نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي11%

نظرات حول الإعداد الروحي مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 326

نظرات حول الإعداد الروحي
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107025 / تحميل: 7620
الحجم الحجم الحجم
نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )

وهكذا فأنّ بناء المجتمع الإسلامي عملية لا تحدث إلاّ مِن خلال نمو كمي وكيفي. في الأفراد المؤمنين العابدين لله أي في الشخصية الإسلامية فان الشخصية الإسلامية من خلال تكاثرها وحدوث بعض المتغيرات الاجتماعيّة ، تتجسّد بشكل مجتمع إسلامي

ولكن ما هي هذه الشخصية الإسلاميّة التي يبشر بروزها كظاهرة اجتماعية بالمجتمع الإسلامي ؟

هل هي الشخصية التي ( تفهم ) الإسلام وتتحسّس بآلام المسلمين ؟ ! أم هي الشخصيّة المنعزلة التي تتعبّد في زوايا المساجد معزولة عن الناس ؟ أم هي الشخصية العالمة المتفقّهة والمستوعبة للتاريخ ؟ أم هي الشخصية الخلوقة ، التي يشير لها الناس بالخُلق الحسن ، وطيب المعاملة ، ولين العريكة ؟ !

الشخصية الإسلاميّة كلّ هذا. وليست شيئاً من هذا. الشخصية الإسلامية هي التي تفهم الإسلام وتعيه وتتحسّس آلام المسلمين هذا صحيح لأنّ ( مَن لم يتفقّه في دين اللّه لم يَنظر الله إليه يوم القيامة ولم يزكِّ له عملاً )(١٠)

ولأنّ

٦١

( مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم ) (١١)

الشخصية الإسلامية كثيرة العبادة كثيرة التهجّد تعتزل الناس أياما لأداء حق الله. ثمّ. تعود هذا صحيح أيضاً. وصحيح أيضاً أنّه حسن الخلق مِن أهمّ سمات المؤمن لأنّ ( أكمل الناس أيماناً أحسنهم خُلقاً )

كما ورد عن أبي جعفرعليه‌السلام (١٢)

صحيح هذا كلّه وصحيح أنّ الإنسان المسلم إنسانٌ محسنٌ معطاء ، أنفع الناس للناس وأنفع الناس للرسالة. إلا أنّ كل هذا مِن العلم ، والخلق والعطاء ، والعبادة الخارجية إنّما هو (إطار) الشخصية الإسلامية. وللشخصية الإسلامية ( مضمون ) كما لها إطار و( محتوى ) كما لها شكل.

ومضمون الشخصية الإسلامية. هي العلاقة بالله ، والتعلّق القلبي به إيماناً، وحباً ، ورجاءً ، وركوناً ، وإخلاصاً. هو التحرّر الداخلي من أسر الشهوات ، والعبودية الكاملة لله تعالى. وهذه العبودية الكاملة لله تعالى والعلاقة النفسية ، والقلبية أول ما تشتمل عليه ، أو تقتضيه هو السير وفق ما أمر الله تعالى :( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي )

وتنفيذ إرادته التشريعية لله وهو الذي يحثّ على حسن الخلق ، ويحثّ

٦٢

على الجهاد ، والعطاء ، والتفقه ، والعلم ، والعبادة ، والذكر ، كانت هذه الأمور شروطاً ضروريّة في الشخصية الإسلامية ، و( إطاراً ) لها نابعاً عن المضمون المذكور

بالإطار والمضمون تتكامل الشخصية الإسلامية ، فالمضمون بلا إطار لا يشكّل شخصية إسلامية ، وكذلك الإطار بلا مضمون لا يشكل شخصيّة إسلامية. وكلّ هذا واضح من قراءة النصوص في ميادين العلاقة بالله تعالى ، وميادين التعامل الاجتماعي ، إذ كما تؤكّد هذه النصوص على حسن الخلق والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والجهاد ، كذلك تؤكّد على اليقين والزهد ، والذكر ، والعبادة ، والتوكّل ، وقيام الليل الخ. وكما تؤكد على هذه تؤكد على تلك.

لا يقبل الإسلام علاقة بالله. إلاّ مِن خلال الالتزام بالشريعة فعن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام عن آبائه عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : ( قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا قول إلاّ بعمل ، ولا قول ولا عمل إلاّ بنيّة ، ولا قول وعمل ونيّة إلاّ بإصابة السنّة)(١٣)

وأدانت النصوص أولئك المتعبّدين الذين لم يقوموا بواجباتهم تجاه الرسالة.

وكذلك لا يقبل الإسلام جهاداً ، أو عملاً ، وغير ذلك إلاّ بالإخلاص

٦٣

وعلاقة بالله.

( إنّما الأعمال بالنيّات ، ولكلّ امرئ ما نوى ، فمَن غزا ابتغاء مرضاة الله فقد وقَع أجره على الله ومَن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلاّ ما نوى )(١٤)

( ومَن طلب العلم ، ليباهي به العلماء ، أو يُماري به السفهاء ، أو يصرف به وجوه الناس إليه ، فليتبوّأ مقعده من النار ، إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها )(١٥)

والمضمون ، والإطار يرتبطان بشكلٍ وثيق ، ويتفاعلان فيما بينهما فإنّ المضمون - العلاقة الروحية بالله - يخلق الإطار ، والإطار يخلق المضمون ، ويكمل أحدهما الآخر ليؤلّفا الصورة السليمة للشخصيّة الإسلامية التي أرادها الله.

وقد يحدث أحياناً أنْ يكون أحدهما أضعف مستوى مَن الآخر دون أنّ يمس ذلك الصورة الكلية الشخصية. ولكن التفاوت قد يبلغ حداً معيناً يعينه الإسلام يخرج بموجبه الإنسان عن كونه شخصية إسلامية

وعلى أي حال : فإنّ الجانب الروحي ، والمضمون الروحي للإنسان المسلم هو جوهر ، ومضمون شخصيته الإسلامية فإذا ما أُريد أنْ يبدأ بالإصلاح الاجتماعي من بناء الشخصية الإسلامية ، فمعنى هذا ابتداء

٦٤

الإصلاح الاجتماعي من تربية الجانب الروحي ، وبناء الصلة بالله تعالى. كجزء من كل ، هو بناء الشخصية الإسلامية والتوعية الفكرية على الإسلام لها دور خاص - يضاف إلى دور التربية الروحية في بناء الشخصية الإسلامية ؛ لأنّ الجهل ، وعدم وعي الإسلام ، روحاً وإحكاماً ، وأفكاراً ، كثيراً ما يفصل مضمون الشخصية الإسلامية عن إطارها ؛ لأنّ ( العامل على غير بصيرة ، كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعداً )(١٦)

( ولا يقبل الله عملاً إلاّ بمعرفة ، ولا معرفة إلاّ بعمل ، فمَن عرف دلّته المعرفة على العمل ، ومَن لم يعمل فلا معرفة له ، إلاّ أنّ الإيمان بعضه من بعض )(١٧)

ومن هنا ورد أيضا أنّ ( لا عمل إلاّ بنية ولا عبادة إلاّ بتفقّه )(١٨)

إنّ الشيء الذي لا زال أكثر الناس يجهلونه هو أنّ ( الإيمان بعضه من بعض ) أو التوازن في شخصية الإنسان المسلم ، وإعطاء كلّ شيء من الإسلام حقّه ، الروح والعقل والقلب والإرادة فنرى بعض الناس يؤكّدون على الفكر والثقافة الإسلامية المعاصرة. ويدعون العبادة والتنفّل وبناء القلب ، والروح. ونرى بعضهم على العكس يؤكّد على التعبّد. والتنفّل وبناء الصلة الداخلية بالله ولكنّهم يهملون إطار الشخصيّة الإسلامية ،

٦٥

ويتركون التفقه والتفقيه والعمل لله تعالى. وكل هذا فيما أظن منبعه عدم وعي الإسلام ، وعدم التلقّي مِن كتاب الله. الذي يعرض في لوحات خالدة هذا التلاحم ، والتكامل ، والترابط الوثيق بين جوانب شخصية المسلم ، ويعضد كتاب الله تعالى ، ويصدر منه كما في باقي مجالات الحديث الوارد عن أهل البيتعليهم‌السلام .

ولنقتصر الآن على ذكر بعض الآيات الشريفة على أمل أنْ نعمل في وقتٍ آخر إنْ شاء الله تعالى على جمع النصوص الحديثية الواردة في خصال المؤمن ، وملامح شخصيته. لكي نعي جيّداً هذا الشمول والتوازن ، والتكامل في شخصية الإنسان المؤمن.

(١)( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (التوبة / ١١١ - ١١٢)

تبيّين الآيتان الترابط بين الجانب الجهادي ، والجانب العبادي ، والعلمي

٦٦

( الأمر بالمعروف ) في شخصية المسلم(١٩) .

(٢)( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )

(التوبة / ١٢٢)

تُبيّن الآية نحواً من الترابط بين الجانب الجهادي ، والجانب العلمي ، وإنْ كان بالنسبة إلى المجتمع ، لا بالنسبة إلى كلّ فرد.

(٣)( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (٦٤)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ

٦٧

وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَاناً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) (الفرقان / ٦٣ - ٧٣)

(٤)( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (الفتح / ٢٩)

الإعداد الروحي لتحمّل القول الثقيل :

(المنشأ الثاني ) : للاهتمام الإسلامي بالتربية الروحية وبناء العلاقة بالله تعالى هو ، أن التربية الروحية إعداد لتحمّل القول الثقيل ، وأعباء طريق ذات الشوكة بما فيه من تعرّض للإغراءات ، والضوابط ، والمثبّطات ،

٦٨

والفِتَن. وهذا هو الذي قدّره الله تعالى لرسوله الكريم ، قدّر أنّه سيتعرّضصلى‌الله‌عليه‌وآله لألوان من الضغوط الخارجية ، والداخلية والاجتماعية والنفسية. لتعذيب المشركين واستهزائهم وإغرائهم ، وطول مدّة العمل معهم ، وتصلبهم على الباطل. الخ وسيتعرّضصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تفكّك في الصف ، وتزلزل المؤمنين إلى آخر ما هنالك من مكاره ، وفتن. قدّر هذا سُبحانه كلّه بالنسبة إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فأعده أولاً.. وفتح له دورة تربوية روحية شاقّة ، ولكنّها ضرورية ، وحاسمة. فما هي هذه الدورة التربوية الروحية ؟ هذا ما تشرحه الآيات الأولى من سورة المزمّل :

( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ) (المزمل ١ - ٨)

وقد مر رسول اللّه بثلاث مراحل من الإعداد والتوجيه والتربية الروحية لتحمّل القول الثقيل :

المرحلة الأولى : مرحلة ما قبل الوحي. من اجل تلقي الكلمة والرسالة إذ كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يَتَحنَّث في غار حراء - قبل البعثة بثلاث سنوات - أي يتطهّر ويتعبّد - وكان تحنّثه ( عليه الصلاة والسلام ) شهراً من كلّ سنة ، هو شهر رمضان يذهب فيه إلى غار حراء على بُعد ميلين

٦٩

من مكّة ، ومعه أهله قريباً منه فيُقيم فيه هذا الشهر ويطعم من جاءه من المساكين ، ويقضي وقته في العبادة ، والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون ، وفيما وراءها من قُدرةٍ مبدعة. وكان اختيارهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهذه العُزلة طرفاً من تدبير الله له ، ليعدّه لما ينتظره من الأمر العظيم.

ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه ، ويخلص من زحمة الحياة ، وشواغلها الصغيرة ، ويفرغ لموجبات ، ودلائل الإبداع ، وتسبح روحه مع روح الوجود ، وتتعانق مع هذا الجمال ، وهذا الكمال ، وتتعامل مع الحقيقة الكبرى ، وتتمرّن على التعامل معها في إدراك وفهم

( ولا بدّ لأي روح يُراد بها أنْ تؤثّر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى

لا بدّ لهذه الروح مِن خلوة ، وعزلة بعض الوقت وانقطاع عن شواغل الأرض وضجّة الحياة ، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة لا بدّ من فترة للتأمّل والتدبّر ، والتعاون مع الكون الكبير ، وحقائقه الطليقة ، فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له فلا تحاول تغييره أمّا الانخلاع منه فترة ، والانعزال عنه ، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ، ومِن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهّل الروح الكبيرة لرؤية ما هو أكبر ، ويدرّبه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع.

( وهكذا دبر الله لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يعدّه لحمل الأمانة الكبرى ، وتغيير وجه الأرض ، وتعديل مسار التاريخ ، دبر له هذه العزلة له قبل تكليفه

٧٠

بالرسالة بثلاث سنوات ، ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان ، مع روح الوجود الطليقة ، ويتدبّر ما وراء الوجود من غيب مكنون ، حتى يحين موعد هذا التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله)(٢٠)

هذه هي فترة الإعداد الأولى في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد كان هدفها أنْ يصل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مستوى تنزل الوحي عليه وإنْ كانصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة عامة أهلاً لذلك في كلّ حين. لم تكن هذه الفترة من الإعداد بتوجيه مباشر ( وحي ) من الله. لأنّها إعداد الوحي. وإنْ كانت بهداية منه تعالى لرسوله الكريم.

وأمّا الإعداد الثاني للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من الزاوية الروحية فهو الإعداد الروحي بعد الوحي من أجل الدعوة والتبليغ ، وتنمية القدرة على المواجهة ، والصبر ، والتحمّل ، والاستقامة في معامع الطريق. وهو الذي أمر اللّه تعالى رسوله به في أوائل سورتي المزمّل والمدثّر. وإنْ كانت في السورة الأولى أوضح وأجلى. وقد مرّت آياتها بنا عن قريب

ومن الواضح من خلال هذه الآية أنّ الله تعالى إنّما يأمر رسوله الكريم بقيام الليل ، نصفه أو ثلثه ، أو ثلثيه بسبب إنّه سيلقي عليه القول الثقيل. وإنْ قيام الليل بهذا المقدار هو أكثر من غيره قدرةً على بناء الروح وربطها بالله تعالى لتتحمّل القول الثقيل. ومن الواضح أيضاً أنّ القول الثقيل هنا ليس المراد به الوحي ؛ لأنّ الآيات النازلة هي وحي ، ومسبوقة بالوحي. إنما المراد به - والله تعالى أعلم - الأمر بالتبليغ والدعوة والمجاهرة. وهو أمر ثقيل ، بما يلزم عنه من ألوان الاضطهاد الجسمي والنفسي على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين معه ( وأنّ الاستقامة على هذا الأمر بلا تردّد ولا ارتياب ، ولا تلفّت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب ، والمعوّقات ، لَثَقيلٌ ، يحتاج إلى

٧١

استعداد طويل - وأنّ قيام الليل والناس نيام ، والانقطاع عن غبَش الحياة اليومية وسفاسفها والاتصال باللّه ، وتلقّي فيضه ونوره ، والأُنس بالوحدة معه ، والخلوة إليه ، وترتيل القرآن والكون ساكن ، وكأنّما يتنزّل مِن الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لغَط بشري ولا عبارة ، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي .إنّ هذا كلّه هو الزاد لاحتمال القول الثقيل ، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر مَن يدعو بهذه الدعوة في كلّ جيل ويُنير القلب في الطريق الشاق والطويل ، ويعصمه مِن وسوسة الشيطان ، ومِن التيه في الظلمات الحافّة بهذا الطريق المنير(٢١) .وتذكر بعض الروايات أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه قاموا - بعد أنْ نزلت أوائل سورة المزمّل - الليل سنة كاملة. وقيل عشر سنين حتى تورمت أقدامهم ، فأنزل الله تعالى عليهم التخفيف الذي في آخر السورة .ونعني بالإعداد الثالث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تغذيته الروحية أو التوجيهات الروحية المتكرّرة من الله سبحانه. باستمرار مسيرة دعوته المباركة. وهي آيات مبثوثة في القرآن الكريم ، ولعلّ في جمعها ودراستها هي وآيات الإعداد الثاني خيراً كثيراً للمؤمنين. وهي على العموم كانت تتنزّل من أجل تزويد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالطاقة الروحية اللازمة لمواجهة المكذّبين والساخرين ، والجو المتحجّر الذي لا تنمو فيه دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ قليلاً. وبالطبع فإنّ هذه التوجيهات لا تقتصر فقط على الأمر بالعبادة - بالمعنى الخاص - وإنّما تشمل مضافاً إلى ذلك على التذكير. والتصبير والأمر بالتوكّل ، إلى غير ذلك من المعاني الروحية الأُخرى

____________________

(٩) - أمر عظيم له دلالته ما وقع على المستوى الفردي من الإمام أمير المؤمنين ، عندما أهانه عمرو بن عبد ود في معركة الأحزاب وكانعليه‌السلام متمكّناً منه ، إلاّ أنّه أعرض عن قتله ، حتى هدأ غضبه وكان منه ذلكعليه‌السلام حرصاً على أصالة الفعل والإخلاص فيه لله تعالى

(١٠) - أصول الكافي ج ١ ص ٣١

(١١) - أصول الكافي ج ٢ ص ١٦٣

(١٢) - أصول الكافي ج ٢ ص ٩٩

(١٣) - الوسائل أبواب مقدمات العبادات ب ٥ ص ٣٣

(١٤) - نفس المصدر السابق ص ٣٩

(١٥) - أصول الكافي ج ١ ص ٣٣

(١٦)، (١٧) - أصول الكافي ج ١ ص ٤٤

(١٨) - الوسائل أبواب مقدمات العبادات ب ٥ ص ٣٣

(١٩) - في الرواية عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : ( لقي عباد البصري عليّ ابن الحسينعليه‌السلام في طريق مكّة فقال له : يا عليّ تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينه إنّ الله عزّ وجل يقول :( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) الآية فقال عليّ ابن الحسينعليه‌السلام : ( أتمّ الآية ) ، فقال :( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ) الآية ، فقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : إذا رأينا هؤلاء هذه صِفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج ) ( الوسائل - أبواب جهاد العدو - ب ١٢) ص ٣٣

(٢٠) - في ظلال القرآن ج ٨ ص ٣٤١

(٢١) - في ظلال القرآن ج ٨ ص ٣٤١

٧٢

لماذا الإعداد الروحي ؟

عرفنا الآن كيف أنّ اللّه تعالى قدّر لرسوله أنْ يمرّ بفترة إعدادٍ روحي من أجل تحمّل القول الثقيل.

وأنّ ذلك هو زاد المترسّمين خطاه في كلّ جيل. ولكن لماذا ؟ وما هي علاقة حبّ الله تعالى ، والإخلاص له في خوفه ورجائه ، وربط القلب به بتحمّل المكاره وأعباء طريق ذات الشوكة ، وأثقال المسيرة ؟

والجواب على ذلك : أنّ للتربية الروحية علاقة صميمة وارتباطاً وثيقاً بـ( استقامة المسيرة ) على خطّ الإسلام فكرياً وعملياً و( بتجاوز فتنة الاضطهاد ) ، والتعذيب الجسمي والنفسي التي يتعرّض لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه بـ( فعالية ) علمهم و( تماسك ) صفهم. ولنعرض ذلك بشيء من التفصيل فيما يلي :

(١ ) - التربية الروحية واستقامة المسيرة :

ليس من الهيّن أنْ تستقيم مسيرة المؤمنين العاملين في سبيل الله على الخطّ الذي يرتضيه الله تعالى ، ويشترعه الإسلام من الناحية الفكرية المفاهيمية ، والناحية العملية والسلوكية

(١) - لأنّ الحضارة الجاهلية والمفاهيم الاجتماعية المادّية التي كان يعيش في وسطها أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تدعوهم إلى الانحراف. بسبب أنّهم أبناء هذه البيئة التي تعيش هذه المفاهيم الحضارية المادّية ، فمن المعقول أنْ تؤثّر فيهم عن طريق ( الوراثة ) الفكرية و( الإيحاء ) الثقافي

٧٣

والميل النفسي عند كل إنسان إلى التوافق الاجتماعي واتخاذ الإخلاء ، ولو عن طريق التنازل الفكري والسلوكي

(٢) - ولأنّ استعجال النصر. والنزق واستباق المراحل تدعو هؤلاء المؤمنين إلى التنازل عن بعض أفكارهم ، وتليين مواقفهم من أجل أنْ تجد دعوتهم طريقها إلى قلوب الناس ، وتتقدّم في الجو الاجتماعي ، ولو على حساب بعض جوانبها الرسالية

(٣) - ولأنّ الأهواء الشخصية هنا ، وهناك قد تتجمّع وتظهر في صيغ ثقافية لتعمل على حَرف المسيرة ، وتمييع الشخصية الإسلامية الأصيلة ، والارتباط بالله سبحانه وبرسالته

هذه العوامل وغيرها دواع للانحراف ملازمة لكلّ عملٍ اجتماعي في عصر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده. والتربية الروحية شرط ضروري للتعالي على هذه العوامل ، والانفلات من تأثيرها ؛ لأنّ التربية الروحية تقيم المؤمن في علاقة محكمة مع الله. يعبده ولا يعبد سواه ويرجوه ، ويعمل له لا لغيره. يتأثّر بوحيه ، ورسالته ، ويقطع صلته ( التأثر ) بالناس ، ويقيم معهم بدل ذلك صلة ( التأثير ) والتوجيه

لأنّ الانفصال عن الناس وحضارتهم. وعن أهواء النفس وشهواتها لا يتمّ إلاّ من خلال عملٍ تربوي جاد يبني الإنسان فيه نفسه مع الله ويقطعها به عمّا سواه ( يعبده ولا يعبد غيره ، ويرجوه ولا يرجو غيره ، ويخافه ولا يخاف غيره ). وبكلمة يقطع قلبه وشعوره وكيانه عن كلّ شيء عدا الله وما أمر الله به ( أنْ يوصل ) بهذا وحده يمكن أنْ تستقيم وتثبت على

٧٤

خطّ الإسلام

ونكرّر. ليست الاستقامة المطلوبة هيّنة أو يسيره ونزيد هنا. حتى على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه. ومن هنا ينقل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقول : ( شيّبتني هود ) إشارة إلى قوله تعالى في سورة هود :( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ )

وفي رواية عن ابن عبّاس : ( ما نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله آية كانت أشدّ عليه ، ولا أشقّ مِن هذه الآية ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : أسرع إليك الشيب يا رسول الله ، قال : ( شيبتني هود والواقعة )(٢٢)

ولنقرأ هنا مجموعتين مِن الآيات الكريمة نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أجل تحصينه - وهو المعصوم - من الحيف ، أو الانحراف عن خطّ الإسلام. وهما مجموعتان عجيبتان تدعوان للتفكير ، والدرس ، والتأمّل الكثير. بشكل واضح بين الاستقامة على الخط. والتربية الروحية

(١)-( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلاّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *

٧٥

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (٢٣)

(٢) -( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً *. وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً * أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً * وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ) (الإسراء ٧٣ - ٨٠)

والآيات التالية لها تعلّق أيضاً بما سبقتها

٧٦

(٢) - التربية الروحية وتماسك الصف :

تماسك الصف يعتمد على وحدة الأهداف ، والمنطلقات ووحدة المشاعر ، والتعاطف القلبي. ويتعرّض تماسك الصف إلى عوامل التفتيت ، والتجزئة باستمرار. ( اختلاف الآراء ، والمصالح الشخصية التي تغلب على المصلحة العامّة عند بعض الناس ، واختلاف المذاقات والمشاعر الخ ).

والتربية الروحية. وبناء العلاقة بالله تعالى - وتنميتها هي دائماً في صالح التماسك. فإنّ التربية الروحية تعمل على ما يلي :

أ - توحيد المنطلق النفسي للمؤمنين في العمل. ( الدافع والهدف ). حبّ الرسالة ، والرغبة في نشرها وتطبيقها مقابل الرغبات الشخصية ، والأهداف الذاتية التي تختلف عادة من شخص إلى آخر

ب - الحب في الله تعالى ، حبّ المؤمنين ، والأنس بهم والإخوة فيما بينهم والمشاركة الوجدانية(٢٤)

ج - التقيد بالخلق الإسلامي في التعامل بين المؤمنين

د - الحرص على المصلحة الدينيّة والخوف على الرسالة

هذه المعاني الأربعة وما يتفرّع عنها هي أساس التماسك والحصانة من التزلزل والتصدع. وهي معان لا يبنيها سوى الإيمان باللّه ، والإخلاص

٧٧

له تعالى ، وحبّه الذي ينبسط على المؤمنين ، وكذلك طاعته ، والصبر عليها في مواجهة الأهواء الشخصية ومشاعر الأنا والاستقلال. وهذه الأمور هي جوهر البناء الداخلي الروحي للمؤمن.

( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (٢٥)

( إنّ سرعة ائتلاف الأبرار إذا التقوا ، وإنْ لم يظهروا التودّد كسرعة اختلاط ماء السماء بماء الأنهار ، وإنّ بُعد ائتلاف قلوب الفجّار إذا التقوا وإنْ اظهروا التودّد بألسنتهم كبُعد البهائم مِن التعاطف وإنْ طال اعتلافها على مذود واحد )

(٣) - التربية الروحية ، والثبات على الدين :

وأوضح ممّا سبق صلة التربية الروحية ، والثبات على الدين في الأيام الصعبة ، وامتصاص المحن ، والحرب النفسية والاضطهاد الجسمي ، والنفسي الذي تواجه به الجاهليةُ أصحابَ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ومَن بَعدهم ، ومَن قَبلهم أتباع الرسل والأنبياء. إنّ الصمود في المحن والبلاء. وفتنة العذاب والمواجهة هو سمة المؤمنين في القرآن الكريم :

( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ

٧٨

الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (٢٦)

( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) (٢٧)

( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) (٢٨)

٧٩

إلى آخر ما هنالك من آيات الصمود الإيماني في مواجهة قوى الضغط والعذاب

كيف أتيح لهذه الأفواج المؤمنة أنْ تصمد في وجه التحدّيات ، وتواجه الآلام ، والإغراءات ، والاضطهاد بالصبر والثبات؟ وما هو غذاء أصحاب موسى ، وأصحاب الأخدود الربيّين ، وأصحاب محمد في رحلة المكاره ، والمصاعب ؟ وبأي وقود استطاعوا الثبات ، والتحدي ، حتى وهم تحت سياط الجلادين ، وقبضة الطغاة ؟

كان غذاؤهم ، وعزاؤهم ، ووقودهم في كل هذه المرحلة الزهد

( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ )

وذكر الله ، والتوكّل عليه ، واحتسابه

( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )

( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ )

( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )

والتطلّع إلى ثواب الله تعالى في اليوم الآخر ، واسترخاص هذه الحياة الزائلة إلى حيث تلك الحياة الخالدة. والأُفق الواسع في تصور الحياة ، ووعي حركتها ، وقلة متاع الظالمين. وهكذا خوف الله واستشعار

٨٠

مراقبته. وهذا هو أيضاً جوهر التربية الروحية

وأمثلة الصابرين بالله تعالى في المحنة ، والبلاء بسبب عمق صلتهم بالله تعالى ، وشديد تعلقهم به كثيرة جداً نعرف الكثير منها ، ونجهل الكثير.

سجل القرآن الكريم بعضها وسجل التأريخ بعضها الآخر ، وأسدل ستار الزمن على الكثير مِن صبر الصابرين في الله. ونحن هنا نستشهد بالمثالين التاليين ، في كلّ تلك الحوادث :

١ - عن الفضل بن شاذان أنّه ( سعي بمحمد بن أبي عمير إلى السلطان : انّه يعرف أسامي عامة الشيعة بالعراق ، فأمَره السلطان أنْ يسميهم فامتنع ، فجر ، وعلق بين ( العقارين ) نخلتين ، وضرب مِئة سوط قال الفضل فسمعت ابن أبي عمير يقول : لما ضربت فبلغ الضرب مِئة سوط أبلغ الضرب الألم إليّ ، فكدت أنْ أُسمّي فسمعت نداء محمد بن يونس بن عبد الرحمان يقول : يا محمد بن أبي عمير ، اذكر موقفك بين يدي الله تعالى ، فتقوّيت بقوله فصبرت ، ولم أُخبر ، والحمد لله )(٢٩)

٢ - ومِن أروع ما يرويه الأصفهاني عن مجموعة الحسنيين التي سُجنت من قِبل المنصور ، لعدم معرفته بمكان محمد بن عبد اللّه ( ذو النفس الزكية ) الذي كان قد بُويع بالخلافة سرّاً منذ العهد الأموي ، ما رواه عن عليّ بن الحسين العابد الذي كان ضمن هذه المجموعة الصابرة

(أ) - عن أحد السجناء منهم : حبسنا في المطبق ، فما كنا نعرف

٨١

أوقات الصلاة إلا بأجزاء القرآن يقرأها علي بن الحسن

(ب) - وفي رواية : لمّا حمل بنو الحسن إلى أبي جعفر أتى بأقياد يُقيّدونه بها ، وكان عليّ بن الحسن قائماً يُصلّي وكان في الأقياد قيدٌ ثقيل ، فجعل كلّما قرُب إلى رَجلٍ تفادى منه واستعفى ، فانفتل عليّ من صلاته فقال: (لشدّ ما جزعتم شرعه هذا ). ثمّ مدّ رجليه فقُيّد به .

(ج) وعن أحد السجناء : لمّا حُبسنا كان معنا عليّ بن الحسن وكانت حلَق أقيادنا قد اتّسعت ، فكنّا إذا أردنا صلاة أو نوماً جعلناها عنّا ، فإذا خفنا دخول الحرّاس أعدناها ، وكان عليّ بن الحسن لا يفعل فقال له عمّه : يا بني ، ما يمنعك أنْ تفعل ؟ قال : (لا واللّه لا أخلعه أبداً حتى أجتمع أنا ، وأبو جعفر عند اللّه تعالى فيسأله لم قيّدني به ؟)

(د) - وعن أحدهم : لمّا دخلنا السجن قال عليّ بن الحسن : (اللهم إنْ كان هذا من سخط منك علينا ، فأشدد حتى ترضى )

(ه‍) - وعن الحسن بن نصر قال : حبَسهم أبو جعفر في محبس ستّين ليلة ما يدرون بالليل ، ولا بالنهار ، ولا يعرفون وقت الصلاة ألاّ بتسبيح عليّ بن الحسن ، قال فضجر عبد الله ( أبو محمد ) ضجرة فقال : يا علي ، ألا ترى ما نحن فيه من البلاء ؟ ألا تطلب إلى ربّك عزّ وجل أنْ يخرجنا من هذا الضيق والبلاء ؟ قال : فسكت عنه طويلاً ، ثمّ قال : (يا عم : إنّ لنا في الجنّة درجة لم نكن لنلقيها إلاّ بهذه البليّة ، أو بما هو أعظم منها ، وإنّ لأبي جعفر المنصور

٨٢

في النار موضعاً ، لم يكن ليبلغه حتى يبلغ منّا مثل هذه البلية ، أو أعظم منها ، فإنْ تشأ تصبر فما أُوشك فيما أحسبنا أنْ نموت ، فنستريح من هذا الغم ، كأنْ لم يكن منه شيء. وإنْ لم تشأ أنْ ندعو ربّنا أنْ يخرجك من هذا الغم ، ويقصد بأبي جعفر غايته التي له في النار فعلنا ، قال : لا ، بل أصبر. فما مكثوا إلاّ ثلاثاً حتى قبضهم الله إليه(٣٠)

(ط) - ومن روايات أبي الفرج أيضاً ، وعن أبي عبد اللّه ابن موسى قال : سألت عبد الرحمان بن أبي الموالي وكان معه بنو الحسن بن الحسن في المطبق : كيف كان صبرهم على ما هم فيه ؟ قال : كانوا صبراء ، وكان فيهم رجل مثل سبيكة كلّما أوقدت عليه النار ازدادت خلاصاً وهو إسماعيل بن إبراهيم ، كان كلّما اشتدّ عليه البلاء ازداد صبراً(٣١)

هذه بعض الآثار العملية الهامّة للجانب الروحي. وهناك آثار أخرى : فالمؤمن العامل يصدر عن خلفية إيمانية ، ورصيد روحي كبير ، وعلاقة وثيقة باللّه تعالى هو الأكثر اندفاعاً ، وإنتاجاً ، والأكثر ثباتاً ، واستقراراً في ظلّ المتغيرات الحياتية ، من رفاه ، ورخاء إلى محنة وابتلاء ومن انفتاح الناس ، وتقبلهم إلى جفائهم ، وتكذيبهم ، ومن بساطة العمل للّه إلى التعقد ، والتشابك ، إنّ الإيمان وحده بما له من آثار في النفس ، والشعور هو وحده القادر على الجمع بين الاندفاع في العمل ، والهدوء في المشاعر والتسامي في الوجدان ، وهي معانٍ من أصعب المعاني في مجال التربية

كيف لا ينطلق المؤمن من الإثارة الخارجية ؟ وكيف لا تهزّه العواطف والمتغيّرات ؟ وكيف لا ينشغل بجزئيّات الحياة عن الاهتمامات الرسالية

٨٣

الكبرى ؟ وكيف لا يضيق صدره من مواجهات التكذيب والسخرية ويحتفظ بطمأنينة ورباطة جأشه في أحرج اللحظات ؟ وكيف يحتفظ بدرجة اندفاعه ، وينمو عنده هذا الاندفاع في مختلف الظروف والأحوال ؟ !

وأخيراً. كيف يحافظ على استقامته الشرعية في معمعة العمل الاجتماعي ، وضوضاء الحياة ؟

والجواب : إنّ كل هذا ليس له سوى منبع واحد. هو الإيمان حينما يثبت في الجوارح كلّها في القلب والمشاعر ، والإرادة ، والوجدان

التربية الروحية وعمل الأئمّة :

ومن الواضح تاريخياً ، أنّ الأئمة كانوا عموماً يعملون به لأجل بناء ، وتكوين الشخصية الإسلامية المتكاملة كنقطة مشتركة ضمن النقاط المشتركة في عملهمعليهم‌السلام . وكانت الشخصية الإسلامية في وعيهم بوصفهم المعبّرين الحقيقيين عن الإسلام هي هذا التلاحم ، والتكامل بين الإطار الأخلاقي الشامل للعطاء الاجتماعي ، والعمل الرسالي ، وبين المضمون والمحتوى الروحي الذي يتمثل في العلاقة بالله تعالى

كانواعليهم‌السلام يواجهون عملية التحلل الأخلاقي ، والانصراف للدنيا والبعد عن الله. والتنصل عن عبادة الله تعالى ، وكانوا يواجهون الانحرافات العملية في الجماعة ، التي أفرزها عملهم ، عندما حولت بعض قطاعاتهم الولاءات إلى أداة للتنصّل عن الالتزام الشرعي ، ولتبرير الوضع المتحلّل بدلاً من أنْ تفهمه على حقيقته ، بوصفه عاملاً من عوامل الاستقامة،

٨٤

والالتزام بالشريعة ، وكانوا أولاً وأخيراً. ينطلقون من دورهم الإيماني في الحياة الذي يتمثل - فيما يتمثل فيه - بتكوين أجيال مؤمنة تحمل الرسالة إلى العالم باستمرار. فيعملون على ذلك بمختلف الأساليب

وقد سجّلت المجاميع الحديثية النصوص الواردة عنهم حول الإيمان والأخلاق والتربية الروحية ، حول الشخصية الإسلامية وبنائها فبلغ ذلك من الكثرة مبلغاً عظيماً.

ونحن هنا نسجل شيئاً من تلك النصوص التي تربط بين الولاء ، والتشيع لخطّ أهل البيتعليه‌السلام ، وبين العلاقة الروحية بالله تعالى :

(١) - عن أبي جعفرعليه‌السلام : ( لا تذهب بكم المذاهب ، فواللّه ما شيعتنا إلاّ من أطاع الله عزّ وجل )(٣٢)

(٢) - عن جابر ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : قال لي : ( يا جابر ، أيكتفي مَن ينتحل التشيّع أنْ يقول بحبّنا أهل البيت فواللّه ما شيعتنا ، إلاّ من اتقى الله وأطاعه ، وما كانوا يعرفون يا جابر إلاّ بالتواضع ، والتخشّع ، والأمانة ، وكثرة ذكر اللّه والصوم والصلاة )(٣٣)

(٣) - عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام في حديث :

( ما أقلّ والله مَن يتّبع جعفراً منكم ، إنّما أصحابي مَن اشتدّ ورعه ، وعمل لخالقه ،

٨٥

ورجا ثوابه ، فهؤلاء أصحابي )(٣٤)

(٤) - وعنهعليه‌السلام : ( ليس منا - ولا كرامة - مَن كان في مصر فيه مِئة ألف ، أو يزيدون ، وكان في ذلك المصر احد أورع منه)(٣٥)

(٥) - وعنهعليه‌السلام : ( شيعتنا الشاحبون الذابلون الناحلون ، الذين إذا جنّهم الليل استقبلوه بحزن )(٣٦)

(٦) - وعنهعليه‌السلام : ( إنْ شيعة عليّ كانوا خمص البطون ذُبل الشفاه ، أهل رأفة وعلم وحلم ، يُعرفون بالرهبانية ، فأعينوا على ما أنتم بالورع والاجتهاد )

وعن أبي جعفرعليه‌السلام : ( إنّما شيعة علي الحُلماء العلماء ، الذُبل الشفاه ، تعرف الرهبانية على وجوههم )(٣٧)

٨٦

ومن المناسب أن نذكر هنا أنّ الجيل الأول للمسلمين قد خرّج مجموعة من أهل العبادة ، والورع والتقوى ، كانوا بسببها موضع مدح أهل البيتعليه‌السلام إذ يُروى عن أبي جعفرعليه‌السلام في خبر صحيح قال :( صلّى أمير المؤمنينعليه‌السلام بالناس الصبح بالعراق ، فلمّا انصرف وعظهم فبكى وأبكاهم من خوف الله ، ثمّ قال : أما والله لقد عهدت أقواماً على عهد خليلي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم ليصبحون ويمسون شُعثاً غُبراً خُمصاً ، بين أعينهم كرَكب المعزى ، يبيتون لربّهم سجداً وقياماً يراوحون بين أقدامهم وجباههم يناجون ربّهم ، ويسألونه فكاك رقابهم من النار ، والله لقد رأيتهم مع هذا ، وهم خائفون ، مشفقون ) .هذه بعض النصوص الشاهدة على أنّ الأئمةعليهم‌السلام كانوا يهدفون إلى بناء الشخصية الإسلامية بما تتضمّنه من عبادة ، وإيمان وحب وإخلاص ، وكل عناصر الروحية الإسلامية الأخرى .ومن هنا فهمعليهم‌السلام يربطون بين الولاء ، وبين التربية الروحية. وأمّا دراسة هذا الهدف ضمن الأهداف العامّة للائمّةعليهم‌السلام من الزاوية التاريخية فلها موضع آخر.

____________________

(٢٢) - الميزان م ١١ ص ٦٦ عن مجمع البيان

(٢٣) - سورة هود / ١٠٩ - ١١٥

(٢٤) - نعني بالمشاركة الوجدانية الشعور الجماعي بدلاً عن الشعور الفردي. أي الشعور بـ( نحن ) بدلاً عن الشعور بـ( أنا ) ، وينتج ذلك تداعي المؤمن للمؤمن في آلامه وأفراحه وأحزانه. عن الصادقعليه‌السلام : ( المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إنْ اشتكى شيءٌ منه وجَد ألم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة ، وأن روح المؤمن لأشدّ اتصالاً بروح الله مِن اتصال شعاع الشمس بها )(الأصول ج ٢ - ص ١٦٦) وهذا يعني إنّ الصلة العاطفية بين المؤمنين نابعة من صلتهم العاطفية بالله تعالى

(٢٥) - هود / ٢٩ - ٣٠

(٢٦) - آل عمران / ١٤٥ - ١٤٨

(٢٧) - آل عمران / ١٧٣

(٢٨) - طه ٧١ - ٧٣

(٢٩) - أخبار معرفة الرجال ص ٥٩١

(٣٠) - مقاتل الطالبيّين ص ١٣٩

(٣١) - نفس المصدر ١٣٥

(٣٢) - أصول الكافي ج ٢ ص ٧٣

(٣٣) - نفس المصدر ص ٧٤

(٣٤) - نفس المصدر ص ٧٧

(٣٥) - نفس المصدر ج ٧ ص ٧٨

(٣٦) - نفس المصدر ج ٢ ص ٢٣٣

(٣٧) - نفس المصدر ج ٢ ص ٢٣٥

الجانب الروحي والممارسات العبادية

توجد بصدد تحديد نوعية العلاقة بين الجانب الروحي والممارسات العبادية فكرتان خاطئتان هما :

(١) - الفكرة التي تؤكد على أنّ الممارسات العبادية هي كل شيء. وأنّ الجانب الروحي إنّما هو الممارسات العبادية من أذكار ، ونوافل ، وتبتّلات

٨٧

(٢) - الفكرة التي تقطع الصلة بين الجانب الروحي والممارسات العبادية، وتفترض أنّ بإمكان الإنسان المؤمن أنْ تكون لديه الملَكة الروحية ، وأنْ ينمّي علاقته الداخلية بالرسالة من دون حاجة إلى المستحبّات والأذكار وغيرها من الأمور العبادية الخاصة

والصحيح أنّ الممارسات العبادية شيء ، والجانب الروحي شيءٌ آخر ، وأنّ بينهما صلةٌ وثيقة ؛ وذلك لأنّ الجانب الروحي إنّما هو الارتباط النفسي ، والروحي بالله تعالى هذا الارتباط والانشداد الداخلي ، الذي يؤدي إلى الورع عن الإسلام

وهذا المعنى هو الذي يُعتبر عنصراً من عناصر الشخصية الإسلامية ، أو محتواها الحقيقي ، وأمّا العبادة الخارجية فهي ليست المحتوى الحقيقي للشخصية الإسلامية وإنّما لها دورٌ آخر سنشير إليه. والإسلام - كتاباً وسنّة - عندما يولي العبادة الخارجية من أذكار ، وصلوات وأدعية. اهتماماً ، وتأكيداً ، فإنّما هو من أجل زيادة الإيمان بالله ، وحبّه ، والإخلاص له ، وتمثّل ما رسمه للإنسان في الحياة

( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٣٨)

وتؤكد النصوص هذه الحقيقة. وهي أنّ المهم إنّما هو البناء الداخلي والانشداد النفسي ، والعاطفي ، والسلوكي بالله تعالى ، بل وتحذر من الوقوع في خطأ الخلط بين البناء الذاتي والممارسات العبادية. لما لهذا الخلط من آثار عملية وفكرية سيّئة ومن أوضحها التركيز على العبادة ، والممارسات العبادية ، وإهمال المضمون الداخلي والتربوي للإنسان

٨٨

(١) - عن مفضل بن عمرو قال : ( كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام فذكرنا الأعمال فقلت أنا : ما أضعف عملي ، فقال :

( مه ، استغفر الله ) ، ثمّ قال : ( إنّ قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى )(٣٩)

(٢) - عن أبي بصير قال : قال رجل لأبي جعفرعليه‌السلام : إنّي ضعيف العمل قليل الصيام ، ولكنّي أرجو أنْ لا آكل إلاّ حلالاً فقال له : ( أي الاجتهاد أفضل مِن عفّة بطن وفرج ؟)(٤٠)

وفي نص صحيح عن أبي جعفرعليه‌السلام : ( ما عُبد اللّه بشيء أفضل من عفّة بطنٍ وفرج )(٤١)

(١) - عن عيسى بن عبد الله أنّه قال لأبي عبد اللهعليه‌السلام :

جعلت فداك : ما العبادة ؟ قال : حسن النية بالطاعة من الوجوه التي يطاع الله منها(٤٢)

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالّة على هذا المعنى

إذن فالأساس في الجانب الروحي ، والمهم في نظر الإسلام تربوياً هو ، الصلة الداخلية باللّه ، والانشداد النفسي والعمل. لا كثرة العبادة.

هذا من جهة. ولكن من الجهة الأخرى فإنّ الممارسات العبادية ، وكثرة الأذكار ، والتنفّلات هي جزء مهم من الإسلام وليست إضافة

٨٩

غريبة عليه ، وقد ورد الحث الشديد عليها في القرآن الكريم ، والسنة المطهرة ، وسجل لنا التأريخ حرص الأئمة البالغ على أدائها ، والقيام بها(٤٣)

ومن الواضح أنّ الإسلام إذ يؤكد على هذه الممارسات العبادية ، فلا يؤكد عليها بما هي أصوات ، وحركات ، وطقوس ، وإنّما ينبع تأكيده عليها ، لصلته الوثيقة بالارتباط النفسي والروحي باللّه سبحانه. أي بوصفها عاملاً تربوياً وسبباً من أسباب تصعيد الإيمان في المشاعر ، والعواطف والإرادة. فهذا الحث الأخلاقي والتشريعي يكشف عن ( صلة واقعية ) بين الممارسات العبادية والمحتوى الداخلي للشخصية الإسلامية ، وهي صلة لا يمكن عمليّاً - بموجبها - أنْ نتصوّر مستوى روحيّاً جيّداً ، من دون ممارسة عبادية جادة ، تتمثل في مجموعة من الحركات العبادية والأذكار ، والصلوات - المستحبّة بالطبع - وهكذا تلاوة القرآن الكريم ، ومتابعة الأدعية ، وما شاكل ذلك

إنّ من حسنات الإسلام الكثيرة علينا - ومن نعم اللّه سبحانه - أنّه كما أوضح لنا الأهداف التربوية كذلك حدّد لنا عموماً وسائلها ، ولم يترك هذا الإنسان يتخبّط في تحديد الوسائل ، والأساليب التي تربطه نفسياً ، وشعوراً بالغيب ، شخص اللّه سبحانه في تشريعه المنزّل : الصلاة والأذكار ، والصيام ، وتلاوة القرآن الكريم ، والدعاء كوسائل لتنمية الروح. وبناء الذات الرسالية وليس بإمكاننا أن نقفز من على الأساليب الربانية لنصل إلى هدفنا التربوي الخطير ، إنّما نصل إليه بواسطة تمثل هذه الأساليب ، وتبنيها عملياً. وكما إن الممارسات العبادية ( عامل )

٩٠

تربية للبناء الروحي كذلك هي ( نتائج ) ؛ لأنّ العلاقة الداخلية باللّه تظهر على السلوك ، لا بشكل طاعة ، والتزام فقط ، وإنّما عبادة ، وخشوع ، وتضرّع ، وأذكار أيضاً. نلخص من كل هذا

(أولاً) : إنّ الممارسات العبادية ليست هي الجانب الروحي في الشخصية الإسلامية. ولا هي المهم المباشر في نظر الإسلام ، وإنّما هي جزء مهم من الإسلام

(ثانياً) : أنّ هناك علاقة وثيقة بين الانشداد النفسي العاطفي ، والشعوري ، والعملي باللّه ، الجانب الروحي ، وبين الممارسات العبادية ؛ لأنّ تكوين الجانب الروحي وتنميته لا يتم من الناحية العملية ، ومن زاوية النظرية الإسلامية التربوية إلاّ من خلال الممارسات العبادية وأمثالها ، ونقصد من الممارسات العبادية في كل ما سبق الممارسات العبادية ، التي تمثّل العبادات الواجبة المؤدّاة بصورتها الصحيحة ، والفضلى ، والعبادات المستحبّة.

جنايات على التربية الروحية

نلاحظ : أنّ الإنسان المسلم - وحتى بعض من كتب في هذه المجالات - يُعاني من الضعف الروحي. وضعف الانشداد النفسي بالله تعالى. من عوامل ذلك صعوبة التعامل النفسي مع الغيب ؛ لأنّ الإنسان بحكم تكوينه المرتبط بالمادة ، وانغماسه في الحس ذهنياً ، ونفسيّاً لا يجد من السهل أنْ يتعالى على ذلك ، ويعلق شعوره ، وقلبه بالله سبحانه ويقطع نفسه من الدنيا ، ومعانيها الخداعة. طبيعة المذهب البشري الميال إلى

٩١

التفكير الحسي(٤٤) وغرائز الإنسان ، وشهواته التي تتطلب السرعة ، والعجلة في التنفيذ(٤٥) عاملان داخليان لإضعاف التوجه الروحي في المشاعر والوجدان ، والإرادة

ويضاف إلى ذلك ، عوامل أُخرى تساعد على ضعف البناء الروحي للإنسان المسلم :

(١) - الصورة المشوّهة التي كوّنتها الاتجاهات الروحية المنحرفة ، إذ يقترن الآن في ذهن الإنسان المسلم - أو بعض المؤمنين - التربية الروحية العبادية الكثيرة ، التي تهدف إلى خلق الروح الإسلامي المشدود إلى الله يقترن هذا باعتزال الناس ، والقطيعة الاجتماعية ، والتنصّل عن المهام الرسالية في الحياة ، والنماذج المتديّنة ، والاتجاهات المنحرفة في التربية الروحية

إنّ الإفراط - لو صحّ هذا التعبير - في التربية الروحية واختلال التوازن السلوكي على حساب العمل الاجتماعي أدّى إلى تفريط هذه التربية ، وردود فعل نفسيّة سلبية تجاهها

وأنْ توضّح المفهوم الإسلامي الصحيح حول الإعداد والتربية الروحية ، والعمل على إلقاء الأضواء على حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الصالحين الذين عانوا في العمل الاجتماعي ، في جانبها العبادي المشرق ، واقتران الدعوة إلى التربية الروحية بشجب التيارات المنحرفة فيها من الأمور الضرورية ، في مواجهة هذا التعامل التاريخي السلبي

(٢) - الجو الحضاري ، والاجتماعي الذي يقوم على أُسس أخلاقية ،

٩٢

وفلسفية تختلف عن قِيم الإسلام ، وأخلاقه وتصوّراته عن الحياة

إنّ هذه الحضارات المادية التي يشيع تأثيرها في كل مكان لَقادرة على أنْ تستوعب تيارات اجتماعية ، وفكرية مختلفة ، وهي لا تمانع مع انتشار هذه التيارات ، شريطة أن لا يكون لهذه التيارات مضمون حياتي ، وأخلاقي ، أو حضاري جديد يختلف عنها بإمكان هذا الإنسان المسلم أن يعمل للإسلام ويوضّح أفكاره كمبدأ اقتصادي واجتماعي. دون أن يشعره بت( ازدراء ) اجتماعي وحضاري ، خاصة إذا فرغ الإسلام من مضمونه الأخلاقي

إمّا أن يدعو هذا الإنسان المسلم إلى صياغة إنسان جديد. يقوم على أساس الانشداد النفسي والشعوري ، بالله والزهد في الدنيا ، أو هو يبني نفسه على أساس من ذلك ، فهذا ( نشاز ) في وعي الإنسان المعاصر الذي يزدري بسهولة هذه المفاهيم وهذا عامل مهم من عوامل ضعف البناء الروحي ؛ لأنّ للإيحاء الحضاري والاجتماعي أثراً كبيراً في شخصية الفرد

(٣) - التحدي الثقافي الغربي للإنسان المسلم يفترض على هذا الإنسان أن يقوم بعملية رد على التحدي ، والذي يحدث - عادة - في مثل هذه الحالات ، هو أن يفقد الإنسان المسلم أصالته ، وصدوره عن منبع ثقافي ، وروحي أصيل. وتكون ثقافته ، ومواقفه مجرّد ثقافة ومواقف ( دفاعية ) وهذه مسألة مهمّة تدعو إلى التفكير ، والتأمّل

____________________

(٣٨) - سورة البقرة ١٨٣

(٣٩) - أصول الكافي ج ٢ ص ٧٦

(٤٠) - نفس المصدر ج ٢ ص ٧٩

(٤١) - أصول الكافي ج ٢ ص ٧٩

(٤٢) - أصول الكافي ج ٢ ص ٨٣

(٤٣) - ولعلّ الإمامين العليّين : أمير المؤمنين ، وعليّ ابن الحسينعليهما‌السلام كانا أكثر مبالغة وجهداً من باقي الأئمةعليهم‌السلام في ذلك

ففي خبر صحيح عن أبي عبد الله : ( كان عليّ بن الحسينعليه‌السلام إذا أخذ كتاب عليّعليه‌السلام فنظر إليه قال : مَن يطيق ذا ؟ من يطيق ذا ، قال : ثمّ يعمل به وكان إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه حتى يُعرف ذلك مِن وجهه وما أطاق عمل عليّعليه‌السلام من ولده مِن بعده إلاّ عليّ بن الحسينعليه‌السلام ) ، ويؤكّد هذا المعنى أخبار أُخرى ( الوسائل - مقدمات العبادات - باب ٢٠ ص ٣ ) .وفي بعضها أنّه دخل أبو جعفرعليه‌السلام على أبيه عليّ بن الحسين فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فرآه قد اصفر لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته وانحرف انفه من السجود ، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة .وقال أبو جعفر : ( فلم أملك - حين رأيته بتلك الحال - البكاء فبكيت رحمة له فإذا هو يفكر فالتفت إلي بعد هنيئة من دخولي ، فقال : يا بني ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثمّ تركها من يده تضجّراً ، وقال : من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ) ؟ باب ٢٠ ص ٦٨ الوسائل

(٤٤) - الإنسان وإنْ كان يميل طبيعياً إلى التفكير الحسّي ، إلاّ أنّه قادر على تجاوز المعرفة الحسّية. فهذا وغيره من ( القوانين الاقتضائية ) ، وليس من ( القوانين الحتمية )

(٤٥) -( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) ( آل عمران )

عناصر الجانب الروحي

تشتمل الروحية الإسلامية على ثلاثة عناصر رئيسية :

(الأول) : الوعي الإيماني وتعني - هنا - المدركات الذهنية التي

٩٣

تتمتع بالاستحضار المستمر ، والمعايشة الدائمة من قبل الإنسان المؤمن ، كالإيمان بالله تعالى ، واليوم الآخر والشعور بالحركة التاريخية ، ووحدة المسيرة. الخ

(الثاني) : الوجدان الإسلامي ويشمل العواطف كحب الله تعالى ، وحب المؤمنين ، والانفعالات ، كالخوف ، والرجاء من الله ، والغضب له

(الثالث) : الإرادة ، والإخلاص ، أو الدافع الديني في شخصية الإنسان المسلم ، الذي ينظم حركة هذه الشخصية وتصرفاتها ، ويعتبر الجهاز الحاكم فيها

وسندرس هذه العناصر إن شاء الله تعالى. تباعاً ثمّ نسجّل بعد ذلك إن شاء الله الوسائل التي وضعها الإسلام لبناء الجانب الروحي وتنميته

ومنه تعالى نستمدّ التوفيق والسداد

٩٤

٩٥

٩٦

٩٧

(١)( وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً ) ( الإسراء )

٩٨

الفصل الثاني : الإيمان ( الوعي الكوني والرؤى الفكرية )

دور الفكر في الشخصية الإسلامية

الفكر. هو الصورة الذهنية التي يحملها الإنسان عن الواقع الخارجي عن الكون ، أصله ، ونشأته وتطوّره ونهايته ، والحياة ومعناها والمجتمع وقوانينه ودور الإنسان في هذه الدنيا. ومسؤوليته فيها وصلة الله تعالى بالعالم. إلى آخر ما هنالك من موضوعات يتعلّق بها الفكر الإنساني ، والفكر هو أحد أجهزة الشخصية الإنسانية ، التي تتفاعل فيما بينها ، وتتبادل التأثير وهي ( الفكرة ، العاطفة ، الإرادة ) ، ففكر الإنسان ليس منفصلاً عن عاطفته وأُسلوب حياته النفسية وإنّما هو متّصل بها أوثق اتصال ، يؤثّر فها ويتأثّر بها. ومن هنا كان النمو الفكري للطفل البشري ، والمجتمع البشري يؤثّر باستمرار في طريقة حياته ، وفي قِيمه الأخلاقية والحضارية ، ودرجة انفتاحه النفسي ، ونضجه الانفعالي

ومن هنا أيضاً كانت أجدر الرسالات في التأثير بالناس ، وقيادتهم ، الرسالة التي تقدّم لهم منهجاً كاملاً شاملاً للفكر ، والأخلاق ، والسلوك. لأنّ الإنسان في ظلّ هذه الرسالة لا يشعر بالانفصال بين فكره ، وسلوكه ، وبين مفاهيمه بالحياة ، وقيمه الأخلاقية ، ولأنّ كلّ جزء من هذه الرسالة يعزّز الجزء الآخر ويكمله

ومن هنا ندرك عظمة هذا الدين الذي تنزل من أجل بناء الإنسان ، حينما بدأ مشروعه التغييري الجبّار من التحرير الفكري للإنسان مِن أوهام

٩٩

الجاهلية ، والإبداع وإعادة بنائه العقلي على أساس من وعي كوني جديد ، يقوم على أساس الإيمان بالله ، الواحد الأحد ، المتفرّد بالأسماء الحسنى ، ذي الطول والنعم باعث الأنبياء والرسل لهداية الناس. والإيمان بمرحلية هذه الحياة ، وعود الناس إلى الحياة من جديد، ليروا أعمالهم

( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )

وما أسهل أنْ ندرك قيمة هذا الوعي الكوني في شخصية الإنسان المسلم وأثره العميق في الحياة النفسية لهذا الإنسان هذا الوعي الذي يبعث وينمي الإحساس الأخلاقي بالحياة ، ويعمل على خلق المشاعر المتعالية على جزئيات الحياة ، وصغائر الأمور. هذا الوعي الذي يقاوم التقييم النفسي للظواهر ، والأشخاص ، ويوسع الآفاق. ويخلق طمأنينة النفس ، وهدوء المشاعر ، والانفعالات ، هذا الوعي الذي ينمي روح التفاؤل بالحياة ، والانفتاح عليها ، ويترك لأهل الضلال السأم ، والتطيّر ، والقلق ، والغثيان. ولا يقتصر الوعي الذي يشيعه الإسلام بين المؤمنين على الوعي الديني الخاص ، الذي يتمثّل بالإيمان بالله ، واليوم الآخر بل يتعدّى ذلك إلى مجالات أُخرى سنأتي عليها إنْ شاء الله بعد قليل

الوعي الفكري والفهم

إنّ الفكر الذي يعتبر عنصراً من عناصر شخصية الإنسان المسلم ليس هو ( الفهم ) والتصديق الساذج بقضايا الإيمان ، وتقريرها تقريراً منطقياً ، أو عملياً ، إنّما هو الوعي والفكر المستحضر المعاش في الذهن ، والمتذكّر

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326