نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي0%

نظرات حول الإعداد الروحي مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 326

نظرات حول الإعداد الروحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
تصنيف: الصفحات: 326
المشاهدات: 101055
تحميل: 6801

توضيحات:

نظرات حول الإعداد الروحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101055 / تحميل: 6801
الحجم الحجم الحجم
نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

نظرات حول الإعداد الروحي

الشيخ محمد مهدي الآصفي

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢

٣

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إنّ أكثر ما نحرص عليه - خلال الزوبعة الفكرية - التي نجتازها هو أنْ نأخذ الفكر الإسلامي نقيّاً ومن منابعه الأصيلة وعلى يد علماء أُمناء على دين الله تعالى

ولم ينَل أعداء الإسلام مِن هذا أمراً أخطر من نقاوة وأصالة الفكر ، كما لم يُجاهد العلماء العاملون لأمرٍ أهم من المحافظة على سلامة الفكر الإسلامي من الانحراف والتشويش ، وقد دخل في فكرنا الكثير مِن الفكر الدخيل الذي لا يمتّ إلى الإسلام بصلة ، وأصبح من الصعب معه تمييز ما هو من الإسلام عمّا أدخل عليه ، وقد نبت في تربة هذا الفكر الهجين المختلط الكثير مِن المذاهب والآراء والتصوّرات المنحرفة في التأريخ الإسلامي ، سَواء في المجال العقائدي أو الفقهي أو الأخلاقي او السياسي

ولهذا السبب كانت المحافظة على نقاوة وأصالة الفكر الإسلامي وتطهيره عمّا أُدخل عليه من أهمّ الأدوار والأعمال التي قام بها أهل البيتعليهم‌السلام ومِن بعدهم العلماء الذين ساروا على هديهم.

وكانت قيمة العالم في أدوار الفكر الإسلامي المختلفة في مقدرته على مكافحة الفكر الدخيل والمنحرف والمذاهب الدخيلة والمنحرفة عن الإسلام وتثبيت الفكر الأصيل النابع من منابعه النقيّة الصافية

٤

أقول ذلك بمناسبة التقديم للكتاب الذي بين يدي للشهيد السعيد والعالم الجليل والعبد الصالح الشيخحسين معن ،رحمه‌الله ، فقد تناول في هذا الكتاب موضوعاً شديد الحساسيّة ، كبير الأهمية في حياتنا الإسلامية ، وهو الإعداد الروحي والتربية الروحية ، والبحث في هذا الموضوع يؤدّي كثيراً بالباحثين إلى تصورات غير مكتملة ، وناقصة تنزع نحو الرهبانية ومشاركة الدنيا ، واعتزال الحياة الدنيا ، والحياة الاجتماعية وابتغاء وجه اللّه تعالى في ذلك كلّه. أي بعكس التصور الإسلامي الصحيح الوارد في الكتاب والسنّة تماماً

وقد نشأ في ظلّ هذا التصوّر المنحرف للتنمية الروحيّة والتربية النفسيّة مذاهب منحرفة قامت على أساس بُعدٍ واحد فقط مِن أبعاد الإسلام الأصيلة ، وتكون لهذا الانحراف تاريخ ، وثقافة ، ومؤسّسات ، وامتدادات ، وعلماء ، ومفكّرون

وكلّ ذلك حصل نتيجة الفهم التجزيئي غير الكامل لأُصول وآفاق هذا الدين

ومن خلال قراءتي لهذا البحث رأيت أنّ المؤلف الشهيدرحمه‌الله يتناول هذا الموضوع الخطير من خلال الرؤية الإسلامية الأصيلة والمتكاملة وينظر إلى الإعداد الروحي من زاوية الحركة ، والجهاد ، والعمل ، والدعوة إلى اللّه تعالى ويضَع هذه المسألة موضعها الطبيعي من هذا الدين ، وهو الجو الحركي والسياسي والجهادي ، ويدرسه مِن خلال هذا الجو بالذات على عكس الاتجاهات الفكريّة المنحرفة التي تحاول أنْ تعزل هذا الموضوع الحسّاس والخطير عن واقع الحياة ، والأجواء الحركية ، والسياسية ، والجهادية

٥

فيُحاول المؤلّف قدّس اللّه سرّه أنْ يمزج بين هذين الشطرين من الفكر الإسلامي ، ويؤلّف بينهما ويجعل منهما طيفاً فكرياً واحداً يكمل بعض ألوانه بعضاً ، كما يطلبه الإسلام تماماً في منهجه التربوي والحركي لإعداد الدعاة إلى الله تعالى.

وفي قبال الاتّجاه الانحرافي الذي يعزل مسألة الإعداد الروحي عن جوّ الحركة والجهاد ، هناك سلوك وتوجّه آخر معاكس لهذا التوجّه ، في عزل العمل السياسي والحركي والجهادي عن التربية الروحية ، والزهد في التربية الروحية وتقليل قيمة التهذيب ودوره في الساحة الحركية والجهادية ، وهذا اتّجاه سلوكي خطير لا يقل خطورة عن الاتجاه الأول. وهذا ليس اتجاهاً فكرياً كما كان الأمر في الاتجاه الأول ، وإنّما هو غفلة لدى بعض الغافلين عن أهميّة البناء الروحي ، والتربية النفسيّة في ساحة العمل السياسي والجهادي ، أو غرور يصيب بعض الناس الذين يتحرّكون على الساحة السياسية الإسلامية أحياناً ، فيتصوّرون أنّ العمل السياسي والجهادي والحركي الإسلامي يُغني عن البناء الروحي والتربية النفسية ، والمداومة على ذكر اللّه تعالى والتنفّل والتهجّد ، أو ليس هذا ولا ذاك وإنّما تلهيهم مسائل العمل ومشاغل الحركة والجهاد عن الانصراف إلى البناء الداخلي ، وما يتطلّب من جهدٍ ومداومة على الرياضة النفسية والتهذيب والتزكية

ومهما تكن أسباب هذه الظاهرة ، فهي ظاهرة انحرافية لا يقل خطرها عن الانحراف الأول. فإنّ حاجة الإنسان الذي يتحرّك على ساحة العمل الإسلامي والدعوة إلى اللّه تعالى إلى البناء الداخلي والإعداد الروحي تفوق حاجة الآخرين الذين لا تتجاوز اهتماماتهم شؤون معيشتهم الخاصة مع

٦

الالتزام بالحد الأدنى من التديّن

فإنّ الشيطان لا يتربّص بهؤلاء الدوائر ، ولا يعمد إلى إغرائهم ووسوستهم كما يعمد إلى إغراء ووسوسة أُولئك الذين يعملون في صفوف مواجهة الاستكبار وأذنابه ، ولا يتعرّض أُولئك لمزالق ومخاطر الطريق ، ولا تشبه خطورة سقوط واحد من عامّة الناس خطورة سقوط إنسان يعمل على الخط الحركي على الساحة الإعلامية والسياسية داخل الأُمة ، فإنّ الإنسان الذي يعمل في وسط الأُمة وعلى خط الدعوة والثورة والحركة السياسية إذا سقط لا يسقط وحده وإنّما يُسقط معه أُمة من الناس ، ويجر معه جمعاً من الخطوط الانحرافية والانشقاق ولأمر ما يقال :( إذا هلَك العالِم هلَك العالَم ) ( بالفتح )..

ولكلّ هذه الاعتبارات ، ولغيرها من الاعتبارات والحيثيّات ، تفوق حاجة العاملين في صفوف الحركة والثورة الإسلامية ، والعاملين في الساحة السياسية والإعلامية الإسلامية حاجة غيرهم من الناس إلى الإعداد الروحي والبناء الداخلي والتربية النفسية

لذلك نجد أنّ القرآن الكريم يؤكّد على أهمية البناء الروحي للعاملين بشكلٍ خاص ، ويربط بين هذين الجانبين من شخصيّة الداعية ربطاً وثيقاً

ونستعجل هنا تلاوة هذه الآيات من كتاب اللّه ، قبل أنْ نقرأها في العرض القرآني الرائع التي يذكرها المؤلّفرحمه‌الله ضمنه

( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ

٧

اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (١)

تُرى كيف يتم هذا الاقتران الرائع بين القتال والجهاد في سبيل اللّه ومبايعة اللّه ورسوله ، وبين التوبة والعبادة ، والحمد ، والسياحة ، والركوع ، والسجود.

( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ ) (٢)

ترى هؤلاء القوم الذين وصفهم اللّه تعالى بأنّهم أشدّاء على الكفّار وكأنّهم زُبُر الحديد في مواجهة الكفّار صلابةً وقوّة. كيف يرتسم على وجوههم أثر السجود ، وكيف ترقّ قلوبهم محبّةً وشفقة على المؤمنين وكيف

٨

يكون خشوعهم وتضرّعهم بين يدي اللّه تعالى.

ثمّ نقرأ الآيات التي يُخاطب اللّه تعالى بها نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله داعياً إيّاه إلى الاستقامة في الدين ، والصبر على المواجهة والأذى والصلابة في الموقف مِن الكافرين وألاّ يركنوا إلى الذين ظلموا مِن الجبابرة والمستكبرين ، ثمّ تنتقل هذه الآيات الكريمة من هذا الجوّ المشحون بالصلابة والقوّة والاستقامة إلى جوٍّ عبِقٍ بالصلاة والذكر ، طرفي النهار وزلفاً مِن الليل ، وكأنّما الآيات الكريمة تتحدّث عن وجهي حقيقة واحدة عندما تنتقل من ذلك الجوّ السياسي الجهادي المعبّأ بالعمل والتحرّك والصمود ، إلى هذا الجو العبادي الخاشع بين يدي اللّه تعالى.

( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (٣)

وإليك طرفاً مِن سيرة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنّته في عباداته وإقباله على اللّه تعالى في زحمة أعماله السياسية والجهادية في مكّة والمدينة ، ونبذاً من سيرة أهل بيته ومَن اهتدى بهديِهم وسنّتهم

٩

( كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر اللّه(٤)

وكان يتضرّع عند الدعاء حتى يكاد يسقط رداؤه )(٥)

وروى الطبرسي في الاحتجاج عن موسى بن جعفرعليه‌السلام قال : ( كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكي ، حتّى يبتل مصلاّه مِن خشية اللّه عزّ وجل.)

وفي المناقب ( كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكي حتّى يغشى عليه فقيل له : ( أليس قد غفَر اللّه لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر ) ؟ قال : ( أفلا أكون عبداً شكوراً )

وروى الديلمي في الإرشاد : ( أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يسمع منه في صلاته أزير كأزير المِرجل ، مِن خوف اللّه تعالى وكان رسول اللّه كذلك )

وعن الشيخ أبي الفتوح في تفسيره عن أبي سعيد الخدري قال : ( لما نزَل قوله تعالى : ( اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً )

اشتغل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذكر اللّه ، حتّى قال الكفّار أنّه جُن )(٦)

وفي الكافي عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال : ( كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوب في كلّ يوم سبعين مرّة ).

١٠

وفي التهذيب عن معاوية بن وهب قال : سمعت أبا عبد اللّهعليه‌السلام يقول : ( كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينام ما شاء اللّه فإذا استيقظ جلس ، ثمّ قلب بصره في السماء ، ثمّ تلا الآيات مِن آل عمران :( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )

ثمّ يستنّ ، ويتطهّر ، ثمّ يقوم إلى المسجد ، فيركع أربع ركعات على قدر قراءته. ركوعه وسجوده على قدر ركوعه

يركع حتّى يُقال متّى يرفع رأسه ؟ ويسجد حتّى يُقال متى يرفع رأسه ؟ ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء اللّه ثمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات مِن آل عمران ، ويُقلّب بصره في السماء ثمّ يستنّ ويتطهّر ويقوم إلى المسجد فيُوتر ويصلّي الركعتين ثمّ يخرج إلى الصلاة )(٧) .

وعن عروة بن الزبير قال : ( كنا نتذاكر في مسجد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعمال أهل بدر وبيعة أهل الرضوان ، فقال أبو الدرداء : ألا أُخبركم بأقلّ القوم مالاً وأكثرهم ورَعاً واجتهاداً في العبادة ؟ قالوا : مَن ؟ قال : عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام رأيته في حائط بني النجّار يدعو ، ثمّ انغمر في الدعاء فلم أسمَع له حسّاً وحركة ، فقلت : غلب عليه النوم لطول السهر ، أوقظه لصلاة الفجر فأتيته ، فإذا هو كالخشبة المُلقاة ، فلم يتحرّك ، فقلت : إنا للّه وإنا إليه راجعون مات واللّه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام

فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم ، فقالت فاطمةعليها‌السلام : ( يا أبا الدرداء ، ما كان مِن شأنه وقصّته ) ، فأخبرتها الخبر فقالت : هي والله يا أبا الدرداء الخشية التي تأخذه من خشية اللّه ، ثمّ أتوه بماء فنضحوا على وجهه فأفاق ، ونظر

١١

إلي وأنا ابكي ، فقال ما بكاؤك يا أبا الدرداء ؟ فقلت : بما أراه تنزله بنفسك فقالعليه‌السلام :

( كيف بك إذا رأيتني أُدعى إلى الحساب ، وأيقَن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكةٌ غِلاظٌ شداد ، وزبانية فظاظ ، فوقفْت بين يَدَي الملِك الجبّار وأسلمتني الأحباب ، ورفضني أهل الدنيا لكنت أشدّ رحمةً بي بين يدَي مَن لا تخفى عليه خافية )(٨)

دخل ضرار بن ضمرة على معاوية بعد قتل أمير المؤمنينعليه‌السلام ( فقال : صف لي عليّاً ؟ فقال : أعفني فقال : أقسمت عليك لتصفنّه

قال : أمّا إذا كان ولا بدّ فإنّه كان واللّه بعيد ، المدى شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنفلّق الحكمة من لسانه ، يستوحش مِن الدنيا وزهرتها ، ويأنَس بالليل ووحشته وكان غزير الدمعة طويل الفكرة ، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب ، كان فينا كأحدِنا يُجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه ونحن واللّه مع تقريبه لنا وقُربه منّا وقربّنا منه لا نكاد نكلمه هيبةً له

يعظم أهل الدين ويُقرّب المساكين ، لا يطمع القويّ في باطله ولا ييأس الضعيف مِن عدله.

وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله وغارت

١٢

نجومه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم(٩) ويبكي بكاءَ الحزين يقول :

( يا دنيا غرّي غيري ، أَبي تعرّضت أم إليّ تشوّقت ؟ هيهات هيهات ، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعةَ لي فيكِ ؛ فعُمرك قصير ، وخطرُكِ كبير وعيشُك حقير ، آهٍ مِن قلّة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق.)

فبكى معاوية وقال : رحِم اللّه أبا الحسن ، قد كان واللّه كذلك فكيف حُزنك عليه يا ضرار ؟ فقال : حزنُ مَن ذُبح ولدها في حجرها ، فهي لا يرقى دمعها ولا يخفى فجعها )(١٠)

( ودخل أبو جعفرعليه‌السلام على أبيه السجّادعليه‌السلام فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فرآه ، وقد اصفرّ لونه من السهر ، ورمضت عيناه مِن البكاء ، ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود ، وورمت ساقاه وقدماه مِن القيام للصلاة

قال أبو جعفر : فلم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحال من البكاء ، فبكيت رحمةً له ، وإذا هو يفكّر فالتفت إليّ بعد هنيهة وقال :

يا بني ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالبعليه‌السلام فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثمّ تركها من يده وقال : مَن يقدر على عبادة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (١١)

١٣

وكان إذا توضّأ يصفرّ لونه فيقول له أهله : ما هذا الذي يغشاك فيقول : ( أتدرون لمن أتأهّب للقيام بين يديه )(١٢)

وعن جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام قال : ( كان أبي عليّ بن الحسينرضي‌الله‌عنه إذا حضرت الصلاة يقشعرّ جلده ويصفرّ لونه ، وترتعد فرائصه ، ويقف تحت السماء ودموعه على خدّيه ، وهو يقول : لو علِم العبد مَن يُناجي ما انفتل.

ولقد برَز يوماً إلى الصحراء فتبِعه مولىً له فوجده وقد سجد على حجارة مسحنة(١٣) ، قال مولاه : فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاؤه فأحصيت ألف مرّة وهو يقول :( لا اله إلاّ اللّه تعبّداً ورقّاً ، لا اله إلاّ اللّه إيماناً وصِدقاً )

ثمّ رفع رأسه مِن سجوده ، وأنّ وجهه ولحيته قد غُمِرا بالتراب ودموع عينيه منحدرة على خدّيه)(١٤)

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إنّ أبي عليّ ابن الحسينعليه‌السلام ما ذكر نِعَم اللّه عليه إلاّ سجَد ، ولا قرأ آيةً مِن كتاب اللّه عزّ وجل فيها سجود إلاّ سجَد ، ولا دفَع عزّ وجل عنه سوءاً يخشاه أو كيد كائد إلاّ سجد ، ولا فرغ من صلاةٍ مفروضة إلاّ سجد ، ولا وفّق لإصلاحِ بين اثنين إلاّ سجد ، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده فيُسمّى السجاد لذلك )(١٥)

وعن أبي حمزة عن أبيه : ( رأيت عليّ بن الحسينعليه‌السلام في فناء

١٤

الكعبة من الليل وهو يصلّي فأطال القيام ، حتى جعل مرّة يتوكّأ على رجله اليُمنى ومرّة على رجله اليسرى ، ثمّ سمعته يقول بصوت كأنّه باك : ( يا سيدي ، تعذّبني وحبّك في قلبي ؟ أما وعزّتك لئن فعلت لتجمعنّ بيني وبين قومٍ طالما عاتبتهم فيك )(١٦)

وإنْ تعجب فعجبٌ أنْ تحرص سيّدتنا زينب بنت عليّعليهما‌السلام أنْ لا تفوتها نافلة الليل ، حتى ليلة الحادي عشَر مِن محرّم على مقربة من الأجساد الطاهرة

فقد رُوي أنّ سيدتنا زينب بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام (١٧) ما تركت تهجّدها للّه تعالى طوال دهرها حتّى ليلة الحادي عشَر مِن المحرّم

وروي عن زين العابدينعليه‌السلام قال : ( رأيتها تلك الليلة تصلّي مِن جلوس )

وعن الفاضل البيرجندي ، عن بعض المقاتل المعتبرة ، عن مولانا السجّادعليه‌السلام أنّه قال : ( إنّ عمّتي مع تلك المصائب والمِحَن النازلة بها ، في طريقنا إلى الشام ، ما تركت نوافلها الليليّة )(١٨)

وقالت فاطمة بنت الحسينعليها‌السلام : ( وأمّا عمّتي زينب فأنّها لم تزل قائمة في تلك الليلة ( أي العاشر من المحرّم ) في محرابها تستغيث إلى ربّها ، فما سكنت لنا عين ولا هدأت لنا رنّة )(١٩) .

وروى الشيخ جعفر النقديرحمه‌الله عن بعض المتتبّعين للإمام السجّادعليه‌السلام أنّه قال :

١٥

هوامش المقدمة : -

____________________

(١) - سورة التوبة / ١١٢

(٢) - سورة الفتح / ٢٨

(٣) - سورة هود / ١١٢ - ١١٥

(٤) - سنن النبي ص ٣٥٦ عن المناقب ومجمع البيان

(٥) - سنن النبي عن البحار ج ٥٣ ص ٣٣٩

(٦) - سنن النبي ص ٣٤

(٧) - سنن النبي ص ٣٤

(٨) - سنن النبي ص ٢٤٠ عن التهذيب ٢ / ٣٣٤ والكافي ٣ / ٤٤٥

(٩) - الأنوار العلوية للشيخ جعفر النقدي

(١٠) - السليم : الملدوغ

(١١) - الأنوار العلوية ٤٠٥ - ٤٠٦

(١٢) - كشف الغمّة للاردبيلي ٢ / ٢٩٧

(١٣) - حجارة يسحق عليها الطيب

(١٤) - حلية الأبرار هاشم البحراني ج ٢ ص ١٣

(١٥، ١٦) - نفس المصدر ج ص ٢٤

(١٧) - حلية الأبرار ص ٢ / ١٤

(١٨) - زينب الكبرى للشيخ جعفر النقدي

(١٩) - مثير الأحزان للشريف الجواهري ص ٥٦٠

١٦

( أنّ عمتي زينب كانت تؤدّي صلاتها مِن قيام ، الفرائض والنوافل ، وعند سير القوم بنا مِن الكوفة إلى الشام وفي بعض المنازل كانت تصلّي مِن جلوس فسألتها عن سبب ذلك فقالت : أُصلّي من جلوس لشدّة الجوع لأنّها كانت تقسم ما يصيبها مِن الطعام على الأطفال )(٢٠)

وما زلنا نتحدّث عن عبادة سيّدتنا زينبعليه‌السلام وانقطاعها إلى اللّه في مسيرتها إلى كربلاء ثمّ إلى الشام والمدينة فلا بأس أنْ نعرض هذه الصور الرائعة التي يذكرها المؤرّخون لأصحاب الحسينعليه‌السلام ليلة العاشر من المحرّم ، يقول المؤرّخون :

( وبات أصحاب الحسينعليه‌السلام في تلك الليلة ، ولهم دوي كدوي النحل ، ما بين راكعٍ وساجدٍ وقائمٍ وقاعد )(٢١) .

سِمةُ العبيد مِن الخشوع عليهم

للّه إنْ ضمّتهم الأسحـــار

وإذا ترجّلت الضحى شهِدَت لهم

بيض القواضب إنّهم أحـــرار

وفي تاريخنا الجهادي والحركي نلتقي كثيراً بهذه المشاهد الرائعة مِن اقتران الجهاد البطولي في ساحات الوغى والدعوة إلى اللّه بالعبادة وتهذيب النفس والابتهال والتبتّل والتهجّد وقيام الليل

ومن أروع هذه المشاهد مشاهد التهجّد والتنفّل على جبهة القتال لجند الإسلام ، حيث يرابط جُند الإسلام على ثغور الدولة الإسلامية ، يستقبلون شظايا القنابل ورصاص العدوّ بصدورهم.

١٧

يقف هؤلاء الأبطال في الليالي الظلماء خلف الدبابات على خطّ النار بين يدي ربّهم عزّ وجل ، يناجونه ويتضرّعون إليه ويسجدون على تراب الجبهة ويطيلون السجود والبكاء ، حتى تبتل أرض الجبهة بدموعهم

ولئن كان هؤلاء الأبطال لا يتركون صلاة الليل على خطّ النار وفي مواجهة العدوّ ، فإنّهم يقتفون في ذلك خطى قائدهم الإمام الخميني حفظه اللّه

يقول الشيخ الأنصاري أحد المقرّبين إلى الإمام في ترجمة حياة الإمام حفظه اللّه :

( لم يترك الإمام صلاة الليل منذ خمسين سنة ) فالإمام يتهجّد في كلّ ليلة ، في المرض ، وفي الصحّة ، وفي السجن وخارج السجن ، وفي حالة الإبعاد ، وحتى على سرير مستشفى القلب في الليلة التي أمر الأطبّاء بنقل الإمام مِن قم إلى مستشفى القلب في طهران لم يترك الإمام صلاة الليل في تلك الليلة ، كانت ليلة عسيرة وكان الثلج قد نزل بكميّات كبيرة وبقي الإمام في سيّارة الإسعاف على تلك الحالة عدّة ساعات ، ومع ذلك عندما استقرّ الإمام على سرير مستشفى القلب في طهران بادر إلى صلاة الليل وفي الليلة التي انتقل فيها الإمام من باريس إلى طهران صعد إلى الطابق العلوي مِن الطائرة وصلّى هناك صلاة الليل

( لا يترك الإمام تلاوة القرآن في كلّ فرصة مناسبة ، وعادةً يقرأ القرآن بعد صلاة الصبح ، وقبل صلاة الظهر والعصر ، وقبل المغرب والعشاء ، ويتّفق كثيراً عندما ندخل نحن على الإمام نجده يقرأ القرآن )(٢٢)

١٨

وبعد فلا أريد أنْ استرسل أكثر من هذا المقدار في هذه المقولة وأحب أنْ أذكّر إخواني الدعاة إلى اللّه تعالى ، قبل أنْ أقطع هذا الحديث بضرورة الاهتمام بهذا الجانب مِن شخصيّتهم ، فإنّ شخصيّة الداعية لا تتكامل ولا تنمو النموّ اللازم لها ، ما لم يحاول الداعية أنْ ينقطع إلى اللّه تعالى في حياته ، ويشرب قلبه بحبّ اللّه وما لم يأنَس بذكر اللّه ، وإقامة الصلاة في الليالي الداجية الظلماء ، فأنّ البكاء ، والتهجّد ، وتلاوة القرآن في سكون الليل وظلماته يحيي القلوب الميّتة ، ويشرح الصدور ، ويبعث النور في حياة الإنسان

وإذا كان هذا البعد ضرورياً في حياة كلّ إنسان ففي حياة الدعاة أكثر ضرورة وأهميّة. والدعاة أولى مِن غيرهم بالاهتمام بهذا الجانب الحيوي والأساسي في شخصيّتهم

إنّ توثيق العلاقة باللّه تعالى والانقطاع إليه عزّ وجل يؤمّن سلامة المسير والسداد للداعية ، ويقيه عن المزالق والمخاطر ويربط على قلبه في الهزّات والزلازل.

إنّ ثبات الداعية على أرض المعركة والمواجهة ، واستقامته ، ومقاومته للتحديّات وصبره باتّجاه الأزمات والمتاعب ، وقدرته في تجاوز العقبات. لا يأتي فقط نتيجة الوعي والفهم ، والممارسة ، والتجربة والخبرة ، وإنّما يمدّه اللّه تعالى بها ، ويشرح صدره ، فيفرغ عليه صبراً ، ويثبت له على أرض المعركة قدماً ، وينصره على أعدائه.

وهذا المدد الإلهي أكثر ما ينزل على العبد ، ينزل عليه في ساعات

١٩

التضرّع ، والبكاء ، والانقطاع إليه تعالى

والتضرّع والبكاء ورقة القلب مِن أفضل الفرَص التي تؤهّل الإنسان لهبوط الرحمة مِن جانب اللّه تعالى

فلا ينال الإنسان رحمة اللّه تعالى ولا يكون قريباً مِن اللّه تعالى كما يكون كذلك عندما يرقّ قلبه ، وتجري عيناه بالدموع ، ويخشع قلبه ، ويقف بين يدَي ربّه قائماً ، أو يطرح نفسه على الأرض ساجداً

وهذه الحالة هي أهم مصادر التسديد والتوفيق والثبات والاستقامة في حياة الدعاة.

والشيطان يكمن للدعاة في كلّ مكمن ويتربّص بهم الدوائر في كلّ فرصة للإيقاع بهم ، وتثبيطهم وزرع اليأس في نفوسهم ، وتحريفهم عن المسير ، وتلبيس الأمر عليهم.

وليس للداعية في هذه المزالق التي يترقّب فيها الشيطان الدعاة غير اللّه تعالى ، ينقطع إليه ، ويتضرّع بين يديه ويسترحمه.

وبقدر ما ينقطع الداعية إليه عزّ وجل يمدّه منه بالرحمة والتأييد والثبات والصبر والسداد.

***

وبعد فلا يسعني في هذه المقدّمة أنْ لا اتحدّت شيئاً عن مؤلّف هذا السفر الجليل : الشهيد السعيد ، والعبد الصالح ، الشيخحسين معن رحمه

٢٠