تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني13%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113722 / تحميل: 9456
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الدَيلم مع بهاء الدولة أربعمئة رجل مستأمنين، فأخذهم لشكرستان وسار بهم وبمَن معه إلى البصرة فكثر جَمعه، فنَزلوا قُرب البصرة بين البساتين يُقاتلون أصحاب بهاء الدولة، ومال إليهم بعض أهل البصرة، ومُقدّمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي، وكانوا يحملون إليهم الميرة، وعَلم بهاء الدولة بذلك فأنفذ مَن يَقبض عليه، فهرب كثير منهم إلى لشكرستان فقويَ بهم، وجمعوا السُفن وحملوه فيها ونزلوا إلى البصرة، فقاتلوا أصحاب بهاء الدولة بها وأخرجوهم عنها، ومَلك لشكرستان البصرة، وقتل مِن أهلها كثيراً وهربَ كثير منهم، وأخذ كثيراً مِن أموالهم، فكَتب بهاء الدولة إلى مُهذّب الدولة صاحب البطيحة يقول:

أنتَ أحقّ بالبصرة، فَسَيَّرَ إليها جيشاً مع عبد الله بن مرزوق..، وقيل إنّما فارقها فأجلى لشكرستان عن البصرة..، وقيل إنّه سار عن البصرة بغير حَرب، ودخلها ابن مرزوق..، وقيل إنّما فارقها بعد أنْ حارب فيها وضَعُف عن المقام بين يديه، وصفت البصرة لمُهذّب الدولة.

ثُمّ إنّ لشكرستان عَمل على العود إلى البصرة، فهجم عليها في السُفن، ونزل أصحابه بسوق الطعام، واقتتلوا فاستظهر لشكرستان، وكاتبَ بهاء الدولة يطلب المُصالحة، ويبذل الطاعة ويخطب له بالبصرة، فأجابه مُهذّب الدولة إلى ذلك، وأخذَ ابنه رهينة، وكان لشكرستان يُظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومُهذّب الدولة، وعسفَ أهل البصرة مدّة فتفرّقوا، ثُمّ إنّه أحسن إليهم وعدل فيهم فعادوا.

وفي هذه السنة مَلك المقلد بن المسيّب الموصل، وقد مرّ خَبر ذلك في أخبار بني المسيّب.

وفي سنة ٣٨٧هـ خَرج أبو الحسن عليّ بن مزيد عن طاعة بهاء الدولة، وسبقَ الخَبر عن ذلك في مكانه فلا نُعيده.

مسيرُ بهاءِ الدولةِ إلى واسط:

في سنة ٣٨٨هـ عاد أبو عليّ بن إسماعيل إلى طاعة بهاء الدولة وهو بواسط، فوزرَ له ودبّر أمره، وأشار عليه بالمسير إلى أبي محمّد بن مكرم ومَن معه مِن الجُند ومساعدتهم ففعل ذلك، وسار على كُره وضيق فنزل بالقنطرة البيضاء، وثبت أبو عليّ بن أستاذ هرمز وعسكره، وجرى لهم معه وقائع كثيرة، وضاق الأمر ببهاء الدولة وتعذّرت عليه الأقوات، فاستمدّ بدر بن حسنويه فأنفذ إليه شيئاً قام ببعض ما يُريده، وأشرف بهاء الدولة على الخَطر،

٣٠١

وسعى أعداء أبي عليّ بن إسماعيل به حتّى كاد يبطش به، فتجدّد مِن أمر ابنَي بختيار وقتل صمصام الدولة ما أتاه به الفرج مِن حيث لم يحتسب، وصَلح أمرُ أبي علي عنده واجتمعت الكلمة عليه.

مَقتل صمصام الدولة:

في هذه السنة في ذي الحجّة قُتِل صمصام الدولة بن عَضُد الدولة، وسَبب ذلك أنّ جماعة كثيرة مِن الدَيلم استوحشوا مِن صمصام الدولة؛ لأنّه أمرَ بعرضهم وإسقاط مَن ليس بصحيح النَسب، فأسقط منهم مقدار ألف رجل، فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، واتّفق أنّ أبا القاسم وأبا نصر ابنَي عِزّ الدولة - بختيار - كانا مقبوضين، فخدعا الموكّلين بهما في القلعة، فأفرجوا عنهما، فجمعا لفيفاً مِن الأكراد، واتّصل خبرهما بالّذين أُسقطوا مِن الدَيلم فأتوهم، وقصدوا إلى أرجان فاجتمعت عليها العساكر، وتحيّر صمصام الدولة ولم يكن عنده مَن يُدبّره، وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مُقيماً بنسا، فأشار عليه بعض مَن عنده بتفريق ما عنده مِن المال في الرجال، والمسير إلى صمصام الدولة وأخذه إلى عسكره بالأهواز، وخوف إنْ لم يفعل ذلك فشحّ بالمال، فثار به الجُند ونهبوا داره وهربوا، فاختفى فأُخذ وأُتي به إلى ابنَي بختيار فحُبس ثُمّ احتال فنجا.

وأمّا صمصام الدولة، فإنّه أشار عليه أصحابه بالصعود إلى القلعة التي على باب شيراز، والامتناع بها إلى أنْ يأتي عسكره ومَن يمنعه، فأراد الصُعود إليها فلم يُمكّنه المستحفظ بها، وكان معه ثلاثمئة رجل فقالوا له:

الرأي أنّنا نأخذك ووالدتك ونسير إلى أبي عليّ بن أستاذ هرمز، وأشار بعضهم بقصد الأتراك وأخذهم والتَقوّي بهم ففعل ذلك، وخرج معهم بخزائنه وأمواله فنهبوه، وأرادوا أخذه فهَرب، وسار إلى الدودمان على مرحلتين مِن شيراز، وعَرف أبو نصر بن بختيار الخبر فبادر إلى شيراز، ووثبَ رئيس الدودمان - واسمه طاهر - بصمصام الدولة فأخذه، وأتاه أبو نصر بن بختيار وأخذه منه فقتله في ذي الحجّة، فلمّا حُمل رأسه إليه قال:

هذه سُنّة سنّها أبوك - يعني ما كان مِن قتل عَضُد الدولة بختيار - وكان عُمر صمصام الدولة خمساً وثلاثين سَنة وسبعة أشهر، ومُدّة إمارته بفارس تسع سنين وثمانية أيّام، وكان كريماً حليماً.

وأمّا والدته، فسُلّمت إلى بعض قوّاد الدَيلم، فقتلها وبنى عليها دكّة في داره، فلمّا مَلك بهاء الدولة فارس أخرجها ودفنها في تربة بني بويه.

٣٠٢

مِلكُ بهاءِ الدولةِ فارس وخوزستان:

في سنة ٣٨٩هـ دخلَ الدَيلم مع أبي عليّ بن أستاذ هرمز بالأهواز في طاعة بهاء الدولة، وكان سَبب ذلك أنّ ابنَي بختيار لمّا قَتلا صمصام الدولة ومَلكا بلاد فارس كَتبا إلى أبي عليّ بن أستاذ هرمز بالخَبر، ويُذكر أنّ تعويلهما عليه واعتضادهما به، ويأمرانه بأخذ اليمين لهما على مَن معه مِن الدَيلم والمُقام بمكانه والجدّ بمحاربة بهاء الدولة، فخافهما أبو علي لِما كان أسلفه إليهما مِن قبل أخويهما وأسرِهما، فجَمعَ الدَيلم الذين معه وأخبرهم الحال واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بطاعة ابني بختيار ومُقاتلة بهاء الدولة، فلم يوافقهم على ذلك، ورأى أنْ يُراسل بهاء الدولة ويستميله ويحلفه لهم، فقالوا:

إنّا نخاف الأتراك وقد عرفتَ ما بيننا وبينهم، فسكت عنهم وتفرّقوا، وراسله بهاء الدولة يستميله ويبذل له وللديلم الأمان والإحسان، وتردّدت الرُسل، وقال بهاء الدولة:

إنّ ثاري وثاركم عند مَن قتل أخي فلا عُذر لكم في التَخلّف عن الأخذ بثاره، واستمال الدَيلم فأجابوه إلى الدُخول في طاعته، وأنفذوا جماعة مِن أعيانهم إلى بهاء الدولة فحلفوه واستوثقوا منه، وكتبوا إلى أصحابهم المُقيمين بالسوس بصورة الحال، وركب بهاء الدولة مِن الغد إلى باب السوس رجاء أنْ يَخرج مَنْ فيه إلى طاعته، فَخرجوا إليه في السلاح وقاتلوه قتالاً شديداً لم يُقاتلوا مثله فضاق صدره، فقيل له:

إنّ هذه عادة الدَيلم، أنْ يشتدّ قتالهم عند الصُلح؛ لئلاّ يُظنّ بهم، ثُمّ كفّوا عن القتال وأرسلوا مَن يُحلفه لهم، ونزلوا إلى خِدمته، واختلط العسكران وساروا إلى الأهواز، فقرّر أبو عليّ بن إسماعيل أمورها وقسّم الإقطاعات بين الأتراك والدَيلم، ثُمّ ساروا إلى رامهرمز فاستولوا عليها وعلى أرجان وغيرها مِن بلاد خوزستان، وسار أبو عليّ بن إسماعيل إلى شيراز فنزل بظاهرها، فَخرج إليه ابنا بختيار في أصحابهما فحاربوه، فلمّا اشتدّت الحرب مال بعضُ مَن معهما إليه، ودخل بعضُ أصحابه البلد ونادوا بشعار بهاء الدولة، وكان النقيب أبو أحمد الموسوي بشيراز قد وردها رسولاً مِن بهاء الدولة إلى صمصام الدولة، فلمّا قَتل صمصام الدولة كان بشيراز، فلمّا سَمع النداء بشعار بهاء الدولة ظنّ أنّ الفتح قد تَمّ، فقصد الجامع - وكان يوم الجمعة - وأقام الخُطبة لبهاء الدولة، ثُمّ عاد ابنا بختيار واجتمع إليهما أصحابهما، فخاف النقيب فاختفى، وحُمِل في سَلّة إلى أبي

٣٠٣

عليّ بن إسماعيل.

ثُمّ إنّ أصحاب ابنَي بختيار قصدوا أبا عليّ وأطاعوه، فاستولى على شيراز وهَرب ابنا بختيار، فأمّا أبو نصر، فإنّه لَحِق ببلاد الدَيلم، وأمّا الثاني وهو أبو القاسم فلَحِق ببدر بن حسنويه ثُمّ قصد البطيحة.

ولمّا مَلك أبو علي شيراز كَتب إلى بهاء الدولة بالفَتح، فسار إليها ونزلها، فلمّا استقرّ بها أمرَ بنهب قرية الدودمان وإحراقها وقَتلِ كلّ مَن كان بها مِن أهلهم فاستأصلهم، وأخرج أخاه صمصام الدولة وجدّد أكفانه، وحُمل إلى التربة بشيراز فدُفن بها، وسيّر عسكراً مع أبي الفتح أستاذ هرمز إلى كرمان، فملكها وأقام بها نائباً عن بهاء الدولة.

قَتلُ ابن بختيار بكرمان واستيلاءُ بهاءِ الدولةِ عليها:

في سنة ٣٩٠هـ في جمادى الآخرة قُتلَ الأمير أبو نصر بن بختيار الّذي كان قد استولى على بلاد فارس، وسببُ قتله أنّه لمّا انهزم مِن عسكر بهاء الدولة بشيراز سار إلى بلاد الدَيلم، وكاتب الدَيلم بفارس وكرمان مِن هناك يستميلهم وكاتبوه واستدعوه، فسار إلى بلاد فارس واجتمع عليه جَمعٌ كثير مِن الزط والديلم والأتراك، وتردّد في تلك النواحي، ثُمّ سار إلى كرمان فلم يقبله الدَيلم الّذين بها، وكان المُقدّم عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فجَمعَ وقصد أبا جعفر فالتقيا فانهزم أبو جعفر إلى السيرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فمَلكها ومَلك أكثر كرمان، فعَظُم الأمرُ على بهاء الدولة، فسَيّر أليه الموفّق عليّ بن إسماعيل في جيش كَثير، وسار مُجدّاً حتّى أطلّ على جيرفت، فاستأمَن إليه مَن بها مِن أصحاب ابن بختيار ودخلها، فأنكر عليه مَن معه مِن القوّاد سُرعة سيره وخَوّفوه عاقبة ذلك فلم يُصغِ إليهم، وسأل عن حال ابن بختيار، فأُخبر أنّه على ثمانية فراسخ مِن جيرفت، فاختار ثلاثمئة رجل مِن شُجعان أصحابه وسار بهم، وترك الباقين مع السواد بجيرفت، فلمّا بلغَ ذلك المكان لم يجده، ودُلّ عليه فلم يزل يَتبعه مِن مَنزل إلى مَنزل حتّى لحِقه بدارزين، فسار ليلاً وقُدّر وصوله إليه عند الصبح فأدركه، فركب ابن بختيار واقتتلوا قتالاً شديداً، وسار الموفّق في نفر مِن غلمانه فأتى ابن بختيار مِن ورائه، فانهزم ابن بختيار وأصحابه، ووَضع فيهم السيف فقَتل منهم الخَلق الكثير، فغَدر بابن بختيار بعض أصحابه وضَربه بلتٌ، فألقاه وعاد إلى الموفّق ليُخبره بقتله، فأرسل معه مَن يَنظر إليه فرآه وقد

٣٠٤

قَتله غيره، وحُمل رأسه إلى الموفّق، وأكثرَ الموفّق القَتل في أصحاب ابن بختيار، واستولى على بلاد كرمان، واستعمل عليها أبا موسى بن هيجل، وعادَ إلى بهاء الدولة فخَرج بنفسه ولقيَه وأكرمه وعَظّمه، ثُمّ قَبض عليه بعد أيّام.

ومِن أعجب ما يُذكر أنّ الموفّق أخبره مُنجّمٌ أنّه يَقتل ابن بختيار يوم الاثنين، فلمّا كان قبل الاثنين بخمسة أيّام قال للمُنجّم:

قد بقيَ خمسة أيّام وليس لنا عِلم به، فقال له المُنجّم:

إنّ لم تَقتله فاقتلني عَوّضه وإلاّ فأحسن إلي، فلمّا كان يوم الاثنين أدركه وقَتله، وأحسن إلى المُنجّم إحساناً كثيراً.

أمّا المُوفّق هذا، فبعد أنْ أكرمه بهاء الدولة ولقيه بنفسه استعفى مِن الخِدمة، فلم يُعفِه بهاء الدولة، فألح كلّ واحد منهما فأشار أبو محمّد بن مكرم على الموفق بترك ذلك فلم يَقبل، فقبضَ عليه بهاء الدولة وأخذ أمواله، وكَتب إلى وزيره سابور ببغداد بالقبض على أنساب الموفّق فعرفهم ذلك سِرّاً، فاحتالوا لنفوسهم وهربوا، ثُمّ إنّ بهاء الدولة قَتل المُوفّق سَنة ٣٩٤هـ.

الحَرب بين قرواش وعَسكر بهاء الدولة:

جرتْ حربٌ بين قرواش وعسكر بهاء الدولة سَنة ٣٩٢هـ، وقد دُوّنَت في أخباره في تاريخ بني المُسيّب.

الفِتنةُ بينَ السُنّة والشيعة:

اشتدّت الفِتنة بين السُنّة والشيعة ببغداد سَنة ٣٩٣هـ، وانتشر العيّارون والمُفسدون، فبعث بهاء الدولة عميد الجيوش أبا عليّ بن أستاذ هرمز إلى العراق ليُدبّر أمره، فوصل إلى بغداد، فزينتْ له وقَمع المُفسدين، ومنع السُنّة والشيعة مِن إظهار مَذاهبهم، ونفى بعد ذلك ابن المُعلّم فقيه الإماميّة، فاستقام البَلد.

استيلاء أبي العبّاس على البطيحة ومخاوف بهاء الدولة:

في شعبان سَنة ٣٩٤هـ غَلب أبو العبّاس بن واصل على البطيحة، وأخرج منها مُهذّب الدولة، واستولى على خزائنه وأمواله، ولمّا سَمع بهاء الدولة بحال أبي العبّاس وقوّته خافه على البلاد، فسارَ مِن فارس إلى

٣٠٥

الأهواز لتلافي أمره، وأحضر عنده عميد الجيوش مِن بغداد، وجهّز معه عَسكراً كثيفاً وسيّرهم إلى أبي العبّاس، فأتى إلى واسط وعمل ما يحتاج إليه مِن سُفن وغيرها، وسار إلى البطائح، وفرّق جُنده في البلاد لتقرير قواعدها، وسمع أبو العبّاس بمسيره إليه فأصعد إليه مِن البصرة، وأرسل يقول له:

ما أحوجك تتكلّف الانحدار وقد أتيتك فخُذ لنفسك، ووصل إلى عَميد الجيوش وهو على تلك الحال مِن تَفرّق العسكر عنه، فلقيه فيمَن معه بالصليق، فانهزم عميد الجيوش ووقع مَن معه بعضهم على بعض، ولقيَ عميد الجيوش شِدّة إلى أنْ وصل إلى واسط، وذهب ثقله وخيامه وخزائنه، فأخبره خازنه أنّه قد دَفن في الخيمة ثلاثين ألف دينار وخمسين ألف درهم، فأنفذ فأحضرها فقويَ بها ولكنّه بعد أنء تَقوّى جَمع العساكر واستدعى مُهذّب الدولة مِن بغداد في سنة ٣٩٥هـ، وغلب على أبي العبّاس، ثُمّ قويَ أمرُ أبي العبّاس وسار إلى الأهواز، ولكنّ بهاء الدولة جهّز إليه جيشاً في الماء، وبعد أنْ دخل إلى دار المَملكة واستولى على ما فيها لم يُمكنه المُقام؛ لأنّ بهاء الدولة كان قد جهّز عَسكراً ليسير مِن البحر إلى البصرة، فخاف أبو العبّاس مِن ذلك وراسل بهاء الدولة وصالحه وزاد في إقطاعه، وحَلفَ كلّ واحد منهما لصاحبه، وعاد إلى البصرة.

حصرُ أبي جعفر الحجّاج بغداد:

في سنة ٣٩٧هـ جمع أبو جعفر الحجّاج جمعاً كثيراً، وأمدّه بدر بن حسنويه بجيش كثير، فسار بالجمع وحصر بغداد، وسببُ ذلك أنّ أبا جعفر كان نازلاً على قلج حامي طريق خُراسان، وكان قلج مُبايناً لعميد الجيوش فاجتمعا لذلك، فتوفّي قلج هذه السُنّة فجَعَلَ عميدُ الجيوش على حماية الطريق أبا الفتح بن عناز، وكان عدوّاً لبدر بن حسنويه، فحقد ذلك بدر فأستدعى أبا جعفر الحجّاج وجمع له جمعاً كثيراً، منهم الأمير هندي بن سعدي وأبو عيسى شاذي بن محمّد وورام بن محمّد وغيرهم، وسيّرهم إلى بغداد، وكان الأمير أبو الحسن عليّ بن مزيد الأسدي قد عاد مِن عند بهاء الدولة بخوزستان مُغضباً، فاجتمع معهم فزادت عِدّتهم على عشرة آلاف فارس، وكان عميد الجيوش عند بهاء الدولة لقتال أبي العبّاس بن واصل، فسار أبو جعفر ومَن اجتمع معه إلى بغداد، ونزلوا على فرسخ منها وأقاموا

٣٠٦

شهراً، وببغداد جمعٌ مِن الأتراك ومعهم أبو الفتح بن عناز فحفظوا البَلد، فبينما هُم كذلك أتاهم خَبر انهزام أبي العبّاس وقوّة بهاء الدولة، ففتّ ذلك في أعضاد أبي جعفر العبّاس ومَن معه فتفرّقوا، فعادَ ابن مَزيد إلى بلده وسار أبو جعفر وأبو عيسى إلى حلوان، وراسل أبو جعفر في إصلاح حاله مع بهاء الدولة فأجابه إلى ذلك، فحضر عنده بتستُّر، فلم يَلتفتْ إليه؛ لئلا يَستوحش عميد الجيوش.

قتل أبي العبّاس بن واصل:

سبقَ مِن خبر أبي العبّاس هذا ما انتهى به إلى مُصالحة بهاء الدولة وعوده إلى البصرة، ثُمّ تجدّد ما أوجب عوده إلى الأهواز، فعادَ إليها في جيشه وبهاء الدولة مُقيم بها، فلمّا قاربها رحلَ بهاء الدولة عنها؛ لقلّة عسكره وتَفرُّقهم بعضهم بفارس وبعضهم بالعراق، وقطعَ قنطرة اربق وبقي النهر يحجز بين الفريقين، فاستولى أبو العبّاس على الأهواز، وأتاه مَدَد مِن بدر ابن حسنويه ثلاثة آلاف فارس فقويَ بهم، وعَزم بهاء الدولة على العودِ إلى فارس فمَنعه أصحابه، فأصلح أبو العبّاس القنطرة، وجرى بين العسكرين قِتال شديد دام إلى السَحر، ثُمّ عَبر أبو العبّاس على القنطرة بعد أنْ أصلحها، والتقى العسكران واشتدّ القتال، فانهزم أبو العبّاس وقُتِل مِن أصحابه كثير، وعاد إلى البصرة مهزوماً مُنتصف رمضان سَنة ٣٩٦، فلمّا عادَ مُنهزماً جهّز بهاء الدولة إليه العساكر مع وزيره أبي غالب، فسار إليه ونزل عليه مُحاصراً له، وجرى بين العسكرين القتال، وضاق الأمر على الوزير وقلّ المال عنده، واستمدّ بهاء الدولة فلم يُمده، ثُمّ إنّ أبا العبّاس جمع سُفنه وعساكره وأصعد إلى عسكر الوزير وهجم عليهم، فانهزم الوزير وكاد يتمّ على الهزيمة، فاستوقفه بعضُ الدَيلم وثبّته، وحملوا على أبي العبّاس فانهزم هو وأصحابه، وأخذ الوزير سُفنه فاستأمن إليه كثير مِن أصحابه، ومضى أبو العبّاس مُنهزماً، وركب مع حسّان بن ثمال الخفاجي هارباً إلى الكوفة، ودخل الوزير البصرة وكَتب إلى بهاء الدولة بالفتح.

ثُمّ إنّ أبا العبّاس سارَ مِن الكوفة وقَطع دجلة، ومضى عازماً على اللحاق ببدر بن حسنويه، فبلغ خانقين وبها جعفر بن العوام في طاعة بدر، فأنزله وأكرمه وأشار عليه بالمسير في وقته وحذّره الطَلب، فاعتلّ بالتعب وطَلب الاستراحة ونام، وبلغ

٣٠٧

خَبرُه إلى أبي الفتح بن عناز - وهو في طاعة بهاء الدولة، وكان قريباً منهم - فسارَ إليهم بخانقين وهو بها، فحصره وأخذه وسار به إلى بغداد، فسَيّره عميد الجيوش إلى بهاء الدولة، فلقيهم في الطريق قاصدٌ مِن بهاء الدولة يأمره بقتله، فقُتل وحُمل رأسه إلى بهاء الدولة، وطيفَ به بخوزستان وفارس وكان بواسط عاشر صفر.

مسيرُ عَميدِ الجُيوشِ إلى حَرب بدر وصُلحه معهُ:

كان في نفسِ بهاء الدولة على بدر بن حسنويه حقدٌ لمّا اعتمده في بلاده؛ لاشتغاله عنه بأبي العبّاس بن واصل، فلمّا قُتل أبو العبّاس أمرَ بهاء الدولة عميد الجيوش بالمسير إلى بلاده، وأعطاه مالاً أنفَقَهُ في الجند، فجمع عسكراً وسار يُريد بلاده فنزل جنديسابور، فأرسل إليه بدر: إنّك لم تَقدر على أنْ تأخذ ما تَغلّب عليه بنو عقيل مِن أعمالهم، وبينهم وبين بغداد فرسخ حتى صالحتهم، فكيف تقدُر على أخذ بلادي وحصني مِنّي ومعي مِن الأموال ما ليس معك مثلها؟! وأنا معك بين أمرين: إنْ حاربتُك فالحرب سِجال، ولا نَعلم لمَن العاقبة، فإنْ انهزمتُ أنا لم ينفعْك ذلك؛ لأنّني أحتمي بقلاعي ومعاقلي وأُنفق أموالي، وإذا عجزتُ فأنا رجلٌ صحراويٌّ صاحب عَمد أبعد ثُمّ أقرب، وإنْ انهزمتَ أنت لم تجتمع، وتلقى مِن صاحبك العسف، والرأي أنْ أحمل إليك مالاً تُرضي به صاحبك ونصطلح، فأجابه إلى ذلك وصالحه، وأخذ منه ما كان أخرجه على تجهيز الجيش وعاد عنه.

في تاريخ ابن كثير.. ج١١ ص٣٥٢:

في يوم الخميس غُرّة ربيع الأوّل سَنة ٤٠٤ منها جلس الخليفة القادر في أُبّهة الخلافة، وأحضر بين يُديه سُلطان الدولة والحجّة فخَلع عليه سبع خِلَع على العادة، وعَمّمه بعمامة سوداء، وقلّده سيفاً وتاجاً مُرصّعاً وسوارين وطوقاً، وعَقد له لوائين بيده، ثُمّ أعطاه سيفاً وقال لخادم: قلّده به فهو شَرف له ولعَقِبه يفتح شرق الأرض وغَربها، وكان ذلك يوماً مشهوداً حضره القُضاة والأُمراء والوزراء.

وفاة بهاء الدولة:

في خامس جمادى الآخرة سَنة ٤٠٣ توفّي بهاء الدولة أبو نصر بن عَضُد الدولة بن بويه، وهو المَلك حينئذٍ بالعراق، وكان مَرضه تتابُع الصَرَع

٣٠٨

مثل مرض أبيه، وكان موته بأرجان وحُمل إلى مشهد أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) فدُفِن عند أبيه عَضُد الدولة، وكان عُمره اثنتين وأربعين سَنة وتسعة أشهُر ونصفاً، ومُلكه أربعاً وعشرين سَنة.

الخامس عشر مِن مُلوك بني بويه: سُلطان الدولة(١) أبو شُجاع مَلك العراق:

وهو ابن أبي نصر بهاء الدولة بن عَضُد الدولة، الخامس عشر مِن مُلوك بني بويه، والسابع مِن مُلوكهم في العراق، وليَ المُلك بعد أبيه، وسار مِن أرجان إلى شيراز، وولّى أخاه جلال الدولة أبا طاهر بن بهاء الدولة البصرة، وأخاه أبا الفوارس كِرمان.

في هذه السُنّة خَلعَ سُلطان الدولة على أبي الحسن بن مزيد الأسدي، وهو أوّل مَن تقدّم مِن أهل بيته، وفيها قَلّد الرضي الموسوي - صاحب الديوان المشهور - نقابة العلويّين ببغداد وخلعَ عليه السواد، وهو أوّل طالبيٍّ خُلع عليه السواد.

الحربُ بينَ سُلطان الدولة وأخيه أبي الفوارس:

لمّا ولّى سُلطان الدولة - بعد انتقال ملك أبيه إليه - أخاه أبا الفوارس كرمان اجتمع إليه الدَيلم، وحسّنوا له مُحاربة أخيه وأخذِ البلاد منه، فتَجهّز وتَوجّه إلى شيراز، فلم يَشعر سُلطان الدولة حتّى دخل أبو الفوارس إلى شيراز، فجمع عساكره وسار إليه فحاربه، فانهزم أبو الفوارس وعاد إلى كرمان، فتبعه إليها فخرج منها هارباً إلى خُراسان، وقصد يمين الدولة محمود بن سبكتكين وهو ببست، فأكرمه وعَظّمه وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأجلسه فوق دارا بن قابوس بن وشمكير، فقال دارا:

نحن أعظم محلاًّ منهم؛ لأنّ أباه

____________________

(١) في تاريخ ابن كثير ج١١ ص٣٥٢ في يوم الخميس غرة ربيع الأول سنة ٤٠٤هـ منها جلس الخليفة القادر في أبهة الخلافة، وأحضر بين يديه سُلطان الدولة فخلع عليه سبع خلع على القادة، وعمّمه بعمامة سوداء، وقلّده سيفاً وتاجاً مرصعاً، وسوارين وطوقاً، وعقد له لواءين بيده، ثُمّ أعطاه سيفاً، وقال الخادم: قلّده به فهو شرف له ولقبه، بفتح شرف الأرض وغر بها. وكان ذلك يوماً مشهوداً، حضره القضاة والأُمراء والوزراء.

٣٠٩

وأعمامه خدموا آبائي، فقال محمود: لكنّهم أخذوا المُلك بالسيف، أراد بهذا نُصرة نفسه حيث أخذ خُراسان مِن السامانية، ووعد محمود أنْ يَنصره.

ثُمّ إنّ أبا الفوارس باع جوهرتين كانتا على جبهة فَرسه بعشرة آلاف دينار، فاشتراهما محمود وحملهما إليه وقال له:

مِن غلطكم تتركون هذا على جبهة الفرس وقيمتا ستّون ألف دينار، ثُمّ إنّ محموداً سيّر جيشاً مع أبي الفوارس إلى كرمان مُقدّمهم أبو سعيد الطائي وهو مِن أعيان قوّاده، فسارَ إلى كرمان فملكها، وقصد بلاد فارس وقد فارقها سُلطان الدولة إلى بغداد فدخل شيراز، فلمّا سَمع سُلطان الدولة عاد إلى فارس، فالتقوا هُناك واقتتلوا فانهزم أبو الفوارس، وقُتِل كثير مِن أصحابه وعادوا بأسوأ الحال، ومَلك سُلطان الدولة بلاد فارس، وهرب أبو الفوارس سَنة ثمان وأربعمئة إلى كرمان، فسيّر سُلطان الدولة الجيوش بإثره فأخذوا كرمان منه، فلحق بشمس الدولة بن فَخر الدولة بن بويه صاحب همدان، ولم يُمكنه العود إلى يمين الدولة؛ لأنّه أساء السيرة مع أبي سعيد الطائي، ثُمّ فارق شمس الدولة ولَحق بمُهذّب الدولة صاحب البطيحة، فأكرمه وأنزله داره، وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة مِن البصرة مالاً وثياباً، وعَرضَ عليه الانحدار إليه فلم يفعل، وتَردّدت الرُسل بينه وبين سُلطان الدولة، فأعاد إليه كرمان وسُيّرت إليه الخِلَع والتقليد بذلك، وحُملت إليه الأموال فعاد إليها.

وفاة أمير البطيحة مُهذّب الدولة ومِلك سُلطان الدولة:

في جمادى الأولى مِن هذه السُنّة توفّي مُهذّب الدولة أمير البطيحة، وتحدّث الجُند بإقامة وَلده أبي الحسين مقامه، فبلغ ابن أُخت مُهذّب الدولة أبو محمّد عبد الله بن بنى، فتَوثّب على أبي الحسين بممالئة الدَيلم، واستولى على البطيحة وقَتل ابن خاله، ولم يَمكث في الإمارة إلاّ أقل مِن ثلاثة أشهر، وتوفّي فوليها بعده أبو علي عبد الله الحسين بن بكر الشرابي - وكان مِن خواصّ مُهذّب الدولة - فصار أمير البطيحة، وبذل للمَلك سُلطان الدولة بذولاً فأقرّه عليها، وبقي إلى سَنة عشر وأربعمئة، فسيّر إليه سُلطان الدولة صدقة بن فارس المازياري، فمَلك البطيحة وأسر أبا عبد الله الشرابي فبقي عنده أسيراً إلى أنْ توفّي، وبقيت البطيحة في إمارة صدقة إلى أنْ توفّي سَنة ٤١٢ فوليها سابور بن المرزبان، وأقرّه مُشرّف الدولة.

ثُمّ إنّ

٣١٠

أبا نصر شيرزاد بن الحسن ابن مروان زاد في المُقاطعة فلَم يَدخل سابور فيها، فوليها أبو نصر وفارقها سابور.

ولاية ابن سهلان العراق لسُلطان الدولة:

في سَنة ٤٠٩ عرضَ سُلطان الدولة على الرخيمي ولاية العراق، فقال:

ولاية العراق تحتاج إلى مَن فيه عسف وخرف، وليس غير ابن سهلان، وأنا أخلفه هاهُنا، فولاّه سُلطان الدولة العراق في المحرّم، فسار مِن عنده فلمّا كان ببعض الطريق تركَ ثقله وأصحابه، وسار جريدة في خمسمئة فارس مع طراد ابن دبيس الأسدي يطلب مهارش ومضر ابني دبيس، وجرى ما ذُكر في مكانه مِن تاريخ بني دبيس فاطلبه هناك.

السادس عشر مِن مُلوك بني بويه والثامن مِن مُلوكهم في العراق: مُشرّف الدولة بن بهاء الدولة:

في ذي الحَجّة سَنة ٤١١ عَظُم أمرَ أبي علي مُشرّف الدولة بن بهاء الدولة وخوطب بأمير الأُمراء، ثُمّ مَلك العراق وأزال عنه أخاه سُلطان الدولة، وكان سَببه أنّ الجُند شغبوا على سُلطان الدولة ومنعوه مِن الحركة، وأراد ترتيب أخيه مُشرّف الدولة في المُلك، فأُشير على سُلطان الدولة بالقبض عليه فلم يُمكنه ذلك، وأراد سُلطان الدولة الانحدار إلى واسط، فقال الجند:

إمّا أنْ تجعل عندنا وَلدك أو أخاك مُشرّف الدولة، فراسل أخاه بذلك فامتنع ثُمّ أجاب بعد مُعاودة، ثُمّ إنّهما اتّفقا واجتمعا ببغداد واستقرّ بينهما أنّهما لا يستخدمان ابن سهلان، وفارق سُلطان الدولة بغداد وقصد الأهواز، واستخلف أخاه مُشرّف الدولة على العراق، فلمّا انحدر سُلطان الدولة ووصل إلى تستر استوزر ابن سهلان، فاستوحش مُشرّف الدولة، فأنفذ سُلطان الدولة وزيره ابن سهلان ليُخرج أخاه مُشرّف الدولة مِن العراق، فجمع مُشرّف الدولة عسكراً كثيراً منهم أتراك واسط وأبو الأغر دبيس بن عليّ بن مزيد، ولقي ابن سهلان عند واسط فانهزم ابن سهلان وتحصن بواسط، وحاصره مُشرّف الدولة وضيّق عليه، فغلت الأسعار حتّى بلغَ الكرّ مِن الطعام ألف دينار قاسانية، وأكلَ الناس الدواب حتّى الكلاب، فلمّا رأى ابن سهلان إدبار أموره سلّم البلد واستخلف مُشرّف

٣١١

الدولة وخرج إليه، وخوطب حينئذ مُشرّف الدولة بشاهنشاه، وكان ذلك في آخر ذي الحجّة، ومضت الدَيلم الّذين كانوا باسط في خدمته، وساروا معه فحلف لهم وأقطعهم، واتّفق هو وأخوه جلال الدولة أبو طاهر، فلمّا سمع سُلطان الدولة ذلك سار عن الأهواز إلى أرجان، وقُطعتْ خُطبته مِن العراق وخطب لأخيه ببغداد آخر المُحرّم سَنة اثنتي عشرة وأربعمئة، وقُبضَ على ابن سهلان وكحل، ولمّا سَمع سُلطان الدولة بذلك ضعفت نفسه، وسار إلى الأهواز في أربعمئة فارس، فقلّت عليهم الميرة فنهبوا السواد في طريقهم، فاجتمع الأتراك الّذين بالأهواز وقاتلوا أصحاب سُلطان الدولة ونادوا بشعار مُشرّف الدولة، وساروا منها فقطعوا الطريق على قافلة وأخذوها وانصرفوا.

قتلُ أبي غالب وزير مُشرّف الدولة:

لمّا قُطعت في هذه السَنة الخُطبة لسُلطان الدولة وخُطب لمُشرّف الدولة في العراق طلبَ الدَيلم منه أنْ ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان، فأذن لهم وأمر وزيره أبا غالب بالانحدار معهم، فقال:

إنّي إنْ فعلتُ خاطرتُ بنفسي، ولكن أبذلها في خدمتك، ثُمّ انحدر في العساكر، فلمّا وصل إلى الأهواز نادى الدَيلم بشعار سُلطان الدولة، وهجموا على أبي غالب فقتلوه.

الصُلح بين سُلطان الدولة ومُشرّف الدولة:

في سَنة ٤١٣ اصطلح سُلطان الدولة وأخوه مُشرّف الدولة، وحَلف كلّ واحد منهما لصاحبه، وكان الصُلح بسعي مِن أبي محمّد بن مكرم ومُؤيّد الدولة الرخجي وزير مُشرّف الدولة، على أنْ يكون العراق جميعه لمُشرّف الدولة، وفارس وكرمان لسُلطان الدولة.

وزارة أبي القاسم المغربي لمُشرّف الدولة:

في سَنة ٤١٤ قَبض مُشرّف الدولة على وزيره مُؤيّد الدولة المَلك الرخجي في شهر رمضان، وكانت وزارته سنتين وثلاثة أيّام، وكان سَبب عزله أنّ الأثير الخادم تغيّر عليه؛ لأنّه صادر ابن شعيا اليهودي على مئة ألف دينار، وكان متعلّقاً بالأثير فسعى وعزله، واستوزر بعده أبا القاسم الحسين بن عليّ بن الحسين المغربي، ومولده بمصر سَنة سبعين وثلاثمئة

٣١٢

وكان أبوه مِن أصحاب سَيف الدولة بن حمدان، فسار إلى مصر فتولّى بها فقَتَله الحاكم، فهرب وَلده أبو القاسم إلى الشام، وقصد حسّان بن المفرج بن الجرّاح الطائي، وحمله على مُخالفة الحاكم والخروج عن طاعته ففعل ذلك، وحسّن له أنْ يُبايع أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلوي أمير مكّة فأجابه إليه، واستقدمه إلى الرملة وخوطب بأمير المؤمنين، فأنفذ الحاكم إلى حسّان مالاً جليلاً وأفسد معه حال أبي الفتوح، فأعاده حسّان إلى وادي القُرى، وسار أبو الفتوح منه إلى مكّة، ثُمّ قصد أبو القاسم العراق واتّصل بفَخر المُلك، فاتّهمه القادر بالله؛ لأنّه مِن مصر، فأبعده فَخر المُلك فقصد قرواشاً بالموصل، فكَتب له ثُمّ عاد عنه، وتنقلت به الحال إلى أنْ وُزر بعد مؤيّد المُلك الرخجي.

قدوم مُشرّف الدولة إلى بغداد ولقاء القادر بالله:

في هذه السُنّة في المُحرّم قَدم مُشرّف الدولة إلى بغداد، ولقيه القادر بالله في الطيار وعليه السواد، ولم يلقَ قبله أحداً به مِن مُلوك بني بويه.

الوحشةُ بينَ مُشرّف الدولةِ والأتراك وعَزل المَغربي:

في سنة ٤١٥ تأكّدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم ومعه الوزير ابن المَغربي وبين الأتراك، فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربي المَلك مُشرّف الدولة، فحبس في الانتزاح إلى بلد يأمنان فيه على أنفسهما، فقال: أنا أسير معكما، فساروا جميعاً ومَعهم جماعة مِن مُقدّمي الدَيلم إلى السنديّة وبها قرواش، فأنزلهم ثُمّ ساروا كلّهم إلى أوانا، فلمّا عَلم الأتراك عُظم ذلك عليهم وانزعجوا منه، وأرسلوا المُرتضى وأبا الحسن الزينبي وجماعة مِن قوّاد الأتراك يعتذرون ويقولون: نحن العبيد، فكَتب إليهم أبو القاسم المَغربي:

إنّني تأملّت ما لكم مِن الجامكيات فإذا هي ستمئة دينار، وعلمتُ دَخل بغداد فإذا هو أربعمئة ألف دينار، فإنْ أسقطتم مئة ألف دينار تحمّلت بالباقي.

فقالوا: نحن نُسقطها، فاستشعر منهم أبو القاسم المغربي فهرب إلى قرواش، فكانت وزارته عَشرة أشهُر وخمسة أيّام، فلمّا أُبعد خرج الأتراك، فسألوا المَلك والأثير الانحدار معهم، فأجابهم إلى ذلك وانحدروا جميعهم.

٣١٣

وفاةُ سُلطان الدولة ومِلك وَلده أبي كاليجار:

في هذه السَنة في شوّال توفّي سُلطان الدولة أبو شجاع ابن بهاء الدولة أبي نصر ابن عَضد الدولة بشيراز، وكان عُمره اثنتين وعشرين سَنة وخمسة أشهر، وكان ابنه أبو كاليجار بالأهواز، فطلبه الأوحد أبو محمّد ابن مكرم ليَملك بعد أبيه، وكان هواه معه، وكان الأتراك يُريدون عمّه أبا الفوارس بن بهاء الدولة صاحب كرمان، فكاتبوه يَطلبونه إليهم أيضاً، فتأخّر أبو كاليجار عنها فسبقه عمّه أبو الفوارس إليها فمَلكها، وكان أبو المكارم بن أبي محمّد بن مكرم قد أشار على أبيه - لمّا رأى الاختلاف - أنْ يسير إلى مكان يأمَن فيه على نفسه، فلم يقبل قوله فسار، وتَركه وقصد البصرة فندِم أبوه حيث لم يكن معه، فقال له العادل أبو منصور بن مافنه:

المصلحة أنْ تقصد سيراف وتكون مالك أمرك، وابنك أبو القاسم بعمان، فتحتاج الملوك إليك.

فرَكب سفينة ليمضي إليها، فأصابه بَرد فبطل عن الحركة، وأرسل العادل بن مافنة إلى كرمان لإحضار أبي الفوارس، فسار إليه العادل وأبلغه رسالة ابن مكرم باستدعائه، فسار مُجدّاً ومعه العادل فوصلوا إلى فارس، وخرج ابن مكرم يلقى أبا الفوارس ومعه الناس، فطالبه الأجناد بحقّ البيعة فأحالهم على ابن مكرم، فتضجّر ابن مكرم، فقال له العادل:

الرأي أنْ تبذل مالك وأموالنا حتّى تمشي الأُمور، فانتهره فسكت، وتلوّم ابن مكرم بإيصال المال إلى الأجناد، فشكوه إلى أبي الفوارس، فقبض عليه وعلى العادل بن مافنة، ثُمّ قَتل ابن مكرم واستبقى ابن مافنة، فلمّا سَمع ابنه أبو القاسم بقتله صار مع المَلك أبي كاليجار وأطاعه، وتجّهز أبو كاليجار وقام بأمره أبو مُزاحم صندل الخادم - وكان مُربيه - وساروا بالعساكر إلى فارس، فسيّر عمّه أبو الفوارس عسكراً مع وزيره أبي منصور الحسن بن عليّ الفسوي لقتاله، فوصل أبو كاليجار والوزير متهاونٌ به لكثرة عسكره، فأتوه وهو نائم وقد تفرّق عسكره في البَلد يبتاعون ما يحتاجون إليه، وكان جاهلاً بالحرب، فلمّا شاهدوا أعلام أبي كاليجار - وهم على اضطراب - انهزموا، وغَنم أبو كاليجار وعسكره أموالهم ودوابهم وكلّ ما لهم، فلمّا انتهى خَبر الهزيمة إلى عمّه أبي الفوارس سار إلى كرمان، ومَلك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز.

٣١٤

عودُ أبي الفَوارس إلى فارس:

ولمّا مَلك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز، جرى على الدَيلم الشيرازيّة مِن عسكره ما أخرجهم عن طاعته، وتمنّوا معه أنّهم كانوا قُتلوا مع عمّه، وكان جماعة مِن الدَيلم بمدينة فسا في طاعة أبي الفوارس، وهُم يريدون أنْ يُصلحوا حالهم مع أبي كاليجار ويَصيروا معه، فأرسل إليهم الدَيلم الّذين بشيراز يُعرّفونهم ما يَلقونه مِن الأذى، ويأمرونهم بالتمسّك بطاعة أبي الفوارس ففعلوا ذلك.

ثُمّ إنّ عسكر أبي كاليجار طالبوه بالمال وشغبوا عليه، فأظهر الديلم الشيرازيّة ما في نفوسهم مِن الحقد، فعجز عن المقام معهم فسار عن شيراز إلى النوبندجان - ولقيَ شدّة في طريقه - ثُمّ انتقل عنها لشدّة حرّها وخاصّة هوائها، ومرِض أصحابه، فأتى شُعب بوان فأقام به، فلمّا سار عن شيراز أرسل الديلم الشيرازيّة إلى عمّه أبي الفوارس يحثّونه على المجيء إليهم ويُعرّفونه بُعد أبي كاليجار عنهم، فسار إليهم فسلّموا إليه شيراز، وقصد إلى أبي كاليجار بشُعب بوان ليحاربه ويُخرجه عن البلاد، فاختار العسكران الصُلح فسفروا فيه، فاستقرّ لأبي الفوارس كرمان وفارس، ولأبي كاليجار خوزستان، وعاد أبو الفوارس إلى شيراز، وسار أبو كاليجار إلى أرجان.

ثُمّ إنّ وزير أبي الفوارس خبط الناس وأفسد قلوبهم وصادرهم، واجتاز به مالٌ لأبي كاليجار والدَيلم الّذين معه فأخذه، فحينئذ حثّ العادلُ ابن مافنة صندلاً الخادم على العود إلى شيراز، وكان قد فارق بها نعمة عظيمة وصار مع أبي كاليجار، وكان الديلم يُطيعونه، فعادتْ الحال إلى أشدّ ما كانت عليه، فسار كلّ واحد مِن أبي كاليجار وعمّه أبي الفوارس إلى صاحبه والتقوا واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس إلى دارا بجرد ومَلك أبو كاليجار فارس، وعاد أبو الفوارس فجمع الأكراد فأكثر، فاجتمع معه منهم نحو عشرة آلاف مُقاتل، فالتقوا بين البياء واصطخر فاقتتلوا أشدّ مِن القتال الأوّل، فعاود أبو الفوارس الهزيمة، فسار إلى كرمان، واستقرّ مُلك أبي كاليجار بفارس سَنة سبع عشر وأربعمئة، وكان أهل شيراز يكرهونه.

٣١٥

السابع عَشر مِن مُلوك بني بويه والتاسع مِن مُلوكهم في العراق: أبو كاليجار

في سَنة ٤١٨ توفّي في ربيع الأوّل المَلك مُشرّف الدولة أبو عليّ بن بهاء الدولة، وهو ابن ثلاث وعشرين سَنة وثلاثة أشهر، وكان مُلكه خمس سنين وخمسة وعشرين يوماً، وكان كثير الخير قليل الشرّ عادلاً حَسِن السيرة، ولمّا توفّي خُطبَ ببغداد بعد موته لأخيه أبي طاهر جلال الدولة، وهو بالبصرة وطُلب إلى بغداد فلم يصعدْ إليها، وإنّما بلغَ إلى واسط وأقام بها ثُمّ عاد إلى البصرة، فقُطعتْ خُطبته وخُطب لابن أخيه المَلك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة في شوّال، وهو حينئذ صاحب خوزستان والحرب بينه وبين عمّه أبي الفوارس صاحب كرمان بفارس، فلمّا سمع جلال الدولة بذلك أصعد إلى بغداد، فانحدر عسكرها ليردّوه عنها، فلقوه بالسيب - مِن أعمال النهروان - فردّوه فلم يَرجع فرموه بالنشّاب ونهبوا بعض خزائنه، فعاد إلى البصرة، وأرسلوا إلى المَلك أبي كاليجار ليَصعد إلى بغداد ليُملّكوه فوعدهم الإصعاد، ولم يُمكنه لأجل صاحب كرمان، ولمّا أصعد جلال الدولة كان وزيره أبا سعد بن ماكولا.

مُتفرّقات عن أبي كاليجار:

في سَنة ٤١٧ أحرق خفاجة الأنبار بعد نهبها، وأظهروا الطاعة لأبي كاليجار وخطبوا له بالكوفة.

وفيها كثُر تسلّط الأتراك ببغداد، وأكثروا مصادرات الناس وأخذوا الأموال حتّى إنّهم قسطوا على الكرخ خاصّة مئة ألف دينار، وعظُم الخَطب وزاد الشرّ وأُحرقت المنازل والدروب والأسوق، ووقعتْ الحرب بين العامّة والجُند مما أدّى إلى نَظر القوّاد وعقلاء الجُند في هذا الأمر، ولمّا رأوا أنّ أبا كاليجار لا يَصل إليهم، وأنّ البلاد قد خربت، وطَمع فيهم المُجاورون مِن العَرب والأكراد راسلوا جلال الدولة في الحُضور إلى بغداد، فحَضر، كما سَنذكر ذلك فيما بعد.

وفيها عَصت البطيحة على أبي كاليجار، ومُقدّم أهلها أبو عبد الله الحسين بن بكر الشرابي الّذي كان قديماً صاحب البطيحة، وكان سَبب هذا الخلاف أنّ المَلك أبا كاليجار سيّر وزيره أبا أحمد بن بابشاذ إلى البطيحة، فعسف الناس وأخذ أموالهم، وأمر الشرابي

٣١٦

فوضع على كلّ دارٍ بالصليق قسطاً، وكان في صحبته ففعل ذلك، فتفرّقوا في البلاد وفارقوا أوطانهم، فعَزم مَن بقيَ على أنْ يستدعوا مَن يَتقدّم عليهم في العصيان على أبي كاليجار وقتل الشرابي، فعَلِم الشرابي بذلك فحضر عندهم واعتذر إليهم، وبذل مِن نفسه مُساعدتهم على ما يُريدونه فرضوا به، وحَلفوا له وحَلف لهم وأمرهم بكتمان الحال، وعاد إلى الوزير فأشار عليه بإرسال أصحابه إلى جهاتٍ ذكرها ليحصلوا الأموال فقبل منه، ثُمّ أشار عليه بإحدار سُفنه إلى مكان ذَكره ليُصلح ما فَسَد منها ففعل، فلمّا تمّ له ذلك وثبَ هو وأهل البطيحة عليه وأخرجوه مِن عندهم، وكان عندهم جماعة مِن عَسكر جلال الدولة في الحَبس، فأخرجوهم واستعانوا بهم واتّفقوا معهم، وفتحوا السواقي وعادوا إلى ما كانوا عليه أيّام مُهذّب الدولة، وقاتلوا كلّ مَن قصدهم وامتنعوا فتمّ لهم ذلك، ثُمّ قصدوا ابن المعيراني، فاستولى على البطيحة وفارقها الشرابي إلى دبيس بن مزيد فأقام عنده مُكرماً، وكان ذلك سنة ٤١٨.

الصُلح بينَ أبي كاليجار وعمّه أبي الفوارس:

في هذه السَنة استقرّ الصُلح بين أبي كاليجار وعمّه أبي الفوارس صاحب كرمان، وكان أبو كاليجار قد سار إلى كرمان لقتال عمّه وأخذِ كرمان منه، فاحتمى منه بالجبال، وحَميَ الحرُّ على أبي كاليجار وعسكره فكثُرت الأمراض، فتراسلا في الصُلح فاصطلحا على أنْ تكون كرمان لأبي الفوارس، وبلاد فارس لأبي كاليجار ويَحمل إلى عمّه كلّ سَنة عشرين ألف دينار، ولمّا عاد أبو كاليجار إلى الأهواز جَعل أُمور دولته إلى العادل بن مافنة، فأجابه بعد امتناع.

الخُطبةُ ببغداد لجلال الدولة وهو الثامِن عَشر مِن مُلوك بَني بويه والعاشر مِن مُلوكهم في العراق

في جُمادى الأُولى مِن هذه السَنة خُطب للمَلك جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة ببغداد، وأصعد إليها مِن البصرة، فدخلها ثالث شهر رمضان، وكان سَبب ذلك أنّ الأتراك لمّا رأوا أنّ البلاد تَخرب، وأنّ العامة والعرب والأكراد قد طمعوا، وأنّهم ليس عِندهم سلطان يجمع كلمتهم

٣١٧

قصدوا دار الخلافة، وأرسلوا يعتذّرون إلى الخليفة مِن انفرادهم بالخُطبة لجلال الدولة أوّلاً، ثُمّ بردّه ثانياً وبالخطبة لأبي كاليجار، ويَشكرون الخليفة حيث لم يُخالفهم في شيء مِن ذلك، وقالوا:

إنّ أمير المؤمنين صاحب الأمر ونحن العبيد، وقد أخطأنا ونسأل العفوَ، وليس عندنا الآن مَن يجمع كلمتنا، ونسأل أنْ تُرسل إلى جلال الدولة ليصعد إلى بغداد ويَملك الأمر، ويَجمع الكَلمة ويُخطب له فيها، ويسألون يُحلفه الرسول السائر لإحضاره لهم، فأجابهم الخَليفة إلى ما سألوا، وراسله هو وقوّاد الجُند في الإصعاد واليمين للخليفة والأتراك، فحَلف لهم وأصعد إلى بغداد، وانحدر الأتراك إليه فلقوه في الطريق، وأرسل الخَليفة إليه القاضي أبا جعفر السمناني، فأعاد تجديد العَهد عليه للخليفة والأتراك ففعل.

ولمّا وصل إلى بغداد ونَزل النجمي فركب الخَليفة في الطيار وانحدر يلتقيه، فلمّا رآه جلال الدولة قبّل الأرض بين يديه، وركب في زبزبه ووقف قائماً، فأمره الخَليفة بالجلوس فقَدم وجلس، ودَخل إلى دار المَملكة بعد أنْ مضى إلى مَشهد موسى بن جعفر فزار، وقصد الدار فدخلها وأمرَ بضرب الطبل أوقات الصلوات الخمس، فراسله الخليفة في منعِه فقطعه غَضباً حتّى أذِن له في إعادته ففعل، وأرسل جلال الدولة مُؤيّد المُلك أبا علي الرخجي إلى أثير عنبر الخادم - وهو عند قرواش - يُعرّفه اعتضاده به واعتماده عليه ومحبته له، ويَعتذر إليه عن الأتراك فعَذرهم، وقال: هُم أولاد وإخوة.

شَغبُ الأتراكِ ببغداد على جلالِ الدولة:

في سَنة ٤١٩ ثارَ الأتراك ببغداد على جلال الدولة وشغبوا، وطالبوا الوزير أبا عليّ بن ماكولا بما لهم مِن العلوفة والادرار، ونهبوا داره ودور كُتّاب المَلك وحواشيه حتّى المُغنّين والمُخنّثين، ونَهبوا صياغات أخرجها جلال الدولة لتُضرب دنانير ودراهم وتُفرّق فيهم، وحصروا جلال الدولة في داره ومنعوه الطعام والماء، حتّى شَرب أهله ماء البئر، وأكلوا ثَمرة البستان، فسألهم أنْ يُمكّنوه مِن الانحدار، فاستأجروا له ولأهله وأثقاله سُفناً فجعل بين الدار والسُفن سرادقاً لتجتاز حَرمه فيه؛ لئلاّ يراهم العامّة والأجناد، فقصد بعض الأتراك السرادق، فظنّ جلال الدولة أنّهم يُريدون الحُرم، فصاح بهم يقول لهم:

بلغَ أمرُكم إلى الحُرم، وتقدّم إليهم وبيده طبر، فصاح صغار

٣١٨

الغُلمان والعامّة: جلال الدولة يا منصور، ونَزل أحدهم عن فَرسه وأركبه إيّاه، وقبّلوا الأرض بين يديه، فلمّا رأى قوّاد الأتراك ذلك هربوا إلى خيامهم بالرملة وخافوا على نفوسهم، وكان في الخوانة سلاح كثير، فأعطاه جلال الدولة أصاغر الغُلمان وجعلهم عِنده، ثُمّ أرسل إلى الخَليفة يُصلح الأمر مع أُولئك القوّاد، فأرسل إليهم الخليفة القادر بالله فأصلح بينهم وبين جلال الدولة وحلفوا، فقبّلوا الأرض بين يديه ورجعوا إلى منازلهم، فلم يمضِ غير أيّام حتّى عادوا إلى الشَغب، فباع جلال الدولة فَرشه وثيابه وخيمه وفرّق ثمنها فيهم حتّى سكنوا.

الاختلاف بينَ الدَيلم والأتراك بالبصرة:

في هذه السنة وليَ النفيس أبو الفتح بن أردشير البصرة، استعمله عليها جلال الدولة، فلمّا وصلَ إلى المسّان مُنحدراً إليها وقع بينه وبين الدَيلم الّذين بالمسّان وقعة استظهر عليهم وقَتل منهم، وكانت الفِتن بالبصرة بين الأتراك والديلم، وبها المَلك العزيز أبو منصور بن جلال الدولة فقويَ الأتراك بها، فأخرجوا الديلم فمضوا إلى الأُبُلّة وصاروا مع بختيار بن علي، فسار إليهم المَلك العزيز بالأُبُلّة ليُعيدهم ويَصلح بينهم وبين الأتراك، فكاشفوه وحملوا عليه ونادوا شعار أبي كاليجار، فعاد مُنهزماً في الماء إلى البصرة، ونَهب بختيار نهر الدير والأُبُلّة وغيرهما مِن السواد وأعانه الدَيلم، ونهبَ الأتراك أيضاً وارتكبوا المحظور ونهبوا دار بِنت الأوحد بن مكرم زوجة جلال الدولة.

استيلاءُ أبي كاليجار على البصرة:

لمّا بلغَ المَلك أبا كاليجار ما كان بالبصرة سَيّر جيشاً إلى بختيار، وأمره أنْ يقصد البصرة فيأخذها، فساروا إليها وبها المَلك العزيز بن جلال الدولة، فقاتلهم ليمنعهم فلم يكن له بهم قوّة فانهزم منهم، وفارق البصرة وكاد يَهلك هو مَن معه عَطشاً، فمَنّ الله عليهم بمطرِ جودٍ فشربوا منه وأصعدوا إلى واسط، ومَلك عسكر أبي كاليجار البصرة، ونهبَ الديلم أسواقها وسَلِم منها البعض بمال بذلوه لمَن يحميهم، وتتبّعوا أموال أصحاب جلال الدولة مِن الأتراك وغيرهم، فلمّا بلغَ جلال الدولة الخبر أراد الانحدار إلى واسط

٣١٩

، فلم يوافقه الجُند وطلبوا منه مالاً يُفرّق فيهم، فلم يكن عنده، فمدّ يَده في مُصادرات الناس وأخذ أموالهم، لا سيّما أرباب الأموال فصادر جماعة.

وفاةُ أبي الفوارس صاحبِ كرمان واستيلاءُ أبي كاليجار عليها:

في ذي القعدة مِن هذه السنة تُوفّي قوام الدولة أبو الفوارس بن بهاء الدولة صاحب كرمان، وكان قد تجهّز لقصد بلاد فارس وجمعَ عسكراً كثيراً، فأدركه أجلُه، فلمّا توفّي نادى أصحابه بشعار المَلك أبي كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونه إليهم، فسار مُجدّاً ومَلك البلاد بغير حَرب ولا قتال، وأمِن الناس معه، وكانوا يكرهون عمّه أبا الفوارس؛ لظُلمه، وسوء سيرته، وكان إذا شَرِب ضَربَ أصحابه، وضرب وزيره يوماً مائتي مقرعة، وحلفه بالطلاق أنّه لا يتأوه ولا يُخبر بذلك أحداً، فقيل إنّه سَمّوه حتّى مات.

استيلاءُ منصور بن الحسين على الجزيرة الدبيسيّة:

كان منصور بن الحسين الأسدي قد مَلك الجزيرة الدبيسية - وهي تُجاور خوزستان - ونادى بشعار جلال الدولة، وأخرج صاحبها طراد بن دبيس الأسدي سَنة ثماني عشرة وأربعمئة، فمات طراد عن قريب، فلمّا مات طراد سار ابنه أبو الحسن علي إلى بغداد، يسأل أنْ يُرسِل جلال الدولة معه عسكراً إلى بلده ليُخرج منصوراً له ويُسلّمه إليه - وكان منصور قد قَطع خُطبة جلال الدولة، وخطب للمَلك أبي كاليجار - فسيّر معه جلالُ الدولة طائفةً مِن الأتراك، فلمّا وصلوا إلى واسط لم يقف عليّ بن طراد حتّى تجمّع معه طائفة مِن عسكر واسط وسار عَجِلاً، واتّفق أنّ أبا صالح كوركير كان قد هَرب مِن جلال الدولة، وهو يُريد اللحِاق بأبي كاليجار، فسَمع هذا الخبر، فقال لمَن معه:

المصلحة أنّنا نُعين منصوراً، ولا نُمكّن عسكر جلال الدولة مِن إخراجه، ونتّخذ بهذا الفعل عَهداً عند أبي كاليجار.

فأجابوه إلى ذلك، فسار إلى مَنصور واجتمع معه، والتقاهم وعسكر جلال الدولة الّذين مع عليّ بن طراد ببسيرود، فاقتتلوا فانهزم عسكر جلال الدولة، وقُتل عليّ بن طراد وجماعة كثيرة مِن الأتراك، وهَلك كثير مِن المُنهزمين بالعَطش، واستقرّ مُلك منصور بها.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

والبعض الآخر قال : إنّها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزّة والذلّة فقط.

والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال : إنّ لله جيوشا ثلاثة : جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الامّهات ، وجيش يخرج إلى عالم الدنيا من أرحام الامّهات ، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.

وكما قلنا فإنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ خلق جديد وخلقة جديدة ، ويشمل كلّ تغيير وتحوّل في هذا العالم.

ونقرأ في رواية لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في أحد خطبه : «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن ، من إحداث بديع لم يكن»(١) .

ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسيره الآية الكريمة : «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين»(٢) .

ولا بدّ من الانتباه لهذه النقطة أيضا : إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة ، وكذلك الساعات واللحظات ، ومفهومه أنّ الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل.

كما أنّ البعض ذكروا شأنا نزوليا للآية ، وهو أنّها نزلت ردّا على قول اليهود الذين يعتقدون أنّ اللهعزوجل يعطّل كلّ الأعمال في يوم السبت ، ولا يصدر أي حكم(٣) . فالقرآن الكريم يقول : إنّ خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.

ومرّة اخرى ـ بعد هذه النعم المستمرّة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

__________________

(١) أصول الكافي مطابق نقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٣.

(٢) مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، ونقل هذا الحديث أيضا في روح المعاني من صحيح البخاري.

(٣) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٢.

٤٠١

بحوث

١ ـ ما هي حقيقة الفناء؟

ما مرّ بنا في الآيات السابقة وهو أنّ «الكلّ يفنى إلّا الله» ليس بمعنى الفناء المطلق ، وأنّ روح الإنسان تفنى أيضا أو أنّ التراب الناشئ من بدنه بعد الموت سينعدم أيضا ، إذ أنّ الآيات القرآنية صرّحت بوجود عالم البرزخ إلى يوم القيامة(١) .

ومن جهة اخرى فإنّ الله سبحانه يذكر لمرّات عدّة أنّ الموتى يخرجون من قبورهم يوم القيامة(٢) .

ويذكر سبحانه في آية اخرى أنّ رميم العظام يلبس الحياة مرّة اخرى بأمر الله(٣) .

وهذه الآيات كلّها شاهد على أنّ الفناء في الآية والآيات الاخرى بمعنى اضطراب نظام الجسم والروح وقطع الارتباط بينهما واضطراب عالم الخلقة كذلك ، وحلول عالم جديد محلّ العالم السابق.

٢ ـ استمرار الخلق والإبداع

قلنا : إنّ الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) تدلّ على دوام الخلقة واستمرار الخلق ، وأنّها مبعث أمل من جهة ، ونافية للغرور من جهة اخرى ، لذا فانّ القادة الإسلاميين يعتمدون عليها كثيرا لبعث الأمل في النفوس ، كما نقرأ ذلك في تبعيد الصحابي الجليل «أبى ذرّ الغفاري» إلى (الربذة) حيث يذكر التاريخ أنّ علياعليه‌السلام جاء لتوديعه فواساه بكلمات مؤثّرة ، ثمّ أعقبه ابنه الإمام الحسنعليه‌السلام حيث خاطب أبا ذر رضى الله عنه بقوله «يا عمّاه» تكريما له وأعقبه أخوه سيّد الشهداء الإمام

__________________

(١) المؤمنون ، ١٠٠.

(٢) سورة يس ، ٥١.

(٣) سورة يس ، ٧٩.

٤٠٢

الحسينعليه‌السلام بقوله لأبي ذرّ : «يا عمّاه إنّ الله تعالى قادر على أن يغيّر ما قد ترى. الله كلّ يوم في شأن ، وقد منعك هؤلاء القوم دنياهم ومنعتهم دينك فاسأل الله الصبر والنصر(١)

ونقرأ أيضا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام وهو في طريقه إلى كربلاء لقي الشاعر «الفرزدق» عند (صفاح) فسأله الإمامعليه‌السلام عن خبر الناس خلفه ـ إشارة إلى أهل العراق ـ فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء. فقال الإمام الحسينعليه‌السلام : (صدقت لله الأمر يفعل ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن)(٢) .

وكلّ ذلك يرينا أنّ هذه الآية هي الآية باعثة للأمل في نفوس المؤمنين.

وثمّة قصّة اخرى في هذا الصدد حيث ذكروا أنّ أحد الأمراء سأل وزيره عن تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ الوزير أعلن عن عدم علمه بها وطلب مهلة ليوم غد ، ورجع إلى البيت محزونا ، وكان لديه غلام أسود ذو علم ومعرفة ، فسأله عمّا به ، فحدّث غلامه بالقصّة ، فأجابه : إذا ذهبت إلى الأمير فأخبره إذا كان يرغب في معرفة تفسير هذه الآية فأنا مستعدّ لذلك فطلبه الأمير وسأله ، فأجابه الغلام : يا أمير ، شأنه يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحيّ من الميّت ، ويخرج الميّت من الحيّ ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، ويعافي مبتلى ، ويعزّ ذليلا ، ويذلّ عزيزا ، ويفقر غنيّا ، ويغني فقيرا

فقال الأمير : «فرّجت عنّي فرّج الله عنك» ثمّ أكرمه وأنعمه(٣) .

٣ ـ الحركة الجوهرية

__________________

(١) الغدير ، ج ٨ ، ص ٣٠١.

(٢) الكامل لابن الأثير ، ج ٤ ، ص ٤٠.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٣٧.

٤٠٣

بعض المؤيديّن للحركة الجوهرية يستدلّون لإثبات مرادهم بالآيات القرآنية أو يعتبرونها إشارة لمقصودهم ، ومن ضمن ما يستشهدون به الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

التوضيح : يعتقد الفلاسفة القدماء أنّ للحركة أربع مقولات عرضية هي : (أين ، كيف ، كم ، وضع).

وبتعبير أوضح أنّ حركة الجسم تكون بتغيير مكانه وذلك بانتقاله ، وهذه هي مقولة (الأين) ، أو بنموّه أو زيادة كمّيته وهذه مقولة «الكم». أو تغيّر اللون والطعم والرائحة (كشجرة التفاح) وهذا المقصود من «الكيف» ، أو أن يدور في مكانه حول نفسه كالحركة الوضعية للأرض وهذا ما يراد به من «الوضع».

وقد كان سائدا أنّ الحركة غير ممكنة في جوهر وذات الجسم أبدا ، لأنّه في كلّ حركة يجب أن تكون ذات الجسم المتحرّك ثابتة ، إلّا أنّ عوارضه قد تتغيّر ، فالحركة لا تتصوّر في ذات الشيء وجوهره ، بل في اعراضه.

لكنّ الفلاسفة المتأخرّين رفضوا هذه النظرية واعتقدوا بالحركة الجوهرية ، وقالوا : إنّ أساس الحركة هي الذات ، الجوهر ، والتي تظهر آثارها في العوارض.

وأوّل شخص طرح هذه النظرية بشكل تفصيلي استدلالي هو المولى صدر الدين الشيرازي حيث قال : إنّ كلّ ذرّات الكائنات وعالم المادّة في حركة دائبة ، أو بتعبير آخر : إنّ مادّة الأجسام وجود سيّال متغيّر الذات دائما ، وفي كلّ لحظة له وجود جديد يختلف عن الوجود السابق له ، ولكون هذه التغيّرات متّصلة مع بعضها فإنّها تحسب شيئا واحدا ، وبناء على هذا فإنّ لنا في كلّ لحظة وجودا جديدا ، إلّا أنّ هذه الوجودات متصلة ومستمرة ولها صورة واحدة ، أو بتعبير آخر : إنّ المادة لها أربعة أبعاد (طول وعرض وعمق وأمّا البعد الآخر فهو ما نسمّيه (الزمان) وهذا الزمان ليس بشيء إلّا مقدار الحركة في الجوهر) لاحظوا جيّدا.

وممّا يجدر ذكره أنّ الحركة الجوهرية لا ترتبط بمسألة الحركة في داخل

٤٠٤

الذرّة لأنّها حركة وضعية وعرضية ، أمّا الحركة في الجوهر فلها مفهوم عميق جدّا تشمل الذات والجوهر.

والعجيب هنا أنّ المتحرّك هو نفس الحركة.

ولإثبات هذا المقصود فإنّهم يستدلّون بدلائل عديدة لا مجال لذكرها هنا ، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إلى نتيجة هذا الرأي الفلسفي وهو أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ إدراكنا لمسألة معرفة الله أوضح من أي زمان ، لأنّ الخلق والخلقة لم تكن في بداية الخلق فحسب ، بل إنّها في كلّ ساعة وكلّ لحظة ، وإنّ الله سبحانه مستمر في خلقه ، ونحن مرتبطون به دائما ومستفيضون من فيض ذاته وهذا معنى( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

ومن الطبيعي أن لا مانع من أن يكون هذا المفهوم جزءا من المفهوم الواسع للآية الكريمة.

* * *

٤٠٥

الآيات

( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) )

التّفسير

التحدّي المشروط :

النعم الإلهيّة التي استعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم ، إلّا أنّ الآيات مورد البحث تتحدّث عن أوضاع يوم القيامة ، وخصوصيات المعاد ، وفي الوقت الذي تحمل تهديدا للمجرمين ، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين ، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه ، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة. لذلك بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كلّ نعمة من النعم السابقة.

٤٠٦

يقول سبحانه في البداية :( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ) (١) (٢) .

نعم ، إنّ الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجنّ حسابا دقيقا على جميع أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم ، ويعيّن لكلّ منهم الجزاء والعقاب.

ومع علمنا بأنّ الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل ، وعلمه محيط بالجميع في آن واحد ، ولا يشغله شيء عن شيء (ولا يشغله شأن عن شأن) ولكنّنا نواجه التعبير في (سنفرغ) والتي تستعمل غالبا بالتوجّه الجادّ لعمل ما ، والانصراف الكلّي له ، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها.

إلّا أنّه استعمل هنا لله سبحانه ، تأكيدا على مسألة حساب الله تعالى لعباده بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ولا يغفل عن مثقال ذرّة من أعمال الإنسان خيرا أو شرّا ، والأظرف من ذلك أنّ الله الكبير المتعال هو الذي يحاسب بنفسه عبده الصغير ، وعلينا أن نتصوّركم هي مرعبة ومخيفة تلك المحاسبة.

(الثقلان) من مادّة (ثقل) على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضا ، إلّا أنّ (ثقل) على وزن (خبر) تقال عادة لمتاع وحمل المسافرين ، وتطلق على جماعة الإنس والجنّ وذلك لثقلهم المعنوي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلا وشعورا وعلما ووعيا له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضا كما قال تعالى :( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) ،(٣) حيث ورد أنّ أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة ، إلّا أنّ التعبير في الآية مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي ، خاصّة وأنّ الجنّ ليس لهم ثقل مادّي.

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ رسم الخطّ القديم في القرآن المجيد كتبت (أيّها) في موارد بصورة (أيّه) والتي هي في الآية مورد البحث وآيتين أخريين (النور آية ٣١ ، والزخرف آية ٤٩) في الوقت الذي تكتب (أيّها) في الحالات الاخرى بالألف الممدودة ، والملاحظ أنّها كانت على أساس قاعدة رسم الخطّ القديم.

(٢) مع كون «الثقلين» تنبيه فالضمير في لكم أتى جمعا وذلك إشارة إلى مجموعتين.

(٣) الزلزلة ، ٢.

٤٠٧

التأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأنّ التكاليف الإلهيّة مختّصة بهما في الغالب.

وبعد هذا يكرّر الله سبحانه سؤاله مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وتعقيبا على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق ، يخاطب الجنّ والإنس مرّة اخرى بقوله :( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) للفرار من العقاب الإلهي( فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) أي بقوّة إلهية ، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.

وبهذه الصورة فإنّكم لن تستطيعوا أن تفرّوا من محكمة العدل الإلهي ، فحيثما تذهبون فهو ملكه وتحت قبضته ومحلّ حكومته تعالى ، ولا مناصّ لهذا المخلوق الصغير من الفرار من ميدان القدرة الإلهيّة؟ كما قال الإمام عليعليه‌السلام في دعاء كميل بن زياد المربي للروح : (ولا يمكن الفرار من حكومتك).

«معشر» في الأصل من (عشر) مأخوذ من عدد «عشرة» ، ولأنّ العدد عشرة عدد كامل ، فإنّ مصطلح (معشر) يقال : للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة.

«أقطار» جمع (قطر) بمعنى أطراف الشيء.

«تنفذوا» من مادّة (نفوذ) ، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شيء ، والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها.

وبالمناسبة فإنّ تقديم «الجنّ» هنا جاء لاستعدادهم الأنسب للعبور من السماوات ، وقد ورد اختلاف بين المفسّرين على أنّ الآية أعلاه هل تتحدّث عن القيامة ، أو أنّ حديثها عن عالم الدنيا ، أو كليهما؟

ولأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث عن وقائع العالم الآخر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن أنّ الآية تتحدّث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به

٤٠٨

العاصون في ذلك اليوم.

إلّا أنّ البعض بلحاظ جملة :( لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) اعتبرها إشارة إلى الرحلات الفضائية للإنسانية ، وقد ذكر القرآن شروطها من القدرة العلمية والصناعية.

ويحتمل أيضا أن يكون المقصود منها هو عالم الدنيا وعالم القيامة ، يعني أنّكم لن تتمكّنوا من النفوذ بدون قدرة الله في أقطار السماوات ليس في هذه الدنيا فحسب ، بل في عالم الآخرة أيضا ، حيث وضعت في الدنيا وسيلة محدودة لاختباركم ، أمّا في الآخرة فلا توجد أيّة وسيلة لكم.

وفسّرها البعض تفسيرا رابعا حيث قالوا : إنّ المقصود بالنفوذ هو النفوذ الفكري والعلمي في أقطار السماوات ، الذي يمكن للبشر إنجازه بواسطة القدرة الاستدلالية.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مناسب أكثر ، خاصّة وأنّ بعض الأخبار التي نقلت من المصادر الإسلامية تؤيّده ، ومن جملتها حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث يقول :

«إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد ، وذلك أن يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك ، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس والملائكة ، ثمّ يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين ، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجنّ والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثمّ ينادي مناد ،( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة»(١) .

__________________

(١) تفسير الصافي ص ٥١٧ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٥.

٤٠٩

كما أنّ الجمع بين التفاسير ممكن أيضا.

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين «الجنّ والإنس» بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والتهديد هنا لطف إلهي أيضا ، فالبرغم من أنّه يحمل تهديدا ظاهريا ، إلّا أنّه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية ، حيث أنّ وجود المحاسبة في كلّ نظام هو نعمة كبيرة.

وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة ، والذي يتعلّق بعدم قدرة الجنّ والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهيّة حيث يقول سبحانه :( يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ ) .

«شواظ» كما ذكر الراغب في المفردات ، وابن منظور في لسان العرب ، وكثير من المفسّرين أنّه بمعنى (الشعلة العديمة الدخان) وفسّرها آخرون بأنّها (ألسنة النار) التي تقتطع من النار نفسها حسب الظاهر ، وتكون خضراء اللون. وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى شدّة حرارة النار.

و «نحاس» بمعنى الدخان أو (الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان) والتي تكون بلون النحاس ، وفسّرها البعض بأنّها (النحاس المذاب) وهي لا تتناسب في الظاهر مع ما ورد في الآية مورد البحث ، لأنّها تتحدّث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.

وكم هي عجيبة (محكمة القيامة) حين يحاط الإنسان إحاطة تامّة بالملائكة والنار الحارقة والدخان القاتل ، ولا مناص إلّا التسليم لحكم الواحد الأحد في ذلك اليوم الرهيب.

ثمّ يضيف سبحانه قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.

* * *

٤١٠

الآيات

( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) )

التّفسير

يعرف المجرمون بسيماهم :

تكملة للآيات السابقة يتحدّث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة ، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود ، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب ، يقول سبحانه في بداية الحديث :( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ

٤١١

فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ) (١) .

ويستفاد من مجموع آيات «القيامة» بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغيّر ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّا في كلّ الوجود ، فتتغيّر الكواكب والسيّارات والأرض والسماء ، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها ، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه ، وهي انشقاق وتناثر الكرات السماوية ، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.

(وردة) و (ورد) هو الورد المتعارف ، ولأنّ لون الورد في الغالب يكون أحمر ، فإنّ معنى الاحمرار يتداعى للذهن منها.

ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى «الخيل الحمر» ، وبما أنّ لونها يتغيّر في فصول السنة حين يكون في الربيع مائلا إلى الصفرة ، وفي الشتاء يحمّر ، ويقتم لونها في البرد الشديد ، فتشبيه السماء يوم القيامة بها هو بلحاظ التغيّرات التي تحصل في ألوانها فتارة يكون لونها كالشعلة الوهاجة أحمر حارقا ، وأحيانا أصفر ، واخرى أسود قاتم ومعتم.

«دهان» على وزن (كتاب) ، بمعنى الدهن المذاب ، وتطلق أحيانا على الرسوبات المتخلّفة للمادّة الدهنية ، وغالبا ما تكون لها ألوان متعدّدة ، ومن هنا ورد هذا التشبيه حيث يصبح لون السماء كالدهن المذاب بلون الورد الأحمر ، أو إشارة إلى ذوبان الكرات السماوية أو اختلاف لونها.

وفسّر البعض «الدهان» بمعنى الجلد أو اللون الأحمر ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التشبيهات تجسّد لنا صورة من مشهد ذلك اليوم العظيم. حيث أنّ حقيقة الحوادث في ذلك اليوم ليس لها شبيه مع أيّة حوادث اخرى من حوادث عالمنا

__________________

(١) توجد احتمالات متعدّدة في أنّ (إذا) في الآية هل هي شرطية ، أم فجائية ، أم ظرفية ، والظاهر أنّ الاحتمال الأوّل هو الأولى ، وجزاء الشرط محذوف ويمكن تقديره هكذا : (فإذا انشقّت السماء فكانت وردة كالدهان ، كانت أهوال لا يطيقها البيان).

٤١٢

هذا. فهذه المشاهد لا نستطيع إدراكها إلّا إذا رأيناها.

ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة ـ أو قبلها ـ تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء ، ولطف من ألطاف الله سبحانه ، يتكرّر هذا السؤال :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم ، حيث يقول سبحانه :( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) .

ولماذا هذا السؤال وكلّ شيء واضح في ذلك اليوم ، فهو يوم البروز ، وكلّ شيء يقرأ في وجه الإنسان.

قد يتوهّم أنّ المعنى الوارد في هذه الآية يتنافى مع الآيات الاخرى التي تصرّح وتؤكّد مسألة سؤال الله تعالى لعباده في يوم القيامة ، كما ورد في الآية :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) ،(١) وكما في قوله تعالى :( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .(٢)

ويحلّ هذا الإشكال إذا علمنا أنّ يوم القيامة يوم طويل جدّا ، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعدّدة فيه ، حيث لا بدّ من التوقّف في كلّ محطّة مدّة زمنية ، وطبقا لبعض الرّوايات فإنّ عدد هذه المواقف خمسون موقفا ، وفي بعضها لا يسأل الإنسان إطلاقا ، إذ أنّ سيماء وجهه تحكي عمّا في داخله ، كما ستبيّنه الآيات اللاحقة.

كما أنّ بعض المواقف الاخرى لا يسمح له بالكلام ، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه قال تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا

__________________

(١) الصافات ، ٢٤.

(٢) الحجر ، ٩٢ ـ ٩٣.

٤١٣

يَكْسِبُونَ ) .(١)

كما أنّ في بعض المحطّات يسأل الإنسان وبدقّة متناهية عن كافّة أعماله(٢) .

وفي بعض المواقف يسلك الإنسان سبيل الجدل والدفاع والمخاصمة(٣) .

وخلاصة القول : إنّ كلّ محطّة لها شروطها وخصوصياتها ، وكلّ واحدة منها أشدّ رعبا من الاخرى.

ومرّة اخرى يخاطب سبحانه عباده حيث يقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

نعم إنّه لا يسأل حيث( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ) (٤) فهناك وجوه تطفح بالبشر والنور وتعبّر عن الإيمان وصالح الأعمال ، واخرى مسودّة قاتمة مكفهّرة غبراء تحكي قصّة كفرهم وعصيانهم قال تعالى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) .(٥)

ثمّ يضيف سبحانه :( فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ ) .

«النواصي» : جمع ناصية وكما يقول الراغب في المفردات أنّ الأصل بمعنى الشعر بمقدّمة الرأس من مادّة (نصأ) على وزن (نصر) وتعني الاتّصال والارتباط ، «وأخذ بناصيته» بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدّمة رأسه ، كما تأتي أحيانا كناية عن الغلبة الكاملة على الشيء.

أقدام : جمع «قدم» بمعنى الأرجل.

والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم ، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلّة ويلقونهم في

__________________

(١) سورة يس ، ٦٥.

(٢) كما ورد في الآية موضع البحث والآيتين المشار لهما أعلاه.

(٣) كما ورد في الآية في سورة النحل الآية (١١١).

(٤) (سيما) في الأصل بمعنى العلامة ، وتشمل كلّ علامة في الوجه وسائر مواضع البدن ، ولأنّ علامة الرضا والغضب تبدو في الوجه أوّلا ، فإنّه يتداعى ذكر الوجه في ذكر هذه المفردات.

(٥) عبس. ٣٩ ـ ٤١.

٤١٤

جهنّم ، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن ، حيث يقذفونهم في نار جهنّم بذلّة تامّة ، فما أشدّ هذا المشهد وما أرعبه!!

ومرّة اخرى يضيف سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.

ثمّ يقول سبحانه :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

وذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المخاطبين المقصودين في هذه الآية الكريمة ، وهل هم حضّار المحشر؟ أو أنّ المخاطب هو شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، وقد ذكر له هذا المعنى في الدنيا؟ والمرجّح في رأينا هو المعنى الثاني خاصّة ، لأنّ الفعل (يكذّب) جاء بصيغة المضارع. وأستفيد من (المجرمون) ما يحمل على الغائب ، وهذا يوضّح أنّ الله تعالى قال لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذه أوصاف جهنّم التي ينكرها المجرمون باستمرار في هذه الدنيا. وقيل : إنّ المخاطب هو جميع الجنّ والإنس حيث يوجّه لهم إنذار يقول لهم فيه : هذه جهنّم التي ينكرها المجرمون ، لها مثل هذه الأوصاف التي تسمعونها ، لذلك يجب أن تنتبهوا وتحذروا أن يكون مصيركم هذا المصير.

ويضيف سبحانه في وصف جهنّم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول :( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) .

«آن» و «آني» هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق ، وفي الأصل من مادّة (إنّا) على وزن (رضا) بمعنى الوقت لأنّ الماء الحارق وصل إلى وقت ومرحلة نهائية.

وبهذه الحالة فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنّم ، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم ، حيث يعطى لهم ماء مغلي (أو يصبّ عليهم) ممّا يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب

٤١٥

جهنّم ، ويلقى فيها من يستحقّ عذابها ثمّ في النار يسجرون ، قال تعالى :( يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) .(١)

والتعبير بـ( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) في الآية مورد البحث ، يتناسب أيضا مع هذا المعنى.

ومرّة اخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ ، الذي هو لطف من الله يقول البارئعزوجل :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ )

* * *

__________________

(١) المؤمن ، ٧١ ـ ٧٢.

٤١٦

الآيات

( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) )

التّفسير

الجنّتان اللتان أعدتا للخائفين :

يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة جديدة من صفحات يوم القيامة ، ويحدّثنا فيها عن الجنّة وأهلها ، وما أعدّ لهم من النعم فيها ، والتي يصوّرها سبحانه بشكل مشوّق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدّثت عنها الآيات السابقة ، وما ينتظر المؤمنين من جنّات وعيون وقصور وحور في الآيات

٤١٧

أعلاه ، يقول سبحانه :( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) .

«الخوف» من مقام الله ، جاء بمعنى الخوف من مواقف يوم القيامة والحضور أمام الله للحساب ، أو أنّها بمعنى الخوف من المقام العلمي لله ومراقبته المستمرّة لكلّ البشر(١) .

والتّفسير الثّاني يتناسب مع ما ذكر في الآية (٣٣) من سورة الرعد :( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) .

ونقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسيره لهذه الآية أنّه قال : «ومن علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعلمه من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى»(٢) .

ويوجد هنا تفسير ثالث. هو أنّ الخوف من الله تعالى لا يكون بسبب نار جهنّم ، والطمع في نعيم الجنّة ، بل هو الخوف من مقام الله وجلاله فقط.

وهنالك تفسير رابع أيضا ، وهو أنّ المقصود من (مقام الله) هو الخوف من مقام عدالته ، لأنّ ذاته المقدّسة لا تستلزم الخوف ، إنّما هو الخوف من عدالته ، الذي مردّه هو خوف الإنسان من أعماله ، والإنسان المنزّه لا يخشى الحساب.

ومن المعروف أنّ المجرمين إذا مرّوا بالمحكمة أو السجن ينتابهم شيء من الخوف بسبب جناياتهم على عكس الأبرار حيث يتعاملون بصورة طبيعيّة مع الأماكن المختلفة.

وللخوف من الله أسباب مختلفة ، فأحيانا يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف الأفكار ، واخرى بسبب القرب من الذات الإلهيّة حيث الشعور بالخوف والقلق من الغفلة والتقصير في مجال طاعة الله ، وأحيانا اخرى لمجرّد تصوّرهم لعظمة الله

__________________

(١) في الصورة الاولى يكون المقام اسم مكان ، وفي الثانية يكون مصدرا (ميميّا).

(٢) اصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٧ حيث يستفاد من ذيل الحديث أنّ الإمامعليه‌السلام ذكر هذا في تفسير الآية( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) سورة النازعات / ٤٠ بالرغم من كون محتوى الآيتين واحد

٤١٨

اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته العظيمة وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة لله سبحانه ، ويكون خاصا بالعارفين والمخلصين لحضرته.

ولا تضادّ بين هذه التفاسير فيمكن جمعها في مفهوم الآية.

وأمّا (جنّتان) فيمكن أن تكون الاولى ماديّة جسمية ، والثانية معنوية روحية ، كما في قوله تعالى :( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) .(١)

ففي هذه الآية مضافا إلى الجنّة الماديّة حيث الأنهار تجري من تحت الأشجار والمطهّرات من الزوجات ، هناك جنّة معنوية أيضا حيث الحديث عن رضوان الله تعالى.

أو أنّ الجنّة الاولى جزاء أعمالهم ، والجنّة الثانية تفضل على العباد وزيادة في الخير لهم ، يقول سبحانه :( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .(٢)

أو أنّ هناك جنّة للطاعة واخرى لترك المعصية.

أو أنّ أحدهما للإيمان ، والثانية للأعمال الصالحة.

أو لأنّ المخاطبين من الجنّ والإنس ، لذا فإنّ كلّ واحدة من هاتين الجنّتين تتعلّق بطائفة منهما.

ومن الطبيعي أن لا دليل على كلّ واحد من هذه التفاسير ، ويمكن جمعها في مفهوم هذه الآية ، إلّا أنّ من الطبيعي أنّ الله تعالى هيّأ لعباده الصالحين نعما عديدة لهم في الجنّة حيث مستقرّهم ، ولأهل النار (مياه حارقة وسعير لا يطاق).

ومرّة اخرى : وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

__________________

(١) آل عمران ، ١٥.

(٢) النور ، ٣٨.

٤١٩

ثمّ يضيف سبحانه في وصفه لهاتين الجنّتين بقوله :( ذَواتا أَفْنانٍ ) .

«ذواتا» تثنية (ذات) بمعنى صاحب ومالك(١) .

«أفنان» جمع (فنن) على وزن (قلم) والكلمة في الأصل بمعنى الغصون الطريّة المملوءة من الأوراق ، كما تأتي أحيانا بمعنى «النوع». ويمكن أن يستعمل المعنيان في الآية مورد البحث ، حيث في الصورة الاولى إشارة إلى الأغصان الطرية لأشجار الجنّة ، على عكس أشجار الدنيا حيث غصونها هرمة ويابسة.

كما يشير في الصورة الثانية إلى تنوّع نعم الجنّة وأنواع الهبات فيها ، لذا فلا مانع من استعمال المعنيين.

كما يحتمل أن يراد معنى آخر وهو أنّ لكلّ شجرة عدّة غصون مختلفة وفي كلّ غصن نوع من الفاكهة.

وبعد ذكر هذه النعم يكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى فيقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ولأنّ البساتين النضرة والأشجار الزاهية ينبغي أن تكون لها عيون ، أضاف سبحانه في وصفه لهذه الجنّة بقوله :( فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ) .

ثمّ يطرح مقابل هذه النعمة الإضافية قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه لم توضّح لنا شيئا عن طبيعة هاتين العينين الجاريتين وعبّرت عنها بصيغة نكرة ، فإنّ هذه الموارد عادة تكون دليلا على العظمة الإلهيّة ، وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المقصود بهاتين العينين هما «سلسبيل» وتسنيم» قال تعالى :( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ) ،(٢) وقال تعالى :

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ أصل ذات والتي هي مفرد مؤنث كانت ذوات ، والواو حذفت للتخفيف وأصبحت ذات ولكون التثنية ترجع الكلمة إلى أصلها ، لذا أصبحت (ذواتان) وقد حذفت النون عند الإضافة ، وجاء في مجمع البحرين أنّ أصل (ذو) هو (ذوا) على وزن (عصا) ولذلك فلا عجب أنّ مؤنثها يصبح (ذوات).

(٢) الإنسان ، ١٨.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442