تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 107952
تحميل: 8800


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107952 / تحميل: 8800
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

كان أوان البرد والكوانين، ومدينة بعلبك لا تخلو مِن الثلوج في هذه الشُهور.

وفي هذه السنة عُزل مصطفى باشا عن الشام، ووصل محمّد باشا إلى حماه ومعه كرد حمزة بلوكباشي وأحكام بكلربكية الشام، وأرسل محمّد باشا مُتسلّمه وتبعه مَن معه إلى القطيفة، وأرسل إلى الأمير فَخر الدين بمنع مُساعدته لمصطفى باشا مع صور الأحكام بتوليته، فأجاب بعدم تدخُّله بينهما إلاّ بالمليح، وجرت بعض أُمورٍ لا يتعلّق بها غرضُ لتاريخنا فأعرضنا عنها.

بقيَ الأمير فَخر الدين وولده الأمير علي مُقيمين على بعلبك وحصارها، وفي العشرين مِن ربيع الأوّل طلب مصطفى كتخدا مِن الأمير فَخر الدين إجازة، وتوجّه إلى الشام وصار كلامه نافذاً عند مصطفى باشا الشام.

وفي هذه السَنة قَدِم الأمير قاسم ابن الأمير علي بن الشهاب على الأمير علي بن معن وهو في بعلبك، يتوسّطه أنْ يُفاوض باشا بتوليته مقاطعة الزبدانة بوجه الإجارة، ويضمن له الدرك، فكَتب الأمير علي ووالده الأمير فَخر الدين بذلك إلى مصطفى باشا، فرفض هذا الطلب بسبب انحرافه عن الأُمراء الشهابيّة بما كانوا يتعرّضون له مِن الاعتداء على القُرى القريبة مِن الشام، وتعرّضهم لمَن يسلك بتلك المسالك، وبسبب أنّهم فتّشوا على طرش بيت الحرفوش وفلاّحي بلاد بعلبك فوجدوه موزّعاً في ناحية بلاد الزبداني وضبطوه لأنفسهم.

وورد الجواب بأنّه: لا يُمكن كَتب المُقاطعة عليهم في هذا الزمان لأنّه زمان اضطراب، ولكنّ إلحاح الأمير قاسم على الأميرين بمراجعة مصطفى باشا انتهت بتوليته المُقاطعة.

وفي نصف شهر ربيع الثاني مِن هذه السنة جاء الأمير يونس بن الحرفوش - وفي نسخةٍ علي ابن الأمير يونس - إلى بعلبك، وقابل الأمير فَخر الدين على يد خاله الأمير شلهوب، زاعماً أنّه جاء مِن عند أقاربه بغير رضاهم أجمعين، فأقام في بعلبك.

وفي هذه السنة لمّا عاد مُراد باشا والي حَلب - بعد الإيقاع بالأمير مصطفى بن أبي زيد في أنطاكية إلى حلب - وصّى الأمير خالد بن عجاج

٨١

الّذي هو مِن قِبل الأمير مدلج أنّه يمرّ على معرة النعمان؛ لأنّ بها الأمير يونس بن الحرفوش، ليمسكه ويرفعه إلى قلعة سلمية، فامتثل الأمر ومسكه مِن المعرة وتوجّه به إلى سلمية ورفعه إلى قلعتها، وكان ذلك في أواخر جُمادى الأُولى، وخاب أملُ ابن الحرفوش، فلمّا بلغَ ذلك ولده الأمير حسيناً - وقد كان في حماة عند محمّد باشا - خاف على نفسه فخرج ليلاً بسكمانيّته، وجاء إلى مدينة الحصن؛ لأنّ عيالهم كانت بقلعتها، ونزل بها في ساعته، وراسل خاله الأمير شلهوب وأخاه الأمير علي - الّذي عند الأمير فَخر الدين في بعلبك - يطلب منهما أنْ يتكلّما مع الأمير فَخر الدين في الصُلح، ولا يصير منه مُراسلات إلى الأمير مدلج، ولا إلى مراد باشا في ضرورة والده الأمير يونس، وجعلا له في مُقابلة ذلك أربعين ألف قرش مِن مالهم وتردّدت في ذلك المُراسلات، وانتهى الأمر على هذا المنوال.

قَدِم إلى بعلبك - في أواخر جُمادى الأُولى مِن هذه السَنة - موفداً مِن الباب العالي الحاج درويش باشا لتعاطي مصالح الأمير فَخر الدين، يصحبه فريقٌ مِن أرباب الولايات المُعيّنين لها، فخرج الأمير فَخر الدين وولده الأمير علي للقاء الباشا وإبراهيم أفندي المعين دفتر دار الشام إلى خارج المدينة، ولبسا الخِلَع التي جاؤوا بها مِن الباب العالي وبتقرير المَناصب، وطلبَ مال إرسالية صفد وعجلون ونابلس إلى أُمور أُخر، ويوم وصولهم أرسل الأمير فَخر الدين عثمان آغا والحاج درويش ليتكلّما مع البلوكباشية المنحصرين في قلعة بعلبك، فبادروا إلى التسليم فلم يُجدِ معهم الكلام، وقد قالوا لهم أنّ بلاد بعلبك كَتبت على بيت مَعن وتطويل الحصار لا يأتي بنتيجة، فأجابوا أنّهم لا يُمكن أنْ يُسلّموا وفيهم روح، ولو مَكثوا في هذه القلعة عُمر نوح، والحال أنّهم كانوا في غاية الضيق مِن أمر العازق؛ لأنّه لم يبقَ عندهم شيءٌ يُؤكل غير حبّة القمح والمِلح، ولهم مدّة تزيد على شهر ونصف شهر يَجرشون الحِنطة بالجواريش، ويخبزونها على زبل الخيل ويقتاتون بها بالليل والنهار، لأنّ ابن الحرفوش ما كان يظنّ أنّ أحداً يلقاه، فلم يُلق باله إلى وضع العازق في القلعة حتّى إنّ السكمانيّة الّذين في القلعة ظلّوا يَرمون أنفسهم منها لأجل سرقة الحَطب، مع أنّهم كان يُقتل منهم بهذا السبب أُناس، وكان قُدّام باب القلعة جُنينة بها أشجار فواكه، فعيّن الأمير فَخر الدين رجالاً حتّى يقطعوا أشجارها بالليل لحرمان مَن في القلعة مِن

٨٢

الحَطب، وبينا هُم في هذه المُضايقة الشديدة وصل الحاج حسن بلوكباشي مِن جماعة الأمير فَخر الدين الّذي كان أرسله إلى حماه، وأخبر بتأكيد قبضِ الأمير يونس بن الحرفوش، فأرسله الأمير ليكلّم السكمانيّة الّذين في القلعة مِن سطح الخان لكونه قريباً إليها، فأخبرهم بذلك، وقال لهم: ماذا يُفيدكم الحصار الآن؟

وكان لهم عِلمٌ بالقبض على الأمير يونس، اتّصل بهم عن طريقٍ خفيٍ مِن رِفاقهم الّذين هُم في اللبوة، فتأكّد عندهم القَبض عليه، وخافوا عليه مِن الهلاك وحسبوا أنّه لا يُمكن إطلاقه، فأذعنوا للتسليم بعد اشتراط خروجهم بعددهم، وأنْ لا يُؤخذ لهم شيء، ولا يوضع أحدٌ منهم في الترسيم، فنزل منهم نهار الثلاثاء سادس جُمادى الآخرة مِن السنة المذكورة (١٠٣٣) ثلاثة بلوكباشية، وجاؤوا إلى الأمير فَخر الدين وولده الأمير علي، فلاطفاهم وعادوا إلى مواضعهم ولم تحصل لهم أذيّة، وتُركت المتاريس والضَرب بالبندق والرصاص، وذلك بعد أنْ قُتل مِن جماعة ابن معن في مُدّة الحصار كلّها نحو أربعين رجلاً مِن المُعلمين والسكمانيّة.

وفي نهار الخميس ثامن مِن الشهر المذكور فتحوا باب القلعة، وتوجّه الأمير فَخر الدين بنفسه، وقعد في الباب ومعه بلوكباشيته وبعض الطائفة ليخرج مَن بها مِن غير قَتل ولا طَعن ولا ضَرب، وكان بها بعض حريمٍ لهم، لم يتعرّض أحدٌ إليهم، نعم كان لابن الحرفوش بها بعض حوائج وأسباب ما أمكنه نقلها إلى اللبوة فأبقاها، فضبطها الأمير فَخر الدين وما أحد مِن جماعته عارض أحداً، وجميع مَن طلعَ مِن القلعة مِن السكمانية دفع لهم الأمير فَخر الدين علوفتهم مِن الشهر الّذي خرجوا فيه والجامكية وخدموا عنده وصاروا لمَن كانوا في خدمته أوّلاً ضدّه.

وفي ثالث يوم بعد تَسلّم القلعة عيّن الأمير فَخر الدين جميع مَن كان في المتاريس مِن الفعلة والمعلمين والقلاعين، وكانوا مقدار مئة وخمسين، وأمرهم أنْ يهدموا القلعة، فشرعوا في هدمها بالآلات وفي نقبها بالدبورة، وكانت قلعةً عظيمةَ الشأن قويّة البُنيان، حتّى إنّ حائطها القبلي جميعه مبنيٌّ بثلاثة أحجار بحيث لم يوقف على مِثل ذلك، لا في قلعة ولا في دير، كلّ حَجر مِن هذه الأحجار أزيد مِن مئة شبر طولاً، وأكثر مِن ثلاثين شبراً عرضاً، وأقلّ حجارة بقيّة حيطانها طوله ذراعان، وأكثروا بها عواميد، طول كلّ واحد منها قريب مِن ثلاثين ذراعاً، ودوره لا يُحيط به إلاّ باعان، وكان

٨٣

في القديم مبنيّاً على رؤوسها قلعة رفيعة البنيان لتحكُم على جميع الجوانب بضرب كلّ مَن يُحاصرها مِن أي مكان كان، ولكنّها هُدِمت مِن طول المُدّة وما بقي إلاّ العواميد، وهكذا بقيت واقفةً وما وقعت، وعدّتها نحو خمسين عموداً، والنقب الّذي كان عيّنه الأمير فَخر الدين استمرّوا فيه بالأزاميل مِن نصف الحصار إلى هذا الحين، وما نقبوا غير حَجر واحد، وبعد أنْ تمّ تسليم القلعة أرسل الأمير فَخر الدين مملوكه سرور أغا إلى الأمير مدلج بارمغان وهديّةً؛ ليكشف خبرَ الأمير يونس بن الحرفوش، هل هو عنده باقٍ أو أرسله إلى حلب ويأتي بالخبر الصحيح، فلمّا وصل إليه لم يجد إلاّ الأمير يونس في ذلك البلد لكون جماعة مراد باشا كانوا جاؤوا إليه وأخذوه إلى حلب في الترسيم، وحين وصلوا به إلى مراد باشا ارتضى منه بالمال، ولم يَعلم أحدٌ في تعيين ذلك حقيقة الحال، فأطلقه وأقام في مدينة حَلب، لأنّ الطائفة السباهيّة بوجود كرد حمزة بلوكباشي ساعدوه في كلّ شيءٍ طَلب، فلم يُمكّنوا مراد باشا مِن حَبسه في قلعة حَلب.

وفي عاشر جُمادى الآخرة دفع الأمير علي بن معن علوفة السكمانيّة عن شهر جُمادى الأُولى ووعدهم أنْ يخيلهم بالبخشيش الّذي جرى عليه القول على مَن له عليه استحقاقات، فبعد أنْ قبضوا العلوفة نبّه عليهم الأمير فَخر الدين أنْ يذهبوا إلى راس العين ليتوجّه بهم إلى مُحاصرة اللبوة على الفور، وذلك لأنّه كان أرسل إلى مرجان بلوكباشي:

إنّكم وعدتمونا أنّا إذا أخذنا قلعة بعلبك تُسلّمونا قلعة اللبوة.

فردّ الجواب أنّه: لا يُمكننا أنْ نُسلّم بلا مُحاصرة؛ لأنّا إنْ فعلنا ذلك ما يبقي لنا خبزٌ بين السكمانيّة، ولا يُمكن أنْ نجلس بينهم في المُحاصرة، فلذلك اعتمد الأمير فَخر الدين على المُحاصرة، ثُمّ جرتْ بينه وبين السكمانيّة أُمور تقدّم ذِكرها عن غير هذا الكتاب، فلا نُطيل الكلام بإعادتها.

وفي عشرين مِن جُمادى الأُولى مِن هذه السنة ورد الخبر أنّ محمّد باشا الّذي في حماه توجّه منها إلى بعلبك، ولمّا بلغها استقبله الأمير فَخر الدين وولده الأمير علي في رأس العين أعظم استقبال، وكان مِن أعماله تجديد المُقاطعات التي كان قرّر مصطفى باشا أعمالها للأمير فَخر الدين وأولاده وأعطى بها تحاويل، وكذلك كَتب مقاطعة بلاد بعلبك على الأمير علي الحرفوشي الموجود إذ ذاك عند الأمير فَخر الدين، وأنّ مئة ألف

٨٤

قتيلاً، ودُفن الأمير فارس في محلٍّ هناك لم يزل يُدعى حتّى الآن بقلعة فارس، فلمّا بلغَ الأمير موسى شهاب ذلك نهض برجاله مِن حاصبيا، ونهض الأمير علي نجم مِن راشيا ثائرين لقتيلهم، وبدؤوا يغزون أطراف بلاد بعلبك، فذهب عندئذٍ الأمير عُمر الحرفوش إلى الشوف، واستغاث بالأمير أحمد المعني، والتمس منه إقرار الصُلح بين الحرافشة والشهابيّين، فتوجّه الأمير أحمد إلى بعلبك وأصلح ذات بينهم على أنْ يُؤدّي الحرافشة لآل شهاب كُلّ سَنة خمسة آلاف قرش وجوادين مِن أطائب الخيل ديّةً عن الأمير فارس.

وفي سنة ١٦٨٦م ورد الأمر لعلي باشا النكدلي مُتولّي إيالة طرابلس أنْ يَقتصّ مِن الأمير شديد الحرفوش لتخريبه قرية راس بعلبك وهدمه حصنها، فكَتب إلى الأمير أحمد بن مَعن أنْ يُوافيه بالرجال، فلجأ الأمير شديد إلى المشايخ الحماديّة، فأحرق علي باشا قرية العاقورة وأربعين قريةً مِن قُرى بني حمادة، ثُمّ نزلَ عسكر الباشا على عين الباطية، فباغته ليلاً آل حمادة والحرافشة وقتلوا منهم خمسة وأربعين رجلاً، وانهزم العسكر وعاد علي باشا إلى طرابلس.

وكان حاكم بعلبك في سنة ١٧٠٢م الأمير حسين الحرفوش، وهو الّذي التجأ إليه الشيخ يوسف الدحداح، وصار له مكانةً عظيمةً عنده.

وقيل إنّ الأمير حُسيناً المذكور قُتل بثورة مِن أهالي بعلبك في جنينة اللطامة في سنة ١٧٢٤، وخلّفه ابن عمّه الأمير إسماعيل، ثُمّ تولّى بعده الأمير حيدر - وهو الّذي ارتحل إليه في سنة ١٧٤١م الشيخ منصور الشدياق - وكان هذا الأمير عاتباً، فهجر كثيرون المدينة والبلاد لثقل وطأة الأُمراء عليهم.

وفي سنة ١٧٤٨م أناط أسعد باشا وزير دمشق أُمور بعلبك وإدارتها بالأمير ملحم شهاب؛ ليكفي شرّ ثورات الحرافشة، ويصون خراج البلاد، ولكنّه ما لبثَ أنْ نَقِم على الأمير مِلحم؛ لتأخُّره عن دفع المُرتّبات الأميريّة فحاربه، وانضمّ إليه الأمير حيدر الحرفوش، وبعد ذلك سار أسعد باشا إلى الحج، فانتهز الأمير ملحم فرصة غيابه، فأرسل عسكراً إلى بلاد بعلبك فنهبها، وأزاح الأمير حيدراً عن الحُكم، وولّى مكانه أخاه الأمير حُسيناً، فلمّا عاد أسعد باشا مِن الحج بلغهُ ما فعل الأمير ملحم في بعلبك، فأخذ يُعبّئ العساكر للتنكيل به، ولكن الأيّام خانته إذ نقمت عليه الدولة، ونفذ الأمر السلطاني بضرب عُنقه، فبقي الأمير حسين متولّياً على بعلبك، وانسحب

٨٥

الأمير حيدر إلى بلاد القلمون شرقي بعلبك.

وفي سنة ١٧٥١م زارها - بعلبك - المُهندسان وود ودوكنس الإنكليزيّان، فرسما هياكلها رسماً مُدقّقاً أظهر للعالم الأوروبي أهميّة خرابات بعلبك ومكانها مِن العظمة والفخامة، ووضعا تقريراً مُسهباً عظيم الفائدة عن تاريخ بعلبك القديم، وذكرا في بدء كتابهما أنّهما قدِما إلى بعلبك بإذن سُلطاني، وكان وقتئذٍ الحاكم في بعلبك ومقاطعتها الأمير حسين المذكور آنفاً، وأنّ أخاه الأمير حيدر كان لم يزل في مُقدّمة عُصابة، وأنّه دهم قرية عرسال قبل مرورهما فيها وخرّبها، وذكرا أيضاً بأنّ المُرتّب على مقاطعة بعلبك كان وقتئذٍ مئة كيس، وأنّهما بعد الفراغ مِن شغلهما في بعلبك وسفرهما منها بزمنٍ يسيرٍ تلقّيا خبر مَقتل الأمير حسين، وأنّ القاتل أخوه حيدر الّذي تولّى مكانه.

وفي سنة ١٧٥٩م ضبط الأمير إسماعيل ابن الأمير شديد الحرفوش مدينة بعلبك وإيالتها مِن قِبل والي طرابلس بمقطوع مئة كيس وهي خمسون ألف قرش.

وفي تلك السنة توفّي الأمير ملحم شهاب، فنَبَذ الحرافشة سيادة خَلَفه، وأخذوا يعتدون على لبنان، فاستأذن الأمير يوسف بن ملحم وزير دمشق وضرب الحرافشة في سنة ١٧٦٣، ومكّن الأمير حيدر الحرفوش مِن القبضِ على أزمّة الأحكام، وبقي سائداً إلى أنْ تُوفّي سَنة ١٧٧٤م، وكان قد هَرم كثيراً، فتولّى مكانه أخوه الأمير مصطفى، فقصد الأمير درويش ابن الأمير حيدر ابن الأمير يوسف الشهابي طالباً مساعدته ليكون حاكماً مكان أبيه، فخيّب طَلبه، فقصد الشيخ ظاهر العمر فطيّب خاطره، وسأل الأمير يوسف فيه فولاّه على قِسمٍ مِن قُرى بعلبك.

وفي سَنة ١٧٧٦م أرسل أحمد باشا الجزار قائد عسكره قرامنلا إلى بعلبك، فاستولى عليها بعد أنْ طَرد منها الأمير جهجاه ابن الأمير مصطفى، غير أنّه عاد فأخلاها لخروج الأمير يوسف الشهابي عليه، فرجع الأمير جهجاه إليها.

وفي سنة ١٧٧٨م انضمّ الأمير جهجاه برجاله إلى الأمير يوسف شهاب، وحاربوا عساكر الجزار فهزموها.

وفي سنة ١٧٨٢م التجأ إلى الأمير يوسف الأمير محمّد الحرفوش -

٨٦

وكان قد طرده أخوه الأمير مصطفى المذكور - فجهّز معه خمسة آلاف رجلٍ، وأرسلهم إلى بعلبك بزعامة أبناء عمّه مِن آل شهاب، فلمّا بلغوها هرب الأمير مصطفى وأولاده إلى حمص، وتولّى الأمير محمّد على بعلبك، ثُمّ توجّه الأمير مصطفى إلى الشام ووعد واليها عبد الله باشا أنْ ينقده خمسة وعشرين ألف قرش، فأرسل معه عسكراً نظاميّاً فأتى بعلبك، وهرب الأمير محمّد وأُسرته وأحزابه مِن أبناء عمّه، فأقاموا في مجدل المتين، ومات فيها الأمير محمّد سنة ١٧٨٦م.

وأمّا الأمير مصطفى، فإنّه صادق الأمير يوسف الشهابي ونقده المُرتّب المُعتاد، وظلّ حاكماً في بعلبك إلى أنْ تولّى بعد سنةٍ مِن حُكمه درويش باشا بن عثمان باشا الصادق إيالة دمشق، فأرسل عسكره لكبس الأمير مصطفى في بعلبك بسبب مظالمه وطُغيانه، فقبضوا عليه وعلى أحد أخوته وسَبَوا حريم بني الحرفوش، ونهبوا المدينة وساقوا الأمير مصطفى وأخاه إلى دمشق، فأمر درويش باشا بشنق الأمير مصطفى، وأرسل إلى بعلبك حاكماً مِن عنده يُدعى سليم آغا.

وأمّا الأمير جهجاه بن مصطفى الّذي نجا مِن يد العسكر، فقد سار إلى عرب خُزاعة أبناء عَم بني الحرفوش - لأنّ هؤلاء يزعمون بأنّهم فخذ مِن أفخاذهم - فاستعان بهم على استرجاع بعلبك، فاعتذروا إليه وأمدّوه بمالٍ وفير، وأعطوه فَرساً صفراء كريمة الأصل، فعاد إلى بلاد بعلبك في سنة ١٧٨٦م، وعَلم أنّ بطال باشا والي دمشق أرسل حاكماً زنجيّاً بدلاً مِن سليم آغا يُدعى محمّد آغا، فذهب الأمير جهجاه إلى زحلة، وجمع فيها مئة مُقاتل تأهّباً لاسترجاع بعلبك مِن الزنجي، ولمّا فرغ مِن تنظيمها تَقدّم بها إلى المدينة وقد فرّ الخيل بلباد، فدخلوها تحت جُنح الليل، وقتلوا كلّ مَن صادفوه في طريقهم حتّى جرت الدماء كالسواقي، وانهزم محمّد آغا إلى دمشق، وكان الوزير يومئذ قد همّ بالخُروج إلى الحجّ، فلم يتمكّن مِن إرسال عسكر إلى بعلبك، ولمّا عاد في سنة ١٧٨٧م أرسل المنلا إسماعيل بألفٍ ومئتي فارس فالتقاه الأمير جهجاه وأخوه الأمير سلطان بأهل زحلة، وكمنِت فرقة منهم في مضيق القرية، فلمّا وصل الفرسان إلى المضيق أطلقوا عليهم الرصاص، وخرجوا إليهم وتلاحم الفريقان، فانهزمت عساكر المنلا، وتبعهم رجال الأمير إلى قرية السلطان إبراهيم وأثخنوا فيهم، ولم يُؤذَ مِن رجال الأمير إلاّ نفرٌ قليل، ورجع الأمير جهجاه إلى بعلبك، وقبض على أزمّة الأحكام.

٨٧

وفي تمّوز مِن سنة ١٧٨٨م انضمّ الأمير جهجاه برجاله إلى الأمير يوسف الشهابي لمُقاتلة عساكر أحمد باشا الجزار، ففازوا بها فوزاً مُبيناً، وعاد جهجاه إلى بلاده.

وفي سنة ١٧٨٩م خرج على الأمير جهجاه ابن عمّه الأمير قاسم ابن الأمير حيدر؛ يُريد انتزاع حكومة بعلبك مِن يده، فطلب مِن الأمير بشير الكبير المُساعدة فلبّاه، وأرسل له عسكراً إلى زحلة، وأمر أهلها أنْ يتوجّهوا مع العسكر، وأرسل أمراً إلى الأُمراء اللمعيّين أنْ يشدّوا برجالهم أزرَ العسكر المُجتمع في زحلة فأطاعوا، فزحف إذ ذاك الأمير قاسم بالعسكر إلى بعلبك، فلاقاه الأمير جهجاه برجاله في أرض أبلح، وانتشب بينهم القتال فدُحِر الأمير قاسم ومَن معه، وارتدّ راجعاً إلى زحلة بعد أنْ سُلبت خيولهم وأسلحتهم، وقُبض على الأمير مراد اللمعي، فأمر جهجاه بردِّ أسلحته وجواده وأطلقه مُكرّماً.

ولمّا بلغَ الأمير بشير انهزام عسكره جرّد جيشاً آخر بقيادة أخيه الأمير حسن، ولمّا وصلوا إلى بلاد بعلبك أخلى لهم الأمير جهجاه المدينة فدخلوا، ولكنْ ما لبثوا أنْ خرجوا منها لقلّة الزاد فيها، ولمّا لم ينجح الأمير قاسم بأمره التجأ إلى أحمد باشا الجزار، فأمر الأمير بشيراً أنْ يُسعفه ثانيةً، فوجّه الأمير إلى بعلبك وأصحبه بمشايخ الدروز ورجالهم، فلمّا وصلوا إلى بعلبك خرج إليهم جهجاه إلى ظاهر المدينة، فهجم الأمير قاسم على الأمير جهجاه وهو في وسط معسكره، فأصابته رصاصة قبل أنْ يصل إليه فخرّ صريعاً، وكان قاسم شُجاعاً كريماً كوالده عادلاً بخلاف غيره مِن ذويه، ولمّا قُتل الأمير قاسم عاد العسكر الشهابي إلى حيثُ أتى دون قتال.

وفي سنة ١٧٩٤م قَتل الأمير جهجاه ابن عمّه الأمير داود، وسمَل أعيُن إخوة الأمير عُمر.

وفي سنة ١٨٠٦م وقعت النِفرة بين الأمير جهجاه وأخيه الأمير سُلطان، فظاهر جمهور الحرافشة سلطاناً؛ لاستبداد جهجاه فيهم، فحنق هذا ونزح إلى بلاد عكار، وبقي هناك إلى أنْ أصلحَ ذات بينهما الأمير بشير الكبير سنة ١٨٠٧، فتولّى جهجاه على بعلبك وأعمالها إلى أنْ تُوفّي بعد سنين قليلة - وكان بطلاً شُجاعاً ومُقداماً مذكوراً - فحكم بعده أخوه الأمير أمين.

وفي سنة ١٨١٩م كَتب نائب دمشق إلى الأمير أمين في طرد المشايخ النكدية مِن بلاده فهرب هؤلاء.

٨٨

وفي سنة ١٨٢٠م سوّلت للأمير نصوح ابن الأمير جهجاه نفسه الخروج على عمّه أمين، فاستنجد الأمير بشير على طرد عمّه مِن بعلبك، فأنجده بعسكرٍ يرأسه الأمير ملحم حيدر شهاب، فلمّا عَلم أمين بذلك فرّ مع أخيه سلطان إلى الهرمل، وعند وصول العسكر المذكور إلى بعلبك وافاه الأمير نصوح، وخرج معه لطرد عميّه مِن الهرمل، ففرّ الأميران عندما علما بذلك، ورجع الأمير ملحم إلى بلاده، وعاد الأمير أمين الكرّة على بعلبك، ففرّ الأمير نصوح إلى زحلة.

وفي تلك السنة، بينما كان الأمير أمين في قرية بدنايل دهمه الأمير نصوح بأهل زحلة، فانهزم الأمير أمين وانقلب إلى بعلبك، وإذ رأى نصوح أنّ مُعاندة عمّه لا تُجديه نفعاً، وأنّ أهل البلاد لا تميل إليه؛ لأنّ عمّه أحقّ منه بالحُكم، أتاه مستسمحاً منه طالباً المَغفرة، فطيّب الأمير أمين خاطره، ولكنّه طوى قلبه على الضغينة، وبينما كان الأمير نصوح نائماً في قرية مجدلون أوعز الأمير أمين إلى مكباشي درزي عنده فخنقه، ولبث الأمير أمين حاكماً إلى أنْ أتى إبراهيم باشا بن محمّد علي باشا المصري إلى البلاد السوريّة، وكان الأمير أمين لم يزل خاضعاً للدولة مُنكراً لنفوذ المصريّين، فأوغر ذلك صدر إبراهيم باشا حقداً عليه، فحضر بعساكره سَنة ١٨٣١ إلى بعلبك فأخذها دون أدنى مُقاومة، وفرّ الأمير أمين بعياله مِن مكان إلى آخر، فوضع إبراهيم باشا في بعلبك عسكراً، وبنى لهم ثكنةً كبيرة، وجعل البلدة كنقطة حَربيّة لجيشه نظراً لموقعها الحربي، وحَكم البلدة الأمير جواد الحرفوش.

وفي سنة ١٨٣٢م ذهب الأمير أمين إلى بيت الدين مستجيراً بالأمير بشير، فطيّب خاطره ووعده صداقة إبراهيم باشا. وأمّا رفاقه، فلم يوافقوه على ذلك وخوّفوه شرّ استئمانه، فرجع إلى ما كان عليه، وكانت عساكر إبراهيم باشا تطارده، وما زال مُنهزماً مِن مكان إلى آخر إلى أنْ لحقته يوماً فُرسان الهنادي في عين الوعول شمالي بعلبك - وكانوا نحو أربعمئة فارس - فلم يكن معه سوى ولده الأمير قبلان واثني عشر فارساً، فوقف الأمير أمين مع الحريم وكرّ قبلان بفُرسانه على الهنادي واخترق بسيفه جمعهم وأعوانه تحمي ظهره، فشغل الهنادي مدّةً حتّى استوعر الأمير أمين في الجبل، فارتدّ ابنه إليه ولم يتمكّن الهنادي مِن اللحاق به فعادوا على

٨٩

أعقابهم.

وأمّا الأمير أمين، فإنّه سار مِن هناك إلى شعرة الدنادشة وأودع حريمه آل دندش، ثُمّ طلبا الآستانة العليّة حيثُ أُنزلا في أرفع مَنزلةٍ، ولبثا هناك إلى أنْ زايل إبراهيم باشا سورية، ولمّا استولى إبراهيم باشا على بعلبك ولّى عليها الأمير جواد الحرفوش، ثُمّ عزله وعيّن عوضه أحمد آغا الدزوار، فكان ذلك سبب عصيانه على الدولة المصريّة، فأخذ يُحرّك الفِتن عليها، ويجول مِن مكان إلى مكان إلى أنْ أدركه يوماً بقُرب يبرود مئتا فارس مِن الأكراد أرسلهم عليه شريف باشا المصري حاكم دمشق، وكان مع الأمير جواد أبناء عمّه الأُمراء محمّد وعساف وعيسى وسعدون وثلاثون فارساً، فهجم بعضهم على بعض وحمى وطيس الوغى، وأتى الأُمراء الحرافشة مِن ضروب الفروسيّة ما هو جدير بهم، فارتدّ الأكراد، وقُتل منهم أحد أُمرائهم وهو عجاج آغا، وذهب بعد ذلك الأمير جواد إلى بلاد حمص وقد تفرّقت عنه أصحابه، وبينما كان في مجلس يُدعى الحرشية دهمته كتيبةٌ مِن الهنادي تُريد القبض عليه، فملكوا عليه جسر التل المنصوب على العاصي الّذي لا بدّ له مِن المُرور منه للتخلّص منهم، فهجم حينئذٍ عليهم هجمةً قَسوريّة، ففرّق جمعهم بحدّ الحُسام، وأفلت منهم بعد أنْ قَتل بضعة فُرسان وفرّ هارباً، غير أنّه لم يأمن الغدر، ولمّا رأى أنّ العصيان لا يُجديه نفعاً، وأنْ لا مناص له مِن يد أعدائه استأمن للأمير بشير، وطلب إليه أنْ يأخذ له الأمان مِن إبراهيم باشا، ولكنّ هذا كان يكرهه، فخانه وسلّمه إلى شريف باشا حاكم دمشق، فأماته شرّ ميتة.

ثُمّ عُزل أحمد آغا الدزوار فعُين عوضه خليل آغا وردة، ثُمّ الأمير حمد الحرفوشي، ولمّا رجع إبراهيم باشا لبلاده سنة ١٨٤٠م خلّف الأمير حمد الأمير خنجر، وكان عدوّاً لإبراهيم باشا.

وفي السنة المذكورة، قدِم مِن حلب إلى بعلبك عثمان باشا بثمانية آلاف جندي لمُحاربة العساكر المصريّة، وبعد أنْ احتلّ الثكنة الّتي بناها إبراهيم باشا ذهب إلى البقاع، وفي تلك الأثناء جمعَ الأمير خنجر وأخوه الأمير سلمان نحو أربعمئة فارس، وانضمّوا للأمير علي اللمعي، وأخذوا يقتفون آثار إبراهيم باشا ويغزون أطراف عسكره، وبعد مُناوشاتٍ عديدةٍ ذهب الأمير خنجر وأخوه إلى زوق مكايل ليجمع رجالاً مِن الثائرين على الحكومة المصريّة، فلمّا وصل إلى المعاملتين قال له بعض رُفقائه: خُذ معك عامية غزير ونحن نذهب ونأتي بالرجال إليك، وساروا إلى الأمير عبد

٩٠

الله شهاب حليف إبراهيم باشا وأخبروه بما كان، فقصده الأمير عبد الله بأصحابه للقبض عليه، ولمّا رآهم الأمير خنجر مُقبلين ظنّهم العامية، حتّى إذا دنوا منه أحاطوا به ومنعوه مِن الهرب، وقبضوا عليه وعلى أخيه وعلى ستّة أنفار متاولة كانوا معهما، ورجعوا بهم إلى غزير، فأمر الأمير عبد الله بوضعهم في السجن، وذاع الخبر في كسروان فانحدر إلى غزير نحو مئة رجلٍ مِن قُرى كسروان والفتوح، واتّفقوا مع عامية غزير على تخليص الأمير خنجر ومَن معه، فأرسلوا إلى الأمير عبد الله أنْ يُطلق سبيلهم فأبى، فهجموا حينئذٍ على السجن وكسروا بابه، وأخرجوا الأميرَين وأصحابهما وسلّموهم أسلحتهم وانحدروا إلى جونية، فاجتمع إليهم جماعة، وأتى الأمير خنجر بهم إلى المكلس لهياج المتنيّة.

وفي خلال ذلك نهض عبّاس باشا وسليمان باشا بالعسكر المصريّ قاصدين حمانا، ولمّا وصلوا تجاه المكلس أطلق الأمير خنجر الرصاص عليهم، فأرسل إليه سليمان باشا بفرقة الأرناؤط ففرّقت شملهم، وفرّ الأمير خنجر إلى جرد العاقورة، وفي تلك الأثناء كانت فرقة مِن العسكر المصري مُخيّمةً في عيناتا - مِن أعمال بعلبك - فجمعَ الشيخ أبو سمرا البكاسيني أربعة آلاف رجل وسار بهم إلى اليمونة، ثُمّ إلى عيناتا، والتحم القتال بينه وبين العسكر المصري مدّة ثلاثة أيّام، ثُمّ دهمه العسكر بغتةً، وقَتل مِن جماعته ستّين نفراً، فانهزم إلى جبة بشري وجمع رجالاً مِن نواحيها ورجع إلى عيناتا، وأضرم نار الوغى فانهزم العسكر المصري، وقُتل منه سبعون نفراً، ثُمّ أمدّه بعدئذٍ عزّت باشا - سر عسكر الجيش العثماني - بنجدةٍ، فهجم على العسكر المصري وأجلاه عن عيناتا.

أمّا الأمير خنجر، فإنّه انضمّ بعد انهزامه إلى عزة باشا، فأرسله مع عمر بك لمُحاربة الأمير مسعود شهاب، وما برح الأمير خنجر مُخلصاً الطاعة للدولة العليّة، ومُنجداً العسكر العثماني إلى أنْ تمّ إخراج إبراهيم باشا مِن البلاد السوريّة، فأنعمت عليه الدولة بحُكم بعلبك والبقاع.

وفي سنة ١٨٤١م عاد الأمير أمين مع ابنه قبلان مِن الآستانة إلى بيرت مصحوباً بأمر شاهاني بتولّي بعلبك، فتوفّي الأمير أمين بوصوله إلى بيروت - وكان مُهاباً مُطاعاً سفّاكاً للدماء - فذهب ابنه الأمير قبلان إلى دمشق ليُصادق على الأمر المُعطى له ولأبيه، ولبث فيها مُدّةً إلى أنْ تمّ له ذلك، وكان في أحد الأيّام في قصرٍ نزله فرأى الشخاصيّة - كالجاوبشيّة

٩١

والأنفار العسكريّة - يَجرون مُسرعين نحوه ليُبشّروه بذلك طَمعاً في إنعامه، فتوهمّ الأمير أنّهم يَرومون القبض عليه؛ فجنّ مِن ساعته وامتطى جواده وهرب، وبقيَ مجنوناً إلى أنْ تُوفّي سنة ١٨٦٤م في الثمانين مِن العُمر.

وفي السنة المذكورة حدثت الفتن بين الدروز والنصارى، فتوجّه الأمير خنجر وأولاد عمّه بأتباعهم إلى زحلة، وأنجدوا أهلها، وحاربوا العريان قائد الدروز في تعلبايا فهزموه، ثُمّ جَمع الدروز شملهم وزحفوا على زحلة بثمانية آلاف مُحارب فالتقاهم الأُمراء وأهلها، وانتشب القتال بين الفريقين فانهزم الدروز شرّ انهزام، ورجع الأمير خنجر إلى بعلبك، وبقي حاكماً إلى سنة ١٨٤٢ حيث انطلق إلى الشام الأُمراء بشير وسعدون وشديد وفدعم، وأخرجوا أمراً بقائمقاميّة بعلبك للأمير حسين ابن الأمير قبلان، وإذ كان صغير السنّ أقاموا له وصيّاً الأمير سعدون، وبعد سَنة توفّي هذا، فاستولى على أعنّة الأحكام الأمير حمد المارّ ذكره سابقاً، وبقي حاكماً إلى سنة ١٨٤٥ حيث ذهب الأمير محمّد إلى دمشق، وأخذ أمراً بولايته على بعلبك، ثُمّ أتى إليها ومعه محمّد آغا بوظو وعساكر مِن الأكراد يبلغون خمسمئة فارس لإعانة الأمير محمّد على طرد ابن عمّه، فأتوا إلى قرية بر الياس مِن أعمال البقاع.

ولمّا بلغَ ذلك الأمير حمد جمعَ جيشاً مِن أهالي البلاد وذهب بهم لمُلاقاة الأمير محمّد، وأتى قرية تمنين التحتا، ولبث فيها ثلاثة أيّام حتّى بلغه أنّ الأمير محمّد وبوظو خرجا مِن بر الياس بجموعهما إلى بعلبك ليملكاها، فقابلهم الأمير حمد بعساكره عند قرية الدلهمية، فهجمت الرجال واشتدّ القتال وسالت الدماء وتقهقرت فُرسان الأمير حمد في بادئ الأمر، فأنجدهم حالاً بالمُشاة، وكانت إذ ذاك ساعة هائلة، وتمّ الفوز للأمير حمد وولّى عسكر الأكراد هارباً بعد أنْ ترك نحو ستّين قتيلاً في ساحة القتال، وقُتل مِن فريق الأمير حمد ثلاثةٌ فقط منهم الشيخ شبلي حيدر، ووقع منهم عدّة جرحى، ورجع الأمير حمد ظافراً إلى بعلبك، ولبث على منصّة الأحكام ستّة أشهر، غير أنّ محمّداً ما زال يسعى في دمشق حتّى أخذ أمراً ثانياً بحكم بعلبك، فهرع الأُمراء يوسف بن حمد وشديد وخنجر إلى الشام ساعين بإفساد ما ناله محمّد، فشاءت حِكمة الحكومة السَنيّة تجزئة بعلبك وشرقي البقاع إلى مُقاطعاتٍ صغيرةٍ يتولاّها هؤلاء الأُمراء.

وفي سنة ١٨٥٠م حدّثتْ الأميرَ محمّداً نفسُه بالخروج عن طاعة الدولة

٩٢

العليّة، فعصى وجمعَ عسكراً مِن بلاد بعلبك ووادي العَجم، فأرسلتْ عليه إذ ذاك الدولة عسكراً بقيادة مصطفى باشا، فانهزم أمامه الأمير إلى قرية معلولا، فتحصّن بها مع إخوته الأُمراء عساف وعيسى وخليل وأولاد عمّه آل حسن - فخذ مِن الحرافشة - فحصرتهم العساكر الشاهانيّة إلى أنْ دخلتها بوسيلة مِن أهلها، فهربَ الأمير خليل وأولاد عمّه، وبقي محمّد وعيسى وعساف، فتحصّنوا ضمن كهفٍ هنالك، ولبثوا مُحاصرين فيه لا يُذعنون للقوّة، فهجمت إذ ذاك العساكر وقتلت عيسى وأسرت محمّداً وعسافاً.

ثُمّ حضرَ مصطفى باشا قائد العساكر الشاهانيّة بثلاثة آلاف جندي إلى بعلبك، ودخلَ المدينة وقد طوّقتها العساكر، فأقبل عليه الأُمراء مُسلّمين، فأمر بالقبض عليهم وأرسل زُعماءهم الأُمراء حمداً وابنه يوسف وخنجراً وسلمان فاعور وشديداً وسليمان إلى الشام، ومِن هناك نُفوا مع الأمير محمّد وعساف إلى جزيرة كريت، فاستتبّت الراحة وتولّى قائمقاميّة بعلبك تيمور بك، وكان قد بقي في البلاد فريقٌ مِن الحرافشة لم تَطله يد مصطفى باشا، منهم الأمير محمود ابن الأمير حمد المذكور آنفاً، فعصى وأخذ ينهب البلاد إلى أنْ أمّنته الدولة فأتى بعلبك مُطيعاً، ثُمّ عُزل تيمور باشا وأتى عوضه فرحات باشا، وهو الّذي رمّم الجامع الحالي للسُنّة، وهو جامعٌ قديمٌ جدّد بناءه السلطان قلاوون سنة ٦٥٢ هجريّة.

وفي سنة ١٨٥٢م قُتل الأمير محمود في قرية العين، واتّهم ابن عمّه الأمير سلمان أخو الأمير خنجر بقتله، فجدّتْ الحكومة في طلبه ففرّ، وجمع إليه بعض الأتباع، وأخذ يطوف البلاد مُخلاًّ بالراحة العموميّة.

وفي السنة ذاتها، عُزل فرحات باشا، وعُيّن القومندان صالح زاكي بك وكيلاً للقائمقاميّة، وأتى مصحوباً بعسكر شاهاني، وفي مُدّة وكالته ذهب الأمير منصور - عمّ الأمير محمود - والشيخ أحمد حمية إلى الشام، وأخذا أمراً بقيادة مئتي خيّال بعد أنْ تعهّدا للدولة بالقبض على الأمير سلمان قتيلاً أو أسيراً، فصار الأمير سلمان ينهب البلاد، وجمعَ إليه خمسين فارساً يأتمرون بأمره، وأخذ الأمير منصور وأحمد حمية يُطاردانه إلى أنْ التقيا به يوماً في أراضي قرية طاريا، فتناوشوا هناك وأسفرتْ المعركة عن انهزام الأمير منصور ومَن معه، وعرف القومندان صالح بك بذلك فسيّر العساكر مُتّبعاً آثار سلمان، ففرّ هذا إلى القُرى الشماليّة ورجع العسكر إلى بعلبك، وإذ رأى سلمان أنّ العصيان لا يُجديه نفعاً، وأنّ الدائرة لا بدّ أنْ تدور عليه خَضع للدولة العليّة

٩٣

في الشام واسترسل إلى الطاعة سنة ١٨٥٤م، فتكرّمت عليه بقيادة مئتي خيّال وشرّفته (سرهزار)، وكان قد تولّى القائمقامية وقتئذٍ مصطفى راشد أفندي.

وفي السَنة ذاتها قَتل الأمير منصور غدراً أحمد حمية؛ إذ قد ظهرَ له أنّه هو قاتل الأمير محمود لا الأمير سلمان.

وفي السنة المذكورة هربَ الأمير محمّد المشهور وأخوه عساف مِن منفاهما في جزيرة كريت وأتيا بلاد بعلبك، ولبثا مُستترين إلى أنْ استرضيا الدولة.

وفي سنة ١٨٥٥م أحرق أهالي زحلة قرية بريتال بسبب قتيلٍ لهم.

ثُمّ أبدل مصطفى راشد أفندي بمحمّد آغا، ثُمّ هذا بعبد الرحمان بك، ثُمّ بعبد الله بك العظم.

وفي ٨ تشرين الثاني سَنة ١٨٥٨م كانت موقعة الحديدية، وذلك أنّ محمّد الخرفان - أحد أُمراء قبيلة الموالي - وقعتْ بينه وبين العرب الحديدية عداوةٌ شديدةٌ انجلت عن انهزامه مِن وجه خصومه الّذين تتبّعوا آثاره حتّى قرية القاع على حدود بعلبك، فاستنجد إذ ذاك محمّد الخرفان الأمير سلمان عليهم فلبّاه، وجمعَ الجموع العديدة مِن جميع بلاد بعلبك، وسار بهم لملاقاة العدو الّذي سار أمامه حتّى مقام زين العابدين على مسافة ثلاث ساعات مِن حماة، وابتدأت الموقعة هناك في ٨ تشرين الثاني، وهجم بعضهم على بعضٍ واقتتل الفريقان قتالاً شديداً انكسرت على أثره عَرب الحديدية، وقد قُتل منهم نحو ثلاثمئةٍ فانهزموا، غير أنّهم عادوا فلمّوا شَعثهم، وقد اشتغلت عساكر سلمان بالنهب والسَلب، وإذا بجموع الأعادي قد فاجأتهم بعزمٍ شديدٍ مستميتين وأثخنوا فيهم الضرب والقتل، فانهزمتْ عساكر سلمان شرّ هزيمة، وتبعتهم العربان إلى مدينة حماه، ورجع سلمان وجيوشه إلى بعلبك مُنهزمين، وقد قُتل منهم نحو تسعين نَفراً.

ثُمّ عُزل عبد الله بك العظم وأتى عوضه فارس آغا قدرو، وفي أيّامه عصى الأمير سلمان على الدولة ثانية بعد وقائعه مع الحديدية، فأرسلت حسني باشا لكبحه والقبض عليه، ففرّ الأمير وذهب يوماً إلى زحلة فنام فيها ليلتين، فأعلم أهلها حسني باشا به فأتى وقبض عليه، وذلك في ١٥ شباط سنة ١٨٦٠م، وأتى به إلى بعلبك، ومنها أرسله إلى الشام فسُجن، فلم يلبث أنْ جمع أخوه الأمير أسعد وابن عمّه الأمير محمّد المذكور سابقاً جمعاً مِن

٩٤

أتباعهما، وهجما في إحدى الليالي عند انبثاق الفجر على بيت القائمقام فارس آغا قدرو يُريدان القبض عليه، ولكنّه اختبأ فلم يجداه، فقتلا أربعةً مِن أتباعه ونهبا ما تملكه يداه مِن الأسلحة والخيل والنقود، وفرّا إلى قرية نحلة، وأخذا ينهبان ويُقلقان الراحة.

وأمّا فارس آغا قدرو، فإنّه سار إلى الشام، ثُمّ رجعَ مصحوباً بخمسمئة جندي، وقائدهم حسن آغا اليازجي أقامهم على توطيد الأمن والراحة، وكانت في السنة المذكورة فتنة الدروز والنصارى، فتوجّه نفرٌ مِن نصارى بعلبك إلى زحلة، فأنجدوا إخوانهم وحضروا بعض المعارك القليلة الأهميّة، ثُمّ رجعوا إلى بعلبك لحماية عيالهم، وجلت نصارى بعلبك جميعها بعيالها إلى قرية بشري - مِن أعمال جبل لبنان - وقد حافظ عليهم حسني باشا وفارس آغا في مسيرهم ولم يُقلقهم مسلمو البلد، بل أكرموهم غاية الإكرام، فلم يحدث بحمد الله ما يُقلق البال، إلاّ أنّ مَحلّتهم نهبها عسكر اليازجي، ولمّا سكن هذا الاضطراب الناشئ عن تلك الفتنة المشؤومة عُوّض للنصارى ما خسروه بنهب أمتعتهم وأشيائهم.

ثُمّ عُزل فارس آغا قدرو وآتى عوضه محمّد راغب أفندي، وفي أيّامه استأمن الأمير أسعد للدولة العليّة، فعيّنته مأموراً على جمعِ المسلوب، ثُمّ جعلته يوزباشيّا على مئتي خيّال.

وأمّا الأمير سلمان، فبعد أنْ أقام في السجن نحو سبعة أشهرٍ هرب منه، وأمّ وطنه واختفى، ثُمّ شاع خبره فطلب العفو مِن حسني باشا فأمّنه، إلاّ أنّه عاد فعصى ثالثةً، وذلك لأنّه طلب مِن الدولة ليذهب مع جردة الحج الشريف بفرسانه فأبى، وخاف حوادث الدهر فعصى، فحضر حسني باشا لجمع القرعة العسكريّة - وهي أوّل قرعة جرتْ في بلاد بعلبك - فاستأمن إليه الأمير سلمان، ثُمّ عاد فعصى مع أخيه الأمير أسعد للمرّة الرابعة بإغراء ذويه وأتباعه - وذلك سنة ١٨٦٤م - وسلب مِن أهالي يونين خمسة آلاف قرش، ثُمّ جمعَ أتباعه وأخذوا يطوفون البلاد سالبين ناهبين، فركب حسني باشا بعسكره واقتفى أثرهم، فالتقى بهم في أراضي قرية الشعيبة، فأمر العساكر الشاهانيّة فحملتْ عليهم وردّتهم على أعقابهم؛ فولّوا هاربين طالبين للنجاة، حتّى وصلوا إلى قرية الفاكية وحسني باشا يقتصّ آثارهم، وبينما كانوا في عين ارغش يتناولون الطعام إذا بالعساكر المظفرة قد دهمتهم، فجرتْ بينهم معركةٌ أسفرت عن انهزام العُصاة وأسرِ

٩٥

الأمير حسين ابن الأمير قبلان وياغي بن موسى ياغي - الفارس الشهير - وخادمهم المُخلص، فأُتي بهم إلى بعلبك حيث شُنق فيها ياغي بعد أربعة أيّام مِن يوم المعركة، وذلك في سنة ١٨٦٤م، ثُمّ قُبض على الأُمراء فارس وتامر وداود، وأُرسلوا مع الأمير حسين إلى الشام، ونُفي الجميع إلى مدينة أدرنة مع حريم سائر آل حرفوش.

وأمّا الأمير سلمان وأخوه الأمير أسعد، فما زالا فارّيَن حتّى سئم ذلك أسعد فأطاع وَحده، فأُرسل منفيّاً إلى أدرنة، وانحاز الأمير سلمان إلى يوسف بك كرم الّذي كان عاصياً وقتئذ في جبل لبنان فصار مِن أكبر أنصاره، ثُمّ افترق عنه سنة ١٨٦٦م وذهبَ إلى بلاد حمص فارّاً، فوشى بمَقرّهم للمرحوم هولو باشا رجلٌ يُسمّى حسن درويش، وكان قد ربّاه الأمير سلمان مِن صِغره، ففاجأه بالعساكر وقُبض عليه، وأرسله إلى دمشق فسُجن، وذلك سنة ١٨٦٦م، وتوفّي في السجن بعد ثلاثة أيّام مِن حبسه، وجرى ذلك في أيّام القائمقام محمّد بك اليوسف، وهكذا كان انقراض حُكم هذه العائلة الشهيرة الّتي مَثّلت دوراً مهمّاً في تاريخ بعلبك بعد أنْ حكمت فيها نحو أربعة قرون، وبقي مِن هذه العائلة بعض أفرادٍ ساكنين في القُرى لا أهميّة لهم.

إلى هُنا تمّ ما كَتب مخايل موسى ألوف في كتابهتاريخ بعلبك المطبوع سنة ١٩٠٤م.

ما جاءَ في نكباتِ الشام عن مُساعدة الحرافشة للزحليّين عند قصدِ مُهاجمة الدروز لها سنة ١٨٤١م:

عندما انتهى الدروز مِن دير القمر قرّروا التوجّه لمُحاربة زحلة، وقد كان أهلها احتاطوا بمُعاهدة الأُمراء الحرافشة على مُساعدتهم لردّ غارة الدروز عنهم، ووعدوهم بأنْ تكون زحلة حِمى لهم عند الحاجة، وقد تمّ هذا الأمر بواسطة البحمدوني المشهور بالشجاعة والإقدام، وكان إذ ذاك الأمير سلمان الحرفوش فأتى إليهم الأمير سلمان وبعض بني عمّه مَرفوقاً بخيله ورجله مِن البعلبكيّة الشُجعان، فكسر أهالي زحلة بمُساعدتهم الدروز شرّ كسرة، ولو لم يخشَ أهالي زحلة مِن أنْ تكون كسرةَ الدروز خُدعةٌ لهم لنالوا منهم أكثر ممّا يظنّ، وقد رجع الدروز لمحلاّتهم والخوف ملء قلوبهم.

وبالحقيقة إنّ للحرافشة الفضل ليس على زحلة فقط، بل على كافة

٩٦

النصرانيّة في جنوبي لبنان؛ لأنّه لو لا انكسار الدروز في زحلة لكانوا أذلّوا النصرانيّة لدرجةً مُتناهيةً بعد فوزهم السابق على أهالي دير القمر. (المُلحق: ص٤٣).

المقتطف (المجلد الـ ٣٠: ص٩٠٣):

ثُمّ شرَعت الحكومة المصريّة تمنع الأُمراء والمشايخ مِن الاستقلال في حُكم بلادهم، وجعلتهم مأمورين مِن قِبلها برواتب معلومة لا تُساوي عشر ما كانوا يجمعونه مِن بلادهم، ثُمّ صارت تَعزلهم منها وتُولّي غيرهم، لكنّ الأمير بشيراً استصدر أمراً مِن محمّد علي باشا إلى شريف باشا ليتركه مُستقلاًّ في إمارة لبنان، فاستثقل شريف باشا ذلك، ولبث يتحيّن الفُرص لنزع هذا الامتياز مِن الأمير بشير، فنزع أوّلاً استقلال الأُمراء الحرافشة في بلاد بعلبك ورتّب لهم معاشاً، وفعل مِثل ذلك بأُمراء حاصبيا وراشيا، وذلك سنة ١٢٥٠هـ.

ولمّا تمادى المصريّون في تغيير عادات العشائر، وفرضِ الأموال الطائلة على الأهالي، نفرتْ القُلوب منهم وصار سكّان البلاد يتمنّون رجوع حُكم الأتراك، وجاهر بعضهم بالعصيان.

إلى أنْ جاء فيه (في ص٩٠٧):

ثُمّ إنّ الأُمراء بيت الحرفوش أصحاب بعلبك كانوا حُكّامها مُنذ قرون كثيرة، فلمّا أخرجهم إبراهيم باشا مِن حُكمها رتّب لهم رواتب لا تقوم بمعيشتهم، فشقّوا عصا الطاعة، وكان الأمير جواد الحرفوش أعلاهم مقاماً وأشدّهم بأساً، لكنّه ملّ مِن الفرار أمام رجال الحكومة، فالتجأ إلى الأمير بشير واستأمن إليه، فأمّنه ووعده بالسعي لدى الحكومة للعفو عنه، وكَتب إلى شريف باشا فأتاه الجواب بأنْ يُرسل الأمير جواداً وأتباعه إلى دمشق، ولمّا وصل إلى دمشق، قطع رأسه وطرحه أمام باب السراي، فهذه الأعمال آلمت الأمير بشيراً، وأضعفت ثقتَه بالمصريّين، وصار ينتظر زوال نعمته عن يدهم كما أزالوا نعمة غيره.

٩٧

٩٨

تاريخُ بني حَمادة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله مالك الملك، مُجري الفلك، مُقلّب الليل والنهار، مُدبّر الأُمور، مُصرّف الأحوال، رافع مَن يشاء إلى أسمى الدرجات، خافض مَن أراد إلى أسفل الدركات، إليه مَرجع العباد في المبدأ والمعاد، والصلاة على رسوله سيّد الكائنات المبعوث رحمةً للعالمين، والناسخ بشرعه شرائع النبيّين، وعلى آله الطاهرين وصحبه المُنتجبين.

وبعد، فهذه صفحات مِن صفحات تاريخ الشيعة السياسي، نُؤرّخ به طائفةً مِن رجال الشيعة قامت لهم إماراتٌ صغيرة في بعض أجزاء الأرض، وساهموا حكّام الإقطاع في عصور مكّنت لهم مِن تلك المُساهمة، وقد أوتوا عصبيّةً مِن أقوامهم، وقوّةً فسحت لهم المَجال، والمجال في ذلك الحين واسع، وكان مِن هذا الفريق(بنو حمادة) الّذين قام لهم حُكمٌ لا بأس به، وسياسةٌ مِن نوع سياسة أبناء زمانهم لم تختلف عنها في الكم والكيف، إنْ اختلفتْ في الأشخاص والأُسر العريقة وغير العريقة.

بنو حمادة

جاء في دائرة المعارف للبستاني: (بنو حمادة، هُم عائلةٌ مِن المتاولة مِن أعيان جبل لبنان، يُنسبون إلى حمادة العجمي الّذي كان قد خرج على شاه العَجم، فسيّر إليه الشاه جيشاً فَقَتل أصحابه، ففرّ بعشيرته وأخيه أحمد إلى جبل لبنان، ونزل الحصين، ثُمّ ذهب إلى قمهز، ومِن هناك تفرّقت عشيرته في جبة المنيطرة ووادي علمات، وسار أولاد أخيه إلى بلاد بعلبك، وتولّوا قرية الهرمل.

ووُلد لحمادة سرحال وأحمد، ويُكنّى أحمد

٩٩

بأبي زعزوعة، وأولاده نزلوا جبة بشرة، ووُلد لحمادة أيضاً وَلدٌ اسمه ذئب، فولّى أولاده مقاطعة الظنية، وزوّج ابنتيه لمُقدّمي جاجّ المسلمين اللّذين توليا بلاد جبيل، وكانا عاصيين على الأمير عساف والي غزير، فاستدعى الأمير عساف أحمد وذئباً وخاطبهما سرّاً أنْ يقتلا هذين المُقدّمين فأبيا. وعرف أخوهما الصغير سرحال، فسار إلى غزير وضمِن للأمير عساف قتلهما، وأخذ منه صكّاً بولاية بلاد جبيل، وأخبر أخويه بذلك وحثّهما على مُساعدته فمضيا معه، فقتلوا المُقدّمين المذكورين، فولّى الأمير عساف سرحالاً بلاد جبيل وأخويه بلاد جاج.

وُلد لسرحال ولده حسين، ثُمّ ارتحلوا إلى فرحة في وادي علمات، فثقّلوا على بني الشاعر في تولا، فارتحلوا إلى بلاد المرقب وصاروا فيها ولاةً.

ووُلد لحسين أربعة أولاد: سرحال وإسماعيل وإبراهيم وعيسى، فتولّى إبراهيم وعيسى بلاد البترون، وإسماعيل بلاد جبيل ووادي علمات والفتوح وجبة المنيطرة، وانتقل إلى لاسا فبنى فيها داراً.

وأخذتْ الحماديّة مزارع في الكورة والزاوية سمّوها بكاليك.

ووُلد لإسماعيل ثلاثة أولاد: عبد السلام وعبد الملك وأبو النضر، فأخذوا قرية شمسطار في بعلبك، ولمّا توفّي أبوهم اقتسموا البلاد، وظلموا الناس فقاموا ضدّهم.

وسنة ١٤٦٨م نهض أولاد الشيخ زعزوعه - ولاة بشناتا - برجال الظنية وقصدوا إهدن، فلمّا بلغَ أهلها قدومهم أقاموا لهم كميناً وأهلكوهم في مرجة تولا.

وسنة ١٤٧٤م اتّفق حمادة مع ستِّ الملوك زوجة كمال الدين مُقدّم ايطو على قتل قاتل زوجها، وهو عبد المنعم مُقدّم بشرة، فمضى إليه وكمن له سَحَراً خارج قصره، فلمّا خرج قتله ودخل القصر وقتل أولاده، فهجم أصحابه على حمادة وضربوه بالسيوف فجرحوه، فأدركه أصحابه واحتملوه، فخرج وراءهم أهل بشرة حتّى أدركوهم فقتلوا حمادة وجماعةً مِن أصحابه.

وسنة ١٦٠٠م بَعث يوسف باشا سيفا يوسف وقانصوه ابني أحمد يقتلان مُقدِّمِي جاج؛ لأنّهم أحلاف الأمير فخر الدين، فوجدا المُقدّمين الأربعة عند البيادر فقتلاهم وسلبا أموالهم، وخلّفاهم في مشيخة بلاد جبيل.

ثُمّ كانت لبني حمادة عدّة مواقع في ولاية جبيل وولاية البترون.

وسنة ١٥٤١م غضب عليهم وزير طرابلس، ففرّوا مِن وادي علمات وبلاد جبيل.

وسنة ١٦٥١م طرد الشيخ سرحال حسن آغا مِن عكار.

وسنة ١٦٥٤م ولّى محمّد البكرلي الشيخ أحمد محمّد جبة بشرة،

١٠٠