نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي0%

نظرات حول الإعداد الروحي مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 326

نظرات حول الإعداد الروحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
تصنيف: الصفحات: 326
المشاهدات: 101084
تحميل: 6801

توضيحات:

نظرات حول الإعداد الروحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101084 / تحميل: 6801
الحجم الحجم الحجم
نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )

وهكذا فأنّ بناء المجتمع الإسلامي عملية لا تحدث إلاّ مِن خلال نمو كمي وكيفي. في الأفراد المؤمنين العابدين لله أي في الشخصية الإسلامية فان الشخصية الإسلامية من خلال تكاثرها وحدوث بعض المتغيرات الاجتماعيّة ، تتجسّد بشكل مجتمع إسلامي

ولكن ما هي هذه الشخصية الإسلاميّة التي يبشر بروزها كظاهرة اجتماعية بالمجتمع الإسلامي ؟

هل هي الشخصية التي ( تفهم ) الإسلام وتتحسّس بآلام المسلمين ؟ ! أم هي الشخصيّة المنعزلة التي تتعبّد في زوايا المساجد معزولة عن الناس ؟ أم هي الشخصية العالمة المتفقّهة والمستوعبة للتاريخ ؟ أم هي الشخصية الخلوقة ، التي يشير لها الناس بالخُلق الحسن ، وطيب المعاملة ، ولين العريكة ؟ !

الشخصية الإسلاميّة كلّ هذا. وليست شيئاً من هذا. الشخصية الإسلامية هي التي تفهم الإسلام وتعيه وتتحسّس آلام المسلمين هذا صحيح لأنّ ( مَن لم يتفقّه في دين اللّه لم يَنظر الله إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً )(١٠)

ولأنّ

٦١

( مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم ) (١١)

الشخصية الإسلامية كثيرة العبادة كثيرة التهجّد تعتزل الناس أياما لأداء حق الله. ثمّ. تعود هذا صحيح أيضاً. وصحيح أيضاً أنّه حسن الخلق مِن أهمّ سمات المؤمن لأنّ ( أكمل الناس أيماناً أحسنهم خُلقاً )

كما ورد عن أبي جعفرعليه‌السلام (١٢)

صحيح هذا كلّه وصحيح أنّ الإنسان المسلم إنسانٌ محسنٌ معطاء ، أنفع الناس للناس وأنفع الناس للرسالة. إلا أنّ كل هذا مِن العلم ، والخلق والعطاء ، والعبادة الخارجية إنّما هو (إطار) الشخصية الإسلامية. وللشخصية الإسلامية ( مضمون ) كما لها إطار و( محتوى ) كما لها شكل.

ومضمون الشخصية الإسلامية. هي العلاقة بالله ، والتعلّق القلبي به إيماناً، وحباً ، ورجاءً ، وركوناً ، وإخلاصاً. هو التحرّر الداخلي من أسر الشهوات ، والعبودية الكاملة لله تعالى. وهذه العبودية الكاملة لله تعالى والعلاقة النفسية ، والقلبية أول ما تشتمل عليه ، أو تقتضيه هو السير وفق ما أمر الله تعالى :( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي )

وتنفيذ إرادته التشريعية لله وهو الذي يحثّ على حسن الخلق ، ويحثّ

٦٢

على الجهاد ، والعطاء ، والتفقه ، والعلم ، والعبادة ، والذكر ، كانت هذه الأمور شروطاً ضروريّة في الشخصية الإسلامية ، و( إطاراً ) لها نابعاً عن المضمون المذكور

بالإطار والمضمون تتكامل الشخصية الإسلامية ، فالمضمون بلا إطار لا يشكّل شخصية إسلامية ، وكذلك الإطار بلا مضمون لا يشكل شخصيّة إسلامية. وكلّ هذا واضح من قراءة النصوص في ميادين العلاقة بالله تعالى ، وميادين التعامل الاجتماعي ، إذ كما تؤكّد هذه النصوص على حسن الخلق والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والجهاد ، كذلك تؤكّد على اليقين والزهد ، والذكر ، والعبادة ، والتوكّل ، وقيام الليل الخ. وكما تؤكد على هذه تؤكد على تلك.

لا يقبل الإسلام علاقة بالله. إلاّ مِن خلال الالتزام بالشريعة فعن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام عن آبائه عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : ( قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا قول إلاّ بعمل ، ولا قول ولا عمل إلاّ بنيّة ، ولا قول وعمل ونيّة إلاّ بإصابة السنّة)(١٣)

وأدانت النصوص أولئك المتعبّدين الذين لم يقوموا بواجباتهم تجاه الرسالة.

وكذلك لا يقبل الإسلام جهاداً ، أو عملاً ، وغير ذلك إلاّ بالإخلاص

٦٣

وعلاقة بالله.

( إنّما الأعمال بالنيّات ، ولكلّ امرئ ما نوى ، فمَن غزا ابتغاء مرضاة الله فقد وقَع أجره على الله ومَن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلاّ ما نوى )(١٤)

( ومَن طلب العلم ، ليباهي به العلماء ، أو يُماري به السفهاء ، أو يصرف به وجوه الناس إليه ، فليتبوّأ مقعده من النار ، إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها )(١٥)

والمضمون ، والإطار يرتبطان بشكلٍ وثيق ، ويتفاعلان فيما بينهما فإنّ المضمون - العلاقة الروحية بالله - يخلق الإطار ، والإطار يخلق المضمون ، ويكمل أحدهما الآخر ليؤلّفا الصورة السليمة للشخصيّة الإسلامية التي أرادها الله.

وقد يحدث أحياناً أنْ يكون أحدهما أضعف مستوى مَن الآخر دون أنّ يمس ذلك الصورة الكلية الشخصية. ولكن التفاوت قد يبلغ حداً معيناً يعينه الإسلام يخرج بموجبه الإنسان عن كونه شخصية إسلامية

وعلى أي حال : فإنّ الجانب الروحي ، والمضمون الروحي للإنسان المسلم هو جوهر ، ومضمون شخصيته الإسلامية فإذا ما أُريد أنْ يبدأ بالإصلاح الاجتماعي من بناء الشخصية الإسلامية ، فمعنى هذا ابتداء

٦٤

الإصلاح الاجتماعي من تربية الجانب الروحي ، وبناء الصلة بالله تعالى. كجزء من كل ، هو بناء الشخصية الإسلامية والتوعية الفكرية على الإسلام لها دور خاص - يضاف إلى دور التربية الروحية في بناء الشخصية الإسلامية ؛ لأنّ الجهل ، وعدم وعي الإسلام ، روحاً وإحكاماً ، وأفكاراً ، كثيراً ما يفصل مضمون الشخصية الإسلامية عن إطارها ؛ لأنّ ( العامل على غير بصيرة ، كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعداً )(١٦)

( ولا يقبل الله عملاً إلاّ بمعرفة ، ولا معرفة إلاّ بعمل ، فمَن عرف دلّته المعرفة على العمل ، ومَن لم يعمل فلا معرفة له ، إلاّ أنّ الإيمان بعضه من بعض )(١٧)

ومن هنا ورد أيضا أنّ ( لا عمل إلاّ بنية ولا عبادة إلاّ بتفقّه )(١٨)

إنّ الشيء الذي لا زال أكثر الناس يجهلونه هو أنّ ( الإيمان بعضه من بعض ) أو التوازن في شخصية الإنسان المسلم ، وإعطاء كلّ شيء من الإسلام حقّه ، الروح والعقل والقلب والإرادة فنرى بعض الناس يؤكّدون على الفكر والثقافة الإسلامية المعاصرة. ويدعون العبادة والتنفّل وبناء القلب ، والروح. ونرى بعضهم على العكس يؤكّد على التعبّد. والتنفّل وبناء الصلة الداخلية بالله ولكنّهم يهملون إطار الشخصيّة الإسلامية ،

٦٥

ويتركون التفقه والتفقيه والعمل لله تعالى. وكل هذا فيما أظن منبعه عدم وعي الإسلام ، وعدم التلقّي مِن كتاب الله. الذي يعرض في لوحات خالدة هذا التلاحم ، والتكامل ، والترابط الوثيق بين جوانب شخصية المسلم ، ويعضد كتاب الله تعالى ، ويصدر منه كما في باقي مجالات الحديث الوارد عن أهل البيتعليهم‌السلام .

ولنقتصر الآن على ذكر بعض الآيات الشريفة على أمل أنْ نعمل في وقتٍ آخر إنْ شاء الله تعالى على جمع النصوص الحديثية الواردة في خصال المؤمن ، وملامح شخصيته. لكي نعي جيّداً هذا الشمول والتوازن ، والتكامل في شخصية الإنسان المؤمن.

(١)( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (التوبة / ١١١ - ١١٢)

تبيّين الآيتان الترابط بين الجانب الجهادي ، والجانب العبادي ، والعلمي

٦٦

( الأمر بالمعروف ) في شخصية المسلم(١٩) .

(٢)( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )

(التوبة / ١٢٢)

تُبيّن الآية نحواً من الترابط بين الجانب الجهادي ، والجانب العلمي ، وإنْ كان بالنسبة إلى المجتمع ، لا بالنسبة إلى كلّ فرد.

(٣)( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (٦٤)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ

٦٧

وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَاناً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) (الفرقان / ٦٣ - ٧٣)

(٤)( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (الفتح / ٢٩)

الإعداد الروحي لتحمّل القول الثقيل :

(المنشأ الثاني ) : للاهتمام الإسلامي بالتربية الروحية وبناء العلاقة بالله تعالى هو ، أن التربية الروحية إعداد لتحمّل القول الثقيل ، وأعباء طريق ذات الشوكة بما فيه من تعرّض للإغراءات ، والضوابط ، والمثبّطات ،

٦٨

والفِتَن. وهذا هو الذي قدّره الله تعالى لرسوله الكريم ، قدّر أنّه سيتعرّضصلى‌الله‌عليه‌وآله لألوان من الضغوط الخارجية ، والداخلية والاجتماعية والنفسية. لتعذيب المشركين واستهزائهم وإغرائهم ، وطول مدّة العمل معهم ، وتصلبهم على الباطل. الخ وسيتعرّضصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تفكّك في الصف ، وتزلزل المؤمنين إلى آخر ما هنالك من مكاره ، وفتن. قدّر هذا سُبحانه كلّه بالنسبة إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فأعده أولاً.. وفتح له دورة تربوية روحية شاقّة ، ولكنّها ضرورية ، وحاسمة. فما هي هذه الدورة التربوية الروحية ؟ هذا ما تشرحه الآيات الأولى من سورة المزمّل :

( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ) (المزمل ١ - ٨)

وقد مر رسول اللّه بثلاث مراحل من الإعداد والتوجيه والتربية الروحية لتحمّل القول الثقيل :

المرحلة الأولى : مرحلة ما قبل الوحي. من اجل تلقي الكلمة والرسالة إذ كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يَتَحنَّث في غار حراء - قبل البعثة بثلاث سنوات - أي يتطهّر ويتعبّد - وكان تحنّثه ( عليه الصلاة والسلام ) شهراً من كلّ سنة ، هو شهر رمضان يذهب فيه إلى غار حراء على بُعد ميلين

٦٩

من مكّة ، ومعه أهله قريباً منه فيُقيم فيه هذا الشهر ويطعم من جاءه من المساكين ، ويقضي وقته في العبادة ، والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون ، وفيما وراءها من قُدرةٍ مبدعة. وكان اختيارهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهذه العُزلة طرفاً من تدبير الله له ، ليعدّه لما ينتظره من الأمر العظيم.

ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه ، ويخلص من زحمة الحياة ، وشواغلها الصغيرة ، ويفرغ لموجبات ، ودلائل الإبداع ، وتسبح روحه مع روح الوجود ، وتتعانق مع هذا الجمال ، وهذا الكمال ، وتتعامل مع الحقيقة الكبرى ، وتتمرّن على التعامل معها في إدراك وفهم

( ولا بدّ لأي روح يُراد بها أنْ تؤثّر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى

لا بدّ لهذه الروح مِن خلوة ، وعزلة بعض الوقت وانقطاع عن شواغل الأرض وضجّة الحياة ، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة لا بدّ من فترة للتأمّل والتدبّر ، والتعاون مع الكون الكبير ، وحقائقه الطليقة ، فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له فلا تحاول تغييره أمّا الانخلاع منه فترة ، والانعزال عنه ، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ، ومِن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهّل الروح الكبيرة لرؤية ما هو أكبر ، ويدرّبه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع.

( وهكذا دبر الله لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يعدّه لحمل الأمانة الكبرى ، وتغيير وجه الأرض ، وتعديل مسار التاريخ ، دبر له هذه العزلة له قبل تكليفه

٧٠

بالرسالة بثلاث سنوات ، ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان ، مع روح الوجود الطليقة ، ويتدبّر ما وراء الوجود من غيب مكنون ، حتى يحين موعد هذا التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله)(٢٠)

هذه هي فترة الإعداد الأولى في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد كان هدفها أنْ يصل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مستوى تنزل الوحي عليه وإنْ كانصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة عامة أهلاً لذلك في كلّ حين. لم تكن هذه الفترة من الإعداد بتوجيه مباشر ( وحي ) من الله. لأنّها إعداد الوحي. وإنْ كانت بهداية منه تعالى لرسوله الكريم.

وأمّا الإعداد الثاني للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من الزاوية الروحية فهو الإعداد الروحي بعد الوحي من أجل الدعوة والتبليغ ، وتنمية القدرة على المواجهة ، والصبر ، والتحمّل ، والاستقامة في معامع الطريق. وهو الذي أمر اللّه تعالى رسوله به في أوائل سورتي المزمّل والمدثّر. وإنْ كانت في السورة الأولى أوضح وأجلى. وقد مرّت آياتها بنا عن قريب

ومن الواضح من خلال هذه الآية أنّ الله تعالى إنّما يأمر رسوله الكريم بقيام الليل ، نصفه أو ثلثه ، أو ثلثيه بسبب إنّه سيلقي عليه القول الثقيل. وإنْ قيام الليل بهذا المقدار هو أكثر من غيره قدرةً على بناء الروح وربطها بالله تعالى لتتحمّل القول الثقيل. ومن الواضح أيضاً أنّ القول الثقيل هنا ليس المراد به الوحي ؛ لأنّ الآيات النازلة هي وحي ، ومسبوقة بالوحي. إنما المراد به - والله تعالى أعلم - الأمر بالتبليغ والدعوة والمجاهرة. وهو أمر ثقيل ، بما يلزم عنه من ألوان الاضطهاد الجسمي والنفسي على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين معه ( وأنّ الاستقامة على هذا الأمر بلا تردّد ولا ارتياب ، ولا تلفّت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب ، والمعوّقات ، لَثَقيلٌ ، يحتاج إلى

٧١

استعداد طويل - وأنّ قيام الليل والناس نيام ، والانقطاع عن غبَش الحياة اليومية وسفاسفها والاتصال باللّه ، وتلقّي فيضه ونوره ، والأُنس بالوحدة معه ، والخلوة إليه ، وترتيل القرآن والكون ساكن ، وكأنّما يتنزّل مِن الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لغَط بشري ولا عبارة ، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي .إنّ هذا كلّه هو الزاد لاحتمال القول الثقيل ، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر مَن يدعو بهذه الدعوة في كلّ جيل ويُنير القلب في الطريق الشاق والطويل ، ويعصمه مِن وسوسة الشيطان ، ومِن التيه في الظلمات الحافّة بهذا الطريق المنير(٢١) .وتذكر بعض الروايات أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه قاموا - بعد أنْ نزلت أوائل سورة المزمّل - الليل سنة كاملة. وقيل عشر سنين حتى تورمت أقدامهم ، فأنزل الله تعالى عليهم التخفيف الذي في آخر السورة .ونعني بالإعداد الثالث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تغذيته الروحية أو التوجيهات الروحية المتكرّرة من الله سبحانه. باستمرار مسيرة دعوته المباركة. وهي آيات مبثوثة في القرآن الكريم ، ولعلّ في جمعها ودراستها هي وآيات الإعداد الثاني خيراً كثيراً للمؤمنين. وهي على العموم كانت تتنزّل من أجل تزويد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالطاقة الروحية اللازمة لمواجهة المكذّبين والساخرين ، والجو المتحجّر الذي لا تنمو فيه دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ قليلاً. وبالطبع فإنّ هذه التوجيهات لا تقتصر فقط على الأمر بالعبادة - بالمعنى الخاص - وإنّما تشمل مضافاً إلى ذلك على التذكير. والتصبير والأمر بالتوكّل ، إلى غير ذلك من المعاني الروحية الأُخرى

____________________

(٩) - أمر عظيم له دلالته ما وقع على المستوى الفردي من الإمام أمير المؤمنين ، عندما أهانه عمرو بن عبد ود في معركة الأحزاب وكانعليه‌السلام متمكّناً منه ، إلاّ أنّه أعرض عن قتله ، حتى هدأ غضبه وكان منه ذلكعليه‌السلام حرصاً على أصالة الفعل والإخلاص فيه لله تعالى

(١٠) - أصول الكافي ج ١ ص ٣١

(١١) - أصول الكافي ج ٢ ص ١٦٣

(١٢) - أصول الكافي ج ٢ ص ٩٩

(١٣) - الوسائل أبواب مقدمات العبادات ب ٥ ص ٣٣

(١٤) - نفس المصدر السابق ص ٣٩

(١٥) - أصول الكافي ج ١ ص ٣٣

(١٦)، (١٧) - أصول الكافي ج ١ ص ٤٤

(١٨) - الوسائل أبواب مقدمات العبادات ب ٥ ص ٣٣

(١٩) - في الرواية عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : ( لقي عباد البصري عليّ ابن الحسينعليه‌السلام في طريق مكّة فقال له : يا عليّ تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينه إنّ الله عزّ وجل يقول :( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) الآية فقال عليّ ابن الحسينعليه‌السلام : ( أتمّ الآية ) ، فقال :( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ) الآية ، فقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : إذا رأينا هؤلاء هذه صِفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج ) ( الوسائل - أبواب جهاد العدو - ب ١٢) ص ٣٣

(٢٠) - في ظلال القرآن ج ٨ ص ٣٤١

(٢١) - في ظلال القرآن ج ٨ ص ٣٤١

٧٢

لماذا الإعداد الروحي ؟

عرفنا الآن كيف أنّ اللّه تعالى قدّر لرسوله أنْ يمرّ بفترة إعدادٍ روحي من أجل تحمّل القول الثقيل.

وأنّ ذلك هو زاد المترسّمين خطاه في كلّ جيل. ولكن لماذا ؟ وما هي علاقة حبّ الله تعالى ، والإخلاص له في خوفه ورجائه ، وربط القلب به بتحمّل المكاره وأعباء طريق ذات الشوكة ، وأثقال المسيرة ؟

والجواب على ذلك : أنّ للتربية الروحية علاقة صميمة وارتباطاً وثيقاً بـ( استقامة المسيرة ) على خطّ الإسلام فكرياً وعملياً و( بتجاوز فتنة الاضطهاد ) ، والتعذيب الجسمي والنفسي التي يتعرّض لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه بـ( فعالية ) علمهم و( تماسك ) صفهم. ولنعرض ذلك بشيء من التفصيل فيما يلي :

(١ ) - التربية الروحية واستقامة المسيرة :

ليس من الهيّن أنْ تستقيم مسيرة المؤمنين العاملين في سبيل الله على الخطّ الذي يرتضيه الله تعالى ، ويشترعه الإسلام من الناحية الفكرية المفاهيمية ، والناحية العملية والسلوكية

(١) - لأنّ الحضارة الجاهلية والمفاهيم الاجتماعية المادّية التي كان يعيش في وسطها أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تدعوهم إلى الانحراف. بسبب أنّهم أبناء هذه البيئة التي تعيش هذه المفاهيم الحضارية المادّية ، فمن المعقول أنْ تؤثّر فيهم عن طريق ( الوراثة ) الفكرية و( الإيحاء ) الثقافي

٧٣

والميل النفسي عند كل إنسان إلى التوافق الاجتماعي واتخاذ الإخلاء ، ولو عن طريق التنازل الفكري والسلوكي

(٢) - ولأنّ استعجال النصر. والنزق واستباق المراحل تدعو هؤلاء المؤمنين إلى التنازل عن بعض أفكارهم ، وتليين مواقفهم من أجل أنْ تجد دعوتهم طريقها إلى قلوب الناس ، وتتقدّم في الجو الاجتماعي ، ولو على حساب بعض جوانبها الرسالية

(٣) - ولأنّ الأهواء الشخصية هنا ، وهناك قد تتجمّع وتظهر في صيغ ثقافية لتعمل على حَرف المسيرة ، وتمييع الشخصية الإسلامية الأصيلة ، والارتباط بالله سبحانه وبرسالته

هذه العوامل وغيرها دواع للانحراف ملازمة لكلّ عملٍ اجتماعي في عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده. والتربية الروحية شرط ضروري للتعالي على هذه العوامل ، والانفلات من تأثيرها ؛ لأنّ التربية الروحية تقيم المؤمن في علاقة محكمة مع الله. يعبده ولا يعبد سواه ويرجوه ، ويعمل له لا لغيره. يتأثّر بوحيه ، ورسالته ، ويقطع صلته ( التأثر ) بالناس ، ويقيم معهم بدل ذلك صلة ( التأثير ) والتوجيه

لأنّ الانفصال عن الناس وحضارتهم. وعن أهواء النفس وشهواتها لا يتمّ إلاّ من خلال عملٍ تربوي جاد يبني الإنسان فيه نفسه مع الله ويقطعها به عمّا سواه ( يعبده ولا يعبد غيره ، ويرجوه ولا يرجو غيره ، ويخافه ولا يخاف غيره ). وبكلمة يقطع قلبه وشعوره وكيانه عن كلّ شيء عدا الله وما أمر الله به ( أنْ يوصل ) بهذا وحده يمكن أنْ تستقيم وتثبت على

٧٤

خطّ الإسلام

ونكرّر. ليست الاستقامة المطلوبة هيّنة أو يسيره ونزيد هنا. حتى على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه. ومن هنا ينقل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقول : ( شيّبتني هود ) إشارة إلى قوله تعالى في سورة هود :( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ )

وفي رواية عن ابن عبّاس : ( ما نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله آية كانت أشدّ عليه ، ولا أشقّ مِن هذه الآية ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : أسرع إليك الشيب يا رسول الله ، قال : ( شيبتني هود والواقعة )(٢٢)

ولنقرأ هنا مجموعتين مِن الآيات الكريمة نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أجل تحصينه - وهو المعصوم - من الحيف ، أو الانحراف عن خطّ الإسلام. وهما مجموعتان عجيبتان تدعوان للتفكير ، والدرس ، والتأمّل الكثير. بشكل واضح بين الاستقامة على الخط. والتربية الروحية

(١)-( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلاّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *

٧٥

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (٢٣)

(٢) -( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً *. وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً * أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً * وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ) (الإسراء ٧٣ - ٨٠)

والآيات التالية لها تعلّق أيضاً بما سبقتها

٧٦

(٢) - التربية الروحية وتماسك الصف :

تماسك الصف يعتمد على وحدة الأهداف ، والمنطلقات ووحدة المشاعر ، والتعاطف القلبي. ويتعرّض تماسك الصف إلى عوامل التفتيت ، والتجزئة باستمرار. ( اختلاف الآراء ، والمصالح الشخصية التي تغلب على المصلحة العامّة عند بعض الناس ، واختلاف المذاقات والمشاعر الخ ).

والتربية الروحية. وبناء العلاقة بالله تعالى - وتنميتها هي دائماً في صالح التماسك. فإنّ التربية الروحية تعمل على ما يلي :

أ - توحيد المنطلق النفسي للمؤمنين في العمل. ( الدافع والهدف ). حبّ الرسالة ، والرغبة في نشرها وتطبيقها مقابل الرغبات الشخصية ، والأهداف الذاتية التي تختلف عادة من شخص إلى آخر

ب - الحب في الله تعالى ، حبّ المؤمنين ، والأنس بهم والإخوة فيما بينهم والمشاركة الوجدانية(٢٤)

ج - التقيد بالخلق الإسلامي في التعامل بين المؤمنين

د - الحرص على المصلحة الدينيّة والخوف على الرسالة

هذه المعاني الأربعة وما يتفرّع عنها هي أساس التماسك والحصانة من التزلزل والتصدع. وهي معان لا يبنيها سوى الإيمان باللّه ، والإخلاص

٧٧

له تعالى ، وحبّه الذي ينبسط على المؤمنين ، وكذلك طاعته ، والصبر عليها في مواجهة الأهواء الشخصية ومشاعر الأنا والاستقلال. وهذه الأمور هي جوهر البناء الداخلي الروحي للمؤمن.

( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (٢٥)

( إنّ سرعة ائتلاف الأبرار إذا التقوا ، وإنْ لم يظهروا التودّد كسرعة اختلاط ماء السماء بماء الأنهار ، وإنّ بُعد ائتلاف قلوب الفجّار إذا التقوا وإنْ اظهروا التودّد بألسنتهم كبُعد البهائم مِن التعاطف وإنْ طال اعتلافها على مذود واحد )

(٣) - التربية الروحية ، والثبات على الدين :

وأوضح ممّا سبق صلة التربية الروحية ، والثبات على الدين في الأيام الصعبة ، وامتصاص المحن ، والحرب النفسية والاضطهاد الجسمي ، والنفسي الذي تواجه به الجاهليةُ أصحابَ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ومَن بَعدهم ، ومَن قَبلهم أتباع الرسل والأنبياء. إنّ الصمود في المحن والبلاء. وفتنة العذاب والمواجهة هو سمة المؤمنين في القرآن الكريم :

( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ

٧٨

الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (٢٦)

( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) (٢٧)

( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) (٢٨)

٧٩

إلى آخر ما هنالك من آيات الصمود الإيماني في مواجهة قوى الضغط والعذاب

كيف أتيح لهذه الأفواج المؤمنة أنْ تصمد في وجه التحدّيات ، وتواجه الآلام ، والإغراءات ، والاضطهاد بالصبر والثبات؟ وما هو غذاء أصحاب موسى ، وأصحاب الأخدود الربيّين ، وأصحاب محمد في رحلة المكاره ، والمصاعب ؟ وبأي وقود استطاعوا الثبات ، والتحدي ، حتى وهم تحت سياط الجلادين ، وقبضة الطغاة ؟

كان غذاؤهم ، وعزاؤهم ، ووقودهم في كل هذه المرحلة الزهد

( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ )

وذكر الله ، والتوكّل عليه ، واحتسابه

( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )

( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ )

( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )

والتطلّع إلى ثواب الله تعالى في اليوم الآخر ، واسترخاص هذه الحياة الزائلة إلى حيث تلك الحياة الخالدة. والأُفق الواسع في تصور الحياة ، ووعي حركتها ، وقلة متاع الظالمين. وهكذا خوف الله واستشعار

٨٠