تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 107966
تحميل: 8800


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107966 / تحميل: 8800
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

وكاتبهما يُظهر لهما الطاعة، فعَلما أنّه يَخدعهما بذلك، فسار إليه أبو سعد وكان بأرجان ومعه عساكر كثيرة، واجتمع هو وأخوه الأمير أبو منصور على قصد شيراز ومُحاصرتها، على قاعدةٍ استقرّت بينهما مِن طاعة أخيهما المَلك الرحيم، فتوجّها نحوها فيمَن معهما مِن العساكر وحصرا فولاذ فيها، وطال الحصار إلى أنْ عُدِم القوتُ فيها وبلغَ السعر سبعة أرطال حنطة بدينار، ومات أهلها جوعاً، وكان مَن بقي فيها نحو ألف إنسان، وتعذّر المُقام في البلد على فولاد، فَخرج هارباً مع مَن في صُحبته مِن الديلم إلى نواحي البيضاء وقلعة اصطخر، ودخل الأمير أبو سعد والأمير أبو منصور شيراز وعساكرهما وملكوها وأقاموا بها.

وصولُ طغرلبك إلى بغداد والخُطبة له بها:

في تاريخ القلانسي يَذكر سَبب مجيء طغربك إلى بغداد ما خُلاصته:

وهو إنّه لمّا استفحل أمرُ الفساسيري وعَزم على نهبِ دار الخِلافة والقبضِ على الخليفة كاتَب الخليفة - وهو القائم بأمر الله - السلطان طغرلبك بن ميكال وهو بنواحي الري يُعرّفه صورة حال الفساسيري، ويبعثه على العودِ إلى العراق ويَدّارك أمرَ هذا الخارجي قبل تزايد طَمعه وإعضال خَطبه، وعاد الفساسيري مِن واسط وقصد دار الخِلافة في بغداد، وهي بالجانب الغربي في الموضع المَعروف بدار إسحاق، فهجمها ونَهبها وأحرقها ونقضَ أبنيتها واستولى على كلّ ما فيها، ووصلَ السُلطان طغرلبك إلى بغداد في شهر رمضان سَنة ٤٤٧، وتوجّه الفساسيري إلى الرحبة حين عَرف وصوله على الفرات، وكاتب المُستنصر بأمر الله صاحب مِصر يَذكر له كونه في طاعته وإخلاصه في موالاته، وعَزمه على إقامة الدعوة له في العراق، وأنّه قادر على ذلك، فأنجده وساعده بالأموال، وكَتب له بولاية الرحبة.

شاءَ القَدر أنْ تَضعُف خلافة بغداد والخَليفة، وأنْ يتجاذب سُلطانه الوهمي وقوّته الاسميّة كلّ مُتغلّب، وأنْ يكونَ له مِن الأمر ما تَفرضه عليه القوّة الغالبة مِن تقاليد ومراسيم، وإغداق ألقاب لم يَكن يعرفها الخُلفاء في عَهد عُنفوانهم وقبضهم على زمام المُلك والخلافة، وكان المُتغلّبون أيضاً في زَمن انحطاط الخِلافة وإسفاف الخُلفاء يَصرفون قوّتهم في خَضد شوكة الطامعين والطامحين إلى السلطة، والاستيلاء على الأطراف والاستبداد به،

٣٤١

مِن ذلك المُلك الواسع في حُروب مُستمرّة مع القريب والغريب مِن هُنا وهُناك، والمجال مُتّسع لكلّ مَن تُحدِّثه نفسه باقتطاع قِسم مِن أقسام الدولة التي أصبحت نَهباً مُقسّماً.

فكان لمُلوك البويهيّين في بلاد إيران ثُمّ في العراق التغلّب على الخلافة بعد أنْ غلبوا على دولٍ كثيرةٍ في بلاد إيران ومنهم بنو سامان، ونشأت أيضاً في بلاد إيران وما وراء النهر، الدولة التركيّة السبكتكينيّة، تُنازع بني بويه سُلطان إيران.

والدولة السلجوقية بعد ذلك تُنازع دولة آل سبكتكين وآل بويه الأمر، وهكذا كانت المُنازعات الدائمة تُضعِف مِن رُكن القوي، فيقوم مَن هو مُتمتّع بأشدّ منه قوّة فيُنزعه سُلطانه، دواليك.

وكان قد ضُعف المَلك الرحيم واستفحلت قوّة طغرلبك السلجوقي(١) ، فحدّثته نَفسه بالتغلّب على العراق وانتزاع سُلطان المَلك الرحيم آخر مُلوك بني بويه منه، وكان الأمر عليه هيّناً وهو في عُنفوان قوّته، والمَلك الرحيم في مُدّة انحلال قوّته، وما مَلك العراق إلاّ بمُلك عاصمته بغداد، حيث الاستيلاء على قاعدة السُلطان والخلافة معاً، فبعد أنْ فرغ طغرلبك مِن الريّ عاد إلى همذان في المُحرّم سَنة ٤٤٧، وأظهر إنّه يُريد الحجّ وإصلاح طريق مَكّة ومصر، وإزالة المُستنصر العلوي، وكاتب أصحابه بالدينور وقرميسين وحلوان وغيرها، فأمرهم بإعداد الأقوّات والعلوفات، فعَظُم الإرجاف ببغداد وفتّ في أعضاد الناس، وشغَب الأتراك ببغداد وقَصدوا ديوان الخلافة، ووصل السُلطان طغرلبك إلى حلوان، وانتشر أصحابه في طريق خُراسان، فأجفل الناس إلى غَربي بغداد، وأخرج الأتراك خيامهم إلى ظاهر بغداد، وسَمع المَلك الرحيم بقُرب طغرلبك مِن بغداد، فأصعد مِن واسط إليها، وفارقه البساسيري في الطريق؛ لمُراسلة وَرَدت مِن القائم في معناه إلى المَلك الرحيم:

أنّ البساسيري خَلعَ الطاعة وكاتب الأعداء - يعني المصريين - وأنّ الخليفةَ له على المَلك عُهود، وله على الخليفة مِثلها، فإنْ آثره فقد قَطع ما بينها، وإنْ أبعده وأصعد إلى بغداد تولّى الديوان تدبير أمرِه.

فقال المَلك الرحيم ومَن معه:

نحن لأوامر الديوان مُتّبعون وعنه مُفصلون، وكان سَبب ذلك ما ذُكر، وسار البساسيري إلى بلد نور الدولة دبيس بن مزيد لمُصاهرة بينهما، وأصعد المَلك الرحيم إلى بغداد،

____________________

(١) ابن ميكائيل بن سلجوق.

٣٤٢

وأرسل طغرلبك رسولاً إلى الخَليفة يُبالغ في إظهار الطاعة والعُبودية، وإلى الأتراك البغداديّين يَعدُهم الجميل والإحسان، فأنكر الأتراك ذَلك وراسلوا الخليفة في المعنى وقالوا:

إنّنا فَعلنا بالبساسيري ما فَعلنا وهو كبيرنا ومُقدّمنا بتَقدّم أمير المؤمنين، ووعدنا أمير المؤمنين بإبعاد هذا الخَصم عنّا، ونراه قد قَرب منّا ولم يُمنع مِن المجيء، وسألوا التَقدّم عليه في العود فغولطوا في الجواب، وكان رئيس الرُؤساء يُؤثِر مَجيئه، ويختار انقراض الدولة الديلميّة.

ثُمّ إنَّ المَلك الرحيم وصل إلى بغداد مُنتصف رمضان، وأرسل إلى الخَليفة يُظهر له العبوديّة، وأنّه قد سَلّم أمرَه إليه ليفعل ما تقتضيه العواطف معه في تقرير القواعد مع السُلطان طغرلبك، وكذلك قال مَن مع الرحيم مِن الأُمراء، فأُجيبوا بأنّ المصلحة أنْ يَدخل الأجناد خيامهم مِن ظاهر بغداد وينصبوها بالحريم، ويُرسلوا رسولاً إلى طغرلبك يبذلون له الطاعة والخُطبة، فأجابوا إلى ذلك وفعلوه، وأرسلوا رسولاً إليه فأجابهم إلى ما طلبوا ووعدهم الإحسان إليهم.

وتَقدّم الخليفة إلى الخُطباء بالخُطبة لطغرلبك بجامع بغداد، فخُطب له يوم الجمعة لثمان بقينَ مِن رمضان مِن السَنة، وأرسل طغرلبك يستأذن الخَليفة في دُخول بغداد فأذن له، فوصل إلى النهروان، وخرجَ الوزير رئيس الرُؤساء إلى لقائه، في موكب عَظيم مِن القُضاة والنُقباء والأشراف والشُهود والخَدم وأعيان الدولة، وصَحِبه أعيان الأُمراء مِن عسكر الرحيم، فلمّا عَلِم طغرلبك بهم أرسل إلى طريقهم الأُمراء ووزيره أبا نصر الكندري، فلمّا وصل رئيس الرُؤساء إلى السُلطان أبلغه رسالة الخَليفة، واستحلفه للخليفة وللمَلك الرحيم وأُمراء الأجناد، وسارَ طغرلبك ودخل بغداد يوم الاثنين لخمسٍ بقينَ مِن الشهر، ونَزل بباب الشماسية ووصل إليه قريش بن بدران صاحب الموصل، وكان في طاعته قبل هذا الوقت.

وثوبُ العامّة ببغداد بعَسكر طغرلبك وقبض الرحيم:

لمّا وصلَ السُلطان طغرلبك بغداد، ودخل عسكره البلد للامتيار وشراء ما يُريدونه مِن أهلها وأحسنوا مُعاملتهم، فلمّا كان الغد - وهو يوم الثلاثاء - جاء بعضُ العسكر إلى باب الأزج وأخذ واحداً مِن أهله ليطلب منه تبناً، وهو لا يَفهم ما يُريدون، فاستغاث عليهم، وصاح العامّة بهم ورجموهم وهاجوا عليهم، وسَمِع الناس الصياح فظنّوا أنّ المَلك الرحيم وعسكره قد

٣٤٣

عزموا على قِتال طغرلبك، فارتج البَلد مِن أقطاره وأقبلوا مِن كلّ حَدَب ينسلون يَقتلون مِن الغزّ مَن وُجد في محالّ بغداد، إلاّ أهل الكرخ فإنّهم لم يتعرّضوا إلى الغزّ، بل جمعوهم وحفظوهم.

وبلغَ السُلطان طغرلبك ما فعله أهل الكرخ مِن حماية أصحابه، فأمرَ بإحسان مُعاملتهم، فأرسل عَميد المُلك الوزير إلى عدنان بن الرضي نقيب العلويّين يأمره بالحُضور فحضر، فشكره عند السُلطان وتَرك عنده خيلاً بأمر السُلطان تَحرسه وتَحرس المَحلّة.

وأمّا عامّة بغداد، فلم يَقنعوا بما عَملوا حتّى خرجوا ومعهم جماعة مِن العسكر إلى ظاهر بغداد، يقصدون العَسكر السُلطاني، فلو تَبعهم المَلك الرحيم وعسكره لبلغوا ما أرادوا، لكنْ تخلّفوا ودخل أعيان أصحابه إلى دار الخلافة، وأقاموا بها نفياً للتُهمة عن أنفسهم؛ ظنّاً منهم أنّ ذلك ينفعهم.

وأمّا عسكر طغرلبك، فلمّا رأوا فِعل العامّة وظهورهم مِن البلد قاتلوهم، فقُتل بين الفريقين جَمع كثير وانهزمت العامّة، وجُرح فيهم وأُسر كثير، ونَهب الغزّ دربَ يحيى ودرب سليم وبه دور رئيس الرؤساء ودور أهله، فنُهب الجميع ونُهبت الرصافة، وترب الخُلفاء، وأُخذ منها مِن الأموال ما لا يُحصى؛ لأنّ أهل تلكَ الأصقاع نقلوا إليها أموالهم اعتقاداً منهم أنّها مُحترمة.ووصل النهبُ إلى أطراف نهر المعلى، واشتدّ البلاء على الناس وعظم الخوف، ونَقل الناس أموالهم إلى باب الثوبي وباب العامّة وجامع القصر، فتعطلّت الجُمُعات لكثرة الزحمة، وأرسل طغرلبك مِن الغد إلى الخليفة يَعتب، ونَسبَ ما جرى إلى المَلك الرحيم وأجناده، ويقول:

إنْ حضروا بَرئت ساحتُهم، وإنْ تأخّروا عن الحُضور أيقنت أنّ ما جرى إنّما كان بوضع منهم.

وأرسلَ للمَلك الرحيم وأعيان أصحابه أماناً لهم، فتقدّم إليهم الخليفة بقصده، فركبوا إليه وأرسل الخَليفة معهم رسولاً يُبرّئهم مما خامر خاطر السُلطان، فلمّا وصلوا إلى خيامه نهبهم الغزّ ونهبوا رسول الخليفة معهم، وأخذوا دوابهم وثيابهم، ولمّا دخل المَلك الرحيم إلى خيمة السُلطان أمرَ بالقبض عليه وعلى مَن معه، فقُبضوا كلّهم آخر شَهر رمضان وحُبسوا، ثُمّ حُمل الرحيم إلى قلعة السيروان، وكانت ولاية المَلك الرحيم على بغداد ستّ سنينَ وعشرة أيّام، ونُهب أيضاً قريش ابن بدران صاحب الموصل ومَن معه مِن العَرب، ونجا مسلوباً فاحتمى بخيمة بدر بن المهلهل، فألقوا عليه الزلالي حتّى أخفوه بها عن الغزّ، ثُمّ عَلِم السُلطان ذلك فأرسل إليه وخَلَع عليه

٣٤٤

وأمره بالعود إلى أصحابه وحلله تسكيناً له، وأرسل الخليفةُ إلى السُلطان يُنكر ما جرى مِن قَبض الرحيم وأصحابه، ونهبِ بغداد، ويقول:

إنّهم إنّما خرجوا إليك بأمري وأماني، فإنْ أطلقتَهم، وإلاّ فأنا أُفارق بغداد، فإنّي إنّما اخترتُك واستدعيتك اعتقاداً منّي أنّ تعظيمَ الأوامر الشريفة تزداد، وحُرمة الحريم تعظُم، وأرى الأمر بالضدّ.

فأطلقَ بعضَهم وأخذ جميع إقطاعات عسكر الرحيم، وأمرهم بالعسيّ في أرزاق يُحصّلونها لأنفسهم، فتوجّه كثير منهم إلى البساسيري ولزموه، فكثُر جمعه ونفق سوقه.

وأمر طغرلبك بأخذ أموال الأتراك البغداديّين، وأرسل إلى نور الدولة دبيس يأمره بإبعاد البساسيري عنه ففعل، فسار إلى حبة مالك بالشام، وكاتبَ المُستنصر صاحب مصر بالدخول في طاعته، وخَطب نور الدولة لطغرلبك في بلاده، وانتشر الغزّ السلجوقيّة في سواد بغداد، فنهبوا مِن الجانب الغربي مِن تكريت إلى النيل، ومن الشرقي إلى النهروانات وأسافل الأعمال، وأسرفوا في النَهب حتَى بلغَ ثَمن الثور ببغداد خمسة قراريط إلى عشرة، والحمار بقيراطين إلى خمسة، وخربَ السواد وأجلى أهله عنه، وضَمن السُلطان طغرلبك البصرة والأهواز مِن هزارسب بن بنكير بن عياض بثلاثمئة ألف وستّين ألف دينار، وأقطعه أرجان وأمره أنْ يَخطب لنفسه بالأهواز دون الأعمال الّتي ضَمنها، وأقطع الأمير أبا عليّ بن أبي كاليجار الملك قرميسين وأعمالها.

وقد انتهت دولة بني بويه في العراق بغَلبة طغرلبك على المَلك الرحيم التاسع عَشر مِن مُلوكهم والحادي عشر مِن مُلوكهم في العراق سنة ٤٤٧هـ، كما انقرضت في إيران، وفي سَنة ٤٥٠ توفّي المَلك الرحيم آخر مُلوك بني بويه بقلعة الري، وكان طغرلبك سَجنه أوّلاً بقلعة السيروان، ثُمّ نَقله إلى قلعة الري فتوفّي بها (سُبحانك اللّهمّ مالِك المُلك، تُؤتي المُلك مَن تشاء، وتَنزع المُلك ممَّن تشاء).

هذا ما استخرجته مِن أخبار الدولة البويهيّة، وجُلّه مِن كامل ابن الأثير، وهو أوثق مؤرّخ وأطول المُؤرّخين نَفساً في إيراد دقائق الأخبار وجليلها، وسَنضمّ إلى ذلك ما نقفُ عليه مِن أخبارهم في كُتب التاريخ الأُخرى، ومنه تعالى نَستمدُّ العونَ والعِصمة مِن الخطأ والزلل، وهو وليُّ الأمر كُلّه.

٣٤٥

مُتفرّقات عن فلول بَني بويه:

قد تقدّمَ أنّ السُلطان طغرلبك بعد أنْ استولى على بغداد وقَبض المَلك الرحيم أقطع الأمير أبا عليّ ابن المَلك أبي كاليجار قرميسين وأعمالها، فكان أبو علي مِن عُمّال طغرلبك ومِن المُقرّبين له، ولا غروّ فإنّه كان خَصماً لَدوداً للمَلك الرحيم.

ولمّا انحدر السُلطان إلى واسط سَنة إحدى وخمسين وأربعمئة بعد فَراغه مِن أمر بغداد ومكّن سُلطانه مِن البطائح، ونَهب عسكره ما بين واسط والبصرة والأهواز، أصعد إلى بغداد في صَفر سَنة ٤٥٢ هـ ومعه مِن جُملة حاشيته ومُقرّبيه أبو عليّ ابن المَلك كاليجار المَذكور.

وفي سَنة ٤٥٥ بعد أنْ عُقدَ للسُلطان طغرلبك على ابنة الخَليفة(١) توجّه مِن أرمينية إلى بغداد في المُحرّم، وكان مِن مُصاحبيه الأمير أبو عليّ ابن المَلك كاليجار، كان هذا آخرُ العَهد به ثُمّ انقطعت أخباره وأخبار بني بويه، فلم نَقفْ لهم على ذِكر بعد ذلك، والله غالبٌ على أمره وهو وحده مالِك المُلك وإليه مرجعُ الأمور.

إنّ للبويهيّين كغيرهم مِن الدول حَسنات وسيّئات، وكان لهم في خِدمة الشيعة وظُهور أمرهم بعد الخُفاء وإعلاء كَلمتهم ما هو مُسطّر لهم في تاريخ الشيعة والتَشيّع.

دارُ المَملكة التي بأعلى المخرم: (٢)

عن تاريخ بغداد ج١ ص١٠٥:

حدّثني هلال بن المحسن، قال: كانت دار المَملكة التي بأعلى المخرم مُحاذيةً الفرضة قديماً لسبكتكين غُلام مُعزّ الدولة، فنقضَ عَضُد الدولة أكثرها، ولم يستَبق إلاّ البيت السوسني الذي

____________________

(١) قال ابن الأثير: وهذا ما لم يَجز للخُلفاء مثله، فإنّ بني بويه مع تحكّمهم ومخالفتهم لعقائد الخُلفاء لم يَطمعوا في مثل هذا ولا ساموهم فِعله.

(٢) سُميَت مخرم بغداد بمخرم بن شريح بن مخرم بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو، وكانت له أقطعها أيّام نَزلت العَرب في عهد عُمر بن الخطّاب.

٣٤٦

هو في وسط أروقة مِن ورائها أروقة، في أطرافها قباب معقودة، وتتفتّح أبوابه الغربية إلى دِجلة وأبوابه الشرقيّة إلى صحن، مِن خلفه بُستان ونخل وشَجر، وكان عَضُد الدولة جعل الدار التي هذا البيت فيها دار العامّة، والبيت برسم جلوس الوزراء، وما يتّصل به مِن الأروقة والقباب مواضع للدواوين، والصحن مناماً لديلَم النوبة في ليالي الصيف.

قال هلال: وهذه الدار وما تَحتوي عليه مِن البيت المَذكور والأروقة خراب. ولقد شاهدّتُ مَجلس الوزراء في ذلك ومَحفل مَن يقصدهم ويَحضرهم، وقد جعله جلال الدولة اصطبلاً أقام فيه دوابه وسواسه.

وأمّا ما بناه عَضُد الدولة وَولده بعده في هذه الدار فهو مُتماسك على تَشعّثه.

قال الشيخ أبو بكر: ولمّا ورد طغرلبك الغُزي بغداد واستولى عليها عَمّر هذه الدار وجدّد كثيراً ممّا كان، وَهى منها في سَنة ثمانٍ وأربعين وأربعمئة، فمَكثَ كذلك إلى سَنة خمسين وأربعمئة، ثُمّ أُحرقت وسُلب أكثر آلاتها، ثُمّ عُمّرت بعد وأُعيد ما كان أُخذ منها.

حدثني القاضي أبو القاسم عليّ بن المحسّن التنوخي قال، سمعت أبي يقول: ماشيتُ الملك عَضُد الدولة في دار المَملكة بالمخرم التي كانت دار سبكتكين حاجب مُعزّ الدولة مِن قبل، وهو يتأمّل ما عُمل وهُدم منها، وقد كان أراد أنْ يترك في الميدان السبكتكيني أذرُعا ليجعله بُستاناً، ويردّ بَدل التُراب رملاً، ويطرح التُراب تحت الروش على دجلة، وقد ابتاع دوراً كثيرةً كِباراً وصِغاراً، ونقضها ورمى حيطانها بالفيلة تخفيفاً للمُؤنة، وأضاف عَرصاتها إلى الميدان، وكانت مِثل الميدان دُفعتين وبنى على الجميع مُسنّاة، فقال لي في هذا اليوم - وقد شاهد ما شاهد ممّا عُمل وقَدّر ما قَدّر لِما يُعمل -:

تدري أيّها القاضي كمْ أُنفق على قَلع ما قُلع مِن التُراب إلى هذه الغاية، وبناء هذه المُسنّاة السَخيفة مع ثَمن ما ابتيع مِن الدور واستُضيف؟

قُلت: أظنّه شيئاً كثيراً، فقال هو إلى وقتنا هذا تسعمئة ألف درهم صحاحاً، وتحتاج إلى مِثلها دُفعة أو دُفعتين حتّى يتكامل قَلع التُراب، ويحصل موضعه الرمل موازياً لوجه البستان، فلمّا فَرغ مِن ذلك وصار البُستان أرضاً بيضاء لا شيء فيها مِن غَرس ولا نبات، قال:

قد أُنفق على هذا حتّى صار كذا أكثر مِن ألفي ألف درهم صحاحاً، ثُمّ فكّر في أنْ يجعل شُرب البستان مِن دواليب ينصبها على دجلة، وعَلِم أنّ الدواليب لا

٣٤٧

تكفي فأخرج المهندسين إلى الأنهار التي في ظاهر الجانب الشرقي مِن مدينة السلام ليستخرجوا منها نهراً يسبح ماؤه إلى داره، فلم يَجدوا ما أرادوه إلاّ في نهر الخالص، فَعلّى الأرض بين البَلد وبينه تَعلية أمكَن معها أنْ يجري الماء على قَدر، مِن غير أنْ يَحدث به ضَرر، وعَمل تَلّين عَظيمين يُساويان سطح ماء الخالص ويرتفعان عن أرض الصحراء أذرُعاً، وشقّ في وسطهما نهراً جعل له خورين مِن جانبيه، وداس الجميع بالفيَلة دَوساً كثيراً حتّى قويَ واشتدّ وصَلُب وتلبد، فلما بلغَ إلى منازل البَلد وأراد سَوق النَهر إلى داره، عَمد إلى درب السلسلة فدكَّ أرضه دكّاً قويّاً، ورفع أبواب الدور وأوثقها، وبنى جوانب النهر طول البلد بالآجر والكلس والنورة حتّى وصل الماء إلى الدار، وسقى البُستان.

قال أبي: وبَلغتْ النَفقة على عَمل البُستان وسَوق الماء إليه، على ما سمعته مِن حواشي عَضُد الدولة، خمسة آلاف ألف درهم، ولعله قد أنفق على أبنية الدار على ما أظنّ مِثل ذلك.

وكان عَضُد الدولة عازماً على أنْ يَهدم الدور التي بين داره وبين الزاهر ويصل الدار بالزاهر، فماتَ قبلَ ذلك.

٣٤٨

٣٤٩

تاريخُ الدَولَةِ الصَفَويّة

بسم الله الرحمن الرحيم، حمداً للمُتفرّد بالمُلك تفرّده بالجبروت والملكوت، مَن له البداية وإليه النهاية، المُتوحّد بعزّه وسُلطانه تَوحُّده بالكبرياء والجلال، لا إله إلاّ هو وحده لا شريك له، وصلاةٌ على مَظهر لُطفه وآلائه، محمّد خاتم أنبيائه، مُبلّغ رسالته إلى خلقه كاملةً لا نقصَ فيها ولا خداج، خالدةً في الأرض خُلود ذِكره المجيد، وشريعته السمحة الغرّاء، وعلى آله المقتفين آثاره، والسالكين مناهجه.

وبعد، فإنّي سأُثبّت في هذه الصحائف تاريخ الدولة الصفويّة العلويّة، مِن دول الشيعة التي قامَ لها في أوائل المئة العاشرة سُلطان في البلاد الإيرانيّة عامٌّ امتدَّ إلى العراق، وثبتَ زهاء ثلاثة قرون، كان للشيعة منه خَير كثير ووردوا منه أعذب نمير.

مُقدّمة لا بُدّ منها:

امتدّت فُتوحات المسلمين في عَهد الخليفة عُمر بن الخطاب (رض) حتّى بلغت جيوشهم بلاد المَغرب، وحُدود الهِند شرقاً، إلى بلاد سيبيريا شمالاً، ففُتِحت مصر وبلاد الشام والعراق وإيران وبُخارى ومرو، وزالت مَملكة الأعاجم بعد انهزام يزدجرد آخر مُلوك بني ساسان، كما فُتحت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفّان(رض) افريقية وتونس والجزائر ومراكش، وتمّ غَزو بلاد الأندلس وجزيرة قبرص، وانتظمت هذه المَمالك وسواها ممّا تمّ مِن فَتح المَمالك الأُخرى مِن الشرق والغرب في تاج الخلافة الإسلامية الفتيّة مُتّحدة في ذلك التاج وإليها وحدها الورد والصدر على بُعد مقرّها عن قواعد تلك المَمالك مِن ولاة أطرافها، لا

٣٥٠

يُبرمون مِن دون أمرها أمراً، ولا يَنقضون مِن دون استشارتها حُكماً، حتّى إذا دبّت الفُرقة وانقسمت الأُمّة أحزاباً وأشياعاً، وخَرجت عن طبيعة الخلافة إلى طبيعة المُلك، وكان لذلك أثره البَيّن بعد المئة والثلاثين مِن عهد تلك الفتوحات، أخذ الطموح في نفوس الولاة الذين مَكّن لهم الانقسام مِن الفرصة السانحة باستقلال مَن يلي عَملاً مِن تلك الأعمال الواسعة بذلك العَمل، وبَلغَ نهايته في عَهد الخلافة العباسيّة التي استشرى فيها داء التنافس بالأمر والنهي، وقد أمكنهم منه بُعد دار الخلافة عن ولاياتهم، وامتداد نُفوذ الغريب على سُلطانها مِن الفُرس والتُرك والأكراد وما إليهم، فكانت البلاد الإيرانيّة غنيّة لكلّ طامح في الاستقلال، فكانت أوّل دولة نشأت الدولة الفارسيّة الصفاريّة، ثُمّ الدولة الغزنويّة فالسلجوقيّة فالمغوليّة، وقد قامت على انقاض السلجوقيّة، وانتهت هذه الدولة بخروج المَلك مِن يد أبي سعيد مِن آل تيمور إلى الدولة الصفويّة.

لَمحةٌ عن إيران

المُقتطف م٦٧ ص٥٤٠:

مساحة إيران ٦٢٨ ألف ميل مُربّع - أي أكثر مِن ثلاثة أضعاف فَرنسا وستّة أضعاف انكلترا - وعَدد سُكّانها يتراوح بين ثمانية ملايين نفس وعشرة ملايين - آخر إحصاء نفوسها يبلغ خمسة عشر مليوناً -، فهي أقل سُكّاناً مِن القُطر المصري، وإيراد حكومتها السَنوي نحو مليون جُنيه ونصف مليون حَسب ميزانيّة ١٩١٤، والأرض كثيرة الخَيرات، شديدة الخصب حيث توجد المياه لريّها، لكنّ وسائل الريّ قليلة، ولذلك فالجانب الأكبر منها قاحل، ويُزرع فيما يُروى منها القمح والشعير وسائر الحبوب والأرز والسكّر والتبغ والقُطن والفوة والخشاخش والحنّاء، ويُربّى فيها دود الحرير، ويكثر فيها الكَرم والزيتون، وأثمارها يُضرب المَثل بجودتها، ومواشيها كثيرة مِن البَقر والغَنم والمَعزى والجِمال والخيل والبغال، وفيها غابات واسعة جدّاً، ومعادنها كثيرة منها: الرصاص والنُحاس والقصدير والانتيمون والنيكل والكوبلت والمنغتيس والحديد والفَحم الحجري والملح والكبريت والبترول

٣٥١

والفيروز.

وقد بَلغت قيمة وارداتها سَنة ١٩٢٢ - ١٩٢٣ ما يَزيد على ١١ مليون جُنيه، وبلغتْ صادراتها في تلك السَنة ١٣١٠٦٨٣٦ جنيهاً.

وفي المُجلّد الـ ٢٨، ص٥٢٧:

مساحة بلاد الفُرس نحو ٦٣٠٠٠٠ ميل مُربّع - أي أكثر مِن ثلاثة أضعاف فرنسا وستّة أضعاف انكلترا - وعدد سُكّانها غير مَعروف تماماً، ولكنّه يُقدّر تقديراً بنحو تسعة ملايين ونصف مليون، فهي أقلّ سكّاناً مِن القُطر المَصري، وإيراد حُكومتها السَنوي نحو مليون وستمئة ألف جُنيه، أي نحو عُشر إيراد القُطر المصري، ومع ذلك لا يزال الشاه يُلقّب نفسه ويُلقّبه رعاياه بكلّ ألقاب التفخيم والتمجيد الموروثة مِن العُصور الغابرة كـ: شاهنشاه، وظلّ الله، وكعبة العالم، وينبوع العالم، وصراط السماء، والسُلطان الأعظم الّذي علمه الشمس وجنوده كالنجوم عَدّاً، إلى غير ذلك مِن الطنطنات الفارغة التي نَودّ أنْ يترفّع جلالته عنها، ويعود إلى مَعنى كَلمة مَلك الحقيقي وهو خادم الرعيّة لا مَعبودها.

وكانت بلاد الفرس في سالف عُهدها مِن أعظم ممالك الشرق، وقام فيها مُلوكٌ عِظامٌ مِثل قورش وكمبيس وداريوس، قادوا الفيالق ودوّخوا الممالك، وفي جُملة ما امتلك عُنوة القُطر المصري كلّه، وذلك مُنذ ألفين خمس مئة سَنة، وامتدّ مُلكهم مِن بلاد الهِند شَرقاً إلى أقصى آسيا غرباً وإلى جانبٍ كبيرٍ مِن شمالي أفريقية، والبلاد التي انجبتْ مِثل قورش وداريوس في القرون الغابرة، وكسرى في القرن السادس، وشاه عبّاس في القرن السابع عشر، لا يُستغرَب أنْ تَصير مِن المَمالك العظيمة، لا سيّما وأنّ الشعبَ الفارسي مِن أُرومة الشُعوب الأوروبيّة، وهو أصل لها في رأي كثيرين مِن الباحثين في أصل الأُمم.

والأرض كثيرة الخيرات، شديدة الخصب حيث توجد المياه لريّها، لكنّ وسائل الريّ قليلة، ولذلك فالجانب الأكبر منها قاحل، ويُزرع فيما يُروى منها القمح والشعير وسائر الحبوب والأرز والسكر والتبغ والقطن والفوة والخشخاش والحنّاء، ويُربّى فيها دود الحرير، وكان يصدر منها الحرير ما ثمنه سَبع مئة ألف جُنيه، ويكثر فيها الكَرْم والزيتون، وأثمارها يُضرب فيها المَثل بجودتها كالتُفّاح والإجاص والبُندق والجوز والخوخ

٣٥٢

والدراق والشمام، ومواشيها كثيرة مِن البقر والغَنم والمعزى والجِمال والخيل والبغال، وفيها غابات واسعة جدّاً.

نَسَبُ الصَفَويّين العلوي:

في كتاب الكُنى والألقاب تأليف المَرحوم المُحدّث الشيخ عبّاس القمّي في ترجمة صَفيّ الدين المُنتَسب إليه الصفويّون، قال:

هو قُطب الأقطاب بُرهان الأصفياء الكاملين الشيخ صَفيّ الدين أبو الفتح إسحاق ابن السيد أمين الدين جبرئيل الأردبيلي الموسوي، ينتهي نَسبه إلى حمزة بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، توفّي سَنة ٧٣٥ في أردبيل ودُفن فيها، ودُفن عنده جماعة كثيرة مِن أولاده وأحفاده، كالشيخ صَدر الدين والشيخ جنيد والسُلطان حيدر وابنه الشاه إسماعيل والشاه محمّد خدابنده والشاه عبّاس الأوّل وغيرهم، يُنسب إليه السلاطين الصفويّة.

وفي خُلاصة الأثر للمُحبّي بترجمة (الشاه عبّاس) وساق نسبه هكذا:

ابن السُلطان محمّد خدابنده بن طهماسب بن شاه إسماعيل بن سُلطان حيدر بن سُلطان شيخ جنيد بن سُلطان الشيخ صدر الدين إبراهيم بن سُلطان خواجه عليّ بن شيخ صدر الدين موسى بن سُلطان شيخ صفيّ الدين أبي إسحاق بن شيخ أمين الدين جبريل بن السيّد صالح بن السيّد قُطب الدين أحمد بن السيّد صلاح الدين رشيد بن السيّد محمّد الحافظ كلام الله ابن السيّد عوض الخواص بن السيّد فيروز شاه درين كلاه بن محمّد شَرف شاه بن محمّد بن أبي حسن بن محمّد بن إبراهيم جعفر بن محمّد بن إسماعيل بن محمّد بن أحمد العراقي بن محمّد قاسم بن أبي القاسم حمزة بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمّد الباقر بن الإمام عليٍّ زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام عليّ بن أبي طالب (رضوان الله تعالى عليهم). هذا نَسب سلاطين العَجم الّذين منهم صاحب التَرجُمة.

وفي تاريخ إيران لشاهين مكاريوس:

لم يَقُمْ في بلاد إيران دولةٌ أشرف مِن هذه الدولة أصلاً، ولا أطيَب فرعاً، ولا أكرم مَبدءاً، فقد كانت العائلة الصفويّة مِن عهد مؤسّسها الشيخ صفيّ الدين عائلة عُلماءٍ أعلام، وأئمّةٍ كِرام، وأصحاب تقوى يُوقّرهم الأنام، وقبورهم تُزار الآن مثِل قُبور

٣٥٣

الأولياء والكرام، وكان لهذا الشيخ الفاضل أعوان يَصدعون بأمره، وهو لا يأمر بغير الطيب والإحسان، وخَلفه ابنه صدر الدين وعَقِبه مِن الأولياء مشاهير مثل: خواجه علي وجنيد وحيدر ممَّن اشتهروا بالفضل والعِلم والتقوى، وكان صَدر الدين في أيّام تيمور وقد أخذ له مقرّاً في مدينة أردبيل مِن أعمال آذربيجان مثل أبيه، فزاره يوماً هذا البَطل العظيم، وسأله أنْ مُرْ بما تُريد أقضِهِ في الحال.

قال: أُريد مِنك أنْ تُطلق سبيل الأسرى الذين أتيتَ بهم مِن بلاد الأتراك، ففعل تيمور بإشارته، وحفظ الأتراك هذا الجميل لصدر الدين وعائلته، وكانوا بعدئذ هُم السَبب في توليتها المُلك.

وأشهر ما يُذكر عن خواجه عليّ أنّه حجّ إلى القُدس الشريف ومات فيه(١) ، وخَلَفه حفيده جنيد فاجتمع لديه خَلقٌ كثير، حتى خاف الأتراك شرّه وحارب أحد رؤسائهم، فاضطرّه إلى الفِرار إلى ديار بَكر حيث قابله حاكمها الأمير حسن بالإكرام وزوّجه أُخته، وقصد جنيد بعد ذلك بلاد شيروان فحاربه حاكمها وقتله، فخَلفه السُلطان حيدر وكان أمير أوزون حَسن حَليفه، فتقّوى بنصرته على الأعداء، وصار بالتدريج حاكماً على كلّ بلاد إيران في مُدّة السُلطان أبي سعيد، ومات فدُفن في أردبيل، فخَلفه ابنه السُلطان علي، ولكنّ القلاقل كَثُرت في أيّامه، وظلّت عائلة صفيّ الدين في خَطر دائم، يوماً تصعد إلى الأوج ويوماً تنحطّ إلى الحضيض، حتّى قامَ السُلطان إسماعيل ابن السُلطان عليّ ومَلك البلاد، وهو في اعتبار المؤرّخين أوّل مُلوك الدولة الصفويّة.

أوّلُ عَهدِهم بالسُلطان وتأسيس دولتِهم:

إنّ هذه الأُسرة كان لها في أوّل أمرها سُلطان دينيٍّ مُعظّم، وطريقة صوفيّة مُحترمة - كما عرفت قريباً - مضافاً إلى عَراقتها في الشَرف واتّصالها بسلسلة النَسب العلويّ الموسويّ القصير، فكان لها مِن هذه العناصر ما يُسهّل لها طريق الإمرة والسُلطان، ويَهيب بمَن يصبو إليهما مِن رجالها بالسعيّ لهما في عَهدٍ كان يَطمح فيه إليهما مَن لم يتوفر فيه ما توفّر فيهم

____________________

(١) والخواجة علي هذا مشهور بسياه پوش، تُوفّي في بيت المَقدس سَنة ٨٣٣. عن الكُنى والألقاب.

٣٥٤

مِن المزايا المؤهّلة للمُلك، فكان أوّل ناهض بالمُطالبة كما مرّ آنفاً جنيد، ثُمّ السُلطان حيدر الذي استتبّ له أنْ يَحكم بلاد إيران كلّها في زَمن أبي سعيد، وأنْ يقوم بعد موته ابنه السُلطان علي على حال مُتقلّبة قَلقة، ولم يَنتظم لهم أمرُ الحُكم إلاّ في عهده الذي يُعتبر مؤسّس قواعد دولتهم التي طَوت أحقاباً، واستوت على سوقها مَنضوية تحت لواء حُكمها المَملكة الإيرانيّة.

١ - السُلطان إسماعيل:

قال مكاريوس:

ولا يُعرف عن الشاه إسماعيل في أيّام صِغَره غير القليل، إلاّ أنّه تسلّم قيادة الأعوان في الرابعة عَشرة مِن عُمره، فحارب عدوّ عائلته حاكم شيروان وقَتله، ثُمّ هَجَم عليه الأتراك والتُركمان مِن ناحية الأناضول، ففرّق شَملهم وانتصر على كلّ أعدائه، فنوديَ به سُلطاناً على مَملكة إيران وما يَتبعها وهو في الخامسة عشرة مِن عُمره.

وكان إسماعيل صوفيّاً مِثل أفرادِ عائلته، وليس له أعداء وأعوانه كُثار، فرأى بعد الإمعان أنْ يَدخل مَذهب الشيعة الاثني عشريّة الجعفريّة إلى إيران، ويجعلها مَذهب السُلطنة، فَفعل ذلك وفاز بمُراده، ولم يَلقَ مُعارضة تُذكر؛ لأنّ الإيرانيّين عَدّوا الانفصال عن بَقيّة المُسلمين استقلالاً لَهُم، وفضّلوا مَذهب القائلين بتكريم الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، ومِن ذلك اليوم صارت بلاد إيران مقرّ الشيعة بين المسلمين.

وعَصتْ خراسان وبلخ وغيرها مِن الولايات أمرَ السُلطان إسماعيل في بِدء حُكمه على عادتها، فحاربها كلّها وانتصر عليها، وامتدّ نُفوذ هذا السُلطان امتداداً عَظيماً حتّى رُزق عدوّاً كبيراً لم يَقدر عليه، هو السُلطان سليم العثماني الشهير، قصد بلاد إيران بخيله ورِجله البالغ عددها مئة وخمسين ألف ومئتي مَدفع، وذلك بَغتة دون مُخابرات دوليّة معمولة لدى الحُكومات، وقام إسماعيل لمُحاربته بكلّ ما لديه مِن القوّة وهو يؤمئذٍ بهمذان يَطلب الصيد والقنص ودافع عن بلاده في جالدران بخمسة عشر ألف نفس بأذربيجان، فتقهقر أمامه وكُسِرَ شرَّ كَسرة مع إنّه أظهر في الحرب بَسالةً غريبة، وكان الأتراك يُحاربون بالمدافع، والإيرانيّون بالسلاح القديم، غير أنّ انتصار الأتراك لم يؤثّر في إيران؛ لأنّهم اضطرّوا إلى الرجوع في

٣٥٥

الشتاء لشدّة البرد وقلّة الزاد، ولكنّ إسماعيل ظلّ حزيناً مِن بعدِ تلك الكسرة إلى آخر أيّامه، ويُروى أنّه لم يَضحك مِن بَعد ذلك اليوم، ولم يَترك لبس السواد أيضاً، ولمّا ماتَ السُلطان سليم تقدّم إسماعيل على بلاد الأتراك للأخذ بالثأر، فأخضع بلاد الجركس وهي يومئذٍ تابعة للأتراك، وعاد عنها فعرج على أردبيل ليزور قبور أجداده فقضى نَحبه هُناك ودُفن فيها مأسوفاً عليه.

إنّ مكاريوس يقول كما نقلنا عنه قريباً:

إنّ صاحب التَرجمة هو الذي أدخل التَشيّع في إيران، فإنْ كان يُريد أنّ التَشيّع قبل ذَلك لم يكن في إيران فهو خلاف الواقع، فإنّ التَشيّع كان مُنتشراً فيها، وخاصّة في الدَيلم ونواحي طبرستان وفي قُم وقزوين وسواهما قَبل الشاه إسماعيل بقُرون مُتطاولة، ويَمتدّ إلى زمن الدعوة العباسيّة في أواخر العَهد الأُموي، وإنْ كان يُريد أنّ عُموم التَشيّع واتّخاذ المَذهب الشيعي ديناً للحُكومة فذلك غيرُ بَعيد عن الصواب.

وأمّا المحبي، فإنّه يقول في خلاصة الأثر: إنّ أوّل مَن بالغ في التَشيّع وأظهره هو السُلطان حيدر جدّ صاحب الترجمة، وكان ذلك في سَنة ستٍّ وتسعمئة.

وقيل في تاريخه: مذهبنا حقٌّ، ويُروى أنّ بعض أهل السنّة سَمع هذا التاريخ فقال:

مذهبنا حقٌّ على النفي، فإنّ (نا) في الفارسي أداة نَفي، ومِن ذلك العهد هاجر كثير مِن البلاد، وتغلّبت سلاطين بلادنا العثامنة على مُلوكهم مِن عهد السُلطان سَليم الأوّل، فإنّه قَصد شاه إسماعيل وأخذ منه بلاداً وقهره، وفي هذا التاريخ - أي سَنة ٩٠٦هـ - كان بدء سَلطنة المُترجَم له.

وقد انتشر التَشيّع قبل عهد الصفويّة بسَبب تَشيّع السُلطان محمّد المُلقّب شاه خدابنده، على يد العلاّمة الحسن بن المُطهّر الحلّي المتوفّى سنة ٧٢٦هـ.

وفي تاريخ الدولة العثمانيّة لمحمّد فريد بك المصري:

هو إسماعيل ابن الشيخ حيدر - وقد سبق أنّه ابن علي - وينتهي نَسبه إلى الشيخ صفيّ الدين بن جبرائيل العلوي الحَسني - الصحيح الحسني الموسوي - وإسماعيل هذا هو مؤسّس الدولة الصفويّة الفارسيّة، وكان أبوه حيدر (جدّه) قد حارب صاحب شروان فانهزم، وقَتل صاحب شروان أولاده إلاّ إسماعيل وأخاه بار علي، فاستمرّ إسماعيل مُختفياً عند الأُمراء المُحازبين لأبيه حتّى اجتمع

٣٥٦

لنَجدته كثير فظَهر وحارب صاحب شروان وقَتله، واستمرّ في فتوحاته حتّى هزمه السُلطان ياوز سليم الغازي، وتوفّي إسماعيل شاه الصفوي سنَة ٩٣٠ هجرية عن ٣٨ سَنة وأربعة شهور ومَلك أربعاً وعشرين سَنة.

أمّا الحَرب بين السُلطان سَليم العثماني والشاه إسماعيل الصَفوي:

إنّنا نرويها كما رواها محمّد فريد بك في تاريخه قال:

ولمّا عَصى السُلطان سَليم وإخوته والدهم السُلطان بايزيد الثاني، ساعد الشاه إسماعيل الأمير أحمد على والده، ثُمّ على أخيه مِن بعده، وقَبِلَ مَن فرّ مِن أولاده عنده، وزيادة على ذلك أرسل وفداً إلى سُلطان مصر يَطلب منه التحالف لإيقاف سير الدولة العثمانيّة؛ مبيّناً له أنّه إنْ لم يتّفقا حاربت الدولة كُلاًّ منهما على حِدة، وقَهرته وسلبته أملاكه.

ولإيجاد سَبب للحَرب أمرَ السُلطان سَليم بحصر عدد الشيعة المُنتشرين في الولايات المُتاخمة لبلاد العَجم بطريقة سريّة، ثُمّ أمرَ بقتلهم جميعاً، ويقال: إنّ عددهم كان يَبلغ نحو الأربعين ألفاً، وبعد ذلك أعلن السُلطانُ سليم الشاهَ إسماعيل بالحرب، وسافر بجيوشه مِن مدينة ادرنة في ٢٢ مِن المُحرّم سَنة ٩٢٠هـ الموافق ١٩ مارس سَنة ١٥١٤م، وفي أثناء سَيره تبادل مع الشاه إسماعيل رسائل مُفعمة بالسُباب.

وسار الجيش العثماني تَحت قيادة السُلطان سَليم نفسه - كما جَرت به العادة - قاصداً مدينة تبريز عاصمة العَجم، وكانت الجيوش الفارسيّة تتقهقر أمامه خُدعةً منهم؛ ليُنهك التَعَب الجُيوش العثمانيّة فينقضّوا عليهم، واستمرّوا في تَقهقرهم إلى ارباض تبريز، فوقع القِتال بين الجيشين في وادي جبال دران في ٢ رَجب سَنة ٩٢٠هـ، الموافق ٢٤ أغسطس سَنة ١٥١٤م، فانتصرت الجُيوش العُثمانيّة نَصراً مُبيناً لمُساعدة الطوبجية لها، وفرَّ الشاه بما بقيَ مِن جُيوشه ووقع كثير مِن قوّاده في الأسر، وأُسرت أيضاً إحدى زوجاته، ولم يَقبل السُلطان أنْ يَردّها إلى زوجها، بل زوّجها لأحد كُتّابه انتقاماً مِن الشاه، وفَتحت المدينة أبوابها ودَخلها السُلطان مَنصوراً في ١٤ رجب سنة ٩٢٠هـ، الموافق ٤ سبتمبر سَنة ١٥١٤م، واستولى على خزائن الشاه وأرسلها إلى القسطنطينية، وكذلك أرسل إليها أربعين شَخصاً مِن أمهَر صُنّاع هذه المَدينة، الأمر الذي يدلّ على عدم إغفاله تقدّم الصنائع أثناء اشتغاله بالحروب، وبعد أنْ استراح ثمانية أيّام قام بجيوشه

٣٥٧

وأخلى مدينة تبريز؛ لعدم وجود المُؤنة الكافية بها، مُقتفياً أثرَ الشاه إسماعيل حتّى وصل إلى شاطئ نهر الرس، وعندها امتنع الانكشاريّة عن التقدّم لاشتداد البَرد، وعدم وجود الملابس والمؤنة اللازمة لهم، فقَفل راجعاً إلى مدينة أماسيا بآسيا الصُغرى للاستراحة زمَن الشتاء، والاستعداد للحَرب في أوائل الربيع، وعندما أقبل الربيع بنَضارته رجعَ السُلطان إلى بلاد العَجم، ففتح قلعة كوماش الشهيرة وإمارة ذي القدر سَنة ١٥١٥ م، ثُمّ رَجع إلى القسطنطينية تاركاً قوّاده لإتمام فَتح الولايات الفارسيّة الشرقيّة، ولمّا وصلَ إليها أمرَ بقَتل عَدد عَظيم مِن ضبّاط الانكشاريّة الذين كانوا سَبب الامتناع عن التقدّم في بلاد فارس - كما سبقَ الذِكر - خشيةً مِن امتداد الفَساد وعَدم الإطاعة في الجيوش، وأمرَ بقتل قاضي عَسكر هذه الفئة واسمه جعفر چلبي؛ لأنّه كان مِن أكبر المُحرّكين لهذا الامتناع، وخوفاً مِن حصول مِثل ذلك في المُستقبل جعلَ لنفسه حقّ تعيين قائدهم العام، ولو لم يكنْ مِن بينهم؛ ليكونَ له بذلك السيطرة عليهم، وكان النظام السابق يقتضي بتعيينه مِن أقدم ضبّاط الانكشاريّة.

وبعد انتهائه مِن مُحاربة الشيعة أخذ في الاستعداد لفتح سَلطنة مصر، بسبَب مُحالفة سُلطانها للشاه إسماعيل، وانتهى الأمر بفَتح مصر وسورية، ومَقتل السُلطان قانصوه الغوري سَنة ٩٢٢هـ - ١٥١٦م، ولمّا أراد أنْ يُراجع الكرّة لمُحاربة الشيعة الإيرانيّين وعبّأ لذلك الجيوش وبلغَ أدرنه، فاجأه الموت، وذلك في ٩ شوّال سَنة ٩٢٦هـ - ٢٢ سبتمبر سَنة ١٥٢٠م.

أمّا ما يُؤاخذ به السُلطان سَليم:

فالأّول : كان عليه وهو في عنفوان قوّته أنْ لا يَصرفها في مُحاربة دولة إسلاميّة ناشئة، مُتاخمة حدودها لحدود دولته، ويربطها بعد رابطة الإسلام في عامّة شعوبها رابطة اللُغة في القسم الكبير مِن رعاياها، وأنْ يَعقد بدلاً مِن ذلك حِلفاً معها يزيد إلى قوّة كلّ منهما قوّةً، يُذودان كلاهما بها كلّ طامح غريب فيهما، وهُما مع ذلك دولتان شرقيّتان ويَعلمان أنّ للغرب ودوله مطامع في بلادهما وفي بلاد الشَرق، ولم يَطلْ العَهد كثيراً على ما جرّته الحُروب الصليبيّة على بلاد الشرق الأدنى مِن المآسي، فالسُلطان سَليم أضاع الفُرصة وفَتح الباب على مِصراعيه لطبع مَن خلفه على غراره في مُحاربة المُلوك الصفويّين، ممّا لم تجنِ منه الدولتان إلاّ الوهن واستفحال داء التَعصّب المَذهبي الممقوت

٣٥٨

، والتفريق بين فرقتين لم تَكن الهوّة بينهما قبل ذلك بعيدة الغور إلى الحدّ الّذي بلغته، وتوارثه الأخلاف عن الأسلاف.

والثاني: ارتكابه ذلك الإثم العَظيم بأمره بقتل نحو أربعين ألف شيعي مِن رعاياه على غير ذنب، إلاّ مُشاركتهم الإيرانيّين في المَذهب.

والثالث: ارتكابه موبقة تزويج زوج الشاه إلى أحد كُتّابه، وهو مُخالف للشرع الإسلامي وللعُرف المُتّبع قديماً وحديثاً بين الدول المُتحاربة، فإنّ ذلك ممّا تُحرّمه سياسة الحُروب كما يُحرّمه الدين.

وهناك أُمورٌ لا تتعلّق بتاريخنا تنتقد على سياسة السُلطان سليم لا نتعرّض لها؛ لأنّها ليست مِن غَرضه.

٢ - الشاه طهماسب ابن الشاه إسماعيل:

تولّى بعد أبيه وهو في العاشرة مِن عُمره، فانتهزت بلاد خُراسان هذه الفرصة للعصيان على عادتها، وأخضعها بغير عناء كثير، ثُمّ وقعت المُنافسة بين فئات الأتراك الذين ساعدوا هذه الدولة على المُلك، وكَثُر الخصام بين الطائفتين منهم فانحاز طهماسب إلى أحدهما، ونجحت الأُخرى فطلبت القَبض عليه، وعند ذلك هاج الدَم في عروقه واستغاث بمرءة جنوده وأعوانه الإيرانيّين، فأغاثوه وتقدّموا معه لمُحاربة هؤلاء الأتراك فنكلّوا بهم وانتصروا عليهم...

وفي تاريخ الدولة العثمانيّة :... وقد حصل في أثناء اشتغال السُلطان العثماني سليمان بمُحاربة النمسا بعض اضطرابات على حُدود بلاد العَجم، وساعد على ذلك خيانة شريف بك خان مدينة بدليس الواقعة على حدود المملكتين، وانحيازه إلى مَملكة العَجم، ولذلك أرسل السُلطان وزيره إبراهيم باشا لمُحاربة هذا العاصي ظن والسير بعد ذلك إلى مدينة تبريز عاصمة العَجم لفتحها، فسافر إبراهيم باشا وقبل وصوله إلى قونية وصل إليه في ٢ ربيع الآخر سَنة ٩٤٠هـ الموافق ٢١ اكتوبر سَنة ١٥٣٣م شمس الدين ابن حاكم آذربيجان الذي كان تابعاً لمَلك العَجم، وانضمّ إلى السلطنة العُثمانية ومعه رأس شريف بك الذي حاربه والده وقتله، ولذلك سار إبراهيم باشا إلى مدينة حَلب لإمضاء فصل الشتاء بها، وفي أوائل ربيع سَنة ١٥٣٤م قام منها بجيوشه قاصداً مدينة تبريز ففتح في طريقه جميع الحُصون والقلاع المُجاورة لبحيرة (وان)، ووصل بدون كبير معارضة إلى

٣٥٩

تبريز ودخلها بسلام في غُرّة مُحرّم الحرام سَنة ٩٤١هـ، الموافق ١٣ يوليو سنة ١٥٣٤م، وبنى قلعة وجعل في وسطها حامية عُثمانية لمنع السُكان عن إتيان كلّ ما يُمكن أنْ يُكدّر صفو الراحة العامّة.

وفي ٢٧ سبتمبر مِن السَنة المذكورة، الموافق ١٦ صفر سَنة ٩٤١هـ، وصل السُلطان سليمان الغازي إلى تبريز فقابله الأهالي بكلّ تبجيل وتَعظيم، وبعد أنْ عيّن السُلطان ابن الأمير شروان قائداً لحامية مدينة تبريز، وقبل خُضوع أمير كيلان المدعو مَلك مضفّرخان وغيره مِن أُمراء الفُرس الذين تركوا لواء الشاه طهماسب مَلك العجم، وانحازوا إلى ظلّ الخليفة الأعظم، سار السُلطان بجيوشه إلى مدينة سُلطانيّة التي تقهقر إليها الشاه بجيوشه، لكنْ لصعوبة الطُرق واستحالة مُرور المَدافع الضخمة وعربات النقل بها لكثرة الأمطار والأوحال، تركها السُلطان وقصد مدينة بغداد لفتحها، فلمّا اقترب منها تقدّم إبراهيم باشا الصدر الأعظم وسرّ عسكر الجيوش العثمانيّة لاحتلالها قبل قُدوم السُلطان، فدخلها في يوم ٢٤ جمادى الآخرة سَنة ٩٤١هـ، الموافق ٢١ ديسمبر سَنة ١٥٣٤م، ووجدها خاوية مِن الجنود؛ إذ تركها حاكمها بكلّ جنوده هَرباً مِن الوقوع في قبضة الجنود العثمانيّة فيُذيقونه الحِمام.

وبعد أنْ أقام السُلطان في مدينة بغداد مُدّة أربعة أشهر ورتّب الإدارة الداخليّة في خلالها، زار قُبور الأئمّة العِظام، وقبر الإمام علي رابع الخُلفاء الراشدين كرّم الله وجهه في مدينة النجف، وقبر ابنه الحسين في كربلاء، وأرسل الخطابات إلى البندقية وويانه إعلاناً بانتصاره على الشاه طهماسب، وافتتاحه مدائن تَبريز وبغداد(١) .

ففي تاريخ الدولة العثمانيّة وتاريخ إيران لمكاريوس أنّ استيلاء السُلطان سليمان العثماني على العراق كان في عَهد سَلطنة الشاه طهماسب، ولكن صاحب تاريخ الحلّة الشيخ يوسف كركوش الحلّي يقول: إنّ ذلك كان في عهد سَلطنة خدابنده الصفوي. ولا نعلم مُستنده.

____________________

(١) في سَنة ٩١٤هـ زَحف الشاه إسماعيل على العراق، وألقى الحصار على عاصمته بغداد وفتحها وأعمل السيف في مُناهضيه، وقتل آخر مُلوك الخروق الأبيض أحمدخان، وبعد فَتحها أخضع باقي المُدن العراقيّة كالحلّة والموصل والبصرة وغيرها، وظلّت في الحُكم الصفوي بلا مُنازع إلى سَنة ٩٤١هـ فجرى ما ذُكر في الأصل.

٣٦٠