الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية - مقدمة الجزء ١

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية - مقدمة7%

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية - مقدمة مؤلف:
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 793

  • البداية
  • السابق
  • 793 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72514 / تحميل: 13542
الحجم الحجم الحجم
الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية - مقدمة

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية - مقدمة الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ونقل العلاّمة الحلّي في التذكرة عن بعض الشافعية: عدم الفرق بين الشك في الأثناء والشك بَعد الفراغ، حيث أوجب الإتيان بالمشكوك فيه وما بعده في كلتا الحالتين.

وقال الحنفية: يلاحظ كل عضو مستقلاً، فإن شك فيه قَبل أن ينتقل إلى غيره أعاده وإلاّ فلا، مثلاً - مَن شك بغسل الوجه قَبل الابتداء باليد يعيد، وإن ابتدأ بها مضى ولا يلتفت.

واتفق الجميع على أنّه لا شك لكثير الشك، أي أنّ الوسواسي لا اعتبار بشكّه، فيجب عليه المضي في جميع الحالات.

٤١

الغسل

الأغسال الواجبة على أنواع:

(١) الجنابة.

(٢) الحيض.

(٣) النفاس.

(٤) موت المسلم.

وهذه الأربعة محل وفاق عند الجميع. وزاد الحنابلة نوعاً خامساً، وهو (إسلام الكافر).

وقال الشافعية والإمامية: إذا أسلم الكافر مجنباً وجب عليه الغسل للجنابة لا للإسلام، وإن لَم يكن جنباً فلا يجب عليه الغسل. وقال الحنفية: لا يجب عليه الغسل بحال جنباً كان أو غير جنب. (المغني لابن قدامة ج١ ص ٢٠٧).

وزاد الإمامية على الأغسال الأربعة الأُولى غسلين آخرين، وهما: (غسل المستحاضة، والغسل مَن مس الميت). فإنّهم أوجبوا الغسل على مَن مس ميتاً بَعد برده بالموت، وقَبل تطهيره بالغسل، ويأتي التفصيل.

ومِن هذا يتبين أنّ عدد الأغسال الواجبة أربعة عند الحنفية والشافعية، وخمسة عند الحنابلة والمالكية، وستة عند الامامية.

غسل الجنابة

تتحقق الجنابة الموجبة للغسل بأمرين:

١ - نزول المني في النوم أو اليقظة. قال الإمامية والشافعية: إذا نزل المني

٤٢

وجب الغسل مِن غير فرق بين نزوله بشهوة أو دونها.

وقال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا يجب الغسل إلاّ مع مقارنة اللذة لخروج المني، فإن خرج لضربة أو برد أو مرض لا عن شهوة فلا غسل فيه، أمّا إذا انفصل المني مِن صلب الرجل أو ترائب المرأة، ولَم ينتقل إلى الخارج فلا يجب الغسل إلاّ عند الحنابلة.

(فرع)

لو استيقظ النائم فرأى بللاً لا يعلم أنّه مني أو مذي، قال الحنفية: يجب الغسل. وقال الشافعية والإمامية: لا يجب؛ لأنّ الطهارة متيقنة، والحدث مشكوك. وقال الحنابلة: إن كان قَبل نومه قد نظر أو فكّر بلذة فلا يجب الغسل، وإن كان لَم يسبق النوم سبب يوجب اللذة وجب أن يغتسل مِن البلل المشتبه.

٢ - التقاء الختانين، وهو إيلاج رأس الإحليل، أو مقداره مِن مقطوع الحشفة في قُبلٍ أو دبرٍ. واتفقوا على أنّه يوجب الغسل مِن غير إنزال، ولكن اختلفوا في الشروط، وأنّه هل مجرد الإيلاج كيف اتفق يوجب الغسل، أو لا يوجبه إلا بنحو خاص؟

قال الحنفية يجب الغسل بشروط، وهي: (أولاً) البلوغ، فلو كان البالغ المفعول دون الفاعل، أو الفاعل دون المفعول، وجب الغسل على البالغ فقط، ولا يجب عليهما لو كانا صغيرين. (ثانياً) أن لا يوجد حائل سميك يمنع مِن حرارة المحل. (ثالثاً) أن يكون الموطوء إنساناً حياً، فلا يجب الغسل بالإيلاج ببهيمة أو ميت.

وقال الامامية والشافعية: إنّ مجرد إيلاج الحشفة أو مقدارها كافٍ في وجوب الغسل مِن غير فرق بين البالغ وغير البالغ، والفاعل والمفعول، ووجود الحائل وعدمه والاضطرار والاختيار، وسواء أكان الموطوء حياً أو ميتاً أو بهيمة أو إنساناً.

وقال الحنابلة والمالكية: يجب الغسل على الفاعل والمفعول مع عدم وجود

٤٣

حائل يمنع اللذة، مِن غير فرق بين إنسان أو بهيمة، وسواء أكان الموطوء حياً أو ميتاً.

أمّا البلوغ فقال المالكية: يجب الغسل على الفاعل إذا كان مكلّفاً، والمفعول يحتمل الوطء، ويجب على المفعول إذا كان الواطئ بالغاً، فالتي وطأها صبي لا يجب عليها الغسل إذا لَم تنزل. واشترط الحنابلة أن لا ينقص سن الذكر عن عشر سنين، والأنثى عن تسع.

ما يتوقف على غسل الجنابة

يتوقف على غسل الجنابة كل ما يتوقف على الوضوء، كالصلاة والطواف ومس كتابة المصحف، ويزيد على ذلك المكث في المسجد، فقد اتفق الجميع على أنّه لا يجوز للجنب أن يمكث في المسجد، واختلفوا في جواز المرور، كما لو دخل الجنب مِن باب وخرج مِن باب.

قال المالكية والحنفية: لا يجوز إلاّ لضرورة.

وقال الشافعية والحنابلة: يجوز المرور مِن غير مكث.

وقال الإمامية: لا يجوز المكث ولا المرور في المسجد الحرام ومسجد الرسول، ويجوز المرور دون المكث في غيرهما مِن المساجد للآية ٤٣ مِن سورة النساء:( وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) ، أي لا تقربوا مواقع الصلاة مِن المساجد إلاّ عابري سبيل. واستثنوا مِن الآية المسجدين السابقين للأدلة الخاصة.

أمّا تلاوة القرآن، فقال المالكية: يحرم على الجنب أن يقرأ شيئاً مِن القرآن إلاّ يسيراً بقصد التحصّن والاستدلال، ويقرب مِن قولهم هذا ما ذهب إليه الحنابلة.

وقال الحنفية: لا يجوز إلاّ إذا كان الجنب معلّماً للقرآن كلمة كلمة. وقال الشافعية: يحرم حتى الحرف الواحد إلاّ إذا كان بقصد الذكر، كالتسمية على الأكل.

٤٤

وقال الإمامية: لا يحرم على الجنب إلا تلاوة سور العزائم الأربع، حتى بعضها، وهي: اقرأ، والنجم، وحم السجدة، والم تنزيل. ويجوز قراءة ما عداها، ولكن يكره ما زاد على سبع آيات، وتتأكد الكراهة فيما زاد على سبعين.

وزاد الإمامية (صوم شهر رمضان وقضاءه)، فإنّهم قالوا: لا يصح الصوم إذا أصبح الصائم جنباً متعمداً أو ناسياً، أمّا إذا نام في النهار أو في الليل وأصبح محتلماً، فلا يبطل صومه. وانفردت الامامية بهذا الحكم عن سائر المذاهب.

واجبات غسل الجنابة

يجب في غسل الجنابة ما يجب في الوضوء مِن إطلاق الماء وطهارته مع طهارة الجسم، وعدم حاجب يمنع مِن إيصال الماء إلى البشرة كما تقدم في الوضوء، ويجب فيه النية إلاّ عند الحنفية فإنّهم لَم يعدّوها مِن الشروط لصحة الغسل.

والمذاهب الأربعة لَم توجب الغسل بكيفية خاصة، وإنّما أوجب أن يعم الماء جميع البدن كيف اتفق، مِن غير فرق بين الابتداء مِن أعلى أو مِن أسفل، وزاد الحنفية وجوب المضمضة والاستنشاق، وقالوا: يستحب البدء بغسل الرأس، ثمّ الأيمن، ثمّ الأيسر.

وقال الشافعية والمالكية: تستحب البداءة بأعالي الجسد قَبل أسافله، ما عدا الفرج حيث يستحب تقديمه على الجميع.

وقال الحنابلة: يستحب تقديم الشق الأيمن على الأيسر.

وقسّم الإمامية غسل الجنابة إلى نوعين: ترتيب، وارتماس. والترتيب: هو أن يصب المغتسِل الماء على جسمه صباً، وفي هذا الحال أوجبوا الابتداء بالرأس ثمّ بالأيمن ثمّ بالأيسر، فلو أخلّ وقدّم المؤخَّر أو أخّر المقدَّم، بطل الغسل.

٤٥

والارتماس: هو غمس تمام الجسم تحت الماء دفعة واحدة، فلو خرج جزء منه عن الماء لَم يكف.

والغسل مِن الجنابة يغني عند الإمامية عن الوضوء، حيث قالوا: كل غسل معه وضوء إلاّ غسل الجنابة. والمذاهب الأربعة لَم تفرق بين غسل الجنابة وغيره مِن الأغسال، مِن حيث عدم الاكتفاء به فيما يشترط به الوضوء.

٤٦

الحيض

الحيض في اللغة: السيل. وفي اصطلاح الفقهاء: الدم الذي تعتاد المرأة رؤيته في أيام معلومة، وله تأثير في ترك العبادة وانقضاء عدة المطلقة، وهو في الأغلب أسود أو أحمر غليظ حار، له دفع، وقد يأتي على غير هذه الأوصاف حسبما تستدعيه الأمزجة.

سن الحائض

اتفق الجميع على أنّ ما تراه الأنثى قَبل بلوغها تسع سنين لا يمكن أن يكون حيضاً، بل هو دم علّة وفساد، وكذا ما تراه الآيس المتقدمة في السن. واختلفوا في تحديد سن اليأس، فقال الحنابلة: خمسون.

وقال الحنفية: خمس وخمسون.

وقال المالكية: سبعون.

وقال الشافعية: ما دامت الحياة فالحيض ممكن، وإن كان الغالب انقطاعه بعد سن ٦٢.

٤٧

وقال الإمامية: حد اليأس ٥٠ سنة لغير القرشية وللمشكوك في أنّها قرشية، أمّا القرشية المعلومة فستون.

مدة الحيض

قال الحنفية والإمامية: أقل مدة الحيض ثلاثة أيام، وأكثرها عشرة، وكل دم لا يستمر ثلاثاً أو يتجاوز عشراً فليس بحيض.

وقال الحنابلة والشافعية: أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً.

وقال المالكية: أكثره خمسة عشر لغير الحامل، ولا حد لأقله.

واتفق الجميع على أنّه لا حد لأكثر الطهر الفاصل بين حيضتين، أمّا أقله فثلاثة عشر يوماً عند الحنابلة، و١٥ عند الحنفية والشافعية والمالكية.

وقال الإمامية: أقل الطهر أكثر مدة الحيض، أي ١٠.

(فرع)

اختلفوا في اجتماع الحيض مع الحمل، وإنّ ما تراه الحامل مِن الدم هل يمكن أن يكون حيضاً؟ قال الشافعية والمالكية وأكثر فقهاء الامامية: يجتمع الحيض والحمل.

وقال الحنفية والحنابلة والشيخ المفيد مِن الإمامية: لا يجتمعان بحال.

أحكام الحائض

يحرم على الحائض كل ما يحرم على الجنب مِن مس كتابة المصحف، والمكث في المسجد، ولا يقبل منها الصوم والصلاة أيام الحيض، ولكن عليها أن تقضي ما فاتها مِن صوم رمضان دون ما فاتها مِن الصلاة؛ للأحاديث، ودفعاً للمشقة بتكرار الصلاة بكثرة دون الصيام. ويحرم طلاق الحائض، ولكن إذا وقع صح ويأثم المطلِّق، عند الأربعة، ويبطل الطلاق عند الإمامية، إذا

٤٨

كان قد دخل بها، أو كان الزوج حاضراً، أو لَم تكن حاملاً. ويصح طلاق الحائض والحامل وغير المدخول بها والتي غاب عنها زوجها، والتفصيل يأتي إن شاء الله في باب الطلاق.

واتفق الجميع على أنّ غسل الحيض لا يغني عن الوضوء، وأنّ وضوء الحائض وغسلها لا يرفع حدثاً، واتفقوا أيضاً على تحريم وطئها أيام الحيض، أمّا الاستمتاع فيما بين السرة والركبة، فقال الإمامية والحنابلة: يجوز مطلقاً مع الحائل ودونه.

والمشهور مِن قول المالكية عدم الجواز ولو مع الحائل.

وقال الحنفية والشافعية: يحرم بغير حائل، ويجوز معه.

وقال أكثر فقهاء الإمامية: إذا غلبت الشهوة على الزوج وقارب زوجته الحائض، فعليه أن يكفّر بدينار إن فعل في أوّل الحيض، وبنصفه في وسطه، وبربعه في آخره.

وقال الشافعية والمالكية: يستحب التصدق ولا يجب، أمّا المرأة فلا كفارة عليها عند الجميع، وإن كانت آثمة لو رضيت وطاوعت.

كيفية الغسل

الغسل مِن الحيض كالغسل مِن الجنابة تماماً، مِن لزوم طهارة الماء وإطلاقه وطهارة البدن، وعدم وجود الحائل، والنية، والابتداء بالرأس ثمّ بالأيمن ثمّ بالأيسر عند الإمامية، والاكتفاء بالارتماس وغمس البدن دفعة واحدة تحت الماء.

وعند المذاهب الأربعة: شمول الماء لجميع البدن كيف اتفق، كما قدّمنا في غسل الجنابة دون تفاوت.

٤٩

الاستحاضة

الاستحاضة: هي في اصطلاح الفقهاء: ما تراه المرأة مِن الدم في غير وقت الحيض والنفاس، ولا يمكن أن يكون حيضاً، كالزائد عن أكثر مدة الحيض، أو الناقص عن أقله، وهو في الغالب أصفر بارد رقيق يخرج بفتور على عكس صفات الحيض.

وقد قسّم الإمامية المستحاضة إلى ثلاثةٍ أقسام:

(١) صغرى، إذا تلوثت القطنة بدمٍ لا يغمسها. وحكمها أن تتوضأ لكل صلاة مع تغيير القطنة، بحيث لا يجوز أن تجمع بين صلاتين بوضوء واحد.

(٢) وسطى، إذا غمس الدم القطنة ولَم يسل عنها. وحكمها غسل واحد في كل يوم قَبل الغداة، مع تغيير القطنة والوضوء لكل صلاة.

(٣) كبرى، إذا غمست القطنة بالدم وسال عنها. وحكمها الغسل ثلاث مرات في كل يوم، غسل قَبل صلاة الغداة، وآخر تجمع به بين صلاة الظهرين، وثالث لصلاة العشاءين.

وقال أكثر الإمامية: لابدّ مِن الوضوء في هذه الحال، مع تغيير القطنة أيضاً.

ولَم تَعتبر المذاهب الأخرى هذا التقسيم، كما أنّها لَم توجب الغسل على المستحاضة، فقد جاء في كتاب (فقه السنّة) للسيد سابق ص ١٥٥ طبعة ١٩٥٧:

٥٠

(لا يجب عليها الغسل لشيء مِن الصلاة، ولا في وقت مِن الأوقات إلاّ مرّة واحد حينما ينقطع حيضها - أي أنّ الغسل للحيض لا للاستحاضة - وبهذا قال الجمهور مِن السلف والخَلف).

ولا تمنع الاستحاضة عند الأربعة: (شيئاً ممّا يمنعه الحيض مِن قراءة القرآن ومس المصحف ودخول مسجد واعتكاف وطواف ووطء، وغير ذلك ممّا سبق تفصيله في مبحث الأمور التي يمنع منها الحدث الأكبر). (كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ج١ مبحث الاستحاضة).

وقال الإمامية: إنّ الصغرى محدِثة بالحدث الأصغر، فلا يستباح لها شيء ممّا يتوقف على الوضوء إلاّ بَعد أن تتوضأ، والوسطى والكبرى محدِثتان بالحدث الأكبر، فتمنعان عن كلّ ما يشترط فيه الغسل، فهما كالحائض ما دامتا لَم تؤديّا ما يجب عليهما، ومتى فعلتا الواجب فهما بحكم الطاهر، تستباح لهما الصلاة ودخول المسجد والطواف والوطء. والغسل مِن الاستحاضة عند الإمامية كالغسل مِن الحيض بدون تفاوت.

دم النفاس

قال الإمامية والمالكية: دم النفاس هو الذي يقذفه الرحم بسبب الولادة معها أو بَعدها لا قَبلها.

وقال الحنابلة: هو الدم النازل مع الولادة وبَعدها وقَبلها بيومين أو ثلاثة مع أمارات الطلق.

وقال الشافعية: هو الخارج بَعد الولادة لا قَبلها ولا معها.

وقال الحنفية: هو الخارج بَعدها أو عند خروج أكثر الوَلد، أمّا الخارج قَبلها أو عند خروج أقلّ الوَلد فليس بنفاس.

إذا وِلدت الحامل ولَم ترَ دماً وجب عليها الغسل عند الشافعية والحنفية

٥١

والمالكية، ولا يجب عند الإمامية والحنابلة.

واتفق الجميع على أنّه ليس لأقلّ النفاس حد، أمّا أكثره فالمشهور عند الإمامية عشرة أيام.

وعند الحنابلة والحنفية أربعون.

وعند الشافعية والمالكية ستون.

وإذا خرج الولد مِن غير المكان المعتاد بسبب عملية جراحية لا تكون نفساء، ولكن تنقضي عدّة الطلاق بخروج الولد كيف اتفق.

والنفاس في حكم الحيض مِن عدم صحة الصلاة والصوم، ووجوب قضاء الثاني دون الأوّل، وتحريم الوطء عليها وعليه، ومس كتابة القرآن، والمكث في المسجد أو دخوله على اختلاف المذاهب، وعدم صحة طلاقها - عند الإمامية - وما إلى ذلك مِن الأحكام.

أمّا كيفية الغسل وشروطه فكالحائض تماماً.

٥٢

مس الميت

إذا مس الإنسان ميتاً إنسانياً، فهل يجب عليه الوضوء أو الغسل، أو لا يجب عليه شيء؟

قال الأربعة: مس الميت ليس بحدث أصغر ولا أكبر، أي لا يوجب وضوءاً ولا غسلاً، وإنّما يستحب الغسل مِن تغسيل الميت لا من لمسه.

قال أكثر الإمامية: يجب الغسل مِن المس بشرط أن يبرد جسم الميت، وأن يكون المس قَبل التغسيل الشرعي، فإذا حصل المس قَبل بَرده وبَعد الموت بلا فصل أو بَعد أن تمّ التغسيل، فلا شيء على الماس.

ولَم يفرّقوا في وجوب الغسل بين أن يكون الميت مسلماً أو غير مسلم، ولا بين أن يكون كبيراً أو صغيراً، حتى ولو كان سقطاً تمّ له أربعة أشهر، وسواء أحصل المس اختياراً أو اضطراراً، عاقلاً كان الماسّ أو مجنوناً، صغيراً أو كبيراً، فيجب الغسل على المجنون بَعد الإفاقة، وعلى الصغير بَعد البلوغ، بل أوجب الإمامية الغسل بمس القطعة المنانة مِن حي أو مِن ميت إذا كانت مشتملة على عَظم، فإذا لمس إصبعاً قطعت مِن حي وجب الغسل. وكذا لو لمست سِناً منفصلة مِن ميت، أمّا إذا لمست السنّ بَعد انفصالها مِن الحي فيجب الغسل إذا كان عليها لحم، ولا يجب إذا كانت مجردة.

ومع أنّ الإمامية أوجبوا الغسل مِن مس الميت فإنّهم يعتبرونه بحكم الحدث

٥٣

الأصغر، أي أنّ الماسّ يمنع مِن الأعمال التي يشترط فيها الوضوء فقط دون الأعمال التي يشترط فيها الغسل، فيجوز للماسّ دخول المسجد والمكث فيه، وقراءة القرآن.

والغسل مِن المس كالغسل مِن الجنابة.

الميت وأحكامه

يقع الكلام هنا في فصول:

الفصل الأوّل: في الاحتضار

الاحتضار هو: التوجيه إلى القبلة. واختلفوا في كيفية التوجيه إليها، فقال الإمامية والشافعية: أن يُلقى الميت على ظهره، ويُجعل باطن قدميه إلى القبلة بحيث لو جلس كان مستقبلاً.

وقالت المالكية والحنابلة والحنفية: أن يُجعل الميت على شقّه الأيمن، ووجهه إلى القبلة، كما يُفعل به حال الدفن.

وكما اختلفوا في معنى التوجيه اختلفوا في وجوبه، فقال الأربعة وجماعة مِن الإمامية: هو مستحب وليس بواجب.

وذهب أكثر الإمامية إلى أنّه واجب كفاية، كالغسل والتكفين. وجاء في كتاب (مصباح الفقيه) للإمامية: (إنّ وجوب الاستقبال يشمل الكبير والصغير).

وليعلم أنّ كل واحد مِن واجبات الميت الآتية إنّما يجب على سبيل الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الجميع، وإذا تركه الجميع كانوا مسؤولين ومؤاخَذين.

٥٤

الفصل الثاني: في الغسل

وفيه مسائل:

اتفقوا على أنّ الشهيد - وهو الذي مات بسبب قتال الكفار - لا يغسّل(١) ، واتفقوا أيضاً على أنّ غير المسلم لا يجوز غسله إلاّ الشافعية، فقد ذهبوا إلى جوازه، واتفقوا على أنّ السقط الذي لَم يتمّ في بطن أمّه أربعة أشهر لا يغسَل.

واختلفوا فيما إذا تمّ له الأربعة، فقال الحنابلة والإمامية: يجب أن يغسّل.

وقال الحنفية: إن نزل وفيه حياة ثمّ فارقها، أو نزل ميتاً تام الخلقة، غُسّل وإلاّ فلا.

وقال المالكية: لا يجب غسل السقط إلاّ إذا كان قابلاً للحياة بحيث يقول أهل الخبرة إنّ مثله يقبل الحياة المستقرّة.

وقال الشافعية: إن نزل بَعد ستة أشهر يغسّل، وإن نزل قَبلها: فإن كان تام الخلقة غسّل أيضاً، وإن لَم يكن تام الخلقة: فإن عَلم أنّه كان حياً يغسّل وإلاّ فلا.

(فرع)

إذا ذهب مِن جسم الميت بعضه؛ لمرض أو حرق أو أكلِ حيوان أو غير ذلك، فهل يجب غسل الباقي؟

قال الحنفية: لا يفرض الغسل إلاّ إذا وجِد أكثر البدن أو نصفه مع الرأس.

وقال المالكية: يجب الغسل إذا وجِد ثلثا البدن.

وقال الحنابلة والشافعية: يُغسل ولو بقي قليل مِن الميت.

وقال الإمامية: إن وجدت قطعة مِن الميت، يُنظر: فإن كانت الصدر أو بعضه المشتمل على القلب كان حكمها حكم الميت التام مِن وجوب الغسل

____________________

(١) قال الحنفية: الشهيد، كل مَن قُتل ظلماً، سواء قُتل في الحرب أو بَغى عليه لِص أو قاطع طريق. واشترطوا لعدم غسله أن لا يكون محدِثاً بالحدث الأكبر.

٥٥

والتكفين والصلاة، وإن لم تكن القطعة مشتملة على الصدر أو بعضه، فإن كان فيها عظم تغسل وتُلفّ بخرقة وتُدفن، وإن لم يكن فيها عتُلفّ بخرقة وتُدفن بلا غسل.

الغاسل

يجب المماثلة بين الغاسل والمغسول، فالرجال يغسلون الرجال، والنساء يغسلن النساء.

وأجاز الإمامية والشافعية والمالكية والحنابلة أن يغسل كل من الزوجين الآخر.

وقال الحنفية: ليس للزوج أن يغسل زوجته؛ لأنّها خرجت من عصمته بالموت، أمّا الزوجة لتغسل زوجها؛ لأنّها في عدّته، أي أنّ الزوجية باقية في حقّها، منتفية في حقّه، وإذا طلّقها ثمّ ماتت، فإن كان الطلاق بائناً فلا تغسله ولا يغسلها بالاتفاق، وإن كان رجعياً فقد أجاز الإمامية أن يغسل كل منهما الآخر.

وقال الحنفية والحنابلة: تغسله ولا يغسلها.

وقال المالكية والشافعية: لا تغسله ولا يغسلها، ولم يفرّقوا بين الطلاق البائن والرجعي.

وأجاز الإمامية للمرأة أن تغسل الصبي إذا لم يتجاوز العام الثالث من عمره، وللرجل أن يغسل الصبية إذا لم تتعدّ هذه السن. وقال الحنفية: يجوز إلى السن الرابعة.

وقال الحنابلة: إلى ما دون السابعة.

وقال المالكية: تغسل المرأة ابن ثماني سنين، ويغسل الرجل بنت سنتين وثمانية أشهر.

٥٦

كيفية الغسل

الإمامية: يجب أن يُغسل الميت ثلاثة أغسال:

الغسل الأوّل: أن يكون في مائه قليل من السدر. وفي الثاني: قليل من الكافور. أمّا الغسل الثالث: فبالماء القراح، وأن يبتدئ الغاسل في غسله بالرأس، ثمّ بالجانب الأيمن، ثمّ الأيسر.

وقال الأربعة: الواجب غسل واحد بالماء القراح، والغسلان الآخران مستحبان، ولا يشترط كيفية خاصة بالغسل، فيصح كيف اتفق كغسل الجنابة، ولا يجب عندهم السدر والكافور بل يستحب أن يجعل في ماء الغسل الأخير كافور ونحوه من الطيب.

ويشترط في صحة الغسل (النية)، وإطلاق الماء وطهارته، وإزالة النجاسة عن بدن الميت، وعدم الحاجب المانع من وصول الماء الى البشرة.

وقال الإمامية: يكره غسل الميت بالماء الساخن. وقال الحنفية: الساخن أفضل. وقال الحنابلة والمالكية والشافعية: البارد مستحب.

واتفق الجميع على أنّ المـُحرم في الحج لا يوضع الكافور في ماء غسله، كما اتفقوا على ابتعاده عن كل نوع من أنواع الطيب.

وإذا تغذر الغسل؛ لفقد الماء او حرق أو مرض بحيث يتناثر لحمه من الماء، يقوم التيمم مقام الغسل بالاتفاق، أمّا كيفيته فهو كتيمم الحي، وسيأتي البيان في باب التيمم. وقال جماعة من فقهاء الإمامية: يجب التيمم ثلاث مرات: الأُولى بدل عن الغسل بماء السدر، والثانية بدل عن الغسل بماء الكافور، والثالثة بدل عن الغسل بالماء القراح. أمّا المحققون منهم فاكتفوا بتيمم واحد.

الحنوط

وهو مسح مساجد الميت السبعة بالكافور بعد الغسل، وهذه المساجد هي:

٥٧

الجبهة، واليدان - يمسح به باطنها -، والركبتان، وإبهاما القدمين - يمسح رأسهما -. وقد أوجب الإمامية الحنوط بهذا النحو دون سائر المذاهب، ولم يفرّقوا بين الكبير والصغير حتى السقط، ولا بين الأنثى والذكر، ولم يستثنوا إلاّ المـُحرم في الحج، وأضافوا الى المساجد السبعة الأنف استحباباً.

الكفن

الكفن واجب عند الجميع، وقال الأربعة: الواجب في التكفين ثوب واحد يعمّ جميع الميت، والمستحب ثلاث قطع.

وقال الإمامية: القطع الثلاث واجبة وليست مستحبة، الأولى منها: المئزر، وهو أشبه بالوزرة، تبتدئ من السرّة وتنتهي إلى الركبة. الثانية: القميص، من المنكبين إلى نصف الساق. الثالثة: الإزار، يغطي تمام البدن.

ويُشترط في الكفن ما يُشترط في الساتر الواجب حين الصلاة من الطهارة والإباحة، وعدم كونه حريراً أو من حيوان لا يؤكل لحمه، أو ذهباً للرجال والنساء، وما إلى ذاك ممّا يأتي الكلام عنه في محله.

وكفن المرأة على زوجها إن كان موسراً عند الإمامية والشافعية والحنفية.

وقال المالكية والحنابلة: لا يلزم الزوج بتكفين زوجته، ولو كانت فقيرة. والمقدار من الكفن الواجب وغيره من الميت يؤخذ من أصل التركة - في غير الزوجة - مقدّماً على الدين والوصية والميراث، ما عدا العين التي تعلّق بها حق الرهن.

موت الفقير

قال الأربعة وجماعة من الإمامية: إذا لم يترك الميت مالاً يكفّن به فكفنه على مَن تلزمه نفقته حين حياته، وإن لم يكن له كفيل أو كان كفيله فقيراً

٥٨

كُفّن من بيت المال أو من الزكاة إن امكن، وإلاّ فعلى جميع المسلمين القادرين.

وقال جماعة من الإمامية: مَن مات بلا مال ولا كفيل لا يجب على أحد بذل المال لتكفينه؛ لأنّ الواجب مباشرة العمل لا بذل المال، وعليه فالبذل مستحب من باب الإحسان، ومع عدم وجود المحسن يدفن عارياً.

الصلاة على الشهيد

اتفقوا على أنّ الصلاة تجب على المسلمين وأولادهم من غير فرق بين مذاهبهم وفرقهم، وعلى أنّ الصلاة لا تصحّ إلاّ بعد الغسل والكفن، وأنّ الشهيد لا يغسّل ولا يكفّن بل يدفن في ثيابه، وخيّر الشافعية بين دفنه بثيابه وبين نزعها وتكفينه من جديد، واختلفوا في الصلاة عليه، فقال الشافعية والمالكية والحنابلة: لا يُصلّى عليه.

وقال الإمامية والحنفية: تجب الصلاة عليه كغيره من الأموات.

الصلاة على الصغار

اختلفوا في الصلاة على الطفل، فقال الشافعية والمالكية: يُصلّى عليه إذا صرخ واستهل حين الولادة، أي أنّ حكم الصلاة حكم الميراث.

وقال الحنابلة والحنفية: يُصلّى عليه إذا تمّ له في بطن أُمه أربعة أشهر. وقال الإمامية: لا تجب الصلاة على اطفال المسلمين إلاّ بعد بلوغهم ست سنين، وتستحب على كل مَن كان دون هذه السن.

الصلاة على الغائب

قال الإمامية والمالكية والحنفية: لا تجوز الصلاة على الغائب بحال؛

٥٩

واستدلوا بأنّ النبي (صلّى الله عليه وسلّم) والصحابة لو فعلوا ذلك لاشتهر وتواتر، وبأنّ استقبال القبلة بالميت وحضور المصلي على الجنازة حين الصلاة من الشروط اللازمة.

وقال الحنابلة والشافعية: تجوز صلاة الغائب؛ واستدلوا بأنّ النبي صلّى على النجاشي، حين نُعي له. وأُجيبوا بأنّه عمل خاص بالرسول، أو لخصوصية بالنجاشي، ولذا لم يكرر هذا العمل من النبي مع العلم بموت كثير من عيون الأصحاب وهم بعيدون عنه.

الأولياء

قال الإمامية: جميع الواجبات المتعلقة بتجهيز الميت تتوقف صحتها على إذن الولي، من غير فرق بين التغسيل والتكفين والتحنيط والصلاة، ومَن فَعل شيئاً من ذلك دون أن يأذن الولي بطريق من الطرق يبطل العمل وتجب الإعادة، فالولي إمّا أن يباشر بنفسه، وإمّا أن يأذن بالمباشرة لغيره، فإن امتنع عن المباشرة والإذن يسقط اعتبار إذنه.

والزوج عند الإمامية مقدّم في الولاية على جميع الأرحام بالنسبة الى زوجته، والأولياء غير الزوج يأتون بترتيب الإرث، فالمرتبة الأُولى - وهي الآباء والأبناء - تُقدّم على المرتبة الثانية - وهي الإخوة والاجداد - والمرتبة الثانية تُقدّم على الثالثة - وهي الأعمام والأخوال - والأب أولى من الجميع في المرتبة الأُولى، والجد أولى من الإخوة في المرتبة الثانية، وإذا لم يكن في المرتبة ذكور فالولاية للإناث، وإذا تعدد الإخوة أو الأعمام والأخوال توقّف العمل على إذنهم جميعاً.

والأربعة لم يتعرضوا للولي سلباً ولا إيجاباً في مبحث الغسل والكفن، ممّا يدل على أنّ إذنه لا يعتبر في شيء من ذلك عندهم، وتكلموا عمّا هو أولى وأحق بالصلاة على الميت، فقال الحنفية: إنّ الذين يقدّمون في الصلاة يترتبون على هذا

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الشهيد في رمضان سنة ٧٧٠ وصرح فيها بأنه سمع من مؤلفاته، وسمع منه كتاب (التحرير) و (الارشاد) و (المناهج) و (نهج المسترشدين) و (شرحي النظم والياقوت) للعلامة الحلي و (خلاصة المنظوم) لابن مالك و (اللمع في النحو) لابن جني و (الشرائع) للمحقق و (مختصر مصباح الطوسي) وغير ذلك(١) .

مدرسة جزين

كان الشيعة في (جبل عامل) و (سوريا) عامة - وهم قلة في البلد في عهد (الامويين والعباسيين) يعيشون تحت ضغط الارهاب السياسي وكان هذا الضغط والارهاب السياسي يمنعهم من القيام بنشاط ثقافي أو سياسي ملموس. حتى إذا دالت (دولة العباسيين) وظهرت (دولة البويهيين) في (العراق وفارس). و (دولة الحمدانيين) في (الموصل وحلب). و (دولة العلويين) في (مصر والشام والحجاز وافريقيا) استطاع الشيعة أن يجاهروا بنشاطهم الثقافي والسياسى، وأن يدعوا علانية إلى التشيع.

فظهر في هذه الفترة نشاط سياسي وثقافي ملموس للشيعة في (سوريا) عامة، وفي (جبل عامل) خاصة، مما نستعرضها قريبا عند الحديث عن الجانب السياسي من حياة الشهيد.

___________________________________

(١) يراجع فيما تقدم من تلاميذ الشهيد حياة الامام الشهيد والروضات والكنى والالقاب والذريعة (*).

١٢١

فكان من أثر ذلك ظهور (مدرسة حلب) لبني زهرة، وظهور نشاط ثقافي شيعي في (جبل عامل)، فقد كثرت (المدارس الفقهية الشيعية) في جبل عامل، وقوى النشاط الثقافي في هذا القطر.

وأول مدرسة فقهية افتتحت في هذا القطر هي (مدرسة جزين) للشهيد الاول، ويبدو أنها كانت طليعة النشاط الثقافي والسياسي الشيعي في جبل عامل، فحين اكتمل الشهيد دراسة في الحلة، وفرض نفسه على الاوساط الثقافية، واحتل لنفسه مكانة رفيعة فيها رجع إلى (جزين) مسقط رأسه وفيها ابتدأ بنشاط ثقافي وسياسي ملموس لنشر التشيع والفقه الشيعي في هذه الاقطار، فأسس معهدا كبيرا لتدريس الفقه والاصول على مستويات مختلفة في جزين، عرف ب‍: (مدرسة جزين).

وقدر لهذه المدرسة بفضل عناية مؤسسها الشهيد أن تربي عددا كبيرا من الفقهاء والاصوليين، وأن تخرج جمعا كبيرا من المفكرين لاسلاميين(١) . ذلك جانب من ثقافة الشهيد وآثاره في الفقه والاصول، وما ترك من أثر كبير في تطوير مناهج دراسة الفقه والاصول، وتماذج من تلاميذه من الفقهاء ومنشآته الثقافية. ويخال إلي أن القارئ يستطيع بعد هذا العرض السريع للجانب الثقافي من حياة الشهيد ان يلمس طرفا من شخصية الشهيد الثقافية وأثره الكبير في (تاريخ الفقه الشيعي).

___________________________________

(١) راجع تاريخ جبل عامل. ص(٢٣٤) (*).

١٢٢

شعر الشهيد

لم يقتصر الشهيد - كما ذكرنا طي الحديث المتقدم - على الفقه والاصول والدراسات الكلامية، وانما كان مع ذلك أديبا كاتبا وشاعرا بالاضافة ألى كونه فقيها من الرعيل الاول.

ونثر الشهيد كما نلمسه نحن من خلال كتبه (كاللمعة الدمشقية والقواعد والذكرى والدروس) يمتاز بقوة الادلة والبساطة والوضوح وعدم الالتواء والتعقيد، ولا يجد الباحث في نثر الشهيد شيئا من التعقيد والالتواء، واصطناع السجع والزخرفة البديعية التي كان يتعارفها الكتاب فيما سبق.

وشعره - وإن قل - يمتاز بالرقة، ودقة التصوير، وروعة الديباجة والمس المباشر للنفس، وجمال التعبير، وجودة الاداء.

فمن شعره:

غنينا بنا عن كل من لا يريدنا وإن كثرت أوصافه ونعوته

ومن صد عنا حسبه الصد والقلا ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته(١)

ومنه قوله في المناجاة:

عظمت مصيبة عبدك المسكين في نومه عن مهر حور العين

الاولياء تمتعوا بك في الدجى بتهجد وتخشع وحنين

فطردتني عن قرع بابك دونهم أتري لعظم جرائمي سبقوني

أوجدتهم لم يذنبوا فرحمتهم أم أذنبوا فعفوت عنهم دوني

إن لم يكن للعفو عندك موضع للمذنبين فأين حسن ظنوني(٢)

___________________________________

(١) روضات الجنات. الجزء ٢. ص ٥٩١.

(٢) نفس المصدر (*).

١٢٣

ومن قوله في مسايرة ابن الجوزي في قوله:

أقسمت بالله وآلائه إليه ألقى بها ربي

إن علي بن أبي طالب امام أهل الشرق والغرب

من لم يكن مذهبه مذهبي فانه أنجس من كلب

فقال الشهيد:

لانه صنو نبي الهدى من سيفه القاطع في الحرب

وقد وقاه من جميع الردى بنفسه في الخصب والجدب

والنص في الذكر وفي " إنما وليكم " كاف لذي لب

من لم يكن مذهبه هكذا فانه أنجس من كلب(١)

ومنه قوله:

بالشوق والذوق نالوا عزة الشرف لا بالدلوف ولا بالعجب والصلف

ومذهب القوم أخلاق مطهرة بها تخلقت الاجساد في النطف

صبر وشكر وايثار ومخمصة وأنفس تقطع الانفاس باللهف

والزهد في كل فاق لا بقاء له كما مضت سنة الاخيار في السلف

قوم لتصفية الارواح قد عملوا وأسلموا عوض الاشباح للتلف

ما ضرهم رث أطمار ولا خلق كالدر حاضرة مخلوق الصلف

لا بالتخلق بالمعروف تعرفهم ولا التكلف في شئ من الكلف

يا شقوتي قد تولت أمة سلفت حتى تخلفت في خلف من الخلف

ينحقون تزاوير الغرور لنا بالزور والبهت والبهتان والسرف

ليس التصوف عكازا ومسبحة كلا ولا الفقر رؤيا ذلك الشرف

وإن تروح وتغدو في مرقعة وتحتها موبقات الكبر والشرف

وتظهر الزهد في الدنيا وأنت على عكوفها كعكوف الكلب في الجيف

___________________________________

(١) روضات الجنات. الجزء ٣. ص ٥٩٣.

١٢٤

الفقر سر وعنك النفس تحجبه فارفع حجابك تجلو ظلة التلف

وفارق الجنس واقر النفس في نفس وغب عن الحس واجلب ما شئت واتصف

واخضع له وتذلل إذ دعيت له واعرف محلك من آباك واعترف

وقف على عرفات الذل منكسرا وحول كعبة عرفان الصفا فطف

وادخل إلى حبوة الافكار مبتكرا وعد إلى حانة الاذكار بالصحف

وإن سقاك مدير الراح من يده كأس التجلي فخذ بالكأس واغترف

واشرب واسق ولا تبخل على ظمأ فان رجعت بلا ري فوا أسفى

وله شعر يخاطب (بيد مر) حاكم دمشق عندما حبسه في قلعة دمشق بتهمة وجهها إليه أعداؤه في حديث طويل بأن يتظلم فيه إليه عما اسند اليه من التهم وعن حياة السجن:

يا أيها الملك المنصور بيدمر بكم خوارزم والاقطار تفتخر

إني اراعي لكم في كل آونة وما جنيت لعمري كيف اعتذر

لا تسمعن في أقوال الوشاة فقد باؤوا بزورو إفك ليس ينحصر

والله والله أيمانا مؤكدة إني برئ من الافك الذي ذكروا

عقيدتي مخلصا حب النبي ومن أحبه وصحاب كلهم غرر

الفقه والنحو والتفسير يعرفني ثم الاصولان والقرآن والاثر

وما تقدم من نماذج من شعر الشهيد يكفي ليلمس القارئ معالم الرقة والجمال في الاداء والتعبير في (شعر الشهيد)رحمه‌الله تعالى.

جهاده

١٢٥

عصر الشهيد

لكي ندرس الجانب السياسي من (حياة الشهيد) ودوره في الجهاد وإنجازاته ينبغي أن ندرس قبل ذلك الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاصرها الشهيد، والاتجاهات الدينية والسياسية السائدة في عصره، لنلمس من وراء ذلك موقف الشهيد من هذه الحركات والاتجاهات وأثره في الحياة الاجتماعية، ونوعية الدعوة التي كان يقوم بأعبائها في حقل العمل الاجتماعي، من اصلاح وتوجيه وبناء.

أما أن نستعرض حوادث من (حياة الشهيد) ومواقفه وشهادته مما ترددها كتب التراجم: من ميزان نحاول أن نربط بعضها ببعض، وان نربطها جميعا بالظروف الاجتماعية التي كان يعيشها، وأن نملا به بعد ذلك الفجوات والفراغات التي تلاحظ في ترجمة الشهيد، فهذا العمل - إن صح أن يكون ترجمة لحياة الشهيد - فلا يكون دراسة وحثا عن حياة الشهيد ولذلك كله آثرنا أن نعبد الطريق للقارئ، لنشرف معه على سير الحياة الاجتماعية في عصر الشهيد، على أن لا نخرج عن هذا البحث من غير طائل كبير.

انحلال الدولة الاسلامية

اتخذ (بنو العباس) سياسة قاسية بالنسبة إلى (الشيعة والعلويين) وغالى في هذا السلوك (المتوكل العباسي) بشكل فظيع.

١٢٦

وإذا علمنا أن (العلويين والشيعة) عامة كانوا من أهم عوامل ظهور (الدولة العباسية) وانحلال الحكم الاموي عرفنا كم كانت (الشيعة) تعاني من هذا السلوك في ظلال الحكم العباسي، وكم كان يخالجهم الشعور بالندم على اسناد الحكم العباسي، وتدعيمه والاغترار بعهودهم، ولم يجد الشيعة أي مبرر لمثل هذا الضغط والعنف في السلوك من قبل الجهاز الحاكم.

وهذا ما حدى بهم إلى التفكير في اللاستقلال عن حكومة بغداد العباسية ولكن قوة الحكم العباسي وامتداد سيطرتهم إلى أطراف البلاد كان يمنع (الشيعة) عن القيام بأية محاولة للانفصال والاستقلال، حتى اذا ظهر الضعف في جهاز الحكم العباسي، وضعفت سيطرته على البلاد ظهر الانحلال في الحكم العباسي، وانفصل كثير من البلدان عن الحكومة (الام) في (بغداد) وكان أصلح الاقطار الاسلامية للاستقلال والانفصال عن الحكم العباسي هو (إيران) و (الاندلس) و (افريقيا): أما (الاندلس) فقد انفصلت من الحكم العباسي منذ بدء تأسيسه حيث فر اليها (عبدالرحمن بن معاوية بن هشام)، وواليها من بعد عبدالرحمن بن يوسف الفهري، وبقى فيها عاما يخطب للسفاح حتى اذا استقام به الامر ولحقه أهله من بني أمية استقل في الحكم، وألغى ذكر بني العباس في الخطبة(١) ، فكان ذلك سنة ١٣٨ ه‍. وبقيت (الاندلس) تحت حكم الامويين إلى سنة ٤٢٢ ه‍.

أما في (ايران) و (افريقيا) فكان طابع النشاط السياسي هو التشيع واستطاعت (الشيعة) في هذين القطرين بشكل خاص أن يقوموا بوجوه مختلفة من النشاط السياسي، ويظهروا انفصالهم عن بغداد، وحتى

___________________________________

(١) راجع سمط النجوم العوالي. الجزء ٣ ص ٤٠٥ (*).

١٢٧

أن يدخلوا (بغداد) في بعض الاحيان.

فقد عرف (الشيعة) في تاريخ الاسلام بالحركة والنشاط الدائم ومقاومة الطغيان والاستبداد والانحراف في اجهزة الحكم. والامر ما كانت للسلطات تلاحقهم في كل مكان، وتراقب حركاتهم ومكانهم أشد المراقبة، فحين أخذت (الحكومة العباسية) بالانحراف وأمضت في الضلال خرج (الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن السبط) مع جماعة من أهل بيته منهم (إدريس ويحيى)، واستولى على المدينة وطرد عنها عامل (الهادي العباسي)، وكان الموسم موسم حج، فخرج هو وأصحابه إلى الحج، حتى إذا بلغوا موقعا قريبا من مكة يقال له: (فخ) أرسل اليهم الحاكم العباسي جيشا وضع فيهم السيف حتى قتل جمعا كثيرا منهم، وفيهم (الحسين الفتح) نفسه، وكان ذلك في يوم التروية(١) ، ونجى منهم فيمن نجى ادريس بن عبدالله ويحيى بن عبدالله: أما (يحيى) ففر إلى الديلم والتف حوله الناس، فأرسل الرشيد إليه جيشا بقيادة الفضل بن يحيى فكاتبه الفضل، وأعطاه الامان، بآثر يحيى السلم على الحرب وذهب إلى (بغداد) بأكرمه الرشيد ثم غدر به(٢) .

___________________________________

(١) راجع الطبري. الجزء ١٠. ص ٢٤ - ٣٢. وابن كثير الجزء ١٠. ص ٤٠. وابن أثير الجزء ٦. ص ٣٢. ٣٤.

(٢) راجع مقاتل الطالبيين. ص ٤٦٣ - ٤٨٣ (*).

١٢٨

دولة الادارسة(١٧٢ - ٣٧٥)

أما ادريس ففر إلى مصر، ومنها إلى المغرب، واجتمعت حوله قبائل البربر وغيرهم، واشتد أمره واستمر حكمهم قرنين وثلاث سنين وامتدت سلطتهم في المغرب، وكانت حاضرة ملكهم مدينة فاس(١) . وقد استطاع الادارسة في هذه الفترة أن يخدموا المغرب كثيرا، وأن يخلفوا تراثا حضاريا ومدنيا قيما، وأن ينشروا التشيع في هذا القطر من الارض.

الفاطميون

وفي سنة ٢٨٦ هجرية بعدما ضعفت (الدولة العباسية) أخذ (ابوعبدالله الشيعي)، يدعو لعبيد بن المهدي في (إفريقيا) وأخذ البيعة وانتزع افريقيا من (بني الاغلب) واستولى عليها وعلى الغرب الاقصر والشام، واقتطعوا سائر هذه الاقطار من (العباسيين)، واستمر حكمهم إلى سنة ٥٦٧ وامتد نفوذهم إلى (مصر والحجاز واليمن). وكان (الفاطميون) شيعة اسماعيلية، سعوا كثيرا لنشر التشيع في (مصر وافريقيا) والاقطار الاخرى التي كانت تحت يدهم.

وربما جاز لنا أن نقول: ان ظهور (الفاطميين) واستيلاء‌هم على الحكم وحرصهم على نشر (التشيع) ومعارضة المذاهب الاخرى

___________________________________

(١) راجع تاريخ الاسلام للدكتور حسن ابراهيم حسن. الجزء ٣ ص(١٦٢ - ١٦٧) (*).

١٢٩

كان رد فعل طبيعي للعنف والضغط الذي كانت (الشيعة) تنوء به أيام الحكم العباسي.

دوله مستقلة اخرى

استقل (الحمدانيون) في (الموصل وحلب)، وإمتد حكمهم من ٣١٧ إلى ٣٩٤. وظهر باليمن (يحيى بن الحسن بن القاسم الرسي، وهو إبن (ابراهيم طباطبا)، وملك صعدة وصنعاء، وظهر (القرمطي) بنواحي (البحرين وعمان) وسار اليهما سنة ٢٧٩ أيام المعتضد، واستمر حكمهم إلى القرن الرابع.

وخلال هذه الفترة استبد (بنو سامان) بما وراء النهر آخر أعوام ٢٦٠، وامتد حكمهم إلى آخر القرن الرابع، ثم اتصلت دولة أخرى في مواليهم ب‍ (قرنة) منتصف المائة السادسة. وكانت للاغالبة بالقيروان وافريقية دولة اخرى استقلت منذ أيام الرشيد، واستمرت إلى أوائل المائة الثالثة، ثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم (بني طنج) موالي كافور إلى الستين والثلاثمائة(١) .

واستقل (بنو بويه) في الحكم من سنة ٣٣٤، واستمر حكمهم إلى سنة ٤٤٧، وامتد سلطانهم على جزء كبير من الوطن الاسلامي عن (فارس والاهواز وكرمان وبغداد) وغيرها. خدم (البويهيون) التشيع أيام حكمهم، ونشروا المذهب

___________________________________

(١) راجع سمط النجوم. تأليف عبدالملك بن حسين العصامي المكي الجزء ٣. ص ٤٠٦ و ٤٠٧ (*).

١٣٠

في (إيران والعراق) وخلفوا تراثا فكريا قيما من بعدهم، ولسنا بصدد الحديث منه.

وتأسست (الدولة الايوبية) سنة ٥٦٤، وامتد سلطانهم أيام (صلاح الدين) من النيل إلى دجلة، وفي أيامهم وقعت الحرب الصليبية المعروفة بين المسلمين والمسيحيين، وعرفت (الدولة الايوبية) بطابعها السني المجافي للشيعة.

خلف الايوبيون في الحكم (المماليك) وهذه السلسلة غريبة في وضعها، فقد تعاقب الحكم فيها عبيد من جنسيات مختلفة، واستمر سلطانهم نحوا من قرنين وثلاثة أرباع قرن، وكانوا بشكل عام سفاكين وغير مثقفين(١) .

ويقسم المماليك إلى المماليك البحرية(١٢٥٠ م ١٣٩٠ م) والمماليك البرجية(١٣٨٢ م - ١٥١٧ م) فالبحرية سموا بذلك نسبة إلى النيل، إذ كانت ثكناتهم تقوم على جزيرة صغيرة في نهر النيل، وكان أكثرهم من الترك والمغول. أما البرجية فكانوا في الغالب من الجراكسة.

الجراكسة

استولى (ملوك الجراكسة) على الحكم بعد المماليك البحرية الذين كانوا امتدادا لدولة الايوبيين. وكان ابتداء ملكهم سنة أربع وثمانين وسبعمائة واستمر حكمهم مائة وثمانية وثلاثون سنة، وكانت عاصمة حكمهم (القاهرة) وأول ملوكهم الملك الظاهر سيف الدين (برقوق).

___________________________________

(١) راجع تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين - فليب حتى. الجزء ٢ ص ٢٦٧ (*).

١٣١

برقوق

كان (برقوق) أول عهده عبدا واتابكا خاصا للملك الصالح الحاجي ابن الاشرف بن شعبان، وهو الرابع عشر من ملوك الاتراك مماليك الايوبيين المتغلبين عليهم. وقد تولى (الحاجي) الحكم وهو ابن عشر سنوات، ولم يكن له من الامر غير الاسم، فألزم (برقوق) الامراء بخلعه، ونصب نفسه للحكم سنة أربع وثمانين وسبعمائة. ولكن الامر لم يصف له، فقد انشق عليه بعد حين من الزمان أمراء عصره فخرج عليهم (تمريغ الافضلي) و (بليغ العمري) ونزعا عنه الحكم وملكا مصر وأعيد حاجي إلى الحكم مرة أخرى، وحبس (برقوق) بالكرك. ولم يطل الامر ببرقوق، فقد خرج من السجن وكر ثانيا على أعدائه وجمع الحيوش وتمكن منهم وأزاحهم عن المسرح واستقل بالامر إلى أن توفي سنة ٨٠١(١) .

علاقة برقرق بالخليفة العباسي

في عهد برقوق كان القائم بالخلافة هو (المتوكل) محمد بن المعتضد العباسي، وقد خطب الخليفة قبل أن يفوض إلى برقوق الامر خطبة بليغة ثم قلده الامر بحصور جمع من القضاة(٢) .

___________________________________

(١) راجع سمط النجوم العوالي. الجزء ٤. ص ٣٢.

(٢) حسن المحاضرة للسيوطي. الجزء ٢. ص ٨٨ (*).

١٣٢

ولكن (برقوق) لم يبق وفيا بالنسبة إلى الخليفة العباسي، فقد خلعه سنة ٧٨٥ وحبسه بقلعة الجليل، وبويع بالخلافة محمد بن ابراهيم بن المستمسك ابن الحاكم، ولقب (الواثق بالله)، فاستمر في الخلافة إلى أن مات يوم الاربعاء سنة ٧٨٨، فكلم الناس برقوقا في إعادة المتوكل إلى الخلافة فلم يقبل واحضر أخا محمد زكريا ولقب (المستعصم بالله)، واستمر في الخلافة إلى سنة ٧٩١، فندم (برقوق) على ما فعل بالمتوكل، واخرج (المتوكل) من الحبس وأعاده إلى الخلافة وخلع زكريا، واستمر زكريا بداره إلى ان مات مخلوعا، واستمر المتوكل في الخلافة إلى أن مات.

الوضع الاجتماعي في ايام برقوق

انهارت الاوضاع الاجتماعية في (مصر) وفي (سوريا) أيام الجراكسة بشكل عام، لضعف جهاز الدولة، ولتسرب الصليبيين إلى البلدان الاسلامية فقد جاء‌ت (الحملة الصليبية) عقيب (حملة التتر)، وكان لهما اسوأ الاثر على الحياة الاجتماعية، وكانت الحروب الداخلية والفتن والاختلافات قائمة على قدم وساق بين الامراء والحكام، فقد نصب (برقوق) مرتين وعزل بينهما، وعزل (الحاجي) ونصب مرتين. وعزل (المتوكل) ونصب.

وذلك كله إذا دل على شئ فنما يدل على ضعف جهاز الحكم عهد الجراكسة وفي عهد (برقوق) بشكل خاص، وكثرة الخلافات وكان الناس يعهدون من قبل أن تخول الامارة إلى أشراف الامة ورجالها فانقلب الوضع فيما انقلب من حياة الامة في هذه الفترة، وتحولت الامارة إلى طبقة جديدة من (العبيد) لم تكن الامة تستسيغها بعد، فبينما كانوا

١٣٣

يعرضون امس في أسواق الرقيق للبيع أصبحوا اليوم يحكمون على أمة كبيرة من الناس. وكان خيال السلطنة في دماغ كل واحد منهم من حين يجلب إلى السوق إلى أن يموت، حتى أن واحدا منهم جلب وهو حقير فاحش القرعة فاحش العرج قال للدلال الذي يبيعه: هل اتفق تولي الاقرع الاعرج سلطانا؟(١) .

وهذا كان مما يبعث الناس على عدم الخضوع والاستسلام لهذه الدولة الجديدة. ولذلك كانت تظهر الفتن الداخلية بصورة هائلة بين حين وحين من هنا وهناك، ويجد الباحث خلال الكتب التاريخية مالا يقل عن أربع عشرة فتنة خطيرة وقعت خلال هذه الفترة.

وزاد الطين بلة ظهور أحداث طبيعية كان لها اكبر الاثر في تردي الحالة الاقتصادية، كفترات الجدب، والمجاعة، والزلازل، والوباء. ويخصص المقريزي - وهو ممن أرخ هذه الفترة - كتابا لوصف المجاعات، والكوارث الطبيعية التي وقعت في هذه الفترة.

وانشغل (برقوق) طيلة إمارته بحروب داخلية وخارجية كثيرة فقضى على المماليك البحرية، وحارب تمريغا وبليغا، فظهرا عليه وخرج من السجن وجمع الجيوش مرة أخرى فتغلب عليهما. وفي أيامه أرسل (تيمور لنك) إليه رسالة قاسية اللهجة يدعوه إلى الاستسلام له دون قيد أو شرط، ويهدده فيما إذا رفض ذلك أن ينزل عليه عذابا شديدا: وأجاب عليها (برقوق) برسالة مشابهة لها في قسوة اللهجة، ولم يطل

___________________________________

(١) سمط النجوم العوالي الجزء ٤. ص ٣١ (*).

١٣٤

بعد ذلك أيام (برقوق) حتى توفي(١) وفي الوقت نفسه كان مهددا من قبل الصليبيين الافرنج، ومن قبل المماليك البحرية، فكان انشغال الحكومة بالخماد الفتن الداخلية، ومقاومة الحركات السياسية والعسكرية المعارضة سببا لضعف النشاط الفكري والثقافي وأعمال الاعمار والبناء والهندسة والفن.

وقد تركت هذه الحروب والفتن الداخلية أثرا سيئا في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية، فأشغلت الناس من وجوه النشاط التجاري والزراعي من جانب، وحمل الناس من جانب آخر تكاليف هذه الحروب المادية فالحروب تكلف الامة المحاربة كثيرا من المال، ومن العتاد والزاد. وطبيعي أن ثقل هذه الماليات كانت تقع على عاتق الامة فقط وتجبي عن طريق فرض الضرائب، فكان ذلك باعثا على سيل من الاحتجاجات لا نهاية لها.

ولم تكن هذه الرسوم الثقيلة على الخيل والقوارب فحسب، بل على ضروريات الحياة أيضا نظير الملح والسكر، وقد احتكر بعض السلاطين سلعا معينة، وتلاعبوا بأسعارها. تبعا لمصلحتهم الخاصة(٢) . على أن الحكام والامراء أنفسهم كانوا من الناحية الاخلاقية والدينية ساقطين مما كان يؤدي إلى عدم وثوق الجمهور بهم. فكان عدد من السلاطين (من هذه الاسرة) عاجزين وخونة وكان بعضهم فاسدين، بل ساقطين، وكان اكثرهم غير مثقفين. وقد عاد نظام تسري الغلمان إلى مثل ما كان عليه من الشيوع في أيام (العباسيين)، وانهم عدد من المماليك أولهم (بيبرس)، ولم يكن

___________________________________

(١) راجع الفتوحات الاسلامية لزيني دحلان الجزء ٢. ص ١٠٥ - ١٠٩.

(٢) تاريخ سوريا ولبنان: فيليب حتى الجزء ٢. ص ٢٧٧ (*).

١٣٥

السلاطين وحدهم فاسدين، بل إن الامراء أيضا وسائر من في الحكم كانوا على جانب من الفساد(١) . وفوق ذلك كانت الخلافات الطائفية بين (الشيعة والسنة) قائمة على قدم وساق، فقد ظهرت (الدولة الفاطمية) كرد فعل لسلوك (الدولة العباسية) المجافي مع (الشيعة)، وقد تمكنت (الشيعة) فترة (الحكم الفاطمي) من الاستيلاء على (مصر وسوريا والعراق والحجاز واليمن) ونشر (المذهب الشيعي) في هذه الاقطار على أوسع مجال، فجاء‌ت (الدولة الايوبية) وأذيالها بعد ذلك لتعارض هذا (الاتجاه الشيعي) بشكل قاس عنيف.

وللقارى ء أن يقدر بعدما كان يظهر في مثل هذه الاجواء من ردود أفعال، ومن اصطدام بين (السنة والشيعة)، ومن ظهور خلافات طائفية في تافه المسائل ورخيصها. وهذه صورة مجملة عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية (أيام المماليك الجراكسة) عامة و (برقوق) خاصة.

والآن وبعد ما استوفينا دراسة الحياة الاجتماعية في عهد برقوق نستطيع أن نعطي صورة عن (حياة الشهيد) السياسية، وجهاده وإنجازاته، ونقدر ظروفه وعمله.

قضى (الشهيد) الشطر الاخير من عمره في دمشق أيام حكومة برقوق من (ملوك الجراكسة) على مصر والشام وقد تقدم الحديث عن حكومة (برقوق) خاصة، والجراكسة عامة. وكانت حكومة دمشق يومئذ بيد (بيدمر) مندوب برقوق، ويبدو من كتب التاريخ أن حكومة (الشام) لم تكن مرتبطة بحكومة (مصر)

___________________________________

(١) تاريخ سوريا ولبنان: فيليب حتى الجزء ٤. ص ٢٧٤ (*).

١٣٦

إلا اسميا، فقد كان حاكم دمشق يستقل في الحكم والادارة من غير أن يراجع المركز في شئ من شؤون الادارة والحكم. ومهما يكن من شئ فقد قضى الشهيد) جزء‌ا كبيرا من عمره في دمشق إحدى (حواضر العالم الاسلامي) في وقته.

وقدر للشهيد أن يكون لنفسه في الشام مكانة اجتماعية، وفكرية كبيره، ويفرض نفسه على مجتمع (دمشق) بشكل خاص، ومجتمع سوريا بشكل عام، وأن ينفذ إلى جهاز الحكم كما سنجد ويستغله لغاياته الاصلاحية. كان الشهيد في دمشق على اتصال دائم بالحكام والامراء والشخصيات السياسية البارزة في وقته، ونعرف ذلك من إقناع (الشهيد) الحكومة لمحاربة (اليالوش) المتنبي الذي سنبحث عنه فيما يأتي من هذه الرسالة وكان بيته ندوة عامرة لاصحاب الفضل والعلم، وطلاب المعرفة، وعلماء دمشق والاقطار المجاورة الذين كانوا يزورون دمشق بين حين وحين أو يمرون عليها، فكان لا يخلو بيته على الدوام من الزوار: من أصحاب الفضل، وأصحاب الحاجة الذين كانوا يقصدون (الشهيد) للتوسط لتيسير.

حاجاتهم لدى المراجع الحكومية. وعلى الرغم من توتر العلاقات بين (الشيعة والسنة) فقد كان (الشيهد) يحتل مكانة عملية مرموقة بين (علماء السنة)، فكانوا يحضرون مجلسة في بيته للاستفادة، وللمناقشة، ولحل مشكلات الفقه والكلام في كثير من الاحيان. ومن حرص (الشيهد) على توحيد الكلمة كان يتجنب في مجلسه الخوص في مسائل الخلاف بين (الشيعة والسنة) وإثارة الخلافات الكلامية فيما بينهم على صعيد الجدل يخفي ما كان بيده من كتابه حين كان

١٣٧

يزوره أعلام السنة في مجلسه، حتى أنه عد من كراماته أنه حينما ابتدا بكتابه (اللمعة الدمشقية) لم يمر عليه زائر من علماء السنة ووجهاء دمشق إلى أن تمت كتابة هذه الرسالة في سبعة أيام.

وهذه الرواية تدل على حرص (الشهيد) أولا على عدم إثارة المسائل الخلافية، والمحافظة على وحدة الكلمة بين المسلمين في ظروف اجتماعية مضطربة التي لمحنا منها بعض الملامح فيما تقدم من هذا الحديث. وتدل ثانيا على أن بيت (الشهيد) كان آهلا بمختلف الطبقات من علماء، ووجهاء من شيعة وسنة من دمشق وخارجها.

ولم يبق (الشهيد) هذه الفترة الطويلة في (دمشق) عاطلا عن العمل والنشاط، ولم ينتقل من (جزين) إلى (دمشق) لغير سبب ولم يكن الشهيد بالشخص العاطل المهمل في الحياة، فقد حاول أولا أن يكون لنفسه مكانة مرموقة في الاوساط الاجتماعية والفكرية، وهو عمل جبار اذا لاحظنا الظروف التي عاشها (الشهيد)، والفجوات الكبيرة التي كانت بين (السنة والشيعة) في ذلك الوقت.

وحاول ثانيا أن يستغل نفوذه في الاوساط السياسية، ومكانته الفكرية في الاصلاح، والتوجيه، وتوحيد الكلمة، والضرب على أيدي العابثين والمغرضين، فأخمد ثورة (اليالوش) المتنبي، ملا الفجوات التي كانت تفصل (الشيعة عن السنة) وقلص حدود الخلافات المذهبية والطائفية.

وقد كان الخلاف في وقته قائما على قدم وساق بين (السنة والشيعة) ومن ورائها كانت الصليبية تغذيها وتلهمها بمختلف الوسائل وكانت الحكومات تجد في ذلك كله إلهاء‌ا لذهنية المسلمين وتخديرا لنفوسهم.

١٣٨

صلات الشهيد مع حكومات عصره

ولسنا نعلم هل كان بين (برقوق) والخليفة العباسي، وبين الشهيد صلات قائمة، وعلاقات شخصية أم لا، وإنما نعلم أن (الشهيد) كان في وقته شخصية اجتماعية، وفكرية مرموقة في دمشق، وليس في دمشق فقط، فقدر له أن يزور أكثر حواضر العالم السلامي في وقته، وأن يتصل بطبقات العلماء والوجهاء، وان يسمعهم ويستمع إليهم، ويكون معهم روابط اجتماعية.

وفيما بين أيدينا من كتب التاريخ لا نجد في معاصري (الشهيد) شخصية علمية واجتماعية تبلغ مستوى الشهيد من الشهرة والثقافة. فكان ذائع الصيت معروفا في اكثر الحواضر الاسلامية في وقته وله صلات بكثير من علماء عصره وأمرائهم، ولم يحفظ لنا التاريخ مع الاسف شيئا كثيرا من ذلك، إلا أن ما بين أيدينا من رسائل العلماء والملوك اليه وزيارة الشخصيات العلمية والسياسية له إلى دمشق يكفي للدلالة على ما نقول.

وكان (الشهيد) على اتصال وثيق بحكومات الشيعة في وقته، وله معهم اتصالات وعلاقات سرية وعلنية كحكومة خراسان، وفيهما بقي لدينا من رسائل ملوك، وعلماء الشيعة إلى (الشهيد نلمس بوضوح مكانة الشهيد بين (الشيعة) حكومة ورعية ورجوع الطائفة اليه في شؤونهم العامة، فلا نعرف فقيها شيعيا بمستوى (الشهيد) في الفقاهة والمرجعية في هذا الفترة، وكانت (الشيعة) حكومة ورعية في (خراسان) وفي (فارس) وفي (الري) مشوقين إلى زيارة، يلتمسون من بين حين وآخر أن يزورهم، ويقدم عليهم

١٣٩

ولو إلى حين. وبين أيدينا رسالة (لعلي بن مؤيد) حاكم خراسان من ملوك (السربدارية). وقبل أن نعرض صورة الرسالة أحب أن أعطي صورة عن حكومة (السربدارية) في خراسان، وعلاقة الشهيد بهم

حكومة السربدارية

حكومة (السربداران) حكومة شيعية استولت على الحكم في خراسان بعد وفاة محمد خدابنده من ملوك المغول بعد معارك دامت وذلك في سنة ٧٣٨ واستمرت إلى سنة ٧٨٣، فاندمجت في حكومة (التتر) وانقرضت بعد ذلك بسنوات قليلة. وتولى الحكم فيها عدد من الملوك كان آخرهم (علي بن مؤيد) تولى الحكم سنة ٧٦٦.

وعرف (علي بن مؤيد) بالعدل والاحسان إلى الضعفاء، وبالعناية بالشؤون الفكرية والعمرانية، والاهتمام بنشر (التشيع) وتعريفه وولائه لاهل البيت، وتفانية في سبيل الدين. وكان من أفضل ملوك (السربدارية) وأعدلهم، وفي أيامه تحسنت الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية. ورغم هجوم (التتر) في أيامه إلى البلدان الاسلامية فقد استطاع أن يصون (خراسان) عن هجوم التتر، ويصون دماء المسلمين.

توفي سنة ٧٩٥، أي بعد تسع سنوات من شهادة (الشهيد) وكان للشهيد علاقات وثيقة، ومراسلات مع (علي بن مؤيد) (أيام كان في العراق واستمرت هذه العلاقات والمرسالات حين استقر في جزين ودمشق.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778

779

780

781

782

783

784

785

786

787

788

789

790

791

792

793