الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين0%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد زهير الأعرجي
الناشر: المؤلف
تصنيف: الصفحات: 413
المشاهدات: 242211
تحميل: 13353

توضيحات:

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 242211 / تحميل: 13353
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المعارضة اللفظية :

ومع صرامة سيف عبد الملك ، إلا ان التأريخ ينقل لنا بعض المواجهات اللفظية التي وقعت آنذاك وهي تعكس بمجملها صورة من صور وعي الناس لحقيقة أمر الخلافة واغتصابها من أهلها ولكن الخوف الذي لجم الأفواه وقطع الألسن كان هو المسيطر على الجو العام للمجتمع وكانت الناس تستلهم من وجود الإمام زين العابدينعليه‌السلام ما يجعلها تتجرأ على عبد الملك بن مروان ونحوه من الخلفاء ومن تلك المواجهات اللفظية :

يحدث أبو حمزة الثمالي أن رجلاً قد سمع عبد الملك يخطب بمكة ، فلما صار إلى موضع العظة من خطبته قام إليه ، وقال : ( مهلاً إنكم تأمرون ولا تأتمرون ، وتنهون ولا تنتهون ، وتعظون ولا تتعظون أفاقتداءً بسيرتكم أم طاعةً لأمركم ؟ فإن قلتم إقتداءً بسيرتنا ، فكيف يقتدى بسيرة الظالمين ؟! وما الحجة في اتباع المجرمين الذين اتخذوا مال الله دولاً وجعلوا عباد الله خولاً ؟! وإن قلتم أطيعوا أمرنا واقبلوا نصحنا ! فكيف ينصح غيره من لم ينصح نفسه ؟ أم كيف يجب طاعة من لم تثبت له عدالة ؟

وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها فلعلّ فينا من هو أفصح بصنوف العظات ، وأعرف بوجوه اللغات ، فتزحزحوا عنها ، واطلقوا قفالها ، وخلو سبيلها ،

٢٦١

ينتدب لها التي شردتموهم في البلاد ونقلتموهم عن مستقرهم إلى كل وادٍ فوالله ما قلدناكم أزمة أمورنا وحكمناكم في أموالنا وأبداننا لتسيروا بسيرة الجبارين غير انا بصراء بانفسنا باستيفاء المدة ، وبلوغ الغاية وتمام المحنة ، ولكل قائم منكم يوم ، لا يعدوه كتاب لابد ان يتلوه ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) فقام إليه أصحاب المسالح(١) ، وقبضوا عليه ، فكان آخر عهدنا به(٢)

ويحدث الشيخ الديلمي : ان رجلاً قال لعبد الله الخليفة : أناظرك وأنا آمن ؟ قال : نعم .

فقال له : اخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك بنصٍ من الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : لا .

فقال : اجتمعت الأمة وتراضوا بك ؟ قال : لا .

فقال : كانت لك بيعة في اعناقهم فوفوا بها ؟ قال : لا .

فقال : اختارك أهل الشورى ؟ قال : لا .

فقال : أليس قد قهرتهم على أمرهم واستأثرت بفيئهم دونهم ؟ قال : بلى .

ــــــــــــــــ

(١) أي الشرطة .

(٢) بحار الأنوار ج ١١ ص ٩٧ .

٢٦٢

فقال : بأي شيء سميت أمير المؤمنين ولم يؤمرك الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا المسلمون ؟

فقال له عبد الملك : أخرج عن بلادي وإلا قتلتك !

فقال الرجل : ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف(١)

٧ ـ الوليد بن عبد الملك (ت ٩٦ هـ ) : وقبل هلاكه عهد عبد الملك بالخلافة إلى ولده الوليد وأوصاه بالحجاج خيراً ، فقال : ( وانظر الحجاج فأكرمه ، فإنه هو الذي وطأ لكم المنابر وهو سيفك يا وليد ، ويدك على من ناواك ، فلا تسمعن فيه قول أحد ، وأنت إليه أحوج منه إليك وادع الناس إذا مت إلى البيعة فمن قال برأسه هكذا ، فقل بسيفك هكذا )(٢)

ويمكنك مقارنة هذه الوصية بوصية الإمام زين العابدينعليه‌السلام لابنه الباقرعليه‌السلام : ( يا بني أياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله(٣) ووصايا الرسلعليه‌السلام وابناء الأنبياءعليه‌السلام من سنخ واحد شريف ووصايا الملوك والسلاطين من سنخ مضاد .

الخلاصة : ان نظام الحكم الأموي الذي عايشه السجادعليه‌السلام كان بعيداً عن رحمة الإسلام ومبادئه في العدالة والإنصاف كان نظاماً

ــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ج ١١ ص ٩٧ .

(٢) تأريخ الخلفاء ص ٢٢٠ .

(٣) بحار الأنوار ج ١١ ص ٤٤ .

٢٦٣

دموياً يسفك الدماء ، وينتهك الأعراض ، ويبتز الأموال فجعل الناس تعيش في رعب دائم فلا سلطة قضائية عادلة يؤمّل منها ان تحقق الحد الأدنى من العدل ، ولا حرية عبادة يستطيع الإنسان فيها أن يختار إمامه الشرعي أو مذهبه الذي يتعبد به ، ولا فسحة لنقد السلطان وتقويمه عندما يكون الإنحراف عن المبادئ أسطع من الشمس في رابعة النهار .

فبقيت السلطة الروحية متمثّلة بالإمام زين العابدينعليه‌السلام تراقب الوضع العام وتحاكمه بالقدر الممكن ، وترعى الضعفاء والفقهاء والمحرومين بالمقدار المتيسر ولم يكن من علاج للجبروت السياسي غير التوجه إلى الله عزّ وجلّ بالصلاة والدعاء وإشاعة تلك الثقافة الدينية التي تذلل النفس البشرية لله تعالى لا لغيره .

فعندما كان الإمام السجادعليه‌السلام يسمع قول الوليد بن يزيد وهو يصور طغيان الأمويين وجبروتهم :

فدع عنك ادّكارك آل سعدى

فنحن الأكثرون حصى ومالاً

ونحن المالكون الناس قسرا

نسومهم المذلة والنكالا

ونوردهم حياض الخسف ذلاً

وما نألوهم إلا خبالاً

يردهمعليه‌السلام ـ وهو في محراب عبادته ـ وبلسان حالٍ يقول :

٢٦٤

 ( اللهمّ وأجل من أسباب الحلال أرزاقي ، ووجّه في أبواب البرّ إنفاقي ، وازو عنّي من المال ما يحدث لي مخيلةً أو تأدّياً إلى بغي ، أو ما أتعقّب منه طغياناً اللهمّ حبّب إليّ صحبة الفقراء ، وأعنّي على صحبتهم بحسن الصّبر ، وما زويت عنّي من متاع الدّنيا الفانية فاذخره لي في خزائنك الباقية ، واجعل ما خولتني من حطامها ، وعجّلت لي من متاعها بلغةً إلى جوارك ، ووصلةً إلى قربك ، وذريعةً إلى جنّتك إنّك ذو الفضل العظيم ، وأنت الجواد الكريم )(١)

وكانعليه‌السلام يتعوذ من دولة السلطان الظالمة ، فيقول : ( إن للحمق دولةً على العقل ، وللمنكر دولةً على المعروف ، وللشر دولةً على الخير ، وللجهل دولةً على الحلم ، وللجزع دولةً على الصبر ، وللخرق دولةً على الرفق ، وللبؤس دولةً على الخصب ، وللشدة دولةً على الرخاء ، وللرغبة دولةً على الزهد ، وللبيوت الخبيثة دولةً على بيوتات الشرف ، وللأرض السبخة دولةً على الأرض الخصبة فنعوذ بالله من تلك الدول ، ومن الحياة في النقمات )(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الصحيفة السجادية دعاء (٣٠) ص ١٣٤ .

(٢) مختصر تأريخ دمشق ج ١٧ ص ٢٥٥ .

٢٦٥

وهذا التعوذ من غلبة أهل الجور والظلم ( الدولة ) واستيلائهم على مقدرات الناس ، هو تعوذٌ من الشر الذي يجلبه الإستيلاء ، وهو مصداق لقوله تعالى : (( قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ * مِن شَرّ مَا خَلَقَ ) ((١) .

تحليل لموقف الإمام زين العابدين عليه‌السلام :

بقي الإمامعليه‌السلام معارضاً للسلطة الأموية طول حياته ، لأنه رأى فيها من الظلم والتحريف والقهر ما لا يطاق وجاهد بكل ما يستطيع ـ وبلحاظ دقة الزمان ـ في إبقاء صوت الإسلام مسموعاً وقوياً عند عامة الناس وحول موقفه هذا نقرأ مجموعة من الأفكار :

١ ـ ان السياسة الأموية التي وضع معاوية بن أبي سفيان خطوطها الأولى كانت وراء الكثير من الأزمات السياسية والإقتصادية ، التي دفعت بالمسلمين إلى الخوف ومن ثم التملق إلى الحاكم ، وهبطت بالناس إلى حدود الضيق والإنحطاط والفقر فكان الإمام السجادعليه‌السلام يعارض تلك السياسة باساليب متنوعة ، منها : خطابه إلى الناس في الكوفة والشام والمدينة ومنها : رسائله إلى عبد الملك بن مروان ، والوليد بن عبد الملك ، وإلى شيعته ومحبيه ، وإلى علماء البلاط كالزهري واشباهه ومنها : اشارته إلى محمد بن الحنفية ، والمختار ، وابن الزبير ومنها : سلوكه العام الذي رفض فيه الظلم الذي كان

ــــــــــــــــ

(١) سورة الفلق : الآية ١ ـ ٢ .

٢٦٦

يمارسه الحاكم ، وتوجه بدعائه وخطابه إلى أعدل العادلين بل العدل المطلق وهو الله سبحانه يبتغي كرمه وجوده .

وبذلك كان السجادعليه‌السلام يمثل الأمل في الصراع بين الحق والباطل ، والمرجع العادل الذي ترجع إليه الأمة وقت الأزمات .

٢ ـ ان القهر السياسي الذي عانى منه أهل العراق والحجاز وبقية مناطق المسلمين ، جعل الناس تميل بدرجات متزايدة صوب أئمة أهل البيتعليه‌السلام خصوصاً عندما وجدوا انفتاح السجادعليه‌السلام على النادمين وأهل التوبة والاستغفار فقد كانت بابهعليه‌السلام مفتوحة للجميع ولم يفلت من ذلك إلا الشقي كعبد الله بن الزبير ، الذي لم يستظل بشمس علوم آل البيتعليه‌السلام ولم ينل تقديرهم ولا حبهم .

٣ ـ ان فشل السياسة الأموية في احتواء الأزمات الداخلية ، وضربهم رموز الإسلام كعلي بن أبي طالبعليه‌السلام وريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسن والحسينعليهما‌السلام بمنتهى العنف والقسوة عجلّ زوال ملكهم الذي قام على الظلم واغتصاب الخلافة من أهلها فولّد ذلك موجة عامة من الرفض القلبي لبني أمية ومن والاهم وما تولي عبد الله بن حنظلة ( من الأوس ) في المدينة ، والمختار في الكوفة ، وبن الزبير في مكة ، إلا مظهراً من مظاهر ذلك الرفض ، مع اختلاف أهداف هؤلاء وطموحاتهم الشخصية تجاه الإسلام وأهل البيتعليه‌السلام والأمة على نطاقها الواسع .

٢٦٧

٤ ـ ان خروج عبد الله بن الزبير منتصراً ، بعد موت يزيد بن معاوية ، من هزيمة عسكرية محققة ، أوضح بأن السياسة أمرٌ متقلب لا يمكن الركون إليها خصوصاً وان أطراف الصراع لا دين لها غير السيف والغدر وامتيازات السلطة .

فهذا مصعب بن الزبير يقتل ، وبإيحاء من أخيه عبد الله ، من شيعة الكوفة نحواً من ثمانية آلاف صبراً(١) وعندما يقدم على أخيه عبد الله بن الزبير ومعه من سالم وخضع له من رؤوساء العراق ووجوههم ويطلب لهم مالاً وجوائز ، يصرفه عبد الله بن الزبير ويعلن بأنه يريد رجالاً مطيعين كأهل الشام ولكن أهل الشام لم يكنّوا أي مودة لابن الزبير بل كان حبهم وطاعتهم تتجه صوب عبد الملك بن مروان .

وهكذا السياسة : مالٌ ودنيا ، وولاءاتٌ ودنانير فكان ثبوت موقف السجادعليه‌السلام وشموله مساحات دينية وإجتماعية مثل العبادات ، ومساعدة الناس ، والإشارات السياسية في الموعظة والأدب ، قد حفظ ما تبقى من رسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الظروف العصيبة التي مرّ بها الإسلام .

٥ ـ كان للمال دور حاسم في تعيين الإتجاهات وتشخيص الولاءات وكانت بنو أمية تشري ذمم الناس بالدراهم والدنانير وفي وضع

ــــــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة ج ٢ ص ٣٢ .

٢٦٨

كهذا كان الإمام السجادعليه‌السلام يشيع الدعاء بدل الدراهم ، وذكر الله تعالى وتمجيده بدل الدنانير عسى أن يهتدي من أراد الله هدايته .

مشكلة الفقر

مشكلة الفقر مشكلة إجتماعية خطيرة ، وقد عالجها الإسلام عبر تنشيط بيت المال في فرض الصدقات الواجبة على الأغنياء وتشجيع العمل والإستثمار وربط ملكية الأرض بإحيائها ، وحث الناس على الإحسان وصلة الرحم والإطعام والإكساء ونحوها .

لم يهتم خلفاء بني أمية بالفقراء ولم يعالجوا مشكلة الفقر أصلاً ولذلك استفحلت المشكلة خصوصاً مع سياسة معاوية التفضيلية لبعض دون آخر ، وبخل عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك وعبد الله بن الزبير وقد بدد الأمويون بيت المال على ملذاتهم وعلى أهل الغناء واللهو والفاحشة .

جملة من المفارقات :

وهنا مفارقات ثلاث تكشف لنا صورة الوضع الإجتماعي زمن السجادعليه‌السلام

٢٦٩

١ ـ المفارقة الأولى : وهي تقارن بين تبذير معاوية لأموال المسلمين من بيت المال على أمر لا يتعدى اللهو ، وبين صورة شعرية لفقير يطلب مالاً من أحد المحسنين .

ففي ( الطيوريات ) عن سليمان المخزومي قال : أذن معاوية للناس إذناً عاماً ، فلما احتفل المجلس ، قال : أنشدوني ثلاثة أبيات لرجلٍ من العرب كلّ بيت قائمٌ بمعناه ، بثلثمائة ألف [ دينار] .

فقام أحدهم ، فأنشده للأفوه الأودي :

بلوت الناس قرناً بعد قرن

فلم أر غير ختّال وقال

قال : صدق ، هيه ؛ قال :

ولم أر في الخطوب أشدّ وقعاً

وأصعب من معاداة الرجال

قال : صدق ، هيه ؛ قال :

وذقت مرارة الأشياء طرّا

فما طعمٌ أمر من السؤال

قال : صدق ؛ ثم أمر له بثلثمائة ألف(١) .

بينما يصور أحد الشعراء الفقراء من بني أسد(٢) حالة البؤس المعاشي عندما يمتدح أحد وجهاء الكوفة طالباً منه أن يسعفه بمعروفه :

يا أبا طلحة الجواد أغثني

بسجال من سيبك المعتوم

أو تطوع لنا بسلف دقيق

أجره إن فعلت عظيم

ــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء ص ٢٠٣ .

(٢) حياة الحيوان للحاحظ ج ٥ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨ .

٢٧٠

قد علمتم ـ فلا تقاعس عني

ما قضى الله في طعام اليتيم

ليس لي غير جرة واصيص

وكتاب منمنم كالوشيم

وكساء أبيعه برغيف

قد رقعنا خروقه بأديم

وأكف أعارنيه نشيط

ولحافٍ لكل ضيفٍ كريم

٢ ـ المفارقة الثانية : وهي تقارن بين تبذير عبد الملك أموال المسلمين من بيت المال وبين حرص أهل البيتعليه‌السلام على أموال المسلمين :

قال أبو عبيدة : لما أنشد الأخطل قصيدته لعبد الملك التي يقول فيها :

شمس العداوة حتى يستفاد لهم

وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا

قال عبد الملك : خذ بيده يا غلام فأخرجه ، ثم ألق عليه من الخلع ما يغمره ، ثم قال : إن لكل قوم شاعراً ، وشاعر بني أمية الأخطل(١)

أقول : لا ضير بإكرام الشعراء من ماله الخاص ولكن عندما يكون المال من بيت مال المسلمين ، ويكون الميزان مائلاً بالكامل لهؤلاء ، ومرفوعاً بالكامل عن أهل الحاجة والفقر والمسكنة ، هنا يقع الظلم الذي منعه الإسلام .

ــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء ص ٢٢٢ .

٢٧١

بينما أخرج ابن عساكر عن حميد بن هلال أن عقيل بن أبي طالب سأل علياًعليه‌السلام فقال : إني محتاج وإني فقير فأعطني فقالعليه‌السلام : ( اصبر حتى يخرج عطائي مع المسلمين فأعطيك معهم ) فألحّ عليه فقال لرجلٍ : خذ بيده وانطلق به إلى حوانيت أهل السوق ، فقل : دق هذه الأقفال ، وخذ ما في هذه الحوانيت قال عقيل : تريد أن تتخذني سارقاً قال عليعليه‌السلام : ( وأنت تريد أن تتخذني سارقاً ؟ أن آخذ أموال المسلمين فأعطيكهما دونهم ) قال عقيل : لآتينّ معاوية قال : ( أنت وذاك ) فأتى معاوية ، فسأله فأعطاه مائة ألف ثم قال : اصعد على المنبر فاذكر ما أولاك به عليّ وما أوليتك فصعد فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إني أخبركم أني أردت علياً على دينه فاختار دينه ، وأني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه(١)

وقد سقنا مثالاً من زمن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام لأنه كان الوحيد من أئمة أهل البيتعليه‌السلام ممن بسطت يده وأشرف على بيت مال المسلمين .

٣ ـ المفارقة الثالثة : وهي تقارن بين بخل الأمراء وكرم السجادعليه‌السلام

أخرج ابن عساكر عن أبي عبيدة قال : جاء عبد الله الأسدي إلى عبد الله بن الزبير بن العوام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن بيني وبينك رحماً من قبل فلانة فقال ابن الزبير : نعم ، هذا كما ذكرت وإن

ــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء ص ٢٠٤ .

٢٧٢

فكرّت في هذا أصبت : الناس بأسرهم يرجعون إلى أب واحد وإلى أم واحدة .

فقال : يا أمير المؤمنين إن نفقتي نفدت ! قال ابن الزبير : ما كنت ضمنت لأهلك أنها تكفيك إلى أن ترجع إليهم .

قال : يا أمير المؤمنين ناقتي قد نقبت ! قال : أنجد بها تبرد خفها ، وأرقعها بسبت ، واخفضها بهلبٍ ، وسر عليها البردين .

قال : يا أمير المؤمنين ، إنما جئتك مستحملاً ولم آتك مستوصفاً ، لعن الله ناقةً حملتني إليك(١)

وقد قرأنا سابقاً عن بخل عبد الملك بن مروان ، بحيث أطلق عليه لقب ( رشح الحجارة ) وهو لقب يعبّر عن غاية البخل ، وهو في مقابل الكريم ( كثير الرماد ) فالحجارة الصلدة لا يترشح منها شيء ، وكثير الرماد هو من يطعم الضيوف ، ويحرق الفحم لطهي طعامهم .

وعندما تقارن بين بخل هؤلاء وكرم الإمام السجادعليه‌السلام ، ترى الفارق فقد دفع الإمام السجادعليه‌السلام دين محمد بن أسامة قبل وفاته ، وكان خمسة عشر ألف دينار(٢) . وقد مرّ علينا الكثير من كرم السجاد .

ــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء ص ٢١٤ .

(٢) الحلية ج ٣ ص ١٤١ .

٢٧٣

الطبقة الحاكمة وتبذير بيت المال :

وهكذا كانت صورة المجتمع الإسلامي في القرن الأول الهجري من فقرٍ وحرمانٍ وحاجةٍ بينما كان أهل السلطة منغمسون بالترف فكان فتيانهم يرفلون بالثياب الفاخرة من القوهي والعرشي كأنهم الدنانير الهرقلية(١)

ويلبس من يتظاهر بالتقوى كعمر بن عبد العزيز ثوباً بأربعمائة دينار ، ويقول : ما أخشنه(٢) وهذا مروان بن أبان بن عثمان يلبس سبعة قمصان ، كأنها درج بعضها أقصر من بعض ، وفوقها رداء عدني بألفي درهم(٣)

وأجزلوا العطاء لأهل العبث واللهو والغناء والمجون ، فقد أعطى الوليد بن يزيد أحد المغنين واسمه معبداً اثني عشر ألف دينار(٤)

ووفد على يزيد بن عبد الملك المغني ذاته ( معبد ) ومعه مالك ابن أبي السمح وابن عائشة فأمر لكل واحد منهم ألف دينار وطلب الوليد المغني يونس فذهب إليه وغناه ، فأعجب بغنائه وأجازه بثلاثة آلاف دينار(٥)

ــــــــــــــــ

(١) الأغاني ج ١ ص ٣١ والقوهي : الثوب من الخز الفاخر .

(٢) طبقات ابن سعد ج ٥ ص ٢٤٦ .

(٣) الأغاني ج ١٧ ص ٨٩ .

(٤) الأغاني ج ١ ص ٥٥ .

(٥) الأغاني ج ٤ ص ٤٠٠ .

٢٧٤

وأجزلوا العطاء أيضاً لشعراء البلاط الموالين لبني أمية فأعطوا شاعرهم الأحوص مائة ألف درهم ، ثم أعطوه في مناسبة ثانية عشرة آلاف دينار(١)

يقول الأحوص(٢) في مدح الوليد بن عبد الملك :

أمام أتاه الملك عفواً ولم يثب

على ملكه مالاً حراماً ولا دماً

تخيّره رب العباد لخلقه

ولياً وكان الله بالناس أعلما

فلما ارتضاه الله لم يدع مسلماً

لبيعته إلاّ أجاب وسلما

ينال الغنى والعزّ من نار ودّه

ويرهب موتاً عاجلاً من تشاء ما

وأنّ بكيفه مفاتيح رحمةٍ

وغيثٌ يحييّ به الناس مرهماً

وإن سألت الأحوص(٣) عن مصدر ثراءه ، لقال لك :

وما كان مالي طارفاً من تجارة

وما كان ميراثاً من المال متلدا

ولكن عطايا من إمامٍ مباركٍ

ملا الأرض معروفاً وجوداً وسؤددا

والمقصود بالإمام في هذا الشعر هو الوليد بن عبد الملك .

وكان من الفقراء من لا يجد رغيف الخبز لسد رمقه .

ــــــــــــــــ

(١) الأغاني ج ٩ ص ١٧٢ ، ٨ .

(٢) الأغاني ج ١ ص ٢٩ .

(٣) الأغاني ج ٩ ص ٨ .

٢٧٥

الفقر والحرمان :

لقد حرم معاوية عطاء بني هاشم لأن الإمام الحسينعليه‌السلام لم يبايع ليزيد زمن معاوية فوقف عبد الله بن عباس أمام خيمة معاوية وهو في سفره إلى مكة ، وقال : أين جوائزنا [ يقصد عطايانا ] كما أجزت غيرنا ؟ فقال معاوية : والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاه حتى يبايع صاحبكم [ يعني الحسينعليه‌السلام ] فقال ابن عباس : فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد ، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي فما لنا إن أبى صاحبنا ، وقد أبى صاحب غيرنا ؟ فقال معاوية : لستم كغيركم ، لا والله لا أعطيكم درهماً حتى يبايع صاحبكم(١) .

وكان أحد أسباب استفحال مشكلة الفقر هو اسقاط أسماء الموالين لأهل البيتعليه‌السلام من عطاء بيت المال وقد كان معاوية مفرطاً في ذلك ، فأوعز إلى ولاته في جميع الأمصار : ( انظروا من قامت عليه البيّنة أنه يحبّ علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه )(٢) واستمر ذلك القرار زمن يزيد ، وعبد الملك بن مروان ، والوليد بن عبد الملك .

ــــــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة ج ١ ص ٢١٣ .

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١١ ص ٤٥ .

٢٧٦

وما كان على الإمام زين العابدينعليه‌السلام إلاّ أن يقوم بإعالة المتضررين من ذلك القانون الجائر بسرية تامة ، فأخذ يحمل جرابه على ظهره وهو مملوء بالطعام وبعد أن تهدأ عيون بني أمية ، فيتبع به المساكين في ظلمة الليل ، وهو يقول : ( إنّ الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب )(١) بحيث ان الفقراء والمساكين فقدوا صدقة السر بموت زين العابدينعليه‌السلام

ويكلمة ، فان الإمام السجادعليه‌السلام وفي ذلك الوضع القاسي ، قام بما تمليه عليه وظيفته الدينية والإجتماعية من مساعدة الفقراء والمساكين فكان من نشاطهعليه‌السلام

١ ـ إطعام الفقراء ظهيرة كل يوم .

٢ ـ توزيع الطعام ليلاً بجرابه المعروف ، كما ذكرنا .

٣ ـ إعالة بيوت الفقراء بالمدينة ، قدرت بمائة بيت وهو عدد كبير نسبة الى مساحة المدينة ذلك الزمان .

٤ ـ إعطاء الكسوة التي كان يرتديها إلى الفقراء .

٥ ـ بناء بيوت آل عقيل وغيرهم التي هدمها بنو أمية .

٦ ـ دفع الديون المتراكمة على الغارمين الفقراء ، كمحمد بن أسامة ، وغيره .

٧ ـ مقاسمة أموال السجادعليه‌السلام مع الفقراء والمساكين .

ــــــــــــــــ

(١) مختصر تاريخ دمشق ج ١٧ ص ٢٣٨ .

٢٧٧

وهذا الاسلوب في معالجة الفقر ، وإن كان اسلوباً فردياً قد لا يعالج كل الوضع الإجتماعي إلا انه يعدُّ مصداقاً لمنهج الإسلام في ضرورة معالجة مشكلة الفقر علاجاً دينياً شاملاً وقد قال الإمام عليعليه‌السلام : ( لو كان الفقرُ رجلاً لقتلته ) ، و ( كاد الفقرُ أن يكون كفراً ( .

ولو كانت أيديهمعليه‌السلام مبسوطة لعالجوا المشكلة بما ألهمهم الله به من كرم وعلم وتقوى وتعفف عما في ايدي الناس ، فكانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة وكانواعليه‌السلام يتحسسون لآلام الناس ومعاناتهم كيف لا ، وقد نزل فيهمعليه‌السلام قوله تعالى :( وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى‏ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنّا نَخَافُ مِن رَبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) (١) .

المشكلة العلمية

عانى القرن الأول الهجري ، خصوصاً بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من مشاكل عديدة خطيرة ، أولها : منع تدوين السنّة النبوية الشريفة بما فيها أقوال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفعله وتقريره ثانيها : دخول ثقافة مجتمعات جديدة اعتنقت الإسلام حديثاً تسلط حكام منعوا حرية الفكر والنقد وأباحوا في المقابل كل مظاهر الفساد حتى ينشغل

ــــــــــــــــ

(١) سورة الإنسان : الآية ٨ ـ ١٠ .

٢٧٨

الناس بملذات الدنيا دون الإنتباه إلى محاسبة الحاكم أو نقده أو عزله إذا اقتضى الأمر .

فشجعَ النظام السياسي الأموي ظاهرة الجهل بالمفاهيم الأساسية للدين ، وطرحَ ـ عبر فقهاء البلاط ـ مفاهيم جديدة غريبة كالتشبيه والتجسيم والجبر والإرجاء ، وشجع على ثقافة الهجاء والسباب والقذف على نطاق الشعراء فاشعل الفتن القبلية والعصبية والشعوبية ، كما سنرى في حديثنا عن مشكلة العصبية .

القضاء والقدر :

قال معاوية وهو يتحدث إلى عائشة أم المؤمنين ، حول استخلاف يزيد ، عندما دخل عليها وهو في زيارة للمدينة : ( وإن أمرَ يزيد قضاءٌ من القضاء ، وليس للعباد الخيرة من أمرهم وقد أكد الناس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم )(١)

وكان معاوية يحاول جاهداً أن يظهر للناس ، على ما رواه القاضي عبد الجبار : ( ان ما يأتيه بقضاء الله من خلقه ، ليجعله عذراً

ــــــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة ج ١ ص ٢٠٥ .

٢٧٩

فيما يأتيه ويوهم أنه مصيب فيه ، وأن الله جعله إماماً وولاه الأمر ، وفشا ذلك في ملوك بني أمية )(١)

ولكن أئمة أهل البيتعليه‌السلام قاوموا فكرة القضاء بهذا المعنى ، بكل قوة ووضوح وعندما أراد عبيد الله بن زياد ان يعلّل مقتل الحسينعليه‌السلام إلى فعل الله عزّ وجلّ لا فعل الناس ، أجابه الإمام السجادعليه‌السلام ( اللّهُ يَتَوَفّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) )(٢) . فمقتل الحسينعليه‌السلام كان بفعل الناس واختيارهم ، ولم يجبرهم الله تعالى على ذلك .

وعندما أراد يزيد ان يعلّل قتل الحسينعليه‌السلام بالآية الشريفة : (( وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) )(٣) ، رده الإمامعليه‌السلام : ( هذا في حق من ظلم ، لا في حق من ظُلم ) وهذا توجيه شرعي للآية الشريفة ، حيث أراد يزيد تحريف معناها .

والفرق كبير بين حلول الأجل من قبل الله تعالى دون واسطة ، وبين القتل الذي هو إزهاقٌ للروح من قبل إنسان قاصد لنية القتل .

ــــــــــــــــ

(١) رسائل العدل والتوحيد ـ القاضي عبد الجبار ص ٢ ـ ٤٦ .

(٢) سورة الزمر : الآية ٤٢ .

(٣) سورة الشورى : الآية ٣٠ .

٢٨٠