نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي0%

نظرات حول الإعداد الروحي مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 326

نظرات حول الإعداد الروحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
تصنيف: الصفحات: 326
المشاهدات: 101044
تحميل: 6801

توضيحات:

نظرات حول الإعداد الروحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101044 / تحميل: 6801
الحجم الحجم الحجم
نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( جُعل الخير كلّه في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا )

ثمّ قال : قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا يجد الرجل حلاوة الإيمان حتّى لا يبالي مِن أكل الدنيا )

ثمّ قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : ( حرامٌ على قلوبكم أنْ تعرف حلاوة الإيمان ، حتى تزهد في الدنيا )

وعن عبد الله بن القاسم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :

( إلا من صبّار كريم فإنّما هي أيّام قلائل ، إلاّ أنّه حرام على قلوبكم أنْ تجد طعم الإيمان حتى تزهد في الدنيا )

وسمعته أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول :

( إذا تخلّى المؤمن من الدنيا سما ، ووجد حلاوة حب الله ، فلم يشتغل بغيره )

قال وسمعته يقول : ( إنّ القلب إذا صفا ضاقت به الأرض

١٨١

حتى يسمو )(٢٠)

إنّ التحلية لا تكون إلاّ بالتخلية - كما يقولون - وحب الله ، ومعايشة هموم الرسالة ، والتفاعل النفسي والشعوري مع حقائق الكون والمبدأ والدعوة ، إنّما يكون عن طريق إضعاف ، أو إلغاء حب الدنيا في قلب المؤمن الرسالي وقطع القلب عمّا في أيدي الناس

( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) (٢١)

إنّ المؤمن نوعٌ جديد ودمٌ جديد وصياغة جديدة للإنسان ، ليس لها سابقة في حضارة المال وحضارة الدنيا ، ليس فقط في مفاهيمه وبصائره ، ورُؤاه الفكرية وإنّما أيضاً - وابتداء - في أحاسيسه وعواطفه وتعلّقاته القلبية ، وهمومه وانفعالاته. وبينما لا يتحرّك قلب ابن حضارة الدنيا ، والمال لسوى بريق الذهب والتمركز في دنيا الناس ، فإنّ قلب المؤمن يصفو فتضيق به الدنيا حتى يسمو ويذوق طعم الإيمان ، ولا يتناغم مع غير معاني القدس والطهر ، ولا يرقَ لسوى خوف الله ورجائه والتطلّع إليه

٤ - الدنيا والحكمة. من الممكن أنْ يكون الإنسان عالماً بالدين ومحباً للدنيا ، وراكضاً وراءها في ذات الوقت ، ولكنّك لن تجد حكيماً واحداً من أهل البصائر في دين الله وهو يحب الدنيا ويسعى لها أكثر من سعيها ، لأنّ حب الدنيا غطاء القلب ، وحجاب عليها يمنع من الحكمة والتبصّر. وروح دين الله وقِيَم هذا الدين لا يعطيها ولا يتحمّلها إلاّ مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان ، وطهره من حب الدنيا

١٨٢

( ومن زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه وانطق بها لسانه ، وبصره عيوب الدنيا ، داءها ودواءها )

والشهوة ، والهوى ، حجاب عن إدراك لطائف الحقائق الدينية ، وقِيم الإسلام الأخلاقية ، ولكم أدّى الركون إلى الدنيا ، والاطمئنان إليها إلى تحريف آيات الله المباركات في الكدح والجهاد ؟ ولكم أدّى الركون إلى الدعة والراحة ، وحب الثرثرة ، والألفاظ البرّاقة إلى الإعراض عن نصوص العبادة ، وآيات التربية ، والإعداد الروحي ، بل وتحريفها لكي تكرّس حياة الانقطاع عن الله بدل أنْ تكون أداة للانقطاع إليه ؟

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :

( تجد الرجل لا يُخطئ بلامٍ ولا واو ، خطيباً مصقعاً ، ولَقَلبه أشّد ظلمة من الليل المظلم ، وتجد الرجل لا يستطيع أنْ يُعبّر عمّا في قلبه بلسانه ، وقلبه يزهر كما يزهر المصباح )

وعن أبي جعفرعليه‌السلام :

( القلوب ثلاثة : قلبٌ منكوس لا يعي شيئاً من الخير وهو قلبُ الكافر ، وقلبٌ فيه نكتة سوداء فالخير والشرّ فيه يعتلجان ،

١٨٣

فأيّهما كانت منه غلب عليه. وقلبٌ مفتوح فيه مصابيحٌ تزهر ، ولا يُطفأ نوره إلى يوم القيامة وهو قلب المؤمن )(٢٢)

٥ - الدنيا تفرّق ولا تجمّع ، الدنيا : هوى الذات ، ولكلّ شخص هواه ، فإذا وجدت عشرة من أهل الدنيا فاعلم أنّ هناك عشرة غايات مختلفة متناقضة كلّ واحد من هؤلاء يُريد مثلاً المركز والجاه أي يهدف إلى أنْ يكون الشيخ المُجل والحاكم المطلق دون سواه ؛ لأنّ مشيَخته لا تتم إلاّ بعبودية الآخرين

أمّا المؤمنون فهواهم الله والانسجام مع دين الله تعالى. والله سبحانه وتعالى واحد ، وطاعته واحدة ، وهذا هو السبب في أنّ سرعة ائتلاف الأبرار إذا التقوا ، وإنْ لم يظهروا التودّد بألسنتهم كسرعة اختلاط ماء السماء بماء الأنهار ، وإنّ بُعد ائتلاف قلوب الفجّار إذا التقوا ، وإنْ اظهروا التودّد بألسنتهم كبُعد البهائم عن التعاطف ، وإنْ طال اعتلافها على مذود واحد(٢٣) .

الزهد تحرّر وانعتاق

لا يستنكر الخلق الإسلامي امتلاك المؤمن الدنيا من مالٍ ، وجاهٍ وبنين ، ولكنه يستنكر امتلاك الدنيا ومعانيها للمؤمن وأنْ تكون معبودة له من دون الله ، أو مع الله

الشهوات العاجلة كالشره في الأكل ، والجنس ، والمال ، والرفاه ، والزينة ، والأمن ، والاستقرار ، والاطمئنان إلى الدنيا. والراحة والجاه. هذه كلها معاني الدنيا وأشياؤها التي يزهد المؤمن وينبغي أنْ يزهد فيها. لأنّ المؤمن ذو أفقٍ واسع ، ومنظار

١٨٤

عريض ، يضع الأشياء موضعها ، ولا يعطيها سوى قيمها الحقيقية ، وأنت عندما تنظر المال والجاه. في المنظار الإسلامي للحياة والآخرة ولله. فلن ترى لهما - أخلاقياً - سوى رقم ضئيل ليس له في الحساب شيء وليس له في القلب مكان

فالزهد عندما يدعو له الإسلام ، ويربّي الإنسان المسلم عليه مسألة طبيعية لا تزيد على معايشة النصوص الإسلامية للحياة ، والتفاعل النفسي مع حقائق الوجود يتحوّل من خلاله الإنسان المسلم من إنسان يرتبط بهذه المعاني الزائلة ، ويصنّمها ، ويعبدها في القلب والوجدان ، إلى إنسان يتعالى عليها ، ويتسامى عنها ، ولا يعطيها سوى قيمها الحقيقية التي تستحقها

وقلب المؤمن كلّما نما حبّه لله تعالى ولدينه وللمؤمنين ، وازدادت همومه الرسالية ، وتوجّهاته النفسية للعمل والجهاد ، كلّما ضعف حبّ الدنيا في قلبه ، وزهد في معانيها الزائلة ، مالاً ، وجاهاً ، وزخرفاً ، وشهوات

فالزهد إذن هو التحرّر الداخلي من قيد الشهوة والهوى ، والانعتاق النفسي الحقيقي من الدنيا ، ومعانيها وهو بذلك سبب ، ونتيجة في آنٍ واحد للانقطاع إلى الله تعالى والارتباط بالسماء. أو بالأحرى العبودية الكاملة لله في المشاعر والعواطف والسلوك

لقد طبّلوا للحرّية الغربية ، والحرية في المجتمعات الديمقراطية ، حرّية في مجال السياسة ، وحرّية في مجال السلوك الشخصي ، وحرية في الاقتصاد ، وحرية في المجالات كافّة. ولكن الإنسان المؤمن وحده هو الذي يعرف

١٨٥

إنّ الحرّية الحقيقية ليس في هذا ، ولا في ذاك ، ولكنّها في الزهد والتحرّر الذاتي ، وأنّ الحرّية تجاوز القيود التي تكبل الإرادة الإنسانية وتمنع الإنسان من الإبداع ، والفعالية في مجال النمو والتكامل وتحقيق إنسانيّته ، وعبوديته لله

وهذه القيود هي (ثانياً) القيود الخارجية والاجتماعية ولكنّها (أوّلاً) القيود الذاتية. قيود التخلّف العقلي ، وضيف الأُفق ، ومادية الإحساس ، وقيود العاطفة المكبّلة بالمال ، والطين ، والجاه ، والشهرة والجنس ، والقناطير المقنطرة

وليس الزهد في المفهوم الإسلامي الواعي سوى التحرّر الذاتي من هذه القيود ، وتحويل هذه المعاني التي يركض وراءها الناس ويطمئنون إليها ، إلى معان زهيدة تافهة إلى جنب ال له، ومعاني الخير ، والقِيم الإسلامية الرائدة

وهذا التحرّر الذاتي المتمثّل بالزهد - على خلاف من حبّ الدنيا والركون إليها - هو وحده الذي يمكن الإنسان المؤمن مِن تذوّق حلاوة الإيمان والأنس بالله والتعالي على صغائر الحياة

( حرام على قلوبكم أنْ تعرف حلاوة الإيمان ، حتى تزهد في الدنيا )

وهو وحده - أو مع التقوى - الذي يمكن الإنسان المسلم من أنْ يدرك الحق ويتحسس روح هذا الدين وقيم هذه الرسالة ( إذا رأيتم الرجل قد أوتي زهداً في الدنيا ومنطقاً فاقتربوا منه فإنّه يلقن الحكمة ) وقال تعالى :

١٨٦

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) (٢٤)

هذا ولكنّنا لسنا مع الانحراف الصوفي الذي يعتبر طريقة العلم بالله ، والمعارف الدينية هو ، طريقة الرياضة والزهد. والمراحل العملية الأخرى للصوفي والعارف ، فقد أنزل الله تعالى كتابه بصائر وهدى للناس ، وبعث نبيّه ورسوله يتلو عليهم آياته ، ويعلّمهم الكتاب ، والحكمة ويزكيهم

وطريق المعرفة هو هذا الطريق ، أنْ تتعرّف على أفكار الإسلام ، وتشريعاته من خلال المقاييس التي وضعها الإسلام ، والبيانات التي جعلها للناس. ولكن علم الإنسان المسلم أنْ يعدّ نفسه من أجل أنْ يكون ( متلقّياً ) من الله متفاعلاً مع النص منفتحاً عليه مطهّراً من الحُجب والغشاوات التي يصرف الله بها كثيراً من الناس عن آياته

وبالزهد في الدنيا. يطمئن الإنسان المسلم ، ويخرج عن قانون الهلَع والجزَع

( إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاّ الْمُصَلِّينَ )

ويخرج عن دائرة الاضطراب النفسي

( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ )

١٨٧

وبالزهد في الدنيا. في الجاه والمركز والتحكّمات والظهور بين الناس يجتمع شمل المؤمنين ، ويتماسك صفّهم ويتوحّدون في كدحهم إلى الله تعالى

هوامش

____________________

(١٣) - أُصول الكافي ج ٢ ص ٦٢

(١٤) - جامع السعادات ج ٣

(١٥) - الوسائل أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب ١٣

(١٦) - من المناسب هنا أنْ نشير أوّلاً إلى موقف الإسلام من الحياة الدنيا. فإنّ للإسلام ثلاثة مواقف من الدنيا : موقف نظري ، وموقف تشريعي ، وموقف أخلاقي

ويتمثّل الموقف النظري في اعتبار الحياة الدنيا مرحلة من مراحل الحياة ، وليست كل الحياة( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ) وفي كونها داراً للفتنة والمسؤولية يؤكّد فيها الإنسان ذاته واختباره بين الخير والشر( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) وفي معانيها من مالٍ ، وبنين ، ونساء. نِعماً إلهيّة تستحقّ الشكر والحمد والانفتاح النفسي ، وفي كون العامل الدنيوي عاملاً رئيسّياً محرّكاً في التاريخ. الخ .وأمّا الموقف التشريعي : فيتمثّل في السماح ، ويحثّ على استغلال الخيرات والنِّعم الإلهيّة انطلاقاً من مفهوم الخلافة عن الله ، وفي تنظيم عملية استغلال النعمة بالشكل الذي ينسجم مع مصالح الإنسان العامّة ، ودور الإنسان كعابدٍ لله تعالى .ويتمثّل الموقف الأخلاقي في محاولة الإسلام تحرير الإنسان المسلم من الأهواء والشهوات وحبّ الدنيا .وبتقريرٍ آخر لموقف الإسلام من الدنيا : إنّ للدنيا معاني ثلاثة ، وللإسلام من كل معنى موقف

(١٧) - الوسائل جهاد النفس باب ٦٥ ص ٣١٩

(١٨) - أصول الكافي ج ٢ ص ٣٢٠

(١٩) - أصول الكافي ج ٢ ص ٢١٥

(٢٠) - الوسائل جهاد النفس باب ٦٢ ص ٣١٣

(٢١) - سورة الحديد / ٢٣

(٢٢) - أصول الكافي ج ٢ ص ٤٢٢ - ٤٢٣

(٢٣) - تحف العقول ص ٢٧٥

(٢٤) - سورة الحديد / ٢٨

الزهد معنى نفسي

من خلال ما مر نعرف أنّ الزهد معنى نفسي ، يرجع إلى طبيعة القيم النفسية ، والميول الذاتية ، والعاطفية للإنسان ، وهو وإنْ كان له آثار عملية غير أنّه ليس معنى سلوكياً .فليس الزهد إذاً بتضييع المال وتحريم الحلال ، وتطليق الحياة ، والتظاهر بالفقر مع مجموعة هائلة مِن الأوساخ والقذارات تشهد على هذه النصوص التالية : ( ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ، ولا تحريم الحلال ، بل الزهد في الدنيا أنْ لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عزّ وجل )(٢٥)

في حديث معتبر : أنّ رجلاً قال لأبي عبد اللهعليه‌السلام :والله إنا لنطلب الدنيا ونحبّ أنْ نؤتاها ، فقال : ( تحب أنْ تصنع بها ماذا ؟)قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصل بها ، وأتصدّق منها ، وأحجّ واعتمر .

فقال أبو

١٨٨

عبد الله عليه‌السلام : ( ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة )(٢٦)

وعن علي بن الحسينعليه‌السلام : ( ألا وأنّ الزهد في آية من كتاب اللّه عزّ وجل )

( لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) (٢٧)

وغير ذلك من النصوص الدالّة على كون الزهد المطلوب هو معنى نفسي ووجداني

ولكن يجب علينا هنا أنْ نستدرك ، ونتذكّر بأنّ هذا المعنى النفسي الأخلاقي - ككل المعاني النفسية - له صلة وثيقة بالسلوك ، والمواقف الخارجية ، فالزاهد المسلم يختلف من الناحية السلوكية عن غيره. فهو لا يلحّ في الطلب - طلب المال - ولا يكثر من تناول الملذات. ولا يركض ، ولا يسعى للجاه ، والمركز. لأنّ همومه الرسالية تستوعب كيانه النفسي والسلوكي

ومن هنا جاء في الرواية عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :

( ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيّع ن ودون طلب الحريص الراضي بدنياه المطمئن إليها ، ولكن انزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف ( النصف خ ل ) المتعفّف ، ترفع نفسك عن منزلة الواهن الضعيف

١٨٩

وتكسب ما لا بدّ للمؤمن منه. إن الذين أعطوا المال ثمّ لم يشكروا لا مال لهم )(٢٨)

إنّ وقت المؤمن وهمومه ودوره الذي ينتظره في الحياة الإسلامية لا يتّسع للطلب الزائد ، والملاذ الكثيرة ، والمساعي الشخصية إلاّ بالقدر الذي يهيئ له ضرورة العيش، وضرورة الحياة ، وكل ما عدا ذلك أحابيل الشيطان ، وشباكه التي يصطاد بها الكثير من المؤمنين ويخرجهم بها من دائرة العمل في سبيل الله والجهاد للرسالة إلى دائرة الحياة الشخصية التافهة الصغيرة.

الزهد تحرّر والصبر إرادة

الزهد - كما عرفنا - قطع علاقة القلب بالدنيا. وربطه بالله

( وأنْ لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله )

ويختلف الصبر عن الزهد في أنّ الصبر يتمثل في ضبط النفس ، ومخالفة الهوى ، فهو إرادة حازمة أمام القيم الذاتية ، وشهوات النفس وأهوائها ، أمّا الزهد فهو إلغاء الأهواء وقطع القلب من كلّ ما عدا الله وهو بذلك أعلى منزلة من الصبر ، وإنْ كان مرحلة في الطريق إليه

عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( الناس ثلاثة : زاهد ، وصابر ، وراغب ،

١٩٠

فأمّا الزاهد : فقد خرجَت الأحزان والأفراح من قلبه ، فلا يفرح بشيء من الدنيا ولا يأسى على شيء منها فاته ن فهو مستريح

وأمّا الصابر : فإنّه يتمنّاها بقلبه فإذا نال منها الجم نفسه عنها بسوء عاقبتها ، وشنآنها ، ولو اطلعت على قلبه لعجبت من عفّته ، وتواضعه ، وحزمه

وأمّا الراغب : فلا يبالي من أين جاءته الدنيا من حلال أو حرام ولا يبالي ما دنس فيها عرضه ، وأهلك نفسه ، وأذهب مروءته فهم في غمرة يعمهون ، ويضطربون ).

طمأنينة الوجدان الإسلامي

وجدان الإنسان الجاهلي في اضطراب دائم ن وقلق مستمر وانفعال قتال ، ذلك أنّ وجدانه يرتبط بالدنيا ومفاهيمها ، والدنيا ، ومعانيها في تغير من حال إلى حال لا استقرار فيها ، ولا ركون. وهذا الاضطراب ، والحركة ، والتغير الذي يقع في الأوضاع الدنيوية للإنسان ينعكس على وجدانه فيمزّقه ، ويتركه في لجّة من الاضطرابات والانفعالات السريعة القوية. أمّا الإنسان المؤمن فقلبه مطمئن ، ووجدانه هادئ

( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ )

( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى

١٩١

رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً *فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (٢٩)

وهذه إحدى سمات الوجدان الإيماني. الطمأنينة بذكر الله. وتنعكس على سلوكه ، وتعامله مع الناس ، ومشيه على الأرض بين الناس

( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) (٣٠)

وتنبع عن قطع القلب بالمعنى المتغيّر المتذبذب ، والرائح الجائي الذي ينعكس اضطرابه وتذبذبه على كلّ قلب تعلّق به ، وانشد إليه ، من جاه وبنين ومال ، ورفاه. وغير ذلك من دنيا الناس وهمومهم

إنّ أولى محاولات الإسلام التربوية ، وقد تكون من أهمّها على الإطلاق ، هي بناء شخصية الإنسان المسلم على أنْ تكون ( مستقلة ) عن الإحداث مستعلية على صغار الدنيا ، ومتجاوزة لمعانيها ، وبالتالي قطع ( الصلة التأثيرية ) للمؤمن بحركة معاني الحياة وتذبذبها. واستبدال ذلك بشدّها إلى الله ، وإيجاد نحوٍ من الصلة الجديدة بالأحداث ، وهي صلة التأثير والقيادة والتغيّر ، وقد يعتبر الإنسان المؤمن من حركة الإحداث ، واضطراب أمور الحياة ، ويعرج من خلال ذلك إلى الله. المطلق المتعال. ولكنّه - في صياغة الإسلام - أسمى من أنْ تمزّقه هموم الحياة ، أو تكون قائدة له عاملة فيه

١٩٢

من الممكن أنْ نختصر الأمور أو الانفعالات التي تأكل قلوب الناس ، وتمزّق وحدتهم الشخصية ، وتفقدهم الإرادة ، والتماسك في ثلاثة :

١ - الخوف والقلق

٢ - الجزع والضيق

٣ - الغضب، والأحقاد الشخصية

(١) - قلق الإنسان ، وخوفه على ماله من الضياع ، وتجارته من الخسران ، والكساد ، وخوفه ، وقلقه على أوضاعه الهادئة من أنْ تصاب بأذى ومتاعب ، وقلقه ، وخوفه على حياته من أنْ تتعرّض للمخاطر. ومركزه ، وجاهه أنْ يُصاب بسوءِ هذه وغيرها ، هي المخاوف التي اعتادها الناس ، ووعي المؤمن للحياة بصورة أُخرى غير الصورة المادية ، واتجاهه النفسي المتمثل بالزهد بالمعاني الدنيوية

هما الأمران الكفيلان في مواجهة عقد المخاوف ، والقلق

إنّ زهد المؤمن بالمال وزهده بالراحة ، والرخاء ، والأمن إذا ما قيسا إلى الراحة الأبدية والرخاء الأبدي ، وزهده بالحياة الدنيا بالقياس إلى الحياة الأبدية ، السعادة الدائمة ، أنّ هذا الزهد لكفيل بالحدّ من درجة المخاوف ، أو إزالته مِن صفحة النفس نهائياً ؛ لأنّ الخوف ، والقلق لا يكون إلاّ بالنسبة إلى المعاني التي تملك النفس وتملأ الوجدان ، والزهد في منطق الإسلام هو التحرّر الوجداني من هذه الأشياء ، والمعاني

وإذا كانت قمّة مخاوف الناس ، وقلقهم ، وخوفهم على أنفسهم من

١٩٣

المكاره ، والأذى ، وخوفهم على حياتهم من الخطر ، والهلاك فإنّ المؤمن المشبع بروح الرسالة. المربّى على هدْي كتاب الله يأنَس بالموت في سبيل الله كما يأنَس الطفل بثدي أُمه

( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاً كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (٣١)

وإذا كان الناس يفرون من الموت فإنّ المؤمن بدلاً عن ذلك يستعدّ له ، وينتظره بفارغ الصبر ويتطلّع إلى اليوم الذي يستشهد فيه في سبيل الله ولو على يد شرّ خلق الله ، وذلك لأنّ مؤمن الرسالة لا ينظر إلى الموت في سبيل الله على أنّه إعدام الحياة

بل على أنّه بداية الحياة الحقيقية التي يجهلها الناس ، ولا يلّقاها إلاّ ذو حظ عظيم

( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) (٣٢)

(٢) - ومن مظاهر اضطراب الشخصية الإنسانية الجزع والضيق عند المصيبة ، والفشل

( إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) (٣٣)

١٩٤

وللشر الدنيوي أشكال كثيرة خسارة في مال ، فقدان ولد ، أو حبيب. سقوط الهيبة والمكانة في أعين الناس ، فشل مشروع عملي. الخ. والاستثناء الوحيد من هذه القاعدة هم المصلّون المؤمنون الذين يعيشون صلاتهم مع ربّهم أحاسيس وتوجّهات ، والواقع أنّ مصائب الناس هذه ليست مصائب عند المؤمن حتى يجزع عليها ، أو تضيق نفسه بها. ولو صدقت عليها أنّها مصائب بالنسبة له ، فإنّما تقع عليه ، وهو يعاملها ضمن تصوّر شامل للوجود والحياة ، ومفاهيم واقعية يتعزّى بها المؤمن ، ويستلهم منها الثبات ، ويستمدّ منها الطاقة

المؤمن أساساً. لا يصل انفعاله عند المصيبة الشخصية إلى حدّ الضيق فضلاً عن الجزع ؛ لأنّ مستوى ( الزهد ) الذي عنده ، ودرجة ارتباط قلبه بالله تعالى يخفّفان من درجة ( الإصابة ) والتأثّر بالحدَث ، ولا يمنع هذا من أنْ تدمع عينه على فلذّة كبده مثلاً ، وهو يموت بين يديه ، ويحزن قلبه حزناً ضعيفاً هادئاً. ولكن لا يتضايق ولا يقول ما لا يرضي الرب ، ولا يستقل منه شيء

إنّ المؤمن يحافظ على درجة كبيرة من الانفتاح النفسي على الحياة ، والابتسام لها مهما تداكّت عليه المصائب ونزلت به النوائب الشخصية وحلّت به الخطوب ، والانتكاسات. والذين يبكون من كلّ شيء ، ويضيقون من كلّ حدَث ويسودون وجه الحياة البسّام ، فإنّهم يعوزهم الكثير الكثير من معاني الإيمان ودرجات التعالي الروحي ، والزهد الواعي الأصيل

١٩٥

(٣) - والغضب ، والأحقاد الشخصية. هي الأخرى ممّا يأكل في قلوب الناس ، ويمزّق تماسكهم الشخصي. الغضب للذات عندما تهان ، أو تتعرّض لبعض الألوان البسيطة أو الشديدة من الاعتداءات ، والأخطاء في حقّها

والحقد على الإنسان الذي يرتكب بعض الأعمال المشينة عن غفلة أو تعمّد ، أو على الإنسان الذي يهبه الله بعض القابليّات ، والقدرات التي يتقدّم بها علينا ، ويبرزها في مراكزنا. هذا جزء آخر. ووجه آخر لاضطراب الوجدان البشري. ولكن الوجدان الذي لم يُربّ في ظلّ هداية الله تعالى. فإنّ الغضب حسب ما توحي به هذه الهداية يُفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل

( إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم وأنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه ، وانتفخت أوداجه ، ودخل الشيطان فيه )(٣٤)

إنّ هذا الغضب من الشيطان ؛ لأنّه ينبع من قِيم شخصية ذاتية ومن ( أنا ) فاسد لا نُضج فيه ، وأنّ الغضب يُفسد الإيمان ؛ لأنّ الغاضب في غضبه يخرج عن حدود المنطق الديني ، والمنطق الأخلاقي

وكذلك الحال في الحقد ، والعداوات الشخصية. التي تصدر مِن وجهة نفسية عن قِيم أنانية وخبث في الذات ، والمؤمن لا يكون مؤمناً وهو حاقد على أخيه ، أو كاره له حتى يرجع إلى حبّه ، فإنّ المؤمن يأنَس إلى أخيه المؤمن

١٩٦

كما يأنَس الظمآن إلى الماء. أو كما يأنَس الطير إلى وكره وأين هذا من حقد متأصّل ، وعداوة متمكّنة من القلب مفسدة له ، إنّ المؤمن ليتسامى فلا يرد على الإساءة. بل وهو في أكثر الأحيان لا ينظر إليها على أنّها إساءة ، أو يحسب لها في نفسه أي حساب. في خبر معتبر عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته : ( إلا أُخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة ؟ العفو عمّن ظلمك ، وتصل من قطعك ، والإحسان إلى من أساء إليك ، وإعطاء من حرمك ) الأُصول ج ٢ ص ١٠٧

وأنّ المؤمن ذو قلبٍ رحيم ، عطوف حنون يسامح ويكظم الغيظ ، ويعفو عن الناس وإنْ أساءوا ، ويصلهم وإن قطعوا ، ويحترمهم وإنْ أهانوا ، والمؤمن أسمى من أنْ يصدر عن غيظ ، وينطلق عن غضب أو حقد ، وكيف يعرف قلبه الأحقاد وقد تمكّنت فيه هداية الله وحب المؤمنين ؟

العلاقة الوجدانية بالرسالة ونجاح الدعوة

المؤمن في الأساس ينطلق في عمله الرسالي الدعوتي ؛ لأنّ الله تعالى يطلب منه ذلك ، ولأنّه يثيبه عليه. ولكن الإنسان المسلم لا يتعامل مع عمله على أساس أنّه ( مسؤولية ) يريد التنصّل منها ، وإبراء ذمّته ، وعهدته مِن عبء الأمر ، والطلب الإلهي. بل ، ولا يتعامل معه على أنّه ( طريقٌ للثواب ) الأخروي فقط. وإنّما تنشأ عنده قبل العمل لله ، وإثناءه علاقات وجدانية تتمثّل في حبّ هداية الناس ، والتطلّع إلى تغييرهم ،

١٩٧

وإصلاح دينهم وآخرتهم ، وينشط لديه الحسّ الأخلاقي فيهمّه أمر الناس ، والإحسان إليهم وطاعتهم لله

ففي الرواية عن عمّار الساباطي قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : أيّما أفضل العبادة في السر مع الإمام منكم المستتر في دولة الباطل ، أو العبادة في ظهور الحق ودولته ، مع الإمام منكم الظاهر ؟

فقال : ( يا عمّار ، الصدقة في السرّ والله أفضل من الصدقة في العلانية ، وكذلك والله عبادتكم في السرّ مع إمامكم المستتر في دولة الباطل وتخوّفكم من عدوكم في دولة الباطل ، وحال الهدنة أفضل ممّن يعبد الله عزّ وجل ذكره في ظهور دولة الحق مع إمام حقٍ ظاهر في دولة الحق )

ثمّ قال عمّار : قلت : جُعلت فداك فما ترى إذاً أنْ نكون من أصحاب القائم ، ويظهر الحق ، ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالاً من أصحاب دولة الحق والعدل ؟

قالعليه‌السلام :

( سُبحان الله ، أما تحبّون أنْ يُظهر الله تبارك وتعالى الحق والعدل في البلاد ، ويجمع الله الكلمة ويؤلّف الله بين قلوبٍ مختلفة ، ولا يعصون الله عزّ وجل في أرضه ، وتقام حدوده في خلقه ، ويرد الله الحق إلى أهله ، فيظهر حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحدٍ من الخلق )(٣٥)

وهكذا لا يريد الإمام أنْ يجعل من قضية تطبيق حدود الله أو إقامة

١٩٨

دعائم ومعالم رسالته في الأرض مجرّد قضيّة مسؤولية باردة. يتهرّب عنها الإنسان في أيّ لحظة يتوهّم فيها أنّ عملاً آخر أكثر ثواباً وأجراً. ويتعامل معها تعاملاً فردياً جافّاً ، وإنّما هي قضية رسالة ربّانية. وإرادة الله تعالى في الأرض يُكتّل لها الإمام ، والإسلام القِيم الدينية النفسية المتعلّقة بالثواب ، والقِيم العاطفية الراجعة إلى حب الله ، وحب رسالته ، والغضب لمحارمه ، إذا انتهكت ، والقيم الإنسانية الأخلاقية المتعلّقة بالعدل ، والإحسان والتأليف بين القلوب ، وأمثالها من المعاني ، التي لا يريد الإسلام أنْ يميتها ، ويذيبها في الحسّ الديني بمعناه الضيق المحدود ، وإنّما يشركها في عملية البناء والتربية

ونتيجة للتعامل العاطفي مع قضية الدعوة. والعلائق الوجدانية بها ، فمن المعقول إنْ يألم المؤمن في اللحظات التي ينحرف فيها الناس ، ولا تحقّق الدعوة نجاحاً حسّياً ملموساً ويحسّ بحزن هادئ رزين ، وتصيبه حالات من التحسّر على الناس وشيء من الأسى المخفّف ومن الطبيعي أنْ يسر ، ويفرح عندما يتحقّق نحو من التقدّم للدعوة والعمل عند الناس

وليس في هذا ما ينقص من دينه وارتباطه بالناس. وهذه سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمةعليه‌السلام حاشدة بالأمثلة على هذه الأواصر القلبية ، والتعلّق الوجداني ( العاطفي ، والانفعالي ) بينهم وبين الدعوة ومع الناس. وأسبق الأمثلة إلى الأذهان ، ما يبدو من خلال القرآن الكريم من أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قمّة ما أمكن للهدى الإلهي أنْ ينشئه ويربّيه - كان يتحسّر على قومه ويصيبه نحو من أنحاء الألم النفسي على أنّهم لا يؤمنون

وكل ما حاوله كتاب الله تعالى هو أنْ عزّاه وسلاّه ، وألفت نظره إلى وسائل

١٩٩

التثبيت ، والتسلية ، والعزاء من خلال معايشة التصوّر الربّاني للحياة. واللجوء إلى الله.

الحد من العلاقة الوجدانية بالدعوة

هذا وجه المسألة ، والوجه الآخر لها. هو أنّ التربية الإسلامية ، إذ تحاول تنمية العلاقة الوجدانية بالدعوة والرسالة ، وتوطيد العواطف الدعوتية ، والإسلامية التغيرية من حب الناس وحب هدايتهم ، والسرور بذلك ، وما يترتّب على ذلك - بحسب قوانين النفس - من آلام نفسية معيّنة عند تكذيب الناس وسخريّتهم بالرسالة ، وإعراضهم عنها

إنّ التربية الإسلامية إذ تحاول ذلك تحذر من نقطتين تعبران عن الإفراط في هذا الجانب

١ - أنْ تنمو العلاقة العاطفية بالدعوة إلى الله والى رسالته. على حساب العلاقة العاطفية بالله تعالى نفسه. بحيث يكون حب الدعوة أكبر من حب الله. وتتقدّم بالتالي قضية الدعوة من الناحية العملية على قضية الالتزام الشرعي والتعبّد بحدود الشريعة ، وخط الإسلام يذكّرنا هذا بالمحاولات التي كانت تبذل من قبل بعض أصحاب الإمامعليه‌السلام من أجل حملهعليه‌السلام ، لانتهاج بعض الوسائل والأساليب ليبقى الناس إلى صفّه ، ويتحرّكوا للجهاد. وكان جوابهعليه‌السلام : ( إنّني أعرف ما يصلحهم ، ولكن لا أُريد إصلاحهم بفساد نفسي )

إن الهدف النهائي في الدعوة. وكلّ ما يتّصل بها من تخطيط ، وجهود هو رضا الله سُبحانه. وإنّ المنبع النفسي الذي نشأت عنه العلاقة

٢٠٠