تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني13%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113726 / تحميل: 9456
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وتجد هذه المزيّة ظاهرة كمال الظُهور في رُكن الدولة، حين كَتب له المرزبان ابن بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة بقبض عضُد الدولة وأبي الفتح بن العميد على والده وعَمّيه سَنة أربع وستّين وثلاثمئة، ويذكر له الحيلة الّتي تمّت عليه، فألقى بنفسه عن سريره إلى الأرض وتمرّغ عليها، وامتنع مِن الأكل والشُرب عدّة أيّام، ومَرِض مرضاً لم يستقلّ منه باقي حياته، ولمّا كاتب ابن بقية رُكن الدولة بحاله وحال بختيار كَتب رُكن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممَّن احتمى لبختيار يأمرهم بالثبات والصبر، ويُعرّفهم أنّه على المسير إلى العراق لإخراج عضُد الدولة وإعادة بختيار، فاضطربت النواحي على عضُد الدولة، وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه، وانقطعت عنه مواد فارس والبحر، وسترى ذلك مبسوطاً في ترجمة عضُد الدولة - إن شاء الله - وجواب رسول عضُد الدولة الّذي أرسله لوالده يدلي إليه بعُذره ويُبيّن له أسباب قبضه على بختيار، فردّ رُكن الدولة الرسول ردّاً قبيحاً ولم يقبل لابنه عُذراً، وكان الرسول أبا الفتح بن العميد الّذي اتخذ شتّى الوسائط لاسترضائه عليه، وما ذنبه إلاّ أداؤه رسالة ابنه، ولم يرضَ إلاّ بإعادة عضُد الدولة إلى فارس مملكته وتقرير العراق لبختيار، فأنت ترى أنّ رُكن الدولة عرّض مملكة ولده، بل حياته للخطر في سبيل صلته لرحمِه، ومُراعاته لابن أخيه مُعزّ الدولة الّذي كان يُحبّه محبّة شديدة؛ لأنّه رباه فكان عنده بمنزلة الولد.

وفاة رُكن الدولة ومُلك عضُد الدولة:

في المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة تُوفّي رُكن الدولة أبو علي الحسن بن بويه واستخلف على ممالكه ابنه عضُد الدولة، وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة، وكان ابنه عضُد الدولة قد عاد مِن بغداد بعد أن أطلق بختيار على الوجه الّذي قد تقرّر، وظهر عند الخاصّ والعامّ غَضَب والده عليه، فخاف أنْ يموت أبوه وهو على حال غضبه فيختلّ مُلكه، وتزول طاعته، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد وزير والده يطلب منه أنْ يتوصّل مع أبيه وإحضاره عنده، وأنْ يعهد إليه بالمُلك بعده، فسعى أبو الفتح في ذلك فأجابه إليه رُكن الدولة، وكان قد وجد في نفسه خِفّة، فسار مِن الريّ إلى أصبهان، فوصلها في جمادى الأُولى سنة خمس وستّين وثلاثمئة،

١٨١

وأحضر ولده عضُد الدولة مِن فارس، وجمع عنده أيضاً سائر أولاده بأصبهان، فعمِل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها رُكن الدولة وأولاده والقوّاد والأجناد، فلمّا فَرِغوا مِن الطعام عهِد رُكن الدولة إلى ولده عضُد الدولة بالمُلك بعده، وجعل لولده فَخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل، ولولده مؤيّد الدولة أصبهان وأعمالها، وجعلهما في هذه البلاد بحُكم أخيما عضُد الدولة، وخلع عضُد الدولة على سائر الناس ذلك اليوم الأقبية والأكسية على زيّ الديلم، وحيّاه القوّاد وإخوته بالريحان على عادتهم مع مُلوكهم، وأوصى رُكن الدولة أولاده بالاتّفاق، وترك الاختلاف وخلع عليهم، ثُمّ سار عن أصبهان في رجب نحو الريّ فدام مرضه إلى أنْ تُوفّي فأُصيب به الدين والدُنيا جميعاً لاستكمال جميع خلال الخير فيه، وكان عُمره قد زاد على سبعين سَنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سَنة.

بعض سيرته:

قال ابن الأثير:

بعد هذا الّذي نقلنا عن تاريخه الكامل - ذاكراً بعض سيرته - كان حليماً، كريماً، واسع الكرم، كثير البذل، حَسِن السياسة لرعاياه وجُنده، رؤوفاً بهم، عادلاً في الحُكم بينهم، وكان بعيد الهمّة، عظيم الجدّ والسعادة، مُتحرّجاً مِن الظُلم، مانعاً لأصحابه منه، عفيفاً عن الدِماء، يرى حقنها واجباً، إلاّ فيما لا بُدّ مِنه، وكان يُحامي على أهل البيوتات، أو كان يُجري عليهم الأرزاق، ويصونهم عن التبذل، وكان يَقصد المساجد الجامعة في أشهر الصيام للصلاة، وينتصب لردِّ المظالم، ويتعهّد العلويّين بالأموال الكثيرة، ويتصدّق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات، ويُلين جانبه للخاصّ والعام.

قال له بعض أصحابه في ذلك، وذَكر له شدّة مرداويج على أصحابه، فقال:

انظر كيف اخترم ووثب عليه أخصّ أصحابه به وأقربهم منه؛ لعُنفه وشدّته، وكيف عمرتُ وأحبّني الناس للين جانبي. وحُكي عنه أنّه سار في سفر، فنزل في خركاه قد ضُربت له قِبَل أصحابه، وقُدّم إليه طعام، فقال لبعض أصحابه:

لأيّ شيء قيل في المثل: خيرُ الأشياءِ في القريةِ الإمارة.

فقال صاحبه: لقعودك في الخركاه وهذا الطعام بين يديك، وأنا لا خركاه ولا طعام، فضحك وأعطاه الخركاه والطعام.

فانظر إلى هذا الخُلُق ما

١٨٢

أحسنه ما أجمله، وفي فعله في حادثة بختيار ما يَدلّ على كمال مروءته وحُسن عهده وصلته لرحمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكان له حُسن عهد ومودّة وإقبال.

قال ابن خلكان في وَفَياته:

وكان مسعوداً ورُزق السعادة في أولاده الثلاثة، وقَسّم عليهم الممالك، فقاموا بها أحسن قيام، وتُوفّي رُكن الدولة ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت مِن المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة بالري، ودُفن في مشهده، ومولده تقديراً في سَنة أربع وثمانين، قال أبو إسحاق الصابي: ومَلك أربعاً وأربعين سَنة وشهراً وتسعة أيّام، وتولّى بعده ولده مؤيّد الدولة رحمهما الله تعالى.

وقال ابن كثير في حوادث سنة ٣٥٦:

فيها قَسّم رُكن الدولة بن بويه ممالكه بين أولاده (الثلاثة) عندما كَبُرت سِنّه، فجعل لولده عضُد الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان، ولولده مؤيَّد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدينور، وجعل ولده أبا العبّاس في كنف عضُد الدولة وأوصاه به.

أمّا ذكره بلاد فارس فيما اختص به ولده عضُد الدولة، فإنّ بلاد فارس لم تكن مِن ممالكه، بل كانت مملكة أخيه عِماد الدولة الّذي لم يُرزق وَلداً ذَكراً يرثها منه، بل عهِد بها لعضُد الدولة كما مرّ بيان ذلك في ترجمة عِماد الدولة.

وقال في حوادث سنة (٣٦٦):

فيها توفّي رُكن الدولة بن علي بن بويه، وقد جاوز التسعين سَنة، ثُمّ ذَكر بعد ذلك قَصد عضُد الدولة العراق ليأخذها مِن ابن عمّه بختيار، والتقائه به في الأهواز، وانهزامه منه، واستظهاره عليه وإذلاله، ثُمّ القبض على وزيره ابن بقية إلى أنْ قال: وكذلك أمرُ رُكن الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح بن العميد لموجدة تقدّمت منه إليه.

وفي ذلك أغلاط نربأ بابن كثير أنْ يرتكبها:

الأول: جعله عليّاً أباً لرُكن الدولة، وعلي وهو عماد الدولة أكبر الأُخوة الثلاثة أخو رُكن الدولة.

الثاني: قوله: إنّ رُكن الدولة قد جاوز التسعين، وقد عرفتَ ممّا نقلناه عن ابن الأثير وابن خلكان، أمّا الأوّل فيقول إنّ عُمره قد زاد على السبعين، والثاني يُقدّر عُمره باثنتين وثمانين سَنة، فقول ابن كثير قولاً ثالث، إنْ كانت التسعين غير مُحرّفة عن السبعين.

الثالث: قوله: إنّ رُكن الدولة أمرَ بالقبض

١٨٣

على وزير أبيه أبي الفتح، فإنّ أبا رُكن الدولة وهو بويه لم يكن مَلكاً ليستوزر، وإنّما كان أولاده الثلاثة مُلوكاً، وأوسطهم سِنّاً رُكن الدولة، وأبو الفتح كان وزير رُكن الدولة بعد أبيه أبي الفضل بن العميد، والآمر بالقبض عليه هو عضُد الدولة، وكان ذلك بعد وفاة أبيه رُكن الدولة، وإنّنا لَنَحسَب هذه الأغلاط مِن تحريف الناسخين؛ لأنّه مِن المُستبعد أنْ تقع مِن هذا المؤرّخ الكبير.

الثالث: أبو الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه مُعزّ الدولة:

هو أصغر الأُخوة الثلاثة مُؤسّسي الدولة البويهيّة، وقد كنّاه بعضُ المُؤرّخين بأبي الحسن، وهي كُنية أخيه عماد الدولة والحسن اسم رُكن الدولة.

قال ابن خلكان:

وهو عمُّ عضُد الدولة وأحد مُلوك الديلم، كان صاحب العراق والأهواز، وكان يُقال له الأقطع؛ لأنّه كان مقطوع اليد اليُسرى وبعض أصابع اليُمنى.

مولده ووفاته:

وُلد في سَنة ثلاث وثلاثمئة، وتُوفّي يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سَنة ستّ وخمسين وثلاثمئة ببغداد، ودفن في داره، ثُمّ نُقل إلى مشهد بُني له في مقابر قُريش.

أوّل عهده في المُلك:

قال ابن خلكان في سبب تلقيبه بالأقطع:

إنّه كان في مَبدأ عُمره وحداثة سِنّه تَبَعاً لأخيه عِماد الدولة، وكان قد توجّه إلى كرمان بإشارة أخَويه عِماد الدولة ورُكن الدولة، فلمّا وصلها سمِع به صاحبها، فتركها ورَحل إلى سجستان مِن غَير حَرب فملكها، وكان بتلك الأعمال طائفة مِن الأكراد قد تغلّبوا عليها، وكانوا يحملون لصاحب كرمان في كلّ سَنة شيئاً مِن المال بشرط أنْ لا يطأوا بِساطه، فلمّا وصلَ مُعزّ الدولة سَيّر إليه رئيس القوم، وأخذ عُهوده ومواثيقه بإجرائهم على عادتهم، ففعل ذلك، ثُمّ أشار عليه كاتبه بنقض العهد، وأنْ يسري إليهم على غَفلة، ويأخذ أموالهم وذخائرهم ففعل

١٨٤

مُعزّ الدولة ذلك، وقصدهم في الليل في طريق مُتوعّرة فأحسّوا به، فقعدوا له على مَضيق، فلمّا وصل إليهم بعسكره ثاروا عليهم مِن جميع الجوانب، فقتلوا وأسروا، ولم يَفلُت منهم إلاّ اليسير، ووقع بمُعزّ الدولة ضربات كثيرة، وطاحت يدُه اليُسرى وبعض أصابع يده اليمنى، وأُثخن بالضرب في رأسه وسائر جسده، وسقط بين القتلى، ثُمّ سَلُم بعد ذلك.

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢٤:

في هذه السَنة سار أبو الحُسين أحمد بن بويه المُلقَّب بمُعزّ الدولة إلى كرمان، وسببُ ذلك أنّ عِماد الدولة بن بويه وأخاه رُكن الدولة لمّا تمكّنا مِن بلاد فارس وبلاد الجبل، وبقي أخوهما الأصغر أبو الحسين أحمد بغير ولاية يستبدّ بها، رأيا أنْ يُسيّراه إلى كرمان ففعلا ذلك، وسار إلى كرمان في عسكرٍ ضَخم شثجعان، فلمّا بَلغَ السيرجان استولى عليها وجبى أموالها وأنفقها في عسكره، وكان إبراهيم بن سيمجور والدواني يُحاصِر محمّد بن غلياس بن اليسع بقلعة هُناك بعساكر نصر بن أحمد صاحب خُراسان، فلمّا بَلغَه إقبال مُعزّ الدولة سار عن كرمان إلى خُراسان، ونَفّس عن محمّد بن إلياس، فتَخلّص مِن القلعة، وسار إلى مدينته بَم، وهي على طرف المفازة بين كرمان وسجستان، فسار إليه أحمد بن بويه، فرَحل مِن مكانه إلى سجستان بغير قتال، فسار أحمد إلى جيرفت - وهي قصبة كرمان - واستخلف على بَم بعض أصحابه، فلمّا قارب جيرفت أتاه رسول عليّ بن الزنجي المعروف بعلي كلويه، وهو رئيس القفص والبلوص، وكان هو وأسلافه مُتغلّبين على تلك الناحية، إلاّ أنّهم يُجاملون كلّ سلطان يَرِد البلاد، ويُطيعونه ويَحملون إليه مالاً مَعلوماً ولا يطؤون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع أحمد مِن قبوله إلاّ بعد دُخول جيرفت، فتأخّر عليّ بن كلويه نحو عشرة فراسخ، ونَزل بمكان صَعِب المَسلك، ودخل أحمد بن بويه جيرفت، واصطلح هو وعلي وأخذ رهائنه وخَطَب له، فلمّا استقرّ الصُلح وانفصل الأمر أشار بعضُ أصحاب ابن بويه عليه بأنْ يَقصد عليّاً ويَغدر به، ويَسري إليه سرّاً على غَفلة، وأطمعه في أمواله وهوّن عليه أمره بسكونه إلى الصُلح، فأصغى الأمير أبو الحسين أحمد إلى ذلك لحداثة سِنّه، وجمع أصحابه وأسرى نحوهم جريدة، وكان عليّ مُحترزاً، ومَن معه قد وضعوا العيون على ابن بويه، فساعة تَحرّك بلغته الأخبار، فجمع أصحابه ورتَبَهُم بمضيق على الطريق، فلمّا اجتاز بهم ابن بويه ثاروا به ليلاً مِن

١٨٥

جوانبه، فقتلوا في أصحابه وأسروا، ولم يُفلِت منهم إلاّ اليسير، ووقعت بالأمير أبي الحسين ضربات كثيرة، ووقعت ضربة منها في يَده اليُسرى فقطعتها مِن نصف الذراع، وأصاب يده اليُمنى ضَربة أُخرى سقط منها بعض أصابعه، وسقط مثخناً بالجراح بين القتلى، وبلغ الخَبر بذلك إلى جيرفت فهرب كلّ مَن بها مِن أصحابه، ولمّا أصبح علي كلويه تتبّع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين قد أشرف على التلف، فحمله إلى جيرفت، وأحضر له الأطبّاء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رُسله يَعتذر إلى أخيه عماد الدولة بن بويه، ويُعرّفه غدر أخيه، ويَبذل مِن نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقرّ بينهما الصُلح، وأطلق عليّ كلّ مَن عنده مِن الأسرى وأحسن إليهم، ووصل الخبر إلى محمّد بن إلياس بما جرى على أحمد بن بويه، فسار مِن سجستان إلى البلد المعروف بجنابة، فتوجّه إليه ابن بويه وواقعه، ودامت الحرب بينهما عِدّة أيّام، فانهزم ابن إلياس، وعاد أحمد بن بويه ظافراً، وسار نحو علي كلويه لينتقم منه، فلمّا قاربه أسرى إليه في أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلاً في ليلة شديدة المَطر ن فأثّروا فيهم، وقتلوا ونهبوا وعادوا، وبقي ابن بويه باقي ليلته، فلمّا أصبح سار نحوهم فقَتَل منهم عدداً كثيراً، وانهزم علي كلويه، وكتب ابن بويه إلى أخيه عِماد الدولة بما جرى له مَعه ومع ابن إلياس وهزيمته، فأجابه أخوه يأمره بالوقوف بمكانه ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائداً مِن قوّاده يأمره بالعودة إلى فارس ويُلزمه بذلك. فعاد إلى أخيه، وأقام عنده باصطخر إلى أن قصدهم أبو عبد الله البريدي منهزماً مِن ابن رائق وبجكم، فأطمع عماد الدولة في العراق وسهّل عليه مُلكه.

استيلاء مُعزّ الدولة على الأهواز:

كان مِن نتيجة إطماع البريدي عِماد الدولة في العراق، وتسهيله عليه مُلكه أنْ سار مُعزّ الدولة في سَنة ستّ وعشرين إلى الأهواز وتلك البلاد، فملكها واستولى عليها ومعه البريدي، وترك البريدي ولديه أبا الحسن محمّداً وأبا جعفر الفياض عند عماد الدولة رهينة وساروا، فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان، فسار لحربهم فانهزم مِن بين أيديهم، وكان سَبَب الهزيمة أنّ المطر اتّصل أيّاماً كثيرة، فعطلت أوتار قُسي الأتراك، فلم يقدروا على رمي

١٨٦

النشّاب، فعاد بجكم وأقام بالأهواز، وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم، فقاتلوا مُعزّ الدولة بها ثلاثة عشر يوماً، ثُمّ انهزموا إلى تستر، فاستولى مُعزّ الدولة على عسكر مكرم، وسار بجكم إلى تستر مِن الأهواز، وأخذ معه جماعة مِن أعيان الأهواز، وسار هو وعسكره إلى واسط، وأرسل مِن الطرق إلى ابن رائق يُعلمه الخبر، ويقول له:

إن العسكر مُحتاج إلى المال، فإن كان معك مائتا ألف دينار فتُقيم بواسط حتّى نَصل إليك ونُنفق فيهم المال، وقد مرّ تفصيل ذلك كلّه في أخبار عِماد الدولة، فليُرجَع إليها.

مُخالفة البريدي على مُعزّ الدولة:

في أخبار عِماد الدولة في تلك الصفحات - الّتي ذَكر فيها استيلاء مُعزّ الدولة - خبر خلاف البريدي عليه بعد تمهيده لأخيه عِماد الدولة، وله أمر الاستيلاء على العراق وإبقاء ولديه رهينة عند عماد الدولة، واستقرار البريدي أخيراً في البصرة، وبقاء مُعزّ الدولة في الأهواز، ثُمّ تقلّبت على البريدي أُمور وأحوال، وهو لم يكن يَثبُت على حال، ولا يُبرم عهداً إلاّ، وهو يَضمر في دخيلة نفسه نقضه.

ذهاب مُعزّ الدولة إلى البصرة وعوده منها على غير ما يُريد:

في المُحرّم سَنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة وصل مُعزّ الدولة إلى البصرة، فحارب البريدييّن وأقام عليهم مدّة، ثُمّ استأمن جماعة مِن قوّاد إلى البريديّين، فاستوحش مِن الباقين فانصرف عنهم.

وصول مُعزّ الدولة إلى واسط وعوده عنها:

في آخر رجب سنة ٣٣٣هـ وصل مُعزّ الدولة إلى مدينة واسط، فسمع تورون به، فسار هو والمُستكفي بالله مِن بغداد إلى واسط، فلمّا سَمِع مُعزّ الدولة بمسيرهم إليه فارقها سادس رمضان.

استيلاء مُعزّ الدولة على بغداد:

لمّا مات تورون ووُلّي مكانه شيرزاد، وزاد هذا الأجناد زيادة ضاقت عليه الأموال بسببها، فكثر الظُلم والاعتداء على الناس كَاتبَ ينال كوشة - وكان يلي لشيرزاد عمل واسط - مُعزّ الدولة وهو بالأهواز يَستقدِمه، ودخل

١٨٧

في طاعته، فسار مُعزّ الدولة نحوه، فاضطرب الناس ببغداد، فلمّا وصل إلى باجسرى اختفى المُستكفي بالله وابن شيرزاد، فلمّا استَتر شيرزاد سار الأتراك إلى الموصل، فلمّا أبعدوا ظهر المُستكفي، وعاد إلى بغداد إلى دار الخلافة، وقدم أبو محمّد الحسن بن محمّد المهلبي صاحب مُعزّ الدولة إلى بغداد، فاجتمع بابن شيرزاد بالمكان الّذي استتر فيه، ثُمّ اجتمع بالمُستكفي، فأظهر المُستكفي السُرور بقدوم مُعزّ الدولة، وأعلمه أنّه إنّما استَتَر مِن الأتراك ليتَفرّقوا فيحصل الأمر لمُعزّ الدولة بلا قِتال، ووصل مُعزّ الدولة إلى بغداد حادي عشر جمادى الأولى سنة ٣٣٤، فنزل بباب الشماسيّة، ودخل مِن الغد إلى الخليفة المُستكفي وبايعه وحَلف له المُستكفي، وسأله مُعزّ الدولة أنْ يأذن لابن شيرزاد بالظُهور، وأنْ يأذن أنْ يَستكتبه، فأجابه إلى ذلك، فظَهر ابن شيرزاد، ولقي مُعزّ الدولة فولاّه الخراج وجباية الأموال، وخَلعَ الخليفة على مُعزّ الدولة، ولقّبه ذلك اليوم مُعزّ الدولة، ولقّب أخاه عليّاً عِماد الدولة، ولقّب أخاه الحسن رُكن الدولة، وأمَر أنْ تُضرب ألقابهم وكُناهم على الدنانير والدراهم، ونَزَل مُعزّ الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه في دور الناس، فلحِق الناس مِن ذلك شدّة عظيمة، وصار - نزول الجيش في دور الناس - رسماً عليهم بعد ذلك، وهو أوّل مَن فعله ببغداد، ولم يُعرف بها قبله، وأُقيم للمُستكفي بالله كلّ يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته، وكان ربما تأخرت عنه، فأُقرّت له مع ذلك ضياع سُلّمت إليه تولاّها أبو أحمد الشيرازي كاتبه.

خَلْعُ المُستكفي بالله:

وفي هذه السنة خُلِعَ المُستكفي بالله لثمان بقين مِن جمادى الآخرة؛ وكان سبَبُ ذلك أنّ علم القهرمانة صنعتْ دعوةً عظيمةً حضرها جماعةٌ مِن قوّاد الديلم والأتراك، فاتّهمها مُعزّ الدولة أنّها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمُستكفي، ويُزيلوا مُعزّ الدولة، فساء ظنّه لذلك لمّا رأى مِن إقدام عَلَم، وحضر اسفهدوت عند مُعزّ الدولة، وقال:

قد راسلني الخليفة في أنْ ألقاه مُتنكّراً، فلمّا مضى اثنتان وعشرون يوماً مِن جمادى الآخرة حضر مُعزّ الدولة والناس عند الخليفة، وحضر رسول صاحب خُراسان، ومُعزّ الدولة جالس، ثُمّ حَضَر رجلان مِن نُقباء الدَيلم يصيحان، فتناولا يد المُستكفي بالله، فظّن أنّهما يُريدان تقبيلهُا، فمدّها إليهما فجذباه عن سريره

١٨٨

وجعلا عِمامته في حَلقه، ونهض مُعزّ الدولة، واضطرب الناس، ونهبت الأموال، وساق الديلميّان المُستكفي بالله ماشياً إلى دار مُعزّ الدولة، فاعتُقل بها، ونُهبت دار الخلافة حتّى لم يبقَ بها شيء، وقُبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المُستكفي، وأُخذت عَلَم القهرمانة فقُطع لسانها.

خلافة المُطيع واستيلاء مُعزّ الدولة على أُمور الخلافة:

لمّا وُلّي المُستكفي بالله الخلافة خافه المُطيع واستَتَرَ منه، فطلبه المُستكفي أشدّ الطَلَب، فلم يظفر به، فلمّا قدِم مُعزّ الدولة بغداد قيل إنّ المطيع انتقل إليه واستتر عنده، وأغراه بالمُستكفي حتّى قبض عليه وسَمله، فلمّا قُبِض المُستكفي بويعَ للمُطيع لله بالخلافة، ولقُب المطيع لله، وأُحضر المُستكفي عنده فسلّم عليه بالخلافة، وأُشهد على نفسه بالخَلع، وازداد أمر الخلافة إدباراً، ولم يبقَ لهم مِن الأمر شيء البتّة، وكانوا يُراجَعون ويؤخذ أمرهم فيما يُفعل والحرمةُ قائمةٌ بعض الشيء، فلمّا كان أيّام مُعزّ الدولة زال ذلك جميعه، بحيث إنّ الخليفة لم يبقَ له وزير، إنّما كان له كاتب يُدير إقطاعه وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمُعزّ الدولة يستوزر لنفسه مَن يريد، وكان مِن أعظم الأسباب في ذلك أنّ الديلم كانوا يتشيّعون ويُغالون في التشيّع، ويعتقدون أنّ العباسيّين قد غصبوا الخلافة وأخذوها مِن مُستحقّيها، فلم يكنْ عِندهم باعث ديني يَحثّهم على الطاعة، حتّى لقد بلغني أنّ مُعزّ الدولة استشار جماعة مِن خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة مِن العباسيّين، والبيعة للمُعزّ لدين الله العلوي، أو لغيره مِن العلويّين، فكلّهم أشار عليه بذلك ما عدا بعض خواصّه، فإنّه قال :

ليس هذا برأي، فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنّه ليس مِن أهل الخلافة ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مُستحلّين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك مَن تعتقد أنت وأصحابك صحّة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن ذلك، وتسلم مُعزّ الدولة العراق بأسره، ولم يبقَ بيد الخليفة منه شيء البتة، إلاّ ما أقطعه مُعزّ الدولة ممّا يقوم ببعض حاجته.

هذا ما جاء في كامل ابن الأثير، أمّا ما جاء مِن تعليله عَدم إخلاص الديلم الطاعة للعباسيّين، واستشارة مُعزّ الدولة خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة منهم إلى المُعزّ لدين الله العلوي أو لغيره مِن العلويين، ففي ذلك

١٨٩

بَعْد:

(١) إنّ الديلم مِن الشيعة الإماميّة، والإماميّة كما لا يَرون صحّة الخلافة العباسيّة ووجوب طاعة الخُلفاء العباسيّين، لا يرون وجوب طاعة مَن يليها مِن العلويّين أيضاً، سواء أكانوا سُنّة أم شيعة، ومذهبهم في الإمامة والخلافة مَعروف، وهي أنّها لا تكون إلاّ بالنصّ.

(٢) إنّ مُعزّ الدولة الّذي يَركن إليه أخوه عِماد الدولة، وهو مؤسّس الدولة البويهيّة، والداهية المُحنّك في الاستيلاء على العراق، ويفوض إليه هذا الأمر، وهو جدّ عليم أنّ ذلك لا يَتطلّب الشجاعة وقوّة الجيش وكثرة العدد فحسب، بل يَتطلّب الحكمة والتدبير وبراعة السياسة، ولا سيّما في قُطر كقُطر العراق، والطامحون في الاستيلاء عليه والنُفوذ على سُلطان الخلافة مِن التُرك والأكراد والعرب والديلم كثيرون، فهل يخفى على مُعزّ الدولة أنّ مِثل هذه المُحاولة لا تتمّ له إنْ قصد إليها، وهل يَجهل أنّ صرف الخلافة عن العباسيّين ليست مِن الأُمور الهيّنة، وحتّى مِن الشيعة العَرب مَن يتعصّب لها، دع ما لها مِن العصبيّة السنيّة مِن مُختلف العناصر، على أنّه لا يجهل أنّ إفريقيا قاعدة الخُلفاء العلويّين لا تَزيد في نُفوذ سلطانه، بل هي أحوج إلى مَن يردّ عنها أيدي المُتغلّبين، دع ما بين ممالك أخَويه وبين العراق مِن قُرب المسافات، والبُعد ما بينها وبين إفريقية، ولِقُربِ المواصلات وبُعدها أثرها البيِّن في سَوق الجيوش، ونقل العَتاد إذا احتاج إلى نجدتهم.

(٣) على افتراض صحَّة الخلافة العلويّة عند الإماميّة الاثني عشريّة، ومُعزّ الدولة والديالمة منهم، فهل يَرون صحّة خلافة مَن لم يكن على طريقتهم ومَذهبهم؟ فهل والحالة هذه لا يرون خلافة العلوي الإسماعيلي أو غيره أصحّ مِن خلافة العبّاسي السُنّي؟

فأنت ترى أنّ مُحاولة مِثل هذا الأمر لا تنطبق على المذهب الإماميّ، ولا على السياسة الملكيّة الرشيدة، وهُما ممّا لا يجهلهما مُعزّ الدولة ومُستشاروه.

الحربُ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني:

في رجب سنة ٣٣٤ جرت حربٌ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني انتهت بفوز مُعزّ الدولة في المُحرّم سَنة ٣٣٥ فاستقرار الصُلح بينه وبين ناصر الدولة. وقد بسطنا ذلك في تاريخ بني حَمدان وأخبار ناصر الدولة.

١٩٠

إقطاع البلاد وتخريبها واضطراب الأُمور:

وفي هذه السَنة شَغَبَ الجُند على مُعزّ الدولة وأسمعوه المكروه، فضمن لهم إيصال أرزاقهم في مُدّة ذكرها لهم، فاضطرّ إلى خبط الناس وأخذ الأموال مِن غير وجوهها، وأقطع قوّاده وأصحاب القُرى جميعها الّتي للسلطان وأصحاب الأملاك، فبطل لذلك أكثر الدواوين، وزالت أيدي العُمّال، وكانت البلاد قد خَرِبَت مِن الاختلاف والغلاء والنَهب، فأخذ القوّاد القُرى العامرة، وزادت عِمارتها معهم، وتَوفّر دخلها بسَبَب الجاه، فلم يُمكن مُعزّ الدولة العود عليهم بذلك.

وأما الأتباع، فإنّ الّذي أخذوه ازداد خَراباً فردّوه، وطلبوا العوض عنه فعُوّضوا، وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القُرى وتسوية طُرقها، فهلكت وبطل الكثير منها، وأخذ غُلمّان المُقطعين في ظُلم وتحصيل العاجل، فكان أحدُهم إذا عجز الحاصل تمّمه بمُصادراتها.

ثُمّ إنّ مُعزّ الدولة فوّض حماية كلّ موضع إلى بعض أكابر أصحابه، فاتّخذه مُسكناً وأطمعه، فاجتمع إليهم الأُخوة وصار القوّاد يَدّعون الخسارة في الحاصل، فلا يقدر وزيره ولا غيره على تحقيق ذلك، فإنْ اعترضهم مُعترض صاروا أعداءً له، فتُركوا وما يُريدون، فازداد طَمعهم ولم يقِفوا عند غاية، فتَعذّر على مُعزّ الدولة جَمعُ ذخيرة تكون للنوائب والحوادث، وأكثَرَ مِن إعطاء غُلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع، فحسدهم الديلم، وتولّد مِن ذلك الوحشة والمُنافرة، فكان منهُما البلاء على مُعزّ الدولة.

صُلح مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السنة اصطلح مُعزّ الدولة وأبو القاسم البريدي، وضَمِن أبو القاسم مدينة واسط وأعمالها منه.

استقرار مُعزّ الدولة ببغداد وإعادة المُطيع إلى دار الخلافة وصُلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة:

في المُحرّم سَنة ٣٣٥ استقرّ مُعزّ الدولة ببغداد، وأعاد المُطيع لله إلى دار الخلافة بعد أن استوثق منه، وفيها اصطلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة

١٩١

كما سبق بيان ذلك، وكانت الرُسل تَتردّد بينهما بغير عِلمٍ مِن الأتراك التورونيّة.

اختلاف مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السَنة اختلف مُعزّ الدولة وأبو القاسم بن البريدي والي البصرة، فأرسل مُعزّ الدولة جيشاً إلى واسط، فسيَّر إليهم ابن البريدي جيشاً مِن البصرة في المّاء وعلى الظَهر، فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب البريدي، وأُسِر مِن أعيانهم جماعة كثيرة.

استيلاء مُعزّ الدولة على البصرة:

في سنة ٣٣٦ سار مُعزّ الدولة ومعه المُطيع لله إلى البصرة؛ لاستنقاذها مِن يد أبي القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي، وسلكوا البريّة إليها، فأرسل القرامطة مِن هَجَر إلى مُعزّ الدولة يُنكرون عليه مسيره إلى البريّة بغير أمرهم وهي لهم، فلم يُجبهم عن كتابهم، وقال للرسول:

قل لهم: مَن أنتم حتّى تستأمروا، وليس قصدي مِن أخذ البصرة غيركم، وستعلمون ما تقولون منّي.

ولمّا وصل مُعزّ الدولة إلى الدرهميّة استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسم في الرابع والعشرين مِن ربيع الآخر إلى هَجَر والتجأ إلى القرامطة، ومَلَك مُعزّ الدولة البصرة، فانحلّت الأسعار ببغداد انحلالاً كثيراً، وسار مُعزّ الدولة مِن البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عِماد الدولة، وأقام الخليفة وأبو جعفر الصيمري بالبصرة، وخالف كوركير - وهو مِن أكابر القوّاد - على مُعزّ الدولة، فسيّر إليه الصيمري فقاتله فانهزم كوركير، وأُخذ أسيراً فحبسه مُعزّ الدولة بقلعة رامهرمز، ولقي مُعزّ الدولة أخاه عِماد الدولة بأرجان في شعبان، وقبَّلَ الأرض بين يديه، وكان يقف قائماً عنده فيأمره بالجلوس فلا يفعل، ثُمّ عاد إلى بغداد، وعاد المُطيع أيضاً إليها، وأظهر مُعزّ الدولة أنّه يُريد أنْ يسيرَ إلى الموصل، فتردّدت الرُسل بينه وبين ناصر الدولة واستقر الصُلح، وحَمل المّال إلى مُعزّ الدولة فسكت عنه.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل

١٩٢

قاصداً ناصر الدولة، وانتهى الأمر مَعه إلى ما مرَّ في ترجمة رُكن الدولة.

حرب الصيمري وزير مُعزّ الدولة لعِمران بن شاهين وعوده بأمر مُعزّ الدولة بعد تَضييقه على عِمران:

في سنة ٣٣٨ استفحل أمرُ عِمران بن شاهين وقوي شأنه، وخافته القوافل حتّى انتهى الأمر بتسيير مُعزّ الدولة وزيره أبي جعفر الصيمري لمُحاربته، فعودته بأمره مِن محاربته، بسبب موت أخيه عماد الدولة، واضطراب جيشه بفارس، وإرسال الصيمري إلى شيراز لإصلاح الأُمور فيها، وقد ذكرنا ذلك في تاريخ بني عِمران بن شاهين، كما استوفينا جميع أخبارهم مِن مُبتدأ أمرهم إلى انتهائه، فليُطلَب في موضعه مِن هذا التاريخ.

وفي سنة ٣٣٩ توفّي أبو جعفر محمّد بن أحمد الصيمري بأعمال الجامدة الّتي كانت تحت سلطة عِمران بن شاهين، وكان قد عاد مِن فارس مُحاصِراً لابن شاهين، فاستوزر مُعزّ الدولة بعده أبا محمّد الحسن بن محمّد المهلبي، وكان يَخلُف الصيمري بحضرة مُعزّ الدولة، فعرف أحوال الدواوين، فامتحنه مُعزّ الدولة، فرأى فيه ما يُريد مِن الأمانة والكفاية والمَعرفة بمصالح الدولة وحُسن السيرة، فاستوزره ومكّنه مِن وزارته فأحسن السيرة، وأزال كثيراً مِن المظالم خُصوصاً بالبصرة، فإنّ البريديّين كانوا قد أظهروا فيها كثيراً مِن المظالم، فأزالها وقرّب أهل العِلم والأدب وأحسن إليهم، وتنقّل في البلاد لكشف ما فيها مِن المظالم وتخليص الأموال، فحَسُن أثره رحمه الله.

مُعاودة مُعزّ الدولة حرب عِمران بن شاهين:

في هذه السنة بعد موت الصيمري ازداد ابن شاهين قوّة وجُرأة، فسيّر إليه مُعزّ الدولة جيشاً يقوده المهلبي، فانهزم جيش المهلبي، وجرتْ أُمور انتهت بمُصالحة مُعزّ الدولة لابن شاهين، وتقليده له أعمال البطائح ممّا زاد في استفحال أمره، ولا يُفيد تفاصيل هذه الأخبار؛ لأنّها مبسوطة في تاريخ دولة بني شاهين مِن هذا الكتاب.

١٩٣

حِصار يوسف بن وجيه البصرة وانهزامه:

في سنة ٣٤١ سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في البحر والبرّ إلى البصرة فحصرها، وكان سَبَب ذلك أنْ مُعزّ الدولة لمّا سلك البريّة إلى البصرة، وأرسل القرامطة يُنكرون عليه ذلك، وأجابهم بما سبق ذِكره في غير هذا المكان، عَلِم يوسف بن وجيه استيحاشهم مِن مُعزّ الدولة، فكَتب إليهم يُطمعهم في البصرة، وطلب منهم أنْ يَمدّوه مِن ناحية البر، فأمدّوه بجمع كثير منهم، وسار يوسف في البحر فبلغَ الخبر إلى الوزير المهلبي، وقد فرغ مِن الأهواز والنظر فيها، فسار مُجدّاً في العساكر إلى البصرة، فدخلها قَبل وصول يوسف إليها وشحنها بالرجال، وأمدَّه مُعزّ الدولة بالعساكر وما يحتاج إليه، وتحارب هو وابن وجيه أيّاماً، ثُمّ انهزم ابن وجيه وظَفرَ المهلبي بمراكبه وما معه مِن سلاح وغيره.

ضَربُ مُعزّ الدولة وزيره المهلبي بالمقارع:

وفي هذه السنة في ربيع الأوّل ضَربَ مُعزّ الدولة وزيره أبا محمّد المهلبي بالمقارع مئةً وخمسين مقرعة، ووكّل به في داره ولم يَعزله مِن وزارته، وكان نَقِم عليه أُموراً ضربه بسببها.

الخطبة لمُعزّ الدولة في مكة:

في سنة ٣٤٢ سيَّر الحجّاج الشريفين أبا الحسن محمّد بن عبد الله وأبا عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العلويّين، فجرى بينهما وبين عساكر المصريّين مِن أصحاب ابن طغج حَرب شديدة، وكان الظفر لهُما فُخطِب لمُعزّ الدولة بمكّة، فلمّا خرجا مِن مكّة لحقهما عسكر مصر فقاتلهما، فظفرا به أيضاً.

وفي سنة ٣٤٣ وقعت الحرب بمكّة بين أصحاب مُعزّ الدولة، فخُطب بمكة والحجاز لرُكن الدولة ومُعزّ الدولة وولده عزّ الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.

١٩٤

إرسالُ مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش لشهرزور:

وفي هذه السَنة أرسل مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش إلى شهرزور في رجب، ومعه المنجنيقات لفتحها، فسار إليها وأقام بتلك الولاية إلى المُحرّم مِن سَنة أربع وأربعين وثلاثمئة، فعاد ولم يُمكنه فتحها؛ لأنّه اتّصل به خروج عساكر خُراسان إلى الري.

مَرض مُعزّ الدولة وانتقاض ابن شاهين:

في سنة ٣٤٣ في ذي القعدة عرض لمُعزّ الدولة مَرض، وهو دوام الإنعاظ - يُسمى فريافسمس - مع وجع شديد في ذَكَرِه مع تَوتُّر أعصابه، وكان مُعزّ الدولة خوّاراً في أمراضه، فأرجف الناس به، واضطربت بغداد، فاضطرّ إلى الرُكوب فركب في ذي الحجّة على ما به مِن شِدّة المرض، فلمّا كان في المُحرّم مِن سنة ٣٤٤ أوصى إلى ابنه بختيار، وقلَّده الأمر بعده وجعله أمير الأُمراء، وبلغَ عِمران بن شاهين أنّ مُعزّ الدولة قد مات، فجرتْ منه أُمور أدّت إلى انفساخ الصُلح، وقد ذُكِر هذا في دولة بني شاهين.

إنجاده أخاه رُكن الدولة بعسكر لمُدافعة الخُراسانيّة:

وفي هذه السَنة استمدّ أخوه رُكن الدولة لمُدافعة الخُراسانيّة الخارجين إلى مملكته في الري، فأمدّه بعسكر مُقدّمهم الحاجب سبكتكين، وقد مرَّ خَبر ذلك في ترجمة رُكن الدولة.

عصيان روزبهان على مُعزّ الدولة:

في سَنة ٣٤٥ خَرج روزبهان بن ونداد خرشيد الديلمي على مُعزّ الدولة، وعصى عليه، وخرج أخوه بلكا بشيراز، وخرج أخوهما أسفار بالأهواز، ولحق به روزبهان إلى الأهواز، وكان يُقاتل عِمران بالبطيحة، فعاد إلى واسط وسار إلى الأهواز في رَجب وبها الوزير المهلبي، فأراد مُحاربة روزبهان فاستأمن رجاله إلى روزبهان، فانحاز المهلبي عنه، وورد الخبر بذلك إلى مُعزّ الدولة فلم يُصدّق به، لإحسانه إليه، لأنّه رفعه بعد الضِعَة ونَوّه

١٩٥

بذِكره بعد الخُمول، فتجّهز مُعزّ الدولة إلى محاربته، ومال الديلم بأسرهم إلى روزبهان، ولقوا مُعزّ الدولة بما يَكره، واختلفوا عليه وتتابعوا على المسير إلى روزبهان، وسار مُعزّ الدولة عن بغداد خامس شعبان، وخرج الخليفة المُطيع لله مُنحدراً إلى مُعزّ الدولة؛ لأنّ ناصر الدولة لمّا بَلغه الخبر سيَّر العساكر مِن الموصل مع ولده أبي المرجا جابر لقصد بغداد والاستيلاء عليها، فلمّا بَلغَ ذلك الخليفة انحدر مِن بغداد، فأعاد مُعزّ الدولة الحاجب سبكتكين وغيره ممَّن يثقُ بهم مِن عسكره إلى بغداد، فشَغبَ الديلم الّذين ببغداد، فوُعِدوا بأرزاقهم فسكنوا، وهُم على قنوط مِن مُعزّ الدولة.

وأمّا مُعزّ الدولة، فإنّه سار إلى أنْ بلغ قنطرة أدبق فنزل هُناك، وجعل على الطرق مَن يحفظ أصحاب الديلم مِن الاستئمان إلى روزبهان؛ لأنّهم كانوا يأخذون العطاء منه ثُمّ يهربون عنه، وكان اعتماد مُعزّ الدولة على أصحابه الأتراك ومماليكه ونَفَرٌ يسيرٌ مِن الديلم، فلمّا كان سلخ رمضان أراد مُعزّ الدولة العُبور هو وأصحابه الّذين يثقُ بهم إلى مُحاربة روزبهان، فاجتمع الديلم وقالوا لمُعزّ الدولة:

إنْ كُنّا رجالك فأخرجنا معك نقاتل بين يديك، فإنّه لا صبر لنا على القعود مع الصبيان والغُلمّان، فإنْ ظفرت كان الاسم لهؤلاء دوننا، وإنْ ظفرَ عدوّك لَحِقنا العار. وإنّما قالوا هذا الكلام خديعة ليُمكّنهم مِن العبور معه فيتمكّنون منه، فلمّا سمع قولهم سألهم التوقّف، وقال:

إنّما أُريد أنْ أذوق حَربهم ثُمّ أعود، فإذا كان الغد لقيناهم بأجمعنا وناجزناهم. وكان يُكثر لهم العطاء فأمسكوا عنه، وعبر مُعزّ الدولة وعبر أصحابه كراديس تتناوب الحملات، فما زالوا كذلك إلى غروب الشمس، ففني نشّاب الأتراك وتعبوا، وشكوا إلى مُعزّ الدولة ما أصابهم مِن التَعب، وقالوا:

نَستريح الليلة ونعود غَداً، فعلِم مُعزّ الدولة أنّه إنْ رجِع رجف إليه روزبهان والديلم، وثار معهم أصحابه الدَيلم يهلُك ولا يُمكنه الهَرب، فبكى بين يَدَي أصحابه وكان سريع الدمعة، ثُمّ سألهم أنْ تُجمع الكراديس كلّها ويحملوا حَملة واحدة، وهو في أوّلهم فإمّا أنْ يَظفروا، وإمّا أنْ يُقتل أوّل مَن يُقتل، فطالبوه بالنشاب، فقال:

قد بقيَ مع صغار الغُلمّان نشّاب فخذوه واقسّموه، وكان جماعة صالحة مِن الغُلمّان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد وعليهم اللبس الجيّد، كانوا سألوا مُعزّ الدولة أنْ يأذن لهم في الحرب فلم يَفعل، وقال:

إذا جاء وقت يَصلح لكم أذنت لكُم في القتال، فوجّه إليهم

١٩٦

تلك الساعة مَن يأخذ منهم النشّاب، وأومأ مُعزّ الدولة إليهم بيده أنْ اقبلوا منه، وسلّموا إليه النشّاب، فظنّوا أنّه يأمرهم بالحملة، فحملوا وهُم مستريحون، فصدموا صفوف روزبهان فخرقوها، وألقوا بعضها فوق بعض فصاروا خَلفهم، وحمل مُعزّ الدولة فيمَن معه باللتوت، فكانت الهزيمة على روزبهان وأصحابه، وأُخذ روزبهان أسيراً وجماعة مِن قوّاده، وقتَل مِن أصحابه خَلق كثير، وكَتب مُعزّ الدولة بذلك، فلمْ يُصدِق الناس لما علموا مِن قُوّة روزبهان وضعف مُعزّ الدولة، وعاد إلى بغداد ومَعَه روزبهان يراه الناس، وسَيَّر سبكتكين إلى أبي المرجا بن ناصر الدولة، وكان بعكبرا فلم يَلحقه؛ لأنّه لمّا بلغه الخبر عاد إلى الموصل، وسَجن مُعزّ الدولة روزبهان، فبلغه أنْ الديلم قد عزموا على إخراجه قهراً، والمُبايعة له فأخرجه ليلاً وغَرّقه.

وأمّا أخو روزبهان الّذي خرج بشيراز، فإنّ الأُستاذ أبا الفضل بن العميد سار إليه في الجيوش فقاتله فظفرَ به، وأعاد عضُد الدولة بن رُكن الدولة إلى مُلكه، وانطوى خبَر روزبهان وأخوته، وكان قد اشتعل اشتعال النار، فقَبض مُعزّ الدولة على جماعة مِن الديلم وترك مَن سواهم، واصطنع الأتراك وقدّمهم، وأمرهم بتوبيخ الديلم والاستطالة عليهم، ثُمّ أطلق للأتراك إطلاقات زائدة على واسط والبصرة، فساروا لقبضها مُدلين بما صنعوا، فأخربوا البلاد ونهبوا الأموال، وصار ضرَرُهم أكثر مِن نفعهم.

استيلاء مُعزّ الدولة على الموصل:

لم يكن ناصر الدولة يَثبت مع مُعزّ الدولة على عَهد وصلح، فما يَبرم معه عهداً وصُلحاً حتّى يُنقضه ما بين عشيّة، كلمّا لاحت له فرصة الخروج فقد اختلفا كثيراً، وانتهى اختلافهما إلى اتّفاق وسُرعان ما يعود ناصر الدولة فينسخ ذلك الاتّفاق، وقد عرفت في خَبر خُروج روزبهان وأخَوَيه أنْ ناصر الدولة انتهزها فُرصة فسيّر ولده أبا المرجا إلى بغداد، وكان ذلك بعد صُلح معقود على ألفَي ألف درهم كلّ سَنة، ولكنّ ناصر الدولة أخّر حمل المال مُضافاً إلى ما أساء إليه في وقت الشدّة، وكان ذلك في سنة ٣٤٧، ممّا اضطرّ مُعزّ الدولة للتجهُّز إلى الموصل، فسار نحوها في مُنتصف جمادى الأولى ومعه وزيره المهلبي، وانتهى الأمر بعد مواقع وحُروب بينهما إلى فِرار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدين في

١٩٧

حلب، وتوسّط سيف الدولة في الصُلح وكفالته المال المُرتّب عليه، إلى غير ذلك ممّا بسطناه في تاريخ الحمدانيّين أحد أجزاء هذا الكتاب.

زواجُ مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة بابنة عمّه مُعزّ الدولة:

في سنة ٣٤٨ سار مؤيّد الدولة بن رُكن الدولة مِن الريّ إلى بغداد، فتَزوّج بابنة عمّه مُعزّ الدولة، ونقلها معه إلى الري، ثُمّ عاد إلى أصبهان.

بِناءُ مُعزّ الدولة دورَه ببغداد بعد إبلاله مِن مرض أقلقه:

في المُحرّم سنة ٣٥٠هـ مرض مُعزّ الدولة وامتنع عليه البول، ثُمّ كان يبول بعد جُهد ومشقّة دماً، وتبعه البول والحصار، فاشتدّ جَزعه وقلقه، وأحضر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين، فأصلح بينهما ووصّاهما بابنه بختيار، وسلّم جميع ماله إليه، ثُمّ إنّه عوفي، فعَزِم على المسير إلى الأهواز؛ لأنّه اعتقد أنّ ما اعتاده مِن الأمراض إنّما هو بسبب مقامه ببغداد، وظنّ أنّه إنْ عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه مِن الصحّة ونَسيَ الكِبَر والشباب، فلمّا انحدر إلى كلواذا ليتوجّه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمَقام، وأنْ يُفكّر في هذه الحَركة ولا يَعجل، فأقام بها، ولم يُؤثِر أحدٌ مِن أصحابه انتقاله لمُفارَقة أوطانهم، وأسَفَاً على بغداد كيف تَخرب بانتقال دار المَلك عنها، فأشاروا عليه بالعود إلى بغداد، وأنْ يبني بها له داراً في أعلى بغداد لتكون أرقّ هواء وأصفى ماء ففعل، وشَرع في بناء داره في موضع المسناة المُعزيّة، فكان مَبلَغ ما خَرَجَ عليها إلى أنْ مات: ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج بسَبَب ذلك إلى مُصادرة جماعة مِن أصحابه.

تَوليتهُ القضاءِ بالضمان:

في هذه السَنة تولّى قضاء القضاة أبو العبّاس بن عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب، وضَمِن أنْ يؤدّي كلّ سَنة مئتي ألف دِرهم، وهو أوّل مَن ضَمِن القضاء، وكان ذلك أيام مُعزّ الدولة، ولم يُسمع بذلك قبله، فلم يأذن له الخليفة المُطيع لله بالدخول عليه، وأمر بأنْ لا يحضر الموكب لِما ارتكبه مِن ضمان القضاء، ثُمّ ضُمِنَت بعدُ الحُسبة والشَرطة ببغداد.

١٩٨

استئمانُ أبي القاسم أخي عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة:

في هذه السَنة وصل أبو القاسم أخو عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة مُستأمِناً.

ما كُتِبَ على مساجد بغداد بأمر مُعزّ الدولة:

في ربيع الآخر مِن سنة ٣٥١هـ كَتب عامّة الشيعة ببغداد بأمر مُعزّ الدولة على المساجد ما هذه صورته:(لُعِن معاوية بن أبي سفيان، ولُعِن مَن غَصب فاطمة (رضي الله عنها) فَدكاً، ومَن مَنع مِن أنْ يُدفن الحسن عند قبر جدّه (عليه السلام)، ومَن نفى أبا ذرٍّ الغفاري، ومَن أخرج العبّاس مِن الشورى).

فأمّا الخليفة، فكان مَحكوماً عليه لا يقدر على المَنع، وأمّا مُعزّ الدولة، فبأمره كان ذلك، فلمّا كان الليل حكّه بعضُ الناس، فأراد مُعزّ الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير أبو محمّد المهلبي بأنْ يَكتب مكان ما مُحي:(لعن الله الظالمين لآل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)) ، ولا يَذكر أحداً في اللعن إلاّ معاوية، ففعل ذلك.

وفاةُ المهلبي وأُمور غريبة صدرت مِن مُعزّ الدولة:

في جمادى الآخرة سن ٣٥٢هـ سار الوزير المهلبي وزير مُعزّ الدولة في جيش كَثيف إلى عُمان ليفتحها، فلمّا بلغَ البحر اعتلّ واشتدّت عِلّته فأُعيد إلى بغداد فدُفن بها، وقبضَ مُعزّ الدولة أمواله وذخائره وكلّ ما كان له، وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه حتّى ملاّحه ومَن خدمه يوماً واحداً، فقبض عليهم وحبسهم، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه، وكانت مُدّة وزارته ثلاث عشرة سَنة وثلاثة أشهر، وكان كريماً فاضلاً ذا عقل ومروءة فمات بموته الكرم، ونظر في الأُمور بعده أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي، وأبو الفَرَج محمّد بن العبّاس بن فسانجس مِن غير تسمية لأحدهما بوزارة.

أمرُ مُعزّ الدولة الناس بإبطال أعمالهم وإقامة عزاء الحسين بن علي (عليه السلام):

في عاشر المُحرّم مِن هذه السَنة أمر مُعزّ الدولة الناس أنْ يُغلقوا دكاكينهم، ويُبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأنْ يُظهروا النياحة ويلبسوا قباباً

١٩٩

عملوها بالمسوح، وأنْ يَخرُج النساء مُنشرات الشُعور، مُسودّات الوجوه، قد شققنَ ثيابهنّ، يَدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسُنّة قُدرة على المنع منه؛ لكثرة الشيعة، ولأنّ السلطان معهم.

ومُعزّ الدولة هو أوّل مَن سنَّ هذه السُنّة، وألزم الناس بها في كلِّ يوم عاشر مِن مُحرّم كلّ سَنة، وكانت مَثارة فِتن بين السُنّة والشيعة.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

وفي رجب سنة ٣٥٣هـ سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل وملكها، وبعد تضييقه على ناصر الدولة وفراره منه أعاده إليه، وقرّر بينهما الصُلح، وقد استوفينا خَبر ذلك في أخبار الحمدانيّين فلا نُعيده.

طاعةُ أهل عُمان مُعزّ الدولة وما كان مِنهم:

وفي سنة ٣٥٤هـ سيَّر مُعزّ الدولة عسكراً إلى عُمان، فلقوا أميرها وهو نافع مولى يوسف بن وجيه، وكان يوسف قد هَلك ومَلكَ نافع البلد بعده، وكان أسود، فدخل نافع في طاعة مُعزّ الدولة، وخطب له وضرب له اسمه على الدينار والدرهم، فلمّا عادَ العسكر عنه وثب به أهل عُمان فأخرجوه عنهم، وأدخلوا القرامطة الهَجريّين إليهم، وتَسلّموا البَلد فكانوا يُقيمون فيها نهاراً ويَخرجون ليلاً إلى مُعسكرهم، وكتبوا إلى أصحابهم بهَجَر يُعرّفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون.

ما تَجدّد لعُمان واستيلاء مُعزّ الدولة عليها:

بعد هرب نافع عن عُمان واستيلاء القرامطة عليها، كان معهم كاتب يُعرَف بعلي بن أحمد ينظر في أُمور البلد، وكان بعُمان قاضٍ له عشيرة وجاه، فاتّفق هو وأهل البلد أنْ يَنصبوا في الإمرة رجلاً يُعرف بابن طغان، وكان مِن صِغار القوّاد بعُمان وأدناهم مَرتبة، فلمّا استقرّ في الإمرة خافَ ممَّن فوقه مِن القوّاد، فقبضَ على ثمانين قائداً، فقتل بعضهم وغَرّق بعضهم، وقَدِم البلد ابنا أُخت رجُل ممَّن قد غرَّقهم فأقاما مُدّة، ثُمّ إنّهما دخلا على طغان يوماً مِن أيّام السلام، فسلما عليه فلمّا تقوّض المجلس قتلاه، فاجتمع

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الدَيلم مع بهاء الدولة أربعمئة رجل مستأمنين، فأخذهم لشكرستان وسار بهم وبمَن معه إلى البصرة فكثر جَمعه، فنَزلوا قُرب البصرة بين البساتين يُقاتلون أصحاب بهاء الدولة، ومال إليهم بعض أهل البصرة، ومُقدّمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي، وكانوا يحملون إليهم الميرة، وعَلم بهاء الدولة بذلك فأنفذ مَن يَقبض عليه، فهرب كثير منهم إلى لشكرستان فقويَ بهم، وجمعوا السُفن وحملوه فيها ونزلوا إلى البصرة، فقاتلوا أصحاب بهاء الدولة بها وأخرجوهم عنها، ومَلك لشكرستان البصرة، وقتل مِن أهلها كثيراً وهربَ كثير منهم، وأخذ كثيراً مِن أموالهم، فكَتب بهاء الدولة إلى مُهذّب الدولة صاحب البطيحة يقول:

أنتَ أحقّ بالبصرة، فَسَيَّرَ إليها جيشاً مع عبد الله بن مرزوق..، وقيل إنّما فارقها فأجلى لشكرستان عن البصرة..، وقيل إنّه سار عن البصرة بغير حَرب، ودخلها ابن مرزوق..، وقيل إنّما فارقها بعد أنْ حارب فيها وضَعُف عن المقام بين يديه، وصفت البصرة لمُهذّب الدولة.

ثُمّ إنّ لشكرستان عَمل على العود إلى البصرة، فهجم عليها في السُفن، ونزل أصحابه بسوق الطعام، واقتتلوا فاستظهر لشكرستان، وكاتبَ بهاء الدولة يطلب المُصالحة، ويبذل الطاعة ويخطب له بالبصرة، فأجابه مُهذّب الدولة إلى ذلك، وأخذَ ابنه رهينة، وكان لشكرستان يُظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومُهذّب الدولة، وعسفَ أهل البصرة مدّة فتفرّقوا، ثُمّ إنّه أحسن إليهم وعدل فيهم فعادوا.

وفي هذه السنة مَلك المقلد بن المسيّب الموصل، وقد مرّ خَبر ذلك في أخبار بني المسيّب.

وفي سنة ٣٨٧هـ خَرج أبو الحسن عليّ بن مزيد عن طاعة بهاء الدولة، وسبقَ الخَبر عن ذلك في مكانه فلا نُعيده.

مسيرُ بهاءِ الدولةِ إلى واسط:

في سنة ٣٨٨هـ عاد أبو عليّ بن إسماعيل إلى طاعة بهاء الدولة وهو بواسط، فوزرَ له ودبّر أمره، وأشار عليه بالمسير إلى أبي محمّد بن مكرم ومَن معه مِن الجُند ومساعدتهم ففعل ذلك، وسار على كُره وضيق فنزل بالقنطرة البيضاء، وثبت أبو عليّ بن أستاذ هرمز وعسكره، وجرى لهم معه وقائع كثيرة، وضاق الأمر ببهاء الدولة وتعذّرت عليه الأقوات، فاستمدّ بدر بن حسنويه فأنفذ إليه شيئاً قام ببعض ما يُريده، وأشرف بهاء الدولة على الخَطر،

٣٠١

وسعى أعداء أبي عليّ بن إسماعيل به حتّى كاد يبطش به، فتجدّد مِن أمر ابنَي بختيار وقتل صمصام الدولة ما أتاه به الفرج مِن حيث لم يحتسب، وصَلح أمرُ أبي علي عنده واجتمعت الكلمة عليه.

مَقتل صمصام الدولة:

في هذه السنة في ذي الحجّة قُتِل صمصام الدولة بن عَضُد الدولة، وسَبب ذلك أنّ جماعة كثيرة مِن الدَيلم استوحشوا مِن صمصام الدولة؛ لأنّه أمرَ بعرضهم وإسقاط مَن ليس بصحيح النَسب، فأسقط منهم مقدار ألف رجل، فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، واتّفق أنّ أبا القاسم وأبا نصر ابنَي عِزّ الدولة - بختيار - كانا مقبوضين، فخدعا الموكّلين بهما في القلعة، فأفرجوا عنهما، فجمعا لفيفاً مِن الأكراد، واتّصل خبرهما بالّذين أُسقطوا مِن الدَيلم فأتوهم، وقصدوا إلى أرجان فاجتمعت عليها العساكر، وتحيّر صمصام الدولة ولم يكن عنده مَن يُدبّره، وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مُقيماً بنسا، فأشار عليه بعض مَن عنده بتفريق ما عنده مِن المال في الرجال، والمسير إلى صمصام الدولة وأخذه إلى عسكره بالأهواز، وخوف إنْ لم يفعل ذلك فشحّ بالمال، فثار به الجُند ونهبوا داره وهربوا، فاختفى فأُخذ وأُتي به إلى ابنَي بختيار فحُبس ثُمّ احتال فنجا.

وأمّا صمصام الدولة، فإنّه أشار عليه أصحابه بالصعود إلى القلعة التي على باب شيراز، والامتناع بها إلى أنْ يأتي عسكره ومَن يمنعه، فأراد الصُعود إليها فلم يُمكّنه المستحفظ بها، وكان معه ثلاثمئة رجل فقالوا له:

الرأي أنّنا نأخذك ووالدتك ونسير إلى أبي عليّ بن أستاذ هرمز، وأشار بعضهم بقصد الأتراك وأخذهم والتَقوّي بهم ففعل ذلك، وخرج معهم بخزائنه وأمواله فنهبوه، وأرادوا أخذه فهَرب، وسار إلى الدودمان على مرحلتين مِن شيراز، وعَرف أبو نصر بن بختيار الخبر فبادر إلى شيراز، ووثبَ رئيس الدودمان - واسمه طاهر - بصمصام الدولة فأخذه، وأتاه أبو نصر بن بختيار وأخذه منه فقتله في ذي الحجّة، فلمّا حُمل رأسه إليه قال:

هذه سُنّة سنّها أبوك - يعني ما كان مِن قتل عَضُد الدولة بختيار - وكان عُمر صمصام الدولة خمساً وثلاثين سَنة وسبعة أشهر، ومُدّة إمارته بفارس تسع سنين وثمانية أيّام، وكان كريماً حليماً.

وأمّا والدته، فسُلّمت إلى بعض قوّاد الدَيلم، فقتلها وبنى عليها دكّة في داره، فلمّا مَلك بهاء الدولة فارس أخرجها ودفنها في تربة بني بويه.

٣٠٢

مِلكُ بهاءِ الدولةِ فارس وخوزستان:

في سنة ٣٨٩هـ دخلَ الدَيلم مع أبي عليّ بن أستاذ هرمز بالأهواز في طاعة بهاء الدولة، وكان سَبب ذلك أنّ ابنَي بختيار لمّا قَتلا صمصام الدولة ومَلكا بلاد فارس كَتبا إلى أبي عليّ بن أستاذ هرمز بالخَبر، ويُذكر أنّ تعويلهما عليه واعتضادهما به، ويأمرانه بأخذ اليمين لهما على مَن معه مِن الدَيلم والمُقام بمكانه والجدّ بمحاربة بهاء الدولة، فخافهما أبو علي لِما كان أسلفه إليهما مِن قبل أخويهما وأسرِهما، فجَمعَ الدَيلم الذين معه وأخبرهم الحال واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بطاعة ابني بختيار ومُقاتلة بهاء الدولة، فلم يوافقهم على ذلك، ورأى أنْ يُراسل بهاء الدولة ويستميله ويحلفه لهم، فقالوا:

إنّا نخاف الأتراك وقد عرفتَ ما بيننا وبينهم، فسكت عنهم وتفرّقوا، وراسله بهاء الدولة يستميله ويبذل له وللديلم الأمان والإحسان، وتردّدت الرُسل، وقال بهاء الدولة:

إنّ ثاري وثاركم عند مَن قتل أخي فلا عُذر لكم في التَخلّف عن الأخذ بثاره، واستمال الدَيلم فأجابوه إلى الدُخول في طاعته، وأنفذوا جماعة مِن أعيانهم إلى بهاء الدولة فحلفوه واستوثقوا منه، وكتبوا إلى أصحابهم المُقيمين بالسوس بصورة الحال، وركب بهاء الدولة مِن الغد إلى باب السوس رجاء أنْ يَخرج مَنْ فيه إلى طاعته، فَخرجوا إليه في السلاح وقاتلوه قتالاً شديداً لم يُقاتلوا مثله فضاق صدره، فقيل له:

إنّ هذه عادة الدَيلم، أنْ يشتدّ قتالهم عند الصُلح؛ لئلاّ يُظنّ بهم، ثُمّ كفّوا عن القتال وأرسلوا مَن يُحلفه لهم، ونزلوا إلى خِدمته، واختلط العسكران وساروا إلى الأهواز، فقرّر أبو عليّ بن إسماعيل أمورها وقسّم الإقطاعات بين الأتراك والدَيلم، ثُمّ ساروا إلى رامهرمز فاستولوا عليها وعلى أرجان وغيرها مِن بلاد خوزستان، وسار أبو عليّ بن إسماعيل إلى شيراز فنزل بظاهرها، فَخرج إليه ابنا بختيار في أصحابهما فحاربوه، فلمّا اشتدّت الحرب مال بعضُ مَن معهما إليه، ودخل بعضُ أصحابه البلد ونادوا بشعار بهاء الدولة، وكان النقيب أبو أحمد الموسوي بشيراز قد وردها رسولاً مِن بهاء الدولة إلى صمصام الدولة، فلمّا قَتل صمصام الدولة كان بشيراز، فلمّا سَمع النداء بشعار بهاء الدولة ظنّ أنّ الفتح قد تَمّ، فقصد الجامع - وكان يوم الجمعة - وأقام الخُطبة لبهاء الدولة، ثُمّ عاد ابنا بختيار واجتمع إليهما أصحابهما، فخاف النقيب فاختفى، وحُمِل في سَلّة إلى أبي

٣٠٣

عليّ بن إسماعيل.

ثُمّ إنّ أصحاب ابنَي بختيار قصدوا أبا عليّ وأطاعوه، فاستولى على شيراز وهَرب ابنا بختيار، فأمّا أبو نصر، فإنّه لَحِق ببلاد الدَيلم، وأمّا الثاني وهو أبو القاسم فلَحِق ببدر بن حسنويه ثُمّ قصد البطيحة.

ولمّا مَلك أبو علي شيراز كَتب إلى بهاء الدولة بالفَتح، فسار إليها ونزلها، فلمّا استقرّ بها أمرَ بنهب قرية الدودمان وإحراقها وقَتلِ كلّ مَن كان بها مِن أهلهم فاستأصلهم، وأخرج أخاه صمصام الدولة وجدّد أكفانه، وحُمل إلى التربة بشيراز فدُفن بها، وسيّر عسكراً مع أبي الفتح أستاذ هرمز إلى كرمان، فملكها وأقام بها نائباً عن بهاء الدولة.

قَتلُ ابن بختيار بكرمان واستيلاءُ بهاءِ الدولةِ عليها:

في سنة ٣٩٠هـ في جمادى الآخرة قُتلَ الأمير أبو نصر بن بختيار الّذي كان قد استولى على بلاد فارس، وسببُ قتله أنّه لمّا انهزم مِن عسكر بهاء الدولة بشيراز سار إلى بلاد الدَيلم، وكاتب الدَيلم بفارس وكرمان مِن هناك يستميلهم وكاتبوه واستدعوه، فسار إلى بلاد فارس واجتمع عليه جَمعٌ كثير مِن الزط والديلم والأتراك، وتردّد في تلك النواحي، ثُمّ سار إلى كرمان فلم يقبله الدَيلم الّذين بها، وكان المُقدّم عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فجَمعَ وقصد أبا جعفر فالتقيا فانهزم أبو جعفر إلى السيرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فمَلكها ومَلك أكثر كرمان، فعَظُم الأمرُ على بهاء الدولة، فسَيّر أليه الموفّق عليّ بن إسماعيل في جيش كَثير، وسار مُجدّاً حتّى أطلّ على جيرفت، فاستأمَن إليه مَن بها مِن أصحاب ابن بختيار ودخلها، فأنكر عليه مَن معه مِن القوّاد سُرعة سيره وخَوّفوه عاقبة ذلك فلم يُصغِ إليهم، وسأل عن حال ابن بختيار، فأُخبر أنّه على ثمانية فراسخ مِن جيرفت، فاختار ثلاثمئة رجل مِن شُجعان أصحابه وسار بهم، وترك الباقين مع السواد بجيرفت، فلمّا بلغَ ذلك المكان لم يجده، ودُلّ عليه فلم يزل يَتبعه مِن مَنزل إلى مَنزل حتّى لحِقه بدارزين، فسار ليلاً وقُدّر وصوله إليه عند الصبح فأدركه، فركب ابن بختيار واقتتلوا قتالاً شديداً، وسار الموفّق في نفر مِن غلمانه فأتى ابن بختيار مِن ورائه، فانهزم ابن بختيار وأصحابه، ووَضع فيهم السيف فقَتل منهم الخَلق الكثير، فغَدر بابن بختيار بعض أصحابه وضَربه بلتٌ، فألقاه وعاد إلى الموفّق ليُخبره بقتله، فأرسل معه مَن يَنظر إليه فرآه وقد

٣٠٤

قَتله غيره، وحُمل رأسه إلى الموفّق، وأكثرَ الموفّق القَتل في أصحاب ابن بختيار، واستولى على بلاد كرمان، واستعمل عليها أبا موسى بن هيجل، وعادَ إلى بهاء الدولة فخَرج بنفسه ولقيَه وأكرمه وعَظّمه، ثُمّ قَبض عليه بعد أيّام.

ومِن أعجب ما يُذكر أنّ الموفّق أخبره مُنجّمٌ أنّه يَقتل ابن بختيار يوم الاثنين، فلمّا كان قبل الاثنين بخمسة أيّام قال للمُنجّم:

قد بقيَ خمسة أيّام وليس لنا عِلم به، فقال له المُنجّم:

إنّ لم تَقتله فاقتلني عَوّضه وإلاّ فأحسن إلي، فلمّا كان يوم الاثنين أدركه وقَتله، وأحسن إلى المُنجّم إحساناً كثيراً.

أمّا المُوفّق هذا، فبعد أنْ أكرمه بهاء الدولة ولقيه بنفسه استعفى مِن الخِدمة، فلم يُعفِه بهاء الدولة، فألح كلّ واحد منهما فأشار أبو محمّد بن مكرم على الموفق بترك ذلك فلم يَقبل، فقبضَ عليه بهاء الدولة وأخذ أمواله، وكَتب إلى وزيره سابور ببغداد بالقبض على أنساب الموفّق فعرفهم ذلك سِرّاً، فاحتالوا لنفوسهم وهربوا، ثُمّ إنّ بهاء الدولة قَتل المُوفّق سَنة ٣٩٤هـ.

الحَرب بين قرواش وعَسكر بهاء الدولة:

جرتْ حربٌ بين قرواش وعسكر بهاء الدولة سَنة ٣٩٢هـ، وقد دُوّنَت في أخباره في تاريخ بني المُسيّب.

الفِتنةُ بينَ السُنّة والشيعة:

اشتدّت الفِتنة بين السُنّة والشيعة ببغداد سَنة ٣٩٣هـ، وانتشر العيّارون والمُفسدون، فبعث بهاء الدولة عميد الجيوش أبا عليّ بن أستاذ هرمز إلى العراق ليُدبّر أمره، فوصل إلى بغداد، فزينتْ له وقَمع المُفسدين، ومنع السُنّة والشيعة مِن إظهار مَذاهبهم، ونفى بعد ذلك ابن المُعلّم فقيه الإماميّة، فاستقام البَلد.

استيلاء أبي العبّاس على البطيحة ومخاوف بهاء الدولة:

في شعبان سَنة ٣٩٤هـ غَلب أبو العبّاس بن واصل على البطيحة، وأخرج منها مُهذّب الدولة، واستولى على خزائنه وأمواله، ولمّا سَمع بهاء الدولة بحال أبي العبّاس وقوّته خافه على البلاد، فسارَ مِن فارس إلى

٣٠٥

الأهواز لتلافي أمره، وأحضر عنده عميد الجيوش مِن بغداد، وجهّز معه عَسكراً كثيفاً وسيّرهم إلى أبي العبّاس، فأتى إلى واسط وعمل ما يحتاج إليه مِن سُفن وغيرها، وسار إلى البطائح، وفرّق جُنده في البلاد لتقرير قواعدها، وسمع أبو العبّاس بمسيره إليه فأصعد إليه مِن البصرة، وأرسل يقول له:

ما أحوجك تتكلّف الانحدار وقد أتيتك فخُذ لنفسك، ووصل إلى عَميد الجيوش وهو على تلك الحال مِن تَفرّق العسكر عنه، فلقيه فيمَن معه بالصليق، فانهزم عميد الجيوش ووقع مَن معه بعضهم على بعض، ولقيَ عميد الجيوش شِدّة إلى أنْ وصل إلى واسط، وذهب ثقله وخيامه وخزائنه، فأخبره خازنه أنّه قد دَفن في الخيمة ثلاثين ألف دينار وخمسين ألف درهم، فأنفذ فأحضرها فقويَ بها ولكنّه بعد أنء تَقوّى جَمع العساكر واستدعى مُهذّب الدولة مِن بغداد في سنة ٣٩٥هـ، وغلب على أبي العبّاس، ثُمّ قويَ أمرُ أبي العبّاس وسار إلى الأهواز، ولكنّ بهاء الدولة جهّز إليه جيشاً في الماء، وبعد أنْ دخل إلى دار المَملكة واستولى على ما فيها لم يُمكنه المُقام؛ لأنّ بهاء الدولة كان قد جهّز عَسكراً ليسير مِن البحر إلى البصرة، فخاف أبو العبّاس مِن ذلك وراسل بهاء الدولة وصالحه وزاد في إقطاعه، وحَلفَ كلّ واحد منهما لصاحبه، وعاد إلى البصرة.

حصرُ أبي جعفر الحجّاج بغداد:

في سنة ٣٩٧هـ جمع أبو جعفر الحجّاج جمعاً كثيراً، وأمدّه بدر بن حسنويه بجيش كثير، فسار بالجمع وحصر بغداد، وسببُ ذلك أنّ أبا جعفر كان نازلاً على قلج حامي طريق خُراسان، وكان قلج مُبايناً لعميد الجيوش فاجتمعا لذلك، فتوفّي قلج هذه السُنّة فجَعَلَ عميدُ الجيوش على حماية الطريق أبا الفتح بن عناز، وكان عدوّاً لبدر بن حسنويه، فحقد ذلك بدر فأستدعى أبا جعفر الحجّاج وجمع له جمعاً كثيراً، منهم الأمير هندي بن سعدي وأبو عيسى شاذي بن محمّد وورام بن محمّد وغيرهم، وسيّرهم إلى بغداد، وكان الأمير أبو الحسن عليّ بن مزيد الأسدي قد عاد مِن عند بهاء الدولة بخوزستان مُغضباً، فاجتمع معهم فزادت عِدّتهم على عشرة آلاف فارس، وكان عميد الجيوش عند بهاء الدولة لقتال أبي العبّاس بن واصل، فسار أبو جعفر ومَن اجتمع معه إلى بغداد، ونزلوا على فرسخ منها وأقاموا

٣٠٦

شهراً، وببغداد جمعٌ مِن الأتراك ومعهم أبو الفتح بن عناز فحفظوا البَلد، فبينما هُم كذلك أتاهم خَبر انهزام أبي العبّاس وقوّة بهاء الدولة، ففتّ ذلك في أعضاد أبي جعفر العبّاس ومَن معه فتفرّقوا، فعادَ ابن مَزيد إلى بلده وسار أبو جعفر وأبو عيسى إلى حلوان، وراسل أبو جعفر في إصلاح حاله مع بهاء الدولة فأجابه إلى ذلك، فحضر عنده بتستُّر، فلم يَلتفتْ إليه؛ لئلا يَستوحش عميد الجيوش.

قتل أبي العبّاس بن واصل:

سبقَ مِن خبر أبي العبّاس هذا ما انتهى به إلى مُصالحة بهاء الدولة وعوده إلى البصرة، ثُمّ تجدّد ما أوجب عوده إلى الأهواز، فعادَ إليها في جيشه وبهاء الدولة مُقيم بها، فلمّا قاربها رحلَ بهاء الدولة عنها؛ لقلّة عسكره وتَفرُّقهم بعضهم بفارس وبعضهم بالعراق، وقطعَ قنطرة اربق وبقي النهر يحجز بين الفريقين، فاستولى أبو العبّاس على الأهواز، وأتاه مَدَد مِن بدر ابن حسنويه ثلاثة آلاف فارس فقويَ بهم، وعَزم بهاء الدولة على العودِ إلى فارس فمَنعه أصحابه، فأصلح أبو العبّاس القنطرة، وجرى بين العسكرين قِتال شديد دام إلى السَحر، ثُمّ عَبر أبو العبّاس على القنطرة بعد أنْ أصلحها، والتقى العسكران واشتدّ القتال، فانهزم أبو العبّاس وقُتِل مِن أصحابه كثير، وعاد إلى البصرة مهزوماً مُنتصف رمضان سَنة ٣٩٦، فلمّا عادَ مُنهزماً جهّز بهاء الدولة إليه العساكر مع وزيره أبي غالب، فسار إليه ونزل عليه مُحاصراً له، وجرى بين العسكرين القتال، وضاق الأمر على الوزير وقلّ المال عنده، واستمدّ بهاء الدولة فلم يُمده، ثُمّ إنّ أبا العبّاس جمع سُفنه وعساكره وأصعد إلى عسكر الوزير وهجم عليهم، فانهزم الوزير وكاد يتمّ على الهزيمة، فاستوقفه بعضُ الدَيلم وثبّته، وحملوا على أبي العبّاس فانهزم هو وأصحابه، وأخذ الوزير سُفنه فاستأمن إليه كثير مِن أصحابه، ومضى أبو العبّاس مُنهزماً، وركب مع حسّان بن ثمال الخفاجي هارباً إلى الكوفة، ودخل الوزير البصرة وكَتب إلى بهاء الدولة بالفتح.

ثُمّ إنّ أبا العبّاس سارَ مِن الكوفة وقَطع دجلة، ومضى عازماً على اللحاق ببدر بن حسنويه، فبلغ خانقين وبها جعفر بن العوام في طاعة بدر، فأنزله وأكرمه وأشار عليه بالمسير في وقته وحذّره الطَلب، فاعتلّ بالتعب وطَلب الاستراحة ونام، وبلغ

٣٠٧

خَبرُه إلى أبي الفتح بن عناز - وهو في طاعة بهاء الدولة، وكان قريباً منهم - فسارَ إليهم بخانقين وهو بها، فحصره وأخذه وسار به إلى بغداد، فسَيّره عميد الجيوش إلى بهاء الدولة، فلقيهم في الطريق قاصدٌ مِن بهاء الدولة يأمره بقتله، فقُتل وحُمل رأسه إلى بهاء الدولة، وطيفَ به بخوزستان وفارس وكان بواسط عاشر صفر.

مسيرُ عَميدِ الجُيوشِ إلى حَرب بدر وصُلحه معهُ:

كان في نفسِ بهاء الدولة على بدر بن حسنويه حقدٌ لمّا اعتمده في بلاده؛ لاشتغاله عنه بأبي العبّاس بن واصل، فلمّا قُتل أبو العبّاس أمرَ بهاء الدولة عميد الجيوش بالمسير إلى بلاده، وأعطاه مالاً أنفَقَهُ في الجند، فجمع عسكراً وسار يُريد بلاده فنزل جنديسابور، فأرسل إليه بدر: إنّك لم تَقدر على أنْ تأخذ ما تَغلّب عليه بنو عقيل مِن أعمالهم، وبينهم وبين بغداد فرسخ حتى صالحتهم، فكيف تقدُر على أخذ بلادي وحصني مِنّي ومعي مِن الأموال ما ليس معك مثلها؟! وأنا معك بين أمرين: إنْ حاربتُك فالحرب سِجال، ولا نَعلم لمَن العاقبة، فإنْ انهزمتُ أنا لم ينفعْك ذلك؛ لأنّني أحتمي بقلاعي ومعاقلي وأُنفق أموالي، وإذا عجزتُ فأنا رجلٌ صحراويٌّ صاحب عَمد أبعد ثُمّ أقرب، وإنْ انهزمتَ أنت لم تجتمع، وتلقى مِن صاحبك العسف، والرأي أنْ أحمل إليك مالاً تُرضي به صاحبك ونصطلح، فأجابه إلى ذلك وصالحه، وأخذ منه ما كان أخرجه على تجهيز الجيش وعاد عنه.

في تاريخ ابن كثير.. ج١١ ص٣٥٢:

في يوم الخميس غُرّة ربيع الأوّل سَنة ٤٠٤ منها جلس الخليفة القادر في أُبّهة الخلافة، وأحضر بين يُديه سُلطان الدولة والحجّة فخَلع عليه سبع خِلَع على العادة، وعَمّمه بعمامة سوداء، وقلّده سيفاً وتاجاً مُرصّعاً وسوارين وطوقاً، وعَقد له لوائين بيده، ثُمّ أعطاه سيفاً وقال لخادم: قلّده به فهو شَرف له ولعَقِبه يفتح شرق الأرض وغَربها، وكان ذلك يوماً مشهوداً حضره القُضاة والأُمراء والوزراء.

وفاة بهاء الدولة:

في خامس جمادى الآخرة سَنة ٤٠٣ توفّي بهاء الدولة أبو نصر بن عَضُد الدولة بن بويه، وهو المَلك حينئذٍ بالعراق، وكان مَرضه تتابُع الصَرَع

٣٠٨

مثل مرض أبيه، وكان موته بأرجان وحُمل إلى مشهد أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) فدُفِن عند أبيه عَضُد الدولة، وكان عُمره اثنتين وأربعين سَنة وتسعة أشهُر ونصفاً، ومُلكه أربعاً وعشرين سَنة.

الخامس عشر مِن مُلوك بني بويه: سُلطان الدولة(١) أبو شُجاع مَلك العراق:

وهو ابن أبي نصر بهاء الدولة بن عَضُد الدولة، الخامس عشر مِن مُلوك بني بويه، والسابع مِن مُلوكهم في العراق، وليَ المُلك بعد أبيه، وسار مِن أرجان إلى شيراز، وولّى أخاه جلال الدولة أبا طاهر بن بهاء الدولة البصرة، وأخاه أبا الفوارس كِرمان.

في هذه السُنّة خَلعَ سُلطان الدولة على أبي الحسن بن مزيد الأسدي، وهو أوّل مَن تقدّم مِن أهل بيته، وفيها قَلّد الرضي الموسوي - صاحب الديوان المشهور - نقابة العلويّين ببغداد وخلعَ عليه السواد، وهو أوّل طالبيٍّ خُلع عليه السواد.

الحربُ بينَ سُلطان الدولة وأخيه أبي الفوارس:

لمّا ولّى سُلطان الدولة - بعد انتقال ملك أبيه إليه - أخاه أبا الفوارس كرمان اجتمع إليه الدَيلم، وحسّنوا له مُحاربة أخيه وأخذِ البلاد منه، فتَجهّز وتَوجّه إلى شيراز، فلم يَشعر سُلطان الدولة حتّى دخل أبو الفوارس إلى شيراز، فجمع عساكره وسار إليه فحاربه، فانهزم أبو الفوارس وعاد إلى كرمان، فتبعه إليها فخرج منها هارباً إلى خُراسان، وقصد يمين الدولة محمود بن سبكتكين وهو ببست، فأكرمه وعَظّمه وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأجلسه فوق دارا بن قابوس بن وشمكير، فقال دارا:

نحن أعظم محلاًّ منهم؛ لأنّ أباه

____________________

(١) في تاريخ ابن كثير ج١١ ص٣٥٢ في يوم الخميس غرة ربيع الأول سنة ٤٠٤هـ منها جلس الخليفة القادر في أبهة الخلافة، وأحضر بين يديه سُلطان الدولة فخلع عليه سبع خلع على القادة، وعمّمه بعمامة سوداء، وقلّده سيفاً وتاجاً مرصعاً، وسوارين وطوقاً، وعقد له لواءين بيده، ثُمّ أعطاه سيفاً، وقال الخادم: قلّده به فهو شرف له ولقبه، بفتح شرف الأرض وغر بها. وكان ذلك يوماً مشهوداً، حضره القضاة والأُمراء والوزراء.

٣٠٩

وأعمامه خدموا آبائي، فقال محمود: لكنّهم أخذوا المُلك بالسيف، أراد بهذا نُصرة نفسه حيث أخذ خُراسان مِن السامانية، ووعد محمود أنْ يَنصره.

ثُمّ إنّ أبا الفوارس باع جوهرتين كانتا على جبهة فَرسه بعشرة آلاف دينار، فاشتراهما محمود وحملهما إليه وقال له:

مِن غلطكم تتركون هذا على جبهة الفرس وقيمتا ستّون ألف دينار، ثُمّ إنّ محموداً سيّر جيشاً مع أبي الفوارس إلى كرمان مُقدّمهم أبو سعيد الطائي وهو مِن أعيان قوّاده، فسارَ إلى كرمان فملكها، وقصد بلاد فارس وقد فارقها سُلطان الدولة إلى بغداد فدخل شيراز، فلمّا سَمع سُلطان الدولة عاد إلى فارس، فالتقوا هُناك واقتتلوا فانهزم أبو الفوارس، وقُتِل كثير مِن أصحابه وعادوا بأسوأ الحال، ومَلك سُلطان الدولة بلاد فارس، وهرب أبو الفوارس سَنة ثمان وأربعمئة إلى كرمان، فسيّر سُلطان الدولة الجيوش بإثره فأخذوا كرمان منه، فلحق بشمس الدولة بن فَخر الدولة بن بويه صاحب همدان، ولم يُمكنه العود إلى يمين الدولة؛ لأنّه أساء السيرة مع أبي سعيد الطائي، ثُمّ فارق شمس الدولة ولَحق بمُهذّب الدولة صاحب البطيحة، فأكرمه وأنزله داره، وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة مِن البصرة مالاً وثياباً، وعَرضَ عليه الانحدار إليه فلم يفعل، وتَردّدت الرُسل بينه وبين سُلطان الدولة، فأعاد إليه كرمان وسُيّرت إليه الخِلَع والتقليد بذلك، وحُملت إليه الأموال فعاد إليها.

وفاة أمير البطيحة مُهذّب الدولة ومِلك سُلطان الدولة:

في جمادى الأولى مِن هذه السُنّة توفّي مُهذّب الدولة أمير البطيحة، وتحدّث الجُند بإقامة وَلده أبي الحسين مقامه، فبلغ ابن أُخت مُهذّب الدولة أبو محمّد عبد الله بن بنى، فتَوثّب على أبي الحسين بممالئة الدَيلم، واستولى على البطيحة وقَتل ابن خاله، ولم يَمكث في الإمارة إلاّ أقل مِن ثلاثة أشهر، وتوفّي فوليها بعده أبو علي عبد الله الحسين بن بكر الشرابي - وكان مِن خواصّ مُهذّب الدولة - فصار أمير البطيحة، وبذل للمَلك سُلطان الدولة بذولاً فأقرّه عليها، وبقي إلى سَنة عشر وأربعمئة، فسيّر إليه سُلطان الدولة صدقة بن فارس المازياري، فمَلك البطيحة وأسر أبا عبد الله الشرابي فبقي عنده أسيراً إلى أنْ توفّي، وبقيت البطيحة في إمارة صدقة إلى أنْ توفّي سَنة ٤١٢ فوليها سابور بن المرزبان، وأقرّه مُشرّف الدولة.

ثُمّ إنّ

٣١٠

أبا نصر شيرزاد بن الحسن ابن مروان زاد في المُقاطعة فلَم يَدخل سابور فيها، فوليها أبو نصر وفارقها سابور.

ولاية ابن سهلان العراق لسُلطان الدولة:

في سَنة ٤٠٩ عرضَ سُلطان الدولة على الرخيمي ولاية العراق، فقال:

ولاية العراق تحتاج إلى مَن فيه عسف وخرف، وليس غير ابن سهلان، وأنا أخلفه هاهُنا، فولاّه سُلطان الدولة العراق في المحرّم، فسار مِن عنده فلمّا كان ببعض الطريق تركَ ثقله وأصحابه، وسار جريدة في خمسمئة فارس مع طراد ابن دبيس الأسدي يطلب مهارش ومضر ابني دبيس، وجرى ما ذُكر في مكانه مِن تاريخ بني دبيس فاطلبه هناك.

السادس عشر مِن مُلوك بني بويه والثامن مِن مُلوكهم في العراق: مُشرّف الدولة بن بهاء الدولة:

في ذي الحَجّة سَنة ٤١١ عَظُم أمرَ أبي علي مُشرّف الدولة بن بهاء الدولة وخوطب بأمير الأُمراء، ثُمّ مَلك العراق وأزال عنه أخاه سُلطان الدولة، وكان سَببه أنّ الجُند شغبوا على سُلطان الدولة ومنعوه مِن الحركة، وأراد ترتيب أخيه مُشرّف الدولة في المُلك، فأُشير على سُلطان الدولة بالقبض عليه فلم يُمكنه ذلك، وأراد سُلطان الدولة الانحدار إلى واسط، فقال الجند:

إمّا أنْ تجعل عندنا وَلدك أو أخاك مُشرّف الدولة، فراسل أخاه بذلك فامتنع ثُمّ أجاب بعد مُعاودة، ثُمّ إنّهما اتّفقا واجتمعا ببغداد واستقرّ بينهما أنّهما لا يستخدمان ابن سهلان، وفارق سُلطان الدولة بغداد وقصد الأهواز، واستخلف أخاه مُشرّف الدولة على العراق، فلمّا انحدر سُلطان الدولة ووصل إلى تستر استوزر ابن سهلان، فاستوحش مُشرّف الدولة، فأنفذ سُلطان الدولة وزيره ابن سهلان ليُخرج أخاه مُشرّف الدولة مِن العراق، فجمع مُشرّف الدولة عسكراً كثيراً منهم أتراك واسط وأبو الأغر دبيس بن عليّ بن مزيد، ولقي ابن سهلان عند واسط فانهزم ابن سهلان وتحصن بواسط، وحاصره مُشرّف الدولة وضيّق عليه، فغلت الأسعار حتّى بلغَ الكرّ مِن الطعام ألف دينار قاسانية، وأكلَ الناس الدواب حتّى الكلاب، فلمّا رأى ابن سهلان إدبار أموره سلّم البلد واستخلف مُشرّف

٣١١

الدولة وخرج إليه، وخوطب حينئذ مُشرّف الدولة بشاهنشاه، وكان ذلك في آخر ذي الحجّة، ومضت الدَيلم الّذين كانوا باسط في خدمته، وساروا معه فحلف لهم وأقطعهم، واتّفق هو وأخوه جلال الدولة أبو طاهر، فلمّا سمع سُلطان الدولة ذلك سار عن الأهواز إلى أرجان، وقُطعتْ خُطبته مِن العراق وخطب لأخيه ببغداد آخر المُحرّم سَنة اثنتي عشرة وأربعمئة، وقُبضَ على ابن سهلان وكحل، ولمّا سَمع سُلطان الدولة بذلك ضعفت نفسه، وسار إلى الأهواز في أربعمئة فارس، فقلّت عليهم الميرة فنهبوا السواد في طريقهم، فاجتمع الأتراك الّذين بالأهواز وقاتلوا أصحاب سُلطان الدولة ونادوا بشعار مُشرّف الدولة، وساروا منها فقطعوا الطريق على قافلة وأخذوها وانصرفوا.

قتلُ أبي غالب وزير مُشرّف الدولة:

لمّا قُطعت في هذه السَنة الخُطبة لسُلطان الدولة وخُطب لمُشرّف الدولة في العراق طلبَ الدَيلم منه أنْ ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان، فأذن لهم وأمر وزيره أبا غالب بالانحدار معهم، فقال:

إنّي إنْ فعلتُ خاطرتُ بنفسي، ولكن أبذلها في خدمتك، ثُمّ انحدر في العساكر، فلمّا وصل إلى الأهواز نادى الدَيلم بشعار سُلطان الدولة، وهجموا على أبي غالب فقتلوه.

الصُلح بين سُلطان الدولة ومُشرّف الدولة:

في سَنة ٤١٣ اصطلح سُلطان الدولة وأخوه مُشرّف الدولة، وحَلف كلّ واحد منهما لصاحبه، وكان الصُلح بسعي مِن أبي محمّد بن مكرم ومُؤيّد الدولة الرخجي وزير مُشرّف الدولة، على أنْ يكون العراق جميعه لمُشرّف الدولة، وفارس وكرمان لسُلطان الدولة.

وزارة أبي القاسم المغربي لمُشرّف الدولة:

في سَنة ٤١٤ قَبض مُشرّف الدولة على وزيره مُؤيّد الدولة المَلك الرخجي في شهر رمضان، وكانت وزارته سنتين وثلاثة أيّام، وكان سَبب عزله أنّ الأثير الخادم تغيّر عليه؛ لأنّه صادر ابن شعيا اليهودي على مئة ألف دينار، وكان متعلّقاً بالأثير فسعى وعزله، واستوزر بعده أبا القاسم الحسين بن عليّ بن الحسين المغربي، ومولده بمصر سَنة سبعين وثلاثمئة

٣١٢

وكان أبوه مِن أصحاب سَيف الدولة بن حمدان، فسار إلى مصر فتولّى بها فقَتَله الحاكم، فهرب وَلده أبو القاسم إلى الشام، وقصد حسّان بن المفرج بن الجرّاح الطائي، وحمله على مُخالفة الحاكم والخروج عن طاعته ففعل ذلك، وحسّن له أنْ يُبايع أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلوي أمير مكّة فأجابه إليه، واستقدمه إلى الرملة وخوطب بأمير المؤمنين، فأنفذ الحاكم إلى حسّان مالاً جليلاً وأفسد معه حال أبي الفتوح، فأعاده حسّان إلى وادي القُرى، وسار أبو الفتوح منه إلى مكّة، ثُمّ قصد أبو القاسم العراق واتّصل بفَخر المُلك، فاتّهمه القادر بالله؛ لأنّه مِن مصر، فأبعده فَخر المُلك فقصد قرواشاً بالموصل، فكَتب له ثُمّ عاد عنه، وتنقلت به الحال إلى أنْ وُزر بعد مؤيّد المُلك الرخجي.

قدوم مُشرّف الدولة إلى بغداد ولقاء القادر بالله:

في هذه السُنّة في المُحرّم قَدم مُشرّف الدولة إلى بغداد، ولقيه القادر بالله في الطيار وعليه السواد، ولم يلقَ قبله أحداً به مِن مُلوك بني بويه.

الوحشةُ بينَ مُشرّف الدولةِ والأتراك وعَزل المَغربي:

في سنة ٤١٥ تأكّدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم ومعه الوزير ابن المَغربي وبين الأتراك، فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربي المَلك مُشرّف الدولة، فحبس في الانتزاح إلى بلد يأمنان فيه على أنفسهما، فقال: أنا أسير معكما، فساروا جميعاً ومَعهم جماعة مِن مُقدّمي الدَيلم إلى السنديّة وبها قرواش، فأنزلهم ثُمّ ساروا كلّهم إلى أوانا، فلمّا عَلم الأتراك عُظم ذلك عليهم وانزعجوا منه، وأرسلوا المُرتضى وأبا الحسن الزينبي وجماعة مِن قوّاد الأتراك يعتذرون ويقولون: نحن العبيد، فكَتب إليهم أبو القاسم المَغربي:

إنّني تأملّت ما لكم مِن الجامكيات فإذا هي ستمئة دينار، وعلمتُ دَخل بغداد فإذا هو أربعمئة ألف دينار، فإنْ أسقطتم مئة ألف دينار تحمّلت بالباقي.

فقالوا: نحن نُسقطها، فاستشعر منهم أبو القاسم المغربي فهرب إلى قرواش، فكانت وزارته عَشرة أشهُر وخمسة أيّام، فلمّا أُبعد خرج الأتراك، فسألوا المَلك والأثير الانحدار معهم، فأجابهم إلى ذلك وانحدروا جميعهم.

٣١٣

وفاةُ سُلطان الدولة ومِلك وَلده أبي كاليجار:

في هذه السَنة في شوّال توفّي سُلطان الدولة أبو شجاع ابن بهاء الدولة أبي نصر ابن عَضد الدولة بشيراز، وكان عُمره اثنتين وعشرين سَنة وخمسة أشهر، وكان ابنه أبو كاليجار بالأهواز، فطلبه الأوحد أبو محمّد ابن مكرم ليَملك بعد أبيه، وكان هواه معه، وكان الأتراك يُريدون عمّه أبا الفوارس بن بهاء الدولة صاحب كرمان، فكاتبوه يَطلبونه إليهم أيضاً، فتأخّر أبو كاليجار عنها فسبقه عمّه أبو الفوارس إليها فمَلكها، وكان أبو المكارم بن أبي محمّد بن مكرم قد أشار على أبيه - لمّا رأى الاختلاف - أنْ يسير إلى مكان يأمَن فيه على نفسه، فلم يقبل قوله فسار، وتَركه وقصد البصرة فندِم أبوه حيث لم يكن معه، فقال له العادل أبو منصور بن مافنه:

المصلحة أنْ تقصد سيراف وتكون مالك أمرك، وابنك أبو القاسم بعمان، فتحتاج الملوك إليك.

فرَكب سفينة ليمضي إليها، فأصابه بَرد فبطل عن الحركة، وأرسل العادل بن مافنة إلى كرمان لإحضار أبي الفوارس، فسار إليه العادل وأبلغه رسالة ابن مكرم باستدعائه، فسار مُجدّاً ومعه العادل فوصلوا إلى فارس، وخرج ابن مكرم يلقى أبا الفوارس ومعه الناس، فطالبه الأجناد بحقّ البيعة فأحالهم على ابن مكرم، فتضجّر ابن مكرم، فقال له العادل:

الرأي أنْ تبذل مالك وأموالنا حتّى تمشي الأُمور، فانتهره فسكت، وتلوّم ابن مكرم بإيصال المال إلى الأجناد، فشكوه إلى أبي الفوارس، فقبض عليه وعلى العادل بن مافنة، ثُمّ قَتل ابن مكرم واستبقى ابن مافنة، فلمّا سَمع ابنه أبو القاسم بقتله صار مع المَلك أبي كاليجار وأطاعه، وتجّهز أبو كاليجار وقام بأمره أبو مُزاحم صندل الخادم - وكان مُربيه - وساروا بالعساكر إلى فارس، فسيّر عمّه أبو الفوارس عسكراً مع وزيره أبي منصور الحسن بن عليّ الفسوي لقتاله، فوصل أبو كاليجار والوزير متهاونٌ به لكثرة عسكره، فأتوه وهو نائم وقد تفرّق عسكره في البَلد يبتاعون ما يحتاجون إليه، وكان جاهلاً بالحرب، فلمّا شاهدوا أعلام أبي كاليجار - وهم على اضطراب - انهزموا، وغَنم أبو كاليجار وعسكره أموالهم ودوابهم وكلّ ما لهم، فلمّا انتهى خَبر الهزيمة إلى عمّه أبي الفوارس سار إلى كرمان، ومَلك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز.

٣١٤

عودُ أبي الفَوارس إلى فارس:

ولمّا مَلك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز، جرى على الدَيلم الشيرازيّة مِن عسكره ما أخرجهم عن طاعته، وتمنّوا معه أنّهم كانوا قُتلوا مع عمّه، وكان جماعة مِن الدَيلم بمدينة فسا في طاعة أبي الفوارس، وهُم يريدون أنْ يُصلحوا حالهم مع أبي كاليجار ويَصيروا معه، فأرسل إليهم الدَيلم الّذين بشيراز يُعرّفونهم ما يَلقونه مِن الأذى، ويأمرونهم بالتمسّك بطاعة أبي الفوارس ففعلوا ذلك.

ثُمّ إنّ عسكر أبي كاليجار طالبوه بالمال وشغبوا عليه، فأظهر الديلم الشيرازيّة ما في نفوسهم مِن الحقد، فعجز عن المقام معهم فسار عن شيراز إلى النوبندجان - ولقيَ شدّة في طريقه - ثُمّ انتقل عنها لشدّة حرّها وخاصّة هوائها، ومرِض أصحابه، فأتى شُعب بوان فأقام به، فلمّا سار عن شيراز أرسل الديلم الشيرازيّة إلى عمّه أبي الفوارس يحثّونه على المجيء إليهم ويُعرّفونه بُعد أبي كاليجار عنهم، فسار إليهم فسلّموا إليه شيراز، وقصد إلى أبي كاليجار بشُعب بوان ليحاربه ويُخرجه عن البلاد، فاختار العسكران الصُلح فسفروا فيه، فاستقرّ لأبي الفوارس كرمان وفارس، ولأبي كاليجار خوزستان، وعاد أبو الفوارس إلى شيراز، وسار أبو كاليجار إلى أرجان.

ثُمّ إنّ وزير أبي الفوارس خبط الناس وأفسد قلوبهم وصادرهم، واجتاز به مالٌ لأبي كاليجار والدَيلم الّذين معه فأخذه، فحينئذ حثّ العادلُ ابن مافنة صندلاً الخادم على العود إلى شيراز، وكان قد فارق بها نعمة عظيمة وصار مع أبي كاليجار، وكان الديلم يُطيعونه، فعادتْ الحال إلى أشدّ ما كانت عليه، فسار كلّ واحد مِن أبي كاليجار وعمّه أبي الفوارس إلى صاحبه والتقوا واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس إلى دارا بجرد ومَلك أبو كاليجار فارس، وعاد أبو الفوارس فجمع الأكراد فأكثر، فاجتمع معه منهم نحو عشرة آلاف مُقاتل، فالتقوا بين البياء واصطخر فاقتتلوا أشدّ مِن القتال الأوّل، فعاود أبو الفوارس الهزيمة، فسار إلى كرمان، واستقرّ مُلك أبي كاليجار بفارس سَنة سبع عشر وأربعمئة، وكان أهل شيراز يكرهونه.

٣١٥

السابع عَشر مِن مُلوك بني بويه والتاسع مِن مُلوكهم في العراق: أبو كاليجار

في سَنة ٤١٨ توفّي في ربيع الأوّل المَلك مُشرّف الدولة أبو عليّ بن بهاء الدولة، وهو ابن ثلاث وعشرين سَنة وثلاثة أشهر، وكان مُلكه خمس سنين وخمسة وعشرين يوماً، وكان كثير الخير قليل الشرّ عادلاً حَسِن السيرة، ولمّا توفّي خُطبَ ببغداد بعد موته لأخيه أبي طاهر جلال الدولة، وهو بالبصرة وطُلب إلى بغداد فلم يصعدْ إليها، وإنّما بلغَ إلى واسط وأقام بها ثُمّ عاد إلى البصرة، فقُطعتْ خُطبته وخُطب لابن أخيه المَلك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة في شوّال، وهو حينئذ صاحب خوزستان والحرب بينه وبين عمّه أبي الفوارس صاحب كرمان بفارس، فلمّا سمع جلال الدولة بذلك أصعد إلى بغداد، فانحدر عسكرها ليردّوه عنها، فلقوه بالسيب - مِن أعمال النهروان - فردّوه فلم يَرجع فرموه بالنشّاب ونهبوا بعض خزائنه، فعاد إلى البصرة، وأرسلوا إلى المَلك أبي كاليجار ليَصعد إلى بغداد ليُملّكوه فوعدهم الإصعاد، ولم يُمكنه لأجل صاحب كرمان، ولمّا أصعد جلال الدولة كان وزيره أبا سعد بن ماكولا.

مُتفرّقات عن أبي كاليجار:

في سَنة ٤١٧ أحرق خفاجة الأنبار بعد نهبها، وأظهروا الطاعة لأبي كاليجار وخطبوا له بالكوفة.

وفيها كثُر تسلّط الأتراك ببغداد، وأكثروا مصادرات الناس وأخذوا الأموال حتّى إنّهم قسطوا على الكرخ خاصّة مئة ألف دينار، وعظُم الخَطب وزاد الشرّ وأُحرقت المنازل والدروب والأسوق، ووقعتْ الحرب بين العامّة والجُند مما أدّى إلى نَظر القوّاد وعقلاء الجُند في هذا الأمر، ولمّا رأوا أنّ أبا كاليجار لا يَصل إليهم، وأنّ البلاد قد خربت، وطَمع فيهم المُجاورون مِن العَرب والأكراد راسلوا جلال الدولة في الحُضور إلى بغداد، فحَضر، كما سَنذكر ذلك فيما بعد.

وفيها عَصت البطيحة على أبي كاليجار، ومُقدّم أهلها أبو عبد الله الحسين بن بكر الشرابي الّذي كان قديماً صاحب البطيحة، وكان سَبب هذا الخلاف أنّ المَلك أبا كاليجار سيّر وزيره أبا أحمد بن بابشاذ إلى البطيحة، فعسف الناس وأخذ أموالهم، وأمر الشرابي

٣١٦

فوضع على كلّ دارٍ بالصليق قسطاً، وكان في صحبته ففعل ذلك، فتفرّقوا في البلاد وفارقوا أوطانهم، فعَزم مَن بقيَ على أنْ يستدعوا مَن يَتقدّم عليهم في العصيان على أبي كاليجار وقتل الشرابي، فعَلِم الشرابي بذلك فحضر عندهم واعتذر إليهم، وبذل مِن نفسه مُساعدتهم على ما يُريدونه فرضوا به، وحَلفوا له وحَلف لهم وأمرهم بكتمان الحال، وعاد إلى الوزير فأشار عليه بإرسال أصحابه إلى جهاتٍ ذكرها ليحصلوا الأموال فقبل منه، ثُمّ أشار عليه بإحدار سُفنه إلى مكان ذَكره ليُصلح ما فَسَد منها ففعل، فلمّا تمّ له ذلك وثبَ هو وأهل البطيحة عليه وأخرجوه مِن عندهم، وكان عندهم جماعة مِن عَسكر جلال الدولة في الحَبس، فأخرجوهم واستعانوا بهم واتّفقوا معهم، وفتحوا السواقي وعادوا إلى ما كانوا عليه أيّام مُهذّب الدولة، وقاتلوا كلّ مَن قصدهم وامتنعوا فتمّ لهم ذلك، ثُمّ قصدوا ابن المعيراني، فاستولى على البطيحة وفارقها الشرابي إلى دبيس بن مزيد فأقام عنده مُكرماً، وكان ذلك سنة ٤١٨.

الصُلح بينَ أبي كاليجار وعمّه أبي الفوارس:

في هذه السَنة استقرّ الصُلح بين أبي كاليجار وعمّه أبي الفوارس صاحب كرمان، وكان أبو كاليجار قد سار إلى كرمان لقتال عمّه وأخذِ كرمان منه، فاحتمى منه بالجبال، وحَميَ الحرُّ على أبي كاليجار وعسكره فكثُرت الأمراض، فتراسلا في الصُلح فاصطلحا على أنْ تكون كرمان لأبي الفوارس، وبلاد فارس لأبي كاليجار ويَحمل إلى عمّه كلّ سَنة عشرين ألف دينار، ولمّا عاد أبو كاليجار إلى الأهواز جَعل أُمور دولته إلى العادل بن مافنة، فأجابه بعد امتناع.

الخُطبةُ ببغداد لجلال الدولة وهو الثامِن عَشر مِن مُلوك بَني بويه والعاشر مِن مُلوكهم في العراق

في جُمادى الأُولى مِن هذه السَنة خُطب للمَلك جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة ببغداد، وأصعد إليها مِن البصرة، فدخلها ثالث شهر رمضان، وكان سَبب ذلك أنّ الأتراك لمّا رأوا أنّ البلاد تَخرب، وأنّ العامة والعرب والأكراد قد طمعوا، وأنّهم ليس عِندهم سلطان يجمع كلمتهم

٣١٧

قصدوا دار الخلافة، وأرسلوا يعتذّرون إلى الخليفة مِن انفرادهم بالخُطبة لجلال الدولة أوّلاً، ثُمّ بردّه ثانياً وبالخطبة لأبي كاليجار، ويَشكرون الخليفة حيث لم يُخالفهم في شيء مِن ذلك، وقالوا:

إنّ أمير المؤمنين صاحب الأمر ونحن العبيد، وقد أخطأنا ونسأل العفوَ، وليس عندنا الآن مَن يجمع كلمتنا، ونسأل أنْ تُرسل إلى جلال الدولة ليصعد إلى بغداد ويَملك الأمر، ويَجمع الكَلمة ويُخطب له فيها، ويسألون يُحلفه الرسول السائر لإحضاره لهم، فأجابهم الخَليفة إلى ما سألوا، وراسله هو وقوّاد الجُند في الإصعاد واليمين للخليفة والأتراك، فحَلف لهم وأصعد إلى بغداد، وانحدر الأتراك إليه فلقوه في الطريق، وأرسل الخَليفة إليه القاضي أبا جعفر السمناني، فأعاد تجديد العَهد عليه للخليفة والأتراك ففعل.

ولمّا وصل إلى بغداد ونَزل النجمي فركب الخَليفة في الطيار وانحدر يلتقيه، فلمّا رآه جلال الدولة قبّل الأرض بين يديه، وركب في زبزبه ووقف قائماً، فأمره الخَليفة بالجلوس فقَدم وجلس، ودَخل إلى دار المَملكة بعد أنْ مضى إلى مَشهد موسى بن جعفر فزار، وقصد الدار فدخلها وأمرَ بضرب الطبل أوقات الصلوات الخمس، فراسله الخليفة في منعِه فقطعه غَضباً حتّى أذِن له في إعادته ففعل، وأرسل جلال الدولة مُؤيّد المُلك أبا علي الرخجي إلى أثير عنبر الخادم - وهو عند قرواش - يُعرّفه اعتضاده به واعتماده عليه ومحبته له، ويَعتذر إليه عن الأتراك فعَذرهم، وقال: هُم أولاد وإخوة.

شَغبُ الأتراكِ ببغداد على جلالِ الدولة:

في سَنة ٤١٩ ثارَ الأتراك ببغداد على جلال الدولة وشغبوا، وطالبوا الوزير أبا عليّ بن ماكولا بما لهم مِن العلوفة والادرار، ونهبوا داره ودور كُتّاب المَلك وحواشيه حتّى المُغنّين والمُخنّثين، ونَهبوا صياغات أخرجها جلال الدولة لتُضرب دنانير ودراهم وتُفرّق فيهم، وحصروا جلال الدولة في داره ومنعوه الطعام والماء، حتّى شَرب أهله ماء البئر، وأكلوا ثَمرة البستان، فسألهم أنْ يُمكّنوه مِن الانحدار، فاستأجروا له ولأهله وأثقاله سُفناً فجعل بين الدار والسُفن سرادقاً لتجتاز حَرمه فيه؛ لئلاّ يراهم العامّة والأجناد، فقصد بعض الأتراك السرادق، فظنّ جلال الدولة أنّهم يُريدون الحُرم، فصاح بهم يقول لهم:

بلغَ أمرُكم إلى الحُرم، وتقدّم إليهم وبيده طبر، فصاح صغار

٣١٨

الغُلمان والعامّة: جلال الدولة يا منصور، ونَزل أحدهم عن فَرسه وأركبه إيّاه، وقبّلوا الأرض بين يديه، فلمّا رأى قوّاد الأتراك ذلك هربوا إلى خيامهم بالرملة وخافوا على نفوسهم، وكان في الخوانة سلاح كثير، فأعطاه جلال الدولة أصاغر الغُلمان وجعلهم عِنده، ثُمّ أرسل إلى الخَليفة يُصلح الأمر مع أُولئك القوّاد، فأرسل إليهم الخليفة القادر بالله فأصلح بينهم وبين جلال الدولة وحلفوا، فقبّلوا الأرض بين يديه ورجعوا إلى منازلهم، فلم يمضِ غير أيّام حتّى عادوا إلى الشَغب، فباع جلال الدولة فَرشه وثيابه وخيمه وفرّق ثمنها فيهم حتّى سكنوا.

الاختلاف بينَ الدَيلم والأتراك بالبصرة:

في هذه السنة وليَ النفيس أبو الفتح بن أردشير البصرة، استعمله عليها جلال الدولة، فلمّا وصلَ إلى المسّان مُنحدراً إليها وقع بينه وبين الدَيلم الّذين بالمسّان وقعة استظهر عليهم وقَتل منهم، وكانت الفِتن بالبصرة بين الأتراك والديلم، وبها المَلك العزيز أبو منصور بن جلال الدولة فقويَ الأتراك بها، فأخرجوا الديلم فمضوا إلى الأُبُلّة وصاروا مع بختيار بن علي، فسار إليهم المَلك العزيز بالأُبُلّة ليُعيدهم ويَصلح بينهم وبين الأتراك، فكاشفوه وحملوا عليه ونادوا شعار أبي كاليجار، فعاد مُنهزماً في الماء إلى البصرة، ونَهب بختيار نهر الدير والأُبُلّة وغيرهما مِن السواد وأعانه الدَيلم، ونهبَ الأتراك أيضاً وارتكبوا المحظور ونهبوا دار بِنت الأوحد بن مكرم زوجة جلال الدولة.

استيلاءُ أبي كاليجار على البصرة:

لمّا بلغَ المَلك أبا كاليجار ما كان بالبصرة سَيّر جيشاً إلى بختيار، وأمره أنْ يقصد البصرة فيأخذها، فساروا إليها وبها المَلك العزيز بن جلال الدولة، فقاتلهم ليمنعهم فلم يكن له بهم قوّة فانهزم منهم، وفارق البصرة وكاد يَهلك هو مَن معه عَطشاً، فمَنّ الله عليهم بمطرِ جودٍ فشربوا منه وأصعدوا إلى واسط، ومَلك عسكر أبي كاليجار البصرة، ونهبَ الديلم أسواقها وسَلِم منها البعض بمال بذلوه لمَن يحميهم، وتتبّعوا أموال أصحاب جلال الدولة مِن الأتراك وغيرهم، فلمّا بلغَ جلال الدولة الخبر أراد الانحدار إلى واسط

٣١٩

، فلم يوافقه الجُند وطلبوا منه مالاً يُفرّق فيهم، فلم يكن عنده، فمدّ يَده في مُصادرات الناس وأخذ أموالهم، لا سيّما أرباب الأموال فصادر جماعة.

وفاةُ أبي الفوارس صاحبِ كرمان واستيلاءُ أبي كاليجار عليها:

في ذي القعدة مِن هذه السنة تُوفّي قوام الدولة أبو الفوارس بن بهاء الدولة صاحب كرمان، وكان قد تجهّز لقصد بلاد فارس وجمعَ عسكراً كثيراً، فأدركه أجلُه، فلمّا توفّي نادى أصحابه بشعار المَلك أبي كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونه إليهم، فسار مُجدّاً ومَلك البلاد بغير حَرب ولا قتال، وأمِن الناس معه، وكانوا يكرهون عمّه أبا الفوارس؛ لظُلمه، وسوء سيرته، وكان إذا شَرِب ضَربَ أصحابه، وضرب وزيره يوماً مائتي مقرعة، وحلفه بالطلاق أنّه لا يتأوه ولا يُخبر بذلك أحداً، فقيل إنّه سَمّوه حتّى مات.

استيلاءُ منصور بن الحسين على الجزيرة الدبيسيّة:

كان منصور بن الحسين الأسدي قد مَلك الجزيرة الدبيسية - وهي تُجاور خوزستان - ونادى بشعار جلال الدولة، وأخرج صاحبها طراد بن دبيس الأسدي سَنة ثماني عشرة وأربعمئة، فمات طراد عن قريب، فلمّا مات طراد سار ابنه أبو الحسن علي إلى بغداد، يسأل أنْ يُرسِل جلال الدولة معه عسكراً إلى بلده ليُخرج منصوراً له ويُسلّمه إليه - وكان منصور قد قَطع خُطبة جلال الدولة، وخطب للمَلك أبي كاليجار - فسيّر معه جلالُ الدولة طائفةً مِن الأتراك، فلمّا وصلوا إلى واسط لم يقف عليّ بن طراد حتّى تجمّع معه طائفة مِن عسكر واسط وسار عَجِلاً، واتّفق أنّ أبا صالح كوركير كان قد هَرب مِن جلال الدولة، وهو يُريد اللحِاق بأبي كاليجار، فسَمع هذا الخبر، فقال لمَن معه:

المصلحة أنّنا نُعين منصوراً، ولا نُمكّن عسكر جلال الدولة مِن إخراجه، ونتّخذ بهذا الفعل عَهداً عند أبي كاليجار.

فأجابوه إلى ذلك، فسار إلى مَنصور واجتمع معه، والتقاهم وعسكر جلال الدولة الّذين مع عليّ بن طراد ببسيرود، فاقتتلوا فانهزم عسكر جلال الدولة، وقُتل عليّ بن طراد وجماعة كثيرة مِن الأتراك، وهَلك كثير مِن المُنهزمين بالعَطش، واستقرّ مُلك منصور بها.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442