تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني17%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113693 / تحميل: 9455
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الدَيلم مع بهاء الدولة أربعمئة رجل مستأمنين، فأخذهم لشكرستان وسار بهم وبمَن معه إلى البصرة فكثر جَمعه، فنَزلوا قُرب البصرة بين البساتين يُقاتلون أصحاب بهاء الدولة، ومال إليهم بعض أهل البصرة، ومُقدّمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي، وكانوا يحملون إليهم الميرة، وعَلم بهاء الدولة بذلك فأنفذ مَن يَقبض عليه، فهرب كثير منهم إلى لشكرستان فقويَ بهم، وجمعوا السُفن وحملوه فيها ونزلوا إلى البصرة، فقاتلوا أصحاب بهاء الدولة بها وأخرجوهم عنها، ومَلك لشكرستان البصرة، وقتل مِن أهلها كثيراً وهربَ كثير منهم، وأخذ كثيراً مِن أموالهم، فكَتب بهاء الدولة إلى مُهذّب الدولة صاحب البطيحة يقول:

أنتَ أحقّ بالبصرة، فَسَيَّرَ إليها جيشاً مع عبد الله بن مرزوق..، وقيل إنّما فارقها فأجلى لشكرستان عن البصرة..، وقيل إنّه سار عن البصرة بغير حَرب، ودخلها ابن مرزوق..، وقيل إنّما فارقها بعد أنْ حارب فيها وضَعُف عن المقام بين يديه، وصفت البصرة لمُهذّب الدولة.

ثُمّ إنّ لشكرستان عَمل على العود إلى البصرة، فهجم عليها في السُفن، ونزل أصحابه بسوق الطعام، واقتتلوا فاستظهر لشكرستان، وكاتبَ بهاء الدولة يطلب المُصالحة، ويبذل الطاعة ويخطب له بالبصرة، فأجابه مُهذّب الدولة إلى ذلك، وأخذَ ابنه رهينة، وكان لشكرستان يُظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومُهذّب الدولة، وعسفَ أهل البصرة مدّة فتفرّقوا، ثُمّ إنّه أحسن إليهم وعدل فيهم فعادوا.

وفي هذه السنة مَلك المقلد بن المسيّب الموصل، وقد مرّ خَبر ذلك في أخبار بني المسيّب.

وفي سنة ٣٨٧هـ خَرج أبو الحسن عليّ بن مزيد عن طاعة بهاء الدولة، وسبقَ الخَبر عن ذلك في مكانه فلا نُعيده.

مسيرُ بهاءِ الدولةِ إلى واسط:

في سنة ٣٨٨هـ عاد أبو عليّ بن إسماعيل إلى طاعة بهاء الدولة وهو بواسط، فوزرَ له ودبّر أمره، وأشار عليه بالمسير إلى أبي محمّد بن مكرم ومَن معه مِن الجُند ومساعدتهم ففعل ذلك، وسار على كُره وضيق فنزل بالقنطرة البيضاء، وثبت أبو عليّ بن أستاذ هرمز وعسكره، وجرى لهم معه وقائع كثيرة، وضاق الأمر ببهاء الدولة وتعذّرت عليه الأقوات، فاستمدّ بدر بن حسنويه فأنفذ إليه شيئاً قام ببعض ما يُريده، وأشرف بهاء الدولة على الخَطر،

٣٠١

وسعى أعداء أبي عليّ بن إسماعيل به حتّى كاد يبطش به، فتجدّد مِن أمر ابنَي بختيار وقتل صمصام الدولة ما أتاه به الفرج مِن حيث لم يحتسب، وصَلح أمرُ أبي علي عنده واجتمعت الكلمة عليه.

مَقتل صمصام الدولة:

في هذه السنة في ذي الحجّة قُتِل صمصام الدولة بن عَضُد الدولة، وسَبب ذلك أنّ جماعة كثيرة مِن الدَيلم استوحشوا مِن صمصام الدولة؛ لأنّه أمرَ بعرضهم وإسقاط مَن ليس بصحيح النَسب، فأسقط منهم مقدار ألف رجل، فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، واتّفق أنّ أبا القاسم وأبا نصر ابنَي عِزّ الدولة - بختيار - كانا مقبوضين، فخدعا الموكّلين بهما في القلعة، فأفرجوا عنهما، فجمعا لفيفاً مِن الأكراد، واتّصل خبرهما بالّذين أُسقطوا مِن الدَيلم فأتوهم، وقصدوا إلى أرجان فاجتمعت عليها العساكر، وتحيّر صمصام الدولة ولم يكن عنده مَن يُدبّره، وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مُقيماً بنسا، فأشار عليه بعض مَن عنده بتفريق ما عنده مِن المال في الرجال، والمسير إلى صمصام الدولة وأخذه إلى عسكره بالأهواز، وخوف إنْ لم يفعل ذلك فشحّ بالمال، فثار به الجُند ونهبوا داره وهربوا، فاختفى فأُخذ وأُتي به إلى ابنَي بختيار فحُبس ثُمّ احتال فنجا.

وأمّا صمصام الدولة، فإنّه أشار عليه أصحابه بالصعود إلى القلعة التي على باب شيراز، والامتناع بها إلى أنْ يأتي عسكره ومَن يمنعه، فأراد الصُعود إليها فلم يُمكّنه المستحفظ بها، وكان معه ثلاثمئة رجل فقالوا له:

الرأي أنّنا نأخذك ووالدتك ونسير إلى أبي عليّ بن أستاذ هرمز، وأشار بعضهم بقصد الأتراك وأخذهم والتَقوّي بهم ففعل ذلك، وخرج معهم بخزائنه وأمواله فنهبوه، وأرادوا أخذه فهَرب، وسار إلى الدودمان على مرحلتين مِن شيراز، وعَرف أبو نصر بن بختيار الخبر فبادر إلى شيراز، ووثبَ رئيس الدودمان - واسمه طاهر - بصمصام الدولة فأخذه، وأتاه أبو نصر بن بختيار وأخذه منه فقتله في ذي الحجّة، فلمّا حُمل رأسه إليه قال:

هذه سُنّة سنّها أبوك - يعني ما كان مِن قتل عَضُد الدولة بختيار - وكان عُمر صمصام الدولة خمساً وثلاثين سَنة وسبعة أشهر، ومُدّة إمارته بفارس تسع سنين وثمانية أيّام، وكان كريماً حليماً.

وأمّا والدته، فسُلّمت إلى بعض قوّاد الدَيلم، فقتلها وبنى عليها دكّة في داره، فلمّا مَلك بهاء الدولة فارس أخرجها ودفنها في تربة بني بويه.

٣٠٢

مِلكُ بهاءِ الدولةِ فارس وخوزستان:

في سنة ٣٨٩هـ دخلَ الدَيلم مع أبي عليّ بن أستاذ هرمز بالأهواز في طاعة بهاء الدولة، وكان سَبب ذلك أنّ ابنَي بختيار لمّا قَتلا صمصام الدولة ومَلكا بلاد فارس كَتبا إلى أبي عليّ بن أستاذ هرمز بالخَبر، ويُذكر أنّ تعويلهما عليه واعتضادهما به، ويأمرانه بأخذ اليمين لهما على مَن معه مِن الدَيلم والمُقام بمكانه والجدّ بمحاربة بهاء الدولة، فخافهما أبو علي لِما كان أسلفه إليهما مِن قبل أخويهما وأسرِهما، فجَمعَ الدَيلم الذين معه وأخبرهم الحال واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بطاعة ابني بختيار ومُقاتلة بهاء الدولة، فلم يوافقهم على ذلك، ورأى أنْ يُراسل بهاء الدولة ويستميله ويحلفه لهم، فقالوا:

إنّا نخاف الأتراك وقد عرفتَ ما بيننا وبينهم، فسكت عنهم وتفرّقوا، وراسله بهاء الدولة يستميله ويبذل له وللديلم الأمان والإحسان، وتردّدت الرُسل، وقال بهاء الدولة:

إنّ ثاري وثاركم عند مَن قتل أخي فلا عُذر لكم في التَخلّف عن الأخذ بثاره، واستمال الدَيلم فأجابوه إلى الدُخول في طاعته، وأنفذوا جماعة مِن أعيانهم إلى بهاء الدولة فحلفوه واستوثقوا منه، وكتبوا إلى أصحابهم المُقيمين بالسوس بصورة الحال، وركب بهاء الدولة مِن الغد إلى باب السوس رجاء أنْ يَخرج مَنْ فيه إلى طاعته، فَخرجوا إليه في السلاح وقاتلوه قتالاً شديداً لم يُقاتلوا مثله فضاق صدره، فقيل له:

إنّ هذه عادة الدَيلم، أنْ يشتدّ قتالهم عند الصُلح؛ لئلاّ يُظنّ بهم، ثُمّ كفّوا عن القتال وأرسلوا مَن يُحلفه لهم، ونزلوا إلى خِدمته، واختلط العسكران وساروا إلى الأهواز، فقرّر أبو عليّ بن إسماعيل أمورها وقسّم الإقطاعات بين الأتراك والدَيلم، ثُمّ ساروا إلى رامهرمز فاستولوا عليها وعلى أرجان وغيرها مِن بلاد خوزستان، وسار أبو عليّ بن إسماعيل إلى شيراز فنزل بظاهرها، فَخرج إليه ابنا بختيار في أصحابهما فحاربوه، فلمّا اشتدّت الحرب مال بعضُ مَن معهما إليه، ودخل بعضُ أصحابه البلد ونادوا بشعار بهاء الدولة، وكان النقيب أبو أحمد الموسوي بشيراز قد وردها رسولاً مِن بهاء الدولة إلى صمصام الدولة، فلمّا قَتل صمصام الدولة كان بشيراز، فلمّا سَمع النداء بشعار بهاء الدولة ظنّ أنّ الفتح قد تَمّ، فقصد الجامع - وكان يوم الجمعة - وأقام الخُطبة لبهاء الدولة، ثُمّ عاد ابنا بختيار واجتمع إليهما أصحابهما، فخاف النقيب فاختفى، وحُمِل في سَلّة إلى أبي

٣٠٣

عليّ بن إسماعيل.

ثُمّ إنّ أصحاب ابنَي بختيار قصدوا أبا عليّ وأطاعوه، فاستولى على شيراز وهَرب ابنا بختيار، فأمّا أبو نصر، فإنّه لَحِق ببلاد الدَيلم، وأمّا الثاني وهو أبو القاسم فلَحِق ببدر بن حسنويه ثُمّ قصد البطيحة.

ولمّا مَلك أبو علي شيراز كَتب إلى بهاء الدولة بالفَتح، فسار إليها ونزلها، فلمّا استقرّ بها أمرَ بنهب قرية الدودمان وإحراقها وقَتلِ كلّ مَن كان بها مِن أهلهم فاستأصلهم، وأخرج أخاه صمصام الدولة وجدّد أكفانه، وحُمل إلى التربة بشيراز فدُفن بها، وسيّر عسكراً مع أبي الفتح أستاذ هرمز إلى كرمان، فملكها وأقام بها نائباً عن بهاء الدولة.

قَتلُ ابن بختيار بكرمان واستيلاءُ بهاءِ الدولةِ عليها:

في سنة ٣٩٠هـ في جمادى الآخرة قُتلَ الأمير أبو نصر بن بختيار الّذي كان قد استولى على بلاد فارس، وسببُ قتله أنّه لمّا انهزم مِن عسكر بهاء الدولة بشيراز سار إلى بلاد الدَيلم، وكاتب الدَيلم بفارس وكرمان مِن هناك يستميلهم وكاتبوه واستدعوه، فسار إلى بلاد فارس واجتمع عليه جَمعٌ كثير مِن الزط والديلم والأتراك، وتردّد في تلك النواحي، ثُمّ سار إلى كرمان فلم يقبله الدَيلم الّذين بها، وكان المُقدّم عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فجَمعَ وقصد أبا جعفر فالتقيا فانهزم أبو جعفر إلى السيرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فمَلكها ومَلك أكثر كرمان، فعَظُم الأمرُ على بهاء الدولة، فسَيّر أليه الموفّق عليّ بن إسماعيل في جيش كَثير، وسار مُجدّاً حتّى أطلّ على جيرفت، فاستأمَن إليه مَن بها مِن أصحاب ابن بختيار ودخلها، فأنكر عليه مَن معه مِن القوّاد سُرعة سيره وخَوّفوه عاقبة ذلك فلم يُصغِ إليهم، وسأل عن حال ابن بختيار، فأُخبر أنّه على ثمانية فراسخ مِن جيرفت، فاختار ثلاثمئة رجل مِن شُجعان أصحابه وسار بهم، وترك الباقين مع السواد بجيرفت، فلمّا بلغَ ذلك المكان لم يجده، ودُلّ عليه فلم يزل يَتبعه مِن مَنزل إلى مَنزل حتّى لحِقه بدارزين، فسار ليلاً وقُدّر وصوله إليه عند الصبح فأدركه، فركب ابن بختيار واقتتلوا قتالاً شديداً، وسار الموفّق في نفر مِن غلمانه فأتى ابن بختيار مِن ورائه، فانهزم ابن بختيار وأصحابه، ووَضع فيهم السيف فقَتل منهم الخَلق الكثير، فغَدر بابن بختيار بعض أصحابه وضَربه بلتٌ، فألقاه وعاد إلى الموفّق ليُخبره بقتله، فأرسل معه مَن يَنظر إليه فرآه وقد

٣٠٤

قَتله غيره، وحُمل رأسه إلى الموفّق، وأكثرَ الموفّق القَتل في أصحاب ابن بختيار، واستولى على بلاد كرمان، واستعمل عليها أبا موسى بن هيجل، وعادَ إلى بهاء الدولة فخَرج بنفسه ولقيَه وأكرمه وعَظّمه، ثُمّ قَبض عليه بعد أيّام.

ومِن أعجب ما يُذكر أنّ الموفّق أخبره مُنجّمٌ أنّه يَقتل ابن بختيار يوم الاثنين، فلمّا كان قبل الاثنين بخمسة أيّام قال للمُنجّم:

قد بقيَ خمسة أيّام وليس لنا عِلم به، فقال له المُنجّم:

إنّ لم تَقتله فاقتلني عَوّضه وإلاّ فأحسن إلي، فلمّا كان يوم الاثنين أدركه وقَتله، وأحسن إلى المُنجّم إحساناً كثيراً.

أمّا المُوفّق هذا، فبعد أنْ أكرمه بهاء الدولة ولقيه بنفسه استعفى مِن الخِدمة، فلم يُعفِه بهاء الدولة، فألح كلّ واحد منهما فأشار أبو محمّد بن مكرم على الموفق بترك ذلك فلم يَقبل، فقبضَ عليه بهاء الدولة وأخذ أمواله، وكَتب إلى وزيره سابور ببغداد بالقبض على أنساب الموفّق فعرفهم ذلك سِرّاً، فاحتالوا لنفوسهم وهربوا، ثُمّ إنّ بهاء الدولة قَتل المُوفّق سَنة ٣٩٤هـ.

الحَرب بين قرواش وعَسكر بهاء الدولة:

جرتْ حربٌ بين قرواش وعسكر بهاء الدولة سَنة ٣٩٢هـ، وقد دُوّنَت في أخباره في تاريخ بني المُسيّب.

الفِتنةُ بينَ السُنّة والشيعة:

اشتدّت الفِتنة بين السُنّة والشيعة ببغداد سَنة ٣٩٣هـ، وانتشر العيّارون والمُفسدون، فبعث بهاء الدولة عميد الجيوش أبا عليّ بن أستاذ هرمز إلى العراق ليُدبّر أمره، فوصل إلى بغداد، فزينتْ له وقَمع المُفسدين، ومنع السُنّة والشيعة مِن إظهار مَذاهبهم، ونفى بعد ذلك ابن المُعلّم فقيه الإماميّة، فاستقام البَلد.

استيلاء أبي العبّاس على البطيحة ومخاوف بهاء الدولة:

في شعبان سَنة ٣٩٤هـ غَلب أبو العبّاس بن واصل على البطيحة، وأخرج منها مُهذّب الدولة، واستولى على خزائنه وأمواله، ولمّا سَمع بهاء الدولة بحال أبي العبّاس وقوّته خافه على البلاد، فسارَ مِن فارس إلى

٣٠٥

الأهواز لتلافي أمره، وأحضر عنده عميد الجيوش مِن بغداد، وجهّز معه عَسكراً كثيفاً وسيّرهم إلى أبي العبّاس، فأتى إلى واسط وعمل ما يحتاج إليه مِن سُفن وغيرها، وسار إلى البطائح، وفرّق جُنده في البلاد لتقرير قواعدها، وسمع أبو العبّاس بمسيره إليه فأصعد إليه مِن البصرة، وأرسل يقول له:

ما أحوجك تتكلّف الانحدار وقد أتيتك فخُذ لنفسك، ووصل إلى عَميد الجيوش وهو على تلك الحال مِن تَفرّق العسكر عنه، فلقيه فيمَن معه بالصليق، فانهزم عميد الجيوش ووقع مَن معه بعضهم على بعض، ولقيَ عميد الجيوش شِدّة إلى أنْ وصل إلى واسط، وذهب ثقله وخيامه وخزائنه، فأخبره خازنه أنّه قد دَفن في الخيمة ثلاثين ألف دينار وخمسين ألف درهم، فأنفذ فأحضرها فقويَ بها ولكنّه بعد أنء تَقوّى جَمع العساكر واستدعى مُهذّب الدولة مِن بغداد في سنة ٣٩٥هـ، وغلب على أبي العبّاس، ثُمّ قويَ أمرُ أبي العبّاس وسار إلى الأهواز، ولكنّ بهاء الدولة جهّز إليه جيشاً في الماء، وبعد أنْ دخل إلى دار المَملكة واستولى على ما فيها لم يُمكنه المُقام؛ لأنّ بهاء الدولة كان قد جهّز عَسكراً ليسير مِن البحر إلى البصرة، فخاف أبو العبّاس مِن ذلك وراسل بهاء الدولة وصالحه وزاد في إقطاعه، وحَلفَ كلّ واحد منهما لصاحبه، وعاد إلى البصرة.

حصرُ أبي جعفر الحجّاج بغداد:

في سنة ٣٩٧هـ جمع أبو جعفر الحجّاج جمعاً كثيراً، وأمدّه بدر بن حسنويه بجيش كثير، فسار بالجمع وحصر بغداد، وسببُ ذلك أنّ أبا جعفر كان نازلاً على قلج حامي طريق خُراسان، وكان قلج مُبايناً لعميد الجيوش فاجتمعا لذلك، فتوفّي قلج هذه السُنّة فجَعَلَ عميدُ الجيوش على حماية الطريق أبا الفتح بن عناز، وكان عدوّاً لبدر بن حسنويه، فحقد ذلك بدر فأستدعى أبا جعفر الحجّاج وجمع له جمعاً كثيراً، منهم الأمير هندي بن سعدي وأبو عيسى شاذي بن محمّد وورام بن محمّد وغيرهم، وسيّرهم إلى بغداد، وكان الأمير أبو الحسن عليّ بن مزيد الأسدي قد عاد مِن عند بهاء الدولة بخوزستان مُغضباً، فاجتمع معهم فزادت عِدّتهم على عشرة آلاف فارس، وكان عميد الجيوش عند بهاء الدولة لقتال أبي العبّاس بن واصل، فسار أبو جعفر ومَن اجتمع معه إلى بغداد، ونزلوا على فرسخ منها وأقاموا

٣٠٦

شهراً، وببغداد جمعٌ مِن الأتراك ومعهم أبو الفتح بن عناز فحفظوا البَلد، فبينما هُم كذلك أتاهم خَبر انهزام أبي العبّاس وقوّة بهاء الدولة، ففتّ ذلك في أعضاد أبي جعفر العبّاس ومَن معه فتفرّقوا، فعادَ ابن مَزيد إلى بلده وسار أبو جعفر وأبو عيسى إلى حلوان، وراسل أبو جعفر في إصلاح حاله مع بهاء الدولة فأجابه إلى ذلك، فحضر عنده بتستُّر، فلم يَلتفتْ إليه؛ لئلا يَستوحش عميد الجيوش.

قتل أبي العبّاس بن واصل:

سبقَ مِن خبر أبي العبّاس هذا ما انتهى به إلى مُصالحة بهاء الدولة وعوده إلى البصرة، ثُمّ تجدّد ما أوجب عوده إلى الأهواز، فعادَ إليها في جيشه وبهاء الدولة مُقيم بها، فلمّا قاربها رحلَ بهاء الدولة عنها؛ لقلّة عسكره وتَفرُّقهم بعضهم بفارس وبعضهم بالعراق، وقطعَ قنطرة اربق وبقي النهر يحجز بين الفريقين، فاستولى أبو العبّاس على الأهواز، وأتاه مَدَد مِن بدر ابن حسنويه ثلاثة آلاف فارس فقويَ بهم، وعَزم بهاء الدولة على العودِ إلى فارس فمَنعه أصحابه، فأصلح أبو العبّاس القنطرة، وجرى بين العسكرين قِتال شديد دام إلى السَحر، ثُمّ عَبر أبو العبّاس على القنطرة بعد أنْ أصلحها، والتقى العسكران واشتدّ القتال، فانهزم أبو العبّاس وقُتِل مِن أصحابه كثير، وعاد إلى البصرة مهزوماً مُنتصف رمضان سَنة ٣٩٦، فلمّا عادَ مُنهزماً جهّز بهاء الدولة إليه العساكر مع وزيره أبي غالب، فسار إليه ونزل عليه مُحاصراً له، وجرى بين العسكرين القتال، وضاق الأمر على الوزير وقلّ المال عنده، واستمدّ بهاء الدولة فلم يُمده، ثُمّ إنّ أبا العبّاس جمع سُفنه وعساكره وأصعد إلى عسكر الوزير وهجم عليهم، فانهزم الوزير وكاد يتمّ على الهزيمة، فاستوقفه بعضُ الدَيلم وثبّته، وحملوا على أبي العبّاس فانهزم هو وأصحابه، وأخذ الوزير سُفنه فاستأمن إليه كثير مِن أصحابه، ومضى أبو العبّاس مُنهزماً، وركب مع حسّان بن ثمال الخفاجي هارباً إلى الكوفة، ودخل الوزير البصرة وكَتب إلى بهاء الدولة بالفتح.

ثُمّ إنّ أبا العبّاس سارَ مِن الكوفة وقَطع دجلة، ومضى عازماً على اللحاق ببدر بن حسنويه، فبلغ خانقين وبها جعفر بن العوام في طاعة بدر، فأنزله وأكرمه وأشار عليه بالمسير في وقته وحذّره الطَلب، فاعتلّ بالتعب وطَلب الاستراحة ونام، وبلغ

٣٠٧

خَبرُه إلى أبي الفتح بن عناز - وهو في طاعة بهاء الدولة، وكان قريباً منهم - فسارَ إليهم بخانقين وهو بها، فحصره وأخذه وسار به إلى بغداد، فسَيّره عميد الجيوش إلى بهاء الدولة، فلقيهم في الطريق قاصدٌ مِن بهاء الدولة يأمره بقتله، فقُتل وحُمل رأسه إلى بهاء الدولة، وطيفَ به بخوزستان وفارس وكان بواسط عاشر صفر.

مسيرُ عَميدِ الجُيوشِ إلى حَرب بدر وصُلحه معهُ:

كان في نفسِ بهاء الدولة على بدر بن حسنويه حقدٌ لمّا اعتمده في بلاده؛ لاشتغاله عنه بأبي العبّاس بن واصل، فلمّا قُتل أبو العبّاس أمرَ بهاء الدولة عميد الجيوش بالمسير إلى بلاده، وأعطاه مالاً أنفَقَهُ في الجند، فجمع عسكراً وسار يُريد بلاده فنزل جنديسابور، فأرسل إليه بدر: إنّك لم تَقدر على أنْ تأخذ ما تَغلّب عليه بنو عقيل مِن أعمالهم، وبينهم وبين بغداد فرسخ حتى صالحتهم، فكيف تقدُر على أخذ بلادي وحصني مِنّي ومعي مِن الأموال ما ليس معك مثلها؟! وأنا معك بين أمرين: إنْ حاربتُك فالحرب سِجال، ولا نَعلم لمَن العاقبة، فإنْ انهزمتُ أنا لم ينفعْك ذلك؛ لأنّني أحتمي بقلاعي ومعاقلي وأُنفق أموالي، وإذا عجزتُ فأنا رجلٌ صحراويٌّ صاحب عَمد أبعد ثُمّ أقرب، وإنْ انهزمتَ أنت لم تجتمع، وتلقى مِن صاحبك العسف، والرأي أنْ أحمل إليك مالاً تُرضي به صاحبك ونصطلح، فأجابه إلى ذلك وصالحه، وأخذ منه ما كان أخرجه على تجهيز الجيش وعاد عنه.

في تاريخ ابن كثير.. ج١١ ص٣٥٢:

في يوم الخميس غُرّة ربيع الأوّل سَنة ٤٠٤ منها جلس الخليفة القادر في أُبّهة الخلافة، وأحضر بين يُديه سُلطان الدولة والحجّة فخَلع عليه سبع خِلَع على العادة، وعَمّمه بعمامة سوداء، وقلّده سيفاً وتاجاً مُرصّعاً وسوارين وطوقاً، وعَقد له لوائين بيده، ثُمّ أعطاه سيفاً وقال لخادم: قلّده به فهو شَرف له ولعَقِبه يفتح شرق الأرض وغَربها، وكان ذلك يوماً مشهوداً حضره القُضاة والأُمراء والوزراء.

وفاة بهاء الدولة:

في خامس جمادى الآخرة سَنة ٤٠٣ توفّي بهاء الدولة أبو نصر بن عَضُد الدولة بن بويه، وهو المَلك حينئذٍ بالعراق، وكان مَرضه تتابُع الصَرَع

٣٠٨

مثل مرض أبيه، وكان موته بأرجان وحُمل إلى مشهد أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) فدُفِن عند أبيه عَضُد الدولة، وكان عُمره اثنتين وأربعين سَنة وتسعة أشهُر ونصفاً، ومُلكه أربعاً وعشرين سَنة.

الخامس عشر مِن مُلوك بني بويه: سُلطان الدولة(١) أبو شُجاع مَلك العراق:

وهو ابن أبي نصر بهاء الدولة بن عَضُد الدولة، الخامس عشر مِن مُلوك بني بويه، والسابع مِن مُلوكهم في العراق، وليَ المُلك بعد أبيه، وسار مِن أرجان إلى شيراز، وولّى أخاه جلال الدولة أبا طاهر بن بهاء الدولة البصرة، وأخاه أبا الفوارس كِرمان.

في هذه السُنّة خَلعَ سُلطان الدولة على أبي الحسن بن مزيد الأسدي، وهو أوّل مَن تقدّم مِن أهل بيته، وفيها قَلّد الرضي الموسوي - صاحب الديوان المشهور - نقابة العلويّين ببغداد وخلعَ عليه السواد، وهو أوّل طالبيٍّ خُلع عليه السواد.

الحربُ بينَ سُلطان الدولة وأخيه أبي الفوارس:

لمّا ولّى سُلطان الدولة - بعد انتقال ملك أبيه إليه - أخاه أبا الفوارس كرمان اجتمع إليه الدَيلم، وحسّنوا له مُحاربة أخيه وأخذِ البلاد منه، فتَجهّز وتَوجّه إلى شيراز، فلم يَشعر سُلطان الدولة حتّى دخل أبو الفوارس إلى شيراز، فجمع عساكره وسار إليه فحاربه، فانهزم أبو الفوارس وعاد إلى كرمان، فتبعه إليها فخرج منها هارباً إلى خُراسان، وقصد يمين الدولة محمود بن سبكتكين وهو ببست، فأكرمه وعَظّمه وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأجلسه فوق دارا بن قابوس بن وشمكير، فقال دارا:

نحن أعظم محلاًّ منهم؛ لأنّ أباه

____________________

(١) في تاريخ ابن كثير ج١١ ص٣٥٢ في يوم الخميس غرة ربيع الأول سنة ٤٠٤هـ منها جلس الخليفة القادر في أبهة الخلافة، وأحضر بين يديه سُلطان الدولة فخلع عليه سبع خلع على القادة، وعمّمه بعمامة سوداء، وقلّده سيفاً وتاجاً مرصعاً، وسوارين وطوقاً، وعقد له لواءين بيده، ثُمّ أعطاه سيفاً، وقال الخادم: قلّده به فهو شرف له ولقبه، بفتح شرف الأرض وغر بها. وكان ذلك يوماً مشهوداً، حضره القضاة والأُمراء والوزراء.

٣٠٩

وأعمامه خدموا آبائي، فقال محمود: لكنّهم أخذوا المُلك بالسيف، أراد بهذا نُصرة نفسه حيث أخذ خُراسان مِن السامانية، ووعد محمود أنْ يَنصره.

ثُمّ إنّ أبا الفوارس باع جوهرتين كانتا على جبهة فَرسه بعشرة آلاف دينار، فاشتراهما محمود وحملهما إليه وقال له:

مِن غلطكم تتركون هذا على جبهة الفرس وقيمتا ستّون ألف دينار، ثُمّ إنّ محموداً سيّر جيشاً مع أبي الفوارس إلى كرمان مُقدّمهم أبو سعيد الطائي وهو مِن أعيان قوّاده، فسارَ إلى كرمان فملكها، وقصد بلاد فارس وقد فارقها سُلطان الدولة إلى بغداد فدخل شيراز، فلمّا سَمع سُلطان الدولة عاد إلى فارس، فالتقوا هُناك واقتتلوا فانهزم أبو الفوارس، وقُتِل كثير مِن أصحابه وعادوا بأسوأ الحال، ومَلك سُلطان الدولة بلاد فارس، وهرب أبو الفوارس سَنة ثمان وأربعمئة إلى كرمان، فسيّر سُلطان الدولة الجيوش بإثره فأخذوا كرمان منه، فلحق بشمس الدولة بن فَخر الدولة بن بويه صاحب همدان، ولم يُمكنه العود إلى يمين الدولة؛ لأنّه أساء السيرة مع أبي سعيد الطائي، ثُمّ فارق شمس الدولة ولَحق بمُهذّب الدولة صاحب البطيحة، فأكرمه وأنزله داره، وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة مِن البصرة مالاً وثياباً، وعَرضَ عليه الانحدار إليه فلم يفعل، وتَردّدت الرُسل بينه وبين سُلطان الدولة، فأعاد إليه كرمان وسُيّرت إليه الخِلَع والتقليد بذلك، وحُملت إليه الأموال فعاد إليها.

وفاة أمير البطيحة مُهذّب الدولة ومِلك سُلطان الدولة:

في جمادى الأولى مِن هذه السُنّة توفّي مُهذّب الدولة أمير البطيحة، وتحدّث الجُند بإقامة وَلده أبي الحسين مقامه، فبلغ ابن أُخت مُهذّب الدولة أبو محمّد عبد الله بن بنى، فتَوثّب على أبي الحسين بممالئة الدَيلم، واستولى على البطيحة وقَتل ابن خاله، ولم يَمكث في الإمارة إلاّ أقل مِن ثلاثة أشهر، وتوفّي فوليها بعده أبو علي عبد الله الحسين بن بكر الشرابي - وكان مِن خواصّ مُهذّب الدولة - فصار أمير البطيحة، وبذل للمَلك سُلطان الدولة بذولاً فأقرّه عليها، وبقي إلى سَنة عشر وأربعمئة، فسيّر إليه سُلطان الدولة صدقة بن فارس المازياري، فمَلك البطيحة وأسر أبا عبد الله الشرابي فبقي عنده أسيراً إلى أنْ توفّي، وبقيت البطيحة في إمارة صدقة إلى أنْ توفّي سَنة ٤١٢ فوليها سابور بن المرزبان، وأقرّه مُشرّف الدولة.

ثُمّ إنّ

٣١٠

أبا نصر شيرزاد بن الحسن ابن مروان زاد في المُقاطعة فلَم يَدخل سابور فيها، فوليها أبو نصر وفارقها سابور.

ولاية ابن سهلان العراق لسُلطان الدولة:

في سَنة ٤٠٩ عرضَ سُلطان الدولة على الرخيمي ولاية العراق، فقال:

ولاية العراق تحتاج إلى مَن فيه عسف وخرف، وليس غير ابن سهلان، وأنا أخلفه هاهُنا، فولاّه سُلطان الدولة العراق في المحرّم، فسار مِن عنده فلمّا كان ببعض الطريق تركَ ثقله وأصحابه، وسار جريدة في خمسمئة فارس مع طراد ابن دبيس الأسدي يطلب مهارش ومضر ابني دبيس، وجرى ما ذُكر في مكانه مِن تاريخ بني دبيس فاطلبه هناك.

السادس عشر مِن مُلوك بني بويه والثامن مِن مُلوكهم في العراق: مُشرّف الدولة بن بهاء الدولة:

في ذي الحَجّة سَنة ٤١١ عَظُم أمرَ أبي علي مُشرّف الدولة بن بهاء الدولة وخوطب بأمير الأُمراء، ثُمّ مَلك العراق وأزال عنه أخاه سُلطان الدولة، وكان سَببه أنّ الجُند شغبوا على سُلطان الدولة ومنعوه مِن الحركة، وأراد ترتيب أخيه مُشرّف الدولة في المُلك، فأُشير على سُلطان الدولة بالقبض عليه فلم يُمكنه ذلك، وأراد سُلطان الدولة الانحدار إلى واسط، فقال الجند:

إمّا أنْ تجعل عندنا وَلدك أو أخاك مُشرّف الدولة، فراسل أخاه بذلك فامتنع ثُمّ أجاب بعد مُعاودة، ثُمّ إنّهما اتّفقا واجتمعا ببغداد واستقرّ بينهما أنّهما لا يستخدمان ابن سهلان، وفارق سُلطان الدولة بغداد وقصد الأهواز، واستخلف أخاه مُشرّف الدولة على العراق، فلمّا انحدر سُلطان الدولة ووصل إلى تستر استوزر ابن سهلان، فاستوحش مُشرّف الدولة، فأنفذ سُلطان الدولة وزيره ابن سهلان ليُخرج أخاه مُشرّف الدولة مِن العراق، فجمع مُشرّف الدولة عسكراً كثيراً منهم أتراك واسط وأبو الأغر دبيس بن عليّ بن مزيد، ولقي ابن سهلان عند واسط فانهزم ابن سهلان وتحصن بواسط، وحاصره مُشرّف الدولة وضيّق عليه، فغلت الأسعار حتّى بلغَ الكرّ مِن الطعام ألف دينار قاسانية، وأكلَ الناس الدواب حتّى الكلاب، فلمّا رأى ابن سهلان إدبار أموره سلّم البلد واستخلف مُشرّف

٣١١

الدولة وخرج إليه، وخوطب حينئذ مُشرّف الدولة بشاهنشاه، وكان ذلك في آخر ذي الحجّة، ومضت الدَيلم الّذين كانوا باسط في خدمته، وساروا معه فحلف لهم وأقطعهم، واتّفق هو وأخوه جلال الدولة أبو طاهر، فلمّا سمع سُلطان الدولة ذلك سار عن الأهواز إلى أرجان، وقُطعتْ خُطبته مِن العراق وخطب لأخيه ببغداد آخر المُحرّم سَنة اثنتي عشرة وأربعمئة، وقُبضَ على ابن سهلان وكحل، ولمّا سَمع سُلطان الدولة بذلك ضعفت نفسه، وسار إلى الأهواز في أربعمئة فارس، فقلّت عليهم الميرة فنهبوا السواد في طريقهم، فاجتمع الأتراك الّذين بالأهواز وقاتلوا أصحاب سُلطان الدولة ونادوا بشعار مُشرّف الدولة، وساروا منها فقطعوا الطريق على قافلة وأخذوها وانصرفوا.

قتلُ أبي غالب وزير مُشرّف الدولة:

لمّا قُطعت في هذه السَنة الخُطبة لسُلطان الدولة وخُطب لمُشرّف الدولة في العراق طلبَ الدَيلم منه أنْ ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان، فأذن لهم وأمر وزيره أبا غالب بالانحدار معهم، فقال:

إنّي إنْ فعلتُ خاطرتُ بنفسي، ولكن أبذلها في خدمتك، ثُمّ انحدر في العساكر، فلمّا وصل إلى الأهواز نادى الدَيلم بشعار سُلطان الدولة، وهجموا على أبي غالب فقتلوه.

الصُلح بين سُلطان الدولة ومُشرّف الدولة:

في سَنة ٤١٣ اصطلح سُلطان الدولة وأخوه مُشرّف الدولة، وحَلف كلّ واحد منهما لصاحبه، وكان الصُلح بسعي مِن أبي محمّد بن مكرم ومُؤيّد الدولة الرخجي وزير مُشرّف الدولة، على أنْ يكون العراق جميعه لمُشرّف الدولة، وفارس وكرمان لسُلطان الدولة.

وزارة أبي القاسم المغربي لمُشرّف الدولة:

في سَنة ٤١٤ قَبض مُشرّف الدولة على وزيره مُؤيّد الدولة المَلك الرخجي في شهر رمضان، وكانت وزارته سنتين وثلاثة أيّام، وكان سَبب عزله أنّ الأثير الخادم تغيّر عليه؛ لأنّه صادر ابن شعيا اليهودي على مئة ألف دينار، وكان متعلّقاً بالأثير فسعى وعزله، واستوزر بعده أبا القاسم الحسين بن عليّ بن الحسين المغربي، ومولده بمصر سَنة سبعين وثلاثمئة

٣١٢

وكان أبوه مِن أصحاب سَيف الدولة بن حمدان، فسار إلى مصر فتولّى بها فقَتَله الحاكم، فهرب وَلده أبو القاسم إلى الشام، وقصد حسّان بن المفرج بن الجرّاح الطائي، وحمله على مُخالفة الحاكم والخروج عن طاعته ففعل ذلك، وحسّن له أنْ يُبايع أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلوي أمير مكّة فأجابه إليه، واستقدمه إلى الرملة وخوطب بأمير المؤمنين، فأنفذ الحاكم إلى حسّان مالاً جليلاً وأفسد معه حال أبي الفتوح، فأعاده حسّان إلى وادي القُرى، وسار أبو الفتوح منه إلى مكّة، ثُمّ قصد أبو القاسم العراق واتّصل بفَخر المُلك، فاتّهمه القادر بالله؛ لأنّه مِن مصر، فأبعده فَخر المُلك فقصد قرواشاً بالموصل، فكَتب له ثُمّ عاد عنه، وتنقلت به الحال إلى أنْ وُزر بعد مؤيّد المُلك الرخجي.

قدوم مُشرّف الدولة إلى بغداد ولقاء القادر بالله:

في هذه السُنّة في المُحرّم قَدم مُشرّف الدولة إلى بغداد، ولقيه القادر بالله في الطيار وعليه السواد، ولم يلقَ قبله أحداً به مِن مُلوك بني بويه.

الوحشةُ بينَ مُشرّف الدولةِ والأتراك وعَزل المَغربي:

في سنة ٤١٥ تأكّدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم ومعه الوزير ابن المَغربي وبين الأتراك، فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربي المَلك مُشرّف الدولة، فحبس في الانتزاح إلى بلد يأمنان فيه على أنفسهما، فقال: أنا أسير معكما، فساروا جميعاً ومَعهم جماعة مِن مُقدّمي الدَيلم إلى السنديّة وبها قرواش، فأنزلهم ثُمّ ساروا كلّهم إلى أوانا، فلمّا عَلم الأتراك عُظم ذلك عليهم وانزعجوا منه، وأرسلوا المُرتضى وأبا الحسن الزينبي وجماعة مِن قوّاد الأتراك يعتذرون ويقولون: نحن العبيد، فكَتب إليهم أبو القاسم المَغربي:

إنّني تأملّت ما لكم مِن الجامكيات فإذا هي ستمئة دينار، وعلمتُ دَخل بغداد فإذا هو أربعمئة ألف دينار، فإنْ أسقطتم مئة ألف دينار تحمّلت بالباقي.

فقالوا: نحن نُسقطها، فاستشعر منهم أبو القاسم المغربي فهرب إلى قرواش، فكانت وزارته عَشرة أشهُر وخمسة أيّام، فلمّا أُبعد خرج الأتراك، فسألوا المَلك والأثير الانحدار معهم، فأجابهم إلى ذلك وانحدروا جميعهم.

٣١٣

وفاةُ سُلطان الدولة ومِلك وَلده أبي كاليجار:

في هذه السَنة في شوّال توفّي سُلطان الدولة أبو شجاع ابن بهاء الدولة أبي نصر ابن عَضد الدولة بشيراز، وكان عُمره اثنتين وعشرين سَنة وخمسة أشهر، وكان ابنه أبو كاليجار بالأهواز، فطلبه الأوحد أبو محمّد ابن مكرم ليَملك بعد أبيه، وكان هواه معه، وكان الأتراك يُريدون عمّه أبا الفوارس بن بهاء الدولة صاحب كرمان، فكاتبوه يَطلبونه إليهم أيضاً، فتأخّر أبو كاليجار عنها فسبقه عمّه أبو الفوارس إليها فمَلكها، وكان أبو المكارم بن أبي محمّد بن مكرم قد أشار على أبيه - لمّا رأى الاختلاف - أنْ يسير إلى مكان يأمَن فيه على نفسه، فلم يقبل قوله فسار، وتَركه وقصد البصرة فندِم أبوه حيث لم يكن معه، فقال له العادل أبو منصور بن مافنه:

المصلحة أنْ تقصد سيراف وتكون مالك أمرك، وابنك أبو القاسم بعمان، فتحتاج الملوك إليك.

فرَكب سفينة ليمضي إليها، فأصابه بَرد فبطل عن الحركة، وأرسل العادل بن مافنة إلى كرمان لإحضار أبي الفوارس، فسار إليه العادل وأبلغه رسالة ابن مكرم باستدعائه، فسار مُجدّاً ومعه العادل فوصلوا إلى فارس، وخرج ابن مكرم يلقى أبا الفوارس ومعه الناس، فطالبه الأجناد بحقّ البيعة فأحالهم على ابن مكرم، فتضجّر ابن مكرم، فقال له العادل:

الرأي أنْ تبذل مالك وأموالنا حتّى تمشي الأُمور، فانتهره فسكت، وتلوّم ابن مكرم بإيصال المال إلى الأجناد، فشكوه إلى أبي الفوارس، فقبض عليه وعلى العادل بن مافنة، ثُمّ قَتل ابن مكرم واستبقى ابن مافنة، فلمّا سَمع ابنه أبو القاسم بقتله صار مع المَلك أبي كاليجار وأطاعه، وتجّهز أبو كاليجار وقام بأمره أبو مُزاحم صندل الخادم - وكان مُربيه - وساروا بالعساكر إلى فارس، فسيّر عمّه أبو الفوارس عسكراً مع وزيره أبي منصور الحسن بن عليّ الفسوي لقتاله، فوصل أبو كاليجار والوزير متهاونٌ به لكثرة عسكره، فأتوه وهو نائم وقد تفرّق عسكره في البَلد يبتاعون ما يحتاجون إليه، وكان جاهلاً بالحرب، فلمّا شاهدوا أعلام أبي كاليجار - وهم على اضطراب - انهزموا، وغَنم أبو كاليجار وعسكره أموالهم ودوابهم وكلّ ما لهم، فلمّا انتهى خَبر الهزيمة إلى عمّه أبي الفوارس سار إلى كرمان، ومَلك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز.

٣١٤

عودُ أبي الفَوارس إلى فارس:

ولمّا مَلك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز، جرى على الدَيلم الشيرازيّة مِن عسكره ما أخرجهم عن طاعته، وتمنّوا معه أنّهم كانوا قُتلوا مع عمّه، وكان جماعة مِن الدَيلم بمدينة فسا في طاعة أبي الفوارس، وهُم يريدون أنْ يُصلحوا حالهم مع أبي كاليجار ويَصيروا معه، فأرسل إليهم الدَيلم الّذين بشيراز يُعرّفونهم ما يَلقونه مِن الأذى، ويأمرونهم بالتمسّك بطاعة أبي الفوارس ففعلوا ذلك.

ثُمّ إنّ عسكر أبي كاليجار طالبوه بالمال وشغبوا عليه، فأظهر الديلم الشيرازيّة ما في نفوسهم مِن الحقد، فعجز عن المقام معهم فسار عن شيراز إلى النوبندجان - ولقيَ شدّة في طريقه - ثُمّ انتقل عنها لشدّة حرّها وخاصّة هوائها، ومرِض أصحابه، فأتى شُعب بوان فأقام به، فلمّا سار عن شيراز أرسل الديلم الشيرازيّة إلى عمّه أبي الفوارس يحثّونه على المجيء إليهم ويُعرّفونه بُعد أبي كاليجار عنهم، فسار إليهم فسلّموا إليه شيراز، وقصد إلى أبي كاليجار بشُعب بوان ليحاربه ويُخرجه عن البلاد، فاختار العسكران الصُلح فسفروا فيه، فاستقرّ لأبي الفوارس كرمان وفارس، ولأبي كاليجار خوزستان، وعاد أبو الفوارس إلى شيراز، وسار أبو كاليجار إلى أرجان.

ثُمّ إنّ وزير أبي الفوارس خبط الناس وأفسد قلوبهم وصادرهم، واجتاز به مالٌ لأبي كاليجار والدَيلم الّذين معه فأخذه، فحينئذ حثّ العادلُ ابن مافنة صندلاً الخادم على العود إلى شيراز، وكان قد فارق بها نعمة عظيمة وصار مع أبي كاليجار، وكان الديلم يُطيعونه، فعادتْ الحال إلى أشدّ ما كانت عليه، فسار كلّ واحد مِن أبي كاليجار وعمّه أبي الفوارس إلى صاحبه والتقوا واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس إلى دارا بجرد ومَلك أبو كاليجار فارس، وعاد أبو الفوارس فجمع الأكراد فأكثر، فاجتمع معه منهم نحو عشرة آلاف مُقاتل، فالتقوا بين البياء واصطخر فاقتتلوا أشدّ مِن القتال الأوّل، فعاود أبو الفوارس الهزيمة، فسار إلى كرمان، واستقرّ مُلك أبي كاليجار بفارس سَنة سبع عشر وأربعمئة، وكان أهل شيراز يكرهونه.

٣١٥

السابع عَشر مِن مُلوك بني بويه والتاسع مِن مُلوكهم في العراق: أبو كاليجار

في سَنة ٤١٨ توفّي في ربيع الأوّل المَلك مُشرّف الدولة أبو عليّ بن بهاء الدولة، وهو ابن ثلاث وعشرين سَنة وثلاثة أشهر، وكان مُلكه خمس سنين وخمسة وعشرين يوماً، وكان كثير الخير قليل الشرّ عادلاً حَسِن السيرة، ولمّا توفّي خُطبَ ببغداد بعد موته لأخيه أبي طاهر جلال الدولة، وهو بالبصرة وطُلب إلى بغداد فلم يصعدْ إليها، وإنّما بلغَ إلى واسط وأقام بها ثُمّ عاد إلى البصرة، فقُطعتْ خُطبته وخُطب لابن أخيه المَلك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة في شوّال، وهو حينئذ صاحب خوزستان والحرب بينه وبين عمّه أبي الفوارس صاحب كرمان بفارس، فلمّا سمع جلال الدولة بذلك أصعد إلى بغداد، فانحدر عسكرها ليردّوه عنها، فلقوه بالسيب - مِن أعمال النهروان - فردّوه فلم يَرجع فرموه بالنشّاب ونهبوا بعض خزائنه، فعاد إلى البصرة، وأرسلوا إلى المَلك أبي كاليجار ليَصعد إلى بغداد ليُملّكوه فوعدهم الإصعاد، ولم يُمكنه لأجل صاحب كرمان، ولمّا أصعد جلال الدولة كان وزيره أبا سعد بن ماكولا.

مُتفرّقات عن أبي كاليجار:

في سَنة ٤١٧ أحرق خفاجة الأنبار بعد نهبها، وأظهروا الطاعة لأبي كاليجار وخطبوا له بالكوفة.

وفيها كثُر تسلّط الأتراك ببغداد، وأكثروا مصادرات الناس وأخذوا الأموال حتّى إنّهم قسطوا على الكرخ خاصّة مئة ألف دينار، وعظُم الخَطب وزاد الشرّ وأُحرقت المنازل والدروب والأسوق، ووقعتْ الحرب بين العامّة والجُند مما أدّى إلى نَظر القوّاد وعقلاء الجُند في هذا الأمر، ولمّا رأوا أنّ أبا كاليجار لا يَصل إليهم، وأنّ البلاد قد خربت، وطَمع فيهم المُجاورون مِن العَرب والأكراد راسلوا جلال الدولة في الحُضور إلى بغداد، فحَضر، كما سَنذكر ذلك فيما بعد.

وفيها عَصت البطيحة على أبي كاليجار، ومُقدّم أهلها أبو عبد الله الحسين بن بكر الشرابي الّذي كان قديماً صاحب البطيحة، وكان سَبب هذا الخلاف أنّ المَلك أبا كاليجار سيّر وزيره أبا أحمد بن بابشاذ إلى البطيحة، فعسف الناس وأخذ أموالهم، وأمر الشرابي

٣١٦

فوضع على كلّ دارٍ بالصليق قسطاً، وكان في صحبته ففعل ذلك، فتفرّقوا في البلاد وفارقوا أوطانهم، فعَزم مَن بقيَ على أنْ يستدعوا مَن يَتقدّم عليهم في العصيان على أبي كاليجار وقتل الشرابي، فعَلِم الشرابي بذلك فحضر عندهم واعتذر إليهم، وبذل مِن نفسه مُساعدتهم على ما يُريدونه فرضوا به، وحَلفوا له وحَلف لهم وأمرهم بكتمان الحال، وعاد إلى الوزير فأشار عليه بإرسال أصحابه إلى جهاتٍ ذكرها ليحصلوا الأموال فقبل منه، ثُمّ أشار عليه بإحدار سُفنه إلى مكان ذَكره ليُصلح ما فَسَد منها ففعل، فلمّا تمّ له ذلك وثبَ هو وأهل البطيحة عليه وأخرجوه مِن عندهم، وكان عندهم جماعة مِن عَسكر جلال الدولة في الحَبس، فأخرجوهم واستعانوا بهم واتّفقوا معهم، وفتحوا السواقي وعادوا إلى ما كانوا عليه أيّام مُهذّب الدولة، وقاتلوا كلّ مَن قصدهم وامتنعوا فتمّ لهم ذلك، ثُمّ قصدوا ابن المعيراني، فاستولى على البطيحة وفارقها الشرابي إلى دبيس بن مزيد فأقام عنده مُكرماً، وكان ذلك سنة ٤١٨.

الصُلح بينَ أبي كاليجار وعمّه أبي الفوارس:

في هذه السَنة استقرّ الصُلح بين أبي كاليجار وعمّه أبي الفوارس صاحب كرمان، وكان أبو كاليجار قد سار إلى كرمان لقتال عمّه وأخذِ كرمان منه، فاحتمى منه بالجبال، وحَميَ الحرُّ على أبي كاليجار وعسكره فكثُرت الأمراض، فتراسلا في الصُلح فاصطلحا على أنْ تكون كرمان لأبي الفوارس، وبلاد فارس لأبي كاليجار ويَحمل إلى عمّه كلّ سَنة عشرين ألف دينار، ولمّا عاد أبو كاليجار إلى الأهواز جَعل أُمور دولته إلى العادل بن مافنة، فأجابه بعد امتناع.

الخُطبةُ ببغداد لجلال الدولة وهو الثامِن عَشر مِن مُلوك بَني بويه والعاشر مِن مُلوكهم في العراق

في جُمادى الأُولى مِن هذه السَنة خُطب للمَلك جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة ببغداد، وأصعد إليها مِن البصرة، فدخلها ثالث شهر رمضان، وكان سَبب ذلك أنّ الأتراك لمّا رأوا أنّ البلاد تَخرب، وأنّ العامة والعرب والأكراد قد طمعوا، وأنّهم ليس عِندهم سلطان يجمع كلمتهم

٣١٧

قصدوا دار الخلافة، وأرسلوا يعتذّرون إلى الخليفة مِن انفرادهم بالخُطبة لجلال الدولة أوّلاً، ثُمّ بردّه ثانياً وبالخطبة لأبي كاليجار، ويَشكرون الخليفة حيث لم يُخالفهم في شيء مِن ذلك، وقالوا:

إنّ أمير المؤمنين صاحب الأمر ونحن العبيد، وقد أخطأنا ونسأل العفوَ، وليس عندنا الآن مَن يجمع كلمتنا، ونسأل أنْ تُرسل إلى جلال الدولة ليصعد إلى بغداد ويَملك الأمر، ويَجمع الكَلمة ويُخطب له فيها، ويسألون يُحلفه الرسول السائر لإحضاره لهم، فأجابهم الخَليفة إلى ما سألوا، وراسله هو وقوّاد الجُند في الإصعاد واليمين للخليفة والأتراك، فحَلف لهم وأصعد إلى بغداد، وانحدر الأتراك إليه فلقوه في الطريق، وأرسل الخَليفة إليه القاضي أبا جعفر السمناني، فأعاد تجديد العَهد عليه للخليفة والأتراك ففعل.

ولمّا وصل إلى بغداد ونَزل النجمي فركب الخَليفة في الطيار وانحدر يلتقيه، فلمّا رآه جلال الدولة قبّل الأرض بين يديه، وركب في زبزبه ووقف قائماً، فأمره الخَليفة بالجلوس فقَدم وجلس، ودَخل إلى دار المَملكة بعد أنْ مضى إلى مَشهد موسى بن جعفر فزار، وقصد الدار فدخلها وأمرَ بضرب الطبل أوقات الصلوات الخمس، فراسله الخليفة في منعِه فقطعه غَضباً حتّى أذِن له في إعادته ففعل، وأرسل جلال الدولة مُؤيّد المُلك أبا علي الرخجي إلى أثير عنبر الخادم - وهو عند قرواش - يُعرّفه اعتضاده به واعتماده عليه ومحبته له، ويَعتذر إليه عن الأتراك فعَذرهم، وقال: هُم أولاد وإخوة.

شَغبُ الأتراكِ ببغداد على جلالِ الدولة:

في سَنة ٤١٩ ثارَ الأتراك ببغداد على جلال الدولة وشغبوا، وطالبوا الوزير أبا عليّ بن ماكولا بما لهم مِن العلوفة والادرار، ونهبوا داره ودور كُتّاب المَلك وحواشيه حتّى المُغنّين والمُخنّثين، ونَهبوا صياغات أخرجها جلال الدولة لتُضرب دنانير ودراهم وتُفرّق فيهم، وحصروا جلال الدولة في داره ومنعوه الطعام والماء، حتّى شَرب أهله ماء البئر، وأكلوا ثَمرة البستان، فسألهم أنْ يُمكّنوه مِن الانحدار، فاستأجروا له ولأهله وأثقاله سُفناً فجعل بين الدار والسُفن سرادقاً لتجتاز حَرمه فيه؛ لئلاّ يراهم العامّة والأجناد، فقصد بعض الأتراك السرادق، فظنّ جلال الدولة أنّهم يُريدون الحُرم، فصاح بهم يقول لهم:

بلغَ أمرُكم إلى الحُرم، وتقدّم إليهم وبيده طبر، فصاح صغار

٣١٨

الغُلمان والعامّة: جلال الدولة يا منصور، ونَزل أحدهم عن فَرسه وأركبه إيّاه، وقبّلوا الأرض بين يديه، فلمّا رأى قوّاد الأتراك ذلك هربوا إلى خيامهم بالرملة وخافوا على نفوسهم، وكان في الخوانة سلاح كثير، فأعطاه جلال الدولة أصاغر الغُلمان وجعلهم عِنده، ثُمّ أرسل إلى الخَليفة يُصلح الأمر مع أُولئك القوّاد، فأرسل إليهم الخليفة القادر بالله فأصلح بينهم وبين جلال الدولة وحلفوا، فقبّلوا الأرض بين يديه ورجعوا إلى منازلهم، فلم يمضِ غير أيّام حتّى عادوا إلى الشَغب، فباع جلال الدولة فَرشه وثيابه وخيمه وفرّق ثمنها فيهم حتّى سكنوا.

الاختلاف بينَ الدَيلم والأتراك بالبصرة:

في هذه السنة وليَ النفيس أبو الفتح بن أردشير البصرة، استعمله عليها جلال الدولة، فلمّا وصلَ إلى المسّان مُنحدراً إليها وقع بينه وبين الدَيلم الّذين بالمسّان وقعة استظهر عليهم وقَتل منهم، وكانت الفِتن بالبصرة بين الأتراك والديلم، وبها المَلك العزيز أبو منصور بن جلال الدولة فقويَ الأتراك بها، فأخرجوا الديلم فمضوا إلى الأُبُلّة وصاروا مع بختيار بن علي، فسار إليهم المَلك العزيز بالأُبُلّة ليُعيدهم ويَصلح بينهم وبين الأتراك، فكاشفوه وحملوا عليه ونادوا شعار أبي كاليجار، فعاد مُنهزماً في الماء إلى البصرة، ونَهب بختيار نهر الدير والأُبُلّة وغيرهما مِن السواد وأعانه الدَيلم، ونهبَ الأتراك أيضاً وارتكبوا المحظور ونهبوا دار بِنت الأوحد بن مكرم زوجة جلال الدولة.

استيلاءُ أبي كاليجار على البصرة:

لمّا بلغَ المَلك أبا كاليجار ما كان بالبصرة سَيّر جيشاً إلى بختيار، وأمره أنْ يقصد البصرة فيأخذها، فساروا إليها وبها المَلك العزيز بن جلال الدولة، فقاتلهم ليمنعهم فلم يكن له بهم قوّة فانهزم منهم، وفارق البصرة وكاد يَهلك هو مَن معه عَطشاً، فمَنّ الله عليهم بمطرِ جودٍ فشربوا منه وأصعدوا إلى واسط، ومَلك عسكر أبي كاليجار البصرة، ونهبَ الديلم أسواقها وسَلِم منها البعض بمال بذلوه لمَن يحميهم، وتتبّعوا أموال أصحاب جلال الدولة مِن الأتراك وغيرهم، فلمّا بلغَ جلال الدولة الخبر أراد الانحدار إلى واسط

٣١٩

، فلم يوافقه الجُند وطلبوا منه مالاً يُفرّق فيهم، فلم يكن عنده، فمدّ يَده في مُصادرات الناس وأخذ أموالهم، لا سيّما أرباب الأموال فصادر جماعة.

وفاةُ أبي الفوارس صاحبِ كرمان واستيلاءُ أبي كاليجار عليها:

في ذي القعدة مِن هذه السنة تُوفّي قوام الدولة أبو الفوارس بن بهاء الدولة صاحب كرمان، وكان قد تجهّز لقصد بلاد فارس وجمعَ عسكراً كثيراً، فأدركه أجلُه، فلمّا توفّي نادى أصحابه بشعار المَلك أبي كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونه إليهم، فسار مُجدّاً ومَلك البلاد بغير حَرب ولا قتال، وأمِن الناس معه، وكانوا يكرهون عمّه أبا الفوارس؛ لظُلمه، وسوء سيرته، وكان إذا شَرِب ضَربَ أصحابه، وضرب وزيره يوماً مائتي مقرعة، وحلفه بالطلاق أنّه لا يتأوه ولا يُخبر بذلك أحداً، فقيل إنّه سَمّوه حتّى مات.

استيلاءُ منصور بن الحسين على الجزيرة الدبيسيّة:

كان منصور بن الحسين الأسدي قد مَلك الجزيرة الدبيسية - وهي تُجاور خوزستان - ونادى بشعار جلال الدولة، وأخرج صاحبها طراد بن دبيس الأسدي سَنة ثماني عشرة وأربعمئة، فمات طراد عن قريب، فلمّا مات طراد سار ابنه أبو الحسن علي إلى بغداد، يسأل أنْ يُرسِل جلال الدولة معه عسكراً إلى بلده ليُخرج منصوراً له ويُسلّمه إليه - وكان منصور قد قَطع خُطبة جلال الدولة، وخطب للمَلك أبي كاليجار - فسيّر معه جلالُ الدولة طائفةً مِن الأتراك، فلمّا وصلوا إلى واسط لم يقف عليّ بن طراد حتّى تجمّع معه طائفة مِن عسكر واسط وسار عَجِلاً، واتّفق أنّ أبا صالح كوركير كان قد هَرب مِن جلال الدولة، وهو يُريد اللحِاق بأبي كاليجار، فسَمع هذا الخبر، فقال لمَن معه:

المصلحة أنّنا نُعين منصوراً، ولا نُمكّن عسكر جلال الدولة مِن إخراجه، ونتّخذ بهذا الفعل عَهداً عند أبي كاليجار.

فأجابوه إلى ذلك، فسار إلى مَنصور واجتمع معه، والتقاهم وعسكر جلال الدولة الّذين مع عليّ بن طراد ببسيرود، فاقتتلوا فانهزم عسكر جلال الدولة، وقُتل عليّ بن طراد وجماعة كثيرة مِن الأتراك، وهَلك كثير مِن المُنهزمين بالعَطش، واستقرّ مُلك منصور بها.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الفريقين ، فأمّا من يحمل أرضية شموله بالعفو الإلهي فسيلتحق بركب المتقين ، وأمّا من ثقلت كفة ذنوبه فسيحشر مع القابعين في أودية النّار ، ولكنها لا تكون مكانهم ومأواهم الأبدي.

* * *

٤٠١

الآيات

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦) )

التّفسير

يوما لقيامة : الوقت المجهول!

تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة) : فتقول أوّلا :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) (١) .

والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع

__________________

(١) جاءت كلمة «المرسى» بهذا الموضع مصدرا ، على مالها من استعمال اخرى ، فتأتي تارة اسم زمان ومكان ، وتارة اخرى اسم مفعول من «الإرساء» ، معناها المصدري هو : الوقوع والثبات ، ويستخدم المرسى كمكان لتوقف السفن ، وفي تثبيت الجبال على سطح الأرض ، وكقوله تعالى في الآية (٤١) من سورة هود :( وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) ، والآية (٣٢) من سورة النازعات :( وَالْجِبالَ أَرْساها ) .

٤٠٢

القيامة ، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها ، ويقول :( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) .

فما خفّي عليك (يا محمّد) ، فمن باب أولى أن يخفى على الآخرين ، والعلم بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه الله لنفسه ، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه إطلاقا!

وكما قلنا ، فسّر خفاء موعد الحق يرجع لأسباب تربوية ، فإذا كان ساعة قيام القيامة معلومة فستحل الغفلة على جميع إذا كانت بعيدة ، وبالمقابل ستكون التقوى اضطرارا والورع بعيدا عن الحرية والإختيار إذا كانت قريبة ، والأمران بطبيعتهما سيقتلان كلّ أثر تربوي مرجو.

وثمّة احتمالات اخرى قد عرضها بعض المفسّرين ، ومنها : إنّك لم تبعث لبيان وقت وقوع يوم القيامة ، وإنّما لتعلن وتبيّن وجودها (وليس لحظة وقوعها).

ومنها أيضا : إنّ قيامك وظهورك مبيّن وكاشف عن قرب وقوع يوم القيامة بدلالة ما

روي عن النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما جمع بين سبابتيه وقال : «بعثت أنا والقيامة كهاتين»(١)

ولكنّ التّفسير الأوّل أنسب من غيره وأقرب.

وتقول الآية التالية :( إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ) .

فالله وحده هو العالم بوقت موعدها دون غيره ولا فائدة من الخوض في معرفة ذلك.

ويؤكّد القرآن هذا المعنى في الآيتين : (٣٤) من سورة لقمان :( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ، وفي الآية (١٨٧) من سورة الأعراف :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) .

وقيل : المراد بالآية ، تحقق القيامة بأمر الله ، ويشير هذا القول إلى بيان علّة ما

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩ ، وذكرت ذات الموضوع في : تفاسير (مجمع البيان) ، (القرطبي) ، (في ظلال القرآن) بالإضافة لتفسير اخرى ، في ذيل الآية (١٨) من سورة محمّد.

٤٠٣

ورد في الآية السابقة ، ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين.

وتسهم الآية التالية في التوضيح :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) .

إنّما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحقّ ، وإنذار من لا يأبى بعقاب أخروي أليم ، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.

مع ملاحظة ، أنّ الإنذار الموجه في الآية فيمن يخاف ويخشى وعقاب الله ، هو يشابه الموضوع الذي تناولته الآية (٢) من سورة البقرة :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

ويشير البيان القرآني إلى أثر الدافع الذاتي في طلب الحقيقة وتحسس المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان أمام خالقه ، فإذا افتقد الإنسان إلى الدافع المحرك فسوف لا يبحث فيما جاءت به كتب السماء ، ولا يستقر له شأن في أمر المعاد ، بل وحتى لا يستمع لإنذارات الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام .

وتأتي آخر آية من السورة لتبيّن أنّ ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق ليس إلّا قليلا :( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) .

فعمر الدنيا وحياة البرزخ من السرعة في الانقضاء ليكاد يعتقد الناس عند وقوع القيامة ، بأنّ كلّ عمر الدنيا والبرزخ ما هو إلّا سويعات معدودة!

وليس ببعيد لأنّ عمر الدنيا قصير بذاته ، وليس من الصواب أن نقايس بين زمني الدنيا والآخرة ، لأنّ الفاني ليس كالباقي.

«عشيّة» : العصر. و «الضحى» : وقت انبساط الشمس وامتداد النهار.

وقد نقلت الآيات القرآنية بعض أحاديث المجرمين في يوم القيامة ، فيما يختص بمدّة لبثهم في عالم البرزخ

فتقول الآية (١٠٣) من سورة طه :( يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ) ، و( يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ) .

وتقول الآية (٥٥) من سورة الروم :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما

٤٠٤

لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) .

واختلاف تقديرات مدّة اللبث ، يرجع لاختلاف القائلين ، وكلّ منهم قد عبّر عن قصر المدّة حسب ما يتصور ، والقاسم المشترك لكلّ التقديرات هو أنّ المدّة قصيرة جدّا ويكفي طرق باب هذا الموضوع بإيقاظ الغافل من خدره.

اللهمّ! هب لنا الأمن والسلامة في العوالم الثلاث ، الدنيا والبرزخ والقيامة

يا ربّ! لا ينجو من عقاب وشدائد يوم القيامة إلّا من رحمته بلطفك ، فاشملنا بخاصة لطفك ورحمتك

إلهي! اجعلنا ممن يخاف مقامك وينهى نفسه عن الهوى ، ولا تجعل لنا غير الجنّة مأوى

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة النّازعات

* * *

٤٠٥
٤٠٦

سورة

عبس

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية

٤٠٧
٤٠٨

«سورة عبس»

محتوى السورة :

تبحث هذه السورة على قصرها مسائل مختلفة مهمّة تدور بشكل خاص حول محور المعاد ، ويمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية.

١ ـ عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحقّ بأسلوب غير لائق.

٢ ـ أهمية القرآن الكريم.

٣ ـ كفران الإنسان للنعم والمواهب الإلهية.

٤ ـ بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة حسّ الشكر في الإنسان.

٥ ـ الإشارة إلى بعض الوقائع والحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفّار ذلك اليوم العظيم.

وتسمية هذه السورة بهذا الاسم بمناسبة الآية الاولى منها.

فضيلة السورة :

ورد في الحديث النّبوي الشريف أنّ : «من قرأ سورة «عبس» جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر»(١)

* * *

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٥.

٤٠٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) )

سبب النّزول

تبيّن الآيات المباركة عتاب الله تعالى بشكل إجمالي ، عتابه لشخص قدّم المال والمكانة الاجتماعية على طلب الحق أمّا من هو المعاتب؟ فقد اختلف فيه المفسّرون ، لكنّ المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم ، ما يلي :

إنّها نزلت في عبد الله بن ام مكتوم ، إنّه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبي واميّة بن خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعهم ، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين) ، فقال : يا رسول الله ، أقرئني وعلمني ممّا علمك الله ، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه ، وقال في

٤١٠

نفسه : يقول هؤلاء الصناديد ، إنّما أتباعه العميان والعبيد ، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فنزلت الآية.

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه قال : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي» ، ويقول له : «هل لك من حاجة».

واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين(١) .

والرأي الثّاني في شأن نزولها : ما

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّها نزلت في رجل من بني اميّة ، كان عند النّبي ، فجاء ابن ام مكتوم ، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك ، وأنكره عليه»(٢) .

وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ الآيات (٨ ـ ١٠) في السورة يمكن أن تكون قرينة ، حيث تقول :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير من ينطبق عليه هذا الخطاب الربّاني.

ويحتجّ الشريف المرتضى على الرأي الأوّل ، بأنّ ما في آية( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) لا يدل على أنّ المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّ العبوس ليس من صفاته مع أعدائه ، فكيف به مع المؤمنين المسترشدين! ووصف التصدّي للأغنياء والتلهي عن الفقراء ممّا يزيد البون سعة ، وهو ليس من أخلاقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكريمة ، بدلالة قول الله تعالى في الآية (٤) من سورة (ن) ، والتي نزلت قبل سورة عبس ، حيث وصفه الباري :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول ، فإنّ فعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال هذه لا يخرج من كونه (تركا للأولى) ، وهذا ما لا ينافي العصمة ،

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٧.

(٢) المصدر السابق.

٤١١

وللأسباب التالية :

أوّلا : على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق ، وتحطيم صف أعدائه.

ثانيا : إنّ العبوس أو الانبساط مع الأعمى سواء ، لأنّه لا يدرك ذلك ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ «عبد الله بن ام مكتوم» لم يراع آداب المجلس حينها ، حيث أنّه قاطع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرارا في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين ، ولكن بما أنّ الله تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الاعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلا على عظمة شأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية ، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى) ، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق فيه ، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضا) فلا داعي لاستعتاب نفسه

ومن مكارم خلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد الله بن ام مكتوم ، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والاستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا ، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك ، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين.

ونأتي لنقول ثانية : إنّ المشهور بين المفسّرين في شأن النّزول ، هو نزولها في شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى.

* * *

٤١٢

التّفسير

عتاب ربّاني!

بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات ، ننتقل إلى تفسيرها :

يقول القرآن أولا :( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) .

لماذا؟ :( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) .

( وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) ، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ) ، فإن لم يحصل على التقوى ، فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة ، فتنفعه ذلك(١) .

ويستمر العتاب :( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ) ، من اعتبر نفسه غنيا ولا يحتاج لأحد.

( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) ، تتوجّه إليه ، وتسعى في هدايته ، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة والغرور يولد الطغيان والتكبر ، كما أشارت لهذا الآيتان (٦ و٧) من سورة العلق :( ... إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) .(٢)

( وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) ، أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان ، فليس عليك شيء.

فوظيفتك البلاغ ، سواء أمن السامع أم لم يؤمن ، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحقّ ، وإن كان هدفك أوسع ليشمل هداية كلّ أولئك الأغنياء المتحجرين.

__________________

(١) والفرق بين الآية والتي قبلها ، هو أنّ الحديث قد جرى حول التزكية والتقوى الكاملة ، في حين أنّ الحديث في الآية المبحوثة يتناول تأثير التذكر الإجمالي ، وإن لم يصل إلى مقام التقوى الكاملة ، وستكون النتيجة استفادة الأعمى المستهدي من التذكير ، سواء كانت الفائدة تامّة أم مختصرة. وقيل : إنّ الفرق بين الآيتين ، هو أنّ الأولى تشير إلى التطهير من المعاصي ، والثانية تشير إلى كسب الطاعات وإطاعة أمر الله عزوجل. والأوّل يبدو أقرب للصحة.

(٢) يقول الراغب في مفرداته : (غنى واستغنى وتغنى وتغانى) بمعنى واحد ، ويقول في (تصدّى) : إنّها من (الصدى) ، أي الصوت الراجع من الجبل.

٤١٣

وتأتي العتاب مرّة اخرى تأكيدا :( وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ) ، في طلب الهداية

( وَهُوَ يَخْشى ) (١) ، فخشيته من الله هي التي دفعته للوصول إليك ، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها ، ويعمل على مقتضاها.

( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (٢) .

ويشير التعبير بـ «أنت» إلى أنّ التغافل عن طالبي الحقيقة ، ومهما كان يسيرا ، فهو ليس من شأن من مثلك ، وإن كان هدفك هداية الآخرين ، فبلحاظ الأولويات ، فإنّ المستضعف الظاهر القلب والمتوجه بكلّه إلى الحقّ ، هو أولى من كلّ ذلك الجمع المشرك.

وعلى أيّة حال : فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى غيره ، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق ، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ الله لا يرضى بإيذاء رجل مؤمن مستضعف.

وعلّة ذلك ، إنّ الطبقة المحرومة من الناس تمثل : السند المخلص للإسلام دائما الأتباع الأوفياء لأئمّة دين الحق ، المجاهدين الصابرين في ميدان القتال والشهادة ، كما تشير إلى هذا المعنى رسالة أمير المؤمنينعليه‌السلام لمالك الأشتر : «وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء العامّة من الأئمّة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم»(٣) .

* * *

__________________

(١) يراد بالخشية هنا : الخوف من الله تعالى ، الذي يدفع الإنسان ليتحقق بعمق وصولا لمعرفته جلّ اسمه ، وكما يعبر المتكلمون عنه بـ وجوب معرفة الله بدليل دفع الضرر المحتمل. واحتمل الفخر الرازي : يقصد بالخشية ، الخوف من الكفّار ، أو الخوف من السقوط على الأرض لفقدانه البصر. وهذا بعيد جدّا.

(٢) «التلهي» : من (اللهو). ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والاستغفال بغيره ، ليقف في قبال «التصّدي».

(٣) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٤١٤

الآيات

( كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) )

التّفسير

تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في النفوس ، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى الذي جاء لطلب الحق) ، ، فتقول( كَلَّا ) فلا ينبغي لك أن تعيد الكرّة ثانية.

( إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) ، إنّما الآيات القرآنية تذكرة للعباد ، فلا ينبغي الإعراض عن المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين ، أولئك الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.

ويحتمل أيضا ، كون الآيات ،( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) جواب لجميع التهم الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.

٤١٥

وفتقول الآية : إنّ الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة ، لا يمتلك من الصحة شيئا ، وإنّما الآيات القرآنية آيات تذكرة وإيمان ، ودليلها فيها ، وكلّ من اقترب منها سيجد أثر ذلك في نفسه (ما عدا المعاندين).

وتشير الآية التالية إلى اختيارية الهداية والتذكّر :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) (١) .

نعم ، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرّباني ، فالآيات القرآنية مطروحة وأسمعت كلّ الآذان ، وما على الإنسان إلّا أن يستفيد منها أو لا يستفيد.

ثمّ يضيف : أنّ هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح وأوراق) :( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) .

«الصحف» : جمع (صحيفة) بمعنى اللوح أو الورقة ، أو أيّ شيء يكتب عليه.

فالآية تشير إلى أنّ القرآن قد كتب على ألواح من قبل أن ينزّل على النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي ، والألواح بطبيعتها جليلة القدر وعظيمة الشأن.

وسياق الآية وارتباطها مع ما سبقها من آيات وما سيليها : لا ينسجم مع ما قيل من أنّ المقصود بالصحف هنا هو ، كتب الأنبياء السابقين.

وكذا الحال بالنسبة لما قيل من كون «اللوح المحفوظ» ، لأنّ «اللوح والمحفوظ» لا يعبر عنه بصيغة الجمع ، كما جاء في الآية : «صحف».

وهذه الصحف المكرمة :( مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) .

فهي مرفوعة القدر عند الله ، وأجلّ من أن تمتد إليها أيدي العابثين وممارسات المحرّفين ، ولكونها خالية من قذارة الباطل ، فهي أطهر من أن تجد فيها أثرا لأيّ تناقض أو تضاد أو شك أو شبهة.

__________________

(١) يعود ضمير : «ذكره» إلى ما يعود إليه ضمير «إنّها» ، وسبب اختلاف الصيغة بين الضميرين هو أنّ ضمير «إنّها» يرجع إلى الآيات القرآنية ، و «ذكره» إلى القرآن ، فجاء الأوّل مؤنثا والثّاني مذكرا.

٤١٦

وهي كذلك :( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) ، سفراء من الملائكة.

وهؤلاء السفراء :( كِرامٍ بَرَرَةٍ ) .

«سفرة» : جمع (سافر) من (سفر) على وزن (قمر) ، ولغة : بمعنى كشف الغطاء عن الشيء ، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنّه يزيل ويكشف الوحشة فيما بينهم ، ويطلق على الكاتب اسم (السافر) ، وعلى الكتاب (سفر) لما يقوم به من كشف موضوع ما وعليه فالسفرة هنا ، بمعنى : الملائكة الموكلين بإيصال الوحي الإلهي إلى النّبي ، أو الكاتبين لآياته.

وقيل : هم حفّاظ وقرّاء وكتّاب القرآن والعلماء ، الذين يحافظون على القرآن من أيدي العابثين وتلاعب الشياطين في كلّ عصر ومصر.

ويبدو هذا القول بعيدا ، لأنّ الحديث في الآيات كان يدور حول زمان نزول الوحي على صدر الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس عن المستقبل.

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، في وقوله : «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة»(١) . بجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة الكرام البررة ، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم ، لأنّ جلالة مقام حفظهم وعملهم ، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.

ونستنتج من كلّ ما تقدم : بأنّ من يسعى في حفظ القرآن وإحياء مفاهيمه وأحكامه ممارسة ، فله من المقام ما للكرام البررة.

«كرام» : جمع (كريم) ، بمعنى العزيز المحترم ، وتشير كلمة «كرام» في الآية إلى عظمة ملائكة الوحي عند الله وعلو منزلتهم.

وقيل : «كرام» : إشارة إلى طهارتهم من كلّ ذنب ، بدلالة الآيتين (٢٦ و٢٧) من سورة الأنبياء :( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٨.

٤١٧

«بررة» : جمع (بار) ، من (البرّ) ، بمعنى التوسع ، ولذا يطلق على الصحراء الواسعة اسم (البر) ، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خير وشمول بركاته على الآخرين.

و «البررة» : في الآية ، بمعنى : إطاعة الأمر الإلهي ، والطهارة من الذنوب.

ومن خلال ما تقدم تتوضح لنا ثلاث صفات للملائكة.

الاولى : إنّهم «سفرة» حاملين وحيه جلّ شأنه.

الثّانية : إنّهم أعزاء ومكرمون.

الثالثة : طهرة أعمالهم عن كلّ تقاعس أو مفسدة.

وعلى الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى الله ، ومنها ما في صحف المكرمة من تذكير وتوجيه ولكنّ الإنسان يبقى عنيدا متمردا :( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) (١) .

«الكفر» : في هذا الموضوع قد يحتمل على ثلاثة معان عدم الإيمان ، الكفران وعدم الشكر جحود الحق وستره بأيّ غطاء كان وعلى كلّ المستويات ، وهو المعنى الجامع والمناسب للآية ، لأنّها تعرضت لأسباب الهداية والإيمان ، فيما تتحدث الآيات التي تليها عن بيان النعم الإلهية التي لا تعد ولا تحصى.

( قُتِلَ الْإِنْسانُ ) : كناية عن شدّة غضب الباري جلّ وعلا ، وزجره لمن يكفر بآياته.

ثمّ يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي ، والذي غالبا ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة :( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) ؟

__________________

(١) «قتل الإنسان» : نوع من اللعن ، وهو أشدّها عن الزمخشري في (الكشاف). «ما» ، في «ما أكفره» : للتعجب ، التعجب من السير في متاهات الكفر والضلال ، مع ما للحق من سبيل واضحة ، وتوفير مختلف مصاديق واللطف والرحمة والرّبانية التي توصل الإنسان إلى شاطئ النجاة.

٤١٨

لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة ، ثمّ صنع منه مخلوقا موزونا مستويا قدّر فيه جميع أموره في مختلف مراحل حياته :( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) .

فلم لا يتفكر الإنسان بأصل خلقته؟!

لم ينسى تفاهة مبدأه؟!

ألّا يجدر به أن يتأمل في قدرة الباري سبحانه ، وكيف جعله موجودا بديع الهيئة والهيكل من تلك النطفة الحقيرة القذرة!! ألا يتأمل!!

فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات ، ومع ما منحه الله من مواهب واستعدادات لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.

«قدّره» : من (التقدير) ، وهو الحساب في الشيء وكما بات معلوما أنّ أكثر من عشرين نوعا من الفلزات وأشباه الفلزات داخلة في التركيب (البيولوجي) للإنسان ، ولكلّ منها مقدارا معينا ومحسوبا بدقّة متناهية من حيث الكمية الكيفية ، بل ويتجاوز التقدير حدّ البناء الطبيعي للبدن ليشمل حتى الاستعدادات والغرائز والميول المودعة في الإنسان الفرد ، بل وفي المجموع العام للبشرية ، وقد وضع الحساب في مواصفات تكوينية ليتمكن الإنسان بواسطتها من الوصول إلى السعادة الإنسانية المرجوة.

وتتجلّى عظمة تقدير الخالق سبحانه في تلك النطفة الحقيرة القذرة التي تتجلّى بأبهى صورها جمالا وجلالا ، حيث لو جمعنا الخلايا الأصلية للإنسان (الحيامن) لجميع البشر ، ووضعناها في مكان واحد ، لكانت بمقدار حمصة! نعم

فقد أودعت في هذا المخلوق العاقل الصغير كلّ هذه البدائع والقابليات.

وقيل : التقدير بمعنى التهيئة.

وثمّة احتمال آخر ، يقول التقدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.

٤١٩

فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كلّ هذه القدرة والاستطاعة ، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض ، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كلّ ما يحيط بها من قوى(١) .

ولا مانع من الأخذ بالتفاسير الثلاث جملة واحدة.

ويستمر القرآن في مشوار المقال :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) يسّر له طريق تكامله حينما كان جنينا في بطن امّه ، يسّر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك العالم المظلم.

ومن عجيب خلق الإنسان أنّه قبل خروجه من بطن امّه يكون على الهيئة التالية : رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل ، ووجهه متجها صوب ظهر امّه ، وما أن تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئة فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل وتتيسّر ولادته! وقد تشذ بعض حالات لولادة ، بحيث يكون الطفل في بطن امّه في هيئة مغايرة للطبيعة ، ممّا تسبب كثير من السلبيات على وضع الام عموما.

وبعد ولادته : يمرّ الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي ، ثمّ مرحلة نمو الغرائز ، فالرشد في مسير الهداية الايمانية والروحية ، ويساهم العقل ودعوة الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان ورحيا وإيمانيا.

وبلاغة بيان القرآن قد جمعت كلّ ذلك في جملة واحدة :( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) .

والملفت للنظر أنّ الآية المباركة تؤكّد على حرية اختيار الإنسان حين قالت أنّ الله تعالى يسّر وسهّل له الطريق الى الحق ، ولم تقل أنّه تعالى أجبره على

__________________

(١) يقول الراغب في مفردات : «قدّره» (بالتشديد) : أعطاه القدرة ، ويقال : قدّرني الله على كذا وقواني عليه».

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442