تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 108013
تحميل: 8800


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 108013 / تحميل: 8800
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

مدينة نيشابور بقود نادر قائده الباسل، ومِن ثُمّ زادت قوّته وعظمتْ آماله فأرسل هذا القائد الشهير لإخضاع خُراسان وما يُجاورها مِن البلدان، فأخضعها بعد أنْ قَتل خصمه فتح علي خان اغتيالاً، ولم يُعاقبه طهماسب شاه على هذا الجرم؛ لأنّه كان سيفه القاطع، ثُمّ أخضع مدينة هرات ومدينة مشهد، وعظمت قوّة طهماسب شاه بعد ذلك ولكنّ الفضل في ذلك كان كلّه لنادر.

فلمّا سمعَ أشرف بهذا الخَصم الشديد - وكان قد انتهى مِن حرب الأتراك وعقدَ الصُلح معهم - علمَ أنّ الخطر كلّه قد نجم قرنه مِن هذه الناحية، فجمعَ كل قوّته - وهي يومئذٍ لا تَزيد عن ثلاثين ألف مُحارب نصفهم مِن الأفغانيّين - واستعد لمُحاربة طهماسب شاه والبطش به، غير أنّه أتى أمراً أضاع منه المُلك ودل على غير ما اشتهر عنه مِن الحِكمة والذكاء، وذلك أنّه لمّا خرج للقتال ورأى أنّ جنوده لا تكفي لحفظ المُدن الكبرى وللهجوم وضع في كلّ مدينة حَرساً قليل العدد وأظهر خوفه مِن الأهالي، فأمرَ الرجال منهم بالابتعاد عن هذه المُدن مدّة الحرب أو يُعاقبون بالقتل، فاضطر رجال الإيرانيّين إلى تركِ مُدنهم وعائلاتهم وأعمالهم، ولم يروا أمامهم غير الانضمام إلى جيش طهماسب شاه ونادر، وكانوا هُم السبب في سقوط أشرف؛ لأنّهم حاربوا مع قوّاد بلادهم حَرب المُستقتل المُدافع عن نفسه وأهله وماله، وتقدّم أشرف بباقي رجاله إلى خراسان، فالتقى بنادر ورجاله على مقربةٍ مِن مدينة دامغان.

وتحارب الفريقان حرباً عنيفةً دامت عدّة ساعات كان النصر المُبين في آخرها للإيرانيّين، وفرّ الأفغانيّون بعد أنْ قُتل منهم عدد غفير،وفقدوا كلّ ذخائرهم ومُعظم أسلحتهم، وقصدوا مدينة أصفهان حيث جَمع أشرف ذخائره وأهله في الحصن الذي بناه، وكان ذلك في ٢ أُكتوبر سنة ١٧٢٩.

ولمّا رأى طهماسب شاه أنّ النصر تمّ له، ولم يبقَ عنده ريب في أنّ المُلك قد عاد إلى أُسرته أراد الإسراع إلى مدينة أصفهان، وكان يعتقد أنّ كلّ الإيرانيّين يُساعدونه على الخلاص مِن أشرف وقومه؛ لأنّهم كانوا يَفِدون عليه ألوفاً، غير أنّ نادراً كان ينوي النيّات البعيدة التي حقّقتها الأيّام بعد هذا، ولم يُحارب الأفغانيّين إلاّ لمهد السبيل لنفسه حتى يرقى عرش إيران، فخاف أنْ تَعظم سطوة طهماسب شاه ويشتدّ تعلّق الناس به إذا هو دخل أصفهان بعد ذلك النصر، فيّعسر عليه إتمام قصده، ولهذا اقنع مولاه بكلّ

٤٠١

حيلة أنْ يبقى في موضعه، وتقدّم نادر إلى أصفهان لمُحاربة العدو حتّى إذا تمّ طرده منها بعثَ إليه بالخبر، وتقدّم طهماسب شاه إلى عاصمة آبائه وأجداده، فرضي طهماسب شاه بهذا على كُره منه، وتقدّم نادر على أصفهان فوجد أنّ امتلاكها بعد الذي تمّ ليس بالأمر السهل، ولم تطلْ عليه الحال حتى عَلِم أنّ الأفغانيّين ينوون الفرار، ولكنّه لم يَسعَ إلى قطعِ الطريق عليهم، فتمكّن أشرف وقومه مِن ترك أصفهان بما معهم مِن المال والذخائر، وكانوا ينوون قتل أهل أصفهان عن آخرهم قبل هذا الفرار، فلم يُمكن لهم ذلك، غير أنّ أشرف ارتكب إثماً فظيعاً، وهو أنّه قتل الشاه حسين قبل فراره فسوّد صحيفته بهذا الفعل الشنيع، ومات الشاه حُسين بعد أنْ رأى مِن المصائب وسوء الطالع ما لم يَره مَلك مِن مُلوك إيران قبله(١) .

ودخل نادر مدينة أصفهان فوجد فيها الخراب شاملاً والويل عامّاً، وتوارد عليه الإيرانيّون مِن كلّ جانب يُهنئونه بالنصر وهُم في حال يُرثى لها مِن الذلّ والويل، فطمأنهم وشرع يبحث عمّن تَخلّف في المدينة مِن الأفغانيّين فقتلهم ما خلا بعض الذين اشتهروا بالإنصاف وحبّ المُسالمة منهم، وسمع طهماسب شاه بوقوع أصفهان في قبضة رجاله فأسرع إليها، ودخلها عقب فرار الأفغانيّين منها، فرأى آثار الظُلم والقسوة باديةً في كلّ مكان وعلى كلّ وجه، وبكى لمصاب قومه، وكان يظنّ أنّ أُسرته انقرضت كلّها، ولكنّه لقيَ والدته حيّة، وكانت قد تنكّرت مُدّة وجود الأفغانيّين، وخدمتْ أعيانهم خدمة الجواري، فلم يعلموا بها وأبقوها حيّة، حتى إذا عاد ابنها إلى أصفهان جاءتْ إليه وعانقته وفَرحت به، وكان سرور طهماسب بوالدته عظيماً.

ثُمّ تقدّم نادر وراء الفارّين مِن الأعداء فلَحق بهم في مدينة شيراز وحاصرهم، ولمّا فاوضوه بالصُلح لم يسمع لهم قولاً، فانقسم الأفغانيّون بأمر أشرف إلى عدّة فِرق، وفرّت كلّ فرقة مِن ناحية، وكان أكثرهم يقتلون النساء والعاجزين منهم حتّى لا يقعوا في يد الإيرانيّين، وهبّ الإيرانيّون في وجه هؤلاء الفارّين مِن كلّ ناحية حتى قتلوا أكثرهم وأذاقوهم البلاء

____________________

(١) في الكُنى والألقاب.. أُخذ السلطان حسين أسيراً وحُبس في سنة ١١٣٧، وقُتل في محبسه ٢٢ المُحرّم سَنة ١١٤٠ فحُمل نعشه إلى قم، ودُفن عند آبائه في جوار الحضرة الفاطميّة.

٤٠٢

الأكبر، وكان أشرف على وشك الوصول إلى بلاده لو لا أنْ يقدّم عليه بعض البلخيّين في الطريق ويضطرّوه إلى الفرار بنفسه، ولكنّ هذا الأمير القليل الحظ ظلّ يدور وحده في القفار حتّى عثر به واحد مِن أهل بلوخستان وعرفه فقتله في الحال، وأرسل رأسه وجوهرةً كبيرةً وُجدت معه إلى طهماسب شاه في أصفهان، وبذلك تلاشت قوّة الأفغانيّين، وسقطتْ دولتهم بعد أنْ حكمت إيران حوالي ثمانية أعوام، وذلك في عام ١٧٢٩.

تقسيمُ مَملكة إيران بينَ العُثمانيّين والروس:

في تاريخ الدولة العثمانيّة لمحمّد فريد بك: لمّا تولّى داماد إبراهيم باشا مَنصب الصدارة سنة ١١٣٠هـ أراد أنْ يستعيض عمّا فقدته الدولة مِن ولايات أوروبا بفتح بلاد جديدة في آسية، ولقد أتاح له الحظ حصول انقلابات ببلاد العَجم بسبب تنازل الشاه حسين عن المُلك جبراً إلى ميرمحمّد أمير أفغانستان، فأسرع الصدر إبراهيم باشا باحتلال أرمينية وبلاد الكرج، لكنْ كان قد سبقه بطرس الأكبر واجتاز جبال القوقاز التي كانت تحدّ بلاده مِن جهة الجنوب، واحتلّ إقليم طاغستان مع كافّة سواحل بحر الخزر الغربيّة، فكادت الحربُ تقوم بين الدولة والروس، ولعدم إمكان الروس مُقاومة الجيوش العثمانيّة، وتحقّق بطرس الأكبر مِن عدم اقتداره على مُحاربتها طلب مِن سفير فرنسة بالأستانة المسيو (دوبو) أنْ يتوسّط بينهما، فقبِل هذه المأموريّة ووفّق بين الطرفين بأنْ يمتلك كلّ منهما ما احتلّه مِن البلاد، وقبِلت الدولتان بذلك وأمضتا بهذه الشروط مُعاهدة بتاريخ ٢ شوّال سَنة ١١٣٦هـ، الموافق ٢٤ يونيو سنة ١٧٢٤م.

أمّا الفُرس، فلَم يُقبلوا هذا التقسيم المُزري بشرفهم والقاضي بضياع جُزء ليس بقليل مِن بلادهم، بل قاموا كرجل واحد لمُحاربة الأجانب وإخراجهم مِن ديارهم، لكنْ لم تكن شجاعتهم كافيةً لصدّ هجمات العُثمانيّين الذين فتحوا في سنة ١٧٢٥ عدّة مُدن وقلاع، أهمها مدائن: همذان واريوان وتبريز، وساعد ذلك تسلطن الفوضى في داخليّة إيران وتنازع كلّ مِن الشاه أشرف الذي قَتل مير محمّد أمير أفغانستان والشاه طهماسب مَلك ساسان، وانتهت هذه الحرب بالصُلح مع الشاه أشرف في ٢٥ صَفر سَنة ١١٤٠هـ، الموافق ١٢ أُكتوبر سَنة ١٧٢٧م إنّما لمّا ماتَ الشاه أشرف وانفرد

٤٠٣

طهماسب بالمَلك طلبَ مِن الدولة العليّة أنْ تردَّ إليه كلّ ما أخذته مِن بلاد أجداده فلم تُجبه الدولة، ولذا أغار على بلادها ولعَدم ميل السلطان إلى العَرب ورغبته في الصُلح ثارَ الانكشاريّة وأثاروا الأهالي فأطاعوهم طلباً للسَلب والنهب في ١٥ بيع الأوّل سنة ١١٤٣هـ، الموافق ٢٨ سبتمبر سنة ١٧٣٠م، وطلب زعيم هذه الثورة - بترونا خليل - مِن السلطان قتل الصَدر الأعظم والمُفتي وقبودان باشا أي أميرال الأساطيل البحريّة بحجّة أنّهم مائلون لمُسالمة العجم، فامتنع السلطان عن إجابة طلبهم، ولمّا رأى منهم التصميم على قتلهم طوعاً أو كرهاً فخوفاً مِن أنْ يتعدّى أذاهم إلى شخصه سلّم لهم بقتل الوزير والأميرال دون المُفتي، فقبلوا وألقوا جُثثهم إلى البحر، لكنْ لم يمنعهم انصياع السلطان لطلباتهم مِن التطاول إليه، بل جرّأهم تساهله معهم على العصيان عليه جهاراً، فأعلنوا بإسقاطه في مساء اليوم المَذكور عن مَنصّة الأحكام، ونادوا بابن أخيه السلطان محمود الأوّل خليفةً للمسلمين، فأذعن السلطان أحمد الثالث وتنازل عن المُلك بدون مُعارضة.

وبعد استتباب الأمن استأنفت الدولة الحرب مع مملكة الفُرس وتغلّبت على جنود الشاه طهماسب في عدّة وقائع أُهرقت فيها الدماء مدراراً، فطلب الشاه الصُلح وتمّ بين الدولتين الأمر في ١٢ رجب سنة ١١٤٤هـ، الموافق ١٠ يناير سنة ١٧٣٢ على أنْ تَترك مملكة العَجم للدولة العليّة كلّ ما فتحته ما عدا مدائن تبريز واردهان وهمذان وباقي إقليم لورستان، لكنْ عارض نادر خان أكبر ولاة الدولة في هذه المُعاهدة وسار بجيوشه إلى مدينة أصفهان، وعزل الشاه طهماسب وولّى مكانه ابنه الرضيع عبّاس الثالث.

١٢ - عبّاس الثالث ابن الشاه طهماسب:

بعد عزلِ الشاه طهماسب - لأسباب ستراها مبسوطةً في أخبار نادر شاه - عُين مكانه ابنه القاصر عبّاساً، وبعد أربع سنوات توفّي عبّاس هذا وكان نادر شاه وصيّه، بل كان هو المُمهّد المُلك لنفسه والمالك لإيران، وإنْ كان غير مُتوّج في عهد أبيه الشاه طهماسب، وكانت نهاية انقراض المُلك الصفوي بعد موت هذا الوليد في سنة ١١٤٨، وقامت على أنقاضه دولة نادر شاه في زمنٍ كانت الفوضى ضاربةً فيه أطنابها في البلاد الإيرانيّة، والطامعون

٤٠٤

في سلطانها لا يُحصى لهم عدد، وفي مثل هذا المضطرب وفي مثل هذه الفوضى تقوم دولٌ وتسقط أُخرى، والمُلك الدائم الذي لا زوال له ولا انقراض هو لله الواحد القهار جلّ جلاله.

ما جاءَ في تاريخِ جودت باشا عن الدولة الصفويّة:

قال بعد أنْ ذكر تنازل السلطان بايزيد عن السلطنة سنة ٩١٨ لولده السلطان سليم خان وتوجّهت الأنظار في عهده إلى الفتوحات، وقد بلغتْ شوكة الإسلام الذروة العالية:

وذلك إنّه بعد الأمير تيمور قام أولاده وقره قويونلير واق قيونلير واوز بكلر، وأقاموا حكومة في بلاد العَجم مدّة قليلة، وبهذه الأثناء ظَهرَ بعض مشايخٍ يُقال لهم الصفويّة في مظهر الإرشاد، فكان مُرامهم تحويل الأمر مِن المشيخة إلى السَلطنة، فكانوا يجمعون الناس في هيئة المُريدين والدراويش حتى كثُرت أتباعهم يوماً فيوماً وقويَ عُنصرهم، وكان فيهم الشيخ إسماعيل الصفوي ابن أحد المشايخ، فانتحل لنفسه لقب شاه إيران، وسار بجماعته على البلاد الشرقيّة بدعوى اشتهار مَذهب الشيعة فاقتحما واستولى عليها، فاستمر مذهب (تيمور) في فساده، وعزم على دخول بلاد الروم والاستيلاء على الأناطولي والوصول إلى اسكدار، ولم يدرِ أنّ الدولة العليّة قد استتبّ لها المُلك وتمكّنت مِن أريكتها، ولا يعلم أنّ هُناك شهِماً هُماماً وبطلاً مُقداماً وهو السلطان سليم (ياوز) الذي لمّا بلغه خبره سافر إليه في عساكره العثمانيّة، مُتولّياً قيادتها بنفسه، وهزمه أقبح هزيمة وفرّق جُيوشه، وجال في تلك الأقطار فدخل إيران وكردستان وكرجستان، وشنّ الغارة على تلك النواحي ودوخها بالخيل والرجل.

ثُمّ لمّا عَلِم الشاه إسماعيل أنّه يتعذّر على حكومة إسلامية أنْ تبقى في جوار دولة إسلاميّة أُخرى عظيمة أبديّة القرار إلاّ باختلاف المذهب أقبل على بثّ مذهب الشيعة في ديار إيران وأقام الدولة الصفويّة على أساسه، فتمكن مِن القاء الشقاق وتحريك الإحَن بين أهل الملّة الإسلاميّة.

ولمّا عَلِم السلطان سليم أنّ دولة الجراكسة في مصر كانت ميّالة إلى الشاه إسماعيل أثناء الحُروب التي جرتْ بينه وبين الدولة العليّة قرّر وجوب تأديبهم بالذهاب إلى مصر، ثُمّ بلغه أنّ الغوري سلطان مصر أعدّ الأموال والذخيرة واستعدّ للاستيلاء على ديار الروم وحصرِ الأستانة كما

٤٠٥

خطرَ ذلك للشاه إسماعيل فلم يَنجح كما عرفت، فخرجَ السلطان سليم بعساكره فلاقى جيوش الجراكسة في أرباض حَلب، واشتبك القتال بين الفريقين، ثُمّ دارت الدائرة على الغوري وصُرع في ميدان القتال، وانهزمت جيوشه وتفرّقت شذر مذر.

ثُمّ ذَكر أُموراً هي أعلق بتاريخ الدولة العثمانيّة منها بالدولة الصفويّة أعرضنا عنها، إلى أنْ قال:

ثُمّ إنّ السلطان سليم خان (ياوز) لمّا جمع بين الخلافة والسَلطنة اقتضت الأحوال أنْ جميع الموحّدين يعدون أعظم أجزاء عنصر هذه الدولة الإسلاميّة، غير أنّ أهل إيران استمرّوا خارجين عن هذا العُنصر، حيث سرى فيهم سمّ النفاق الذي بثّه إسماعيل شاه بين المُسلمين، فكانوا لذلك حاجزاً منيعاً بين المسلمين السنيّين القاطنين فيما وراء النهر وبين الدولة العليّة في بلاد الروم، فلم يتيسّر لأولئك السنيّين أنْ ينالوا شرف التابعيّة، فبناءً على ذلك رأت الدولة حينئذٍ أنْ تجمع بوحدة الخلافة تحت لوائها جميع الأُمم التي تعدّ مِن عناصرها الأصليّة في الشرق والغرب والهند والسند، هذا الذي يُخالج صدر السلطان سليم خان (ياوز)، حتى إنّه كان يُريد المسير ثانياً إلى إيران ليُقوّض بنيان مذهب الشيعة، ويمحو آثار الدولة الصفويّة التي كانت مؤيّدة له وجادّة في نشره، غير أنّ عُمره كان قصيراً.

وجاء فيه في موضع آخر (ص٧١): في عهد السلطان أحمد خان الثاني...، وفي أثناء هذا الدور أفاد دري أفندي بعد رجوعه مِن سفارة العَجم أنّ بعض عُقلائهم قالوا:

إنّ حال إيران سيّئة، وإنّه وإن كان يوجد بيننا رجالٌ مِن ذَوي التدبير والدربة فإنّ السفهاء ما تركوا لهم نفوذاً، وإذا بقيت الأحوال على هذا المنوال تزول الدولة في مدّة سنتين لا مَحالة، فكان الأمر كذلك، فإنّه لم يمرّ على ما قالوه سنتان حتّى غلبهم الأفغانيذون واستولوا على أصفهان، ولمّا اتّصل بالدولة العليّة خبر اضمحلال هذه الدولة الصفويّة رأت مِن المُناسب أنْ تستولي على بعض الأيالات التي كانت قديماً في حوزتها ثُمّ دخلت في يد العجم مِن أنْ يبتزّها غيرها، فاستولت على عدّة أيالات كهمذان وكنجه وروان وشيروان وكورجستان، وحيث لم يكن لوكلاء الدولة مَعرفةً بتدريب العساكر اللازمة لمُحافظة الإيالات المذكورة فعندما قام بعد ذلك نادر شاه في إيران استردّ الولايات التي كانت في يد الدولة العليّة والروس، وذهب ما أُنفق في هذا السبيل مِن

٤٠٦

العساكر والذهب سدىً، واستولى الخراب على الأناطولي في هذه الحروب، فندِم إبراهيم باشا وعمّ الكَدر جميع الناس.

وجاء في مكان آخر (ص٧٣): وكان ينبغي القيام بدفع فساد نادر شاه، ولكنّ ذلك يقتضي قوّةً عظيمة، ولمّا كانت الدولة مُنقسمةً في بحر اللهو والخلاعة نشوانة بخمر اللذات لم يتأتَ لها ذلك.

وعندما ظهر الأفغانيّون واستولوا على أصفهان، وخلعوا الشاه حسين الصفوي - الذي كان آخر المُلوك الصفويّة - طلبه أحمد باشا والي بغداد إليه، فلم يكن مِن الأفغانيّين إلاّ أنّهم قطعوا رأسه وأرسلوه إليه، وعليه انقرضت الدولة الصفويّة، فلم يبقَ منها إلاّ طهماسب بن حسين شاه الذي كان في جهة قزوين حين الاستيلاء على أصفهان، فتسلطن هناك.

وفي أثناء ذلك ظَهر مِن عسكره رجلٌ جسورٌ مِن قبيلة أفشار اسمه نادر علي، فاشتهر بالإقدام والقوّة شيئاً فشيئاً، فعيّنه رئيساً لحُجّابه، وتغلّب على الأفغانيّين واستخلص منهم أصفهان؛ فنال بذلك عِند المَلك نُفوذاً تامّاً، وعُيّن وكيلاً مُطلقاً ولُقّب (اعتماد الدولة)، وسار إلى الأفغانيّين لاسترجاع إيران مِن حوزتهم، وفي أثناء ذلك انهزم الشاه طهماسب في حربه مع سرّ عسكر روان علي باشا ابن الحكيم، كما انهزم في حربه مع أحمد باشا والي بغداد في صحراء همذان، فاضطرّ إلى طلبِ الصُلح فعُقِدت المُعاهدة معه على أنْ تبقى كنجه وتفليس وروان وشروان في حوزة الدولة العليّة، ويستمر في يد طهماسب همذان وكرامان شاهان لا غير. على أنّ نادر علي لمّا بلغهُ خبرُ الصُلح الذي عقده الشاه طهماسب امتعض لذلك، وخلعه وأجلس ابنه عبّاساً مكانه، وكان عُمره ثمانية أشهر ثُمّ خلعه أيضاً ولبسَ هو الخلعة الملوكيّة، فصارت ممالك إيران مُسخّرةً لأمره، واستولى بغتة على الأيالات المذكورة؛ لأنها كانت خاليةً ممَّن يُحافظ عليها بسبب الصُلح المعقود، وأخذ يشنّ الغارات على الحدود الخاقانيّة، فنشأ مِن ذلك في الأستانة أقوال كثيرة وأراجيف مُتنوّعة، وأنكر جماعةٌ مِن الصالحين هذه الأحوال السيّئة على إبراهيم باشا، وقدحوا فيه لسوء أفعاله...

إلى كلامٍ لا غرضَ لنا بنقله هُنا، فندعه إلى مكان مِن هذا التاريخ لدولة نادر شاه.

٤٠٧

تاريخُ نادر شاه الإيراني

بسم الله الرحمن الرحيم ، حمداً لمَن يهبُ المُلك لمَن يشاء وينزعه عمَّن يشاء، وهو مالك الأمر ومُدبّر العباد، ومُجري أحكامه على مقتضى الحِكمة والمُسبّبات على أسبابها، وصلاة على نبيّ الهُدى، الجامع شرعه بين حاجة الروح وحاجة الجسد، ومصلحة الدين ومصلحة الدُنيا، وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين.

وبعد، فإنّي مُثبّتٌ في هذا الجُزء تاريخنادر شاه الذي بلغَ مِن الشُهرة مكاناً قصيّاً، ومِن اتباع السلطان وبسطة المُلك شأناً عليّاً، ونال ما نال بعصاميّته لا بعظاميّته، ومَكّن له مِن إدراك الأمر هوي نجم الدولة الصفويّة للأُفول، وقد تضافرت عليها عوامل الانحلال، وطمعَ فيها الغريب مِن هُنا وهناك، ومهّد له ذلك كلّه مَلِك صفويّ مُشرّد غلبَ الأفغان أباه على مُلكه، ثُمّ انتهى قائدين عظيمين مُنقذين لإيران، وفي نيّة كلٍ منهما الطموح إلى امتلاك ذلك العرش المُتضعضع مِن وارثه الذي لا يملك قوّةً يسترجعه بها، ولا رأياً حصيفاً يجمع به عليه القلوب ويخفض مِن غلواء كلّ طامع في مُنازعته وانتزاع سلطانه.

أمّا هذان القائدان، فهما: فتح علي خان جدّ الأُسرة القاجاريّة التي آل إليها مُلك إيران، ونادر قلي خان الذي كان اغتياله لقرينه فتح علي خان مِن أوّل ما مهّده لنفسه مِن امتلاك إيران، فأزاحه مِن طريقه، وهان عليه فيما بعد أنْ يخلعَ طهماسب، ويُجلس طفله على العرش ويكون هو الوصي، ثُمّ يموت الطفل فيخلو له المجال.

٤٠٨

قد تقدّم في تاريخ الدولة الصفويّة - وإنْ شئت فقل: في تاريخ آخر مَلكٍ منها لم ينعم بشيء مِن المُلك - قسم غير قليل مِن أخبار نادر وأوائل ظهوره، وها نحن نورد بقيّة أخباره:

تَمهيدٌ:

لمّا طُرد الأفغانيّون مِن إيران، واستتبّ الأمر - وإنْ شئتَ فقُل ظهرت بوادره لطهماسب - انتهت القوّة كلّها إلى مَن كان العامل في طرد الأفغانيّين، وكان قائد جيش إيران كلّه وهو نادر، ولم يَبقَ لطهماسب في الواقع غير الاسم، وخاصّةً بعد أنْ غُلبَ على العاصمة أصفهان وعُين حاكماً على خُراسان وخوارزم وسيستان (سجستان) وكرمان وهي أكبر الولايات الإيرانيّة، حتى أُعطي نادر كلّ ما يُؤهّله للمُلك مِن سكّ النقود باسمه وجمعِ الجيوش تحت رايته وهكذا تنظيمها، حتى ظهرَ أنّه سوف يؤول إليه مصير سُلطان إيران بالاسم والفعل، وهو إلى ذلك يسعى بكلّ ما أُوتي مِن فِطنة وتدبير إلى ما أوتي مِن قوّة ينتظر ساعة ارتقاء العَرش، وهو منه كقاب قوسين أو أدنى.

عشيرةُ نادر وأوائل أمره:

هو مِن أُسرة أفشار في بلاد خُراسان، كان والده مِن عامّة الناس، وظلّ هذا الرَجل العظيم إلى آخر أيّامه لا يَنكر أصله الحقير ولا يدّعي الشرف، ولا يُريد التباهي إلاّ ببسالته، يدلُّك على ذلك أنّه لمّا سأله البعض مِن حاشية سُلطان الهند - حين فَتح دلهي عاصمة الهند - عن حَسبه ونَسبه وقد أراد تزويج ابنه مِن ابنة سُلطانهم حَسب العادة عندهم، قال لمَن جاءه بهذا السؤال: أخبروا هؤلاء القوم أنَّ ابني ابن نادر شاه ابن السيف ابن السيف إلى الجيل السبعين.

فأنت ترى أنّ نادراً لم يتّخذ غير عصاميّته وغير ما أُوتي مِن قوّةٍ وبسالةٍ سبباً للفوز بالمُلك، غير لاجئٍ إلى ما لجأ إليه الكثيرون ممَّن أسّسوا لهم مُلكاً وسلطاناً، وشيّدوا دولةً إلى اختراع نَسبٍ عريقٍ يتّصل به بسبب وثيق أو لصيق.

وُلد هذا العصاميّ في ١١ نوفمبر سنة ١٦٨٧م، ولمّا شبّ رأى بلاده في حالة فوضى مِن ضعف الحكومة، ومِن هجوم قبائل التتر عليها حيناً بعد

٤٠٩

حين آخر - على ما روينا خبره في تاريخ أواخر الحكم الصفوي - والأحوال تتقلّب عليه، وهو يُؤخذ أسيراً تارةً ويَخدم عُمّال السلطان تارةً أُخرى، وحيناً ينظر فرقة مِن قُطّاع الطُرق واللصوص تسطو على البلاد وتنهب الأموال، حتى اشتهر أمره مِثل أكثر اللصوص والخارجين على النظام والسلطان المعروفين، واستدعاه حاكم خُراسان إليه فجاءه ولقيَ منه الإكرام، واستعان به الحاكم على مُحاربة التَتر مُدّة، ثُمّ ظهرتْ منه أُمور اقتضت عزله مِن وظيفته وإهانته، فعظُم ذلك عليه وعاد إلى سابق سيرته، فألّف عصبةً مِن اللصوص وأحسن قيادتها، فانضم إليه الأُلوف حتّى بلغَ عدد جيشه ثلاثة آلاف مُحارب ونيّفاً، وخافت الحكومة سطوته فسعى بعض ذَوي قُرباه في ضمّ قوّته إلى قوة طهماسب ميرزا يوم كان يُحاول هذا الأمير طرد الأفغانيّين مِن بلاد إيران، وتمّ الأمر على ذلك، فأصبح نادر مِن ذلك اليوم مِن أعظم أعوان طهماسب، وكان منه ما عُرف في أخبار طهماسب.

وظلّ هذا البطل يَترقّب سنوح الفُرصة لخَلع طهماسب والجلوس على عرش إيران، حتى تمّ له ذلك بواسطة الحرب مع الأتراك، وذلك أنّ الأتراك كانوا في ذلك الحين يُحاربون الأنحاء الغربيّة مِن إيران، وقد استولوا على قِسم عظيم منها، فتقدّم نادر لمُحاربتهم، والتقى بجموعهم في أنحاء تبريز وأردبيل ففرّقها وحطّمها وانتصر عليها انتصاراً تامّاً، ثُمّ تقدم منها إلى مدينة إيروان وبدأ بمحاصرتها، فجاءه ساعة الحِصار خبرٌ مِن أخيه في خُراسان يقول له:

إنّ الأفغانيّين شنّوا الغارة على البلاد، وإنّ الثورة عمّت أنحاءها. ولمّا كانت خُراسان مِن الولايات الخاصّة به اضطرّ إلى الإسراع إليها وُمقاصّة الجانين فيها، فتركَ الأتراك في مواضعهم وسار إلى خراسان فنكّل بالأفغانيّين وأعاد الراحة إلى تلك البلاد.

ولمّا كان نادر في الحرب مع الأفغانيّين في خُرسان زيّنَ البعض لطهماسب أنْ يزحف على الأتراك ويُحاربهم، ويُتمّم الذي شرع فيه نادر مِن أمر طردهم، فسمع رأي القائلين به مِن أهل أصفهان، وقام في الحال بمَن لديه إلى ساحة القتال، وأعاد الكرّة على جيوش الأتراك، ولكنّه لم يكن مِن أصحاب الدراية والقيادة فكُسر شرّ كسرة، وخسرَ كلّ الذي رَبحه نادر في الحُروب السابقة، حتى إنّه اضطرّ إلى عقدِ الصُلح مع والي بغداد على أنْ يترك للأتراك الأراضي الواقعة وراء نهر أركس، ولم يشترط على الأتراك ردّ الأسرى الإيرانيّين الذين كانوا في

٤١٠

قبضتهم، فلمّا رَجع نادر مِن حرب خُراسان وسمع بهذا الصُلح المعيب استشاط غيظاً، وبعث إلى طهماسب شاه يُوبّخه على القبول به، وأرسل الكُتب إلى كلّ الحُكّام في الولايات يُعلمهم بأنّه لا يرضى لبلاده وقومه مثل هذا الصُلح، وأنّه عازمٌ على مُحاربة الأتراك ومصالحتهم على شروط أنسبَ مِن هذه أو إخضاعهم، وطلب مُساعدة الحكّام، فأثار بهذا المنشور الخواطر على طهماسب ميرزا، ولاح له مِن ذلك أنّه صار على وشكِ الوصول إلى العرش.

ثُمّ تقدّم نادر إلى مدينة أصفهان، وحالما وقعَ نَظره على مولاه طهماسب شاه بدأ يُوبّخه على مَسمع مِن الخدّام والأعوان، ثُمّ تظاهر بالصفح عمّا فاتَ، ودعا الشاه إلى وليمةٍ في حديقة قصره، فلبّى الشاه الدعوة في ذلك المساء، فألقى نادر القبض عليه ونفاه إلى خُراسان بعلة عدم كفاءته، وولّى مكانه عبّاس ميرزا - ابنه - وهو يومئذٍ طفلٌ صغير، كلّ ذلك لأنّه كان يخافُ التعدّي الظاهر واختلاس المُلك قبلَ أنْ يَعدَّ لذلك الأفكار إعداداً تامّاً.

ولمّا تمّ تتويج الطفل عبّاس شاه، وأقام نادر نفسه وصيّاً عليه رجف بكلّ قوّته لمُحاربة الأتراك في بغداد، فوصل إليها وجعل يُحاصرها، وكان على وشكِ أنْ يفتحها لو لا أنْ تصل نجدة مِن الأتراك تحت قيادة أحد مُشيريهم وتردّه عنها، وكان جيش الأتراك يزيد عن جيشه زيادةً كبيرةً في العَدَد والعِدد، فتقهقر الإيرانيّون مع أنّ نادراً فعل فِعال الأبطال، واضطرّ هذا البطل العظيم إلى الرجوع عن بغداد ونواحيها بعد أنْ دامت المَعركة ثماني ساعات، وتفرّق الإيرانيّون أيدي سبا، وبلغ عدد قتلاهم ٤٠ ألفاً.

ولم يؤثّر هذا الفَشل الكبير بنادر شاه، بل أذكى همّته وشدّد عزيمته، فإنّه حال وصوله إلى همذان شَرع في لمِّ شعثه، ودفع الرواتب إلى عساكره ومواساة أهل المُصابين منهم وتشجيع الباقين وحضهم على أخذ الثأر، فاجتمع لديه خَلقٌ كثيرٌ منهم، وبدأ يُنظّم الجنود الجديدة ويُدرّبها وهو ينوي البطش بالأتراك، حتى إذا جاءت الساعة وسَمع الأتراك بكلّ هذا الاستعداد أرسلوا جيشاً عظيماً لمُحاربته تحت قيادة المشير طوبال عثمان باشا وكان بطلاً مَغواراً، إلاّ أنّ الحظّ لم يُساعده؛ لأنّ نادراً التقى طلائع جيشه فهزمها ووصل المُنهزمون إلى مركز الجيش والإيرانيّون يُطاردونهم، حتّى إذا التقى الجيشان وانتشب القتال فاز الإيرانيّون فوزاً عظيماً، وقُتل مِن الأتراك عددٌ عظيمٌ وفي جملتهم قائد الحَملة، وجاء به قاتله إلى نادر شاه، فأظهر هذا

٤١١

الرجل العظيم مُروءة الأبطال، وأظهر كلّ احترامٍ لجُثّة خصمه الباسل، وبذلك عَظُم قدره ولم يبقَ له مُعاند في كلّ إيران بعد هذا النصر المُبين.

وعقدَ نادر الصُلح مع والي بغداد بعد هذه الحَرب، ثُمّ زحفَ على بعض الولايات الثائرة في جنوب إيران ليُخضعها وتمّ له ذلك، ولكنّه عَلِم حال انتصاره على الثائرين أنّ سلطان الأتراك أبى التسليم بالصُلح على ما أتاه والي بغداد مع نادر، فأرسل جيشاً آخر تحت قيادة عبد الله باشا لمُحاربته والفوز عليه، فلمّا تحققّ نادر هذا الخبر عاد بكلّ قوّته إلى مُحاربة الأتراك، والتقى جموعهم في سهول أرمينية - وكان الأتراك أكثر عدداً مِن رجاله - فقام نادر في قومه مُحرّضاً لهم على الجهاد وبذلك المستطاع، ثُمّ هجم على الأعداء هُجوم الأسد الضاري، واستمرّ القتال مدّة طويلةً وجيش إيران يبطش بالأعداء أينما حَوّل نادر وجهه، حتّى عمّ الرُعب قلوب الأتراك بعد أنْ قُتل منهم أربعة عشر ألفاً، وبدأوا بالتقهقر فوصل بعض الإيرانيّين إلى عبد الله باشا وقتلوه، وكان نادر يظنّ أنّ القتال انتهى بذلك، فلمّا ثبتَ له أنّ قوّة الأتراك لم تَزل عظيمة وأنّهم معوّلون على النزال رفع رأس عبد الله باشا على حَربة يراها الكلّ، فتحقّق الأتراك أنّ قائدهم قُتل فذُعروا وفرّوا، وكان انتصار الإيرانيّين عليهم عظيماً، واستولى نادر بعد هذا على مدينتي گنجه وتفليس وجميع بلاد القوقاس، ثُمّ عقد صُلحاً مع الأتراك مِن مُقتضاه إعادة إيروان والقارص والممالك الإيرانيّة السابقة كافّة إلى شاه إيران، واضطرّ الأتراك إلى القبول بالمُعاهدة التي عقدها مع والي بغداد.

وعاد هذا الفاتح العظيم بعد النصر إلى أصفهان سالماً غانماً، فكان لدُخوله يومٌ عظيمٌ احتفل فيه الإيرانيّون احتفالاً باهراً.

ولمّا انتهى نادر مِن كلّ هذا عوّل جعلِ نفسه مَلكاً لإيران بالاسم والفعل أيضاً، وكان الطفل عبّاس شاه الذي أقامه شاهاً قد مات، فأرسل نادر الكُتب إلى كُبراء إيران وأُمرائها يدعوهم إلى حُضور الاحتفال بعيد النوروز، فجاء منهم نحو مئة ألف رجل في صحراء مغان بأذربيجان، ولمّا تكامل عددهم وانقضى دور الاحتفال قام نادر بين جموعهم وأعلن وفاة مَلكهم عبّاس، وطلب إليهم أنْ ينتخبوا لهُم ملكاً غيره يَقدر على حِفظ كرامة المَملكة، مُتظاهراً بالتَعب مِن إدارة الأحكام والميل إلى الراحة بعد أنْ أراح البلاد مِن الأفغانيّين والأتراك والروس، وانسحب إلى خيمته ليتداول

٤١٢

الأُمراء في غيابه، ولم يمضِ إلاّ القليل حتّى بعثَ الأُمراء يطلبونه، وأعلنوه أنّهم أجمعوا على تنصيبه مَلكاً دون سواه، فتظاهر بعدمِ الرضا وتمنّع كثيراً حتّى إنّه ظلّ شهراً كاملاً يأبى قبول هذا الشرف العظيم، إلى أنْ عَلِم أنّ الأفكار كلّها استعدّت لِما يُريد، فجاهر بالقبول ولكنّه اشترط على أهل بلاده لقاء ذلك أنْ يتّحدوا قلباً وقالباً مع السُنيّين، وشدّد في ذلك فتبعه بعض الناس ولم يرَ مُقاومة في هذا الأمر، وعلى ذلك تُوّج نادر شاه مَلكاً في إيران باحتفالٍ كبيرٍ، وأصدر أمراً مُطوّلاً يدعو فيه الإيرانيّين إلى استعمال السلاح وتعلّم المعارف ومؤاخاة السنّيين، وذلك في صفر سنة ١١٤٩هـ، الموافق سنة ١٧٣٦م.

وأمّا هدف نادر شاه مِن هذا الانقلاب، فكان الخلاص مِن الأُسرة الصفويّة؛ لأنّ جدّها إسماعيل شاه أدخل المبادئ الشيعيّة إلى إيران كما تَقدّم، ولعلّه كان يُريد التقرّب مِن السُنيّين في الأنحاء الأُخرى وتسهيل الفتح، وضمّ الممالك على نفسه حتّى أتى هذا الأمر الغريب، ولكنّه لم يَنجح في هذا إلاّ نجاحاً ظاهراً مُوقّوتاً، وظلّ الإيرانيّون على اعتقادهم المعروف.

ودخل نادر شاه مدينة أصفهان بعد تتويجه بأُبّهة كبيرة، وبدأ يستعدّ لفتح الممالك، فأراد التخلُّص قبلَ كلّ شيءٍ مِن الأفغانيّين وسحقِ قوّتهم، وجمعَ جيشاً لا يقلّ عن ثمانين ألف مُحارب قصد منه إخضاع إمارة قندهار، وهي يومئذ لأخي السلطان محمود الفاتح الأفغاني الشهير، ورأى قبل التقدّم على تلك البلاد أنّ في جوار عاصمته قوماً مِن البدو يُعرفون باسم البختياريّن يُكثرون مِن قَطع الطُرق وتخطف الماشية وإقلاق راحة الناس، فإذا وافتهم جنود الحكومة امتنعوا في كهوف حَصينة لهُم في الجبال، وحاولتْ الحكومة مِراراً ردّ شرّهم فأخفقت سعياً، حتى اعتقد الناس أنّ إخضاع هؤلاء القوم مِن الأُمور المُستحيلة، ولكنّ نادر شاه لم يكنْ ممَّن يسكت عن عدوٍ له أو يعود عن عَزم، فصمَّم النيّة على تأديب هؤلاء العُتاة، وظلّ يحاولهم ويُطاردهم في الجبال حتّى قهرهم وأذلّهم وردّ عن الناس شرّهم، وأخذ منهم عدداً كبيراً مِن الرجال أدخلهم في جيشه، وظهرَ مِن الحوادث المُتتابعة أنّه أحسن صُنعاً في ذلك؛ لأن هؤلاء اللصوص كانوا أشهر جنوده في البسالة، وهُم الذين مكّنوه مِن فتح مدينة قندهار.

وأمّا قندهار هذه، فكانت حصينةً جدّاً ولأهلها بسالةٌ وعزمٌ شديد على المُقاومة،

٤١٣

فحاصرها نادر وبنى حولها الحُصون والقلاع، ومكثَ حولها حولاً كاملاً يُحاول امتلاكها وهي لا تخضع، حتّى أعيا وملّ طول الحصار، فأشار إلى جنوده بالهجوم العنيف، فهجمت في مُقدّمتهم فرقة البختياريّين وافتتحت البلدة عُنوة، فسلّم حاكمها المدينة لمّا لم يبقَ له أملٌ في الخلاص، وعامله نادر شاه بالرفق والمودّة، وضمّ بعضَ الفِرق الأفغانيّة إلى جيشه، وكان هو ينوي استخدام الأفغانيّين في جيشه مِن عهدٍ بعيد حتّى يكون في مأمَن مِن قيام الإيرانيّين عليه، وساعده الأفغانيّون مُساعدةً كبيرة على فتح الهند والبُلدان الأُخرى التي أخضعها مدّة حُكمه الطويل.

وكان رضا قلي ميرزا ابن نادر شاه بَطلاً مقداماً مِثل أبيه، وله جُنود وأعوان يُساعد بها والده على النصر، فكان يُحارب بقيّة بلاد الأفغان بينا كان والده مُحاصراً قندهار، وتقدّم منها على بلاد التَتر فدوّخ البُلدان وفلّ الجيوش وامتلك المواقع، فلمّا سمِعَ نادر شاه بفعال ابنه بعث ينهاه عن مُحاربة التتر؛ بعلّة أنّهم مِن أقوام جنكيز وتيمور يجب احترامهم، فرجع رضا قلي ميرزا عنهم، واكتسب نادر شاه ودادهم مِن ذلك اليوم، فلم يلقَ منهم ما لقيه غيره مِن الهجوم المُستمر على حدود مملكته، وتمكّن بذلك مِن التفرّغ لإخضاع البُلدان الأُخرى وأهمّها الهند.

وأمّا إخضاع الهند، فكان في بال نادر شاه مِن زمان بعيد، وساعده الزمان على الإسراع إلى امتلاكها بعد فتح قندهار، وذلك أنّه كَتب إلى سلطان دلهي - وهي يومئذٍ عاصمة الهند، وصاحبها سليل بابر وتيمور المشهورين - يرجوه ألاَّ يسمح لحُكّام بلاده بمُساعدة أعدائه الأفغانيّين الذين يفرّون مِن وجهه إلى بلاد الهند، وكرّر الكِتابة إليه في هذا الشأن فلم يتنازل محمّد شاه سلطان الهند إلى إجابته، وأوجد بذلك سبباً للضغينة وعلّةٍ للتقدّم على بلاد الهند بالجيوش، وكان ذلك طبق رغائب نادر شاه.

وزحفَ نادر شاه سَنة ١٧٤٠م بكلّ ما لديه مِن القوّة على بلاد الهِند، ولم يلقَ في طريقه إلى دلهي مُمانعةً تُذكر؛ لأنّ السلطان كان لاهياً بملذّاته، ووزراؤه وأعيان دولته مِثله لا يهتمّون بغير حظوظهم ومسرّاتهم، وهُم لا يحسبون لغوائل الدَهر حِساباً، ويظنّون أنّ نادر شاه لا يقدر على هزّ دولتهم، ولكنّ نادراً كان يسيرُ بسُرعة لا تُصدّق إلى عاصمة الهند، وكلّما مرّ بولاية أو مدينة أخضعها والحكّام يؤدّون له الإكرام والخضوع بلا عناء كبير؛ لأنّ

٤١٤

مُعظمهم كان يَعلم حال السلطان وأعوانه، ويؤكّدون أنّ مملكتهم لا تقوى على ذلك البطل العظيم، على أنّ محمّد شاه أفاق مِن غفلته لمّا قربَ الفاتح مِن عاصمته، فجمع جيشاً كبيراً ولاقى الإيرانيّين به وبدأ القتال بين السُلطانين في الحال، فدارت الدائرة على الهنود بعد قتال عنيف استمرّ عدّة ساعات، وقُتل مِن جيش سلطان دلهي نحو عشرين ألفاً وأُسر عددٌ أكبر مِن هذا وفرّ الباقون هاربين، فلم يبقَ لسلطان الهند بعد هذه الكسرة مَطمع في النجاة مِن يد الفاتح، ولهذا عوّل على مُصالحته، وأرسل إليه الوزراء والأُمراء ليُفاوضوه في أمر الصُلح، ثُمّ حضر هو بنفسه إلى خيمة نادر شاه فاحتفل سلطان إيران بقدومه احتفالاً عظيماً، وأكرمه إكراماً فائقاً، حتى إنّه جعل نفسه خادماً لزميله سلطان الهند، وقدّم له ختم مملكة إيران علامة الخضوع، كلّ ذلك وهو صاحب الأمر، وما جاءه سلطان الهند إلاّ لطلب رضاه والتخلّص مِن غَضبه، ولكنّ نادر شاه كان يحترِم ذوي الأقدار، ويجلّ ذِكر تيمور فأكرم محمّد شاه؛ لأنّه كان مِن سلالة.

وعقد نادر شاه صُلحاً مع السلطان محمّد، فأقرّه على سَلطنة الهند وجعله حليفاً له يصدع بأمره، وضم إلى مملكته قسماً مِن الولايات الهنديّة المُتاخمة للحدود الإيرانيّة، وجمع مِن خزائن السلطان شيئاً كثيراً جداً مِن المال والتحف، وكان محمّد شاه يُريد الإعراب عن عرفانه لجميل نادر، فلم يُبقِ في خزائنه شيئاً مِن التحف والجواهر النادرة والذهب الذي لا حصر لقيمته حتى وهبه لهذا الفاتح العظيم، واقتدى الأُمراء والأغنياء وكلّ ذَي وجاهة وثروة بالسلطان فجمعوا مالاً لا يُحصى وأعطوه لنادر شاه ثَمن رقابهم وإقراراً بالخضوع لسيفه، وبلغتْ قيمة هذه الأموال مَبلغاً هائلاً لا تقلّ عن أربعين مليون جنيه، وكان نادر شاه مُغرماً بجمع الحجارة الكريمة والجواهر، فتمّ له بعد فتح الهند ما يُريد ونال فوق ما يؤمّل، ولهذا اكتفى بالذي أخذه منها: تخت الطاوس الشهير، وجوهرة (درماي نور) وجوهرة (كوه نور) اللتان ليس لهما نظير في العالم، وأصدر منشوراً عامّاً بالصُلح وإقرار محمّد شاه على السلطنة في دلهي، وجاد على جنوده بالرواتب الطائلة والهدايا الكثيرة، واسقط عن إيران ضرائب مُدّة ثلاثة أعوام، وكان على وشك الرجوع إلى بلاده مِن بعد جَمع هذا المال الوافر، فحدثت فتنة في مدينة دلهي وقام جُهلاء الأهالي على جنود نادر شاه فقتلوا بعضهم وساعدهم في ذلك أُناس مِن الأعيان

٤١٥

والأُمراء، فاشتدّ غيظ نادر وأقسم أنْ لا يتركنَّ المدينة حتّى ينتقم لرجاله مِن أهلها، ولذلك جَمع رجاله وأمرهم بقتل كلّ مَن وجدوه مِن أهالي دلهي، فثار الجنود في كلّ جهة يقتلون ويذبحون، ونادر شاه قاعد في غرفة مُظلمة وقد تولاّه الغيظ والقلق، وظلّ الإيرانيّون يشتغلون في الذبح زماناً طويلاً حتى هلكَ مِن أهل دلهي المساكين نحو خمسين ألف نفس، وقيل أكثر - وفي رواية بعض المؤرّخين ثمانية آلاف - فلم يبقَ لمحمّد شاه صبرٌ على هذه الأهوال، فقام إلى قصر نادر، ودخل غُرفته وهو يصيح ويستغيث، ويرجوه أنْ يُبقي على أهل مدينته، فقام له نادر شاه وأكرمه، وأمر في الحال أنْ يُجاب سؤاله وأنْ يمتنع الجنود عن القتل والذبح، وصدع الرجال بأمر مليكهم في الحال.

ومِن غرائب الأُمور أنّ ابن نادر شاه الثاني اقترن بابنة محمّد شاه، واحتُفل بزفافهما احتفالاً باهراً في مدينة دلهي بعد هذه الحوادث الهائلة بأيّام قليلة، ثُمّ غادر نادر شاه عاصمة الهند بعد أنْ أقام فيها ثمانيةً وخمسين يوماً.

وكان احتفال الإيرانيّين بعود سُلطانهم الفاتح عظيماً، واندهاشهم ممّا جمعه مِن المال وما أتى به مِن الغرائب أعظم، وظلّ نادر شاه أشهراً في أصفهان لا همّ له غير إيلام الولائم والتمتّع بلذّة المُلك بعد الفتح والنصر، حتى خاف أنْ يستولي الخمول على عساكره، فقام بجيشه وسار لمُحاربة مَلك بخارى واسمه أبو الفيض خان، وتمكّن مِن إخضاعه ومُحالفته على مثل ما سار مع أمير أفغانستان وسلطان الهند.

ثُمّ تقدّم على بلاد خوارزم وبلاد خيوه وقهر حاكمها البرز، وولّى مكانه أحد أقارب أبي الفيض مَلك بخارى بعد أنْ صاهره ووالاه، وتقدّم مِن بعد هذا لمُحاربة أهل داغستان وردّ غاراتهم عن الأنحاء المُجاورة لهم، ولكنّه لم يلقَ النجاح الذي تعوّده في حروبه السابقة، وحدث له في أثناء هذه الحرب الأخيرة حادثٌ أقلقه، وذلك أنّ أحد الأعداء كمن له ولو لا القليل لتمكّن مِن الفتك به، إلاّ أنّ ابنه رضا قلي ميرزا أسرع لإنقاذه، ولكنْ مِن غريب الأُمور أنّ نادر شاه أساء الظنّ بابنه الباسل بعد هذه الحادثة، وظلّ يزيد كُرهاً له يوماً بعد يوم حتّى أمر بإطفاء بصره، وخسر بهذا الصنيع أكبر عضُد له في مملكته، وندم نادر شاه على هذه القسوة الوحشيّة بعد حين، ولكنّه على ما يظهر أُصيب بمرض الوهم

٤١٦

والقسوة، مثل غيره مِن الذين رقوا سُلّم المَجد بالإقدام والجُرأة فصار عدوّاً لأهل بيته، ونشأ عن ذلك تأخّر أحواله فإنّه اشتبك بعد ذلك بحرب مع الأتراك لم يُظهر فيها شيئاً مِن بسالته المعهودة، وانتصر عساكره في موقعة واحدة لمُجرّد توهّم الأتراك أنّهم لا يقدرون على الوقوف في وجه نادر شاه.

وجعل نادر شاه مدينة مشهد طوس عاصمة مُلكه، وعوّل بعد الاختبار على العدول عن مضادّة أهل المذهب الشيعي، ولكنّه رأى أنّ مُجاهرته بالعدوان لمذهب الإيرانيّين يُسبّب نفور القوم منه، فشدّد في اضطهاد بعض المشايخ والأئمّة، وكان ذلك داعياً إلى انتشار الثورة، فعصته ولايات فارس وشيروان ومازندران وسيستان (سجستان).

وظهر أنّ الإيرانيين كلّهم بدأوا يكرهونه؛ لأنّه كان يُسيء الظنّ بهم، ويُقدّم جنوده الأفغانيّين عليهم، ولهذا زاد العتوّ في صدر نادر شاه، وصار يقتُل الناس بالجماعات ولا يشفى غليله، حتى خاف الأُمراء شرّ الآخرة وتآمروا على قَتله، وفي جُملتهم بعضُ القوّاد ورئيس الحَرس وهُم مِن قبيلة الأفشار التي نشأ منها نادر، فدخلوا مَخدعه في إحدى الليالي وقتلوه سَنة ١٧٤٧م، وأخذَ أحدُ الأفغانيّين مِن تاجه الجوهرة المُسمّاة بكوه نور التي تقدّم ذكرها، ثُمّ انتقلت إلى تاج مَلكة إنكلترا.

وكان نادر شاه مِن أعظم مُلوك الأرض، واشتهر بحبّه للجواهر والمال، وبدهائه في استمالة الشعوب التي أخضعها، وبكرهه للأديان حتّى إنّه تَرجم بعض أسفار الإنجيل ليرى إذا كانت أقرب إلى ذوقه مِن القرآن، وجمعَ أرباب الأديان الثلاثة يوماً وباحثهم في الأديان، ثُمّ صرفهم ولم تزل آثاره العظيمة في كلّ أنحاء إيران إلى اليوم.

ولمّا أُتيح لي في عام ١٣٥٣ للهجرة و١٩٣٤م للميلاد السفر إلى العراق وإيران لزيارة المقامات المُقدّسة فيهما، وللتعرّف بأحوال هاتين المملكتين، ولإمتاع النفس بما فيهما مِن الذكريات الخالدة، وألقيت عصا السير في مدينة مشهد - طوس - حيث مرقد الإمام الثامن الضامن عليّ بن موسى الرضا (عليه وعلى آبائه وأبنائه أفضل التحيّة والتسليم) قصدّتُ مَرقد هذا الشاه العظيم، المدفون غربي مشهد في بُقعة لا تقلّ المسافة إليها في شارع مسمّى باسم نادر شاه - خيابان نادري - عن ثلاث كيلومترات، يقع قبره

٤١٧

إلى الشمال مِن هذا الشارع في بناية تقوم عليه قبّة شاهقة، وفيها شقّتان تقوم بإحداهما مكتبةٌ باسم: مكتبة نادر شاه، والأُخرى إلى الجنوب وقد جُعلت مقرّاً للشرطة (النظيميّة)، والبقعة القائمة فيها هذه البناية رَحبةٌ فسيحةٌ مُتنزّه بما فيها مِن الحدائق والأشجار الشاهقة، وصادف ذهابي لزيارة مَرقده يوم إقفال المَكتبة، وهو يوم الثلاثاء، وفيه تُقفل المكتبة الرضويّة وتُفتح المكتبتان في بقيّة أيام الأُسبوع، اللّهمّ إلاّ في أيّام الأعياد.

أمّا مذهب نادر شاه، فهو المذهب الشيعي، وكان حكيماً مُدبّراً بعيد النظر في سعيه للتقريب بين السنّة والشيعة، وهو جدّ عليم ما يجني مِن هذا التقريب مِن فوائد تعود إلى ترسيخ قواعد مُلكه، وهو ينتظم أجزاء غير قليلة مِن البلدان سكّانها مِن أهل السنّة، وقد كان له مِن هذا التقرّب الذي سعى له - وإن لم يثمر ثُمره كُلّه ويؤتي وأُكله ويقلّل مِن مسافة الخف بين أتباع المَذهبين - أنْ استفاد منه إخلاص الأفغانيّين، واصطفى منهم مَن فضّله على الإيرانيّين أنفسهم مِن قوّاده والمُقرّبين له، ولو أنّه سلك طريق الاعتدال والقصد فيما قصد إليه - سواء أكان يرمي إلى مصلحة أبناء المذهبين العامّة، أم إلى مصلحته الخاصّة - لكان لسعيه نصيبه مِن النجاح، ولم يفقد إخلاص أبناء مَذهبه، ومِن ذلك ولا ريب اتّخذ خصومه السياسيّون ومُزاحموه على الصولجان والسلطان ذريعةً لتنفير الإيرانيّين منه.

وكيف كان، فإنّا نودّ إنْ فات الهدف نادراً فلم يصل إليه في ذلك العهد مِن مُلوك الفَرقتين وذَوي الرأي والعِلم لتحقيق هذا التقريب الذي هو هدفُ المُصلحين منهما جميعاً ومنه الخير كلّه للمسلمين كافّة، وقد مهّد له حكيما الإسلام: السيد جمال الدين الأفغاني، والأُستاذ الإمام الشيخ محمّد عبدة المصري، وتلامذتهما، ومَن طبع على غرارهما طريقه القويم وصراطه المستقيم، ولعلّ ما فاتَ نادراً وفات هؤلاء الأعاظم الغير يمسي على طرف الثمام للمسلمين المُخلصين مِن المذهبين في هذا العصر.

وبعد مقتل نادر شاه وانطواء صفحة جلاده وجهاده، استدعى القوّاد علي شاه ابن أخي نادر شاه فأجلسوه على عرش إيران وألبسوه التاج، ولمّا ظهرَ ضعف هذا وأنّه لم يقوَ على الحُكم زماناً جاء أخوه الذي حَكم باسمه ثُمّ عَزله.

وكان علي قد سمّى نفسه عادل شاه، وقتل كلّ آل نادر ما

٤١٨

خلا حفيده شاهرُخ، وهو يؤمئذٍ وَلدٌ صغير، ولمّا أسره أخوه إبراهيم وجلس مكانه مات في السجن.

ثُمّ إنّ أخاه هذا لم يذق طعم العِزِّ، وقام عليه حراسه وقتلوه وولّوا مكانه شاهرُخ، وكان هذا صغيراً يوم رُقّي العرش، وله خصم عنيد وهو ميرزا سيّد محمّد - أحد قوّاد نادر شاه - فتمكّن هذا الخصم مِن أسرِ شاهرُخ وإطفاء بصره والجلوس على العرش، ولكنّه لقيَ في الحال ما يلقاه الظالمون؛ لأن يوسف علي خان وهو رئيس جيش إيران يومئذٍ أسرع إلى الانتقام مِن ظالم شاهرخ، فأسره وقتله وأعاد شاهرخ إلى العرش، على أنّ الطامعين في العرش كثروا في تلك الأثناء واضطرّ شاهرخ بعد العناء الكثير أنْ يرضى ببلاد خُراسان، فنُقل إليها وظلّ حاكماً عليها زماناً، وصارت إيران إلى قبضة كريم خان زند، كما ترى ذلك مبسوطاً في تاريخ الدولة الزنديّة.

هذا ما جاء في تاريخ إيران لمكايوس عن أوّليّة نادر شاه وآخر أيّامه.

وإليك ما أوجزه عنه محمّد فريد بك في تاريخ الدولة العثمانيّة قال في هامش الصفحة (١٤٧):

لم يكن هذا القائد مِن إحدى العائلات المعلومة، بل غاية ما يُعلم عنه أنّه وُلد في بلاد خُراسان سنة ١٦٨٨م تقريباً، وبعد أنْ اشتغل في مِهن كثيرة مُختلفة ألّف عصابة متسلّحة للسلب والنهب، واستولى على خُراسان واستبدّ بها أثناء الاضطرابات التي أعقبت موت الشاه حسين في سَنة ١٧٢٢م، ثُمّ دخل في خدمة الشاه طهماسب وحارب معه مُغتصبي المُلك مِن الأفغان، ثُمّ لمّا قَبِل الشاه المَذكور مُعاهدة ١٢ رجب سنة ١٤٤هـ عزله نادر خان وأقام مكانه ابنه الرضيع عبّاس الثالث، وبعد أربع سنوات توفّي عباس هذا واغتصب نادر المَلك وحارب المغول في الهند، وفتح مدينة دلهي، وأخيراً قتله قوّاد جيوشه سنة ١٧٤٧م لظُلمه واعتسافه.

وقال في الأصل في الصفحة المذكورة: وبعد استتباب الأمن استأنفت الدولة الحرب مع مملكة الفُرس، وتغلبت الجيوش العثمانيّة على جنود الشاه طهماسب في عدّة وقائع أُهرقت فيها الدماء مدراراً، فطلب الشاه الصُلح، وتمّ الأمر بين الدولتين في ١٢ رجب سنة ١٤٤هـ، والموافق ١٠ يناير سنة ١٧٣٢م على أنْ تَترك مملكة العَجم للدولة العليّة كلّ ما فتحته ما عدا مدائن تبريز وأردهان وهمذان وباقي إقليم لورستان، لكنْ عارض

٤١٩

نادر خان (شاه) أكبر ولاة الدولة في هذه المُعاهدة، وسار بجيوشه إلى مدينة أصفهان وعَزل الشاه طهماسب وولّى مكانه ابنه القاصر عبّاس الثالث، وأقام نفسه وصيّاً عليه، ثُمّ قصد البلاد العثمانيّة، وبعد أنْ انتصر على جنود الدولة حصر مدينة بغداد فأسرع الوزير طوبال (أي الأعرج) عثمان باشا إلى مُحاربته، وجرت بينهما عِدّة وقائع قُتل فيها عثمان باشا المذكور، فطلبت الدولة الصُلح، وبعد مُخابرات طويلة اتّفق مندوب الدولة مع نادر خان في ١٨ جمادى الأُولى سنة ١١٤٩هـ، الموافق ٢٤ سبتمبر سنة ١٧٣٦م في مدينة تفليس، حيث نودي بنادر خان مَلكاً على العجم، على أنْ تردَّ الدولة إلى العَجم كلّ ما أُخذ منها، وأنْ تكون حدود الدولتين كما تقرّر بمُعاهدة سنة ١٦٣٩م المُبرمة في زمن السلطان مُراد الرابع.

وإليك ما جاء عنه في تاريخ جودت باشا: وفي عصر السلطان محمود خان الأوّل - صاحب الغيرة والإقدام والشأن العظيم - فُتحت فُتوحات عظيمة، وجرت وقائع جسيمة، فإنّه ساق العساكر إلى الشرق والغرب، وأتى بأعمال كبيرة تدلّ على ما عنده مِن الغيرة وعلوّ الهمّة، وذلك أنّه حارب نادر شاه عدّة حروب أوّلاً وآخراً، فعيّن عثمان باشا الأعرج سر عسكراً لجهة المشرق، فغلب نادر شاه وظفر به بعد امتداد المُحاربة في صحراء كركوك نحو تسع ساعات، ففرّ نادر شاه مجروحاً، وأمسى أكثر بلاد إيران خراباً، ثُمّ جرت بين نادر شاه والعثمانيّين حروبٌ عديدة كانت بينهما سجالاً، وذلك ناشئ عن إنكار المذهب الخامس الذي انتحله نادر شاه، وفي آخر الأمر في عصر السلطان مراد الرابع عُقد الصُلح على الحدود بين الفريقين، فأخذ بعد ذلك نجم نادر شاه في الأُفول، وخرجت خانات إيران عن طاعته واحداً بعد واحد آخر، ولم يمضِ قليلٌ مِن الزمن حتّى قتله ذووه وانتهى أمره.

وفيما قصّه جودت باشا مِن أخبار نادر شاه نظر مِن وجوه:

الأول : إنّ مَن أرّخ نادراً ممَّن وقفنا على تواريخهم لم يَذكر أحدٌ منهم أنّ نادر شاه فرّ مِن عثمان باشا مجروحاً ومُنكسراً، بل عرفت آنفاً أنّه انتصر على عثمان باشا، وأنّ هذا قُتل في إحدى الوقائع التي وقعت بينه وبين نادر، وأنّ النصر كان لنادر بسبب مَقتله، وأنّ الدولة هي التي طلبت الصُلح مِن نادر شاه.

الثاني : إنّ عقد الصُلح ووقوع هذه الحرب في عهد السلطان محمود لا السلطان مُراد الرابع الذي لم يكن مُعاصراً لنادر شاه، وبينهما مدّة طويلة،

٤٢٠