له كتاب مِن الأمير علي الشهابي، يُخبره أنّ الأمير حسيناً الحرفوش حضرَ إلى حاصبيا، وأنّه مُستعدٌّ لتأدية المال المُتّفق

٢٦

عليه، على شرط وقوع الصُلح التامّ، وأنْ تُرجع له زوجته - ابنة الأمير فخر الدين - الّتي أُخذت منه لمّا ضبط قلعة قب الياس، فردّ الأمير جواباً للأمير علي، طالباً الأمير حسيناً أنْ يحضر ويكون طيّب الخاطر، فحضرَ الأمير علي وولده الأمير قاسم، معهما الأمير حسين الحرفوش، ولمّا وصلوا إلى مدينة صيدا التقاهم الأمير فخر الدين وولده بكلّ إعزاز وإكرام إلى خارج المدينة، ومكثوا عنده عشرة أيّام، وأدّى الأمير حُسين المال الّذي تعهّد به، وأخذ زوجته ابنة الأمير، ورجع إلى بعلبك مجبور الخاطر.

وفي هذه السَنة أمر الأمير فخر الدين بإصلاح قلعة بعلبك، ووضع فيها السكمان مِن قِبَلِه.

وفي سنة ١٠٣٥هـ - ١٦٢٥م لمّا عُزل حافظ أحمد الوزير الأعظم، وتولّى مكانه خليل باشا توجّه إلى حلب لكي يُحارب الأمير فخر الدين وينهب بلاده، ولمّا بلغه ذلك، أرسل عبد الله بلوكباشي يستعطف خاطره، ويَعده بمالٍ جزيل، وتسليم قلاع: الحصن وصافيتا وسلمية وشميس والمرقب؛ فقبل الوزير ذلك، وبعد أنْ تمّ هذا الاتّفاق بين الأمير والباشا قَتل الوزير الأمير يونس الحرفوش، وتحوّلت الحملة الّتي كان يقودها لحرب الأمير إلى الشام.

وفي هذه السنة ضخمت ولاية الأمير، حيث امتدّت على بلاد العَرب بسورية، مِن حُدود حلب إلى حدود القدس، وأُعطي اسم جدّه الأمير فَخر الدين الأوّل سُلطان البر، ولمّا جدّد بناء بعض القلاع رجع إلى بعلبك وأصلح قلعتها، ووضع فيها سكمانه.

انتهت حال المُترجَم له - الأمير يونس - الّذي طالت ولايته، ولم يَعرف للاستقرار معنى في أثنائها إلى القتل على يد الوزير خليل باشا، بتدبير الأمير فخر الدين المعني، كما كانت نهاية ابن عمّه - خصمه على حُكم بلاد بعلبك - الأمير شلهوب الّذي كان قتله بتدبيره، والناس مجزيّون بأعمالهم.

٦- الأمير شلهوب:

الّذي سبقتْ ترجمته وتفاصيل أحواله في تاريخ الأمير يونس، ولم يكن بين قتلهما غير عام.

وهكذا كانت سياسة ولاية ذلك العَهد، مجموعةً مِن عناصر الأطماع وإرهاق سكّان البلاد بالضرائب والمُصادرات، وإلهابها بالحُروب المتتابعة، وإلقاء الشقاق والتفريق بين الطامحين في الولايات مِن

٢٧

المجاورين البعيدين والأقربين، وبين أبناء الأعمام والإخوان والأولاد، وفي ذلك كلّه عِبرةٌ للمُعتبر، وعِظةٌ للمُتّعظ، وكفى بالتاريخ واعظاً، وهذا هو شأن المتقلّب الغريب في كلّ زمان ومكان، ولله الأمر مِن قبلُ ومِن بعدُ.

٧- الأميرُ حُسين ابن الأمير يونس ابن الأمير حسين:

في سنة ١٠٢٤هـ - ١٦١٥م وهي السنة التي عُزل فيها أحمد باشا الحافظ عن ولاية الشام، وولي مكانه محمّد جركس باشا، الّذي كان مِن باكورة أعماله إطلاق سراح والدة الأمير فَخر الدين المَعني، والكتابة له بالعود إلى بلاده، وكان مِن أعماله إرساله وكيلاً عنه إلى مدينة بعلبك، ممّا حدا بالأمير يونس إلى السفر إلى حَلب، مستصحباً معه أربعين ألف ليرة ذهباً خدمة لوزيرها، فقرّر عليه ولاية البقاع وبعلبك، وكتب إلى محمّد جركس باشا بأنْ يدفع يد الأمير شلهوب الحرفوش عن حُكم بعلبك، فتسلّم البقاع متخّذاً مقامه بقلعة قب الياس، وأقام ولده الأمير حسين - المُترجَم له - حاكماً في بعلبك كما سبق ذِكر ذلك، وهذه هي المرّة الّتي ذُكر فيها اسمه في الحُكم.

وفي سنة ١٠٣١هـ صاهر الأمير فَخر الدين على ابنته الأميرة فاخرة - زوج أخيه الأمير أحمد المُتوفّى ١٠٣٠هـ - كما سبق ذِكر ذلك في ترجمة والده الأمير يونس.

وفي هذه السَنة وليَ حُكم حمص عن والده بعد أنْ ضُمّت إلى أعماله بتوسّط الأمير فخر الدين مع عُمر باشا والي طرابلس، وبعد عزل عُمر باشا مِن ولاية طرابلس في سَنة ١٠٣٢هـ - ١٦٢٢م رُفعت يد الأمير يونس عن ولاية حمص.

وفي هذه السنة كان مقيماً في قلعة قب الياس قاعدة البقاع، فأخرجه منها الأمير فخر الدين لسبب مرّ بيانه، وأحفظ ذلك صدره على الأمير يونس.

وفي سنة ١٠٣٣هـ - ١٦٢٣م لمّا وقعت الحربُ بين الأمير فخر الدين ومصطفى باشا والي الشام انضمّ الأمير يونس إلى والي الشام، وانتهت الحرب بظَفر الأمير فخر الدين وفرار الأمير يونس وولده الأمير حسين، فذهب الوالد إلى مراد باشا في حلب، وأقام الأمير حسين في حمص عند الأمير عمر بن سيفا، وبقيّة أخباره في هذه السَنة مبسوطة في أخبار والده فلا نُعيدها.

٢٨

وبعد مقتل والده سَنة ١٠٣٥هـ - ١٦٢٥م إلى سنة ١٠٤٦هـ - ١٦٣٦م، أي بعد زوال سلطان الأمير فخر الدين مِن البلاد الشاميّة بثلاث سِنين، انقطعت أخبار قومه الحرافشة، ولم نقفْ على مصير المُترجَم له.

٨- الأمير أحمد ابن الأمير يونس ابن الأمير حسين:

مَرّ خبرُ تزويجه بابنة الأمير فخر الدين، وسُكناه قرية مشغرة، واتصاله بشيعة جبل عامل، وتبرّم الأمير عليّ بن الأمير فخر الدين بذلك، وطلبَ مِن أبيه بأنْ يأمره بُمغادرتها، ثُمّ استياء الأمير فخر الدين مِن ذلك بعد عودته مِن توسكانا، وقبضه على الحاج ناصر الدين بن منكر بهذا السبب، ثُمّ خبر وفاة المُترجَم له سَنة ١٠٣٠هـ، فنقتصر على ما سبق، وهو كلّ ما اتّصل به عِلمنا بأحواله.

٩ و١٠- الأميران علي وسيّد ابنا الأمير يونس:

وردَ لهُما ذِكر سابقاً، ولم نجد لهما بعد ذلك خبراً، اللّهمّ إلاّ تزويج الأوّل بزوجة الأمير شلهوب.

١١- الأمير حسن:

ولعلّه مِن أبناء الأمير يونس، وقد ذُكر سابقاً حضوره إلى بعلبك في أثناء مُحاصرة الأمير فخر الدين المعني لقلعتها، ومُقابلته له عن يد خاله الأمير شلهوب، وإقامته في بعلبك.

أخبار الحرافشة بعد انقطاعها مُدّة إحدى عشرة سَنة:

انقطعت أخبار الحرافشة مِن سنة ١٠٣٥ إلى سَنة ١٠٤٦هـ - ١٦٣٦م، وفي هذه المُدّة كانت أيديهم مقبوضة عن حُكم بلادهم الموروث عن آبائهم.

وفي هذه السَنة جَمع آل حرفوش سكمانهم وعربانهم وأتوا يسترجعون بلاد بعلبك، فلمّا بلغَ ذلك نائب الشام خرج بعسكره ووقعت بينهم الحرب، فظفر النائب بهم، وقَتَل منهم مقتلةً عظيمة، وكان ذلك في مُدّة حُكم الأمير ملحم المعني ابن الأمير يونس ابن الأمير قرقماز وابن أخي الأمير

٢٩

فخر الدين، ثُمّ انقطع خبرهم إلى سَنة ١٠٨٢هـ - ١٦٧١م، أي مُدّة ستٍّ وثلاثين سَنة.

١٢- الأمير عليّ الحرفوش:

ففي هذه السنَة ١٠٨٢هـ استنجد الأمير علي بحكومة الشام، وخرج بعسكر، فهزم أولاد عمّه الأُمراء عُمر وشديداً ويونس، فنهب أرزاقهم وحرق دورهم وتولّى بعلبك.

في سنة ١٠٩١هـ - ١٦٨٠م استأجر الأمير فارس بن الشهاب بلاد بعلبك، فتوجّه الأمير عمر إلى آل حمادة وجمع الرجال، وباغتَ الأمير في نيحا فوق الفرزل، فقتله وقتل خمسين رجلاً مِن شيوخ وادي التيم، فجمعَ الشهابيّون العساكر وساروا إلى بلاد بعلبك، فتدخّل الأمير أحمد بن مَعن بالصُلح، وجعل جزيةً على آل حرفوش، كلّ سَنة خمسة آلاف قرش، ورأسين مِن أطايب الخيل.

ولم نقف للأمير عُمر بعد هذا على خَبر.

وفي سنة ١١٠٤هـ - ١٦٩٢م أُذن لمحمّد باشا المعزول عن إيالة طرابلس بحُكم بلاد بعلبك.

وفي هذه السنة بعد مُحاربة علي باشا والي طرابلس الحماديّة وانهزامهم منه، ونيله منهم ما أراده وتصرّفه في العزل والتعيين في الأعمال استناب في بعلبك أحمد آغا الكردي ورحل بالعسكر، وكَتب أحمد آغا هذا إلى آل حمية طالباً حضورهم، وعندما حضروا غدر بهم وقتل منهم ستّة عشر رجلاً، وأرسل الحاج ياغي وأولاده إلى علي باشا فقتلهم.

١٢و١٣- الأميران شديد ويونس:

لم نجد لهما ذِكراً غير ما مرّ سابقاً، ولم نعلم ما آل إليه أمرهما وأمر الأمير عُمر.

انقطاع أخبار الحرافشة إلى سَنة ١١٦٠هـ - ١٧٤٧م:

ففي مدّة تبلغ تسعاً وستّين سَنة لم يعرض المؤرّخون لذكر الحرافشة بشيء.

وفي هذه السنة (١١٦٠هـ) ذَكر المُؤرّخون:

٣٠

١٤- الأمير حيدر:

وأنّه كان في هذه السنة حاكم بعلبك، وقد ذُكر في الحرب الّتي وقعت بين أسعد باشا العظم والأمير ملحم الشهابي، وكان مع الأمير ملحم يومئذٍ الأمير حسين، والأمير حيدر أخوه مع أسعد باشا، ولمّا خرج الباشا إلى الحجّ، أرسل الأمير ملحم عسكراً إلى بلاد بعلبك فطرد الأمير حيدراً وولّى مكانه الأمير حسيناً، وخَرّبت الدروز بلاد بعلبك وقطّعت أشجارها.

وفي سنة ١١٨٨هـ - ١٧٧٤م تُوفيّ الأمير حيدر - وكان قد عَمّر كثيراً - فتولّى مكانه على بلاد بعلبك أخوه الأمير مصطفى الآتي ذِكره.

١٥- الأمير حسين أخو الأمير حيدر:

كان يُنازع أخاه الإمرة، وقد ولاّه حُكم بلاد بعلبك الأمير ملحم الشهابي سنة ١١٦٠هـ ١٧٤٧م كما مرَّ سابقاً.

١٦- الأمير مصطفى:

تولّى حُكم بلاد بعلبك بعد وفاة أخيه الأمير حيدر، وكان لأخيه هذا ولد يُقال له الأمير درويش، فحضر إلى دير القمر يلتمس مِن الأمير يوسف الشهابي الحُكم مكان أبيه، فلم يُلبِّ الأمير يوسف طلبه؛ لأنّ الأمر مصطفى كان أجدر منه بالحُكم، فتوجّه إلى عكّاء، وطلب مِن الشيخ ظاهر العمر الولاية، فكَتب الشيخ ظاهر إلى الأمير يوسف بهذا الأمر، فكان مِن نتيجة هذه الوساطة أنْ جعل حُكم بلاد بعلبك مُقتَسَماً بين الأميرين.

وفي سنة ١١٩٧هـ - ١٧٨٢م حضر الأمير محمّد الحرفوش إلى دير القمر مطروداً مِن أخيه الأمير مصطفى، فجهّز الأمير يوسف معه عسكراً وأقام عليه البعض مِن بني عمّه والبعض مِن وجهاء البلاد، وكان عدد العسكر نحو خمسة آلاف رجل، ولمّا وصلوا إلى بلاد بعلبك هرب الأمير مصطفى وأولاده إلى حمص، وتولّى الأمير محمّد بلاد بعلبك، والتقى الأمير مصطفى في طريقه بعبد الله باشا والي طرابلس وهو متوجّه إلى الحج، ووعده بخمسة وعشرين ألف قرش إذا جعل طريقه على بعلبك، فأبى وسار معه الأمير مصطفى إلى دمشق، ومكثَ هناك.

ورجع عسكر الأمير يوسف إلى البلاد، وتمهّدت ولاية بعلبك للأمير محمّد، وأقام الأمير

٣١

مصطفى في دمشق حتّى رجع عبد الله باشا مِن الحج، فرجع إلى بعلبك بعسكر مِن رجال الدولة، وهربَ الأمير محمّد بأُسرته ومعه جماعة مِن بني الحرفوش، فأقاموا في المجدل في جرد المتن، وأصلح الأمير مصطفى أمره مع الأمير يوسف، وقدّم له المُرتّب المُعتاد على الولاية مِن المال، واستقرّ حُكمه في بلاد بعلبك.

وفي سَنة ١١٩٨هـ - ١٧٨٣م بعد ولاية درويش باشا على دمشق، أرسل عسكراً لكبس الأمير مصطفى في بعلبك، فقبضوا عليه وعلى أخيه وسَبَوا حريم بني الحرفوش ونهبوا المدينة، وأخذوا الأمير مصطفى وأخاه إلى دمشق، فأمر درويش باشا بشنق الأمير مصطفى، وأرسل مِن قِبَلِه مُتسلّماً إلى بعلبك فعدل في حُكمه، وارتاحت الرعايا وارتفعت عنهم المظالم الّتي سنّها فيهم الأُمراء الحرافشة، وكان يُدعى ذلك المُتسلّم سليم آغا.

١٧- الأمير درويش ابن الأمير حيدر:

لم نجد له ما يُدوّن غير ما ذُكر مِن أمره بترجمة عمّه الأمير مصطفى، كما أنّنا لم نقف على نهاية حاله.

١٨- الأمير محمّد أخو الأمير مصطفى:

لم نقف له على غير ما دُوّن مِن خبره بترجمة أخيه الأمير مصطفى، كما أنّنا لم نقف على نهاية ما آل إليه أمره.

١٩- الأمير جهجاه ابن الأمير مصطفى:

قد سبق ذِكر الخَبر في ترجمة الأمير مصطفى عن نهاية أمره على يد درويش باشا والي دمشق، وإخراج الحُكم مِن أيدي بني حرفوش، وتعيينه مُتسلّماً على بعلبك سليم آغا.

وفي سنة ١٢٠١هـ - ١٧٨٦م بعد دخول بطال باشا إلى دمشق الشام، أرسل محمّد آغا العبدَ الّذي كان حاكماً في البقاع مُتسلّماً على بلاد بعلبك، وكان قد رجع الأمير جهجاه ابن الأمير مصطفى وجمع عسكراً، فكبس محمد آغا في بعلبك، وقتل جماعة مِن أصحابه، وهربَ محمّد آغا إلى دمشق، وكان الوزير يومئذ قد همّ بالخروج إلى الحج فلم يتمكّن مِن تجهيز حَملةٍ إلى بعلبك.

٣٢

وفي سَنة ١٢٠٢هـ - ١٧٨٧م بعد رجوع بطال باشا مِن الحج عُزل عن دمشق وتولّى مكانه أظنّ إبراهيم باشا، وبعد دخوله إلى دمشق أرسل عسكره إلى بلاد بعلبك وكبس الأمير جهجاه، فانكسر عسكر الدولة وقُتل منهم جماعة، ثُمّ أرسل الأمير يوسف مُستعطفاً إبراهيم باشا على الأمير جهجاه، ورجع إلى حُكم بلاد بعلبك.

وفي سنة ١٢٠٣هـ - ١٧٨٨م وقعت الحرب بين عسكر الجزار والأمير يوسف، وكان قد انضمّ إلى عسكر الأمير يوسف الأمير جهجاه بعسكر بلاد بعلبك، وكان النصر للأمير يوسف، وبعد انتصاره تفرّق عسكره، ومِن جُملتهم عسكر الأمير جهجاه، وانتشبت حرب ثانية بين الجزار والأمير يوسف انتصر فيها الجزار.

وفي سنة ١٢٠٤هـ - ١٧٨٩م قدٍِم الأمير قاسم ابن الأمير حيدر الحرفوش مُلتجئاً إلى الأمير بشير الشهابي، فجهّز معه عسكراً يرفع الأمير جهجاه عن حُكم بلاد بعلبك، ويُولّي مكانه الأمير قاسماً، وبوصول هذا العسكر إلى بلاد بعلبك التقاهم الأمير جهجاه وكسرهم وسلبَ منهم كثيراً مِن الخيل والسلاح، ولم يُرد أنْ يقتل أحداً منهم، وأسَرَ الأمير مُراد ابن الأمير شديد أبي اللمع، ولمّا وصلَ أمامه أطلقه مُكرّماً.

ثُمّ إنّ الأمير قاسماً جمع عسكراً مِن بلاد الشوف وبلاد بعلبك، وكبس ابن عمّه الأمير جهجاه في مدينة بعلبك، فخرجَ إليه برجاله والتقوا خارج المدينة، فهجم الأمير قاسم على الأمير جهجاه إلى وسط العسكر، وقبل وصوله أصابته رصاصة فقتلته، وكان شجاعاً كريماً كوالده، ولم يكن ظالماً مثل بقيّة بني الحرفوش، وكان له مِن العُمر سبع عشرة سَنة.

وفي سنة ١٢١٤هـ - ١٧٩٩م في ١٣ كانون الأوّل رجع الأمير بشير إلى بلاد بعلبك، فقدّم له الأمير جهجاه الذخائر الوفيرة.

إلى هذه السنة انتهت أخبار هذا الأمير، ولم نقف على مصير أمره فيما بعد هذا التاريخ.

٢٠- الأمير قاسم ابن الأمير حيدر:

لم نقف له على خبرٍ غير ما دُوّن في ترجمة ابن عمّه الأمير جهجاه، وانتهاء أمره بالقتل كما سبق بيانه.

٣٣

انقطاع أخبار الحرافشة إلى سنة ١٢٣٥هـ:

في هذه السَنة أرسل عبد الله باشا الخزندار والي صيدا يطلب مِن سليمان باشا العظم والي دمشق طرد المشايخ النازحين مِن جبل لبنان، فأمرَ بطردهم مِن تلك الديار، فأتوا إلى قرية (معذر) في شرقي البقاع وأقاموا مُدّة يسيرة، فأرسل عبد الله باشا يلتمس منه أنْ يطردهم مِن جميع إيالته، فأمر الأمير أفندي صاحب راشيا أنْ يسير بعسكرهم إلى طردهم مِن هناك، وكَتب إلى الأمير أمير الحرفوش أنْ يُلاقيه مِن الجهة الأُخرى، ولمّا بلغهم قدوم العساكر إليهم مِن وادي التيم وبلاد بعلبك فرّوا هاربين، ونزلوا في قارة والنبك نواحي المشرق.

٢١ - الأمير أمين:

يظهر ممّا سبق أنّ هذا الأمير كان يَحكم بلاد بعلبك قبل هذا التاريخ، وكأنّه لم يكن في أيّامه مِن الحوادث ما يستحقّ التدوين، وكأنّه لم يوجد في أُسرته مَن كان يُنازعه حُكم البلاد، ويَظهر أنّ مُدّة حُكمه قد طالت وامتدّت إلى سَنة ١٢٤٨هـ - ١٨٣١م، ففي هذه السَنة قدم إلى بتدين قاعدة الأُمراء الشهابيّين في عهد ولاية الأمير بشير الكبير ودخل السجن، فبلغ الأمير بشير ذلك فأمر بإحضاره وطيّب قلبه. ويُستدّل مِن هذا أنّ الأمير كان عليه غاضباً.

ولم يرد له بعد ذلك ذِكر ولم يُعرف مصيره.

٢٢ و ٢٣- الأميران خنجر وأخوه الأمير سلمان:

في سَنة ١٢٥٤هـ - ١٨٣٨م جمع الأمير علي اللمعي رجالاً مِن المتن وسار بهم إلى المريجات في البقاع، فقدِم إليه الأمير خنجر والأمير سلمان.

وفيها نزلَ الأمير خنجر وأخوه إلى زوق مكائيل ليجمعا رجالاً.

أمّا الأمير خنجر، فإنّه لمّا وصل إلى المعاملتين مِن كسروان، قال له البعض: خُذ معك بعضاً مِن أهل غزير، ونحن نذهب ونأتي بهم إليك، فساروا إلى الأمير عبد الله وأخبروه بما كان، فقصده الأمير عبد الله بأصحابه للقبض عليه، ولمّا رآهم الأمير خنجر مُقبلين ظنّ أنّهم مِن الأهالي، وإذ اقتربوا منه أحاطوا

٣٤

به فلم يُمكنه الفرار، فقبضوا عليه وعلى أخيه وستّة أشخاص مِن الشيعيّين كانوا معهما، ورجعوا بهم إلى غزير فأمر الأمير عبد الله بوضعهم في السجن، وذاع الخبر في كسروان، فانحدر مِن أهلها ومِن الفتوح نحو مئة رجل إلى غزير بقصد تخليص الأمير خنجر ومَن معه، وأرسلوا إلى الأمير عبد الله يطلبون إخراجهم مِن السجن فأبى، فهجموا على باب السجن وكسروه، وأخرجوا الأميرين وأصحابهما، واسترجعوا أسلحتهم جميعاً وسلّموهم إياهما، وانحدروا بهم إلى جونية فانضمّ إليهم جماعة، وأتى الأمير خنجر بهم إلى المكلس لتهييج المتنيّة.

وفي ذلك الوقت نهض عبّاس باشا وسليمان باشا بالعسكر مِن بيروت إلى الحازميّة ومعهما الأمير مجيد، ثُمّ ساروا إلى حمانا، ولمّا وصلوا تجاه المكلس أطلق الأمير خنجر وجماعته الرصاص، فأرسل إليهم سليمان باشا الأرناؤوط الّذين حين قابلوهم تفرّقوا شَذر مَذر، وفرّ الأمير خنجر إلى جرد العاقورة، فنهب الأرناؤوط ما نهبوا وأحرقوا المكلس وقسماً مِن المنصوريّة وبيت مري ودير القعلة، ورجعوا إلى المُعسّكر.

وفي غضون ذلك أرسل السر عسكر إلى بيت شباب عُمر بك النمساوي ومعه الأمير خنجر الحرفوش ولبنانيّون، فوزّع على أهلها أسلحةً، فالتقاه الأمير سعود إلى عيون العلق وحاربه، فرجع إلى جونية.

ما كتبه عنهم الأُستاذ عيسى المعلوف في كتابه دواني القطوف ونهاية أمرهم:

قال: (أوّل مَن تولّى الحُكم مِن الحرافشة في بعلبك الأمير موسى (أو يونس)، في أوائل القرن السابع عشر، له وقائع مع الأمير فخر الدين المعني وغيره، وآخرهم الأمير محمّد الّذي حدّثته نفسه بالخروج عن طاعة الدولة العليّة، فجمع عسكراً مِن بعلبك ووادي العَجم وتحصّن في قرية معلولا.

وفي الخامس مِن تشرين أوّل سَنة ١٨٥٠ هجمَ عليه مصطفى باشا قائد عسكر الدولة بين معلولا وعين التين، وقتل مِن عسكره نحو ثلاثمئة، وكان زخريا مطران سلفاكية الأرثوذكسي على سطح دير مار تقلا يُشارف المُتقاتلين فأصابته رصاصة وقُتل.

وكذلك الأخ باسيلوسي في دير مارسركيس، ونُهبت معلولا والدير وأُسر تسعة مِن الحرافشة إلى الأستانة العليّة وقُتل بعضهم، ثُمّ دُخل بعلبك وفُعل فيها مثل ذلك، فبقيت فيها بقيّةٌ

٣٥

منهم كانت تُلقي الفِتن، فتعقّبتهم الدولة إلى أنْ فتكت بهم سَنة ١٨٦٦، فلم يقم لهم بعد ذلك قائمة، ولا يزال منهم فئة قليلة في تمنين وسرعين وشيث وحرسته والنبي رشادة في بعلبك، ويُؤخذ عليهم الجور والاعتساف مُدّة حُكمهم هذه البقعة أربعة قُرون.

أمّا الّذين نُقلوا إلى الآستانة، فنشأ منهم نصرة باشا رئيس شورى الدولة وغيره).

وإليك أخبارهم مُرتّبة على السنين مأخوذة عن دواني القطوف:

(في سنة ١٧٦٧ أخذ الأمير يوسف بلاد جبيل مِن الحماديّين وطردهم منها، وصار يَدفع المُرتّب عليها إلى حاكم طرابلس، فالتجأ الحماديّون إلى الأمير حيدر الحرفوش، فأرسل معهم أُناساً إلى جبة المنيطرة وبلاد جبيل وأخذوا يعيثون فيها، فقام الأمير يوسف إليهم بعسكره، والتقوا في أميون (المصونة) فكسرهم إلى الهرمل، ورفع يد الأمير حرفوش عن بعلبك؛ لأنّه كان قد استولى على دير السيدة في رأس بعلبك فهرب رهبانه، وعاون الحماديّة، وولّى أخاه الأمير محمّداً فأرجع هذا الدير، وأمّن رُهبانه.

وفي سنة ١٧٧٧ أرسل الجزار قسماً مِن فرقةٍ مِن جيشه تُسمّى بالقبيسي بقيادة مصطفى آغا ابن قراملا لمُصادرة اللمعيّين وغيرهم.

ففي آخر نيسان مرّوا بقلعة قب الياس وتركوها - لمُقاومة مَن فيها لهم - إلى مدينة بعلبك، وعاثوا فيها وصادروا كبار المتاولة بالأموال، وسجنوا الأمير محمّداً الحرفوش وأخذوا منه مالاً كثيراً، وبعد قليل خرج عليهم الأمير يوسف الشهابي وثَبّت الأمير جهجاه بن مصطفى في حُكم بعلبك، فارتدّوا إلى البقاع.

ولمّا كثُر عيثُ هذه الجند في البلاد أوغرَ ذلك صدر الأمير يوسف، فجمع عسكراً فيه الأُمراء اللمعيّون والمعلوفيّون، وانضمّ إليهم الحرافشة فواقعوا الجزار وهزموا عساكره.

وفي سَنة ١٧٨١ سكن بنو شبلي المعلوف في بلاد بعلبك وتركوا موطنهم كفرعقاب، فرأى منهم الأُمراء الحرافشة بسالةً وحميّة ونشاطاً حملهم على ترغيبهم في سُكنى بلادهم، وكانت الضرائب الكثيرة قد أرهقت سُكّان لبنان، فرأوا أنّ في تلك البقاع الخصيبة موارد غزيرةً للارتزاق، وأنّ وطأة الأُمراء الحرافشة مع استبدادهم أخفّ محملاً مِن وطأة الجزار وعيثه في البلاد وتقسيمه السكّان، فسكنوا أوّلاً (لاسا)، ثُمّ أقطعهم الأمير

٣٦

مصطفى الحرفوش محلّ قرية شليفة (المروج) وما يُجاورها وردين وبجامة، فبنوا تلك القرية وصاروا أغَوات الحرافشة الّذين كانوا قد تولّوا أحكام بعلبك مُنذ زمنِ الأمير يونس سَنة ١٥٣٤م، وتوالى ذلك في أعقابهم، وكان مَن أنفذهم بهذا الوقت الأُمراء حيدر ومصطفى ومحمّد، فتولّى الأمير حيدر حُكم بعلبك سنة ١٧٦٣ إلى قُرب وفاته سَنة ١٧٧٤، واشتهر بحبّه للعدل ودماثة الأخلاق، فخلّفه أخوه الأمير مصطفى قبل موته بقليل؛ لأنّه كان قد عجز عن القيام بأعباء الولاية لهرمه، فناهضه الأمير درويش بن حيدر هذا، وتولّى قسماً مِن بعلبك سنة ١٧٧٤.

ثُمّ اشتدّ الخصام بين الأميرين مصطفى ومحمّد لتنازعهما الولاية، فتولاّها محمّد سَنة ١٧٧٦، وارتفعت يد الأمير مصطفى الّذي كان يميل إلى المسيحيّين، ولا سيّما أهل زحلة وبني المعلوف بخلاف أخيه محمّد الّذي لم يكن يميل إليهم، فكانت هذه السَنة التي سَكن فيها بنو شبلي شليفة أشدّ السِنين هولاً لِما كان بين ذينك الأميرين المذكورين مِن النفرة، وكان الأمير محمّد قد شكا أخاه الأمير مصطفى أنّه يُحزّب أهل زحلة والمعلوفيّين ضدّه ويعيث في البلاد، فأرسل وزير دمشق عثمان باشا المصري ليقبض على مصطفى فلم يجده؛ لأنّه فَرّ هو وأهل زحلة فحُجزت غِلالهم، وذهب إلى رأس بعلبك والبقاع، ورفع يد الحرافشة عنهما؛ لأنّهما مِن أملاك والدة السلطان، فعاد سُكّانهما إليهما بعد أنْ تركاهما لِما سامهم الحرافشة مِن التحامل).

وفي هذه السَنة عصت قبيلة عَرب الشقيفة على الأمير محمّد الحرفوش حاكم بعلبك، وأبتْ أنْ تَدفع المكوس المُرتّبة عليها، فاستقدم الأمير محمّد موسى شبلي المعلوف المشهور بسطوته وقوّته، فأعدّ له عسكراً وسلّمه قيادتهم ليواقعوا أولئك العربان ويؤدّبوا عُصاتهم، فأبى أنْ يأخذ معه سوى نفرين، فقصد بهما العَرب وناصبهم القتال، وفي أثناء المُناوشة كانوا يرشقونه بالمقالع، وكثيراً ما كان يتلقف الحجر وهو مندفع عليهم ويرميهم به بقوّة ذراعه فيُدميهم، وهكذا دوّخ عُصاتهم وأرغمهم وتقاضاهم المُرتّبات فدفعوها، وعاد ظافراً فارتفعت منزلته لدى الأمير.

وسَنة ١٧٨٢م في شباط سار الأمير مصطفى الحرفوش إلى وزير دمشق عثمان باشا المصري، فبعد أنْ استقبله زجّه في السجن وصادره بمئتي كيس، فتشفّع به بعضُ أصدقائه أنْ يدفع مئة كيس ويُسلّم مرعي

٣٧

البقداني - المتوالي الثائر مِن أهل بريتال (بريتان) - وخَلع عليه، فعاد إلى بعلبك وقبض على مرعي المذكور وخمسة مِن ذوي قُرباه بواسطة طنوس شبلي المعلوف وإخوته، ثُمّ أرسلهم إلى دمشق.

وفيها انتقلت وزارة دمشق إلى أحمد باشا العظم، وكان بعض متاولة بلاد بشارة قد هربوا مِن وجه الجزار بعد مَقتل ناصيف والقبض على ابنه وضبط بلادهم وفتكه بكثيرين منهم، فجاءوا بلاد بعلبك ولاذوا بحمى الحرافشة، فاتّصل خبرهم بالوزير، وتوسّط أمرهم عند الأمير مصطفى الحاكم فأعطاهم قريتي القاع ورأس بعلبك، ونزع الهرمل مِن يد الأمير يوسف الشهابي وولّى عليها جميعها الشيخ قبلان أحد الفارّين مِن وجه الجزار.

وفيها تغيّر الأمير مصطفى على أهل زحلة وأراد مصادرتهم، وتهدّدهم بالإغارة عليهم، فكَتب الأمير يوسف الشهابي للأمير شديد مراد اللمعي أنْ يذهب بالزحليّين وغيرهم ويُهاجم بر الياس، فهاجمها ونهبها، ثُمّ نهبَ عسكره قرية النبي إيلا (إيليا)، وقتلوا رجلاً مِن بني حمية فترك البقاعيّون بلادهم وقد خرّبوا قلعة قب الياس؛ لأنّ الأمير سيّد أحمد أخا الأمير يوسف الوالي كان يفرّ إليها ويتّخذها مَعقلاً للدفاع.

وكان الأمير محمّد الحرفوش قد جاء دير القمر فارّاً مِن وجه أخيه، فجهّز الأمير يوسف عسكراً نحو خمسة آلاف لمُساعدته، وقد تولّى قيادته نَفَر مِن بني عمّه وأعيان البلاد، فهاجموا بعلبك وانحاز إليهم المعلوفيّون؛ لأنّ الأمير مصطفى تغيّر في تلك السَنة على مسيحيّي زحلة الّذين كان بينهم بعض المعلوفيّين أنسبائهم، فدحروا مصطفى وهَرب إلى جهات حمص، واستقدم مِن نواحيها جُنداً كثيراً فلاقاه الأمير محمّد برجاله، فقتلوا مِن عسكر الأمير مصطفى عشرة رجال، ولكنّه تغلّب أخيراً لكثرة رجاله فدخل بعلبك، وهرب أخوه محمّد إلى زحلة مع رجاله ولبث فيها مدّة، ثُمّ انحاز إلى أحمد باشا الجزار فقبض عليه، ولذلك أرسل مصطفى يتهدّد الزحليّين ويُصادرهم بأموال كثيرة، وجَمع رجالاً تأهُّباً لقتالهم فرحل بعضهم تاركين البلدة، وضايق بني شبلي في شليفة فثبتوا أمامه، وأخذوا يسعون بعزله عند وزير دمشق أحمد باشا ابن العظم الّذي تُوفّي على أثر ذلك، وتولّى مكانه أحد مماليكه محمّد باشا ابن عثمان باشا الصادق الكراجي، فلم يطلْ عُمره أكثر مِن ثلاثة أشهر فخلفه

٣٨

أخوه محمّد درويش باشا، فاتّفق الوزير مع الجزار على إخراج الأمير مصطفى مِن بعلبك، وأرسل عسكراً لمُهاجمته فاتّحد معه بنو المعلوف، فقبضوا عليه وعلى إخوته الخمسة، فقَتل الوزير منهم ثلاثة بينهم مصطفى هذا وسجَن الباقين، وسَبَوا حريم الحرافشة ونهبوا المدينة، ونجا ولده جهجاه مِن أيدي العساكر بواسطة المعلوفيّين؛ لأنّهم كانوا يُحبّونه، فسار إلى عرب خُزاعة - أبناء عمّ الحرفوشيّين - واستعان بهم على إرجاع بعلبك فلم يُلبّوا طلبه، ّبل اعتذروا، ولكنّهم أمدّوه بمالٍ كثيرٍ وأعطوه فَرساً صفراء كريمة فعاد إلى بلاده سَنة ١٧٨٦.

وتولّى حُكم بعلبك رمضان آغا مِن قِبَل وزير دمشق فركدت رياح الفِتن وسادَ الأمان ورُفعت المظالم، وقد أوصى الوزير ذلك الحاكم بالزحليّين والمعلوفيّين.

وفي سَنة ١٧٨٤م وَرد خطٌّ شريفٌ مِن الآستانة بإلحاق بلاد بعلبك بحُكم الجزار، فأرسلَ مِن قِبَله حاكماً اسمه سليم آغا فصارت تحتَ تصرّف الجزار.

وفي سَنة ١٧٨٦م أرسل بطال باشا وزير الشام رجُلاً زنجيّاً اسمه محمّد آغا العبد حاكم البقاع مُتسلّماً على بلاد بعلبك، فجاء الأمير جهجاه ابن الأمير مصطفى مِن عند عَرب خُزاعة أنسبائه إلى زحلة، وجَمع مئة مُقاتل وفي مُقدّمتهم بنو شبلي الّذين كانوا يميلون إليه، ولمّا تكامل عدد جيشه نعل الخيل باللباد ودخل بعسكره ليلاً وقتلوا مَن التقوا به، فهجم بنو المعلوف على العبد ورجاله المغاربة فقتلوا عدداً منهم، وكاد العبد يسقط بين يدَي موسى المعلوف، ولكنّه تمكّن مِن الفرار إلى دمشق، وكان الوزير قد همّ بالخروج إلى الحجّ، فلم يستطع إرسال عسكر إلى بعلبك للاقتصاص مِن الأمير جهجاه، وكان عمّه الأمير محمّد قد التجأ إلى الأمير يوسف الشهابي في دير القمر، فتُوفّي ودُفن في مجدل ترشيش، فصفا الجوّ لجهجاه.

وفي سنة ١٧٨٧م عاد بطال باشا مِن الحج فأرسل المنلا إسماعيل بألفٍ ومئتي فارس للاقتصاص مِن جهجاه، فالتقاه هذا هو وأخوه الأمير سلمان بأهل زحلة والمعلوفيّين وغيرهم، فكَمِن بعضهم في مضيق زحلة إلى أنْ وصلَ إليهم العسكر وأطلقوا عليهم الرصاص، والتحم الفريقان فتقهقرت عساكر المنلا، وتبعهم رجال الأمير إلى قرية السلطان إبراهيم، وأعملوا

٣٩

السلاح في أقفيتهم فلم يهلك مِن رجال الأمير سوى نَفر قليلين، فعاد جهجاه إلى بعلبك وتولّى الحُكم.

وفي سَنة ١٧٨٧م عُزل بطال باشا، ونُصّب مكانه أظنّ إبراهيم باشا - نسيب وزير طرابلس الشام الّذي كان عنده - فسار مِن هناك إلى مدينة حماة، وقبض على كبارها وصادرهم بألف وأربعمئة كيس، وبعث إلى الأمير جهجاه الحرفوش بعسكر يُناصبه ويتهدّده على صنيعه الّذي مرّ وطردِهِ العبد، ففرّ الأمير جهجاه بأهل المدينة مِن مُسلمين ومسيحيّين، وخرّب الطواحين وحمل الأهلين على مُغادرة المدينة والقُرى الّتي تتبعها، ثُمّ صعد إلى قرية ضيرة وحاصرها، وفيها جماعة بينهم المعلوفيّون.

وكان وزير دمشق - أظنّ - إبراهيم المذكور قد دخل دمشق، وأسند حُكم بلاد بعلبك إلى الأمير كنج ابن الأمير محمّد الحرفوش، فأرسل كنج مغاربة ودالاتية لقتل ابن عمّه جهجاه، فاستصرخ هذا الأمير يوسف الشهابي والأمير شديد مُراد اللمعي، فأرسلا إليه عسكراً كان فيه بعض المعلوفيّين فما وصلتْ الرجل حتّى استعاد جهجاه ورجاله قوّتهم، وناهضوا عسكر ابن عمّه الأمير كنج، فقتلوا أربعين رجلاً مِن المغاربة ودحروا الباقين إلى بعلبك. وكان هذا في التاسع مِن آذار، فأوغر ذلك صدر الوزير غيظاً ففاوض الأمير يوسف وبواسطة عبّاس التل حاكم الزبداني، وانفضّ المُشكل وأُعيدت الولاية إلى جهجاه، وحمل إليه خِلَع الولاية عبّاس المذكور، على شرط أنْ يَدفع نحو مئتي كيس مصادرة، فسرّ الناس بذلك وخاصّة الزحليّين؛ لأنّ أهلها كانوا على أُهبة الرحيل، وبعد ذلك بقليل جاء الأمير جهجاه زحلةَ حيث كان عياله، ومِن ذلك الوقت ارتفع شأنُ بني شبلي المعلوف لدى الأمير جهجاه، فكانوا يده يَعتمد على آرائهم؛ فانفتح الباب لأنسبائهم فأخذوا يستعمرون بلاد البقاع وبعلبك.

وفي هذه السَنة سعى المعلوفيّون بالأمير كنج الحرفوش - عملاً بإشارة ابن عمّه جهجاه - فاستقدمه وزير الشام وطالبه بنفقات العساكر الّتي أعانته وقَدَرها خمسة عشر ألف كيس، فلمّا تعذّر عليه دفعها زجّه في السجن، ثُمّ سار لتأدية فريضة الحج، فأرسل الأمير جهجاه أحد أنسبائه فسعى بالأمير كنج لدى المُتسلّم؛ فقتله خَنقاً في سجنه.

وفي هذه السنة سار الأمير جهجاه برجاله لمُعاضدة الأمير يوسف

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442