تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني13%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 113605 / تحميل: 9448
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

تاريخ الشيعة

السياسي الثقافي الديني

(٣)

١

٢

تَاريخُ الشِّيعَةِ

السِّياسي الثقافي الدِّيني

تأليف

العَلاّمَة الشيخ سُليمان ظَاهِر

عضو المَجمع العلمي العربي بدمشق

حقّقه وضبطه

عبد الله سليمان ظاهر

المُجَلّد الثَالث

منشورات

مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات

بَيروت - لبنان

ص. ب ٧١٢٠

٣

٤

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحرافشة

جاء في دائرة المعارف للبستاني م٧ ص٩:

(آل حرفوش: عائلة أُمراء مِن الشيعة موطنهم بلاد بعلبك، كانوا مِن البأس والسطوة على جانب عظيم، وكانوا هُم السائدين في تلك البلاد، والمُتسلّطين على أهلها وأموالهم، ولمّا تكاثروا هُناك زادهم ذلك عُتوّاً وبغياً، فأكثروا مِن التعدي والسلب والنهب، وتمادوا في ذلك مع اجتهادات الحُكومة المركزيّة على ردعهم، فلم ينجع فيها ذلك، فأدّى الأمر إلى أن وقعوا تحت غضب الدولة، فأصدرت أوامرها بنفيهم مِن تلك البلاد، وخلعهم مِن كُلّ المناصب، ومنع استخدامهم، فانحطّوا كُلّ الانحطاط، وكادوا ينقرضون، واتّخذ بعضهم التسوّل مهنة؛ لتشريف أنفسهم عن الأشغال، وسهولة الكسب مِن الخارج.

ومن أشهر المتأخّرين مِن هذه العائلة: الأمير سلمان والأمير خنجر).

هذا ما عرّفت به الدائرة عن هذا القبيل، وكلّ ما نفحت به التاريخ مِن أخبارهم التي تكاد تشغل مجلّداً ضخماً، وأمّا ما أفاضت عليهم مِن النعوت والأوصاف حتّى كأنّهم مِن غير جِبلّة مجاوريهم، فإنّا نَكِل المطالع على ما كُتب مِن تاريخ تلك الأيّام، وما كانوا يزيدون على غيرهم مِن الحُكّام والأُمراء الإقطاعيّين مِن حيث ذلك الوصف، فكلهم في ذلك شرع، والعصر كان عصر تغلّب وتطاحن، ولرجال الدولة اليد الكُبرى في كُلّ ما كانوا يجنونه على أُمّتهم وبلادهم بما كانوا يخلقونه مِن وسائل المُنافسة: المضاربة والمزايدة على تحصل الوظائف، وهمُ الّذين مهّدوا لكلّ مَن تُحدّثه نفسه بالطموح إلى النزول في ميدان المُنافسة، والتغالي بدفع أثمان الحُكم المسلوب مِن الرعيّة، والدولة هي المُمهّدة لذلك كلّه، والمخدوعون في زخارف الحُكم كلّهم سواء.

٥

إنّنا نُدّون ما وقفنا عليه مِن الكُتب التاريخيّة الّتي هي تحت متناولنا مِن تاريخ الأُمراء الحرافشة:

الحرافشة مِن أُمراء الشيعة الّذين تولّوا إمارة بعلبك وأعمالها، وساهموا مع أُمراء زمانهم في الحُكم الإقطاعي، وطووا حُقبة مِن الزمن في الإمرة الّتي لم تُخالف نوع الإمارات ذلك العهد، الّذي كان ميداناً واسعاً للتنافس عليها مِن كُلّ طامح إليها، طامع فيها، وكانت له عصبيّة تؤيّده، وقديم يعضده، وفطنة تُسدّده، وجرأة ترفده.

وكان الحرافشة وهُم يرجعون إلى قبيل ذي مجدٍ أثيل، وفخرٍ أصيل، وفروسيّة نادرة، ومكارم باهرة، فمَكّنت لهم هذه الخلال أن يُنشئوا إمارتهم بين إمارات محيطة بهم مِن هنا وهناك، وفي عهد دولة ودول لم تكن فيه الولايات والإيالات إلاّ سلعة مِن السلع، تُعرض في المزاد وتنتقل مِن يد إلى يد، ومن قبيل إلى قبيل، ومن فرد إلى فرد، وكان الولاة العثمانيّون، وقد انتقل حُكم البلاد الشاميّة إليهم مِن الأُمراء الجراكسة، وملوك المماليك حُكّام مصر، هُم الّذين يذكرون نار المُنافسة بين الطامحين إلى الحكم.

كان للأُمراء الحرافشة في مثل هذا الموقف المضطرب، والّذي لا يعرف الطمأنينة والاستقرار مثل ما كان لغيرهم مِن حُكم وصولة ودولة، وكلّها متشابهة متماثلة في مظاهرها.

رافقت إمارة الحرافشة إمارة المعنيّين والشهابيّين، وانتهت وإمارة الشهابيّين في عهد واحد تقريباً سَنة ١٨٦٦م.

بدء إمرة الحرافشة:

إن جَدَّ الحرافشة الأعلى الأمير حرفوش هو مَن عُقدت له راية بقيادة فرقة في حَملة أبي عبيدة بن الجرّاح على بعلبك، وإنّ الحرفوش هذا هو عمود النَسب لهذا الفرع مِن قبيلة خُزاعة العربيّة المعروفة القديمة، والّتي سبق لأوائلها أن ولوا حراسة مكّة.

أمّا الحرفوش، فلم نجد له ذِكراً في الفتوحات الشاميّة، ولا ذِكرُ تأميره على قيادة فرقة في حملة أبي عبيدة عند فتح بعلبك، ولكنّ ذلك لا ينفي صحّة هذا الخبر، فإن التاريخ - ومنه تاريخ تلك الفُتوحات - لم يُحط إلاّ بالمُهم بل الأهمّ مِن الأخبار، ولو عرض لكلّ شيء، ولمثل هذه الأُمور الّتي لا

٦

يبخس ترك ذكرها قيمة المُهمّة التاريخيّة؛ لَنَفد القرطاس، وضاقت الطوامير عن استيعاب الحوادث كُلّيها وجُزئيها.

وإذا عرفت عظيم عناية العَرب بأنسابهم، وحرصهم على ضبط أنسابهم، وربط سلسلة حديثها بقديمها، لم يكن مِن المُستبعد أن يحفظوا مِن أسماء رجالاتهم ما لم يحفظه التاريخ الّذي لم يعنِ إلاّ بالمُهم أو الأهم مِن تلك الحوادث، ولم يُدوّن ما دوّنه مِن ذكر أمساء رجال إلاّ لعظيم ما لهم مِن البلاء، وجليل ما أتوا به مِن الأعمال.

وهكذا تجد في تاريخ أكثر الأُسر العريقة أسماء رجال لم يُدوّنها التاريخ، على أنّنا لم نجد في الكُتب التاريخيّة، ولا في كُتب اللُغة ذِكراً لاسم حرفوش قبل العُصور الأخيرة الّتي عُرف فيها اسم قبيل آل الحرفوش، ونُرجّح أن هذا الاسم محروف عن حرنفش كغضنفر، وهو الجافي الغليظ أو العظيم كما جاء في القاموس.

وكيف كان، فإنّه لم يُعرف في عهد الفُتوحات الإسلاميّة في الديار الشاميّة مَن تسمّى بهذا الاسم.

وإذا أقررنا ما يذكره الحرافشة مِن انتسابهم إلى ذلك الجدّ الأعلى، الّذي عاصر الفتح الإسلامي الشامي، وهو ما لا يُنازَع فيه، فلم نجد ذِكراً لآل حرفوش، مِن عهد القَرن الأوّل الهجري، ولا مَن وُلّي منهم إمارة مِن الإمارات، إلاّ في أواخر القرن الثامن الهجري، وهو علاء الدين الّذي ولاّه السلطان برقوق مُقاتَلة كسروان، كما عرفت.

وسكت المُؤرّخون عن ذكرهم حُقبة مِن الزمن، فلم يعرضوا لهم في مدى القرن التاسع إلى أوائل العقد الثالث مِن القرن العاشر، فقد جاء في حوادث سَنة ٩٢٤ هـ / ١٥١٧م:

(لمّا مهَّد السلطان سليم العثماني فاتح مصر وسورية الأقطار الشاميّة والمصريّة، ورجع إلى الشام، عصى عليه الأمير ناصر الدين محمّد بن الحنش صاحب صيدا والقاعين وشيخ الأعراب، ثُمّ هرب واتّهم الأمير زين الدين والأمير قرقماز والأمير عَلم الدين سليمان أنّهم مِن حزبه، فقبض عليهم الغزالي، وبعث برأس ابن الحنش ورأس ابن الحرفوش إلى السلطان سليم في حلب، وأطلق سراح هؤلاء المُعتقلين.

وفي حوادث سَنة ٩٤٠ هـ ١٥٣٣م في هذه السَنة وقعت فتنة أهليّة في جهات العاقورة وجبّة المنيطرة في لبنان، نشأت مِن خِصام بين مالك اليمني وهاشم العجمي مِن مشايخ العاقورة، وكثُرت الدسائس بين بني الحرفوش أُمراء بعلبك وآل سيفا حُكّام طرابلس.

٧

ولمّا وقعت المُخاصمة بين مالك اليمني وهاشم العجمي العاقوري، وباغت مالك جبة المنيطرة وأحرقها، واتّفق أهل الجبّة وقيسية العاقورة على قتل مالك، وتمّ لهم قتله، شكا أخواه الأمر لنائب الشام، وكَتب هذا للأمير منصور بن سيفا طالباً منه تسليم قَتلة مالك؛ فبعث مَن يَقتل هاشماً، فانهزم هاشم إلى كرك نوح مُحتمياً ببيت حرفوش.

ثُمّ إن الأمير منصوراً وأتباعه نهبوا لاسا وأحرقوها؛ فخافت قيسية العاقورة، وهربوا إلى طرابلس، فنَهب الأمير منصور دورهم وأحرقها.

ثُمّ إنّ عبد المُنعم كاتبَ الأُمراء الحرافشة على قتل ابن عمّه، وتعهّد لهُم بقتل الأمير منصور، وأن يُسلّمهم تلك المُقاطعات الّتي بيده، فقبل الحرافشة ذلك، وغدروا بهاشم وقتلوه فوق الكرك، ورموه في بئر كنيت بئر هاشم إلى الآن.

وفي خطط الشام: (وقد بقي أرباب المُقاطعات في الدولة العثمانيّة - كما كانوا في عهد دولة المماليك - يضمنون الخراج مُقابل أموال يَتعهّدون بها، مثل: أمير عرب الشام مدلج بن ظاهر مِن آل جبّار، والأمير فخر الدين المعني، والأمير جمال الدين الإرسلاني، وبني شهاب في وادي التيم، وبَني الحرفوش في بعلبك(١) .

فترى مِن ذلك أن الحرافشة كانوا مِن أرباب المُقاطعات الّذين أقرّهم السُلطان سليم على حُكم إقطاعاتهم، وهو ما نستظهره ونُرّجحه، وإن لم يَذكر المُؤرّخون أشخاص مَن كان يلي منهم هذا الحُكم الإقطاعي، إلاّ في زمن متأخّر عن زمن الفتح العُثماني للبلاد الشاميّة والمصريّة، حتى أوائل العقد الأخير مِن القرن العاشر الهجري، وما يليه مِن القرون.

إنّ حُكّام تلك المُقاطعات لم يكن ليصفو لهم الحُكم، وكانوا أبداً عُرضة للقَلب والإبدال ما دام الحُكم في تلك العُصور سلعة مِن السِلع، تُعرض في أسواق المُساومات والمُنافسات، والظافر فيه مَن يتفوّق على مُنافسه بالمُغالاة في دفع المال، وإرضاء الولاة العثمانيّين الّذين كانوا يلون البلاد بمثل ذلك، فكان مَن يلي الحُكم اليوم يُعزل منه غداً دواليك، فكان الأُمراء الحرافشة كغيرهم في هذا المُعترك السياسي الّذي لا يعرف الاستقرار).

____________________

(١) ج٢ ص ٢٣٤.

٨

وبعد، فإنّا نرى مِن المُفيد في تاريخ الحرافشة، الّذين لم نقف لهم على تاريخ مُستقل، بل جال ما دُوّن مِن أخبارهم نتف مُبدّدة هُنا وهناك، أن نُنظّمها في عَقد واحد مؤلّف مِن ذر رجالاتهم الّذين عُرض لهم تاريخ تلك الأزمنة، ممّن وُلّي منهم الحُكم، أو نازع فيه القريب والبعيد، ليكون أقرب إلى التناول، وأعلق بضبط تاريخ هذا القبيل الّذي استطاع أن يُكوّن أمره مِن نوع تلك الإمارات، وحُكماً إقطاعيّاً مِن سِنخ ذلك الحُكم الإقطاعي الّذي كانت تضطرب به الديار الشاميّة، وهو ميدان واسع للتنافس بين الطامحين في الحُكم، وبين الطامعين في التوسُّع، وتكاد الإقطاعات لا تنضبط في عدد، ولا تنحصر في قبيل، فأوّل مَن ذُكر مِن الحرافشة باسمه:

١- الأمير علاء الدين: مرّ ذكره.

٢- الأمير علي:

جاء في حوادث سَنة ٩٩٤ هـ ١٥٨٦م:

في هذه السَنة، أراد جماعة مِن أقارب الأمير علي الحرفوش صاحب بعلبك أن ينزعوا حكومتها مِن يد أبي علي، الشهير بالأقرع بن قنبر؛ لأنّه ليس مِن أولاد الأُمراء، وحكومة بعلبك موروثة لبني الحرفوش، فعرف ابن الأقرع ما دُبّر له، فجاءه ألف رجل جمعهم بنو الحرفوش مِن كسروان، والشوف، وعين دارة، وأرادوه على أن يخرج بعياله وبمَن يلوذ به حيث شاء، فأبى إلاّ قتالهم، واستنجد بالأمير قرقماز بن الفريخ أمير بلاد البقاع، وبغيره مِن التُركمان والعرب، فأجابه مَن طلبه؛ فخرج إليهم، فلمّا التقى بهم انتصر عليهم، وولّى الدروز هاربين، فتبعهم أهل بعلبك يقتلونهم، وقتلوا منهم ألفاً وثمانين قتيلاً في لحظة واحدة، ولم يُقتل مِن جماعته سوى شخص واحد.

البوريني قال: وكان أصلح له ولجماعته طعاماً قبل المعركة، فقاتل أعداءه ورجع والطعام لم يبرُد، وأُرسلت الرؤوس لدمشق لتُعرض فيها، ثُمّ قَتل الأمير علي بن الحرفوش ابن الأقرع، وندم على قتله، وأخذت الدولة بعد ذلك عليّاً إلى دمشق بالأمان، وغدرت به وقتلته، وقتلت معه عسّافاً الكذّاب الّذي ادّعى أنّه ابن الأمير طرباي، أمير بلاد اللجون (الخطط ج٢ ص٢٤٠)(١) .

____________________

(١) الأمير علي هذا، هو أبو الأمير موسى، وقد جاء في خلاصة الأثر م٤ ص٤٣٢ أنّ مُراد باشا قبض عليه، كما قبض على ابن الفريخ، وخنقه في قلعة دمشق في سَنة إحدى أواثنتين بعد الألف.

٩

وفي سَنة ١٠٠٠ هـ - ١٥٩١م أمر قاضي الشام مصطفى بن سنان بقيام النوّاب كُلّهم مِن المحاكم، وإغلاق أبوابها كلّها، فأُغلقت، ثُمّ أُغلقت أسواق البلد كلّها؛ وسبب ذلك أنّ الدفتردار محموداً ارتشى مِن ابن الأقرع بخمسة عشر ألف ديناراً، وولاّه على بعلبك بدل ابن الحرفش؛ فأدّى ذلك إلى خراب بعلبك ظاهرها وباطنها، ورحل أكثر أهلها حتّى تعطّلت الأحكام الشرعيّة بها، وعتا بها ابن الأقرع وأتباعه، وصادر الناس مُصادرة عظيمة؛ ليوفي بها المال الّذي التزم به لجهة السلطنة.

٣- الأمير يونس الحرفوش:

هو على ما يظهر غير الأمير يونس الآتية ترجمته، والّذي له صفحة كبيرة في تاريخ الأُمراء الحرافشة، وورد ذكره في تاريخ بعلبك لميخائيل موسى الوف البعلبكي، حيث قال:

(وللشيعة جامع رثّ البناء، عمَّره الأمير يونس الحرفوش سَنة ٩٦٢)، ولم يَرد له ذِكر بغير هذا الموضع.

٤- الأمير موسى بن عليّ بن موسى الحرفوش:

قال المحبي في كتابه خلاصة الأثر:

(الأمير ابن الأمير، أمير بعلبك، وَلي إمارتها بعد قتل أبيه، وذلك بعد أن قُبض على أبيه، وأُرسل هو والأمير منصور بن الفريخ والأمير قانصوه إلى الروم، ثُمّ خلص هو وابن الفريخ، ثُمّ قَبض عليه مُراد باشا كما قبض على ابن الفريخ، وخنقه في قلعة دمشق سَنة إحدى أو اثنتين بعد الألف، وهؤلاء القوم مِن الغُلاة في الرفض، إلاّ أنّ صاحب الترجمة كان أقرب أهله إلى التَسنُّن، كما قال النجم في ترجمته).

وكان بطلاً شُجاعاً جواداً، وكان زحف إلى الأمير علي بن سيفا صاحب طرابلس بأمر مِن الوزير محمّد باشا، السيّد الشريف المُنفصل عن نيابة مصر، حين كان نائباً بالشام في سَنة سبع أو ثمان بعد الألف، وقَتل ابن سيفا في ناحية غزير. وقد ذكرنا عن (المحبي) خبر هذه الوقعة في ترجمة الأمير حسن بن الأعوج(١) ، وذكرنا بيتين تَمثّل بهما في صدر رسالة إلى الأمير موسى صاحب الترجمة، يحثّه فيهما على قتال ابن سيفا.

والبيتان هُما:

____________________

(١) ج٢ ص٤٥.

١٠

غزيرُ طورٌ ونار الحرب موقدة وأنت موسى وهذا اليوم ميقات

إلى آخرهما(١) فارجع إليهما ثَمّة.

وبقي الأمير موسى في إمارة بعلبك حتّى دخل الأمير عليّ بن جانبولاذ بعلبك، قاصداً دمشق، فنهض الأمير موسى إلى نواحي حمص لاستقباله، مُداراة ومُحاماة عن أرضه، فتحادثا، وتقاولا، وتشاورا فيما صدر، وتجاولا، فقال الأمير موسى:

هل تُعطيَني عهداً على الصلح وأنا أذهب إلى الشام، وآخذ لك العهد الوثيق مِن الأنام.

فقال: اذهب سليماً، وكُن يا موسى كليماً.

فحضر إلى الشام، ورُمي مِن عسكرها بغاية الملام، وأوجعوه بغليظ الكلام، ظنّاً مِن جُهلائهم أنّه عليهم، وما كان ناوياً إلاّ سَوق الخير إليهم، فلمّا حضر إلى أمير الأُمراء بدمشق، قال له: قد جئت على قدر يا موسى، فجرّدْ سيف عزمك لعلّه يذهب البوسى، فقال له:

إنّ ابن جانبولاذ يطلب أن تُعطى حوران لعمرو البدوي مِن عرب المفارجة، والشام والبقاع العزيزي لمنصور بن الفريخ، وأن يُؤذَن لكيوان بالدُخول إلى الشام والعود كما كان، ويُكتَب عرض بأنّ ابن جانبولاذ لم يدخل إلى أرض الشام، وأنّ فخر الدين بن معن يُؤدّي ما عليه مِن مال السلطان، وبلاده موصوفة بالأمان.

فعقد أمير الأُمراء ديواناً لهذه المطالب، فاتّفقوا على أنّ حوران لعمرو، ولكن في السَنة القابلة، وأمّا كيوان، فإنّ إعطاءه لمنصور غير معقول؛ لكونه عند الرعايا غير مقبول، وأمّا كيوان، فإنّه يرجع وعليه الأمان، وأنّه يُكتب عرض بما أراد مِن عدم دخوله، وبتعديل ابن معن.

ثُمّ وقع في ثاني يوم إباء مِن الشيخ محمّد بن سعد الدين لِما صمّم عليه أوّلاً، فرجع الأمير موسى إلى ابن جانبولاذ بغير المرام، فعزم ابن جانبولاذ على قصد دمشق، وهرب الأمير موسى إليها، وأخبر أنّه ترك ابن جانبولاذ على قصد دمشق، ثُمّ إنّ ابن جانبولاذ جاء إلى البقاع وخيّم بها، وانحاز إليه الأمير يونس بن حسين بن الحرفوش - ابن عم الأمير موسى - ومَن معه مِن أولاد عمّه، وقصدوا بعلبك فنهبوها، وفرّقوا أهلها، ووقع مِن ابن جانبولاذ بعد ذلك ما وقع مِن قصّته، وحوصرت الشام، وصولح ابن جانبولاذ على المال، وصولح ابن معن على أن تكون بعلبك

____________________

(١) أمّا البيت الثاني مِن البيتين فهو:

ألقِ العصا تتلقّف كُلّ ما صنعوا = ولا تَخفْ ما حبال القومِ حيّات

١١

والبقاع للأمير يونس.

فلمّا رجع ابن جانبولاذ وعشيره، خرج الأمير موسى إلى القيروانيّة(١) ، وجمع عشيراً كبيراً لقتال ابن عمّه، وإخراجه مِن بعلبك.

ثُمّ صرف العشير، ورجع إلى دمشق مريضاً، فمات يوم الجمعة سابع وعشرين صَفر سَنة ست عشرة بعد الألف، ودُفن في مقبرة الفراديس بالقبّة المعروفة ببني الحرفوش.

وقال صاحب أمل الآمل في ترجمته:

(كان فاضلاً شاعراً أدبياً جليلاً، ومِن شعره:

كأنّ رأس جيوش الضدّ ليس له عِلم بأنّ بلادي موطن الأُسدِ

ومِن مهابة سيفي في القلوب غدت أُمّ العدو لغير الموت لم تلدِ

فليرقبوا صدمة منّي معوّدة أن لا تقرّ لها الأعداء في البلدِ

ألستُ نجلَ عليّ وهو مَن عرفوا منه المخافة في الأحشاء والكَبدِ

وإنّني أنا موسى منه قد ورثتْ كفّي سيوفاً تُذيب الأرض في الجَلدِ).

بعض وقائعه:

جاء في تاريخ الأمير حيدر الشهابي في حوادث سَنة ١٠١١ هـ - ١٦٠٢م:

(في هذه السَنة باغتَ الأمير يونس بن الحرفوش جبة بشرى، فلمّا بلغَ ذلك يوسف باشا ابن سيفا، جمع سكماته وأهل البلاد، وهاجم بعلبك، فاجتمع ببيت الحروفش في القلعة، ونَهبت بنو سيفا بلاد بعلبك، وحاصروا قلعة الحدث خمسين يوماً، وملكوها، وقُتل ابن فاطمة وابن رعد الّذي كان مع الأمير فخر الدين المعني في وقعة نهر الكلب، ثُمّ نادوا بالأمان، وقد ذَكر هذه الموقعة كُلٌّ مِن: صاحب تاريخ بعلبك ودواني القطوف، مُتردّدين بعزوها إلى الأمير يونس أو الأمير موسى، ونُرجّح أنّها كانت مع الأمير موسى؛ لأنّ إمارة بعلبك كانت له في هذا التاريخ).

وفي تاريخ بعلبك لميخائيل الوف ما يلي:

(وفي سَنة ١٦٠٢م، دهم الأمير موسى الحرفوش - وقيل الأمير يونس - جبة بشرة، ونهب بيوتها

____________________

(١) موقع القيروانيّة فوق الهضبة الجنوبيّة مِن الهرمل، يفصل بينهما وادٍ عميق، وليس فيها اليوم بيت عامر، وهي في سهل منبسط، وأمامه سهل واسع.

١٢

ومواشيها، فجمع يوسف باشا سيفا خمسة آلاف مقاتل، وزحف بهم على بلاد بعلبك، فأحرق قرية الحدث، ثُمّ نزل على بعلبك فنهبها، وقتل وشتّت أهلها، فتحصّن الحرافشة مع جماعة مِن أهل البلد في القلعة، وكانوا نحو ألف رَجل ما عدا النساء والأولاد، فشدّد يوسف باشا الحصار على القلعة مُدّة خمسين يوماً، ثُمّ ملكها وقتل جماعة مِن أعدائه، وأطلق الأمان للباقين وعاد ظافراً(١) .

ويروي عن الأمير موسى المذكور - وليس للرواية مِن سَند تاريخي -: أنّه نبذ طاعة الدولة العليّة، فأرسلت عليه الجيوش، ووقفت له بالمرصاد، ولمّا رأى أنْ لا مناص مِن التسليم، توجّه خُفية إلى الآستانة العليّة، وكانت بلدة غزير قصبة كسروان عاصية، وقد استفحل أمرها، فاستأمن الأمير موسى للدولة، وتعهّد لها بفتح غزير والتنكيل بأهلها، على أن ينال عفو الدولة، ويتولّى أحكام بعلبك فأُجيب طلبه، وعاد إلى بعلبك، وجمع نحو خمسة عشر ألف مُقاتل، وزحف بهم على غزير، وقد أنشده أحد الشُعراء قبل ذهابه هذين البيتين:

غزيرُ طورٌ ونار الحرب موقدةٌ وأنت موسى وهذا اليوم ميقات

ألقِ عصاك ولا تخشَ لما أفكوا بأمرها وحبال اليوم حيّات)(٢)

مُنازعة ابن عمّه الأمير يونس له على الإمارة:

إن مِن أعظم الأسباب الّتي أدخلت الوهن على أُمراء بني الحرفوش، ونحتت مِن أثلة قوّتهم، وأظفرت أعداءهم الكثيرين بهم في كثير مِن الوقائع،

____________________

(١) وجاء في تاريخ المطران الدبس ما يؤيّد رأينا، فقد ورد فيه ج٧ ص٣٧:

في هذه السَنة (١٦٠٢) كبس الأمير موسى بن الحرفوش مع جماعته جبة بشري، فنهبوا البيوت واستاقوا الماشية، ولمّا بلغ ذلك يوسف باشا، جمع جنوده وأهل الناحية نحو خمسة آلاف رجل، وسار فيهم، فكبس مدينة بعلبك، فهرب أهل المدينة، فنهبوا وقتلوا مَن أدركوا، واحتمى شهلوب بن سيفا مع بعض الحرافشة، وكثير مِن أهل المدينة في قلعة بعلبك فحَرق يوسف باشا قلعة الحدث في بلاد بعلبك، وحاصر القلعة خمسين يوماً، ثُمّ ملكها وقتل ابن فاطمة ورعد بن نبعا؛ لأنّه كان مع الأمير فخر الدين في وقعة نهر الكلب، وقتل ابن أخيه الأمير عليّاً، ثُمّ نادى بالأمان.

(٢) مرّت سابقاً رواية المحبّي للبيت الثاني على غير هذه الصورة، ورواية المحبّي أرجح كما هو مبيّن.

١٣

تنازعهم الذميم على الإمارة، كما كان ذلك شأن سواهم مِن الأُمراء المُجاورين، وحُكّام الإقطاعات المتاخمة لهم، وهو السلاح ذو الحدّين، المطبوع بيد الولاة العثمانيّين وغيرهم، الّذين كانوا يشهرونه عليهم بأيديهم، يحلّون به عُقد عصبيّتهم، ويُفرّقون به وحدة جماعتهم، وكان ذلك على أشدّه في هؤلاء الأُمراء كما ستراه مبسوطاً في أخبارهم، وقد مُنّيَ صاحب الترجمة بمُنازعة ابن عمّه الأمير يونس له على الإمارة.

ففي سَنة ١٠١٤هـ - ١٦٠٥م:

التجأ الأمير يونس إلى الأمير فخر الدين المعني والي جبل لبنان، خوفاً مِن ابن عمّه الأمير موسى فأجاره، وتولّى بلاد بعلبك بمدده، وعقد للأمير ابن الأمير يونس على ابنته، ومِن هذا الحين استأثر يونس بإمارة بعلبك دونه إلى أن لحق بربّه.

عطف الأمير موسى على أهل العلم:

إنّ الأمير موسى - كما عرفت أنّه كان مِن رجال العِلم والفضل - كان يعطف على رجالها، فقد جاء في خُلاصة الأثر للمحبي في ترجمة شمس الدين محمّد بن علاء الدين بن بهاء الدين البعلي، الشهير بابن الفصّي الفقيه الشافعي، مُفتي ديار بعلبك، وآباؤه كلّهم رؤساء العِلم بتلك الناحية، ودرس بالمدرسة النوريّة في بعلبك - إلى أن قال - ثُمّ لمّا مات الأمير موسى بن عليّ بن الحرفوش أمير بعلبك، واستولى عليها الأمير يونس ابن عمّه بعد فِتنة ابن جانبولاذ، رحل إلى دمشق مع مَن رحل مِن بعلبك، وسكن دمشق مدّة، ثُمّ ألجأته الضرورة إلى الرُجوع إليها، فلم يرَ مِن الأمير يونس ما كان يعهده مِن الإقبال، فصار كاتباً بمحكمة بعلبك، وأقام بها.

تُوفّي فيها سَنة ١٠٢٤ هـ - ١٦١٥م).

٥- الأمير يونس ابن الأمير حسين:

لم يُقم في الأُمراء الحرافشة مَن ولي الإمارة البعلبكيّة المدّة الطويلة الّتي قطعها هذا الأمير، ولا انبسطت يدُ أمير فيهم انبساط يده، حتّى استتبّ له أن يليَ مع إمارة بعلبك: إمارة البقاء، وسنجقية حمص، وحكم صفد، ولا مَن ساور منهم ما ساور مِن الحوادث مُدّة إمارته المُستطيلة، ولئن كانت ترتفع يده في فترات مِن الزمان عن الإمارة، فسُرعان ما كان يعود إليها.

١٤

وأوّل عهده بالإمارة كان نهاية إمارة ابن عمّه الأمير موسى، وكان ذلك في سَنة ١٠١٤ هـ كان مرَّ آنفاً، وهذه السَنة هي مبدأ حياته السياسية، ومبدأ ذكره، ولم يرد له ذِكر قبلها، وهي السَنة الّتي استعان فيها بالأمير فَخر الدين المعني على ابن عمّه الأمير موسى.

وأمّا ما ورد مِن مُباغتة الأمير المُترجَم له لجبة بشرة في تاريخ الأمير حيدر الشهابي، وتردُّد صاحب الدواني في الخبر بين المُترجَم له والأمير موسى، ونسبة الحادثة إليه إلى القيل في تاريخ بعلبك، فقد سبق ترجيحنا نسبتها للأمير موسى، وهو ما رجّحه المطران الدبس.

وجاء في تاريخ بعلبك:

(وفي سنة ١٦٠٦م - ١٠١٥ هـ جمع أحمد باشا الحافظ والي دمشق الجنود، وحمل على الأمير يونس لضغينة بينهما، فاستنجد يونس بالأمير فَخر الدين؛ فأنجده برجاله، فكفّ حينئذ أحمد باشا عنه، وكان ذلك سبب نفوره مِن فَخر الدين).

وأمّا المطران الدبس، فقد ذَكر هذه الحادثة في سَنة ١٦١١م (١٠٢٠هـ)، فقال:

(وفي هذه السَنة قَدِم نصوح باشا إلى حلب، وأرسل يطلب مِن الأمير فَخر الدين خدمة للسلطان، فأرسل له خمسة وعشرين ألف قرش أُخرى، بعد أن كان أرسل له مع كتخداه قبلها خمسة وعشرين ألفاً وخيلاً وأنسجة، مع ذلك لم يصفُ خاطره عليه، وكان مؤاخذاً له؛ لأنّه أنجد الأمير يونس الحرفوش والأمير أحمد شهاب ضدّ أحمد باشا حافظ دمشق، ولأن ما قدّمه كان أقلّ ممّا أرسله إلى مُراد باشا سلفه مع ابنه الأمير علي).

وإليك رواية الأمير حيدر:

فقد ذَكر في حوادث سَنة ٢٠٢١ هـ - ١٦١٢م لمّا كان الحافظ أحمد باشا بالشام، وأراد الزحف إلى ابن الحرفوش، أعان الأمير فَخر الدين بن الحرفوش، وكذلك أعان الأمير أحمد بن شهاب، لمّا أراد الحافظ توجيه عسكر ضدّه، ومنع الأمير فَخر الدين الحافظ عن أذيّتهما.

ورواية الأمير حيدر والمطران الدبس هي الأقرب للواقع، فإنّ أحمد باشا الحافظ لم يكن والياً على الشام في سَنة ١٦٠٦م - ١٠١٥هـ، وهي السَنة التي أرّخ فيها الحادث صاحب تاريخ بعلبك، وإنّما وُلّي كفالة دمشق، ودخلها يوم الاثنين حادي عشر شهر ربيع الثاني سَنة ١٠١٨هـ، الموافق سَنة ١٦٠٩م، كما جاء بترجمة الحافظ في خلاصة الأثر للمحبي، وإن كان في

١٥

كلام المؤرّخين اختلاف في تحديد السَنة، والأمر في ذلك سهل.

وفي سَنة ١٠٢١ هـ - ١٦١٢م لمّا كان الحافظ أحمد باشا بالشام، وأراد الزحف إلى ابن الحرفوش، أعان الأمير فَخر الدين بن الحرفوش، وأيضاً لمّا أراد الحافظ توجيه عسكر ضدّ أحمد بن شهاب إلى وادي التيم، أرسل الأمير فَخر الدين عسكراً لإعانة الأمير أحمد، ومنع الحافظ أحمد باشا مِن أذيّتهما؛ فكان ذلك سبباً لحَنَق الحافظ على الأمير، وأضمر له السوء، فتوجّه إلى حلب لمُقابلة الوزير نصوح باشا، وبصحبته كنعان بكباشى - مِن أعيان انكشاريّة الشام، وكان للأمير مُبغضاً - وفخر بِك، فأعطاهُما سنجقية عجلون ونابلس والكرك، وعزل ابن قانصوره، وزّين الحافظ للوزير بشتّى الأساليب مُقاومة الأمير ومُحاربته، فعزم على تجريد العساكر إنفاذاً لغرض الحافظ، ورجع هذا إلى الشام والحافظ إلى الباب العالي، ثُمّ خرج أحمد باشا ابن الوزير بالعساكر مِن الشام إلى وادي التيم، ونزل في خان حاصبيا، فهرب بنو شهاب منها، فهدم دورهم، وأتلف أملاكهم، ونهب حاصبيا، وبعد خمسة أيّام عزم على المسير إلى الشوف، فخاف منه بنو مَعن، وتعهّدوا له بدفع مئة ألف قرش، وسلّموه رهناً على ذلك المُقدّم شرف الدين بن مِزهر والأمير عليّاً بن إرسلان مِن الشوفيات، ثُمّ رجع إلى الشام، فهرب الأمير خُفية، ثُمّ بعث له بنو معن ما تعهّدوا به مِن بعد هرب الأمير علي إرسلان، ثُمّ جرت أُمور.

وفي سنَة ١٠٢٢ هـ - ١٦١٣م اضطرّت الأمير فَخر الدين للركوب بمَن معه مِن الرجال إلى القنيطرة أُمورٌ لا مَحلّ لبسطها هُنا، ولمّا أخبره عسكره بخروج العسكر مِن الشام، أرسل لهم نجدة عسكراً نحو عشرة آلاف مِن السكمان، ورجال الأمير أحمد بن شهاب، ورجال الأمير يونس (في تاريخ الأمير يوسف)، ومِن رجال يوسف بن سيفا، ولمّا شكا الحافظ ذلك إلى الوزير، ألقى القبض على مصطفى كتخدا، الأمير الّذي كان أرسله إلى إسلامبول لإظهار إخلاص سيّده للدولة، وعيّن في الحال أربعة عشر بيكلربيكاً وخمسين سنجقاً، وجعل الحافظ أحمد باشا سرداراً عليهم.

ولمّا وصلت العساكر إلى الشام، وعزم الحافظ على الركوب لمُحاربة الأمير، توجّه الأمير يونس الحرفوشي والأمير أحمد الشهابي لمواجهة الحافظ، وأخذ الأمير بتحصين القلاع، وجعل في قلعة بانياس حسين اليازجي مع ألف

١٦

شخص مِن السكمان، وفي قلعة الشقيف حسين الطويل، ومعه أربعمئة شخص، ووضع حريمه في القلعتين، ولم يأخذ معه إلاّ واحدة، ثُمّ وجّه أُناساً إلى الحافظ في كُتب يسترضيه بها، ولمّا لم ينتهِ أمر بهذه الوساطة إلى ما يشتهي الأمير عزم على المُقاومة، وكان أشدّها في قلعة الشقيف، وقد زحف الحافظ للحرب بجيش كثيف، وقد أرسل مَن في القلعة رسولاً لاستنجاد الأمير يونس أخي الأمير فَخر الدين، وهو جلب حسين، فأبلغ بعض جواسيس الحافظ ذلك إليه، فأرسل الحافظ حسين باشا بن سيفا والأمير يونس بن الحرفوش، فترصّدا طريق جلب حسين، وجرى بينه وبين رجاله وبين ابن سيفا وابن الحرفوش تصادم في البقعة فوق جسر الخردلة ليلاً، فقبضا على رجلين مِن رجال جلب حسين، ونجا بالباقون.

ووقعت بينهم موقعة، وانتهى الأمر بارتحال الحافظ في العسكر عن قلعة، وأخذ معه السيدة الوالدة بكلّ إكرام.

وحين وصل الحافظ إلى نهر حاصبيا أمر خمسين مِن الانكشاريّة بالإقامة هُناك بالخان، وطلب مِن الأمير يونس الحرفوش أن يُسلّمه حِصنَي قب الياس واللبوة، وبعد دخول الحافظ إلى الشام بخمسة أيّام خرج في العسكر إلى بعلبك ليتسلّم القلعة وحصن اللبوة، فأرضاه ابن الحرفوش بخمسين ألف قرش.

وفي سَنة ١٠٢٣ هـ - ١٦١٤م خرج الحافظ مِن الشام إلى المزّة، ثُمّ انتقل إلى الديماس، ثُمّ إلى جسر ديرزنون، ومنها إلى قب الياس، وأقام بها نحو عشرين يوماً، فاجتمع إليه حُكّام صفد وصيدا وبيروت، ومحمّد باشا والي غزّة، وفروخ بك، والأمير أحمد بن طربيه، وحسين بك ابن الأعرج حاكم حماه وعشائرهم، وحضر أُمراء الغرب، وهم: الأمير يونس بن الحرفوش، وغيرهم.

ثُمّ إنّ الحافظ أرسل الشيخ مُظفّر بجمع رجال الجرد والغرب والمتن إلى الشوف، فالتقاه أهل الباروك وعين زحلتا وبعض قُرى أُخرى ممّا يُجاورها نحو ٤٠٠ شخص مِن رأس الشوف، ووقع بينهم القتال مِن أوّل النهار بقُرب الباروك، فلمّا وصل الخبر إلى الحافظ، عيّن ثلاثة باشاوات والأمير أحمد الشهابي وبيت الحرفوش، وأرسلهم مِن قب الياس بعسكر إلى معونة الشيخ مُظفّر، ووقعت وقائع انتصر بها الشيخ مظفّر أوّلاً، ثُمّ انكسر، ثُمّ جرت وقائع أُخرى لا يَتعلّق لنا بها غرض.

وفي سنة ١٠٢٤ هـ - ١٦١٥م عُزل الحافظ مِن الشام، وعُيّن مكانه

١٧

محمّد جركس باشا، الّذي بوصوله إلى الشام أطلق والدة الأمير فَخر الدين، وكَتب إلى الأمير فَخر الدين برجوعه إلى بلاده مِن توسكانا، وفيها أعطى محمّد جركس باشا مُقاطعة البقاع إلى الأمير شلهوم الحرفوش، وأخذ على ذلك اثني عشر ألف قرش خدمة له، ووجّه معه عسكراً نحو خمسمئة خيّال، وكان الأمير أحمد بن شهاب مِن حزب الأمير شلهوم، فحاصر الأمير حسين الأمير يونس في قب الياس، ولم يُسلّمها، وحضر إلى معونة الأمير شلهوم: الشيخ مُظفّر شيخ اليمنيّة، ومُقدّمي كفرسلوان، وحسن آغا مملوك حسين باشا ابن سيفا؛ لأنّ الأمير شلهوم له قرابة ببيت سيفا، واجتمع العسكر في قريبة مكسة، وحضر الأمير يونس الحرفوش إلى الكرك، وجرت مُكاتبات فيما بينهما، وطلع الأمير حسين مِن قب الياس وتوجّه إلى والده، وتسلّم الأمير شلهوم قلعة قب الياس.

ثُمّ إنّ جركس محمّد باشا أرسل صوباشي وكيلاً إلى مدينة بعلبك، فتوجّهَ الأمير يونس إلى حلب، وأصحب معه أربعين ألف ذهب خدمة للوزير وأرباب الدولة، فقرّر عليه البقاع وبلاد بعلبك ورجع، وصحبته الأوامر إلى جركس محمّد باشا برفع الأمير شلهوم مِن البقاع، فتوجّه الأمير شلهوم إلى الشام، ثُمّ إلى الهرمل - بلاد ابن سيفا - وتسلّم الأمير يونس البقاع، وأقام في قلعة قب الياس، وفي بعلبك ولده الأمير حسين.

ولمّا كان الأمير يونس في حلب تكلّم معه الوزير بخصوص تسليم قلاع ابن معن، وأنّه يتوسّط بذلك، وبعد رجوعه أرسل إلى حسين اليازجي مكاتيب يُفهمه عن ذلك، وأشار عليه أن يَعمل صالحه في زمن الوزير المومى إليه؛ لأنّه كان له ميل شديد إلى بيت معن.

وفي سَنة ١٠٢٥ هـ - ١٦١٦م في شهر المحرّم الحرام حضر عند الأمير فَخر الدين المعني الأمير يونس الحرفوش والأمير ابن الشهاب، وكان الأمير علي الشهابي مُؤمّلاً أن يخرج ولده الأمير محمّد مع الأمير علي مِن القلعة، وفي ذلك الوقت صار اتّفاق، وكتبوا كتاب الأمير عليّ بن معن على كريمة الأمير عليّ بن الشهاب، وأرسلوا يطلبون الأمير محمّداً مِن القلعة، فلم تُمكّنه طائفة السكمانيّة مِن ذلك، فامتنع الأمير علي الشهابي مِن تزويج ابنته ما لم يحضر ولده، فالتزم الأمير علي المعني بدفع خمسة آلاف قرش إلى السكمان ترضية، وأن يوفيه إيّاها الأمير علي الشهابي، وكفل ذلك الأمير يونس الحرفوش.

١٨

وفي هذه السَنة، لمّا توجّه حسين اليازجي ومصطفى كتخدا إلى حلب، مرّا على بعلبك، فصحبهما الأمير يونس الحرفوش، ولمّا دخلوا على الوزير خلع على حسين اليازجي ومصطفى كتخدا، واشترط عليهما أن يهدما القلعتين (بانياس والشقيف)، وأن يكون حُكم صيدا وصفد للأمير عليّ بن معن، ووعد ابن الحرفوش بسنجقية حمص.

ولمّا رجع حسين اليازجي والأمير يونس مِن حلب وجّه معهما وزيرها قبجي باشا - يُسمّى باكيراغا - فألبسوا الأمير يونس الخِلَع الّتي جاؤوا بها، إلاّ أنّه لم يُسر الأمير علي، ولا الأمير يونس بهدم القلاع، ولكن كان نُفذّ الأمر، وكان الأمير علي يعتمد كثيراً على رأي حسين اليازجي، ووالده الأمير فَخر الدين كان أوصاه فيه، ثم توجّه حسين اليازجي ومصطفى كتخدا وباكير بك والأمير يونس الحرفوش إلى القلاع، فأخرجوا جميع الحريم منها، ولم يتركوا في القلعة أحداً، وجيء بهم إلى صيدا، ثُمّ استحضروا بنّائين وهدموا القلاع، واستمرّوا في هذا العمل نحو ٤٠ يوماً، وبعد ذلك توجّهوا ليُعلموا الوزير بهدم القلاع، وكان مُتوجّهاً إلى بلاد العَجَم، فلحقوه في منزلة أزرنكان وأخبروه بذلك، فخلع عليهم، وأعطى الأمير يونس الحرفوش سنجقية حمص.

وفي سَنة ١٠٢٧ هـ - ١٦١٧م كفل الأمير يونس بن الحرفوش الأمير عليّ بن معن لمحمّد باشا - المُكنّى بالجوقدار - بمبلغ أربعين ألف قرش على إعادة سنجقة صفد إليه، وكانت بِيَد حسين اليازجي التزمها محمّد جركس باشا، وقد خرج على بني معن وانتهى الأمر بقتله، وعند استحقاق المال وجّه الأمير علي به إلى ابن الحرفوش، وأرسل إليه يشكره.

وفي هذه السَنة عقد الأمير علي المعني عقد ابنته (فاخرة) على الأمير أحمد بن الأمير يونس الحرفوش، فجاء وسكن في قرية مشغرة، وأسّس بها أساس بناء عظيم ليسكن هُناك، وابتدأ يُكاتب بني متوال، فحضر إليه أولاد أغر، وأولاد علي الصغير، وبيت شكر، فلمّا بلغ الأمير علي المعني ذلك أرسل إلى والده الأمير يونس أن يمنع ولده عن السُكنى في قرية مشغرة، فأرسل له جواباً:

إنّ ولدي مُراده القُرب مِنكم، وأن يكون هو وزوجته بقُربكم، وتحت أنظاركم. فلمْ يقبل الأمير علي بذلك، وألزمه بالرجوع إلى بعلبك.

وفي هذه السَنة الّتي عاد فيها الأمير فَخر الدين المعني إلى البلاد، واستقبله كلٌّ مَن هو مِن حزب بيت معن في عكّا، وقد بلغه مقابلة بني

١٩

متوال لابن الحرفوش، فلمّا حضر الحاج ناصر الدين بن منكر قَبض عليه، فأرسل الأمير يونس الحرفوش كتخدا حسين يَتشفّع به إليه في إطلاقه، فقَبِل شفاعته على أن يَدفع الحاج ناصر الدين اثني عشر ألف قرشاً كفّلها الأمير يونس.

وفي سَنة ١٠٢٨ هـ - ١٦١٨م ألحّ محمّد آغا قبجي باشى في الطلب على الأمير فَخر الدين بالأموال الأميريّة الباقية عن ثلاث سنوات، فتوجّه الأمير إلى عكّا لجمع أموال بلاد صفد وبلاد بشارة، فرحل المشايخ بيت منكر وبيت علي الصغير إلى الأمير يونس الحرفوش، كما رحل غيرهم مِن صفد، ولمّا بلغه ذلك أحرق بعضاً مِن أماكنهم وضبط أملاكهم.

وفي هذه السَنة لمّا نشبت الحرب بين الأمير فَخر الدين ويوسف باشا ابن سيفا، وكان النصر للأمير، ففي ذلك الحين توجّه الأمير يونس، وكان مِن أنصاره، وحاصر برج القيرانيّة - على هضبة الهرمل الجنوبية - الّذي كان فيه جماعة ابن سيفا مِن السكمانيّة، وتسلّمه في ثلاثة أيّام، وضبط ناحية القيرانيّة والهرمل مع كلّ غنائهما، وغنم أيضاً جميع المَعزى والمواشي الّتي انهزمت مِن بلاد عكار والحصن، ضبط ذلك كلّه واستصفاه لنفسه.

وفي زمن مُحاصرة الأمير فَخر الدين لحصن راويد في بلاد عكّا، أتى تقرير مِن محمّد باشا الوزير على يد باكير آغا لابن سيفا، فأرسل ابن الحرفوش أربعة بلوكباشية مِن سكمانيّته إلى الأمير فَخر الدين إلى الحصن لأجل المُحاصرة.

وفي سنة ١٠٢٩ هـ - ١٦١٩م بعد رجوع الأمير فَخر الدين مِن حرب ابن سيفا، وقد انتهى الأمر بفوزه عليه، ثُمّ إلى الصلح عن طريق الحدث إلى بلاد بعلبك، ونزل على المجر، فبلغ الأمير يونس الحرفوش ذلك وهو بحصن اللبوة؛ فداخله الخوف، فبلغ الأمير فَخر الدين ذلك فركب في عشرة فُرسان وتَوجّه إليه، وكان الأمير يونس في طريق اللبوة فتصادفا، ونزل الأمير يونس وسلّم على الأمير، وعاد إلى الخيام وبصحبته الأمير يونس، وثاني يوم دعا الأمير فَخر الدين إلى اللبوة، وبات تلك الليلة هُناك، وانتقل إلى الهرمل، ثُمّ إلى قرية صدارة قُرب بلاد عكار، وبعد هدمه الدُور الّتي جدّدها بيت سيفا في عكار عاد عن طريق بعلبك إلى بيروت.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442