نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي0%

نظرات حول الإعداد الروحي مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 326

نظرات حول الإعداد الروحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
تصنيف: الصفحات: 326
المشاهدات: 101126
تحميل: 6801

توضيحات:

نظرات حول الإعداد الروحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101126 / تحميل: 6801
الحجم الحجم الحجم
نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

سلبية كبيرة في النفس والقلب ، حتى لتكاد تمسخه مسخاً. إنّ الإنسان وحدة متكاملة يؤثّر بعضها على بعض ، وجهاز موحّد تتناول أجزاؤه التأثير ، والعمل

يقول الله تعالى :( بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٨)

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :

( كان أبي يقول : ما مِن شيء أفسد للقلب من خطيئة. إنّ القلب ليواقع الخطيئة ، فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله )

( وسائل جهاد النفس ب ٤ )

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام في خبر معتبر :

( إذا أذنب الرجل خرجت في قلبه نقطة سوداء ، فإنْ تاب انمحت ، وإنْ زاد ، زادت حتى تغلب على قلبه ، فلا يفلح بعدها أبداً ) ( الموضع نفسه )

وعنهعليه‌السلام :

( إنّ الرجل يذنب الذنب فيُحرم مِن

٢٢١

صلاة الليل ، وإنّ العمل السيّئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم )

والنصوص التي تدل على أنّ الشخصية الإسلامية متكاملة الأجزاء والأطراف ، لا يكفي فيها الفكر وحده ، والأخلاق وحدها ولا الطاعة. وإنّما يشترط فيها الطاعة إلى جانب الفكر والجهاد ، والأخلاق. كثيرة

عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

( إنّ الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو العمل ، والعمل هو الأداء. )

وعن الصادقعليه‌السلام بعد أنْ سئل عن ، أنّ العمل من الإيمان ، قال :

( نعم ، الإيمان لا يكون إلاّ بعمل ، والعمل منه ، ولا يثبت الإيمان إلاّ بعمل )

وعنهعليه‌السلام في خبر :

( فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي ، أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عزّ وجل عنها كان خارجاً من الإيمان ، ساقطاً عن اسم الإيمان )

( راجع أصول الكافي الأبواب الأولى من كتاب الإيمان والكفر )

٢٢٢

(٤) - والاستقامة على خط الإسلام ، شرط أساسي لمجموعة من الممارسات المتقدّمة في الحياة الإسلامية سوى العدول أي المستقيمين سلوكياً على خط الإسلام بنحو تكون الاستقامة طبعاً لهم ، وملكة متمكّنة في نفوسهم

فلا يجوز تقليد غير العادل ، فإنّ المرجعية الدينية مشروطة بالاستقامة ، كما نقل عليه إجماع الفقهاء. وعن الإمام العسكريعليه‌السلام :

( وكذلك عوامنا إذا عرفوا مِن علمائهم الفسق الظاهر ، - والعصبية الشديدة ، والتكالب على الدنيا ، وحرامها فمَن قلّد هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفَسَقة علمائهم ، فأمّا مَن كان من الفقهاء ، صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أنْ يقلّدوه )

( الوسائل - صفات القاضي - ب ١٠ )

وكذلك قال بعضهم : أنّه لا يجوز للعاصي الإفتاء أو التصدّي لهذا المقام الخطير ، وكذلك تجب العدالة والاستقامة في القاضي ، وإمام الجماعة ، والشهادة ، وموارد أُخرى

وليست هذه الاحتياطات من الإسلام من أجل الاحتياط على هذه الوظائف الخطيرة في الحياة الاجتماعية ، وإنّما هي من جهة أُخرى تركيزاً لقيمة الاستقامة ، والتقوى في الحياة الإسلامية

٢٢٣

(٥) - وقد أكّد الإسلام تأكيداً بالغاً على مَن نصب نفسه للناس هادياً ، وإماماً أنْ يلتزم بما يقول ، ويعلم نفسه قبل تعليم غيره ( بنحو شمول المسؤولية ، لا تقييدها بالمطيعين والملتزمين فقط )

وعن الإمام عليعليه‌السلام :

( مَن نصب نفسه للناس أماماً فعليه أنْ يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه )

( الوسائل - الأمر والنهي ب ١٠ )

وعن أبي ذر عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ّ في وصيته له :

( يا أبا ذر يطلع قوم من أهل الجنّة إلى قوم من أهل النار ، فيقولون : ما أدخلكم النار وإنّما دخلنا الجنّة بفضل تعليمكم، وتأديبكم فيقولون : إنّا كنّا نأمركم بالخير ولا نفعله )

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام :

( كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع ، والاجتهاد ، والصلاة ، والخير ، فإنّ ذلك داعية )

٢٢٤

(٦) - هذا ويعتبر إعداد الشخصية الإسلامية المتورّعة الملتزمة بالخط الإسلامي في الحياة أحد أهداف عمل الأئمةعليهم‌السلام ،

عن أبي عبد اللهعليهم‌السلام :

( ليس منا ولا كرامة من كان في مصر فيه مِئة ألف ، أو يزيدون ، وكان في ذلك المصر أحد أورع منه )

وعنه أيضاً :

(إنّا لا نعد الرجل مؤمناً حتى يكون بجميع أمرنا متبعاً مريداً ، ألا وأنّ من أتباع أمرنا وإرادته الورع فتزيّنوا به يرحمكم الله ، وكيدوا أعدائنا ينعشكم الله )

هوامش

___________________

(١) - لله سبحانه إرادتان : إرادة تتعلّق بذات الفعل والحدث ، وهذه هي الإرادة التكوينية ، ومن هنا ، إذا أراد الله شيئاً قال له كن فيكون ، وإرادة تتعلّق بفعل الإنسان ، على أنْ يصدر باختياره وحرّيته ، وهي الإرادة التشريعية ، كإرادة الصلاة والصوم ، وترك شرب الخمر

(٢) - سورة البقرة / ١٤

(٣) - سورة المنافقون / ١

(٤) - سورة البقرة / ٢١

(٥) - سورة النساء : ١٣ - ١٤

(٦) - سورة الأحزاب / ٣٦

(٧) - سورة التوبة / ٥٢

(٨) - سورة المطففين / ١٤

الاستقامة والفكر التبريري

عرفنا أنّ الاستقامة من صلب الإيمان ، وإنّها شرط أساسي في الشخصية الإسلامية. وهذا أمر واضح من خلال الكتاب الكريم والسنّة المطهرة. وطبيعة الرسالات السماوية لم تتنزل لتصحيح الاعتقادات فقط ، وإنّما لبناء الإنسان وتغيير السلوك ، واختطاط نهج خاص للسلوك الفردي والاجتماعي في حياة الإنسان ، والتركيز على مجموعة من القيم الأخلاقية

ويعبّر ذلك عن مشروع ربّاني لصياغة إنسان جديد ، إنسان ربّاني في فكره وروحه وقيمه النفسية وفي سلوكه الشخصي ، وتعامله مع الناس. والصعود بالإنسان إلى مستوى بنائي متميّز ، وشخصية فريدة تمشي بين

٢٢٥

الناس بنور الهدى الإلهي. وعلى السبيل الذي حدده الله لهذا الإنسان

ومن الواضح أن هذا المشروع التغييري الذي تبنّته رسالات السماء لم يُفرَض على الإنسان فرض إلجاء ، وإلاّ لاهتدى الناس جميعاً. وإنّما أُريد له أنْ يتم من خلال الإنسان ، وفعاليته وإرادته. وإنْ كان برعاية الله وهداية الله. ومِن الواضح إلى جانب ذلك أنّ للإنسان أهواءه ، وشهواته ، وميوله النفسية التي تتعارض مع الصيغة الربانية المقترحة. وأنّه ليس من السهل للإنسان أنْ ينسجم مع هذه الصيغة إلاّ من خلال الصبر ، والمعاناة ، والمجاهدة النفسية ، وترويض النفس

وكان الناس أمام هذا المشروع التغييري الجبّار القائم في الأساس على عبودية الله ، وتحرير النفس من الأهواء والالتزام بالعدل ، والمصالح النوعية للناس على ثلاثة أصناف : صنف رفض الإيمان ، والالتزام المبدئي بالرسالات السماوية وركن إلى مجاميع متعدّدة من تسويلات الشيطان ، وخدَعه. وصنفٌ ثان رحّب بالصيغة الربانية وآمن بها ، وتعاطف معها والتزم بها التزاماً جدّياً ، وتصاعد بها إلى المستوى الإنساني المطلوب ، والشكل الرباني المقترح للإنسان. وأكثر الناس آمنوا بالأنبياء ورسالاتهم ، وعاشوهم في جزءٍ ، وآخر من شخصياتهم. إلاّ أنّهم لم يرتفعوا بها ولم يتصاعدوا من خلالها ، ولم يلتزموا بها الالتزام الضروري المطلوب ؛ لأنّ الإنسان بشكل عام ، ليس مستعدّاً أنْ يجاهد الجهاد الأكبر ويعاني باستمرار في سبيل الطاعة ، والالتزام ويتوافق ، ولو على حساب ميوله وأهوائه ، مع إرادة الله

والناس هؤلاء يعيش الإيمان في ذواتهم ، وينبض ضميرهم الديني

٢٢٦

بالحركة ، ويدعوهم باستمرار إلى العمل والانسجام مع الدين ومن هنا ينشأ صراع داخلي بين القوى الدينية في النفس ، القوى الخيّرة التي تدعو إلى التعالي الأخلاقي والالتزام الديني ، وبين القوى الشهوية والأهواء ، والميول الشخصية من جنس وعدوان ، وأمن الخ

وهو صراع - ككلّ صراعٍ نفسي - بغيض للنفس البشرية تحاول بشتّى الأساليب أنْ تتخلّص منه ، وأنْ تجد له ( حلاًّ ). تتوافق به القوى النفسية ، وتنسجم في عملها واتجاهاتها

والفكر التبريري هو أبسط الأساليب ، واشملها في حل الصراعات الداخلية بين القوى الأخلاقية ، والقوى الغريزية الشهوية ، والميول والأهواء. ومن هنا يحاول الإنسان دائماً أنْ يخدع ضميره الأخلاقي ، ليمارس شهواته وأهواءه براحة بال

والمعنى السائد في الفكر التبريري ، الذي يحاول التغطية على الانحراف ، والتوفيق بين الأوضاع المنحرفة المائعة ، وبين الدين هو ( تغيير الرسالة ) ، وتحريفها لتنسجم مع واقع الانحراف ، والانحلال. ومن خلال الفكر التبريري هذا يغيّر الإنسان الرسالة السماوية ، ويحرّفها ، بدلاً عن أنْ يتغيّر بها. ويشوّهها. وينزل بها إلى واقعه ، بدلاً عن أنْ يصعد بها ويتنمّى

ونستعرض هنا ألواناً من الفكر التبريري لتغطية الانحراف. والخروج عن الاستقامة الشرعية ، وطاعة الله سبحانه. مستخلصة مِن واقع الحياة الدينية للمسلم المعاصر

٢٢٧

(أ) - تحوّل الولاء إلى أداة تبرير :

كان التشيّع. في أيامه الأولى رسالة تغييرية ، وإصلاحية كبرى في جسم العالم الإسلامي تستهدف الالتزام المر بقيَم هذا الدين ، والقضاء على كل التميّعات ، والانحرافات التي تولّدت في المجتمع الإسلامي نتيجة لاختلاط الحضارات ، وفقدان القادة المبدئيّين ، وكان التشيّع حركةُ وعيٍ ملتزمة. متمحورة حول قيادات إسلامية نقية تشع على أتباعها التعبّد ، والزهد ، والقيم ، والالتزام

( وما كانوا ( الشيعة ) يعرفون يا جابر ، إلاّ بالتواضع ، والتخشّع ، والأمانة ، وكثرة ذكر الله ، والصوم ، والصلاة ، والبر بالوالدين ، والتعاهد للجيران من الفقراء ، وأهل المسكنة ، والغارمين ، وصدق الحديث ، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلاّ من خير ، وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء )(٩)

( إنّ شيعة علي كانوا خمص البطون ، ذبل الشفاه ، أهل رأفة ، وعلم ، وحلم ، يعرفون بالرهبانية )(١٠)

والذي يبدو أنّه حدث تغيّر اجتماعي في هذا الاتجاه زمن الإمام الباقرعليه‌السلام . أو بدأ واضحاً في ذلك الوقت. إذ تكوّنت في الذهنية الشيعية مفاهيم ، وأفكار تبريرية تغطّي على الانحراف ، وتستوعبه. كمفهوم الشفاعة في صيغته المحرّفة ، ومفهوم أنّه لا معصية مع حبّ أهل البيتعليه‌السلام

وقد يكون ذلك نتيجة للانعطاف الجماهيري على التشيّع بعد مقتل الحسينعليه‌السلام . ونتيجة لظهور التيارات الغالية في الصف الشيعي

٢٢٨

وسوء فهم كلمات أهل البيت الواردة في تأثير منزلتهم. ولا زالت هذه الأفكار تعيش في ذهن الإنسان المسلم إلى اليوم تكرّس من بعده عن الشريعة وتحلّله من الالتزامات الدينية

وقد واجه الأئمةعليه‌السلام هذا التيار الذي يحاول تحريف التشيّع ، وتحويله من نقائه ، وصفائه ، وأصالته الإسلامية والتزاماته الحدية ، إلى فكر يقدّم التنازلات تلو التنازلات لواقع الانحراف ، وسلوك التحلّل والتميّع. ما أمامي من نصوص عنهمعليهم‌السلام في شجب هذه الظاهرة أكثرها عن الإمام الباقرعليه‌السلام وهو أمر قد تكون له دلالته التاريخية ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال :

( لا تذهب بكم المذاهب فو اللّه ما شيعتنا إلاّ مَن أطاع اللّه عزّ وجل )

وعن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال لي :

( يا جابر ، أيكتفي مَن ينتحل التشيّع ، أنْ يقول بحبّنا أهل البيت ، فو الله ما شيعتنا إلاّ مَن اتقى الله وأطاعه. يا جابر، لا تذهبنّ بك المذاهب حسب الرجل أنْ يقول : أحبّ علياً ، وأتولاّه ثمّ لا يكونّن مع ذلك فعّالاً ، فلو قال : إنّي أحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فرسول الله خيرٌ من عليعليه‌السلام ، ثمّ لا يتبع سيرته ، ولا يعمل بسنته

٢٢٩

ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً فاتقوا الله ، واعلموا لما عن الله ، ليس بين الله وبين أحد قرابة ، أحب العباد إلى الله عزّ وجل ( وأكرمهم عليه ) اتقاهم ، وأعملهم بطاعته. ومَن كان لله مطيعاً فهو لنا ولي ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو ، وما ننال ولايتنا إلاّ بالعمل ، والورع )

وهكذا فإنّ ( الحب ) لأهل البيتعليه‌السلام وتوليهم ليس تعويضاً ، أو بديلاً عن الطاعة ، والالتزام - كما تفهمه الأجيال المتخلّفة - وإنّما هو طريق إليها ، وتأكيد عليها من خلال تجسيد القدوة الحية. والقيادة المعصومة ، والإيمان بها ومتابعتها ، والاقتداء بها

( ألا وأنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألا وأنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومِن طعمه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع ، واجتهاد ، وعفّة وسداد )

(ب) - الفهم الاجتماعي والسياسي للدين :

والإسلام كما نعرف رسالة شاملة. فيها التعاليم الاجتماعية إلى جانب النظام السياسي والنظام الاقتصادي والتربوي. الخ. ولكن في

٢٣٠

جوهره ، وروحه استسلام لله تعالى ، وعبودية كاملة له

( إنّ الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين )

والإنسان المسلم هو الإنسان الذي يلتزم بأحكام الله ويتورّع عن محارمه. مهما بدت ، وفي أي مجال شرعت من مجالات الحياة. غير أنّ الكثيرين ممّن يعيشون في هذا العصر - ومن أجل التوفيق بين انتمائهم التقليدي للدين من جهة ، وبين التسيّب السلوكي عندهم وتأثّرهم بالمضمون الحضاري الغربي - يفهمون جوهر الإسلام في مجموعة من التعاليم الاجتماعية ، والأخلاقية ، وفي الالتزام السياسي بقضيته ، وأمّا الجوانب الفردية فهي موضع إهمال وتجاوز ؛ لأنّها لا تتناسب مع السياق العام ، الذي يبدو لهم الإسلام فيه. وهؤلاء - في واقع الأمر - يأخذون من الإسلام ولا يأخذون بالإسلام منهجاً كاملاً للحياة

إنّ الإسلام في جوهره فتنة لهذا الإنسان ، واختبار لحس العبودية لله عنده ، ووسيلة لإظهار المضمون الأخلاقي الديني في شخصيته. وهو لهذا شامل التشريع ، واسع المجالات ، فيه التعليم الاجتماعي إلى جانب النهج السياسي ، والنهج التربوي الروحي ، والنظام الأخلاقي ، والأحكام التي لا نعرف لها سراً ، ولا حكمة. والأحكام التي أريد بها اختبارنا ، وفتنتنا. ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيى من حيي عن بينة ، ونحن ملزمون في كل ذلك محاسبون عليه مسؤولون عنه

فليس الإسلام ، إذن جمعية سياسية لا تجد فيها سوى الفكر

٢٣١

الاجتماعي السياسي ، والالتزامات السياسية والتنظيمية ، وإنّما هو أولاً ( دين ) وعبودية خالصة لله. وهو بعد ذلك كل شيء : سياسة ، واقتصاد ، واجتماع ، وتربية. و. والمنطق الأساسي للتربية ، والبناء هو الالتزام بكل شيء في هذا الدين عرفنا حكمته ، أو جهلناها ، وسبحان الله. قال الإنسان للإنسان : نفّذ ثمّ ناقش ، وقبِل منه ذلك عن طواعية ، واختيار. وقال الله للإنسان : لا تأكل من هذه الشجرة وقدّم له حيثيات الأمر ، والحكم ولكنّه ناقش ، وتفلسف ، وعصى. فخرج من الجنّة ، يعيش الهموم ، والآلام. وهذه عبرة من عِبَر قصّة آدمعليه‌السلام

(ج) - الجبر والإرجاء :

مذهب الجبر ، هو المذهب القائل بأنّ الفعل الإنساني في مجال الطاعة والمعصية وغيرهما هو - في حقيقته - فعل الله تعالى الواقع بمشيئة الأزلية. وأمّا العبد فلا اختيار له. أو إذا كان له اختيار ، وقدرة فليس الفعل صادراً عنه. وللجبر صورة علمية. وأنصار باحثون. وله صورة شعبية أيضاً نجد إنّها تعيش في واقعنا المعاصر ، كما عاشت في العصر الجاهلي

( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) (١١)

( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (١٢)

٢٣٢

والإرجاء : هو المذهب الذي مات أمام ضغوطات الفكر الحق. ولكنّه لا يزال يعيش في الوسط الشعبي. ويؤكّد على أنّ القيمة الحقيقية للإيمان ، وتقوى القلوب ، وأنّ الأعمال الظاهرية لا يحاسب الله عليها ، وليس لها قيمة من وجهة النظر الدينية

هذان الاتّجاهان التبريريان - الجبر ، والإرجاء - يرجعان من الناحية التاريخية - حسب بعض التقديرات - إلى الحاكم الأموي ( معاوية ) ، الذي حاول أنْ يكرّس الانحراف ويبرّر الفسق والفجور ، والخروج عن حدود الشرع ، ودائرة الدين من خلال وضع الأحاديث من جهة. والترويج للأفكار التبريريّة كالفكرتين السابقتين

(د) - التشكيك بالحكم الشرعي واستصغار الذنب :

وبعض الناس يرتكبون الذنوب ، ويقترفون السيئات والمعاصي. ويبرّرون ذلك عن طريق إنكار الحكم الشرعي الذي خالفوه ؛ لأنّهم لا يجدونه في القرآن الكريم ، ومسموعاتهم عن السنّة. ومن الواضح أنّ الإنسان الاعتيادي لا يُتاح له أنْ يبتّ بإنكار هذا الحكم وذاك ، وإثبات هذا ، وذاك ؛ لأنّ مثل هذا الإثبات وذاك النفي يحتاجان إلى خبرةٍ طويلة ، ومعايشة مستمرّة للقرآن الكريم ـ والسنّة المطهرة ، وتاريخ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمةعليهم‌السلام ـ وتدبّر مستغرق فيها ، وتخصّص وتفرّغ. وليس من حقّ الإنسان أنْ يتسرّع في إثبات الحكم ، ونفيه ؛ فإنّه بذلك يضيف ذنباً إلى ذنبه وخطيئة إلى خطيئته

( وان أسوأهم ( أصحابي ) عندي حالاً

٢٣٣

وأمقتهم الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويُروى عنّا فلَم يقبله اشمأز منه ، وجحده ، وكفّر مَن دان به ، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج ، وإلينا أُسند ، فيكون بذلك خارجاً من ولايتنا )

هكذا قال الإمام الصادقعليه‌السلام

والإنسان الذي لا خبرة له في مجال البحث الأُصولي والفقهي والرجالي وسائر المجالات ، التي تتصّل بالتفقّه بالدين ، والتعرّف على الشريعة ، يجب عليه أنْ يرجع إلى أهل الخبرة - والرجوع إلى أهل الخبرة مبدأ عقلاني أقرّه الإسلام في كثير من المجالات -

( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )

( ومَن كان مِن الفقهاء حافظاً لدينه ، صائناً لنفسه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أنْ يقلّدوه )

واحتقار الذنوب ، واستصغارها من الترضيات النفسية للمخالفة ، ولكنّه هو الآخر ممّا يزيد الذنب ذنباً ، والخطيئةَ خطيئةً ، فعن سُماعة عن أبي الحسنعليه‌السلام يقول :

( لا تستكثروا كثير الخير ، ولا تستقلّوا قليل

٢٣٤

الذنوب فإنّ قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيراً ، وخافوا الله في السرّ تعطوا مِن أنفسكم النصف )

( أشدّ الذنوب ، ما استهان به صاحبه )(١٣)

هوامش

_____________________

(٩) - أصول الكافي ج ٢ ص ٧٤

(١٠) - أصول الكافي ج ٢ ص ٢٣٢

(١١) - سورة الأنعام / ٤٨

(١٢) - سورة النحل / ٣٥

(١٣) - أصول الكافي ج ٢ ص ٢٨٧

الصبر

الوجه الآخر للإرادة الربانية في شخصية المسلم هو الصبر ، فأنت عندما تقيس الإرادة الربانية من حيث نتائجها العملية إلى الشريعة. تكون بذلك طاعة والتزاماً ، وعندما تنظر إليها باعتبار مواجهتها للأهواء النفسية ، ودوافع الانحراف ، والتثبيط تكون صبراً. وعندما تنظر إليها باعتبار دافعها الرباني وهدف التقرّب إلى الله تكون ( إخلاصاً ) حسبما مرّ معنا سابقاً

وقصّة الصبر معنا هي قصّة المفاهيم الإسلامية الممسوخة والمشوهة في الذهنية العامة للمسلمين. تلك المفاهيم الدافعة. والمحرّكة. المفاهيم التي كانت يوماً وقود الثورة الإسلامية الذي لا يستهلك ، وأداة تجاوز الإنسان لصغاره. وأهوائه قليلة الشأن. ورياضة روحية تُنشّط الإرادة ، وتبني استقلال شخصية الإنسان المسلم

فأصبح الصبر - وهو واحد من هذه المفاهيم - أداة تخديرية. أصبح ( صبراً على الانحراف بعد أنْ كان صبراً على مواجهة الانحراف ، والمنحرفين

وبعد أنْ كان صبراً على الثبات على طريق ذات الشوكة ، وتحمّل الأمانة ، والالتزام بدين الله في أحرج اللحظات وأقسى الظروف ،

٢٣٥

أصبح صبراً على ( التنصّل ) عن الالتزامات المبدئية في هذا الدين ، وعلى مواجهة الضمير الديني الحي الذي ينبض بشيء من الحياة

وليس التوكّل. بعيداً عنا. التوكّل الذي كان عوناً للمقاتل في الساحة ، وللمجاهد في مراحل الصراع ، وأداة للاستهانة بقدرات العدو الكافر ، والثقة بالنفس. أصبح هذا المفهوم الرائد. والبعد الأصيل في شخصية المسلم. اتّكالاً مريضاً ، وتفويضاً ، وتكاسلاً من تحمّل أعباء المسيرة ، والزهد الذي يمثّل قمة التحرّر والانعتاق ، وتجاوز الأهواء والشهوات والتحرّر الداخلي الحقيقي للإنسان ، أصبح كلمةً ذليلةً حتى في أسماع بعض المسلمين المؤمنين ، نتيجةً لما قُرِنت به من الممارسات الشاذّة ، وألوان القطيعة الاجتماعية ، والهروب عن الحياة

وهكذا دائماً يُغيّر الإنسان المفاهيم التي جاءت لتغييره وينزل بها إلى الحضيض ، بدلاً من أنْ يرقى معها إلى الكمال. فليس من الهيّن ، والسهل أنْ يرقى الإنسان ، وإنّما التصاعد معاناة ، وزهد ، ومرارة. ومن أجل أنْ يبقى في حالته المريحة هذه فعليه ـ حتى يُريح ذاته مِن الشعور بالانفصام بين الفكر، والسلوك ـ أنْ يُحرّف مفاهيمه الثورية وأنْ يسحبها إلى وراء ، بدلاً من أنْ يتقدّم معها إلى أمام. هذه هي خلاصة التحريف الاجتماعي للمفاهيم ، والرسالات ، وعلينا باستمرار أنْ نرجع إلى النبع الأصيل ؛ لتوضيح مفاهيمنا لا إلى عقليّة الانحراف والتخلّف والتحلّل

والصبر في مفهومه الإسلامي الأصيل تمرّد الإرادة المسلمة على أهواء النفس ، وشهواتها. التي تهدف إلى إخلاد الإنسان إلى الأرض. وهو

٢٣٦

امتلاك النفس ، وحبسها على الخطّ المستقيم ، في مواجهةٍ حازمة للضغوط الخارجية والداخلية على السواء

إنّه الصبر على الالتزام المر بقِيَم هذا الدين. في مواجهة قوى الضغط في الداخل والخارج ، وليس هو الصبر على الخلود إلى الطين. في مواجهة الضمير الديني ، وقوى الخير النابضة للحياة في النفس البشرية. وهو الصبر على تحمّل مشاق الطريق ، وأعباء المسيرة واجتناب الآلام ، والغربة والعذاب في سبيل الله ، تحقيقاً للإرادة الربانية ، وتمثّلها في النفس ، والسلوك. وليس الصبر على الانحراف والمنكرات والمحارم تحقيقاً لقِيَم الكسل والرخاء والأمن والراحة. في دنيا مليئة بالمتاعب ، والمكاره وأشكال الآلام والهموم

وعلى هذا الأساس أصبح الصبر ركناً ركيناً مِن الإيمان

( الصبر رأس الإيمان )

( الصبر من الإيمان ، بمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد ، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان )

(ولا إيمان لمن لا صبر له )

( الجنّة محفوفةٌ بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره والدنيا دخل الجنّة )

الصبر عند البلاء

النوازل والمكاره ، وشظف العيش ، وفقدان الأعزّة ، والأحبّة ، والغربة

٢٣٧

بين الناس. هذه وأمثالها ، يتعرّض لها المؤمنون في كلّ مكان. وخصوصاً المجاهدون في الله منهم كضريبة لصراعهم مع الكفر ، ومواجهتهم للجاهلية في كلّ زمان ومكان وعلى كلّ المستويات. وكتدخّل إلهي أُريد به تمييز الصادق من الكاذب ، وتمحيص الفئة المجاهدة ، وإعدادها وتعميقها. لتكون حلقة ربانيّة ضمن حلقات مسلسل الهدى الإلهي ، الذي سوف ينتهي لا محالة إلى بسط الحق والعدل وانتشار القسط والخير ، بعد أنْ مُلئت الأرض ظلماً وجوراً ، وعانت البشريّة من آلام الصراع بين الهدى ، والضلال. وقد جعل الله سبحانه البلاء والآلام ، والمكاره في صلب تخطيطه للحياة ، وفي صلب تخطيطه للدعوة ، والدعاة. كما يوضّح ذلك كلّ عرض مدرسي مبسّط لنظرية الفتنة في القرآن الكريم

هذه المصائب والآلام المتعدّدة في الحياة فتنة للإنسان المسلم يسعد فيها من سعد ، ويشقى فيها من يشقى ، ويبتعد عن الله. ويعكس لنا ( النص الإسلامي ) هاتين الاستجابتين المختلفتين للإصابة بالبلاء

(١) -( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا ) (١٤)

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (١٥)

( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ

٢٣٨

مَعَهُ ) (١٦)

( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ) (١٧)

( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنْسَانَ كَفُورٌ ) (١٨)

وهكذا فإنّ ( التزلزل ) و( الارتداد ) و( التطير ) و( القنوط ) و( كفران نعمة الله ) هي النتائج السلبية التي يصل إليها بعض الناس من خلال فتنة البلاء ، والمصيبة

(٢) - وأمّا المؤمنون فلهم شأنٌ آخر من البلاء. إذ تشخذ فيهم النوازل الشعور بالحاجة إلى الله ، والتوجه إليه وتزيدهم ثباتاً وصلابة ، وعناداً في الحق ، ويجددون الصبر والشكر لله ، ويعيدون تقييم ذواتهم ، واختبارها

( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) (١٩)

( لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ ) (٢٠)

( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ) (٢١)

٢٣٩

( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ ) (٢٢)

( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ) (٢٣)

( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) (٢٤)

( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا ) (٢٥)

( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) (٢٦)

وهكذا فالمؤمن عند المصيبة ، والبلاء يراجع تصوّراته الكونية ووعيه الكوني للحياة ، ولا يحزن ، ولا يهن ، ولا يضعف ، ولا يستكين ، بل على العكس يصبر وينتصر ويرضى بقضاء الله وقدره ، ويتضرّع إلى الله ويلتجئ إلى الله. ويزداد إيماناً وثباتاً.

( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (٢٧)

بعد هذا ننتقل إلى السنّة ، وهي تتحدث عن حتمية البلاء ، والنوازل

٢٤٠