نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي0%

نظرات حول الإعداد الروحي مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 326

نظرات حول الإعداد الروحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
تصنيف: الصفحات: 326
المشاهدات: 101060
تحميل: 6801

توضيحات:

نظرات حول الإعداد الروحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101060 / تحميل: 6801
الحجم الحجم الحجم
نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الخامس:

وسائل التربية الروحية

٢٨١

تربية الجانب الروحي :

عرفنا في ما مضى أنّ الجانب الروحي في شخصية الإنسان المسلم يتمثّل في مجموعة من العناصر النفسية الداخلية المنشدّة إلى الله تعالى. والمرتبطة به ، بصائر وعواطف وإرادة

فإيمانك بالله تعالى واطمئنانك له وخوفك ورجاؤك منه ، وحبه وحب المؤمنين والإخلاص والصبر والزهد ، وأمثال ذلك من المعاني التي يتشكّل منها الجانب الروحي

وأمّا الصلاة وتلاوة القرآن الكريم ، وذكر الله ، وما شاكل ذلك فهي وسائل التربية الروحية والإعداد الروحي. وليست هي في ذاتها عناصر روحية

ومن روائع دين الله ، أنّه لم يحث على ربط القلب والإرادة بالله تعالى ، ولم يلزم به فقط وإنّما بيّن طريق ذلك وأُُسلوبه الصحيح ، وتسهيلاً للناس وتوضيحاً للسبيل المستقيم في مسألة قابلة الانقسام في التربية الروحية تقوم على أساس من القوانين النفسية ، ونظم الترابط بين الذهن والقلب والإرادة ، والسلوك ، وليس المقصود من أنّ الإسلام بيّن الطريق إلى التربية الروحية وتنمية الصلة النفسية بالله تعالى ، أنّه قد تحمّل مسؤولية للتربية ، والبناء على الإنسان المسلم. وإنّما كل ما فعله هو ، أنْ وضّح المعالم ، ورسم الطريق ، وعلى المسلم أنْ يبادر ، ويعاني في سلوك هذا الطريق حتى ينتهي

٢٨٢

أخيراً إلى الدرجة اللائقة من الصلة بالله والعلاقة الروحية به

وهكذا فإنّ بناء الجانب الروحي ، والتربية الروحية لا تتمّ بالشكل الصحيح إلاّ بشروط ثلاثة :

(١) -الشرط التكويني : وهو وجود قوانين نفسية تحكم العلاقة بين الجانب الروحي والصلة النفسية بالله، وبين مجموعة من المواقف والأعمال يمكن من خلال أداء هذه الأعمال .

وعلى أساس الترابط الموجود بين الفعل والجانب الروحي ، تنمية هذا الجانب ، وتكوين الصلة الداخلية بالله تعالى

وقد تكفّل الله سبحانه بهذا الشرط في النظام التكويني للأشياء ويكشف القرآن في آيات متعدّدة عن الكثير من هذه القوانين النفسية ، والترابطات الموجودة بين أجهزة الشخصية الإنسانية. ويقيم على أساس من ذلك نظامه التربوي

(٢) -الشرط التشريعي : وهو وضوح الوسائل والمواقف التي تؤدّي إلى تلك النتائج النفسية بحكم القانون النفسي المغروس فطرياً. والمودع في جهاز التكوين البشري. وقد قام الإسلام بذلك ، فحدّد مجموعة كبيرة من وسائل التنمية الروحية ، وتكوين الانشداد الداخلي بالله. وسنأتي على ذكر هذه الوسائل إنْ شاء الله تعالى .

(٣) - المبادرة الفردية ، والمعاناة في أتباع هذا الخط وتبنّي هذه الوسائل ، وانتهاجها. وإذا كان الشرط الأول من مهمات الجانب التكويني في خلق الإنسان ، وكان الشرط التالي من مهمات الإسلام التشريعية فهذا الشرط كما هو واضح من مهمات الفرد ، الإنسان المسلم نفسه. وليس من

٢٨٣

مهمات الإنسان المسلم أنْ يستحدث وسائل عبادية منه ، وأساليب للتربية الروحية ، بل قد لا ينبغي من ذلك بعد أنْ وضح الإسلام الطريق ، ورسم المعالم في هذا الميدان ، وقد يؤدّي استحداث هذه الوسائل ، والأساليب إلى شكل من أشكال الابتداع في الدين ، وبالتالي الانحراف عن الأهداف الإسلامية للتربية الروحية. كما وقعت في ذلك اتجاهات التصوّف.

المعاناة في سبيل التربية الروحية

دور الإنسان المسلم إذن هو تبنّي التربية الروحية التي حدّدها الإسلام من صلاة ، وذكر ، وصيام ، و. ولكن تبنيها ليس دائماً أمراً سهلاً ، صحيح أنّ الإسلام عندما يوضح أساليب التنمية الروحية يكون بذلك قد سهل هذه العملية ، ولكن لتسهيل أمر نسبي. فعلى الإنسان أنْ يعاني في سبيل البناء الروحي ، ويجاهد نفسه، وأهواءه من أجل سلوك الطريق إلى الله الذي يبدأ صعباً وينتهي سهلاً وسجية للسالكين

أنْ الضواغط على التربية الروحية كثيرة ولكن إرادة الإنسان المؤمن يجب أنْ تكون أكبر من الضواغط ، وأكبر من الحواجز الطبيعية والاجتماعية والنفسية ، بيئة المؤمن الاجتماعية وبيئته الثقافية ، وزاده الفكري الذي يتلقاه ، ويتفاعل معه ، ومشاغله الحياتية ، وتربيته الأولى ، وطبيعته كانسان له أهواؤه وحسّه كل ذلك لا يشجع على الصلة بالله. ولكن في هذا أيضاً قيمة الاتصال بالله ، وتعميق العلاقة به. وفي تجاوز المصاعب ، والتمرد على القوانين الاجتماعية، والنفسية. تتبدى ( تتجلّى ) إنسانية الإنسان ، وجوهره الروحي الخلاق

وفي هذا أيضاً ميزة الإنسان المسلم الذي يتبنّى الإسلام عقيدة ، وخلقاً ، وسلوكاً ، على الإنسان المادّي

٢٨٤

فهذا يبقى خالداً إلى الطين محكوماً بقوانين الشهوة ، الحس ، وعالم الشهادة ، وذاك يرتفع ويتصاعد إلى السماء ، ويتجاوز قوانين الشهوة ، والحس ، والتعامل مع عالم الغيب. لمجرداته ، ومغيباته

الإنسان المادي يشكّل حقاً حقارة معنوية لعالم الحيوان. ضيق الأفق ، ومحدودية الطموح ، والمحسوبية للشهوات

( إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ )

والإنسان المسلم يمثّل التجاوز الحقيقي للوضع الحيواني بحدودهما الضيقة وآفاقهما المحدودة. وبالكدح والمعاناة ، وبهداية الله تنمو روحية الإنسان وتلتقي بالله

( يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ )

( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )

وسنذكر فيما يلي وسائل التربية الروحية ، وهي في الإسلام كثيرة ولكننا سنقتصر هنا على ما يلي منها :

(١) - قيام الليل

(٢) - ذكر الله كثيراً

(٣) - تلاوة القرآن الكريم

٢٨٥

(٤) - الأجواء الإيمانية

(٥) - الثقافة الإيمانية

(٦) - مخالفة الأهواء - الصوم

(٧) - المحاسبة ، والنقد الذاتي

(٨) - الاعتكاف

أولاً : قيام الليل

ورد الحث الشديد - كتاباً وسنّة - على صلاة الليل

(١) -( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) ( المزمل /١-٤)

(٢) -( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ( الإسراء / ٧٩)

(٣) -( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا

٢٨٦

يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (١)

(٤) -( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا ) (٢)

(٥) - عنهمعليه‌السلام : ( شرف المؤمن صلاته بالليل ، وعزّ المؤمن كفّه عن إعراض الناس )

(٦) - عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : ( عليكم بصلاة الليل ؛ فإنّها سنّة نبيّكم ، ودأب الصالحين قبلكم ، ومَطردة الداء عن أجسادكم )

(٧) - وعنهمعليه‌السلام في مجموعة أحاديث :

( إنّ صلاة الليل تذهب ذنب النهار وتطرد الداء من الأجساد ، وتبيض الوجه ، وتطيب الريح ، وتجلب الرزق ، وتذهب بالهم ، وتجلو البصر ، وتحسن الخلق ، وتقضي الدين ، وهي مصحة للبدن ، ورضا للرب ، وتمسك بأخلاق النبيينعليه‌السلام )

(٨) - عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :

٢٨٧

( ليس من عبد إلاّ ويوقظ في كلّ ليلة مرّة ، أو مرّتين ، أو مراراً ، فإنْ قام كان ذلك وإلاّ فجج الشيطان ، فبال بإذنه أوَلا يرى أحدكم إذا قام ، ولم يكن ذلك منه قام وهو متحير ( متخثّر ) ثقيل كسلان )

٩) - وعنه (ع) :

(يا سليمان لا تدع قيام الليل فان المغبون من حرم قيام الليل )

وعنه (ع) :

(ليس منا من لم يصل صلاة الليل )

١٠) - وفي الحديث.

(جاء رجل الى امير المؤمنين (ع) فقال : اني حرمت الصلاة بالليل، فقال أمير المؤمنين (ع) : انت رجل قد قيدتك ذنوبك )(٣)

الأثر التربوي لصلاة الليل

إنّ هذا التأكيد الشديد على صلاة الليل إنّما هو باعتبار أثرها التربوي الخطير في حياة الإنسان الروحية. فهي وراء كونها عبادة وصلاة ، لها ما

٢٨٨

للصلاة وللعبادة من آثار. تحتوي على اثرين مهمين، سجلتهما الآية المباركة :

( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً )

فقيام الليل بما فيه من مجاهدة للنفس ، وتحكّم في الهوى ، ومعاناة في سبيل الوقوف بين يدي الله. باعتبار مواجهة أتعاب النهار وسلطان النوم ، والشعور بالوحدة في جوف الليل. وباعتبار ذلك يكون قيام الليل أشدّ وطئاً ، وأكبر أثراً على بناء الإرادة ، والصبر ، وبناء الجهاز الحاكم في الشخصية الإسلامية. وما أحوج الإنسان المؤمن في الدرب الطويل. والمسيرة الصعبة وعناء الدعوة. إلى بناء الإرادة ، وتكوين ملكة الصبر. الصبر الذي يكون لله وعلى عبادة الله

وما أحوج الإنسان القائد الذي ينتظر منه تحرير الأمة من أسر الشهوة والانحراف ، والخضوع للدنيا والركون للطواغيت أنْ يتحرّر من داخله. وأنْ يخرج عن أسر الكسَل إلى دائرة النشاط. وقيود الشهوة إلى دائرة القدرة ، والإرادة ، والتجاوز. وبالتالي ما أحوجه إلى هذه اللحظات القصيرة - من عمر الزمن - في جوف الليل. ويؤكّد فيها استعلاءه على كلّ شيء. على كل شيء غير الله الكبير المتعال

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، لما كانت عبادة الليل. بعيدة عن مشتتات الانتباه ، وتتّخذ الطابع السرّي بعيداً عن أعين الناس فهي لهذا ( أقوم قيلا ) وأكثر تثبيتاً على الكلمة الربانية ، كل التعاملات الشرعية

٢٨٩

التي يراها الناس منك قابلة لأنْ تكون موقفاً اجتماعياً ، وتوافقاً مع البيئة التي ننفتح لها ، وتتخاطب معها. فاكتب ما شئت أنْ تكتب للإسلام ، وتحدث ما شئت أنْ تتحدّث عن دين الله. واسع لإخوتك. كل هذا واجب وكلّه مطلوب. وكلّه فيه نحو من التثبت ، والإبقاء على خط الله. ولكن ليس هذا مثل عبادة البشر. مثل العيش وحيداً بعيداً عن أعين الناس وحيداً إلاّ من الله. وغريباً إلاّ مع الله. تلتقي به ، تتلقّى منه وتتضرّع إليه. هناك فقط ، وأكثر من غيره يتجلّى لك ( الصدور ) عن الله. والجهاد في الله هي لحظات تحاسب موقفك بين يدي الله. وتصفّي حساباتك في اليوم السابق وتؤكّد له ، ولنفسك انّك فيه وبه وليس لك من قصد إلاّ هو. وهذا هو التثبيت والتمحيص ، وبناء الإخلاص ، والصدور عن الله

صراحة. لا افهم من عبادات الإسلام شيئين إلاّ للدعاة الاعتكاف وقيام الليل. أفهم الحج عبادة عامة يجتمع فيها المسلمون ويؤدّون شعائر الحج ، ويستفيدون في الفكر والروح ، وفي هذا يشترك الدعاة مع غيرهم من المسلمين وافهم الصلاة اليومية للمسلمين عموماً ، كما أفهم الصوم. وغيره في هذا الإطار ، ولكن كلّما تلح على الذهن صلاة الليل. والاعتكاف يقترن ذلك بذكر الدعاة. وتشكّل في نفسي انطباعاً أنّهما شرعا في الإسلام لهم ، ولهم فقط وإنْ كان لهما صورة تشريعية عامة تشملهم وتشمل غيرهم

الوحدة مع الله. العزلة المؤقتة ، مراجعة الذات مع الله. أحوج ما يحتاج إليها الداعية. ليكون داعية لله. ولله ومن الله. ليحكي لربّه

٢٩٠

شيئاً من أتعابه في سبيله. ليحاسب نفسه أمامه عن أخطائه ليستزيده ويستهديه ليخلص له نيّته من كل ما يشوب نيّات العاملين في العبادة ويداخلها من حب الظهور ، والرغبة في التوافق مع الأجواء الخاصة ، ليقول له يا رب ، هذا جهدي ومستطاعي ، ومنك العون وبك الاعتصام من كل المغريات ، والضغوط والمكاره ، والأتعاب.

إعداد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه مِن خلال قيام الليل

يحفل القرآن الكريم بالآيات النازلة من أجل إعداد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتوجيهه لتحمّل أعباء المسيرة ، وطريق ذات الشوكة. وقد عرفنا - فيما مر - أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ بثلاث فترات للإعداد

(١) - الإعداد ما قبل النبوّة من أجل تلقّي الكلمة. والوصول إلى مستوى تلقّي الوحي

(٢) - الإعداد ما بعد الوحي. من أجل تحمّل العبء الثقيل والقول الثقيل في الدعوة ، والتبليغ ، والمواجهة

(٣) - إعدادهصلى‌الله‌عليه‌وآله على استمرار خطه الجهادي. إلى أنْ توفّاه الله تعالى. ورفعه إليه ، ولكلّ مرحلة من هذه المراحل طابعها ، وأسبابها

المهم الآن. إنّ المرحلة الثانية من الإعداد الروحي كانت الأعداد لتحمل القول الثقيل ، وتحمل أعباء مسيرة الدعوة. وهي التي تنزل من أجلها قوله تعالى :

٢٩١

( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً )

( وكان الزاد فيها ومادّة العمل قيام الليل وتلاوة القرآن بالليل .)

إنّ قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفاسفها ، والاتصال بالله وتلقّي فيضه ونوره ، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه ، وترتيل القرآن ، والكون ساكن كأنّما يتنزّل من الملأ الأعلى ، وتتجاوب معه أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة ، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته ، وإيقاعاته في الليل الساجي. إنّ هذا كلّه هو الزاد لاحتمال القول الثقيل والعبء الباهض ، والجهد المرير الذي ينتظر الرسول ، وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل ، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل. ويعصمه من وسوسة الشيطان ، ومن التيه في الظلمات الحافّة بهذا الطريق المنير(٤)

وما كان من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وصحبه إلاّ أنْ امتثلوا فقاموا الليل كما أمرهم الله ، نصفه أو ثلثه أو ثلثيه ، إلى سنة كاملة أو أكثر ، حتى تورّمت إقدامهم ، وانتفخت ثمّ خفّف الله عنهم بعد انتهاء فترة الإعداد. كما تقول بعض الروايات.

ثانياَ : ذكر اللّه كثيراً

لذكر الله معنيان :

٢٩٢

(١) -الذكر الذهني : وهو المعايشة الشعورية ، والذهنية لعقيدة الإيمان بالله تعالى ، وهذا هو الأصل في الذكر. وقد عرفنا فيما سبق ، أنّ الذكر عنصر ضروري من عناصر الجانب الروحي من شخصية الإنسان المسلم .

(٢) -الذكر اللفظي : وهو ذكر الله تعالى باللسان كتسبيحه ، وتحميده ، واستغفاره ، وتهليله ، وتكبيره ، وما شاكل ذلك. وقد ورد الحث الشديد عليه ، باعتباره وسيلة من وسائل التربية والمعايشة الشعورية ، والذكر اللفظي لله هو ما حوى أصواتاً دالّة على التعظيم ، والتقديس له. وإنّما يستمدّ قيمته من كونه ( وسيلة ) لغاية ذات قيمة في نفسها ، وهي ذكر الله ذكراً ذهنياً إمّا مثل الصلاة والصوم ، كحركات ، وأمساك مجرّدة لا قيمة لها ، إلاّ أنّ الالتزام بها إنّما هو باعتبار دورها التربوي ، أي باعتباره انتهاء عن الفحشاء والمنكر ، وعروجاً إلى الله ، وخلق حالة التقوى ، والصوم من تلك المحارم .

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :

( شيعتنا الذين إذا خلوا ذكروا الله كثيرا )(٥)

وعنهعليه‌السلام قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( من أكثر مِن ذِكر الله عزّ وجل أحبّه الله ، ومَن ذكر الله كثيراً كُتبت له براءتان ، براءة من النار ، وبراءة من النفاق )(٦)

٢٩٣

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام :

( من ذكر الله عزّ وجل في السر فقد ذكر الله كثيراً ، إنّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ، ولا يذكرونه في السر )

فقال الله عزّ وجل :

( يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً ) (٧)

وفي حديث عن الصادقعليه‌السلام :

( الذاكر للّه عزّ وجل في الغافلين ، كالمقاتل في المحاربين )(٨)

ويلاحظ في هذه النصوص ، التأكيد على الطابع السري للذكر ، وذلك للتخلّص من شوائب الرياء ، ودواعي السمعة والذكر الحسن بين الناس ، وتثبيتاً للعلاقة بالله تعالى.

صورتان تربويتان

(١) - عن الصادقعليه‌السلام :

( وكان أبي كثير الذكر ، لقد كنت أمشي معه وإنّه لَيذكر الله ، وآكل معه الطعام ،

٢٩٤

وإنّه لَيذكر الله ، ولقد كان يحدّث القوم ، وما يشغله ذلك عن ذكر الله ، وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول : ( لا اله إلاّ اللّه ) وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس ، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منا ، ومَن كان لا يقرأ منا أمره بالذكر)(٩)

(٢) - عن أبي أسامة قال : زاملت أبا عبد اللهعليه‌السلام قال : قال لي : اقرأ فافتتحت سورة من القرآن فقرأتها ، فرقّ وبكى. ثمّ قال :

( يا أبا أسامة ، أوعوا قلوبكم ذكر الله عزّ وجل واحذروا النكت ، فإنّه يأتي على القلب تارات ، أو ساعات الشك من صباحٍ ليس فيه إيمان ولا كفر ، شبه الخرقة البالية ، أو العظم النخر ، يا أبا أسامة ، ألست وما تفقدت قلبك ، فلا تذكر به خيراً ولا شراً ولا تدري أين هو ؟)

قال : قلت له : بلى إنه ليصيبني واراه يصيب الناس

قال : ( أجل ، ليس يغري منه أحد ، قال : فإذا كان ذلك فاذكروا الله عزّ وجل واحذروا النكت فإنّه إذا أراد بعبدٍ خيراً نكت إيماناً وإذا أراد به غير ذلك نكت غير ذلك )(١٠)

هوامش

___________________

(١) - سورة الذاريات / ١٥ - ١٨

(٢) - سورة الإنسان / ٢٥

(٣) - الوسائل بقية الصلوات المندوبة باب ٣٩ و٤٠

(٤) - في ظلال القرآن سيد قطب م ٨ ص ٣٤٧

(٥) - أصول الكافي ج ٢ ص ٤٩٩

(٦) - الوسائل أبواب الذكر من كتاب الصلاة باب ١٤

(٧) - نفس المصدر ص ٥٠١

(٨) - نفس المصدر ص ٥٠٢

(٩) - أصول الكافي ج ٢ ص ٤٩٩

القرآن الأساس الفكري والروحي

والقرآن الكريم هو المنبع الثقافي والروحي للإنسان المسلم. منه يأخذ تصوره عن الله تعالى ، وعن الوجود ، والحياة ، والمجتمع ، والناس. ومنه يأخذ معالم التشريع الإلهي لهذا الإنسان على هذه الأرض. ومنه يتعرف على أهداف الله في الخلق ، وأغراضه من هذا الخلق والحياة .والقرآن الكريم سند روحي أيضاً ، يتصاعد الإنسان في تلاوته لأنّه يلتقي بالله تعالى، وهو يتحدث إليه ، ويتحبب إليه ، ويحنو عليه ، - وفيه يشعر هذا الكائن الضعيف بالحنان الإلهي ودفء التكريم لهذا الكائن الفقير ، ويعايش الحقائق الوجودية الكبرى ، ويذكر الله. ويتحسّس الحياة معنى ومسؤولية ، وابتلاء. فيسمو ، ويسمو حتى لكأنّه في عالم آخر من عوالم التكوين

٢٩٥

ويبدأ الانحراف في مسيرة الإنسان المسلم عندما يبحث عن زاد آخر غير القرآن ، وغير ما ثبته القرآن الكريم من مقاييس ، ويتلقى الثقافة ، والفكر ، والتربية من تحت منبر آخر غير منبر القرآن الكريم ، وقد سجّلت رواية الحارث الهمداني بداية الانحراف الحضاري في المسيرة الإسلامية عندما بدأ الناس في عهد عليعليه‌السلام يخوضون في المسجد بالأحاديث ، لا أعرف الآن هذه الأحاديث بالضبط. ولكنّها تؤشر بداية مرحلة العقل ، وتوديع مرحلة الروح ، ومرحلة القرآن الكريم

وهكذا ( فعلوها ) واستمر المسلمون في الانحراف. وتصدّى أهل البيتعليه‌السلام لهذا الانحراف عن طريق بناء أجيال قرآنية ( تعي ) قيمة هذا القرآن. كما ( تفهمها ) وتبني سلوكها ، وفكرها في ضوء هذا الوعي والشعور

و( التلقي ) من القرآن الكريم. هو المعنى الأساس الذي انحرفت به الثقافة الغربية في الماضي ، وفي الحاضر ، فسواء في الماضي ، أو في الحاضر بدأنا نتلقى من مصادر أخرى غير القرآن. وبدأنا إذا التقينا بالقرآن الكريم نحكم عليه ونؤوله ، ونجره إلى ما نريد من أهواء جراً ، ومع أنّه كان في التقدير الإلهي ولا يزال ( حاكماً ) و( مهيمناً ) وسلطاناً على كل المقاييس الفكرية والثقافية

ونحن على الدوام ظلمنا أنفسنا. ولا أقول القرآن. عندما ودعناه وعندما حكمنا عليه مرة ( الروايات )(١٣) باعتباره أنّه كتاب ألغاز ، وأحاجي لا يفهمه إلاّ من خوطب به ، ومرّة ( الثقافات ) لأنّها أحكام العقول ، وأحكام العقول مقدّمة على ظواهر النصوص والتي هي قواعد الصرف ، والنحو الجامدة وغيرها. كل ذلك ، والقرآن لا زال ربيعاً لقلوب

٢٩٦

المؤمنين تسامى به الدهر ، منار هدى ، وسبيل نجاة ، وبصائر للناس وذكرى للعالمين

وأداء حق القرآن علينا لا يتم إلاّ من خلال :

(١) - إحلاله الموقع النفسي والشعوري الذي يتناسب معه بوصفه الكتاب الرباني الوحيد في الناس.

(٢) - تحكيمه في كل شؤوننا الثقافية ، والفكرية ، والصدور عنه ، والتلقي منه بلا تدخل أو تأويل.

(٣) - معايشته المستمرة في التأمل ، والتدبر والتلاوة والحفظ.

تلاوة القرآن الكريم

(١) - عن الصادقعليه‌السلام قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( إنّ أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ، ما خلا النبيّين ، والمرسلين فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم ، فإنّ لهم من الله العزيز الجبّار مكانةً عُليا )

(٢) - وعنهعليه‌السلام :

( من قرأ القرآن ، وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ، ودمه ، وجعله الله عزّ وجل

٢٩٧

مع السفرة الكرام البررة. وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة )

(٣) وعنهعليه‌السلام قال :

( القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم إنّ ينظر في عهده ، وان يقرأ منه في كل يوم خمسين آية )

(٤) وعنهعليه‌السلام :

( يدعى ابن آدم المؤمن للحساب فيتقدم القرآن أمامه في أحسن صورة ، فيقول : يا رب ، أنا القرآن ، وهذا عبدك المؤمن ، قد كان يتعب نفسه بتلاوتي ويطيل ليله بترتيلي ، وتفيض عيناه إذا تهجّد ، فارضه كما أرضاني. قال : فيقول العزيز الجبّار : عبدي ابسط يمينك فأملأها من رضوان الله ، وأملأ شمالك من رحمة الله ، ثمّ يقول : هذه الجنة مباحة لك ، فاقرأ ، واصعد ، فإذا قد قرأ آية صعد درجة )

إلى آخر النصوص الكثيرة الواردة في الحث على النظر إلى عهد الله وقد وردت أيضاً نصوص أخرى في أدب التلاوة. أهمّها التفكّر ، والتدبّر ، والخشوع ، والاستفادة ، والترتيل والحزن

٢٩٨

وأمّا مقدار القراءة فليس له في النصوص تحديد حدّي معيّن. وكذلك لم يكن في سلوكهم ما يشير إلى حد مقدار قراءتهم. وإنّما قراءة القرآن أمر مستحب في ذاته. والإكثار منه مستحب مهما بلغ من الكثرة. ولكن بشرطين :

(١) - إن لا تزاحم تلاوة القرآن الكريم أمراً أهم

(٢) - إن لا تكون كثرة القراءة على حساب التأمل والتدبر.

ولعل من أهم أشكال أداء حق القرآن الكريم ، ومعايشته والارتباط به هو أنْ يحاول الإنسان المسلم البحث في القرآن الكريم. من تفسير بعض السور ، والكتابة في بعض الموضوعات القرآنية التي يستقصي فيها جميع ما ورد من آيات في ذلك الموضوع ، أو الكتابة عن تاريخه ، وعلومه. الخ فان هذا يزيدنا بصيرة أكثر في الطريق إلى فهم القرآن الكريم ، ومعايشته ومن خلال القراءة والبحث ، وحفظ الكثير من آيات القرآن. يكون - وما أروع أنْ يكون - القرآن سليقة للمؤمن ، وذوقاً له.

رابعاً : الأجواء الإيمانية

وللأجواء تأثير كبير في التربية الروحية - وكل تربية - فعلى الإنسان المسلم أنْ يقصد الأجواء الإيمانية لكي يتأثر بها ، ويستزيد

إنّ المسجد من أهم الأجواء الإيمانية. وكذلك المشاهد المشرّفة

ومن الطبيعي أنّ الإنسان عندما يدخل مكاناً مخصّصاً أو زماناً مخصّصاً

٢٩٩

لشيء يكون أكثر تهيؤاً من الناحية النفسية لأداء ذلك النشاط. والمكتبة مثلاً - لما كانت مكاناً للمطالعة - يكون الإنسان فيها أكثر توجهاً واستعداداً للمطالعة والدرس. والمسجد. وهو المكان المخصص للعبادة. يكون الإنسان فيه أكثر تهيؤاً للعبادة واستعداداً للتعامل مع الله تعالى. بما يملكه من إيحاء وتأثير في النفس ، وقدرة على التأثر من خلال المجتمع للصلاة. وبسبب هذا وغيره حثت النصوص الإسلامية على ارتياد المساجد ، والصلاة فيها ، وعمارتها بالصلاة ، والعبادة

ومن هنا جاء عن الإمام عليعليه‌السلام :

( من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى ثمان : أخاً مستفاداً في الله ، أو علماً مستطرقاً ، أو آية محكمة ، أو يسمع كلمة تدل على هدى ، أو رحمة منتظرة ، أو كلمة تردّه عن ردى ، أو يترك ذنباً خشية أو رجاء )(١٤)

ومثل المساجد ، والمشاهد المشرّفة التي يتذكّر فيها الإنسان المؤمن الرجال الصالحين الذين زرعوا ربيع الهدى في النفوس ، وفجّروا الأرض ينابيع من دم. وعلماً غزيراً وتربية معصومة. غيّرت الأجيال اللاحقة بزاد الإيمان والهدى ، والصلاح

كانت الزيارات يوماً في عهد الأئمةعليه‌السلام مواصلة للثورة التي قام بها الإمام الحسينعليه‌السلام ، أو القضية التي حملها أبناؤه وآباؤه الطاهرون

٣٠٠