تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 107962
تحميل: 8800


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107962 / تحميل: 8800
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

يقبل الردّ ولا التردّد بإرسال ابنته إليه في الحال، فعظُم الأمرُ على الأمير، واجتمع برجال طائفته وأكابر عشيرته، وبسط لهم الحكاية، فهاجوا وماجوا وأكثروا مِن التهديد والوعيد، والأفغانيّون لهم غيرة مُفرطة على العِرض ويعتبرون البنات الأحرار، فاتّفقت آراؤهم على البطش بالحاكم الذي أراد إذلال أميرهم وهتكِ عِرضه، واقسموا أغلظ الأيمان أنّهم يموتون في سبيل الدفاع عن أميرهم وابنته، ولكنّ الأمير أوصاهم بالتعقّل والصبر، وأفهمهم أنّه ينوي الانتقام مِن هذا الحاكم ومِن كلّ واحد سواه مِن أعداء بلادهم، غير أنّه يتّخذ في ذلك الحكمة، ويتّبع طريقة التأنّي، فعاهدوه على الولاء، واقسموا له بالخبز والمِلح وبالقرآن الشريف وبالطلاق أنّهم يثبتون على ولائه حتى يموتوا عن آخرهم، ثُمّ صرفهم وهو يوصيهم بالحرص وكتمان السِرّ، وبعث الأعوان في كلّ جهة يُخبر أهل بلاده بعزمه، ويوصي أبطالهم بالتجمهُر في نواحي قندهار، والتربّص ريثما يرى ما الذي يكون مِن گرگين خان بعد ذلك الأمر.

فلم تمضِ أيّام حتى أرسل إليه الوالي أمراً ثانياً بإرسال الصبيّة مع التهديد والوعيد، فأظهر ويس الطاعة وأخفى الكمد، وصرف أعوان گرگين على أنّ الصبيّة تصل في ذلك المساء.

وكان في قصر هذا الأمير خادمة تشبه ابنته في جمالها وقامتها وهي في سنّها، فألبسها الملابس الفاخرة وأمرها أنْ تدّعي أنّها ابنته، وتقترن بالوالي ولا تبوح بالسرّ، فرضيت الخادمة بهذا النصيب، وهي لا تعلم ما الذي يتمّ مِن ورائه، ثُمّ أرسلها الأمير ويس بأفخر الحلل وأُبّهة عظيمة إلى بيت الوالي وزفّت إلى گرگين، ففرح بها فرحاً كبيراً وسرّه أيضاً خضوع ويس لأمره، فأظهر الرضا عنه وقرّبه، ولم يمضِ إلاّ القليل حتى صار الأمير ويس مِن أخصّاء گرگين وأصحابه، يجتمع به كلّ يوم ويتحدّث معه في مهامّ الأُمور، وظلّ على ذلك زماناً وگرگين لا يحسب للشرّ حِساباً، ولمّا أحسّ ويس بإتمام الأمر دعا خصمه إلى وليمة فاخرة في إحدى جنائنه، ودعا معه الاخصّاء والأعوان مِن الحُكّام الذين كان الأفغانيّون يكرهونهم، فقبلوا الدعوة وجاؤوا الحديقة، وأكلوا وشربوا وطربوا، حتى إذا دارتْ الخَمرة في الرؤوس أشار ويس إلى أصحابه بالذي كان ينويه، وكان قد أحاط البلدة كلّها بأعوانه وجاء بنخبة مِن الأبطال فأخفاهم في أنحاء الحديقة، فلمّا سكر الوالي ومَن معه، وصدرتْ لهم الإشارة مِن ويس هجموا على ضيوفهم وقتلوهم عن آخرهم،

٣٨١

ثُمّ اتردوا بملابس القتلى وذهبوا ليلاً إلى دار الحكومة وقلعتها، فدخلوها والحُرّاس يظنّونهم گرگين وأصحابه، ثُمّ نادوا في أعوانهم ممَّن كانوا في قندهار وحولها، فأعملوا السيف في عساكر الشاه حسين وقتلوا أكثرهم في مُدّة يومين، ثُمّ شرعوا بقتل مَن استوطنوا في الولاية مِن الفرس ومَن تمذهَب مِن الأفغانييّن بمذهب الشيعة وكانوا جمهوراً كبيراً.

وهكذا تمّ انسلاخُ الأفغان عن بلاد إيران، وبدأ أُمراء هذه البلاد الصغيرة يُفكّرون في ضمّ بلاد إيران إلى إمارتهم، ولم ينجُ مِن كلّ جيش گرگين غير ستمئة جركسي أتوا بالمُعجزات في مُحاربة الأفغانيّين ومُكافحتهم حتى تمكّنوا مِن الفرار إلى بلاد خُراسان.

وبدأ ويس بعد ذلك باتّخاذ الطُرق التي تُمكّنه مِن حِفظ مَقامه واستقلال بلاده، حتى أنّه نادى في قومه يُحرّضهم على النخوة والبسالة وصرّح لكّل مَن أراد العود منهم إلى الخضوع لحُكم الإيرانيّين أنْ يرحل عن البلاد بلا مُعارضة.

ثُمّ إنّه أحسن مُعاملة الأهالي والغُرباء الساكنين في مدينة قندهار وما يليها، وجعل يستعدّ للهجوم على بلاد إيران، فلمّا بلغَ الشاه حسين وحاشيته ما كان مِن أمره تردّدوا في إعلان الحرب، ثُمّ أرسلوا إلى الأمير سفيراً ليحضّه على ترك العداء، فلمّا وصل السفير إلى قندهار أُلقي القبض عليه حتّى يتّسع الخرق بين إيران والأفغان، ويُمنع السفير مِن مواجهة الأهالي وتدبير الدسائس، وكان ويس قد نشرَ على الناس تلك الفتاوى التي جاء بها مِن مكّة والقسطنطينيّة ضدّ الشيعيّين وزُعمائهم، فلمّا عَلِم رجال البلاط في أصفهان بذلك وبسجنه للسفير أرسلوا إليه سفيراً آخر كان صديقه ورافقه في سياحته - هو محمّد خان حاكم هرات - فلمّا وصل هذا المُعتمَد إلى ويس رأى منه العَزم التامّ على العدوان، وخاطبه الأمير بما معناه: أنْ لو لم تكن صديقاً لي لأذقتك العذاب المهين على هذه الرسالة التي جئت بها إلي، فإنّك تعرض علينا أنْ نعود إلى الرقِّ والخُضوع لنير الإيرانيّين، ولكنْ اعلم أنّ سيوفنا سُلّت للحرب، وهي لا تُردّ إلى أغمادها حتى تكون مَملكة إيران كلّها في قبضتنا، ثُمّ ألقى القبض عليه وسجنه، ولكنّه لم يُسئ معاملته.

ولمّا رأى الشاه حسين وأعوانه أنْ لا بُدّ مِن القتال أوعزوا إلى حاكم خُراسان أنْ يبدأ بمُقاتلة الأفغانيّين، فصدع الحاكم بالأمر، ولكنّه لقيَ ما لم

٣٨٢

يكن في الحساب مِن جُرأة الأعداء واستعدادهم للحرب، وكُسر في موقعة جرتْ له معهم.

وبلغَ الخبر أصفهان، فأمر الشاه بجمعِ كلّ قوّات السلطنة، وجيّش جيشاً عظيماً جعله تحت قيادة خسروخان والي كرجستان، وهو ابن أخي گرگين خان - الذي قتله ويس على ما مرّ - وكان هذا الوالي بَطلاً مُقداماً يتمنّى مُحاربة الأفغانيّين حتّى ينتقم منهم لعمّه، وتقدّم هذا الجيش الجرّار على مواقع الأفغانيّين، فطردهم منها وبان له وجه النصر، فزحف على مدينة قندهار وحاصرها زماناً حتّى إذا أحسّ أهلها بقُرب الخَطر عرضوا التسليم لعساكر الشاه على أنْ تُحفظ أرواحهم وأملاكهم، فلم يرضَ خسروخان بذلك، وأمرهم أنْ يُسلّموا بلا شرط، فكبُر ذلك عليهم، ورأوا أنّ الإيرانيّين ينوون إعدامهم عن آخرهم، وثار الدم في عروقهم، فتجدّدت قوّتهم، وعاد إلى نفوسهم الرجاء بعد اليأس، ودافعوا عن مدينتهم دفاع الأبطال، ثُمّ جعلوا يَهجمون على المُحاصرين مِن كلّ انب ويُضيّقون عليهم، حتى اضطر خسروخان إلى الانسحاب، ولحظ الأفغانيّون منه ذلك، فتأثّروه وحاربوه حرباً عنيفة كان النصر في آخرها لهم، وقُتل في هذه المعركة خسروخان و٢٥ ألفاً مِن رجاله.

ثُمّ أرسل الشاه جيشاً آخر تحت قيادة محمّد رستم خان، فأصابه ما أصاب الجيوش السابقة، واستقلّ ويس استقلالاً تامّاً بإمارة قندهار، وبينا هو يستعدّ للتقدّم على امتلاك بلاد إيران عاجلته المنيّة، فحَزن الأفغانيّون عليه حُزناً عظيماً، وله عندهم شُهرة في البسالة والعظمة يذكرونه بها.

وكان لويس وَلَدان أكبرهما في الثامنة عشرة مِن عُمره يوم وفاة هذا الأمير، فاختلس الإمارة منهما عمّهما الأمير عبد الله، وكان جباناً فاسقاً يختلف عن أخيه في كلّ أمرٍ، فما عتم أنْ استلم زمام الأمر حتّى بدأ بمُخابرة أصفهان في إعادة الإمارة إلى حُكم الشاه حسين، وعارضه قومه في ذلك مُعارضةً شديدة، فلم يرجع عن قصده، وأرسل نوّاباً مِن قِبله إلى عاصمة إيران لعرض شروط الصُلح، وأهمّها أنْ تعود الولاية إلى الخضوع للدولة الإيرانيّة على شرط أنْ تُرفع عنها الجزية التي كان عُمّال الشاه يتقاضونها مِن قندهار كلّ عام، وأنْ لا تُرسل جيوش أجنبيّة إلى الإمارة، وأنّ يَعترف الشاه للأمير عبد الله ولأولاده مِن بعده بالإمارة على قندهار، فعظُم الأمر على أكابر الأفغانيّين مِن جرّاء ذلك، ورأوا أنّ مطامعهم في

٣٨٣

الاستقلال بعد أنْ ذاقوا حلاوته وفي الفتوح والامتلاك قد ضاعت مِن سوء تصرّف هذا الأمير، واجتمع بعضهم على الشابّ محمود - وهو بكر أولاد ويس - فاتّفقوا معه على المُجاهرة بالعصيان والمناداة به أميراً على قندهار قبل أنْ تعود البلاد إلى قبضة أهل إيران، وكان محمود عاقلاً نجيباً وباسلاً مُقداماً، فتروّى في الأمر على صِغر سنّه، وصرف قومه على أنْ ينظر في الأمر، ثُمّ انتخب أربعين بطلاً مِن أصدقائه وأخبرهم بعزمه على قَتل عمّه، فوافقوه على ذلك، وذهبوا في إحدى الليالي إلى قصره فعرفهم الحُجّاب، ورأوا الأمير محموداً معهم فلم يُعارضوهم في الدُخول، ودخل هؤلاء الرجال على عبد الله فوجدوه خالي البال وقتلوه في الحال، ثُمّ أمروا رجال الموسيقى أنْ تُعزف باللحن الأميري والأمير محمود واقف في وسطهم، ونادوا به حاكماً عليهم، فلمّا عرف الأهالي بالذي تمّ سروا به سُروراً عظيماً، وأيدوا محموداً على سرير الإمارة.

وبذلك عاد الأفغانيون إلى آمالهم الأُولى، وقُدّر لهم أنْ يفوزوا بتحقيقها على يدِ الأمير محمود.

وابتدأ محمود حُكمه على قندهار وسلطنة إيران في أسوأ حال، فإنّها كانت مثال الفساد والضَعف، وقد استولى حبّ التَرف والخمول على أهلها، وحدثَ يومئذٍ أنّ الأكراد قاموا على الدولة في بلاد العراق بإيعاز مِن العُثمانيّين، وأنّ قبائل التَتر الأُزبكيّة المشهورة عادت إلى شنّ الغارة على خُراسان طَمعاً في الغزو والنَهب، وأنّ القسم الآخر مِن بلاد الأفغان - وهو هرات وما يليها - قام أيضاً على عساكر الشاه، وقويَ أمير هرات - واسمه أسد الله - حتى إنّه صار أعظم مِن أمير قندهار، واضطّرت حُكومة إيران يومئذٍ أنْ تترك الأعداء وشأنهم، وتحوّل همُّها إلى إخضاع هذا الأمير وقومه وهُم الأفغانيّون الإبداليّة، فجرّدت جيشاً لا يَقل عن ثلاثين ألف مُقاتل تحت قيادة صفي قولي خان، وأرسلته لمُقاتلة أسد الله، فلاقاه أسد الله بخمسة عشر ألف وقاتله قتالاً هائلاً في مَعركة دامت مِن شروق الشمس إلى غروبها، ولو لا أنْ يحدث أمرٌ غريبٌ لانتصر الإيرانيّون على عدوّهم وامتلكوا هرات، ولكنّ الأقدار ساعدت الأفغانيّين على طريقة غريبة، ذلك أنّ جيش إيران كان فيه حوالي عشرين مِدفعاً مِن المدافع المعروفة في تلك الأيّام، فحدث عند غروب الشمس أنّ فرقةً مِن خيّالة الإيرانيّين وصلوا إلى موضع كان الأفغانيّون فيه في أوّل النهار، فظنّهم رفاقهم مِن الأعداء وبدؤوا

٣٨٤

يرمونهم بالقنابل حتى قتلوا عدداً كبيراً منهم، ولمّا عرفوا خطأهم قامت الصيحة ونُسبت الخيانة إلى فريق المدفعيّة، فكثر الخلاف، ووقع الفشل في صفوف الإيرانيّين، وانتهز الأفغانيّون تلك الفُرصة، فهجموا بكلّ قوّتهم على جيش الشاه وفرّقوه أيدي سبا، وملكوا منه كلّ الزاد والذخيرة والمدافع، وقتلوا قائد الجيش الإيراني وابنه وثمانية آلاف رجل وغيرهما، وقُتل مِن الأفغانيّين ثلاثة آلاف رجل، ولكنّ النصر كان في جانبهم.

وقام العرب أيضاً في نواحي خليج العَجم على دولة إيران وحاربوا عساكرها، وحدث يومئذٍ في بلاط الشاه الشيء الكثير مِن الدسائس، فمِن ذلك أنّ وزيره فتح علي خان كان عاقلاً كثير الأمانة، فحسده الناس على ما نعلم، واتّحد شيخ المشايخ ورئيس الأطبّاء على الوشاية به، وجاءوا في إحدى الليالي إلى غُرفة الشاه وقد أظهروا الاهتمام الكثير، فأيقظوه مِن نومه، وأخبروه أنّ وزيره قد اتّحد مع الأعداء على تسليم البلاد لهم وخلع الشاه وقتله، وأتوا بالأدلّة على ذلك، فصدّقهم الشاه وخافَ على نفسه، وأمرَ في الحال بالقبض على الوزير فقبضوا عليه وفقأوا عينيه، وكانت هذه العادة شائعة في الدوائر العالية في إيران يومئذٍ، يَفقأ الأمير أو الكبير عينَي خصمه حتّى يمنعه مِن مُزاحمته، ويُصيّره عالةً لا قدرة له على شيء.

ثُمّ بلغَ الشاه أنّ الوزير لم يقترف وزراً، فأمرَ بعقد مجلس لمُحاكمته وإظهار الحق، ودافع الوزير عن نفسه بفصاحة، وأتى بالأدلّة المُقنعة على خيانة الذين وشوا به، فرأى حسين شاه أنّه أساء التصرّف وظلم وزيره، وبكى مِن أجل ذلك بُكاءً مُراً، وكثرت أمثال هذه الدسيسة في ذلك الحين.

هذا هو الزمان الذي اختاره محمود صاحب قندهار وفاتح إيران للهجوم على هذه السلطنة، وهذه هي الأحوال التي ساعدته على نيل بغيته، وتقدّم محمود بجيشه عن طريق الصحراء، فوصل مدينة كرمان وبدأ بمحاصرتها، ولكن السعد لم يساعده يومئذٍ؛ لأنّ جيش إيران وصل لإغاثة المدينة تحت قيادة البطل الشهير لطف علي خان - وهو أخو الوزير الذي مرّ ذِكره - فحارب محموداً وانتصر عليه، واضطرّ الأمير الأفغاني إلى الفِرار والعودِ إلى بلاده، ثُمّ دخل جيش الشاه مدينة كرمان فأساء مُعاملة الأهالي، وأكثر مِن الظُلم والفُحش حتّى تمنّى الأهالي أنْ يعود الأفغانيّون ويملكون مدينتهم، وعادَ لطف علي خان بعد هذا النصر إلى شيراز ونواحيها ليُجيّش

٣٨٥

جيشاً كبيراً يُقاتل به أعداء السلطنة، فأطلق السراح لعساكره في نهب الأهالي وظُلمهم على عادته، وشكاه الناس إلى الشاه فأمر بعزله، ولم تقمْ للجيش الإيراني قائمةٌ بعد عزل هذا البطل.

وأمّا محمود، فإنّه أقام أشهُراً قليلةً في مدينة قندهار، لمّ في خلالها شَعَثَ جيشه، وزاد قوّاته، وجمع الذخائر والمؤن، ثُمّ زَحف على بلاد إيران بجيش لا يقلّ عن عشرين ألف مُقاتل، في الشهر الأوّل مِن سنة ١٧٢١م، عن طريق الصحراء أيضاً، وسَمِع الإيرانيّون، فاضطربت بقدومه نفوسهم مِن الخوف، وتمشّت فيها بعض الوساوس، أشاعها بعض ضعفاء العقول على أثر حدوث كسوف الشمس واحمرارها، ورُجوم بعض المُنجّمين بخراب أصفهان بزلزلة أو بنار، ممّا أصاخ له مسامعهم فريق كبير مِن الناس، وممّا أدّى إلى خروج الشاه حسين بحريمه وخصيانه مِن المدينة، وسكنى المضارب في ضواحيها، وفعل فعله الأكابر والأشراف، وجاء إلى ذلك خَبر تَقدّم محمود بجيشه الجديد، فكان ذلك ضغثاً على أبالة، وكان منه اعتقاد العارفين أنّ النصر سيتمّ للأفغانيّين، وأنّ دولة إيران قد والت.

ولمّا تقدّم محمود على مسافة أربعة أيّام مِن أصفهان، ولم يُقاومه مُقاوم أرسل إليه الشاه حسين رسولاً يعرض عليه المال الكثير والمُصالحة على شرط أنْ يعود إلى بلاده، فلم يُصغِ محمود لقول هذا الرسول، وظل سائراً في سبيله في طول البلاد وعرضها، حيث لا يَشهر رجل إيرانيّ في وجهه السلاح، حتى صار على أبواب أصفهان، واستعدّ لمُحاصرتها والهجوم عليها مع أنّه لم يكن معه شيء مِن أدوات الحِصار، ولكنّ ضَعف الحكومة الإيرانيّة وعجزها عن مُقاومته سهّل له كلّ أمرٍ صعب، وكثرة الدسائس في بلاط الشاه مع ما كانت البلاد فيه مِن الخطر مهّدت للأمير الأفغاني طُرق النصر.

وأصفهان مدينة كبيرة واقعة على ضفاف نهر اسمه (نهر زاينده رود)، كانت يومئذٍ كثيرة الأبراج والحُصون مُحاطة بسور منيع، وإلى جانبها الضواحي الجميلة، مثل بلدة عبّاس آباد، وبلدة جلفا، وهي مُستعمرة للأرمَن، أنشأها عبّاس شاه للصُنّاع وأصحاب الحِرف مِن الأرمن، وأنعم عليها بالامتيازات الكثيرة.

وكان في أصفهان جيش لا يقلّ عدَده عن خمسين ألف مُقاتل كامل العِدّة والسلاح، ولو لا أنْ تكون الحُكومة الإيرانيّة يومئذٍ في ضعف وفساد عظيمين لَما أمكن للجيش الأفغاني على قلّة العدد

٣٨٦

والسلاح وعدم وجود آلات الحصار معه أنْ يهاجم هذه العاصمة المنيعة.

وخاف الشاه حسين خوفاً شديداً مِن وصول محمود إلى أبواب عاصمته، فجمع الوزراء والأعيان واستشارهم في الأمر، فأشار عليه محمّد قلي خان بالامتناع داخل الأسوار، ومُحاربة الأفغانيّين بالصبر إلى أنْ يضجر رجالهم أو يُقتل بعضُهم على طول المدّة، ويعودون عن المدينة، وعزّز رأيه بالأدلّة على ضعفِ الأفغانيّين في الحصار، وقوّتهم في الهُجوم والحرب بالسلاح الأبيض، وكان مُصيباً في رأيه، إلاّ أنّ والي بلاد العَرب مِن الأُمراء المُحيطين بحسين شاه رأى غير هذا الرأي، وقام في المجلس مُحرّضاً للقوم على البسالة والقتال، ذامّاً قول مَن يقول باتّخاذ خطّة الدفاع، والتساهل مع الأفغانيّين إلى هذا الحدّ، واحتدّ الأمير في كلامه، وأشار بالإسراع في مُهاجمة القادمين والتنكيل بهم وقطع دابرهم، فثارتْ الحميّة مِن كلامه في عروق المُجتمعين ووافقوه على رأيه، فاعتمد الشاه على الخروج بعسكره لطرد المُعتدين، وكان مُعظم رجاله مِن أهل أصفهان الذين تعوّدوا البطالة والتَرف، ولا يُمكن لهم الوقوف في وجه أبطال محمود، المعروفين بالتفاني في سبل الانتصار على العدو الذي ظلمهم زماناً طويلاً.

ولمّا اتّفق رأي الشاه وأعوانه على الهجوم أتى حسين شاه أمراً أضاع عليه الأمل بالنصر، ذلك أنّه قسّم الجيش قسمين: جعل قائد أحدهما وزيره محمّد قلي خان، وجعل قائد القسم الثاني والي بلاد العرب، وكان الاثنان خصمين، فتشاءم العُقلاء مِن هذا الأمر، وصدق تشاؤمهم؛ لأنّ المعركة انجلت عن انكسار الإيرانيّين شرّ كسرة، وكان جيش الشاه كثير الزخارف والأُبّهة، وجيش الأفغانيّين بلا زينة غير الرماح والسيوف، فلمّا ابتدأ القتال هَجم الأفغانيّون هُجوماً عنيفاً على قسم الوزير الإيراني وشتّتوا شمله، ودار بعض فرسانهم مِن وراء العسكر الإيراني، فوجدوا ٢٥ مِدفعاً تتأهّب لإطلاق القنابل عليهم، فأكبّوا على الرجال في الحال وقتلوهم، واستولوا على المدافع وصوّبوها إلى جيش إيران، فأطلقوا منها بعض القنابل فقُتل عددٌ مِن جيش الشاه.

ولمّا رأى الإيرانيّون ذلك ذُعروا وتفرّقوا، فتبعهم جيش محمود مِن كلّ جانب، ونهبوا منهم ذهباً كثيراً، وغنموا مالاً وفيراً لم يروا مثله مِن قبل ذلك اليوم، ففرحوا به وسمعوا أنّ في أصفهان أضعاف أضعاف هذا القدر يستولون عليه إذا فتحوا المدينة،

٣٨٧

فصمّموا النيّة على القتال المُستمر إلى أنْ تقع في قبضة يدهم، ونال محمود غاية ما يتمنّى بعد ذلك، ولم يبقَ لديه غير إخضاع العاصمة، والجلوس محلّ الشاه حسين.

وأمّا جيش إيران، فقد تفرّق بعد هذه المعركة، وعاد كلّ قائد منهم إلى بلاده، فلم يبقَ عند الشاه حسين غير المُجنّدين مِن أهل أصفهان، وكانوا كما تقدّم لا يصلحون لقتال أبطال الأفغان.

ووقع الرعب في قلوب الأهالي الإيرانيّين حتّى انحلّت عزائمهم وخارت قواهم، فعمِد الشاه حسين إلى جمعِ الأشراف واستشارتهم في الأمر، وكان مِن رأيه الرحيل عن أصفهان إلى جهة امنع حيث يُمكن اجتماع الأنصار والأعوان حوله، ووافقه العُقلاء ما خلا والي جزيرة العرب، فإنّه هزأ بهذا القصد وعدّه خيانة، وأشار بالحرب والقتال، فانصاع السلطان لرأيه - وكان البعض يظنّون أنّ هذا الأمير العربي خائن مُتّفقٌ سِرّاً مع أمير الأفغان على قلبِ الدولة، والذي سيُذكرُ مِن فِعاله بعد هذا يؤيّد القول بخيانته.

ثُمّ ابتدأ الحصار الشديد، ووقع أعظمه على ضواحي مدينة أصفهان، وفي مُقدّمتها بلدة جلفا الأرمنيّة، وكان أهل هذه القرية يُريدون الإخلاص لدولة إيران ومُقاتلة الأفغانيّين ما استطاعوا، مع كلّ ما رأوا مِن وزراء الشاه حسين مِن الاحتقار، فجمعوا قواهم وبدأوا بمُحاربة الأعداء، وأرسلوا يطلبون المَدد مِن والي العَرب الذي كان وقتئذٍ القائد العام للجيوش، فلم يُنجدهم، ولهذا تمكّن الأفغانيّون مِن فَتح بلدتهم بعد أنْ قتلوا العدد الكثير منهم.

فلمّا رأى الأرمن أنّ القتال لا يُفيد سلّموا للعدو على شرط أنْ يدفعوا إليه غرامة حربيّة وخمسين فتاة مِن عذارى قومهم الأرمن، وكان هؤلاء القوم يغارون غيرة شديدة على عرضهم، ويمتازون عن جيرانهم الإيرانيّين بالعفّة والاجتهاد، فكبُر عليهم هذا الشرط، وما قاموا به إلاَّ لأنّ سلامتهم تتوقّف عليه، ورأى الأمير محمود وأمراؤه الذين وُزّعت عليهم الفتيات أنّ الأمر كبير جداً على القوم مِن هذه الفضيحة، وأنّ بعضَ هؤلاء الفتيات انتحرن تخلّصاً مِن العار، وأنّ أهلهن ملؤوا البرّ بالصياح والنواح، فردّوهن إلى أهلهنّ واظهروا أنّ الرحمة موجودة في الفِطرة الطبيعيّة، وأنّهم لم يفقدوا الشَرف والفضيلة، وظلّ الحصار والأمير الأفغاني ثمِل بخمرَة النصر لا يدري ماذا يفعل، ولا يأمر بشيء حتّى إنّ بعض الإيرانيّين طمعوا فيه وعادوا إلى مناوشة قومه، فاسترجعوا شيئاً مِن السلاح الذي فقدوه، ومحمود لا يدري ماذا

٣٨٨

يفعل حتى أفاق مِن ذهوله يوم عَلم أنّ خصيّاً مِن خصيان الشاه حسين - واسمه أحمد آغا - أغار على فرقة مِن جيشه وحطّمها وطرد الأفغانيّين مِن بعض المواقع، فخاف العاقبة وحسبَ أنّ العزّ لا يدوم له، فخابر الشاه حُسيناً في الصِلح وطلب أنْ تكون بلاد قندهار وكرمان وخُراسان مُلكاً له ولأولاده مِن بعده، وأنْ يُعطى خمسين ألف تومان - خمسة وعشرين جُنيهاً -، فيعود عن المدينة ويخطب ابنة الشاه ويصير حليفه، فلمّا جاء الرسول إلى حضرة الشاه أشار عليه قومه برفض الطلب؛ لأنّهم أمّلوا بالفوز مِن بعد ما ظهر مِن بسالة أحمد أغا والذين حاربوا معه، فعاد الرسول بالخيبة إلى مولاه، ومِن ذلك الحين ابتدأت مصائب أصفهان؛ لأنّ محموداً عوّل على إيصال الأذى إليها بكلّ واسطة مُمكنة، وأصرّ على إخضاعها وقتلِ كلّ مَن فيها.

وبعد هذا تشاور محمود وأعوانه في الأمر، فقرّروا إتلاف كلّ المزروعات والقُرى والعمائر المُحيطة بأصفهان مِن كلّ جانب؛ حتّى يتعذّر وصول المَدد والزاد إليها أو يستحيل، وبدأ الأفغانيّون بهذا العمل الشنيع، فخرّبوا في أيّام قليلة كلّ ما صنعه الإيرانيّون في ألوف مِن السنين، وأصبحت تلك الديار قاعاً صفصفاً تدلّ على الويل والثبور، ولم تزل آثار ذلك الخراب الهائل ظاهرة في ضواحي أصفهان إلى هذا اليوم، ولمّا رأى أهالي البلاد هذا فرّوا مِن أماكنهم، وقصد بعضهم الأنحاء القاصية، والبعض لاذ بمدينة أصفهان، ففتحَ لهم الشاه أبوابها ظنّاً منه بأنّ كثرة العدد تُفيد في الحصار وتزيده قوّة، ولكنّه عَلم بعد هذا أنّه زاد مركزه صعوبة وضعفاً بقبولهم.

وشدّد الأفغان بعد هذا الحصار، وتقدّموا على أصفهان مِن كلّ جانب ولم يبقَ في وجههم مُعاند غير أهل قرية صغيرة هي أصفهانك كانت على مقربة مِن العاصمة، هؤلاء القوم أظهروا بسالةً وإقداماً غريبين، حتى إنّهم هجموا على قافلةٍ أفغانيّةٍ كانت تنقل الزاد إلى جيش محمود وملكوها، فلمّا عَلِم الأمير الأفغاني بذلك أرسل عليهم فرقة مِن جنوده لتقطع دابرهم وتقتلِهِم عن آخرهم، وكان أهل أصفهانك على استعداد لمُقاتلتهم فكسروهم شرّ كسرة، ورأى محمود ذلك فسار بنفسه وأكابر أعوانه للانتقام مِن هؤلاء الأشدّاء، ولكنّه لقيَ مِن بسالتهم ما لم يكن يَخطر له ببال، واضطرّ إلى القهقرى بعد أنْ قُتل عددٌ كبيرٌ مِن رجاله، وأُسر عمّه وأخوه وابن عمّه في ساعة واحدة، وفرّ المُحاربون بهؤلاء الأسرى، فلم يُمكن لمحمود أنْ

٣٨٩

يُخلصهم.

ورأى بعد الإمعان الكثير أنّه إذا لم يُسرع إلى إنقاذ أقاربه ذبحهم أعداؤه عن آخرهم، فاستغاث بعدوّه الشاه حسين ورجاه أنْ يأمر الأهالي بالإفراج عنهم، وفرِح الشاه فرحاً لا يوصف بذلك؛ لأنه كان يؤمّل أنْ يكون هذا سبباً في خلاصه وخلاص أصفهان مِن الضيق، فبعث بالأوامر إلى أهالي القرية يأمرهم بالإفراج عن الأسرى، ولكنّ أوامره وصلت بعد أنْ قُضي الأمرُ وضُربت أعناق الأفغانيّين، فاشتدّ أسَف الشاه حسين، وغيظ الأمير محمود حتّى إنّ الأمير أمر رجاله بقتل كلِ أسير في قبضتهم، وضيّق على أهالي أصفهانك بكلّ قوّته حتّى اضطرّهم إلى الفرار، وقَتَل كلّ مَن وقع في يده منهم.

وأراد أهل أصفهان - بعد الذي سمعوه عن أهل قرية أصفهانك، والذي رأوه مِن شهر مِن بسالة أحمد آغا ونجاحه في طرد الأفغانيّين - أنْ يهبّوا للحرب ويجاهدوا في ردّ الأعداء عن مدينتهم، وكان الشاه هذه المرّة على رأيهم، إلاّ أنّ قائد العساكر - وهو العربي الذي ذكرناه غير مرّة - ظلّ يُحاول ويُماطل ويَختلق الأسباب والحيل لمنعِ القتال؛ حتى خَمدت شجاعة الأهالي وعدلوا عن المُطالبة بالحرب، فرأى الشاه منهم ذلك وغيّر رأيه، فمكثَ في مدينته مُنتظراً نتيجة الحصار، وأرسل ابنه طُهماسب ميرزا إلى قزوين حتى يَجمع له العساكر ويُثير الأهالي على الأفغانيّين، فتمكّن هذا الأمير مِن الفرار إلى تلك الأنحاء، وجاهدَ على قدر استطاعته في استجلاب الخواطر وإنهاض الهِمَم، فرأى مِن الناس فُتوراً ونُفوراً، وعَلمَ أنّ دولة أبيه زالت، وكتبَ إليه بذلك مُشيراً عليه بترك أصفهان، وكان الشاه حسين يُفكّر في ذلك إلا أنّ الأمر صار مُستحيلاً ساعة أراد إتمامه.

وكثُر الضيق والجوعُ في أصفهان، وانقطع عنها الزاد مِن الخارج انقطاعاً تامّاً، فعادَ الأهالي إلى الإلحاح على الشاه بإخراجهم خارج الأسوار لمُحاربة الأعداء، ولم يجب طلبهم، ولكنّهم رأوا أنّهم إذا لم يموتوا في ساحة القتال ماتوا في مدينتهم جوعاً، فأصرّوا على القتال وتجمهروا حول قصر الشاه يصيحون ويصخبون ويقولون: هات لنا السلاح، ومُرْ العساكر أنْ تُرافقنا إلى مُحاربة الأعداء، فأمرهم بالانصراف فلم ينصرفوا، واضطر إلى أمرِ حُراسه أنْ يطلقوا النار عليهم، فعظُم الخطب، وكان الأهالي على وشك أنْ يهجموا على دار الحكومة ومَن فيها

٣٩٠

، ويُخرّبوا دولتهم بأيديهم بدل أنْ يُخرّبها الأفغانيّون لو لا أنْ يتدارك أحمد الذي مرّ ذِكره الأمر بحكمته، ويُنقذ سلطانه بشجاعته وأمانته؛ ذلك أنّه نهى بعض الحُرّاس عن إطلاق النار على الناس، ووقف بين جمهور منهم وصاح بهم: أنْ هيا بنا لمُحاربة الأفغانيّين، فعرفه القوم وداروا به مِن كلّ جانب، وتبعوه إلى خارج الأسوار فهجموا على الأفغانيّين هُجوماً عنيفاً ونكّلوا بفريق كبير منهم، وردّوهم عن بعض المواقع وغنموا منهم سلاحاً وزاداً، ولولا قلّة عَددهم لتمكّنوا مِن طردهم وإنقاذ المدينة منهم.

ومِن أغرب أُمور هذا التاريخ أنّ الوالي العربي لم يُرقه عمل أحمد آغا هذا، فوشى به للشاه، وأفهمه أنّ هذا البطل الأمين أتى أمراً فريّاً، وصدّقه الشاه على عادته، فوبّخ أحمد آغا توبيخاً عنيفاً على صنيعه، وأنذره بالعقاب في حين أنّ الأهالي عن بكرة أبيهم كانوا يحلفون باسمه ويشكرونه على بسالته وأمانته، ورأى الخصيُّ ما كان مِن مولاه، فلم يفه ببنت شفة، ولكنّه سار إلى منزله توّاً وبات ليلته، فلمّا قام الناس في الصباح الثاني جاءوا إليه ليرأس جماعةً منهم تُريد القتال فرأوه ميّتاً في سريره، وعلموا أنّه تجرّع السمّ عَمداً ممّا لحق به مِن الغيظ بسبب توبيخ مولاه له بعد إذكائه هِمَم الأهالي، وانتصاره على الأعداء مرّتين، فشقّ خبرُ موته على الأهالي، واظهروا تأثيراً خارقَ العادة، وكان بعضهم يُريد الهجوم على سرايا السلطان وقتله مع ذلك الوالي العربي، آخذاً بثأر أحمد آغا، فردّهم العُقلاء.

ومِن ذلك الحين لم يبقَ لأهل أصفهان أملٌ بالخلاص، واشتدّ عليهم الضيق والجوع اشتداداً هائلاً حتى أنّهم صاروا يشترون الرغيف بنحو ألف غرش، ولمّا نفدَ الخُبز كلّه جعلوا يقتاتون بلَحوم الحيوانات فأكلوها عن آخرها، فعمدوا إلى جُذور الأشجار وبدأ بعضهم يأكل بعضاً حتّى إنّ الأب كان يقتل ابنه والأُم ولدها طلباً للقوت، ووصل الأهالي كُلّهم إلى درجة الجنون التي تُعرف عن الناس في ساعة الجوع الهائل، وكثُر أكل الآدميّين للآدميّين، وزاد عدد القتلى والموتى عن كلّ حدٍ، حتى امتلأ النهر بالجُثث ووهنت القوى، وضاعت العقول، واستولى الذهول والجنون على المدينة، كلّ هذا والأمير محمود يُطيل الحصار وهو عالمٌ بالنتيجة، حتى رأى الشاه حسين وأعوانه أنّ الفساد بعد الذي تمّ لا يُفيد، وعزمَ الشاه على التسليم فلبس السواد حِداداً على عزّه الزائل، ودار في المدينة بأعوانه وهُم مثله لابسون السواد مِن قمّة الرأس إلى

٣٩١

أخمص القَدم يُودّع الأهالي ويَعظهم ويُبشّرهم بقُرب الفَرج؛ لأنّه عزم على التسليم للأعداء، وكان الناس مع كلّ ما أصابهم مِن الأهوال التي تُفقد الرشد إلا أنّهم [ يُريدون ] سُلطانهم واستقلالهم، ولا يرضون لمَلِكهم بهذا الذل، فكبُر الأمر عليهم وأكثروا مِن البُكاء والنحيب، ولكنّهم رأوا أنّ التسليم أولى بهم مِن الموت جوعاً، وبهذا قُضي الأمر.

وفي اليوم التالي جاءتْ الرُسل تُخبر الأمير محمود بعزمِ الشاه على التسليم، فجلس في قصر مِن جُملة القصور التي مَلكها في ضواحي أصفهان ينتظر وصول الشاه حسين، فلمّا وصل استقبله بالخُيلاء والفُتور وخاطبه الشاه حسين بما معناه:

يا ولدي، إن إله الكائنات لا يُريد أنْ أملك زماناً أكثر مِن هذا، وقد جاءتْ ساعة صعودك على عرش إيران، فأنا أتنازل لك عنه وعن السلطنة، جعل الله حلمك سعيداً.

ثُمّ نزع عمامة الملوكيّة عن رأسه، ووضعها على رأس الأمير محمود، وقال له:

إنْ حكمت احكُمْ بسلام، فتأثّر الأمير الأفغاني لهذا المَنظر الذي يُفطّر الفؤاد، وطيّب قلب الشاه ووعده باعتباره اعتبار الابن لوالده، وبإصلاح حال الرعيّة.

ولبسَ التاج في حضرة الشاه المُتنازل وأكابر دولته، وهكذا انتهت أيّام الدولة الصفَويّة، وكان ذلك في ٢٢ اكتوبر سَنة ١٧٢٢م، وحَكم الشاه حسين ٢٨ سَنة وهو مِن أشهر مُلوك إيران بسلامة النيّة وضعف الرأي، وهذه نتيجة الإفراط في الإشفاق في المُلك.

ما ارتكبه محمود مِن الفظائع بعد ارتقائه عَرش إيران:

لم يحكُم إيران مِن الأفغان غير اثنين: محمود وأشرف وهو الذي خَلّفه، ولكنّ مُدّة حكمهما كانت ملأى بالحوادث الخطيرة، وكان محمود قاسي القلب مُتقلّب الطبع، فقد أظهر في أوائل حُكمه على إيران فطنةً ورغبة في إصلاح حال الرعيّة لم يكن ينتظرها منه الناس، ولمّا دخل أصفهان بعد ذلك الحصار الطويل جعل همّه الأوّل إنقاذ أهلها المساكين مِن غائلة الجوع، فسّهل طُرق المواصلة والتجارة، وبعثَ الجنود في البلاد تحثّ الناس على جلبِ الحنطة والماشية إلى المدينة، حتى زال الضيق منها وعادت إلى سابق حالها، فشكره الأهالي على هذا الصنيع، ثُمّ انصرف إلى الاهتمام بإصلاح الحكومة وتسليم مُهمّاتها إلى أعوانه مع إبقاء ثقة الأهالي

٣٩٢

به وبقومه، ورأى بعد الإمعان الطويل الخوف مِن الموظّفين الإيرانيّين أنْ ينقبلوا عليه، كما لاح له شبح الاختلال في الإدارة إذا وليها أهل بلاده؛ لعدم خبرتهم في الأحكام، وجهلهم حاجات إيران، فأبقى كلّ موظفٍ إيرانيٍّ في مكانه، وعين معه أفغانيّاً مِن أعوانه بصفة مُساعدٍ أو مُراقب فضمنَ بذلك أمانة الأفغانيّين وخبرة الإيرانيّين في الأحكام، وأظهرَ مقدرةُ كبيرةً في هذا التنظيم الحكيم، وأظهر كرهةً لذوي الدسائس والخائنين الذين ساعدوه على النصر؛ لأنّه ظنّ أنّهم سيخونونه كما خانوا حسين شاه مِن قبله، فنكّل بهم وأقصاهم كلّهم - مع أنّهم كانوا الواسطة في فوزه - ولم يُبقِِ على أحد منهم غير الوالي العربي، ولكنّه جرّده مِن رُتبه وأهمله، ففرح أهل إيران لصنيعه هذا، ومالوا إليه؛ لأنّهم كانوا يكرهون أولئك الخائنين.

وأظهر محمود اعتباراً كبيراً لوزير الشاه حسين، وهو الرجل العاقل الأمين محمّد قلي خان الذي أبى الخضوع للفاتح الأفغاني، إلاّ على شرط أنْ لا يضطرّ إلى مُحاربة طُهماسب ميرزا ابن مولاه الشاه حسين، ورضيَ محمود بهذا الشرط، وأظهر الإعجاب به، وهكذا جرى محمود على هذا الطريق وأشباهه، ممّا أولع الناس به وحمدوا أمره، على أنّ الصفاء لم يدُم له إلاّ أشهراً قليلة، ثُمّ تجهّم وجهه؛ لأنّه ما عتم أنْ جلس على العرش حتى وصلت بلاده كوكبة مِن الفرسان، مُرسلةً مِن قيصر الروس بطرس الأكبر لطلب التعويض عمّا لحقَ ببعض الروسيّين مِن الإهانة والخسائر في شمالي البلاد، فأجاب محمود هؤلاء الرُسل أنْ لا قصد له على مقاصة قبائل التَتر على ما يقولون عنها، فعادت بهذا الجواب إلى مولاها، وأظهر بطرس الأكبر غيظاً وميلاً إلى الفتح ومُحاربة الأفغانيّين، وتقدّم على أنحاء قزوين فمَلك بعضها.

وبينا محمود يستعدّ لتجريد الحَملة على الروس بلغه خَبر أعظم وأهم: وهو أنّ سُلطان الأتراك سمع بالذي أصاب إيران، فأراد انتهاز الفرصة للانتقام مِن تلك البلاد، وضمَّ بعض ولاياتها إلى سلطنته، وخاف محمود خوفاً شديداً مِن ذلك، وكأن كلّ هذا لم يكفِ الأمير الأفغاني حتى جاهرت بعض المدن بالعصيان، فحار الأمير في أمره، وضاقت الدنيا في وجهه، لأنّ الذين كانوا حوله مِن الأفغانيّين لم يزيدوا عن خمسة عشر ألف مقاتل، ولاح له أنّ أهل أصفهان يُريدون الغدر به والانضمام إلى أعدائه، فأخذ يُفكّر في الخلاص منهم قبل سواهم، ودعا أكابرهم إلى وليمة حضرها ثلاثمئة مِن

٣٩٣

أشرافهم، فلمّا جلسوا في موضعهم هجمَ الأفغانيّون عليهم بإشارة محمود وقتلوهم عن آخرهم، وعرضوا جُثثهم في إحدى ساحات المدينة حتى يُرهبوا بقيّة أهلها، ثُمّ جمع محمود أولاد هؤلاء الأشراف وذبحهم أيضاً عن آخرهم، وكان يصحبه ثلاثة آلاف رجل مِن جيش الشاه حسين، فأولمَ لهم أيضاً وليمة وأمر قومه بالهجوم عليهم على حين غرّة فقتلوهم عن آخرهم، كلّ ذلك أراد به إرهاب الإيرانيّين وتقليل عَدد مَن يخافُ منهم في إيران فيُمكّن له على حسب رأيه الفاسد أنّه يتقدّم بعد ذلك إلى مُقاتلة غيرهم مِن الأعداء وهو لا يحسب للخيانة في مدينة أصفهان حِساباً.

وأمر محمود رجاله أيضاً أنْ يقتلوا كلّ واحد كان في خدمة الشاه حسين، فكثُر القتل والذبحُ، واضطرّ سكّان المدينة إلى تركها، فأقفرتْ مِن أصحابها، وخلا الجوّ فيها للأفغانيّين، وجرى على هذا الأُسلوب مِن الظُلم والإرهاب حتى لم يهنأ له عيشٌ بغير القَتل والمجازر، ووقع أكثرُ هذا الظُلم على أهل أصفهان وما يُجاورها، حتى إنّه وصل إلى الأجانب الذين كان لهم المعامل في تلك الأنحاء، مثل: الانكليز والهولانديّين والهنود وغيرهم.

فلمّا أقفرتْ خُراسان مِن أهلها جاء محمود بقبائل مِن الأكراد وأسكنها تلك المنازل الخالية، وهو يؤمّل الفوز بواسطتها، وجنّد مُعظم رجال الأكراد الذين أسكنهم المدينة، وحارب بهم بعضَ مُدن العراق، فأخضعها وقتل مَن قدر على قتله فيها، وهو يَزعم أنّ هذه المَذابح خيرُ واسطةٍ للخلاص مِن أعدائه.

وأرسلَ هذا الفاتح قِسماً مِن جيشه إلى مدينة شيراز فأخضعها بعد عناء كبير وأعمل السيف في أهلها، ثُمّ تقدّم بنفسه إلى بعض الأنحاء المُجاورة لجزيرة العَرب فعاد عنها خائباً مدحوراً، ولم يشأ عند عودته أنْ يدخل عاصمته على هذه الصفة، فدخلها في الليل مُتنكراً، وجعل ينتظر قدوم النجدات مِن بلاده، وهي التي قضّى مُدّة وجوده في إيران ينتظرها، فوصلت في آخر الأمر وخيّبت آماله؛ لأنّ العدد كان قليلاً والهمّة فاترة، وكان أعداؤه قد أشاعوا في بلاده أخبار جوره وظُلمه، واتّهموه بالميل إلى تغيير اعتقاده وغير ذلك مِن الأُمور التي أضرّت به وأخّرت الأفغانيّين عن نجدته.

واشتهر بعد ذلك أنّ رؤساء الجيش الأفغاني غير راضين عن محمود، وأشهرهم يومئذٍ أشرف ابن عمّ محمود، وأحد أصحاب النفوذ الكبير بين

٣٩٤

قومه، فلمّا أحسّ محمود بذلك استرضى قريبه، ولكنه لم يسترح بهذا مِن القلق والهمّ، فصار معظم خوفه مِن جيشه وأهل بلاده لا مِن الإيرانيين الذين هالهم ظُلمه، وقطعت فعاله قلوبهم حتى قيل:

إنّ الجندي الواحد مِن الأفغانيين كان يسوقُ الخمسة والعشرة أمامه مِن أهل أصفهان سوقَ الأنعام للذبح، ولا يجسر أهل هذه المدينة على الاعتراض.

وأمّا بقيّة الإيرانيّين، فقد أظهروا بسالة وإقداماً كثيرَين خلافاً لأهل مدينة أصفهان، ولعلّ السبب في ذلك أنّ أهل هذه المدينة اعتادوا الترَف في مدّة الدولة السابقة ونسوا أُمور القتال، واشتدّ القَلق والجَزع على محمود حتى اعتراه الهوس أو أُصيب بمسٍّ مِن الجُنون، فهزل جسمه وغارت عيناه وتغيّرت سحنته وتبدّلت أطواره ولم يَرَ الراحة، لا في الليل ولا في النهار، وصار الفتك بالأبرياء أقرب الأُمور إليه، حتى أصبح حُكمه مِن أكبر المصائب على مَن ألقاهم القدر في حُكمه وسلطانه.

وحدث أنّه سمع في تلك الأثناء بأنّ أحد أولاد السُلطان السابق - حسين شاه - فرّ مِن أصفهان، فاشتد خوفه وحقده إلى درجة الجنون المُفرط، حتّى إنّه أمر بجمع حسين شاه وأولاده كُلّهم في إحدى الحدائق، وكانوا يزيدون عن أربعين أميراً، فلمّا صاروا في ذلك المحلّ أحاط بهم الجنود، وتقدّم بنفسه والسيف مسلول في يده فجعل يقتل أولئك الأبرياء ويُقطّع أجسامهم، ومنظر والدهم حسين شاه يُفتّت الأكباد، والأعوان مِن حوله مَلكهم الإشفاق والسَخط مِن تلك القسوة الوحشيّة، وهو هائج لا يكتفي بالقتل وشُرب الدماء حتّى قتل الأُمراء عن آخرهم بيده، ولم يُبقِ منهم غير طِفلين صغيرين فرّا إلى والدهما حسين شاه ليُخلّصا مِن القتل، فأمسك ذلك الشاه المنكود الحظ بالولدين وظلّلهما بيديه وهو يرجو محموداً أنْ يقتله قبل أنْ يقتلهما، فلم يُصغِ ذلك الظالم المجنون لقوله، وطعنَ أحد الوالدين بخنجره فتلقى الشاه حسين الطعنة بيده وسال دمه، فصاح مِن ألم الجُرح وألم الحُزن الكثير، وكأن محموداً أفاق مِن جنونه لمّا رأى ما أصاب حسين شاه - الذي رُبّي على اعتباره وإكرامه - فرجع عن غيّه، وأبقى على مُهجة الولدين.

وكان تأثير هذا العمل الفظيع شديداً، فأوصل محموداً إلى آخر درجات الجنون الخطر، ولم يَبقَ أملٌ بشفائه؛ لأنّه أصبح يهيج ويضرب نفسه كلّ يوم وفقدَ وعيه، فلمّا رأى أعوانه ما انتهى إليه أمرُه - وكانوا يرون أنّ طهماسب ميرزا ابن الشاه حسين، الذي مَرَّ خبرُ فِراره مِن

٣٩٥

أصفهان قد عَزم على مُهاجمتهم - اجتمعوا وقرّروا تنصيب أشرف على عرش إيران بدلَ محمود؛ لئلاّ تتضعضع أحوالهم، فقَبِل أشرف السلطنة، وأمر في الحال بقتل محمود؛ لأنّه كان يكرهه كُرهاً شديداً.

وقيل: إنّ أُم محمود أمرتْ بخنقه في سريره؛ تخفيفاً لآلامه التي أصبحت لا تُطاق في آخر أيامه، ولم يُصب ظالمٌ بمثل ما أُصيب به هذا الطاغية الأفغاني مِن العذاب الهائل والألم القاتل والعاقبة الخاسرة، وحَكم السلطنة الإيرانيّة ثلاثة أعوام، ولم يفتح إيران مَلك مِن قَبله بجيش صغير واستعداد قليل مِثله.

وكان السببُ الأكبر في فوزه انحلال الدولة الصفويّة وضعفها في أيّام الشاه حسين، وتَفوّق الأفغانيّين على أهل أصفهان بالشجاعة والإقدام، وكثرة الدسائس، والانقسام في بلاد إيران.

ومات محمود في سنَة ١٧٢٥م.

١ - طهماسب ميرزا الثاني ابن الشاه حسين:

لم نذكره في عِداد مَن ارتقوا عرش إيران مِن الصفويّين لأنه ظفر بالعرش والتاج الإيراني، بل ذكرناه إتماماً لتنظيم حلقات سلسلتهم، ولسرد ما آل إليه أمرهم وأمر إيران، وما استقبلته مِن الحوادث الجسام والنوب العظام في هذا العهد الذي كُلّه عِبَر ومثلاث، ولمنع تداخل الأخبار بعضها ببعض، ولتسهيل ما يتطلّبه التاريخ مِن تنسيق الحوادث.

قد سبقَ أنّ هذا الأمير قد تمكّن مِن الفرار مِن أصفهان وهي ضمن إطار مِن الحصار الأفغاني، واستيلاء الفشل على الجيش الإيراني في هذه العاصمة، وما كان قليل العدد ولكنّه فَقد رُشد القوّاد وحِكمة ذَوي الأمر، فكان طهماسب هذا يسعى مِن يوم فِراره مِن أصفهان بردّ المُلك إلى أُسرته المالكة، فلم ينجح في أوّل الأمر، وكان على وشكِ الانزواء حتّى إذا عَلِم بتقدّم الأتراك في بلاد إيران في أيام محمود الأفغاني، وسمع بهجوم الروس مِن ناحية أُخرى، خَطر له أنْ يوالي هاتين الدولتين وأنّ يُوافقهما على اقتطاع ما تُريدان مِن السَلطنة، على شرط أنْ تسعيا بردّ الباقي منها إليه، ففاوض سُلطان الأتراك فلم يفلحْ في الأمر.

وأمّا إسماعيل بك سفيره في بطرس برج، فقد نجح وعقد باسم مولاه مُعاهدة مع القيصر مؤدّاها أنْ تتنازل إيران عن ولاياتها الشماليّة لروسية وفي جملتها: دربند وداغستان وشيروان وگيلان ومازندران واسترآباد، وأنْ يسعى قيصر الروس لقاء ذلك في طرد الأفغانيّين

٣٩٦

مِن إيران وردّها إلى الأُسرة الصفويّة، وكان الأتراك وقتئذٍ يفتحون البلُدان المُجاورة لأملاكهم ويضيفون الولايات الإيرانيّة إليها، ففتحوا بلاد كُردستان وخوي وتحجوان وايروان ومراغة وأرمينية ومُعظم آذربيجان.

وتَفرّد أهلُ تبريز في وسط هذه الحروب ببسالة وأقدام عَجيبين لم يُسمع بمثلهما في إيران، فإنّ هؤلاء الأبطال - مع قلّة عددهم وخلوّ مدينتهم مِن القلاع والحصون - تمكّنوا مِن ردّ الأتراك على أعقابهم وقتلِ العدد الوافر منهم، وحاول قائد جيش الأتراك دخول مدينتهم مِراراً فلم ينجح، وفرّ بمَن بقيَ مِن جيشه، فتعقّبه أهلُ تبريز ونكّلوا بالأُلوف مِن رجاله.

ولمّا بلغَ أهل تبريز أنّ بقيّة جيش الأتراك هذه جعلتْ همّها الانتقام مِن أهل آذربيجان على ما لقيتْ مِن الكسر أمام مدينتهم قصدوا الأعداء ليردّوهم عن مواطنيهم، ففرح الأتراك بذلك؛ لأنّهم كانوا يظنّون أنّ التبريزيّين سعوا إلى حتفهم بظلفهم بمثل هذا البُعد عن مدينتهم، وهجموا عليهم بثمانين ألف مُحارب، فأهلكهم التبريزيّون عن آخرهم وعادوا إلى مدينتهم غانمين، فلمّا بلغتْ هذه الأخبار مسامع أهل الدولة في الأستانة قاموا لها وقعدوا، وأرسلوا جيشاً جرّاراً لا يقلّ عن مئة وخمسين ألفاً مِن أبطال الحرب لمُقاتلة أهل تبريز وقتلهم، فلمّا عَلم القوم بذلك نقلوا عيالهم وأمتعتهم إلى جبال گيلان، وظلّ الرجال داخل أسوار المدينة للدفاع والحرب، فلمّا جاءهم الأتراك - وكانوا أضعاف عددهم، ومعهم ما لا يوجد في تبريز مِن الأسلحة والمدافع - أظهر الإيرانيّون بسالتهم العجيبة في الدفاع، وقتلوا مِن أعدائهم خَلقاً كثيراً، ولكنّهم لم يروا إلى النصر سبيلاً مع مثل هذا العدد الكبير بعد أنْ حُصروا ستّة أشهر، فرضوا بعد الحصار بالتسليم على شرط أنْ يَسمح لهم الأتراك بالرحيل مِن مدينتهم بعيالهم وأمتعتهم، فقِل الباشا التركي بذلك، وجاز هؤلاء الأبطال في وسط الأعداء مُتقلّدين السلاح وهُم راحلون عن مدينتهم بعد أنْ قُتل منهم نحو ثلاثين ألف في مُدّة الحرب الأخيرة، وقُتل مِن الأتراك مثل هذا العدد.

كلّ هذا حدث في أيّام محمود، بينما كان الروس يملكون الأراضي الشماليّة على ما تقدّم، وكانت روسية وتركية مُتّفقتين على تقسيم إيران على هذا الشكل، وتركِ القليل الباقي منها لطهماسب ميرزا إذا رضيَ بذلك.

وأمّا إذا لم يرضَ بهذا الاتّفاق فإنّ عرش إيران يصيرُ إلى مُلك غيره مِن أُسرته، واتّفقت الدولتان على مُقاومة الأفغانيّين وطردهم مِن إيران،

٣٩٧

فلمّا رقيَ أشرف عرش إيران ظنّ أعوانه مِن الأفغانيّين أنّه يقوى بِحكمته المعهودة على التخلّص مِن تلك المتاعب، والتغلّب على جميع الأعداء وكانت ثقتهم به عظيمة.

وأمّا هو، فكان يخشى أولئك الأعيان، ويظنّ بهم سوءاً أكثر مِن سائر أعدائه، وجعل همّه الأوّل التخلّص منهم، فقتل بعض أكابرهم وقوّادهم في الحال؛ لأنّهم أخلصوا الولاء لابن عمّه محمود مِن قَبله، وكان في جُملة الذين قتلهم جماعة مِن الذين ساعدوه على ارتقاء العرش، والذين جمعوا الشيء الكثير مِن ثروة إيران، فضمّ مالهم إلى ماله، وظنّ أنّه استراح بذلك مِن القلاقل والدسائس الداخليّة، وسرّ أهل أصفهان مِن بطش أشرف بأصحابه وقتله لجماعته الظالمين، فلمّا آنس منهم هذا بدأ يستعمل الحِيَل لاستمالتهم واسترضائهم، وأعلنَ أنّه ساخط على محمود وغيره مِن الذين أظهروا القسوة والتوحُّش في معاملة الإيرانيّين.

ثُمّ إنّه استدعى الشاه حسين، وعرضَ عليه ردّ المُلك إليه، ففهِم الشاه أنّها حيلة لاكتساب رضى القوم، وامتنع عن قبول المُلك شاكراً فضل أشرف، وكان أشرف قُبيل ارتقائه يُراسل طهماسب ميرزا ابن الشاه حسين في أمر الصُلح، ويدعوه للقُدوم إلى أصفهان، ففَرِح طهماسب ميرزا بهذا الخلاف بين أعدائه وقبِلَ دعوة أشرف، فقام قاصداً أصفهان وبلغهُ في الطريق أنّ محموداً قُتل وأنّ أشرف خَلّفه على السلطنة، فزاد فرحه؛ لأنّ الوفود كانت تأتيه كلّ يوم مِن الأمير الجديد تدعوه إلى زيارته، وكاد أشرف ينجح في حيلته، ويقبض على طهماسب بأهون سبيل لو لا أنْ يُسرع بعض المُخلصين إلى طهماسب ويعلمه بِنيّة أشرف، وكيفية مُعاملته للذين يخشى مُزاحمتهم، فارتدّ الأمير الإيراني على الأعقاب إلى مازندران، وعاد إلى السعي في تأليف جيش يُحارب به الأفغانيّين.

وجعل أشرف همّه الخلاص مِن عداء الروس والأتراك بعد أن فتك بمن فتك مِن قومه، وعمد في ذلك إلى الحيلة والسياسة، فأرسل الرُسل إلى الأستانة يطلب المفاوضة في الصُلح، وبثّ بين عُلماء الأستانة شكوى العُلماء السُنيّين مِن مُحاربة الدولة التركيّة الإسلاميّة لدولة إسلاميّة، واتّحادها مع دولة نصرانيّة على خَرابها، ومِن تفضيل السُلطان التركي الأُسرة الصفويّة الشيعيّة على الأُسرة الأفغانيّة السُنيّة مثله ومثل قومه، فتمسّك عُلماء الأستانة بهذا الرأي، واقلقوا حكومتهم بالمُجاهرة فيه، حتى رأت الحكومة التركيّة أنّ

٣٩٨

عداءها لأشرف وقومه سيجرُّ عليها المتاعب، ولكنّها لم تَعدل عن مقاصدها في مُحاربة الأفغانيّين، وادّعت أنّ سببَ الحَرب هو عدم انقياد محمود وأشرف إلى سيادة السلطان الدينيّة على جميع المُسلمين، وعدم اعترافهم له بالخلافة، وعلى هذا فقد وجد أشرف أنّّ كلّ مساعيه لم تُجدِ نفعاً وأنّ الحرب مع الأتراك لا بُدّ منها، وسمع بعد قليل أنّ جيشاً كبيراً مِن الأعداء قادم لمُحاربته والاستيلاء على عاصمته، فبنى حصناً كبيراً في وسط أصفهان نقل إليه أُسرته وذخائره، وعزمَ على نقل كلّ الأفغانيّين إليه في ساعة الشدّة.

ثُمّ أمر بتدمير كلّ القرى المُحيطة بأصفهان حتّى يصعب على الأتراك الوصول إليها ومُهاجمتها، ولمّا قرُب الأتراك مِن أصفهان استعدّ أشرف للقتال، وكانت إحدى فِرقهم قد انفردت عن بقيّة الجيش فعلِم بها أشرف وهاجمها بكلّ قوّته وقَتل كلّ أفرادها، ولكنّه رأى منهم بسالة هائلة فعاد إلى دس الدسائس، ونقل إلى العساكر التركية ومَن كان معها مِن الأكراد أنّ صنيع الحكومة التركيّة حرام مُنافٍ للشرع الشريف؛ لأنّ الأفغانيّين مُسلمون سنيّون مثل الأتراك، والسُلطان يحاربهم لغير داعٍ غير نُصرة النصارى والشيعيّين عليهم، فمال إليه مُعظم الأكراد وفريقٌ كبير مِن الأتراك، حتى أنّهم عوّلوا على عَدم مُقاتلته.

ثُمّ أرسل أشرف وفداً مِن المشايخ الذين جلّلهم الشيب إلى وسط العسكر التُركي ليُقابلوا القائد ويُفاوضوه في الكفّ عن القتال، فدخل هؤلاء المشايخ معسكر الأتراك وهيئة السكينة والوقار عليهم وخاطبوا الباشا التركي في شأن ما تقدّم، والناس مِن حولهم يَسمعون، فأجابهم أحمد باشا - وهو قائد جيش الأتراك - أنّه جاء ليُحاربهم بأمر مولاه سلطان المسلمين؛ لأنّ أُمراء الأفغان لا يعتبرونه رئيساً دينياً عليهم ولم يَسمع لهم قولاً.

ولمّا قرعَ أذان المؤذّن وقتئذٍ الأسماع قام المشايخ الأفغانيّون للصلاة، وصلّوا مع الأتراك وهُم يُظهرون التقوى ويطلبون إلى الله بصوت عالٍ أنْ يمنع الحرب مِن بين المسلمين، وأنْ يهدي القلوب إلى الاتّحاد، ولا يجعل خراب المسلمين على يد المسلمين، فأثّرت هيئتهم تأثيراً كبيراً في جنود الدولة التركيّة، وتبعهم جمعٌ غفيرٌ مِن الأكراد والأتراك يَعِدونهم بالامتناع عن مُحاربتهم، فرأى أحمد باشا أنّ هذا الروح سوف يسري بين جنوده، وأسرع إلى ابتداء القتال في الحال، وكانت قوّته تَقرب مِن ستّين ألف مُقاتل وسبعين مِدفعاً، ولم يكن مع الأمير الأفغاني

٣٩٩

أكثر مِن نصف هذا العدد، ولكنّ المعركة انجلت عن انتصار الأفغانيّين وتقهقُر الأتراك، وكان في إمكان أشرف أنْ يقتل عدداً كبيراً مِن أعدائه، ويطردهم مِن البلاد طرداً بعد تلك المعركة، ولكنّه استعمل الحِكمة المعروفة عنه، ونهى رجاله عن الفتك بالأسرى ومُطاردة الفارّين بحُجّة أنّهم إخوان لهم في الدين، وأنّ اللوم في الحرب على الرؤساء لا على الجنود، والحقيقة أنّه كان يعلم قوّة الأتراك ويخشى بأسهم، وكان يُريد التفرّغ مِن مُحاربتهم أو الاتّحاد معهم لمُحاربة الروس، فأتى ما يأتيه أصحاب الفطنة في مثل هذه الأحوال.

وفرّ القائد التركي إلى كرامانشاه ومنها إلى بغداد، بعد أنْ تركَ كلّ مدافعه وذخائره الحربيّة غنيمةً للأعداء، فأرسل إليه أشرف يقول:

إنّه لا يُريد اغتنام مالِ المُسلمين، ويرغب إليه في إرجاع ما لديه مِن مال الأتراك ما خلا السلاح إذا أراد أحمد باشا استرجاعها.

فبعث إليه أحمد باشا مَن يتسلّم ذلك، وقام أشرف بوعده وأطلق سبيل الأسرى وهو يُظهر لهم الإخاء، واستمال قلوبهم بذلك حتّى عمّ اعتباره وحبّه بين جنود الأتراك.

ورأت الدولة العثمانية أنّ رجالها لا يُقدمون بعد كلّ ذلك على مُحاربة أشرف، فاضطرّت إلى عقدِ الصُلح معه على أنْ يرضى أشرف باستيلاء الأتراك على الأراضي التي فتحوها في مُدّة السلطان محمود، ويعترف بالخلافة للسلطان التُركي، وأنّ يقرّ السلطان له بالمُلك على إيران، ويمتنع عن مُحاربته أو مُحالفة الروس عليه، ولم يمكن أنْ يُعقد صُلح أكثر مِن هذا نفعاً للأفغانيّين، ففاز أشرف بمُنيته وظهر للملأ أنّه تفوّق أهل زمانه بالدهاء والذكاء، وكما أنّه تفرّد بالإقدام والبسالة.

هذا ما تمّ لأشرف مِن استرضاء الأتراك وكسب صداقتهم وعقد الصُلح معهم، وكأنّه كان غير متخوّف مِن وارث عرش إيران، فلم يصرف مِن التفكير في أمره بعض ما صرفه في إرضاء الأتراك، وهذا الوارث الموتور والمسلوب عرشه وعرش آبائه - وهو طهماسب ميرزا - لا ينفك يسعى وراء إرجاع مُلكه المغصوب، وكأنّ السعد أراد خدمته فقيّض له اثنين مِن مشاهير الرجال ومِن رؤساء العشائر الإيرانيّة، وهما: فتح علي خان جدّ الأسرة القاجاريّة التي انتهى إليها مُلك إيران فيما بعد، ونادر قلي خان، وهو نادر شاه الذي صار مِن أعظم مُلوك زمانه، وتمكّن طهماسب ميرزا مِن فتح

٤٠٠