نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي17%

نظرات حول الإعداد الروحي مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 326

نظرات حول الإعداد الروحي
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107027 / تحميل: 7622
الحجم الحجم الحجم
نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

إنّ حزني عليك لا ينقضي.

ولا يمكن أنْ أنساك.

فاذكرنا عند ربّك.

فإنّنا إخوتك

وعلى الدرب سائرون.

الحاج أبو حسين الربيعي

١ ربيع الأول ١٤٠٥ ه‍

____________________

(٢٣) - احد الطلاب المهاجرين في الجمهورية الإسلامية

(٢٤) ، (٢٥) ، (٢٦) - تفضل بكتابة هذه النقاط الشيخ أبو محمد الرفاعي

٤١

نظرات عامة حول الإعداد الروحي

للشهيد الشيخ حسين معن

٤٢

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ) (١ - ٨ / سورة المزمّل )

( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (١١١ - ١١٢ / سورة التوبة )

٤٣

الفصل الأول المقصود من الجانب الروحي

٤٤

لا نقصد بالجانب الروحي في شخصية الإنسان المسلم كثرة الصلاة والصيام والتعبّد. وإنْ كان لكثرة التعبّد والتنفّل صلةٌ وثيقة بالجانب الروحي في الشخصية.

ولا نقصد بالجانب الروحي كذلك حُسن التعامل مع الناس والأخلاق الحسنة : كالشجاعة ، والعفّة ، والكرم ، والحكمة ، والإحسان ، وما شاكل ذلك وأنْ كان للأخلاق صلةٌ وثيقة بالجانب الروحي

وإنّما نقصد بالجانب الروحي في شخصية المسلم - والذي يعتبر جوهرها ومضمونها - الصلة الداخلية للمؤمن باللّه تعالى ، وانشداده النفسي والعاطفي به تعالى من حيث الإيمان والحب والإخلاص ، وما يُرافق هذه المعاني الثلاثة الرئيسية من خوف ، ورجاء ، وتواضع.. الخ

إنّ المضمون الداخلي المرتبط باللّه تعالى هو الجانب الروحي وهو الذي يشكّل الأساس الذي يُقوّم صَرح الشخصية الإسلامية بالكامل وتصدر عنه عناصرها الأخرى ، وسماتها ، وخصائصها المميّزة عن الناس وعلاقة الإيمان باللّه ، وخوفه ، ورجائه ، والتواضع له والإخلاص. بالعبادة الخارجية من صلاة وصيام وأذكار علاقة تأثير متبادل يؤثّر المضمون الداخلي للمؤمن فينتج عبادة وتنفّلاً وصياماً وقياماً ، وتؤثّر العبادة الخارجية فتزيد في الإيمان والحب ، والإخلاص ، والخوف ، والرجاء ، وكذلك الحال في الأخلاق ، والتربية الروحية هي بالنتيجة بناء هذه العلاقة الداخلية للمؤمن باللّه ، وتنميتها ،

٤٥

وتحصينها ، والحفاظ عليها

وإذا تحدّدت الآن بصورة مجملة هوية الجانب الروحي والتربية الروحية فبإمكاننا أنْ نطرح السؤال التالي حولها :

ما هي درجة الاهتمام التي يلزم أنْ نعطيها للجانب الروحي ، والتربية الروحية ؟ وهل تستحق التربية الروحية لأنفسنا، وللآخرين جهداً معيّناً ، وما هي درجة هذا الجهد ؟.

وبكلمة أُخرى : ما هو موقع التربية الروحية من العمل الإسلامي ومكانتها فيه ؟

توجد في الجواب على هذا السؤال اتجاهات ثلاثة يسجلها التاريخ الإسلامي وهي :

(١) الاتجاه الصوفي

(٢) الاتجاه السياسي والفكري

(٣) الاتجاه الإسلامي المتكامل.

منهج التقييم

وقبل أنْ نستعرض هذه الاتجاهات بشيء من التفصيل من أجل تقييمها والتعليق عليها ، علينا أنْ نُلمح إلى المنهج الذي يحكم ويجب أنْ نحتكم إليه في تقييم الأفكار التي تنتسب إلى الإسلام وتحسب عليه.

٤٦

في كل خلاف فكري أو مهمّة فكرية عامة علينا أنْ نرجع إلى المقاييس التي وضعها الإسلام ، ونحتكم إليها ، ونستلهم منها. كتاب اللّه تعالى وسنّة رسوله وأهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وسيرتهم العطرة الطاهرة ، فعن عليّعليه‌السلام :

( أما أني سمِعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ستكون فِتَن ، قلتُ : وما المخرج منها ؟ قال : كتاب اللّه ، كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم ، وخبَر ما بعدكم ، وحُكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، هو الذي مَن تركه مِن جبّار قصمه اللّه ومَن ابتغى الهدى في غيره أضلّه اللّه. هو الذي مَن قال به صدَق ، ومَن حكَم به عدَل ، ومَن عمِل به أُجر ، ومَن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم )(١)

وقال تعالى :

( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (٢)

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( إنّي تركت فيكم مَن إنْ تمسّكتم بهما لنْ تضلّوا مِن بعدي : كتاب اللّه حبلٌ ممدود

٤٧

مِن السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما ؟)

والرجوع إلى المقاييس التي وضعها الإسلام في معرفة مفاهيمه وعقائده وتشريعاته أمر طبيعي ؛ لأنّنا لا يمكن أنْ نتعرّف على أفكار أيّ شخصٍ أو جهة إلاّ مِن خلال ما يعدّ من أساليب وطُرق في تحديد أفكاره ومواقفه ومِن خلال ما يضعه مِن مقاييس في معرفتها.

والتصوّر الفكري والثقافي عن القرآن الكريم والسنّة المطهرة - قولاً وفعلاً وتقريراً - والاحتكام إليهما في الخلافات لا يتمّ إلاّ بشرطين :

(١) الجهد الفكري بالتتبّع والاستقراء لكلّ ما يتّصل بالمسألة مِن آية ، أو حديث ، أو رواية ، أو موقف ، وعدم تسجيل المواقف ، واتخاذ القرارات الفكرية إلاّ بعد الدراسة الجادّة ، والتتبّع المناسب لهذين المصدرين الأساسيّين

(٢) الانفتاح النفسي على الكتاب والسنّة وأن تكون لدى الباحث فيهما ( روح التلقي ) منها ، وعدم التجاسر ، والتأويل والتدخّل من خلال فرض الأهواء والمسبقات

فإنّ ( المؤمن أخذ دينه عن ربّه ولم يأخذه عن رأيه ) كما ورد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام وعن الإمام الباقرعليه‌السلام في خبر صحيح : ( واللّه ، إنّ أحبّ أصحابي إليَّ أورَعهم وأفقَههم وأكتمهم لحديثنا ، وإنّ أسوأهم عندي حالاً.

وأمقتهم الذي إذا سمِع الحديث يُنسب إلينا ويُروى عنّا فلَم يقبله ، اشمأزّ منه وجحَده وكفَّر مَن دان به وهو لا يدري

٤٨

لعلّ الحديث مِن عندنا خرَج ، وإلينا أُسند ، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا )(٣)

وعلينا أنْ نتذكر بصدد تطبيق هذا المنهج ، أنّ اللّه سبحانه خلقنا في هذه الحياة للمحنة ، والابتلاء ، وليس الابتلاء ، الذي خلقنا مِن أجله هو ابتلاء أخلاقيّتنا وعبوديّتنا للّه سبحانه في إطار الطاعة ، والاستقامة على الخطّ الذي يشترعه للناس فقط ، وإنّما أيضاً في مجال ( تلقي ) هذا الخطّ

وتفهّمه ووعيه ، ومِن هنا فإنّه سُبحانه عندما أنزل الرسالة بيّنها للناس. وهداهم إلى خطّها وبصّرهم بمفاهيمها وتشريعها ، ولكن لم يكن هذا البيان من قبله حاسماً حدّياً بل كان قابلاً للأخذ والرد ، والتملّص والركون ، والنفي والإثبات. لم يجعل اللّه تعالى البيان حاسماً ، حتى تكون فتنة واستجابات مختلفة من الناس ووضع المقاييس لكي يقيم الحجّة على الفهم السليم ولكي يحيى مَن حيّ عن بيّنة.

ومن هنا كانت الفكرة مسؤولة وكان الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده كما هو مسؤول عن عمله

( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ) (٤)

وكان هناك الناجح في فتنة التلقي

( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ

٤٩

فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (٥)

والفاشل فيها

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ) (٦)

والآن نعود إلى البحث في الاتجاهات العملية الثلاثة في مسألة التربية الروحية ، وندرسها بشيء من التفصيل

____________________

(١) - البيان في تفسير القرآن ص ٢٦ - ٢٧

(٢) - سورة الحشر / ٨

(٣) - الوسائل أبواب القاضي ب ٨ ص ٣٩

(٤) - الإسراء / ٣٦

(٥) - الزمر / ١٩

(٦) - الأنعام / ٣٦

(١) الاتجاه الصوفي

تلقى الاتجاهات الصوفية الآن اهتماماً بالغاً مِن قِبل المستشرقين ، والكتّاب المسلمين التابعين لهم أو المستقلّين عنهم في التفكير ، وتدرس في العادة من التصوّف موضوعات عديدة. منها : لفظته ، واشتقاقها ، ونشأته وعواملها ، وتطوره عبر القرون ، ومفاهيمه التربوية والفلسفية والأدب المتأثّر أو المعبّر عنه. الخ

وتتوّزع المواقف التقييمية - كالعادة - بين رافض للتصوّف غاضب عليه ، وبين مدافع عنه ومؤيّد له ولا يقتصر المؤيّدون للتصوّف والاتجاهات الصوفية على بعض الباحثين الأكاديميّين أو المستشرقين المُعجبين ، بل نجد مَن له شأن يذكر في مجال العمل الإسلامي ، وخدمة الإسلام من يدافع عن الاتجاهات الصوفية ، ويعتبر الروحية الخاصّة أساساً للعمل الجهادي ، ويربط تاريخياً بين المنظمات الصوفية ، وبين الدعوة الإسلامية ، ومن هؤلاء أبو الحسن الندوي في كتابه ( ربانية لا رهبانية ) الذي نشره كما يقول : ( قياماً بالواجب ، واعترافاً بالجميل ،

٥٠

ودفاعاً عن جماعة تدين لها بعض الأجيال ، وبعض الأقطار بالدخول في الإسلام ، أو البقاء عليه ) ، وأكّد فيه أنّ الجناية على التصوّف جاءت من قبل المصطلح وكثيراً ما يجنى على الأفكار والمفاهيم بسبب المصطلحات

والواقع أنّه إذا كان يقصد مِن الصوفية التأكيد على الجانب الروحي والمضمون الداخلي الباطن ، وكثرة العبادة ، والزهد في الدنيا ، ومجاهدة النفس ، وذكر اللّه كثيراً ، لذلك تكون المنظمات الروحية القائمة على هذا الأساس داخل الإطار الإسلامي شريعة وأخلاقاً ، فكل هذا من الإسلام حثّ عليه الإسلام وربّى أجيالا عليه ، وأمّا إذا كان يُقصد مِن الاتجاه الصوفي هذا الاتجاه الذي نعرفه في التاريخ الإسلامي والذي نضَج في القرنين الثالث والرابع الهجريّين فهو اتجاه ينطوي على بعض نقاط الضعف من الناحية الإسلامية وانتهت به - عند بعض الصوفيين - إلى انحرافات واضحة ، لسنا ننكر من هذا الاتجاه كثرة العبادة ، وعملية التحرير الداخلي للنفس من أسر الشهوة ، والرضى والتوكّل ، فقد قلنا أنّ هذا كلّه من الإسلام إنّما ننكر منه كاتجاه تربوي أمرين

الأول : أنّه يركّز على التربية الروحية والعلاقة باللّه ، منعزلاً عن التأكيد على الجوانب الأخرى الضرورية في الشخصية الإسلامية ، والعمل التربوي الإسلامي يجب أن يهتم ببناء الشخصية الإسلامية مضموناً ، من حيث العلاقة باللّه وحبه وخوفه ورجائه. الخ ، وإطاراً ، من حيث الخلق والانفتاح الاجتماعي والعطاء والجهاد في سبيل اللّه، ومعرفة أحكام الشريعة ، ومفاهيمها. ولا يركز على جانب دون آخر. وبالخصوص فأنّ التأكيد على التربية الروحية عبر الرياضات ، والأفكار ، والمجاهدات - باعتبار أنّ التعامل مع الغيب

٥١

يصعب على الإنسان أنْ يكون مستقيماً فيه من دون نهجٍ إلهي يسير عليه ، في ذلك ، بمعزل عن الجوانب الإسلامية الأُخرى من السهل أنْ ينتهي إلى الانحراف والخروج عن خطّ الإسلام السلوكي والفكري في الحياة ، كما سوف نلاحظ ذلك في النتائج التي انتهت إليها الصوفية. ( الثاني ) إنّ ( هدف ) التصوّف لم يكن بناء الإنسان العابد المطيع للّه تعالى ، الملتزم بشريعته المنزّلة منه إلى عباده هدىً ، ونوراً ، ونهجاً ، وحياة ، وإنّما كان هدفه الوصول إلى ( مذاقات الاتصال بالوجود المطلق ) و( الفناء ) في الحقيقة المطلقة ( اللّه) ، أو إدراك الحقائق إدراكاً بالعيان ، والقلب ، و( الكشف ) ، و( العرفان ) ، وغير ذلك من المعاني التي إنّ صحّت من الناحية العلمية ، ولم تكن أوهاماً ضائعة ، فهي لا تصحّ هدفاً لعمل تربوي واسع ينطلق من الإسلام وللإسلام

ونتيجة لنقطتي الضعف هاتين في الاتجاه الصوفي ، برزت انحرافات عديدة عند الكثير من أهل التصوّف على امتداد تأريخه الطويل ، وهذه الانحرافات يتنكّر بعض المتصوّفة لبعضها ، ويتنكر بعض آخر منهم لبعض آخر منها ولكننا نعتبرها نتيجة طبيعيّة لروح ومضمون الاتجاه الصوفي. ومن هنا لم يخل من بعض هذه الانحرافات حتّى التصوّف السني الذي يمثله الغزالي. وفي ( كتابه أحياء علوم الدين ) والذي يعتبر أقربها إلى الشريعة

وترجع الانحرافات التي ابتلي بها الاتجاه الصوفي إلى انحرافات في الممارسات ، وانحرافات في النتائج والأفكار ، ومن هذه الانحرافات العزلة ، وتطليق الحياة الاجتماعية وممارسة السماع والرقص ، والحزن ، وتعطيل

٥٢

أحكام الشريعة باعتباره الوصول إلى درجة ترتفع معها التكاليف والهجوم المتكرّر على العلوم الشرعية القائمة على أساس السماع لا الكشف ، والإشراق ، وإشكال الانحراف العقائدي من حلول ، وفناء ، واتحاد ، واللغة الخارجة عن حدود الأدب الشرعي مع الله تعالى ، والطابع المستعلي على الرسالة الإسلامية الذي لا يفرّق بينها ، وبين غيرها من الشرائع. إلى آخر ما هنالك مِن انحرافات سجلّها التأريخ على الاتجاه الصوفي.

ولا أظن أنّنا بحاجة إلى تفصيل الكلام في هذه الأخطاء والانحرافات والرجوع إلى تأريخ التصوّف فيها.

شجب الرسالة لإرهاصات التصوّف :

إنّ حركة التصوّف تعتمد على ميل نفسي في كيان الإنسان يؤدّي عند تنميته ، وتغذيته إلى الانحراف. وقد أدّت تراكمات كثيرة إلى ظهور حركة التصوّف في التأريخ الإسلامي ( الانحلال ) الأخلاقي في العالم الإسلامي دخول الكثيرين من غير المسلمين في الإسلام مع احتفاظهم بترسّباتهم الفكرية ، والروحية ، والفلسفة اليونانية والاتجاهات الغنوصية فيها الخ.

إلاّ أنّ كلّ ذلك لم يكن ليعطي أثره لولا أمران :

(١) - الانحراف بالميل الإنساني الفطري إلى التعامل مع الغيب واكتشاف المجهول

(٢) - سوء فهم تأكيد الإسلام على الصلة بالله والمعاني الروحية ،

٥٣

والأخلاقية الأخرى. فكان من الإنسان أنْ ( اندفع ) من خلال ميله الفطري إلى العزلة والتصوّف ، و( برز ) ذلك باسم القرآن الكريم ، والسنّة المعاصرة مع ( صياغات ) و( تأثّرات ) بالتيارات الفكريّة والدينيّة ، التي تلاقحت عندما تزاوجت الحضارات الإنسانيّة في الإسلام

وبسبب الميل الفطري ، والتأثّر غير المتوازن بتعليمات القرآن الكريم ، والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ظهرت هنا ، وهناك بوادر الاعتزال ، وتطليق الحياة الاجتماعية من أجل العبادة ، ولكن أئمّة الهدى كانوا يقفون أمام هذه الحالات ، ويحوّلون بينها ، وبين التطوّر إلى ما لا ينسجم مع خط الإسلام في الحياة

(١) - قال المفسّرون : ( جلَس رسول الله يوماً فذكّر الناس ووصف القيامة فرقّ الناس ، وبكوا ، واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، واتفقوا على أنْ يصوموا النهار ، ويقوموا الليل ، ولا يناموا على الفراش ، ولا يأكلوا اللحم ، ولا الودك ، ولا يقربوا النساء ، والطيب ، ويلبسوا المسوح ، ويرفضوا الدنيا ، ويسيحوا في الأرض ، وهمّ بعضهم أنْ يجب مذاكيره ، فبلغ ذلك رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله

فقال لهم :ألم أنبّئكم أنّكم انقطعتم على كذا وكذا ؟ قالوا بلى يا رسول الله ،صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أردنا إلاّ الخير فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّي لم آمر بذلك ) ، ثمّ قال : ( إنّ لأنفسكم عليكم حقّاً فصوموا ، وافطروا وقوموا وناموا فإنّي أقوم وأنام وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم ، والدسم ، وآتي النساء ، ومَن رغِب عن سنّتي فليس منّي )

ثمّ جمع الناس ( وهذا أمر له دلالة ) وخطبهم وقال :

٥٤

( ما بال أقوام حُرموا النساء ، والطعام ، والطيب ، والنوم وشهوات الدنيا ، أما إنّي لست آمركم أنْ تكونوا قسّيسين ورهباناً ، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم ، ولا النساء ، ولا اتخاذ الصوامع ، وأنّ سياحة أمّتي الصوم ، ورهبانيّتهم الجهاد )

( اعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئاً ، وحجّوا واعتمروا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، واستقيموا ليستقم لكم ، فإنّما هلَك مَن كان قبلكم بالتشديد ، شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع ، فأنزل الله تعالى الآية :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (٧)

(٢) - ونذكر حالة فرديّة في زمان الإمام عليعليه‌السلام وهي :

دخل أمير المؤمنينعليه‌السلام على العلاء بن زياد الحارثي في البصرة - وهو من أصحابه - يعوده ، فلمّا رأى سعة داره قالعليه‌السلام :

( ما كنت تصنع بسعة هذا الدار في

٥٥

الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة أحوج ؟ وبلى إنْ شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة )

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد ، قالعليه‌السلام : ( وما له ؟)

قال : لبس العبادة وتخلّى عن الدنيا ، قال عليعليه‌السلام : ( عليَّ به ) ، فلمّا جاء قالعليه‌السلام :

( يا عدي نفسه ، لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك ، أترى اللّه قد أحلّ لك الطيّبات ، وهو يكره أنْ تأخذها ؟ أنت أهوَن على الله من ذلك )

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك ، وجشوبة مأكلك ، قال : ( ويحك ، إنّي لست كأنت إنّ الله فرَض على أئمّة العدل أنْ يقدروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره )(٨)

وفي زمن الإمام الصادقعليه‌السلام أصبح ( الزهد ) تيّاراً لشيء من الانحراف ، وحاربه الإمامعليه‌السلام أيضا يقول أحد أصحابه كما في الرواية : ( لأقعدنّ في بيتي ، ولأصلينّ ولأصومنّ ولأعبدنّ ربّي ، فأمّا رزقي فسيأتيني

فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : ( هذا أحد الثلاثة الذين لا يُستجاب لهم )

٥٦

وسأل عن رجلٍ فقير أصابته الحاجة قال : ( فما يصنع اليوم ؟) قيل في البيت يعبد ربّه ، قال : فمن أين قوته ؟

فقيل : من عند بعض إخوانه ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : ( والله ، للذي يقوته أشدّ عبادة منه )

____________________

(٧) - مجمع البيان ج ٧ ص ٢٣٥ - ٢٣٦

(٨) - نهج البلاغة نص ٢٠٩

٢ - الاتجاه الفكري والسياسي

قد لاحظنا أنّ التصوّف يركّز بطريقته الخاصّة على التربية الروحية ، ولكن المنعزلة عن ذاتها. والمتوقّع لها أنْ تخرج باستمرار أفواجاً مِن المنحرفين عن الخطّ الإسلامي في الحياة سلوكاً ، وأفكاراً. وقد ساعد على ظهور هذا الاتّجاه كما سبق أنْ أشرنا إليه. التحلّل الأخلاقي ، وتلاقح الفلسفات ، والديانات مضافاً إلى الميل الفطري ، والنزوع الذاتي للتعامل مع الغيب وحث الإسلام على التربية الروحية ، وتطهير النفس وتحريرها

وفي المقابل أدّى التحدّي الثقافي الغربي ، وهجمة التيارات الفكرية والاجتماعية المادية على العالم الإسلامي ، وفقدان السيادة الإسلامية ، والاستعمار العسكري والاقتصادي للبلاد الإسلامية أدّى ذلك كلّه إلى ( ردّ ) فعلٍ إسلامي يؤكّد على الجوانب الفكرية ، والاجتماعية ، والاقتصادية في الإسلام ، وتنبيه المسلمين إلى صلاحية الإسلام للتطبيق والانتهاج ، وقدرته على إسعاد البشرية ، وبناء المجتمع القائد من جديد. كما فعل في الأمس. ويؤكّد أيضاً على محاربة الاستعمار ، والفكر الاستعماري ، والأدوات الاستعمارية في البلاد المسلمة

ولأنّ هذه الأهداف بالمنظور الحسّي أنّما تتحقّق ، بالتوعية الفكرية ، والعلمية على الإسلام ، وتحسيس المسلم بأوضاع المسلمين ، وتخلف العالم

٥٧

الإسلامي في كلّ الميادين

ولأنّ الغرب تحدّانا فكرياً وفي المنهج الاجتماعي وثقافتنا المعاصرة للكثير من المسلمين هي ( ردّ فعلٍ ) للتحدّي الغربي أقول : لهذا ، أكّد بعض الناس في عملهم التربوي على جانب التوعية الفكرية ، والعلمية وأهملوا التربية الروحية ، وبناء العلاقة بالله في نفوس المؤمنين بالإسلام ، والعاملين في سبيل الله والمستضعفين في الأرض.

وهذا يؤدّي عملياً إلى التورّم الفكري ، والعلمي ، وعدم التوازن في شخصية الإنسان المسلم ، وتغليب الإطار على المضمون ، والفكر على الروح.

والإنسان المسلم - كما هو الحال في المجتمع المسلم - قد يمرّ بحالات يكون فيها نشاطه العلمي ، ونشاطه العقلي ردّ فعلٍ لتيارات معادية. ولكنّه على العموم ينطلق من شخصية أصيلة ، وثقافة أصيلة ، وتاريخ أصيل. وسرعان ما يعيد النظر في أوضاعه ، ويبنيها لا على أساس ( الرد ) ، وإنّما على أساس ( الفعل ) الأصيل الذي يمليه الانتساب إلى السماء ، والارتباط المطلق بالله ، والرسالة الخالدة ذات الشخصية المتميزة بين الرسالات.

ومِن هنا كان عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً. وينشطون هوناً لا يُستثارون ، ولا يستفزون ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. كيف ؟

لأنّهم لا تبعثهم المخاطبة الجاهلية إلى الردّ. وإنّما هم ( سلام ) إلى حين تقرّر رسالتهم فيه الحرب. وهم ( سلام ) لا يثأرون لأنفسهم ولا ينتقمون لأنفسهم ، وشخصيتهم. ولا يردون على التحديات رداً تستلب فيه ذاتهم

٥٨

الرسالية ، وشخصيتهم المستقلّة.(٩)

ولمّا كان كلّ عمل. وكل تفكير. إنّما هو من إملاء الرسالة لا إملاء سواها. فعلينا باستمرار أنْ نرجع إليها ، وننطلق منها لنؤكّد بذلك نسبنا الأصيل ، وشخصيتنا الإسلامية.. وعبوديّتنا الكاملة لله تعالى. ونحن في مراجعة الرسالة كتاباً ، وسنّة ، وتاريخاً. نجد للتربية الروحيّة موقعاً أكبر. وأُركّز في طريقة العمل الإسلامي وأهدافه. ولكن في ضمن الإطار الإسلامي. والأهداف الاجتماعية للإسلام.

٣ - الاتجاه التربوي المتكامل

ويعطي هذا الاتجاه التربوي الروحي - بناء العلاقة الداخلية بالله من حيث الحب ، والإيمان ، والأخلاق ، والخوف ، والرجاء ، والزهد ، وما شاكل ذلك ، وبالوسائل المعهودة من الإسلام من الصلاة ، والصوم ، والتنفل بالعبادات ، والذكر ومخالفة الأهواء إلخ..

يعطي هذا الاتجاه التربية الروحية أهمية بالغة ؛ لأنّ الرسالة أكّدت عليها تأكيداً بالغاً ، وأعلت من شأنها وركّزت عليها ، ولكن التأكيد البالغ على التربية الروحية والإعداد الروحي لم يكن تأكيداً مستقلاًّ بهما دون الجوانب الأُخرى ، وإنّما هو ضمن الاهتمام العام بتربية وبناء الشخصية الإسلامية من جميع جهاتها. حتى يكون الإنسان المسلم مجسداً للإسلام في الفكر والروح والسلوك الشخصي والتعامل مع الناس أي متعلقاً بالله تعالى ، ومتعاملاً معه بالطريقة التي يحددها الإسلام لهذا التعامل

وبناء الشخصية الإسلامية. هو الآخر جزء من الاهتمام بالمجتمع ،

٥٩

والناس ، وعملية الإصلاح ، والتغير الاجتماعي. لأنّ الإسلام كما ينظر في أخلاقه ، وتربيته ، وأحكامه للإفراد كذلك ينظر إلى المجتمع ، والوحدات الاجتماعية التي يتألّف منها الكيان الاجتماعي

وهكذا فإنّ الذي يقوله الاتجاه الإسلامي التربوي المتكامل هو :

(١) - التأكيد البالغ على الجانب الروحي ، وتربية المضمون الداخلي المرتبط بالله تعالى. ولكن باعتبار ذلك ( جزء من كل ) هو بناء الشخصية الإسلامية بمختلف جوانبها الفكرية ، العقائدية ، الروحية ، والأخلاقية ، والاجتماعية

(٢) - أنّ بناء الشخصية الإسلامية الذي تشكّل التربية الروحية جزءاً منه هو الآخر ليس سوى (جزءٌ من كل). وهذا الكل الذي يعتبر الشخصية الإسلامية جزءاً منه هو الإصلاح الاجتماعي ، وتغير أوضاع الناس لتلتئم مع الإسلام، وتصدر عنه.

مناشئ الاهتمام بالتربية الروحية

وللاهتمام بالجانب الروحي ضمن العمل التربوي الإسلامي منشآن أساسيّان :

( الأول ) : إن الإصلاح الاجتماعي لا يتم من وجهه النظر الإسلامية السليمة ، إلاّ من خلال الإصلاح الفردي ، ولن يصلح حال الجماعة إلاّ بصلاح حال الفرد. قال الله تعالى :

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

بكاءً، كما في سورة الدخان(1) ، روى الفريقان تحقّق هذا الأمر في شهادة الحسين (عليه السلام)، مثل: ابن عساكر في تاريخه في ترجمة سيّد الشهداء (عليه السلام)، حيث ذكرَ جملة من الروايات المُسندة في ذلك عن مشاهدة الدم تحت الأحجار وفوق الحيطان وغير ذلك.

أوجهُ الاعتراض على ظاهرة البكاء والجواب عليها

نذكر بعد ذلك ما يُثار حول ظاهرة البكاء من انتقادات وإشكالات ونتعرّض للجواب عنها بالتفصيل تباعاً، فهناك عدّة نظريات وآراء مخالفة لظاهرة البكاء تعتمد على وجوه عديدة.

الوجه الأوّل: أنّ أدلة وروايات البكاء تشتمل على مضامين لا يقبلها العقل، مثل:(إنّ مَن بكى ودَمعت عيناه بقدر جَناح ذُبابة، غُفر له كلّ ذنوبه) فهذه الروايات - بتعبيرهم - مضمونها إسرائيلي، شبيه لمـَا لدى النصارى من أنّ المسيح قُتل لتُغفر ذنوب أمّته، فهذه الروايات فيها ما يشابه هذا المضمون، أنّ الحسين (عليه السلام) قُتل ليُكفّر عن ذنوب شيعته إلى يوم القيامة، فهي - بزعم هؤلاء - إغراء بالذنوب وإغراء للمعاصي، فلا يمكن العمل بهذه الروايات؛ لأنّ فيها نفس الإغراء الموجود في الفكرة المسيحيّة واليهوديّة، فحينئذٍ مضمون هذه الروايات لا يقبلها العقل ولا يصدّقها، وهو مضمون دخيل كما عبّروا، وهذا الوجه - في الحقيقة - يتألّف من أمرين:

____________________

(1) الدخان: 29.

٣٠١

الأول: ضعفُ سند هذه الروايات.

الثاني: ضعفُ المضمون؛ لاشتماله على هذا الإغراء الباطل.

الجواب: أمّا ضعفُ السند، فقد ذكرنا سابقاً أنّ كتاب بحار الأنوار يتضمّن باب ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام)، ويحتوي على خمسين رواية في فضل واستحباب البكاء، وهذه الروايات الخمسون، ممّا جَمعها صاحب البحار هي غير الروايات العشرين التي جَمعها صاحب الوسائل وغير الروايات المتناثرة التي تربو على العشرات في الأبواب الأخرى، فكيف نردّ هذه الروايات؟ وبأيّ ميزان دِرائيّ ورجالي نُشكّك بها؟ فالقول بضعف السند لهذه الروايات ناتج من ضعف الانتباه أو ضعف الحيطة العلميّة؛ لأنّه بأدنى تصفّح في المصادر المعتبرة الحديثيّة تحصل القناعة واليقين بوجود أسانيد كثيرة جدّاً، منها: الصحيح، والموثّق، والمُعتبر، فضلاً عن كونها تصل إلى حدّ الاستفاضة بل التواتر.

وأمّا المضمون، فقد طعنَ عليه غير واحد، حيث قالوا: إنّ ذِكر الثواب في البكاء على الحسين (عليه السلام)، فيه إغراء للناس لارتكاب الذنوب والاتّكاء على البكاء، ويستشهدون على ذلك: بكون كثير من العوامّ يرتكبون المعاصي ويشاركون في نفس الوقت مشاركة فعّالة في الشعائر الحسينيّة ويخدمون ويحضرون المجالس ويبكون، واتّكالاً على هذه المشاركة وتذرّعاً بهذا البكاء فإنّهم يرتكبون ما يروق لهم من المعاصي، فبالتالي يصبح مضمون هذه الشعائر باطلاً.

الجواب عن هذا الإشكال: إنّ مثل هذا المضمون موجود في موارد عديدة في الشريعة، وهي موارد مسلّمة، مثلاً:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ

٣٠٢

سَيِّئَاتِكُمْ ) (1) ، فهل هذا إغراء بالصغائر، أو:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) (2) ، هل هذا إغراء بكلّ المعاصي غير الشِّرك؟!

يُضاف إلى ذلك، روايات عديدة أخرى وردت من طرق العامّة والخاصّة في ثواب البكاء من خشية الله، منها:

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن خرجَ من عينيه مثل الذُباب من الدمع من خشية الله، آمنهُ الله يوم الفزع الأكبر) (3) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(مَن بكى على ذنبه حتّى تسيل دموعه على لحيته، حرّم الله ديباجة وجهه على النار) (4) فهل هذا إغراء لارتكاب المعاصي والذنوب؟! وكذلك ورد في ثواب الحجّ والصلاة المفترضة والصوم وغيرها من الثواب العظيم، وغفران الذنوب، بل يمكن الردّ على الإشكال في هذه الموارد بوجوه عديدة:

أوّلاً: الترغيب في نفس العمل، لا أنّه إغراء بالمنافرات والمضادّات.

ثانياً: فتح باب التوبة وعدم اليأس.

ثالثاً: إنّ البكاء من خشية الله؛ إنّما يكون من باب المقتضي للتكفير عن الصغائر أو لغفران الذنب، وليس من باب العلّة التامّة، أي أنّ هناك أموراً وشرائط أخرى لابدّ من توفّرها مع المقتضي، من قبيل: عدم الإصرار على الصغائر، والعزم والتصميم على الإقلاع عن المعصية وغير ذلك، فإذا تمّت جميع هذه المقدّمات

____________________

(1) النساء: 31.

(2) النساء: 48.

(3) روضة الواعظين (الفتال النيسابوري): 452.

(4) المصدر السابق.

٣٠٣

وتوفّر المقتضي فتحصل العلّة التامّة للتكفير أو للمغفرة، لذلك نقول: إنّ هذه الأمور هي من باب المقتضي وليست من باب العلّة التامّة.

ورابعاً: في آية( إِنْ تَجْتَنِبُوا... ) المقصود تكفير الذنوب السابقة وليس الآتية في المستقبل، والذي يرتكب الذنوب في المستقبل قد لا يوفّق إلى مثل هذا التكفير والغفران، وهذا نظير ما وردَ في باب الحج: أنّ مَن حجّ يقال له بعد رجوعه استأنفَ العمل(1)، أو أنّه يرجع كما ولدتهُ أمّه، ويُغفر لمَا سبقَ من ذنوبه، فهذا ليس إغراءً بالجهل وبالذنوب، بل المقصود: أنّ هذه مقتضيات، لا أنّها تُحدّد المصير النهائي والعاقبة النهائيّة.

وقد ورد في مضمون بعض الروايات: مَن مات على الولاية، يَشفع ويُشفّع(2)، لكن مَن يضمن أنّه يموت على الولاية إذا كان يرتكب الذنوب والكبائر، فليست ولاية أهل البيت مُغرية للوقوع في الذنوب والمعاصي.

إذ إنّ ارتكاب المعاصي يُسبّب فقدان أغلى جوهرة وأعظم حبل للنجاة، وهو العقيدة، ويؤدّي إلى ضياع الإيمان، حيث قال تعإلى:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ

____________________

(1) بحار الأنوار 99: 315 / 6؛ وكذلك في تفسير القمّي 1: 70؛ واللفظ للأخير: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:(إنّ العبد المؤمن حين يخرج من بيته حاجّاً، لا يخطو خطوة ولا تخطو به راحلته إلاّ كُتب له بها حسنة، ومُحيَ عنه سيّئة، ورُفع له بها درجة، فإذا وقفَ بعرفات فلو كانت له ذنوب عدد الثرى رجعَ كما ولدتهُ أُمّه، فقال له: استأنِف العمل..) .

(2) ورد في بحار الأنوار 8: 30 عدّة روايات بهذا المضمون منها: عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :(إنّي أشفعُ يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليّ فيُشفّع، ويشفع أهل بيتي فيُشفّعون، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفَع في أربعين من إخوانه كلّ قد استوجبوا النار) .

٣٠٤

أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (1) ، حيث إنّ مجموع الدين يُعتبر كتلة واحدة، ولا ننظر إلى الدين من جهة دون أخرى، وإذا كان تمام الأدلّة الدينيّة يشير إلى أنّ ارتكاب المعاصي والإصرار عليها يؤدّي إلى فقدان الإيمان والمآل إلى سوء العاقبة - والعياذ بالله - فليس فيها جانب إغراء، بل فيها إشارة إلى جهة معيّنة، وهي: أنّها تُخلّص الإنسان وتنقذه من حضيض المعاصي والرذائل، وتعرج به إلى سموّ الفضائل وجادّة الصواب والصراط المستقيم.

فإنّ التفاعل العاطفي مع أحداث عاشوراء ليس يُنفّر من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) فقط، بل هو أيضاً ينفّر من السلوكيّات المنحرفة المبتلى بها، وتتولّد في أعماق الشخص المتأثّر حالة تأنيب الضمير لذلك، فهو يُجسّد في نفسه الصراع والجهاد، فإذا عَرضت له أشكال من المعصية كأنّما يتحرّك عنده هاجس الحرارة الحسينيّة، وينشأ في روحه جانب تأنيب الضمير، فهذا نوع من الانجذاب القلبي والعزم الإرادي نحو الصراط المستقيم.

وليس مفاد الروايات: أنّ مَن بكى على الحسين فلهُ الضمان في حسن العاقبة، وله النتيجة النهائيّة في الصلاح والفلاح، ليس مفادها ذلك؛ إنّما مفاد الروايات: مَن بكى على الحسين غُفرت له ذنوبه، مثل أثر فريضة الحجّ، وغفران الذنوب مشروط - كما يقال - بالموافاة، والموافاة: اصطلاح كلامي وروائي، أي أن يوافي الإنسان خاتمة أجره بحُسن العاقبة، وإلاّ فمعَ سوء العاقبة - والعياذ بالله - ترجع عليه السيئات وتُحبط الحسنات ولا تُكتب له.

____________________

(1) الروم: 10.

٣٠٥

فليس في منطق هذه الروايات إغراء بالمعاصي، وليست هي كعقيدة النصارى بأنّ المسيح قد قُتل ليُغفر للنصارى جميعاً، حتّى وإن عملوا المعاصي والكبائر وأنواع الظلم والعدوان، ولا كعقيدة اليهود الذين قالوا إنّ عزيراً أو غيره له هذه القابليّة على محو المعاصي والكبائر عن قومه.

وإلاّ لأُشكلَ علينا أنّ قرآننا توجد فيه إسرائيليّات، فمنطق الآية:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ...) يختلف عن ذاك المنطق الذي ينادي به النصارى، أولئك يقولون: نعمل ما نشاء والعاقبة ستُختم لنا بالحسنى، فأين هذا عن المعنى الذي نحن بصدده؟

مضمون أن يُغفر له ولو كان كزبد البحر، مخالفٌ غير ذلك المعنى أصلاً، بل فيه نوع من إدانة المذنبين، إضافةً إلى فتح باب الأمل وعدم القنوط وعدم اليأس، بل الأمل بروح الله أن ينجذب الإنسان إلى الصراط المستقيم وجانب الطاعات، ولا يقع في طريق المعاصي ويتخبّط في الذنوب.

الوجهُ الثاني: سلّمنا بكون هذه الروايات المشتملة على البكاء تامّة سنداً ومتناً ومضموناً، لكن مضمونها غير أبدي، وليس بدائم، مضمونها هو الحثّ على البكاء في فترة الأئمّة (عليهم السلام)، وهي فترة وحقبة التقيّة، حيث كان الأسلوب الوحيد لإبراز المعارضة والاستنكار للظلم وإبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام) هو البكاء، أمّا في يومنا هذا، فالشيعة - ولله الحمد - يعيشون في جوّ من الحريّة النسبيّة، فليست هذه الوسيلة صحيحة.

كان الهدف من تشريع هذه الوسيلة والحثّ عليها هو: حصول غرض معيّن، وهو إبراز التضامن مع أهل البيت (عليهم السلام)، أو التولّي لأهل البيت، وإظهار الاستنكار

٣٠٦

والتبرّي من أعدائهم والمعارضة لخطّهم، باعتبار أنّ الظرف كان ظرف تقيّة، كانت الأفواه مكمّمة، وكانت النفوس في معرض الخطر من الظالم، فقد يكون البكاء هو الأسلوب الوحيد آنذاك، أمّا في أيّامنا هذه - وقد زال الخوف - فهذا ليس بالأسلوب الصحيح.

أمّا الآن فقد انتفت الغاية منها، فتكون أشبه بالقضيّة الخارجيّة الظرفيّة، لا القضيّة الحقيقيّة العامّة الدائمة.

الجواب: فنقول: أمّا كونه أحد الغايات للبكاء فتام، لكن ليس هو تمام غاية البكاء، بل هو أحد الغايات والسُبل لإظهار الظلامة، هذا أوّلاً، وثانياً: ما الموجب لكون هذه الغاية غير قابلة للتحقّق، بل هي مستمرة قابلة للتحقّق؛ لأنّ البكاء نوع من السلوك التربوي لإثارة وجدان أبناء الفِرق الأخرى من المسلمين ومن غير المسلمين، وإلاّ لو حاولت - إظهار النفرة لظالمي أهل البيت والتبرّي من أعداء الدين الذين قادوا التحريف والانحراف في الأمّة الإسلاميّة - بمجرد كلمات فكريّة أو إدراكيّة يكون الأسلوب غير ناجح وغير نافع، وقد يُسبِّب ردّة فعل سلبيّة عندهم، أمّا أسلوب العاطفة الصادقة فهو أكثر إثارة، وأنجح علاجاً لهداية الآخرين، لمَا مرّ من أنّ الطبيعة الإنسانيّة مركّبة من نَمطين جِبلييّن: نَظري إدراكي، وعَملي انفعالي.

والغاية ليست منحصرة في ذلك، بل هناك عِلل كثيرة - كما سنقرأ من الروايات في ختام بحث البكاء - وحصر علّة البكاء بهذه العلّة غير صحيح.

اعتراض: أمّا ما يقال: بأنّ الحسين (عليه السلام) قد منعَ الفواطم أو العقائل من شقّ الجيوب، وخَمش الوجوه، ونهاهنّ عن البكاء، فهذا النهي في الواقع مُغيّى

٣٠٧

ومُعلّل، عندما أخبرَ الحسين (عليه السلام) زينب العقيلة (عليها السلام) بأنّه راحل عن قريب، لطمَت وجهها وصاحت وبكت، فقال لها الحسين (عليه السلام):(مَهلاً لا تُشمِتي القوم بنا) (1) .

حذّرها شماتة الأعداء قبل انتهاء الحرب وقبل حلول الفادحة والمصيبة العظمى؛ لأنّه يُسبّب نوعاً من الضعف النفسي في معسكر الحسين (عليه السلام)، أمّا إخماد الجزع بعد شهادته (عليه السلام)، أو إخماد الوَلولة وكَبت شِدّة الحُزن فهي نوع من إخماد وإسكات لصوت نهضة الحسين (عليه السلام)، وحدٌّ من وصول ظلامته إلى أسماع العالَم بأسره، وكلّ مستقرئ يرى أنّ الذي أوصلَ صوت الحسين (عليه السلام) إلى العالَم، وأنجحَ نهضته إلى اليوم وإلى يوم القيامة هم السبايا ومواقف العقيلة (عليها السلام) وخطبها، وخُطب السجّاد (عليه السلام) في المواضع المختلفة من مشاهد السبي لأهل البيت (عليهم السلام)(2) .

والسرّ واضح؛ لأنّه حينما تكون حالة هياج وحالة احتراق للخيام وتشرّد وهيام الأطفال واليتامى، فالظرف هنا ليس ظرف جزع ولا ظرف إظهار الندبة، بل هو ظرف حزم الأمور وقوّة الجَنان، ومحاولة الإبقاء على البقيّة الباقية من أهل البيت (عليهم السلام).

____________________

(1) اللهوف في قتلى الطفوف (السيّد ابن طاووس): 55؛ بحار الأنوار 44: 391 / 2.

(2) وهناك نهي آخر عن الحسين لسكينة بالخصوص مُغيّى أيضاً بقتله، كما يظهر من الأبيات المنسوبة له (عليه السلام) حين توديع ابنته سكينة:

سيطولُ بعدي يا سُكينة فاعلَمي منكِ البكاء إذا الحِمام دَهاني

لا تُحرقي قلبي بدمعك حسرةً مادام مني الروح في جثماني

وإذا قُتلتُ فأنتِ أولى بالذي تأتينهُ يا خيرة النِسوان

مناقب آل أبي طالب (ابن شهر آشوب) 3: 257.

٣٠٨

الجواب: ليس من المعقول أن تبدو في الإنسان ظاهرة عاطفيّة انفعاليّة من دون أن تكون وليدة لإدراك معيّن، ولا ناشئة عن فهم معلومة ما.

وأصلاً؛ فإنّ التفكيك بين الانفعال والتأثّر العاطفي من جهة، وبين الإحساس والإدراك لأمرٍ ما من جهةٍ أخرى غير ممكن، بل البكاء - كما بيّنا فيما سبق موضوعاً وحكماً، سواءً بالحكم العقلي أو النقلي - هو نوع من الإخبات للمعلومة الحقيقيّة، وشدّة التأثّر بها، وشدّة الإذعان والمتابعة لها، فلو أنّ الإنسان ذكرَ معلومة من المعلومات الحقيقيّة المؤلمة ولم يتأثّر بها، فهذا يعني أنّه لم يشتدّ إذعانه لها، ولم يُرتّب عليها آثار المعلومة الحقيقيّة، بخلاف ما لو تأثّر بها بأيّ نوع من التأثّر، فهذا يدلّ على شدّة إيقانه بتلك الحقيقة.

ومن غير الممكن أن توجد ظاهر البكاء في الجناح العملي في النفس وكفعل نفساني، من دون أن يكون هناك إدراك ما، فكيف إذا كان إدراك حرمان ذروة التكامل في المعصوم، وشدّة الحسرة على فقدان تلك الكمالات البشريّة، ومن ثَمّ شدّة التلهّف للاقتداء والانجذاب إلى ذلك الكمال والمثل الأعلى، فسوف يتأثّر الإنسان بشدّة وينفعل بدرجة عالية، هذا أدنى ما يمكن أن يتصوّر.

وهذا التفاعل: إنّما هو انجذاب النفس إلى الكمالات الموجودة المطويّة في شخصيّة المعصوم؛ وإنّما التأثّر به والقرب منه يُعدّ من أسمى الفضائل، ويُعتبر نفرة عن الرذائل.

فالفضائل كلّها مجتمعة في الذات المطهّرة لسيّد الشهداء (عليه السلام)، والبراءة من أعدائه ومناوئيه تُعتبر نفرة من الرذائل والآثام المجتمعة في أعداء أهل البيت (عليهم السلام).

٣٠٩

وهذه أقلّ حصيلة يمكن أن تُتصوّر في البكاء، حيث إنّ أدنى مرتبة من مراتب مجلس الرثاء والتعزية هي نفس هذا المقدار أيضاً، وهو في الواقع أمر عظيم ينبغي عدم الاستهانة به، حيث يولِّد الانجذاب نحو الفضائل، والنفرة والارتداع عن الرذائل، وهل المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير هذا؟ وهل الغاية في نشر الدين وتبليغ الرسالة إلاّ انتشال الفرد من مستنقع الرذائل والصعود به إلى سموّ الفضائل.

هذا أدنى حصيلة عمليّة تنشأ من البكاء، فهو نوع من المجاوبة والتفاعل لا الجمود والخمول، ولا الحياديّة السلبيّة.

فربّما يواجه الإنسان فضيلةً وتُعرض عليه رذيلةً، فيظلّ مرتاباً متردّداً، ومتربّصاً في نفسه لا يحسم الموقف:( وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ) (1) ، فيضلّ يعيش فترة حياديّة مع نفسه، لا هو ينجذب للفضائل، ولا يتأثّر بالرذائل، يعني تسيطر على نفسه حالة تربّص، وهذه حالة التربّص قد ذمّها القرآن الكريم، وهي مرغوب عنها في علم الأخلاق وعلم السير والسلوك؛ لأنّ نفس التوقّف هو تسافل ودركات، أمّا الانجذاب نحو الفضائل فيُعتبر نوعاً من التفاعل السليم.

فالبكاء يعني التأثّر والانجذاب والإقرار والإذعان، وبالتالي التبعيّة.

بخلاف ما لو لم يبكِ الإنسان ولم يتفاعل، بل يكون موقفه التفرّج والحياديّة، وشتّان بين الحالتين!

أضف إلى ذلك: أنّ في البكاء نوعاً من التولّي، حيث إنّ البكاء يدلّ على

____________________

(1) الحديد: 14.

٣١٠

فإذاً، ظرف المرحلة بخصوصها هي جنبة ضبط وتدبير وحزم، وليس من الصحيح إظهار المآتم والعزاء في ذلك الظرف، فمن ثَمّ فإنّ أمره (عليه السلام) مختصّ بذلك الظرف، وهو نوع من التدبير والحكمة منه (عليه السلام)، ولابدّ من لمّ الشَمل وجمع الشِتات للأرامل واليتامى، وإنّ ذلك الظرف ليس ظرف بكاء ورثاء ولا محل لإظهار المصيبة.

خلاصة القول: في مقام الإجابة على الانتقادات والاعتراضات السابقة: أنّ ما ذُكر في العلوم التخصصيّة في حقيقة البكاء من جهة البحث الموضوعي، هو أنّ هناك شرطان لرجحان البكاء هما: أن يكون البكاء وليداً لمعلومة ولإدراك حقيقي، وأن يكون لغاية حقيقيّة وهادفة إيجابيّة، فيكون من سنخ الانفعالات الكماليّة الممدوحة للنفس بلا ريب، وهو كذلك ممدوح في لغة القرآن ولغة النصوص الشرعيّة، وخَلصنا إلى أنّ البكاء هو نوع من التفاعل الجدّي والفعلي مع الحقيقة.

وبعبارةٍ أخرى: أنّ إعطاء السامع، أو القارئ، أو المُشاهد، أو المُوالي فكرة إدراكيّة بحتة غير مثمر بمفرده، وإنّ البكاء بمنزلة إمضاء مُحرّك للسير على تلك الفكرة، أو ما يعبّر عنه: بحصول إرادة جدّيّة عازمة فعليّة للمعنى.

فالبكاء إذا ولّدَ حضور الفكرة، العِبرة إذا تعقّبت العَبرة حينئذٍ يكون نوع من التفاعل الشديد والإيمان الأكيد بالفكرة والعِبرة.

ويُعتبر ذلك نوعاً من التسجيل المؤكَّد لتفاعل الباكي وإيمانه واختياره لمسيرة تلك العِبرة.

الوجهُ الثالث: الذي يُذكر للنقض على البكاء: أن لو سلّمنا أنّنا قَبلنا بأمر البكاء في الجملة، ولكنّ استمرار البكاء على نحو سنوي، أو راتب شهري، أو

٣١١

أسبوعي بشكلٍ دائم يولِّد حالة وانطباعاً عن الشيعة والموالين لأهل البيت (عليهم السلام)، بأنّ هؤلاء أصحاب أحقاد وضغون، وإنّهم يحملون العُقد، واستمرارهم بالبكاء واجترارهم له يدلّ على أنّهم عَديمي الأمل فهذه ظاهرة سلبيّة انهزاميّة تكشف عن عُقد روحيّة، وكبت نفسي دَفين، فبدل أن يَقدموا على أعمال وبرامج ومراحل لبناء مذهبهم ولبناء أنفسهم ليخرجوا من حالة المظلوميّة إلى حالة قيادة أنفسهم والغلبة على مَن ظلمهم، فإنّهم يبقون على حالة الانتكاس والتراجع، وهذه الحالة يمكن أن نسمّيها الحالة الروحيّة الشاذّة، هي حالة توجِد خَللاً في الاتّزان الروحي (كما في علم النفس وعلم الاجتماع)، فالبكاء حيث إنّه في علم النفس ليس بحالة اتّزان روحي؛ وإنّما حالة اختلال فكري لا نستطيع معهما أن نهتدي السبيل، بل نحن عديمو الأمل، لدينا حالة كبت، وهذه الأوصاف هي أوصاف مَرضيّة وليست أوصاف روحيّة سليمة.

فحينئذٍ يكون الإبقاء على مثل هذه الظاهرة إبقاءً على حالة مرضيّة بإجماع العلوم الإنسانيّة التجريبيّة الحديثة، ولمّا كانت هذه الظاهرة المرضيّة تتشعّب إلى أمراض روحيّة أو فكريّة أو نفسيّة عديدة، فمن اللازم الابتعاد عنها ونبذها جانباً.

فملخّص الاعتراض في هذا الوجه الثالث: هو كون البكاء عبارة عن مجموعة من العُقد النفسيّة، وهو يوجِب انعكاس حالة مرضيّة روحيّة لأفراد المذهب وأبناء الطائفة.

الجواب: فنقول: على ضوء ما ذكرنا سابقاً من كلمات علماء النفس

٣١٢

والاجتماع والفلسفة: بأنّ الفطرة الإنسانيّة السليمة التي هي باقية على حالها لابدّ لها من التأثّر والتفاعل، أمّا التي لا تتأثّر بالأمور المحرِّكة للعاطفة تكون ممسوخة، إذ فيها جناح واحد فقط وهو جناح الإدراك، أمّا جناح العمل فإنّه مُنعدم فيها، كما هو الفرق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة.

فعلى عكس زعم المُعترض، تكون هذه حالة صحيحة وسليمة وليست حالة مرضيّة، ولا حالة عُقد، بل ذكرنا أنّ العُقد إنّما تجتمع فيمن لا يكون له متنفّس للانفعال، يعني أنّ الذي لا ينفعل، والذي لا يظهر انفعاله إزاء المعلومات الحقيقيّة التي تصيبه والذي يكبت ردود الفعل الطبيعيّة للحوادث سوف تتكدّس عنده الصدَمات إلى أن تصبح عُقد وتناقضات، وإلى أن تنفجر يوماً ما، وربّما تظهر لديه حالات شاذّة من قبيل: سوء الظن بالآخرين، أو اتّخاذ موقف العَداء لجميع مَن حوله.

والشخصيّات المعروفة في المجتمعات البشريّة - بعد استقراء أحوالهم وأطوارهم - نجدها تتمتّع بهذه الصفة الأساسيّة في النفس، فالذي لا يُبدي العواطف الإنسانيّة الصادقة، ولا تظهر أشكالها عليه، سوف يجتمع في خفايا نفسه ركام من الحقد وأكوام من العُقد، حيث إنّ الإنسان لا يخلو من جانب العاطفة، والاستجابة للعاطفة أمرٌ ثابت ناشئ ومتولّد عن الظاهرة العمليّة والوجدانيّة والضميريّة من الإدراك الحقيقي.

فإذا لم تحصل هذه الاستجابة فلابدّ من وجود اختلال في توازن الإنسان.

لذلك نجد أنّ المنطق القرآني والإرشادات من السنّة النبويّة الشريفة والسيرة العلويّة الكريمة، كلّها تُقرّر هذه الموازنة والتعادل بين جميع قوى النفس دون أن

٣١٣

يتمّ ترجيح جانبٍ للنفس دون جانب آخر.

فإذاً، المنطق المتعادل والمتوازن هو كون نفس الإنسان في حالة من التجاذب والتأثير والتأثّر بين أجنحتها المختلفة.

الوجهُ الرابع: أنّ البكاء ظاهرة تُنافي الصبر المرغوب فيه، ولا تنسجم مع الاستعانة بالله عزّ وجل، كما في سورة البقرة( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (1) فالبكاء منافٍ للصبر والتحمّل ومُناقض للاستعانة بالله سبحانه.

الجواب: أمّا الجواب لمَا قيل من وجوب الصبر والتحمّل عند نزول المصيبة كما في الآية الشريفة:( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( 156 ) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (2) .

فنقول: كيف يتّفق هذا مع بكاء يعقوب على يوسف حتّى ابيضّت عيناه، هل هذا خلاف الصبر؟ أو بكاء السجّاد على أبيه سيّد الشهداء (عليه السلام) والأوامر التي بَلغت حدّ التواتر، الواردة في ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام) إلى ظهور المهدي (عجّل الله فرجه) بل في بعضها إلى يوم القيامة.

فهل يتنافى ذلك كلّه مع الصبر؟ كلاّ.

وقد وردَ عن الصادق (عليه السلام):(إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام)؛ فإنّه فيه مأجور) (3) ، هذا ليس استثناءً

____________________

(1) البقرة: 156 - 157.

(2) البقرة: 156 - 157.

(3) بحار الأنوار 44: 291 / 32. راجع روايات الجزع ص: 312 من هذا الكتاب.

٣١٤

متّصلاً، بل هو استثناء منقطع؛ لأنّ الجزع نوع اعتراض على تقدير الله ويُعتبر حالة من الانهيار والتذمّر والانكسار، أمّا في الجزع على الحسين فليس اعتراضاً على قضاء الله وقدره، بل هو - بالعكس - نوع من الاعتراض على ما فعله أعداء الله، ولا يُعدّ انهياراً أو انكساراً، بل هو ذروة الإرادة للتخلّق والاتّصاف بالفضائل، وشَحذ الهِمم للانتقام من الظالمين، والاستعداد لنصرة أئمّة الدين والتهيئة لظهور الإمام الحجّة المنتظر (عجّل الله فرجه).

فقد يقال: أليس الحالة التي يندب إليها الشرع والقرآن عند المصيبة هي الصبر وقول:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ، فلا موضع للبكاء، بل البكاء يخالف الخُلق القرآني والتوصية الشرعيّة في ذلك، ونرى أنّ القرآن حين يستعرض لنا بأنّ الصبر هو الموقف الإيجابي عند البلاء والمصيبة، وفي نفس الوقت يستعرض لنا القرآن أمثولة نموذجيّة وهي: نبيّ الله يعقوب، يستعرض فعله بمديح وثناء لا انتقاصَ فيه، مضافاً إلى ما وردَ عن الصادق (عليه السلام).

ينحلّ هذا التضاد البدوي بأدنى تأمّل؛ وذلك بالبحث عن سبب كراهة الجزع، أو عن سبب إيجابيّة الصبر في المصائب، باعتبار أنّ الجزع مردّه إلى كراهة قضاء الله وقدره، ومآله إلى الانهيار أو الانكسار مثلاً، ولا ريبَ هذا أمر سلبيّ وغير إيجابي؛ لأنّه من الضعف وعدم الصمود والطيش، وعدم رباطة الجأش، وعدم الرضا بقضاء الله سبحانه وتعإلى وقدره، أو مردّه إلى الاعتراض على الله - والعياذ بالله - أو كراهة ما قضى الله سبحانه، ولذلك لو كان الصبر في موضع آخر لمَا كان الصبر ممدوحاً، مثلاً: صبر المسلمين مقابل كيد الكافرين ليس موضع صبر؛ لأنّ اللازم عليهم الردّ وحفظ عزّتهم لو كان لهم عدد وعدّة ومع

٣١٥

توفّر الشروط الموضوعيّة للقتال، كما في تعبير الآيات القرآنية مثل:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) (1) .

فالصبر ثمّة ليس في محلّه، ومثله تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة:(رَوّوا السيوف من الدماء، تَرووا من الماء) (2) ، و(ما غُزي قومٌ في عُقر دارهم إلاّ ذلّوا) (3) ، فيتبيّن أنّ الصبر ليس راجحاً في كلّ مورد، بل الصبر بلحاظ ظرفه وجهته يكون ممدوحاً أو حسناً، وإلاّ قد يكون خلاف ذلك، فمن ثَمّ قد يكون إيجابيّاً و سلبيّاً فلابدّ أن يُقسّم الصبر إلى: مذموم، ومحمود.

ومثلُ ما في قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي (عليه السلام):(أبشِر فإنّ الشهادة من وراءك، فكيف صبرك إذاً، فقلتُ: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر..) (4) .

أي هذا موضع إبراز الشكر لله، لا موضع السكوت والتحمّل والصبر، نعم، هو مقابل اصطدام البليّة يكون صبراً، أمّا في مقابل تقدير الله، ليس عليك فقط أن تصبر، بل عليك الشكر والرضا بقضائه وقدره.

فالصبر درجة، أمّا الشكر لله سبحانه والرضا بقضائه وقدره فهو أرقى وأسمى.

الصبر وتحمّل المصيبة يمثّل درجة، أمّا الإحساس بعذوبة تقديره سبحانه

____________________

(1) البقرة: 193.

(2) نهج البلاغة 3: 244.

(3) نهج البلاغة 2: 74.

(4) شرح نهج البلاغة 9: 305.

٣١٦

وبحلاوة قضائه فيجسّد درجة أرقى، فتكون مورداً للرضا وللشكر، وهذه الحالة لا تُنافي الصبر بل تزيد عليه فضيلة، كذلك في موارد التشوّق إلى ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث وردَ على لسان الأئمّة (عليهم السلام) أنّهم يَعدّون خسران وفقدان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مصيبة عُظمى، وتعبيرهم (عليهم السلام):(لم يُصب أحد فيما يُصاب، كما يُصاب بفقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة، فهي أعظم مصيبة) .

إذا كان الصبر معناه الحمد لله سبحانه على قضائه وقدره، فهذا صحيح وفي محلّه، لكن ليس معنى ذلك استلزامه عدم إبراز الأحاسيس، وعدم حصول التشوّق والعاطفة الصادقة التي هي وليدة الانجذاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ههنا عدم إظهار ذلك غير محمود، الإظهار هو نوع من الفضيلة زائدة على الصبر، لا أنّ هذا الإظهار ينافي الصبر.

وفي مصحّحة معاوية بن وهب:(كلّ الجَزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام)) (1) .

وفي رواية علي بن أبي حمزة:(إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جَزع، ما خلا البكاء على الحسين بن عليّ (عليه السلام) فإنّه فيه مأجور) (2) .

وفي صحيح معاوية بن وهب الآخر، المروي بعدّة طُرق عن أبي عبد الله (عليه السلام):(وارحَم تلك الأعين التي جَرت دموعها رحمةً لنا، وارحَم تلك

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 505 أبواب المزار - باب 66 استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت (عليهم السلام).

(2) وسائل الشيعة 14: 507 أبواب المزار باب 66، ح13.

٣١٧

القلوب التي جَزعت واحترَقت لنا، وارحَم الصرخة التي كانت لنا) (1) .

الجَزع: بمعنى الانكسار، ولكنّه هنا ليس انكساراً، وليس بجزع بحقيقته، نعم، جزع من ظلم الأعداء وجزع من رذائل الأداء، وهذا جزع محمود وليس جزعاً مذموماً، باعتبار أنّه نوع من التشوّق الشديد لسيّد الشهداء (عليه السلام)، كما رواه الشيخ في أماليه بسنده عن عائشة، قالت: لمّا مات إبراهيم بكى النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى جَرت دموعه على لحيته، فقيل: يا رسول الله، تنهى عن البكاء وأنت تبكي؟!

فقال:(ليس هذا بكاء؛ وإنّما هذه رحمة، ومَن لا يَرحم لا يُرحم) (2) .

والسرّ في ذلك: هو أنّ أيّ فضيلة من الفضائل التي هي مربوطة بالخلق الإلهي، أو بالآداب الإلهيّة، أو بكلمات الله، كنماذج مجسّمة في المعصومين (عليهم السلام)، فعدم التفاعل الشديد معها ومع هذا الخلق ومع تلك الآداب، يُعتبر أمراً غير محمود بل مذموماً، فلابدّ من الانجذاب والتولّي والمتابعة والمودّة لهم، وهذا التشوّق ليس بالمذموم بل محمود وحسن، ليس هو من الجزع المذموم، والتشكّي ليس فيه اعتراض على الله، بل هو اعتراض واستنكار على الظلم والظالمين ونبذ للرذيلة وأصحابها، كما في جواب العقيلة (عليها السلام) حينما دخلت في الكوفة إلى مجلس عبيد الله بن زياد، وتوجّه إليها وقال: كيف رأيتِ صُنعَ الله بكِ وبأهل بيتكِ، قالت: (ما رأيتُ إلاّ جميلاً)(3) .

في حين أنّها تُبدي استنكارها من عُظم الفجيعة، وقد أحاطتها هالة من

____________________

(1) وسائل الشيعة 14: 412 أبواب المزار باب 37، ح7.

(2) وسائل الشيعة 3: 282 أبواب الدفن باب 88، ح 8.

(3) بحار الأنوار: 45: 116.

٣١٨

الحُزن والأسى.

الوجهُ الخامس: أنّ التمادي في الشعائر الحسينيّة، وفي البكاء يسبِّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر والتريّث والاقتباس من المُعطيات السامية لنهضته (عليه الصلاة والسلام)، والحالة العاطفيّة ليست حالة عقلائيّة، بل هي حالة هيجان واضطراب نفسي، وهذا خلاف ما هو الغاية والغرض من الشعائر الحسينيّة، حيث إنّ الغاية والغرض والهدف منها هو: الاتّعاظ والاعتبار من المواقف النبيلة في نهضته (عليه السلام)، والاقتباس من أنوار سيرته، وليس حصول حالة هيجان عاطفي وحماسي فقط من دون تدبّر ورَويّة.

فإذاً، سوف تطغى الحالة العاطفيّة على الحالة العقلائيّة، والحال أنّ المطلوب من الشعائر: هو التذكير بالمعاني الدينيّة والمبادئ الدينيّة، وأخذ العِبر والعِظات التي ضحّى سيّد الشهداء (عليه السلام) من أجلها، وحالة البكاء والهيجان خلاف ذلك، فبدلَ استلهام الدروس والعِبر تُستبدل بحالة عاطفيّة!

وربّما ترجع هذه الإشكالات بعضها إلى البعض الآخر، وإن اختلفت عناوينها.

وبعبارةٍ أخرى: أنّ التمادي في البكاء يُسبّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر، فالبكاء ليس فيه تفاعل إيجابي مع أغراض وغايات الشعائر الحسينيّة، وإنّه نوع من إخلاء الشعائر الحسينيّة عن محتواها وتفريغها عن مضمونها.

فالبكاء: صِرف تأثّر عاطفي من دون إدراك مضامين النهضة الحسينيّة، أو من دون إدراك أغراض وغايات وأهداف النهضة الحسينيّة.

٣١٩

الحبّ، وهل التولّي إلاّ الحبّ؟ وهل هناك مصداق للحبّ أوضح وأصدق من البكاء على مصابهم؟ والحُزن لحزنهم؟ والنفرة من أعدائهم؟ وبعبارةٍ أخرى: لو لم يكن للبكاء إلاّ هذا القدر من الفائدة لكفى، فهو نوع من المحافظة على جذور وأسس رُكني العقيدة المقدّسة الشريفة، ألا وهما التولّي لأولياء الله سبحانه والتبرّي من أعدائه وأعدائهم.

نعم، لابدّ فيه من إعطاء حقّ جانب الإدراك، مثل: لابُدّية إعطاء جانب العاطفة حقّها، دون أن يطغى أحد الجانبين على الآخر، كما يظهر من الروايات أنّ هناك دعوة إلى البكاء، كذلك هناك ورايات للتدبّر والتأسي بأفعالهم (عليهم السلام) والاقتداء بسيرتهم:(... ألا وإنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه...) (1) ، هذا ضمن مضامين متواترة من الآيات والروايات، التي لا يتمّ الاقتداء والتأسّي إلاّ بعد استخلاص العِبر وتحليلها والتدبّر بها.

ومع ذلك، فإنّ البكاء بأيّ درجة كان وبأيّ شكل حصل - سواء في نثر، أو شعر، أو خطابة - لا يمكن فرضه إلاّ مع فرض تقارنه مع معلومة معيّنة ينطوي ضمنها، فهو يمتزج بنحو الإجمال مع تلك الحقائق الإدراكيّة، ولا يمكن فرض البكاء من دون حصول العِظة والعِبرة ولو بنحو الإجمال؛ لأنّنا نفرض أنّ الحالة العاطفيّة هي دوماً معلولة لجانب إدراكي.

الوجهُ السادس: البكاء في الواقع يُستخدم كسلاح ضدّ النفس، والحال أنّ ما يمتلكه الإنسان من طاقة مملوءة ومخزونة يجب أن يوجّهها ضدّ العدو، أو يوظّفها في الإثارة نحو السلوك العملي والبرنامج التطبيقي، بينما هذه الشحنة التي امتلأ

____________________

(1) شرح نهج البلاغة 16: 205.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326