الفتاوى الميسرة العبادات - المعاملات

الفتاوى الميسرة العبادات - المعاملات0%

الفتاوى الميسرة العبادات - المعاملات مؤلف:
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 443

الفتاوى الميسرة العبادات - المعاملات

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عبد الهادي محمد تقي الحكيم
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 85361
تحميل: 5562

توضيحات:

الفتاوى الميسرة العبادات - المعاملات
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85361 / تحميل: 5562
الحجم الحجم الحجم
الفتاوى الميسرة العبادات - المعاملات

الفتاوى الميسرة العبادات - المعاملات

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخُلق، وقضاء حاجة المؤمن المحتاج، وصلاة الجماعة، واستعمال الطيب، وغيرها كثير.

‏وكلّ ما حسُن تركُه والابتعاد والنأي عنه مِن دون إلزام وتُثاب على تركه إنْ كان بقصد القربة فهو مِن المكروهات، كتأخير زواج الرجل والمرأة، والغلاء في المهر، وردّ طلب المؤمن المحتاج إلى القرض مع القدرةِ عليه، وغيرها كثير.

‏أمّا ما تُركَت لك حريّة الاختيار فيه، أنْ تفعله أو تتركه فهو مِن المباحات كالأكل، والشُرب، والنوم، والجلوسِ، والسفر، والسياحة، وغيرها كثير.

‏* وأنّى لي أنْ أفرز الواجبات عن المستحبّات، والمحرّمات عن المكروهات كيف أعرف أنّ هذا واجبٌ فأفعله وأُؤدّيه وألتزم به، وهذا حرامٌ فأجتنبه وأدَعه وأتركه وأنأى عنه كيف أعرف أنْ...‏

قاطعني أبي مُبتسماً، ثمّ نظر إليَّ نظرة رحمة وإشفاق وهَمَّ أنْ يقول شيئاً إلاّ أنّه أعرض عنه مُؤثراً التريّث، ثُمّ انكفأ فَغَاصَ في تأمّلٍ عميق.

‏وساد لوهلةٍ صمتٌ عميق كثيف كالفراغ لَم استطع أنْ أُخمِّن خلاله ما دار في رأس أبي، غير أنّي كنت أرقب سحابةً داكنة مُعتمة تمرُّ متأنّيةً على جبهته ثُمّ تتشطّر فتُغطّي بقيّة قَسَمَات وجههِ وصولاً إلى شفَتَيه اللّتين انفرجتا عن صوتٍ ضعيف، فيه مِن الرّقِة والعَطف الشيء الكثير.

٢١

-‏ ستميّز الواجبات عن المحرّمات، والمُستحبّات مِن المكروهات إذا استعرضت كتب علم ( الفقه الإسلامي ) وستجد أنّ لبعضها أركاناً وأجزاء وشرائط، ولبعضها حَرَكَاتٌ خاصّة يجب أنْ تؤدّى بها، ولبعضها خصوصيّات لا يُمكن أنْ تحيد عنها، ولبعضها.. ولبعضها..‏

‏راجع كُتب الفقه الإسلامي وستجد فيها ضالّتك.. ثمّ ستكشف بعد ذلك أنّه علم واسع، غزير، كتبت فيه مِئات المجلّدات، وأشبع العلماء مسائله بحثاً، وتمحيصاً، بعُمق قلَّ نظيره في علوم إنسانيّة أُخرى.

‏* وهل يجب عليَّ أنْ ألُمَّ بكلِّ هذهِ الكتب لأعرف ما يَجِب عليَّ أنْ أفعله ؟‏

‏-‏ بل يكفيك أنْ تُراجع أخصرَها وأيسرَها على الفهم، وستجد أنّها قُسِّمت إلى قسمين:‏

قِسم خاصٌّ بالعبادات، وقِسمٌ خاصٌّ بالمعاملات.

‏* وما العبادات ؟ وما المعاملات ؟

-‏ تمهَّل قليلاً، وراجع كُتُب الفقه الإسلامي، وستَعرِف تدريجيّاً ما أنت الآن بصدد معرفته.

‏* * *

ورحت أعدو إلى المكتبة، علّني أعثرُ على كتب الفقه الإسلامي هذه.. أعدو ويعدو شوقي وحاجتي وما أنْ وقَعَت عيناي

٢٢

عليها حتّى أسَرتْني فرحةٌ غامرة، هزّت كياني كلّه هزّاً عنيفاً، أو هكذا خُيّل إليَّ.

‏ها هي ذِي كتب الفقه الإسلامي، لقد وصلْتُ أخيراً إلى غايتي..‏

‏سأقرؤها، وسأجد فيها إجاباتٍ شافية عن أسئلتي.... وسأستريح.

‏وعدت إلى غرفتي لهفان مسرعاً، مزهوّاً بما أنجزت، فتحت الباب على عجَل، ودخلت الغرفة على عجَل، وفتحت كتابي على عجل، وما أنْ بدأت أقرأ حتّى ارتسمت على ملامحي خطوطٌ مِن غرابة متوحّشة أوّل الأمر، سُرعان ما تحوَّلت إلى دهشةٍ مكتومة، ثُمّ استقرّت متّخذة شكلَ وجَعٍ حارقٍ متوهّجٍ مؤلم.

‏لقد وجدت نفسي أقرأ كثيراً، ولا أفهم شيئاً ذا بال ممّا قرأت.

‏ترى كيف لي أنْ أعالج حيرتي، وحيرتي مِن نوعٍ خاصٍّ غيرُ مألوف ؟‏

‏وكابرت، قلت: ‏فلأُواصل القراءة، ومحاوَلَة الفهم، وإعادة القراءة وإعادة محاولة الفهم، علّني أستفيد.

‏ومرّ الوقت ثقيلاً، بطيئاً، متأنّياً، كان صدري يرزح خلاله تحت ثقلٍ ضاغط، جاثم، لا ينفك يطاردني، ويضيِّق خناقه عليَّ، وبينَ يدي الكتاب وأنا أتلو، ثمّ أتلو، ثمّ أعيد تلاوة ما تلوت، ولا أفهم شيئاً.

‏وبدأت سُحُب الخيبة تتجمّع حولي شيئاً فشيئاً، ثُمّ راحت تتحوّل تدريجيّاً إلى ما يشبه سحابةٍ من حُزنٍ شفيف تطلع بين عيني.

٢٣

لقد قرأت كثيراً، وعليَّ أنْ أعترف أنّني لم أفهم شيئاً ذا بال ممّا قرأت.

‏لقد وجدت نفسي أمام كلماتٍ لم تطرق سمعي مِن قبل.. فلم أعرف ماذا تعني كلمات ( النصاب، والبيّنة، والمؤنة، والأرش، والمسافة الملفّقة، والحول، والدرهم البغلّي، والأبق، والذمّيّ ).

‏كما أخذَت تتقافز أمام عيني مُفردات وتركيبات يبدو أنّها مصطلحاتٌ خاصّة بعِلمٍ لم يسبق لي دراسته، فلم أدرِ ما المقصود ب-‏ ( العلم الإجمالي، والشبهة المحصورة، والحكم التكليفي، والحكم الوضعي، والشبهة الموضوعة، والأحوَط لزوماً، والتجزّي في الاجتهاد والصدْق العُرفي، والمَناط، والمشقّة النوعيّة ).

‏وقرأت بعد ذلك جُملاً مسبوكةً سبْكاً خاصّاً، لم أعتدْه من قَبل، وجُملاً عالجَت قضايا لا وجود لها في حياتي المُعاشة اليوم، لا أدري لماذا ذُكِرت ؛ وجُملاً فيها مِن التشقيق والتفريع والعُمُق والتشطير الدقيق للاحتمالات، تركتني في حيرة من أمرها.

‏فلَم أفهم ماذا تعني -‏ مثَلاً -‏ جملة :

( إذا عُلِم البُلوغ والتعلّق ولم يُعلَم السابق منهما لم تجب الزكاة، سَواءٌ عَلِم تاريخ التعلّق وجهِل تاريخ البُلوغ، أمْ عَلِم تاريخ البُلوغ وجهِل تاريخ التعلّق أو جهِل التاريخان، وكذا الحكم في المجنون إذا كان جُنونه سابقاً وطرَأ العقل، أمّا إذا كان عقَلَه سابقاً وطرأ الجنون، فإنْ علِم تاريخ التعلّق وجبَت الزكاة دون بقيّة الصوَر ).‏

٢٤

ولا جملة: ‏( الظنّ بالركعات كاليقين، أمّا الظن بالأفعال فكونه كذلك محلُّ إشكال، فالأحوط فيما إذا ظنّ بفعل الجزء في المحل أنْ يمضي ويعيد الصلاة، وفيما إذا ظنّ بعدَم الفعل بعد تجاوِز المحل أنْ يرجِع ويتداركه ويُعيد أيضاً ).

‏ولا جملة: ‏( الأقوى أنّ التيمّم رافعٌ للحدَث رفْعاً ناقصاً لا يجزي مع الاختيار، لكن لا تجِب فيه نيّة الرفع ولا نيّة الاستباحة للصلاة مثلاً ).

‏ولم أعِ المقصود ب-‏ ( إذا توضّأ في حالِ ضِيق الوقت عن الوضوء، فإنْ قصد أمر الصلاة الأدائي بطَل، وإنْ قصَد أمر غايةٍ أُخرى -‏ ولو الكون على الطهارة -‏ صحّ ).

‏ولا بجملة: ‏( يكفي في استمرار القصد بقاء قصد نوع السفر، وإنْ عدَل عن الشخص الخاص).

‏ولا بجملة: ‏( فلو أحدَث بالأصغر أثناء الغُسل أتمَّه وتوضّأ، ولكن لا يترك الاحتياط بالاستئناف بقصد ما عليه مِن التمام أو الإتمام، ويتوضّأ ).

‏ولا بجملة: ‏( مناط الجهر والإخفات الصدق العرفي ).

‏وغيرها كثير ممّا وقعت عيناي عليه، ولم أدرك كنهه.

‏ودارت الدّنيا في عيني.. ثمّ دارت دورةً ثانية.

تُرى: ‏كيف يتسنّى لي أنْ أعرف حلال الله فآتي به ؟ وحرام الله فأجتنبه ؟

٢٥

ورفعت رأسي إلى السماء، وفي عيني نثيث من عصارة دمع محترق، وتَمتَمتُ.

‏اِلهي ! أعلم أنّك كلّفتني، ولكنّي لا أعلم بماذا كلّفتني..‏

‏اِلهي ! أنّى لي أنْ أعرف ما طلَبتَ منّي، لأنجز ما طلبت منّي.

‏اللهمّ أعنِّي على فهم ما أقرأ.

‏اللهمّ أعِن كتب الفقه على الإفصاح عمّا تريد قوله، لأُحقِّق ما تُريد قوله.

‏* * * ‏

٢٦

‏وانتظرت أبي على المائدة الليليّة مساء اليوم..‏

‎ وحين حلّ المساء بدَت عيوني متعبة، قلقة، منكسرة الأجفان أوّل الأمر.‏ ثُمّ ما لبِثت أنْ أخذَت تومض ببريقٍ كالفضّة امتزج فيه الأسى بالإصرار على التحدّي.

وما أنْ انتظمت بنا المائدة، وحضر أبي حتّى أخذ قلبي يدقّ، وتورّدت وجنتاي، وارتفعت درجة حرارة أُذُنَيّ كأنّ حُمّي مفاجئة اشعلَتهما، وداهمني شعورٌ بالحرَج، والخجَل، والحيرة، والارتباك، والتردّد، وأنا أُعيد في ذاكرتي وأردّد كلمات وجملاً توحي بالعجز عن استيعاب مادّة مقروءة.

‏واستنجدت بشجاعتي وبعزمي على الاعتراف بالنقص، وقلت لأبي:‏‏

* لقد راجعت كتب الفقه فاستعصت عليّ، وأبت أنْ تفتح لي قلبها.. ‏

وما كِدت أنهي حرفي الأخير مِن كلمتي الأخيرة، حتّى شردَت عينا أبي، وغارتا -‏ كما يبدو -‏ في مستنقع من الماضي عميق، ثمّ عادتا بعد برهة كمَن يعود مِن سفَرٍ شاقٍ ممضّ طويل، ودارتا حول عيني كأنّهما تريدان أنْ تقولا شيئاً، غير أنّ شفتيه انفرجتا عن صوتٍ خافتٍ مشوبٍ بحزنٍ عميق:‏

-‏ لقد مررْت بتجربةٍ شبيهةٍ بتجربتك، عندما كنت في حدود

٢٧

سِنّك.

‏لقد قرأت كتب الفقه فلَم أفهم منها شيئاً ذا بال، مثلك تماماً.. غير أنّي لم أمتلك شجاعتك فأعترف بعجزي عن فهمها.

‏لقد حالت تربيتي المُحافظة، وحَجَزَ حيائي الشديد، بيني وبين سؤال أبي عن بعض خصوصيّات مرحلة المراهقة ثمّ الرجولة، فلم أَكُن أُدرك أنّ البلوغ قد يتحقّق بغير العمُر الزمني المحدّد له، إلى أنْ.. وقاطعت أبي:‏‏

* وهل يتحقّق البلوغ بغير ذلك ؟

-‏ نعم يا بنيّ، يتحقّق البُلوغ في الذكر إذا توفّرت إحدى علامات ثلاث: ‏-‏

أوّلها : ‏أنْ ينهي خَمس عشرة سنة قمريّة مِن عمره.

ثانيها : ‏أنْ يخرج السائل المنوي منه سَواء خرج باتِّصالٍ جنسي أَم باحتلامٍ، أَم بغيرهما.

ثالثها : ‏أنْ ينبت الشعر الخشِن على العانة، أقول الشعر الخشِن المُشابِه لشعر الرأس لأستثني بذلك الشعر الناعِم الذي يُغطّي -‏ عادةً -‏ أكثر مناطق الجسم كاليدين مثلاً.

‏* والعانة ؟

-‏ العانة: ‏منطقةٌ تقع أسفَل البطن فوقَ نقطة اتّصال العضو التناسلي بجدار البطن مباشرة.

‏هذه علامات البلوغ للذكر، أمّا الأُنثى ؟

٢٨

-‏ يتحقّق البلوغ في الأُنثى إذا أنْهَت تِسْعَ سنين قمريّة مِن عمرها.

‏أما وقد أفصحت لك اليوم عن قصوري، وتلكّئي، وعجزي عن استيعاب كتب الفقه، فاسمح لي أنْ أقترح عليك -‏ تحت ضغط الحاجة -‏ أنْ تعقد لي جَلَسات تتناوَل فيها بالشرح والتبسيط كلّ ما عَسُر عليَّ فهمه، ممّا يتوجَّب عليَّ فهمه والإحاطة به واستبيانه، لتطبيق حكمي الشرعي، صحيحاً كما شرّعه الله سبحانه وتعالى لي، وأمرني به.

‏* ويا حبّذا لو كانت جَلَسَاتنا تنهج نهج الحِوار والمساءلة.

‏-‏ كما تُحِب.

‏* ولكن بماذا سنبدأ حواريّتنا الأُولى ؟

-‏ سنبدؤها ب-‏( التقليد ) فهو الأساس الذي سيُحدّد لنا شكل تقاطيع وملامح ما سنطبِّقه مِن فقهنا.

‏* اتفقنا.

‏* * * *

٢٩

٣٠

( حِواريّة التقليد )

٣١

٣٢

قال أبي -‏ وهو يبدأ حواريّة التقليد: ‏-‏‏

-‏ دعني أشرح لك أوّلاً معنى التقليد.

التقليد:

أنْ ترجع إلى فقيهٍ لتطبّق فتواه، فتفعل ما انتهى رأيه إلى فعله، وتترُك ما انتهى رأيه إلى تركِه، مِن دون تفكير، وإعادة نظر، وتمحيص، فكأنّك وضَعت عمَلَك في رقَبَتِه ( كالقلادة ) محمّلاً إياه مسؤوليّة عمَلِك أمام الله.

‏ولماذا نقلِّد ؟

-‏ عرفتَ فيما مضى أنّ الشارع المقدّس قد أمرك، ونهاك.. أمرَك بواجبات يتحتّم عليك أنْ تؤدّيها، ونهاك عن محرّمات يتحتّم عليك أنْ تمتنع عنها، ولكنْ بماذا أمرك، وعن ماذا نهاك ؟ بعض ما أمرك به واضح في الشريعة تستطيع -‏ ربّما -‏ من خِلال ما ربّتك عليه بيئتك الملتزمة أنْ تشخّصه، وبعض ما نهاك عنه واضح كذلك تستطيع -‏ ربّما -‏ مِن خلال تنشئتِك المحافظة أنْ تميّزه والكثير الكثير ما بين هذه وتلك مِن الواجبات والمحرّمات، ستبقى مجهولةً لك وللكثيرين مِن أمثالك غائبةً أو غائمة.

أضاف أبي:

٣٣

-‏ أنت تعرف أنّ الشريعة الإسلامية قد ألَمَّت بجميع جوانب حياتك المختلفة، فوضعت لكلّ واقعة منها حكماً، فكيف ستعرف حكمك الشرعي وأنت تُمارس نشاطاتك الحياتيّة المختلفة، كيف ستعرف أنّ هذا الفعل يحلّه الشارع المقدَّس فتُباشره، وأنّ هذا العمل يُحرّمه الشارع المقدّس فتنأَى عنه وتُجانبه.

‏تُرى هل يُمكنك أنْ ترجع في كلّ صغيرةٍ وكبيرة إلى الأدلّة الشرعيّة لتستخرج منها حكمك الشرعي ؟

* ولِمَ لا !!‏

-‏ لقد بَعُدَت الشقّة يا بني، بين عصرِك وعصرِ التشريع، وقد أضفى هذا البُعد ؛ مع ضَياع كثير مِن النصوص الشرعيّة، وتغيّر لغة وأساليب وأنماط التعبير، ووجود الوضّاعين -‏ الذين اختلقوا أحاديثَ كثيرة وسرّبوها مع أحاديثنا المعتبرة -‏ صعوبات ومعوّقات عسَّرت عمليّة استخراج الحكم الشرعي.

‏ثُمّ أضافت مُشكلة وثاقة ناقلي الروايات لذلك عقدةً أُخرى في طريق الساعين لاستخراج الحكم الشرعي.

‏ثُمّ لنفترض أنّك استطعت أنْ تتحقّق بشكلٍ ما مِن وثاقة رواة النصّ وصدقهم، ودقّتهم فيما ينقلون، وضبطهم ؛ وأنّك استطعت أنْ تختزل الزمن لتضبط نبض إيقاع المفردات في دلالتها على معانيها، فهل ستستطيع أنْ تهضم علماً عميقاً، واسعاً، متشعّباً يحتاج إلي مقدّمات طويلة، وسير أغوارٍ عميقة، لتحصل منه بعد ذلك على ما

٣٤

أنت بصدد معرفته، والبحث عنه واستيبانه.

‏* وكيف العمل إذاً..؟‏

-‏ ترجع إلى المتخصّصين في هذا العِلم أي ( الفقهاء )، فتأخذ أحكامك منهم.‏. ( تقلّدهم ) ليس هذا في مجال عِلم الفقه فقط، بل في كلّ علم لقد أفرَزت الحضارة الحديثة مبدأ التخصّص في العلوم، حيث أصبح لكلّ علم رجاله ومُتخصّصوه يُرجَع إليهم كلّما طرأت حاجةٌ ما لشأنٍ مِن شؤون ذلك العِلم.

واستطرد أبي قائلاً:‏‏

-‏ لنأخذ مثلاً لذلك مِن عِلم الطب.. فلو مرِضت -‏ عافاك الله -‏ فماذا ستفعل ؟

* أُراجع الطبيب، وأعرض عليه حالتي المرضيّة ليشخّص المرض وليصف لي الدواء المناسب بعد ذلك.

‏-‏ ولماذا لا تشخِّص أنت بنفسك مرضك وتصف الدواء ؟

* لست طبيباً.

‏-‏ كذلك الحال في علم الفقه أنت محتاج إلى مراجعة الفقيه المتخصِّص لمعرفة أمر الله ونهيه، أو لعرض مشكلتك الشرعيّة عليه، كاحتياجك إلى مراجعة الطبيب المتخصِّص، لمعرفة أمرٍ طبّي ما، أو لعرض حالتك المرضيّة عليه.

‏فكما أنّك محتاج إلى ( تقليد ) الطبيب في مجال اختصاصه، أنتَ محتاج إلى ( تقليد ) الفقيه في مجال اختصاصه.

٣٥

وكما أنّك ستبحث عن طبيبٍ فاضل، عالِم في مجال اختصاصه ولا سيّما إذا كان مرضك خطيراً، فأنت مُلزَم بالبحث عن فقيهٍ بارع في مجال اختصاصه ( لتقلّده ) وتأخذ منه حُكمك الشرعي كلّما استدعتك الظروف المُعاشة لاستيضاح حُكمٍ شرعيٍّ ما، فيها.

‏* وكيف أعرف أنّ هذا الرجل فقيه ؟ أو أنّه أعلم الفقهاء وأفضلهم ؟

قال أبي مُجيباً:‏‏

-‏ دعني أسألك.. كيف تعرف أنّ هذا الطبيب فاضل أو أنّه أفضل الأطباء في مجال اختصاصه لتراجعه، وتسلّمه جسَدَك، يفعل به ما يراه مناسباً لعلاجه ؟

* قلت له:‏‏

أعرف ذلك من سُؤال المهتمّين بشؤون الطب، العارفين به، ممَّن لهم علم، ومعرفة، ودراية، و( خبرة ) وتجربة فيه، أو أعرفُه لشهرته بين الناس و( شيوع ) وانتشار وذيوع اسمه في هذا الحقل العلمي.

‏-‏ بالضبط.. وكذلك تعرف الفقيه، أو الفقيه الأعلم.

‏تسأل شخصاً ملتزماً بالواجبات، وتاركاً للمحرّمات، ثقةً، تتوفّر فيه القدرة، والمعرفة، والعِلم والعدالة و( الخبرة ) على تمييز المستوي العلمي للأشخاص في مجال الاختصاص.

‏أو ( يشيع ) ويشتهر ويذيع بين الناس، فقاهةُ شخصٍ، أو

٣٦

أعلميّته بين سائر الفقهاء، بحيث تجعلك تلك الشهرة الواسعة وذلك الذيوع والانتشار، و(الشيوع) متأكّداً وواثقاً مِن فقاهته أو أعلميّته.

‏* وهل هناك شروط أُخرى فيمن يَجب علينا تقليده، بعد أنْ نبلغ مبلغ الرجال، عدا شرط الفقاهة ؟

-‏ أنْ يكون مقلَّدك: ‏رجلاً، بالغاً، عاقلاً، مؤمناً، عادلاً، حيّاً غير ميّت، طاهر المولد -‏ أي أنّ تكون ولادته قد تمّت وفق مقاييس وضوابط شرعيّة -‏ وألاّ يكون كثير الخطأ والنسيان والغفلة.

‏حسناً ها أنذا ذا قد بلغت مبلغ الرجال، وقد عرفت منك شيئاً عن التقليد فماذا يجب عليَّ أنْ أفعل الآن ؟

-‏ تقلّد أعلم فُقهاء عصرك، وتعمل بما يفتي به في شؤونك المختلفة.. في أحكام وضوئك -‏ مثلاً -‏ وغُسلك، وتيمّمك، وصلاتك، وصومك، وحجّك، وخُمسك، وزكاتك، وغيرها كما تقلّده في معاملاتك.. في أحكام بيعك -‏ مثلاً -‏ وشرائك، وحوالتك، وزواجك، وزراعتك، وإجارتك، ورهنك، ووصيّتك، وهِبتك، ووقفك و.. و..

‏* ورحت أعدّد مع أبي.‏.

وأمرك بالمعروف، ونهيُك عن المنكر، وإيمانك بالله، وأنبيائه ورُسُله و..‏

-‏ كلا.. الإيمان بالله وتوحيده، ونبوّة نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وإمامة الأئمّة الاثني عشرعليهم‌السلام ، والمَعاد.. هذه أُمور لا يجوز

٣٧

التقليد فيها فهِي مِن أُصول الدين، ولا يجوز التقليد في أُصول الدين، بل يجب أنْ يعتقد كلّ مسلم بها اعتقاداً جازماً لا شكّ فيه، ولا شُبهة ولا ضبابيّة ولا التواء، واصلاً إلى إيمانٍ قاطع بالله، باحثاً عنه بجهوده، مُسخّراً ما منحه الله مِن طاقات فكريّة فيه منتهياً مِن خلال ذلك كلّه إلى قناعة تامّة راسخة لا تتزعزع به..‏

‏* طيّب.. ألا يحقُّ لي أنْ أُقلّد فقيهاً مَع وجود فقيهٍ أعلَم منه في مجال اختصاصه ؟

-‏ يمكنك ذلك شرط أنْ لا تعلَم بوجود اختلاف بين فتاوى مقلَّدك وفتاوى الأعلم في مسائلك التي تحتاجها لتعمل بها.

‏* لو قلّدت الأعلم، ولم تكُن له فتوى في مسألة ما تخصّني ؟ أو كانت له فتوى ولم يسعني استعلامها ؟

-‏ ترجع إلى الأعلَم مِن بعده أي مَن يتلوه في العِلم مِن الفقهاء.

‏ وإذا كان الباقون متساوين في العِلم فماذا أفعل ؟‏

‏-‏ ترجع إلى مِن كان أورَع من غيره، أي أكثر تثبّتاً وحِيطةً في الرأي الذي يتّخذه والفتوى التي يصدرها.

‏* وإذا لم يكن بعضهم أورَع مِن بعض ؟

-‏ يمكنك أنْ تطبّق عمَلَك على فتوى أيٌّ منهم إلاّ في بعض الحالات المعيّنة حيثُ يجب فيها أنْ تعمل بالاحتياط ولا يسعُني في هذا المقام أنْ اشرحها لك.

٣٨

‏* حسناً.. أستطيع حين أُراجع الطبيب أنْ أعرف رأيه في حالتي الصحّية لو استدعت صحّتي مراجعته فكيف أستطيع أنْ أعرف فتوى مقلَّدي في مسائلي الشرعيّة ؟ كيف أصل إلى فتاواه لأُطبّقها ؟ هل أُراجعه في كلّ مسألة ؟

-‏ تستطيع معرفة فتاواه.. بسؤاله مباشرةً عنها، أو بسؤالِ مَن تثق بنقله ومعرفته وأمانته في نقل تِلك الفتاوى، أو بمراجعة كتبه الفقهيّة، كرسالته العمليّة مع الاطمئنان بصحّتها.

‏* إذاً أطلب منك وأنت الثقة الأمين أنْ تعينني على معرفة فتاوى مقلّدي.

‏ ابتسم أبي بوقار رزين، واعتدل في جِلسَتِه بينما راحت عيناه توميَ بوميض موعد جلسة قادمة.

‏* قلت: ‏نبدأ بالصلاة.

‏-‏ قال: ‏نبدأ بالصلاة.

‏وأضاف:‏‏

-‏ غير أنّ الصلاة تتطلّب طهارة الانسان مِن كلّ ما يدنِّس طهارته.

‏* وما الّذي يدنِّس طهارة الانسان ؟

-‏ تدنّس طهارة الانسان:‏‏

١ -‏ أُمور ماديّة تقع في نِطاق عمَل الحواسّ كالنجاسات.

٢ -‏ وأُمور معنويّة غير مُدرَكة بالحواسّ لو ( حدَثت ) بأحدِ

٣٩

أسبابها مِن جنابةٍ أو حيضٍ أو استحاضة أو نِفاسٍ أو مسِّ ميّتٍ أو نومٍ أو خُروجِ بولٍ أو غائطٍ أو ريح، لَلَزِم إزالتها بالوضوء أو الغُسل أو التيمّم.

‏وتستدعينا هيكليّة البحث وصولاً إلى الصلاة أنْ نبدأ حوارنا ( بالنجاسات )، فنتعرّف عليها أوّلاً، ثُمّ نتعرّف بعد ذلك على ( مطهّراتها )، لنضمن طهارة الجسَد مِن كلّ ما يَسلِب طهارته، ويخدِش نقاءه.

‏ثُمّ نثنّي فنتحاوَر بما لو ( حدَث ) لوجَب ( غَسله بالوضوء ) أو ( مسحه بالتيمّم ) سَواء أحدَث مِن بولٍ أم غائطٍ أم ريحٍ أم نومٍ أم استحاضة قليلة أم غيرها.

‏ونستأنف، فنتجاذب أطراف الحديث بما لو ( حدَث ) لوجب ( غَسله بالغُسل ) أو ( مسحه بالتيمّم ) سَواء أحدَث من جنابةٍ أم حيضٍ أم استحاضةٍ أم نفاسٍ أم مسّ ميّت.

‏رافعين مِن طريقنا كلّ ما يعترض أو يعيق فرصة التقرّب لله عزّ وجلّ بالصلاة، فائزين بعد ذلك بلذّة الوقوف بين يديه مكبّرين مهلّلين حامدين موحّدين منعّمين بولَعِ ذِكره ودُعائه، راجين أنْ يجعلنا ممّن ترسَّخت أشجار الشوق إليه في حدائق صدورهم، وأخذَت لوعة محبّته بمجامع قلوبهم.

‏متناولين بعد الصلاة ما يتطلّب مثلها الطهارة كالصوم والحجّ وغيرها.

٤٠