أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)44%

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام) مؤلف:
المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 173

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67090 / تحميل: 8421
الحجم الحجم الحجم
أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الحركات الرجعيّة

1

7

الجهميّة

قد عرفت أنّ المتّهمين بالقدرية كانوا دعاة الحرّية، لا نُفاة القضاء والقدر، بل كانوا قائلين بأنّه سبحانه تبارك وتعالى قدّر وقضى، ومع ذلك، لم يسلب الاختيار عن الإنسان، فخيّره بين الإيمان والكفر، بين الخير والشّر، فلو قدّر الخير فلعلم منه بأنّه يختار الخير عن اختيار، أو قدّر الشر فلعلم منه أنّ الفاعل يختار الشر كذلك، وهو نفس صميم الإسلام ولبّه، قال سبحانه: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ ) (1) .

لكن ظهرت في القرن الثاني والثالث حركات رجعيّة استهدفت أركان الإسلام والعودة بالأُمّة إلى الأفكار الجاهلية الّتي سادت قبل الإسلام، من القول بالجبر والتجسيم، وإليك أبرز ممثّلي هذه الحركات الرجعية.

____________________

(1) الكهف: 29.

٨١

الجهميّة:

إنّ سمات الجهميّة، هي: القول بالجبر والتعطيل، أسّسها جهم بن صفوان السمرقندي (المتوفّى 128هـ).

قال الذهبي: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهميّة في زمان صغار التابعين، وما علِمْته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً.

وقال المقريزي: الجهميّة،أتباع جهم بن صفوان الترمذي، مولى راسب، وقُتل في آخر دولة بني أُميّة، وتتلخّص عقائده في الأُمور التالية:

1 - ينفي الصفات الإلهيّة كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خَلْقه.

2 - إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا بالاستطاعة.

3 - إنّ الجنّة والنّار يفنيان، وتنقطع حركات أهلهما.

4 - إنّ من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر؛ لأنّ العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات وخلق القرآن ونفي الرؤية.

5 - وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

6 - وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. (1)

____________________

(1). الخطط المقريزيّة: 3/349، ولاحظ: ص351.

٨٢

أقول: الظاهر أنّ قاعدة مذهبه أمران:

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة، فجهم بن صفوان رأس الجبر وأساسه، ويُطْلق على أتباعه الجبريّة الخالصة، في مقابل غير الخالص منها.

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه، عن التوصيف بصفات الجلال والجمال، ومن هنا نجمت المعطّلة.

وأمّا غير هذين الأمرين فمشكوك جداً.

التطورات الّتي مرّ بها مفهوم الجهمي:

لمّا كان نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن ونفي الرؤية ممّا نسب إلى منهج الجهم، صار لفظ الجهمي رمزاً لكلِّ من قال بأحد هذه الأُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر؛ ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة ويراد بها المعتزلة أو القدريّة، يقول أحد بن حنبل:

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (1)

____________________

(1) السنّة: 49.

٨٣

الحركات الرجعيّة

2

8

المجسّمة

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والبرهان عن التفكير، ألحق أضراراً جسيمة بالمجتمع الإسلامي، حيث ظهرت فيه حركات هدّامة ترمي إلى تقويض الأُسس الدينية والأخلاقيّة.

ومن تلك الحركات المجسّمة؛ الّتي رفع لواءها مقاتل بن سليمان المجسم (1) (المتوفّى عام 150هـ)، ونشر أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثالث، فهو وجهم بن صفوان، مع تشاطرهما في دفع الأُمّة الإسلامية إلى حافة الجاهلية،على طرفي نقيض في مسألة التنزيه والتشبيه.

____________________

(1) مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي بالولاء، البلخي، أبو الحسن، من المفسرين، أصله من بلخ، انتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدّث بها، وتوفّي بالبصرة، كان متروك الحديث، من كتبه (التفسير الكبير)، و(نوادر التفسير)، و(الرّد على القدريّة)، و(متشابه القرآن)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(القراءات)، و(الوجوه والنظائر)، [الأعلام: 7/281].

٨٤

أمّا صفوان، فقد بالغ في التنزيه حتّى عطّل وصف ذاته بالصفات.

وأمّا مقاتل، فقد أفرط في التشبيه فصار مجسّماً، وقد نقل المفسرون آراء مقاتل في كتب التفاسير.

فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: كان يأخذ من اليهود والنصارى - في علم القرآن - الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث.

وقال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه. (1)

____________________

(1) لاحظ: ميزان الاعتدال، 4/173. وراجع تاريخ بغداد، 13/166.

٨٥

الحركات الرجعية

3

9

الكرّاميّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمد بن كرام السجستاني (المتوفّى عام 255هـ) شيخ الكرامية.

قال الذهبي: ساقط الحديث على بدعته، أكَثَر عن أحمد الجويباري، ومحمد بن تميم السعدي؛ وكانا كذّابين.

وقال ابن حبّان: خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها... وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة.

وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن. ومن بِدَع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام، وقد سقت أخبار ابن كرّام في تاريخي الكبير، وله أتباع ومؤيّدون، وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثُمَّ أُخرج وسار

٨٦

إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة 255هـ. (1)

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات أُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جُرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النبي أخطأ في تبليغ قوله[ تعالى]: ( وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى ) ، حتّى قال بعده: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتها لترتجى). (2)

مع أنّ قصة الغرانيق أُقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة، وقد أوضحنا حالها في كتابنا (سيد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم».

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم، وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالروايات مع ما فيها من أباطيل وترّهات وضعها الأعداء واختلقتها الأهواء، فهي من أسوأ الحركات الرجعيّة الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 4/21.

(2) الفرق بين الفِرق: 222.

٨٧

الحركات الرّجعيّة

4

10

الظاهرية

وهذا المذهب منسوب إلى داود بن علي الأصفهاني الظاهري (200 - 270هـ).

وقد أسّس مذهباً في الفروع، فالمصدر الأصلي في الفقه عنده هو النصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها، فإذا لم يكن بالنص، أخذوا بالإباحة الأصليّة.

ما هو السبب لظهور هذا المذهب؟

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبُّد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكن الجمود على حرفيّة النصوص شيء، والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيّين شيء آخر،

٨٨

فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

1 - إنّ الشكّل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروري الإنتاج، من غير فرق بين الأُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة؛ فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتمية لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكل مسكر حرام، فالفقاع حرام؛ لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين، ولكن لا يفتي بالنتيجة؛ بحجة أنّها غير مذكورة في النصوص.

2 - ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب، وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍ ) (1) ، يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكن الفقيه الظاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: ( قُل لِلّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنّتُ الْأَوّلِينَ ) (2) .

فالموضوع للحكم (مغفرة ما سلف عند الانتهاء)؛ وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر، لازم لهذا الحكم بالضرورة، وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد، ولكنّ الظاهري يتركه؛ بحجة أنّه غير مذكور في النص.

____________________

(1) الإسراء: 23.

(2) الأنفال: 38.

٨٩

وهذا النوع من الجمود يجعل النصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة، وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتميّة نبوّة نبيّناً محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وكتابه وسنّته.

ثمَّ إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة؛ وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص؛ له تفسيران: أحدهما صحيح جداً، والآخر باطل، فإن أُريد منه نفي الظنون؛ الّتي لم يدلّ على صحة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نص الكتاب العزيز، قال سبحانه: ( قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، فالشيعة الإماميّة، وبفضل النصوص الوافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المتّصلة اسنادها إلى الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنية؛ الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدليل على حرمة العمل على بعضها، كالقياس، وقد ورد في نصوص أئمتهم (عليهم السلام): «إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين» (2) .

وإن أُريد بها لوازم الخطاب؛ أي ما يكون في نظر العقلاء، كالمذكور أخذاً بقولهم: (الكناية أبلغ من التصريح)، ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير المنصوص. نعم ليس عملاً بالظاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

____________________

(1) يونس: 59.

(2) الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

٩٠

أُفول نجمه:

إنّ هذا المذهب لأجل حرفيته قد أفل نجمه بسرعة.

نعم قد تبعه فقيه آخر باسم ابن حزم (384 - 458هـ)، وأعاد هذا المذهب إلى الساحة، وألّف حوله كتباً ورسائل، وخدمه بالتآليف التالية:

1 - الإحكام في أُصول الأحكام: بيّن فيه أُصول المذهب الظاهري.

2 - النُّبَذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

3 - المحلّى: وهو كتاب كبير نشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار، طبع في بيروت بتحقيق أحمد محمد شاكر، وله آراء شاذة - كبطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهية، وجواز مس المصحف للمجنب، وقاتل الإمام عليّ كان مجتهداً - ذكرناها في موسوعتنا. (1)

وقد ذكرنا هذا المذهب، مع أنّه فقهي؛ لأجل اشتراكه مع ما سبق في الرجعيّة، وإقصاء العقل عن ساحة الاجتهاد الفقهي.

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 3/141 - 146.

٩١

11

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة؛ مدرسة فكريّة عقليّة أعطت للعقل القسط الأوفر، ومن المؤسف أنّ هوى العصبية، بل يد الخيانة، لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة، فأطاحت به فأضاعتها بالخرق والتمزيق، فلم يبق فيما بأيدينا من آثارهم إلاّ الشيء القليل، وأكثرها يرجع إلى كتب عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى عام 415هـ)، ولأجل ذلك فقد اعتمد في تحرير هذا المذهب غير واحد من الباحثين على كتب خصومهم كالأشاعرة، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على كتاب الخصم لا يُورث يقيناً.

وقد اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال، ولقد أُعجبوا بمنهج الاعتزال في حرّية الإنسان وأفعاله، وصار ذلك سبباً لرجوع المعتزلة إلى الساحة من قبل المفكّرين الإسلاميّين، ولذلك نُشرت في هذه الآونة الأخيرة كتباً حول المعتزلة.

ومؤسّس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، نقل الشهرستاني أنّه دخل شخص على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين!، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم تُخرج به

٩٢

عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج، وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر، ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد؛ يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة. (1)

سائر ألقاب المعتزلة:

إنّ للمعتزلة ألقاباً أُخر:

1 - العدليّة: لقولهم بعدل الله سبحانه وحكمته.

2 - الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله، وينفون قدم القرآن.

3 - أهل الحق: لأنّهم يعتبرون أنفسهم أهل الحق.

4 - القدريّة: يُعبَّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة، والمعتزلة يطلقونها على خصومهم، وذلك لما رُوي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أنّ القدريّة مجوس هذه الأُمّة». فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر؛ عِدْل القضاء، فتنطبق على

____________________

(1) الملل والنحل: 1/62.

٩٣

خُصَماء المعتزلة؛ القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة؛ أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره وتمكّنه في إيجاده، فتنطبق - على زعم الخُصَماء - على المعتزلة؛ لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث وذِكْر كلِّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها. (1)

5 - الثنويّة: ولعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم من نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد.

6 - الوعيدية: لقولهم إنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده، وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ويخلَّد في النار.

7 - المعطّلة: لتعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، ولكن هذا اللقب أُلصق بالجهميّة، وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

أ - القول بالنيابة، أي خلو الذات عن الصفات، ولكن تنوب الذّات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم: (خُذ الغايات واترك المبادئ)، وهذا مخالف لكتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدِّث عنه ولا حرج؛ لأنّ الكمال يساوق الوجود، وكلّما كان الوجود أعلى وأشرف، تكون الكمالات فيه آكد.

____________________

(1) كشف المراد: 195، شرح المقاصد للتفتازاني: 2/143.

٩٤

ب - عينيّة الصفات مع الذّات واشتمالها على حقائقها، من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذّات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم قدرة.

8 - الجهميّة، وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكل ما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهميّ؛ يُريد به المعتزلة، لِمَا وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل.

9 - المفنية.

10 - اللّفظيّة.

وهذان اللّقبان ذكرهما المقريزي وقال: إنّهم يوصفون بالمفنية، لما نسب إلى أبي الهذيل من فناء حركات أهل الجنة والنار؛ واللفظية لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة. (1)

الأُصول الخمسة عند المعتزلة:

اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة، فمن دان بها فهو معتزلي، ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم، وتلك الأُصول المرتبة حسب أهميتها عبارة عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن دان بها، ثُمَّ خالف بقية المعتزلة في تفاصيلها، لم يخرج بذلك عنهم.

وإليك تفصيل هذه الأُصول بنحو موجز:

____________________

(1) الخطط المقريزيّة: 4/169.

٩٥

إيعاز إلى الأُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الأُصول على وجه الإجمال، حتّى يُعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثُمَّ نأخذ بشرحها واحداً بعد احد؛ فنقول:

1 - التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد، لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الّذي يستحقّه. والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان ووهم المثليّة وغيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه، كالتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه. غير أنّ المهمّ في هذا الأصل؛ هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه، ونفي الرؤية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل؛ لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه، إلاّ القليل منهم.

2 - العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يَخِلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا: لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه، ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي الكذّابين، ولا يكلِّف العباد وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يُقْدِرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك، ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ) (1) ، وأنّه إذا كلّف المكلّف وأتى بما كلّف على الوجه الّذي كُلِّف، فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم، فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه، وإلاّ كان مخلاًّ بواجب...

3 - الوعد والوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد

____________________

(1) الأنفال: 42.

٩٦

العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخُلف، لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل، ثُمَّ تركه، يكون كذباً. ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه، كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخُلف كذباً. وعلى ضوء هذا الأصل، حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار؛ إذا مات بلا توبة.

4 - المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء والأحكام؛ وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمعروف: كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر: كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه. ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما؛ إنّما الخلاف في أنّه هل يُعلم عقلاً أو لا يُعلم إلاّ سمعاً؟، ذهب أبو عليّ (المتوفّى 303هـ) إلى أنّه يُعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (المتوفّى 321هـ) إلى أنّه يُعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تُذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه، إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)؛ لِمَا كان في صبره على ما صبر، إعزاز لدين الله عزّ وجلّ، ولهذا نباهي به سائر الأُمم، فنقول: لم يبق من ولْد الرّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى قتل دون ذلك. (1)

____________________

(1) الأُصول الخمسة: 142، نقلاً عن، بحوث في الملل والنحل: 3/254 - 255.

٩٧

سبب الاقتصار على هذه الأُصول الخمسة:

هناك سؤال يطرح نفسه، وهو:

لماذا اقتصروا على هذه الأُصول، مع أنّ أمر النبوّة والمعاد أولى بأن يُعدَّ من الأُصول؟

وقد ذكروا في وجه ذلك أُموراً لا يُعتمد عليها، والحق أن يقال: إنّ الأُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة، مؤلّفة من أُمور تعدُّ من أُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن أُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الأُصول لغاية ردِّ الفرق المخالفة؛ الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلامية.

وعند ذلك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الأُصول، وجعلته في صدر آرائها، ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإماميّة وغيرهم من الفرق، على نحو لو لا تلكم الفِرَق لما سمعت من هذه الأُصول ذكراً.

أئمة المعتزلة:

المراد بأئمتهم؛ مشايخهم الكبار؛ الّذين نضج المذهب بأفكارهم وآرائهم، ووصل إلى القمة في الكمال.

نعم، في مقابل أئمة المذهب، أعلامهم الّذين كان لهم دور في تبيين هذا المنهج من دون أن يتركوا أثراً يستحق الذكر في الأُصول الخمسة، وها نحن نذكر من الطائفيتن نماذج:

٩٨

1. واصل بن عطاء (80 - 131هـ):

أبو حذيفة واصل بن عطاء، مؤسّس الاعتزال، المعروف بالغزّال، يقول ابن خلّكان: كان واصل أحد الأعاجيب، وذلك أنّه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الرّاء، فكان يُخلِّص كلامه من الرّاء ولا يُفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق؛ يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة تردّدها في الكلام، حتّى كأنّها ليست فيه.

عـليم بـإبدال الحروف وقامع

لـكلّ خطيب يغلب الحقَّ باطلُه

وقال الآخر:

ويـجعل البرّ قمحاً في تصرّفه

وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولـم يطق مطراً والقول يعجله

فـعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

من آرائه ومصنّفاته:

إنّ واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال: كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق.

مؤلّفاته:

ذكر ابن النديم في (الفهرست)، وتبعه ابن خلّكان: إنّ لواصل التصانيف التالية:

٩٩

1 - كتاب أصناف المرجئة.

2 - كتاب التوبة.

3 - كتاب المنزلة المنزلتين.

4 - كتاب خطبه الّتي أخرج منها الرّاء.

5 - كتاب معاني القرآن.

6 - كتاب الخُطب في التوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ (عليه السّلام) في التوحيد والعدل فأفرده تأليفاً.

7 - كتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد.

8 - كتاب السبيل إلى معرفة الحق.

9 - كتاب في الدعوة.

10 - كتاب طبقات أهل العلم والجهل. (1)

2. عمرو بن عبيد (80 - 143هـ):

وهو الإمام الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وكان من أعضاء حلقة الحسن البصري، مثل واصل، لكن التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة.

روى ابن المرتضى، عن الجاحظ، أنّه قال: صلَّى عمرو أربعين عاماً صلاة

____________________

(1) فهرست ابن النديم: 203، الفن الأوّل من المقالة الخامسة.

١٠٠

الخطبة التاريخية لسيدة الإسلام فاطمة الزهراء ( عليها السلام )

ساد العالم الإسلامي بعد وفاة الرسول هزّة عنيفة، وكان محور هذه العاصفة يدور حول منصب ( الخلافة )، ثمّ انتقل إلى كلِّ ما يرتبط بهذا المنصب، منها قرار مصادرة أرض ( فدك )، التي وهبها الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لابنته فاطمة ( عليها السلام ) استناداً إلى مصالح مهمة، فقد صودرت من قِبل النظام الحاكم(١) .

لاحظت فاطمة ( عليها السلام ) أنّ هذا التجاوز الواضح، وما رافقه من تجاهل

____________________

١. ( فدك ) كما قلنا هي واحدة من القرى المعمورة، التي تقع على أطراف المدينة المنوّرة، ويسكنها جمع من اليهود، وهم كسائر يهود المدينة وخيبر في التآمر على الإسلام.

في السنة السابعة للهجرة وبعد أن تساقطت قلاع خيبر الواحدة تلو الأخرى أمام جنود الإسلام، وبعد أن تحطّمت قدرة اليهود المركزية، لجأ سكان ( فدك ) للصلح مع النبي ( صلّى الله عليه وآله )، والتسليم له، فقد أعطوه نصف الأرض والبساتين، واحتفظوا بالنصف الآخر.

قام الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) في حياته - طبقاً لِما نقله مؤرخو ومفسرو الشيعة والسنّة - بإعطاء فدك لفاطمة ( صلّى الله عليه وآله )، لكنّ غاصبي الحكومة الإسلامية بعد الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) قاموا بمصادرة تلك الأرض؛ استناداً إلى حجج باطلة، ومن ثَمَّ ضمها إلى بيت المال - وفي الواقع ضمّها إلى أموالهم ومنافعهم الشخصية - خوفاً من نموّ القدرة الاقتصادية لزوجة أمير المؤمنين علي ( عليه السلام )، وبالتالي منافستهم سياسياً على الخلافة، علماً أنّهم عمدوا إلى تشتيت أصحاب علي ( عليه السلام ).

إنِّ قصة فدك والحوادث المختلفة الأخرى، التي جرت في صدر الإسلام والمرحلة التي تلت ذلك، لهي من أغمِّ وأشدِّ ما أفرزه التاريخ الإسلامي ألماً وعبرةً ومآسياً، وهذا ما ورد تفصيله في فصل من هذا الكتاب وبشكل منفصل.

١٠١

للأحكام الإسلامية في هذا الأمر، سيجرف الأمّة الإسلامية إلى انحراف كبير عن تعاليم الإسلام وسُنة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله )، والاندفاع نحو تقاليد الجاهلية، من ناحية أخرى فإنّها مقدمة لفرض، إقامة جبرية على عليٍّ أمير المؤمنين ( عليه السلام )، ومحاصرته وأصحابه اقتصادياً؛ لذا بدأت بالدفاع عن حقها أمام غاصبي ( فدك )، وطالبت بكل وجودها بإعادة حقها السليب، لكن النظام الحاكم رفض أداء حقها؛ بحجة باطلة وحديث موضوع ( نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ).

أقبلت سيدة نساء العالمين مع لُمة من نساء بني هاشم إلى مسجد النبي ( صلّى الله عليه وآله )؛ لتعلن عن رأيها وظلامتها أمام جمهور المسلمين، وسادات المهاجرين والأنصار؛ حتى تتمَّ حجتها، وتكشف حجج هذا الغصب العجيب والمصادرة الظالمة من قِبل جهاز النظام، إضافةً إلى فضح صفوف المدافعين عن سياسة التجاوز، وتمييزهم عن الأمناء الحقيقيين للإسلام.

غير مكترثة للضجة المفتعلة بهذا الخصوص، وما ستفرزه هذه الفضيحة الكبيرة من نتائج، فقد استمرت في تصميمها، واحتجت على ( غصب فدك ) من خلال خطبة غرّاء، ألقتها أمام المهاجرين في المسجد، مزيلةً الستار عن كثير من الحقايق.

كانت هذه الخطبة بمثابة تحذير مروّع لأولئك الذين سعوا إلى حرف الحكومة الإسلامية، وخلافة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) عن مسيرها الحقيقي، وتضييع تلك الجهود التي تحمّلها لأكثر من عقدين.

كانت خطبتها ( ناقوس الخطر ) لأولئك الذين ينبض قلبهم بعشق الإسلام، ويخافون على مستقبل هذا الدين الطاهر.

١٠٢

و ( الإنذار العنيف ) لأولئك الغافلين عن تغلغل المنافقين، ونفوذهم في الجهاز السياسي بعد الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، والمتجاهلين لأعمالهم المبطّنة.

( الصرخة الأليمة ) في حماية عليٍّ أمير المؤمنين ( عليه السلام )، ووصي رسول ربّ العالمين ( صلّى الله عليه وآله )، حيث تجاهل بعض السياسيين كلَّ ما ورد فيه من آيات قرآنية وتوصيات للرسول ( صلّى الله عليه وآله ).

( إحقاق الحق المهضوم )؛ لتوعية كل مَن غُصب حقه، وهو يفضّل المسالمة والسكوت على الانتفاضة والتصدي.

( الصيحة المؤثرة ) التي دوّى صداها في كلَّ مكان، وبقيت آثارها على مر العصور والقرون.

( الزلزال العميق ) الذي أيقظ أمواجه المتلاطمة تلك الأرواح النائمة - ولو مؤقتاً - وأظهر لها طريق الحق.

وأخيراً فقد كانت ( الصاعقة المميتة ) التي حلّت على رؤوس أعداء الإسلام وأخذتهم بغتةً، أمّا عمق التحليلات التي أوردتها الصديقة الطاهرة، بشأن أعقد المسائل المرتبطة بالتوحيد والمبدأ والمعاد، فإنّما تكشف عن بعد نظرها وسعة رؤيتها ( عليها السلام ).

إنّ ما تضمّنته خطبة ابنة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) من تفسير للقضايا العقائدية والسياسية والاجتماعية، لهو دليل واضح ودامغ على أنّ تلك الصدّيقة ليست متعلقةً بزمان دون آخر.

الملاحم الثورية التي جرت على لسان فاطمة ( عليها السلام ) في هذه الخطبة، تدل على أنّها سيدة فدائية مجاهدة، وزعيمة صالحة للمقاتلين في سبيل الله، والمجاهدين في سبيل الحق.

إنّ لحن سيدة النساء في هذه الخطبة الذي ينفذ إلى أعماق روح

١٠٣

الإنسان وقلبه، يبيّن حقيقةً مهمةً، وهي أنّها محدّثة بليغة، وخطيبة مقتدرة، كزوجها أمير المؤمنين علي ( عليه السلام )، فقد كانت هذه الخطبة الغرّاء على غِرار خُطب علي ( عليه السلام ) في نهج البلاغة، وسارت معها جنباً إلى جنب حتى أظهرت الأيام، أنّ ابنتها زينب قد ورثت ذلك من أبيها وأمّها معاً، حيث ألقت بخطبها في سوق الكوفة ومجلس يزيد الرعب في نفوس بني أميّة المجرمين، وزلزلت أركان دار الإمارة، ونثرت بذور الثورة في قلوب أهل الكوفة والشام ضد هذه الحكومة الجائرة الجبارة.

أفرزت خطبة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) العديد من الدروس، فما بيّنته في أدق مسائل الفلسفة وأسرار الأحكام، وتحليل تاريخي سياسي للإسلام، ومقارنة بين العرب في زمن الجاهلية وبين حياتهم بعد ظهور الإسلام، تعتبر دروساً عظيمة المعنى، يستفيد منها كل مَن يسير على خُطى الحقِّ مجاهداً في سبيل الله.

والأهم من ذلك، إنَّ فاطمة ( عليها السلام ) أفصحت عن موقف آل بيت النبِّي ( صلّى الله عليه وآله ) بالنسبة إلى النظام الحاكم، وبرّأت ساحة الإسلام المقدسة من الظلم والجور، الذي ارتُكب باسم الإسلام، ولو انحصرت فائدة الخطبة في هذا الأمر، لكان كافياً!

١٠٤

أسانيد ووثائق الخطبة

تُعد هذه الخطبة واحدةً من الخطب المشهورة، التي نقلها كبار علماء الشيعة والسنة بسلسلة كبيرة من الأسانيد المعتبرة، خلافاً لِما يتصوِّره البعض من أنّها ضعيفة أو حتى عديمة السند، ومن بين المصادر التي أوردت هذه الخطبة هي:

١ - أورد عالم أهل السُنّة المشهور ابن أبي الحديد المعتزلي، في توضيح رسالة ( عثمان بن حنيف ) في الفصل الأَوّل من ( شرح نهج البلاغة )، وثائقَ مختلفةً عن خطبة سيدة الإسلام فاطمة ( عليها السلام )، ويصرّح قائلاً بأنّ الأسانيد التي أوردتها لهذه الخطبة ليست مأخوذةً من أيٍّ من كتب الشيعة.

ثمّ يشير إلى كتاب ( السقيفة ) لـ ( أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري )، الذي يُعدُّ واحداً من كبار محدثي أهل السُنّة، بأنّه نقل هذه الخطبة في كتابه من عدة طرق - وأورد ابن أبي الحديد جميع تلك الطرق في شرح نهج البلاغة، ولغرض الاختصار فقد صرفنا النظر عن ذكرها - بعدها يضيف، عندما عزمت الحكومة على غصب ( فدك )، أقبلت

١٠٥

فاطمة ( عليها السلام ) إلى المسجد، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله، وهناك ألقت خطبتها الغرّاء.

ثمّ ينقل ابن أبي الحديد تلك الخطبة المشهورة والمعروفة، وإن كان هنالك اختلاف طفيف في عبارات هذه الخطبة في بعض النقول.

٢ - أورد ( علي بن عيسى الأربلي ) هذه الخطبة في كتاب ( كشف الغمّة )، نقلاً عن كتاب ( السقيفة ) لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز.

٣ - أشار ( المسعودي ) في ( مروج الذهب ) إلى الخطبة بشكل إجمالي.

٤ - ( السيد المرتضى ) العالم والمجاهد الشيعي الكبير أورد هذه الخطبة في كتابه ( الشافي )، نقلاً عن عائشة زوجة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ).

٥ - ذكر المحدّث المعروف ( المرحوم الصدوق ) مقتطفات منها في كتاب ( علل الشرائع ).

٦ - روى الفقيه المحدّث المرحوم الشيخ ( المفيد ) قسماً من هذه الخطبة.

٧ - أورد ( السيد بن طاووس ) قسماً منها في كتاب ( الطرائف )، نقلاً عن كتاب ( المناقب ) لـ ( أحمد بن موسى بن مردويه الأصفهاني )، وهو من مشاهير أهل السُنّة الذي نقلها بدوره عن عائشة.

٨ - وأوردها المرحوم ( الطبرسي ) صاحب كتاب ( الاحتجاج ) بصورة مرسَلة(١) .

على كل حال، فإنّ هذه الخطبة التاريخية هي واحدة من خطب أهل البيت ( عليهم السلام ) المعروفة، وطبقاً لِما نقل فإنَّ كثيراً من الشيعة المخلصين

____________________

١. بحار الأنوار: العلاّمة المجلسي، ج٨، ص١٠٨ الطبعة القديمة.

١٠٦

أوصوا أبناءهم بحفظ هذه الخطبة؛ حتى لا يستقر عليها غبار النسيان بمرور الزمن، ولا تكون محطّاً للتجاهل والتصغير من قِبل الأعداء المغرضين.

والأُولى أن يحفظها اليوم جيل الشباب الشجاع، وينقلها لأجيال الغد.

١٠٧

المحاور السبعة لخطبة فاطمة الزهراء ( عليها السلام )

تتضمن هذه الخطبة الغرّاء التي قلّ نظيرها سبعة محاور، وتدور حول سبعة مباحث، ينشد كل منها هدف واضح، ويجب دراسة كلٍّ منها بصورة مستقلة.

المحور الأَوّل:

تحليل عميق ومختصر لمسائل التوحيد، وصفات الخالق، وأسمائه الحسنى، وهدف الخِلقة.

المحور الثاني:

التذكير بمنزلة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) السامية، وصفاته ومسؤولياته وأهدافه.

المحور الثالث:

التحدّث عن أهمية القرآن المجيد، وعمق تعاليم الإسلام، وفلسفة الأحكام وأسرارها، والإرشادات والنصائح في هذا المجال.

المحور الرابع:

من خلال تعريف نفسها، تقوم سيدة النساء ( عليها السلام ) بالإفصاح عن خدمات أبيها رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) لهذه الأمّة، وهنا تذكّرهم فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بعصر الجاهلية القريب؛ ليكون لهم عبرةً، ومن ثَمّ مقارنته مع وضعهم بعد الإسلام، واتخاذ درس من هذا الاختلاف والتغيير.

١٠٨

المحور الخامس:

تُفصح عن الأحداث التي تلت وفاة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله )، وسعي حزب المنافقين لمحو الإسلام.

المحور السادس:

تتحدث عن الحجج الواهية التي اتّخذوها ذريعةً في غصب ( فدك )، ومن ثَمّ تفنيد تلك الحجج.

المحور السابع:

ومن أجل أن تُتِمَّ حجتها تقوم سيدة النساء ( عليها السلام ) باستنصار الأنصار، وأصحاب الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المخلصين، وتنهي خطبتها ببشارتهم بالعذاب الإلهي.

١٠٩

المحور الأَوّل

توحيد الله وصفاته، وهدف التكوين

النص:

( الحمدُ للهِ على ما أَنعم، وله الشكرُ على ما أَلهم، والثناءُ بما قدّم، من عموم نِعمٍ ابتدأها، وسبوغ آلاءٍ أسداها، وتمام مِنَنٍ والاها!

جمَّ عن الإحصاء عددُها، ونأى عن الجزاء أمدُها، وتفاوتَ عن الإدراك أبدُها، ونَدَبهم لاستزادتها بالشكرِ لاتصالِها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالِها، وثنّى بالندبِ إلى أمثالِها.

وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، كلمةٌ جعلَ الإخلاصَ تأويلَها، وضمّنَ القلوبَ موصولَها، وأنارَ في الفكر معقولَها.

الممتنع من الأبصارِ رؤيتُه، ومن الألسنِ صفتُه، ومن الأوهام كيفيتُه.

ابتدعَ الأشياءَ لا من شيءٍ كان قَبلها، وأنشأها بلا احتذاءِ أَمثلةٍ امتثلها.

كوّنها بقدرتهِ، وذرأها بمشيئتهِ، من غير حاجةٍ منه إلى تكوينِها، ولا فائدةٍ له في تصويرها؛ إلاّ تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريته، وإعزازاً لدعوته، ثمّ جعلَ الثوابَ على طاعتهِ، ووضعَ العقابَ على معصيتهِ؛ ذيادةً لعباده عن نقمته، وحياشةً لهم إلى جنته ).

١١٠

المناقشة:

في القسم الأَوّل للخطبة عدد من المسائل المهمة الجديرة بالبحث:

١ - الالتفات إلى الحقيقة التي نعيشها، وهي أنَّ نِعَمَ الله جلّ وعلا، قد أحاطت بكلِّ وجودنا حتى غرقنا فيها، وهذا الأمر يحيي فينا حسَّ الشكر والثناء، بل ويجرّنا إلى معرفة ذاته الطاهرة.

وهذا ما يعتمد عليه علماء علم الكلام - العقائد - تحت عنوان ( وجوب شكر المنعم )، في مسألة وجوب معرفة الله سبحانه وتعالى.

٢ - إذا كان الله سبحانه وتعالى قد دعا عباده إلى شكر نِعمه، فليس ذلك من باب الحاجة له ؛ بل ليكتسب العباد من خلاله - الشكر - لياقةً أكبر ودرجةً أعلى، وبالتالي تشملهم نِعم أوفر.

٣ - إنّ العباد عاجزون عن أداء حق الشكر لله؛ لأنّ التوفيق للشكر هو نعمةٌ بحد ذاته، كما أنّ آلات الشكر من - فكر، ويد، ولسان - هي أيضاً من نِعم الله؛ لذا ليس لهم إلاّ الاعتراف بالعجز. ( وكيف أؤدي حق شكرك، وشكرك يحتاج إلى شكر ).

٤ - الإخلاص هو روح التوحيد، تطهير الروح من دَنس الشرك بالله، ومنح القلب كرهينة لحبه، والخضوع والخنوع لأمره، وخلاصة القول، تجاهل ونبذ كل ما لا يُرضي الله، ونسيان كل شيء سواه.

٥ - في الواقع أنّ التوحيد قد أُودع في فطرة الإنسان منذ البدء، ويشع هذا النور الإلهي في أعماق كل إنسان، وكل واحد منهم يسمع من باطنه نداء ( الله اكبر )؛ ولهذا فعندما يتضاعف البلاء، وتتمزّق أستار الغفلة، يظهر هذا الإشعاع بوضوح أكثر من أي وقت آخر، وينجذب الجميع لا إرادياً نحو أنفسهم مردّدين ( لا إله إلا هو ).

١١١

٦ - لا يمكن درك كُنه ذاته حتى بالتفكّر العميق؛ حيث:

( كُلّما مَيّزتُمُوهُ بأوْهامِكمْ في أدَقّ مَعانِيهِ، مخلوقٌ مصنوع مثلُكُم مردُودٌ إليْكُم ) (١) كما لا يمكن معرفة كُنه صفاته؛ لذا يجب أن نعترف جميعاً بأنّه:

( وَما عَرَفُناكَ حَقَّ معرفَتِكَ ) (٢).

( ما عَبْدناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ ) (٣) .

٧ - تُعد مسألة الخلق والتكوين البدائي واحدةً من المسائل المهمة، فلم تكن هناك مادةٌ مصنوعةٌ من قبل، حتى يخلق الله منها هذا العالم، بل إنّ الخلق والتكوين قد تمّ من العدم، وقد اختصت هذه الخلقة بذاته الطاهرة، حتى صعب على البعض تصور ذلك.

٨ - المسألة المهمة الأخرى في أمر الخلق والتكوين ، هي أنّ المصوّرين يعتمدون دائماً في تصويرهم ورسوماتهم على ما يستلهمونه من الطبيعة، وأحياناً يقومون بخلط أشكال مختلفة؛ ليُبدعوا في صنع شكل جديد، أمّا الله سبحانه وتعالى فهو المبدع الذي صوّر العالم، وجسّمه دون تحضير مسبق أو تمثيل قبلي.

٩ - البحث المهم الآخر في هذا المحور من الخطبة التاريخية لسيدة النساء ( عليها السلام )، هو الغنى المطلق لله عن كل شيء .

من البديهي أنّ الوجود اللامتناهي من جميع النواحي للذات المقدّسة، يجعلها غنيّةً مطلقةً عن كلّ نوع من أنواع الحاجة؛ لأنّ ( الحاجة ) تدل على ( النقص )، والنقص ينحصر في الموجودات التي يمكن تصوّرها،

____________________

١. أربعين الشيخ البهائي، وبحار الأنوار ( للعلاّمة المجلسي )، ج٦٩، ص٢٩٣-٢٩٢.

٢. أربعين الشيخ البهائي، وبحار الأنوار ( للعلاّمة المجلسي )،ج٦٩، ص٢٩٣-٢٩٢.

٣. مستدرك الوسائل المحدّث النوري، ج١، ص١٦.

١١٢

لا في ذات الحق الغير متناهية.

١٠ - وأخيراً فإنّ المسألة المهمة الأخرى التي طُرحت في هذا المحور، هي ( هدف الخلق )، حيث تلخّص سيدة الإسلام ذلك في جُمل قصيرة عظيمة المعنى:

أ - تبيين وتوضيح الحكمة الإلهية اللامتناهية.

ب - دعوة العباد إلى طاعته.

ج - الإشارة إلى قدرته المطلقة.

د - دعوة العباد إلى عبوديته.

هـ - منح أنبيائه القوة.

هذه هي الأهداف التي بيّنتها فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في مسألة الخلق، والمُلفت للنظر أنّ هذه الأهداف ملازمة لبعضها البعض، فعندما يرى العبد آثار حكمة الخالق وقدرته في عالم الوجود الواسع ينقاد إلى طاعته، ويتوجه إلى عبوديته، وينعقد بمدارج كماله.

ومن ناحية أخرى، يكون للأنبياء نفوذ أكثر وأعمق في قلوب الناس، عندما يكون حديثهم مرتكزاً على نظام خلق عالم الوجود، فتسهل عليهم مسألة الهداية.

وعليه فلم يخلق الله الكون حتى يستفيد، بل إنّ الهدف هو أن يجود على العباد، فإرادته في أن ينتهجوا سبيل الهداية، فدعاهم إلى قربه، وليسيروا على نهجه، فيستحقوا المزيد من كرمه ولطفه.

١١٣

المحور الثاني

منزلة الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) السامية، خصائصهُ وأهدافه

النصّ:

( وأشهدُ أنّ أبي محمداً عبدُه ورسولُه، اختارهُ وانتجبهُ قَبل أنْ أرسلَه، وسمّاه قبل أنْ اجتبله، واصطفاه قبل أنْ ابتعثه، إذ الخلائقُ بالغيب مكنونةٌ، وبسترِ الأهاويلِ مصونةٌ، وبنهايةِ العدم مقرونةٌ.

علماً من الله تعالى بمآيل ( بمآل ) الأمورِ، وإحاطةً بحوادثِ الدهورِ، ومعرفةً بمواقعِ المقدورِ.

ابتعثه اللهُ إتماماً لأمرهِ، وعزيمةً على إمضاءِ حكمهِ، وإنفاذاً لمقاديرِ حتمهِ.

فرأى الأُمم فِرَقاً في أديانِها، عُكّفاً على نيرانِها، ( و ) عابدةً لأوثانِها، مُنكِرةً للهِ مع عرفانِها.

فأنارَ اللهُ بمحمد ( صلّى الله عليه وآله ) ظُلَمَها، وكشفَ عن القلوبِ بُهَمِها، وجلى عن الأَبصارِ غُمَمَها.

وقامَ في الناس بالهدايةِ، وأنقذَهم من الغواية، وبصَّرهم من العماية.

وهداهم إلى الدينِ القويمِ، ودعاهم إلى الطريقِ المستقيمِ، ثمّ قبضَهُ اللهُ

١١٤

إليه قبضَ رأفةٍ واختيارٍ، ورغبةٍ وإيثارٍ، فمحمدٌ ( صلّى الله عليه وآله ) عن ( مِنْ ) تعبِ هذه الدار في راحةٍ، قد حُفّ بالملائكة الأبرارِ، ورضوان الربِّ الغفّارِ، ومجاورةِ المَلِك الجبّارِ.

صلّى الله على أبي نبيِّه وأمينِهِ على الوحي، وصفيِّه وخيرته من الخَلقِ ورضيِّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته ).

التفسير:

تشير مولاتنا فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في هذا المحور من خطبتها، إلى جزء من المسائل المهمة المتعلّقة بشخص رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، منها:

١- تتحدّث عبارتها الأُولى عن جوهر ذات الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المقدّسة، الشيء الذي أُشير إليه في سائر الأحاديث الإسلامية أيضاً، وهنا يبرز بحث مهمٌ، وهو هل تختلف النشأة التكوينية للرسول ( صلّى الله عليه وآله ) كلياً عن الآخرين؟ وإذا كان كذلك فإنّ عصمته تكون جزءً من مستلزمات تلك الذات، وليس في هذا من فضل.

وإذا كان جوهره لا يختلف عن الآخرين، إذاً، فما الهدف الذي تبغيه مولاتنا من وراء هذه التعابير؟.

الحقيقة هي أنّ ميزات ومواهب الأنبياء والأئمة تنقسم إلى قسمين، فبعضها ذاتية، وبعضها الآخر مُكتسَبة، وبالتدقيق في هذا التركيب الخاص فقد أجيب على كثير من التساؤلات.

وبتعبير آخر، فإنّ الربّ الحكيم الذي حمّل نبيه أعباء تلك المهمة العظيمة، منحه استعدادات ذاتية، فقد أعطاه جوهراً ممتازاً، ذكاءً متوقّداً، إرادةً حديديةً، عزماً راسخاً، وعلماً وفيراً، وتشخيصاً صائباً، وإلاّ فلن

١١٥

يتمكن شخصٌ ضعيفٌ من القيام بهذه الرسالة الكبيرة، وسينتفي غرضها.

وهذا الأمر لا يتّصف إلاّ بالعدالة، فقوة عضلات الساعد تفوق بكثير قوة عضلات جفن العين؛ لأنّ وظيفة الأخيرة رفع وخفض جفن العين، في حين وظيفة الأخرى رفع الأحمال العظيمة، وإنجاز الأعمال الثقيلة، وخلاف ذلك هو خلافٌ للعدالة.

ومع هذا، فإنّ الجوهر الذاتي للرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لم يَسلب منه الإرادة والاختيار، فهو أيضاً له القدرة على المعصية ( والعياذ بالله )، علماً أنّه لا يرتكب المعصية.

لا تتعجب، فالكثير من الناس العاديين يتمتعون بنفس هذه الحالة بالنسبة لبعض المعاصي، فمثلاً يستطيع كل امرئ أن يظهر عارياً كما ولدته أُمّه أمام جمع من الناس، أو أنّ له القدرة على النوم عارياً في ثلوج ليلة شتاء قارصة، ولكن في نفس الوقت لا تصدر هذه الأفعال إلاّ من المجانين.

يتمتع الأنبياء والأئمة المعصومون بنفس هذه الحالة بالنسبة لجميع المعاصي.

وهذا يُلفت النظر إلى المسؤولية الكبيرة التي يتحمّلها المعصومون تجاه جوهرهم الطاهر، فلا يُقبل منهم أبداً ترك العمل بالأَولى.

وتعبير فاطمة ( عليها السلام ) الذي تقول فيه( عِلماً من الله تعالى بمآيل، الأمور وإحاطةً بحوادث الدهور ) إنّما يُشير إلى تلك النقطة، وهي أنّ الله يعلم بثقل الرسالة التي ستُلقى على عاتق النبي ( صلّى الله عليه وآله )؛ لذا جعل جوهره بهذا المستوى الممتاز.

٢ - جاء الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لإتمام الأوامر الإلهية، وتنفيذ أوامره التكوينية.

١١٦

تشير هذه العبارة إلى مسألة ختم النبوة بالرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله )، وهي أيضاً إشارة إلى مسألة إتمام المواهب التكوينية عن طريق التشريع والأحكام الإلهية.

٣ - تُعرّج ابنة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في هذا المقطع من حديثها، على الوضع المأساوي للأُمم قبل بعث الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، وكيفية ابتلائهم بظُلمة الخرافات، المجوس في تعظيمهم للنار، والعرب في عبادتهم للأصنام، وسائر المِلل في ابتلائها بنوع من الانحراف والتفرقة.

وما أعظم قولها( مُنكِرَةً للهِ مع عرفانِه )، الذي تشير فيه إلى مسألة ( التوحيد الفطري ) المكنون في كل البشر.

٤ - تشير ( عليها السلام ) في قسم آخر من بيانها الرائع إلى بركات وجود النبي ( ص ) وآثار قيامه ، وكيف أبعدَ عن أفقِ أفكارهم سُحب الأوهام السوداء المظلمة، وأزال عن قلوبهم صدأ الجهل والخرافات، ومزّقَ الغشاوة التي حجبت أبصارهم عن مشاهدة الحق، ودعاهم إلى ( الصراط المستقيم )، والحد الأوسط الذي يفصل بين الإفراط والتفريط.

ومن أجل فهم ودرك عمق هذا الحديث، يجب إجراء مقارنة دقيقة بين وضع الناس في عصر الجاهلية ووضعهم بعد ظهور الإسلام، حتى يتّضح الواقع الذي بيّنته سيدة الإسلام ( عليها السلام ) في خطبتها.

٥ - من المسائل التي يجدر الإشارة إليها في هذا المقطع من خطبة سيدة النساء ( عليها السلام ) التاريخية، هي الموت الكريم - أو العزيز - للرسول ( صلّى الله عليه وآله ):

ذلك الذي كُبّلت روحه المتألقة بقيود الجسد في هذه الدنيا الفانية، وبعد أن أدّى الرسالة، وأتمَّ المسؤولية، كسّر تلك القيود محلّقاً نحو الحبيب، مرفرفاً في فنائه، آخذاً مكانه بين ملائكة السماء المقرّبين.

١١٧

المحور الثالث

كتاب الله وفلسفة الأحكام

النص:

ثمّ التفتت ( عليها السلام ) إلى أهل المجلس وقالت:

( أَنتم عبادَ الله نُصْبَ أمرهِ ونهيهِ، وحَمَلةُ دينهِ ووحيهِ، وأُمناءُ اللهِ على أنفسكِم، وبُلغاؤه إلى الأُممِ.

وزعيم حقِّ له فيكم، وعهدٌ قدّمه إليكم.

وبقيةٌ استخلفها عليكم، كتاب اللهِ الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بيِّنةٌ بصائرُه، منكشفةٌ سرائرُه، متجلّيةٌ ظواهرُه، مغتبطٌ به أشياعُه، قائدٌ إلى الرضوان اتِّباعُه، مؤدٍّ إلى النجاة استماعُه، به تُنال حجج الله المنوَّرة، وعزائمه المفسرّة، ومحارمه المحذّرة، وبيِّناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورُخصه الموهوبة، وشرايعه ( شرائعه ) المكتوبة.

فجعل اللهُ الإيمانَ تطهيراً لكم من الشرك، والصلاةَ تنزيهاً لكم عن الكِبْر، والزكاةَ تزكيةً للنفس، ونماءً في الرزق، والصيامَ تثبيتاً للإخلاص، والحجَّ تشييداً للدين، والعدلَ تنسيقاً للقلوب، وطاعتَنا نظاماً للملّة، وإمامتَنا أماناً من الفُرقة ( للفُرقة )، والجهادَ عزّاً للإسلام، والصبرَ معونةً

١١٨

على استيجاب الأجر، والأمرَ بالمعروف مصلحةً للعامة، وبرَّ الوالدين وقايةً من السخط، وصلةَ الأرحام مَنماةً للعدد، والقصاصَ حقناً للدماء، والوفاءَ بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفيةَ المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهيَ عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتنابَ القذفِ حجاباً عن اللعنة، وتركَ السرقة إيجاباً للعفة، وحرَّم اللهُ (١) الشركَ إخلاصاً له بالرُّبوبية.

فـ( اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ ) (٢)

وأَطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنّه ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ) (٣).

التفسير:

تُشير سيدة الإسلام ( عليها السلام ) في هذا القسم من الخطبة إلى أمور مهمة أيضاً، منها:

١ - تُعد مسؤولية المسلمين، في إبلاغ الرسالة ونشر الإسلام في العالم، والدفاع عن قوانين وتعاليم وقيم الدين الحنيف، من المسؤوليات الخطيرة، التي لو تقاعس المسلمون عن أدائها كان حقّا عليهم أن ينتظروا العقاب والجزاء الإلهي، وأن يُطردوا من ساحة رحمته الواسعة.

٢ - نبّهت إلى عظمة القرآن على أنّه كتاب ناطق، ونور جلي، وضوء مشع، حارب وبشدة ظلمات الجهل، والتعصب والخرافات.

ذلك الكتاب الذي ظاهره الجمال والنور، وباطنه العِبرة والمعنى

____________________

١. جاء في نسخة أخرى ( حرّم الشرك ).

٢. سورة آل عمران، آية ١٠٢.

٣. سورة فاطر، آية ٢٨.

١١٩

الغزير، وأدلته مقنعة منجية.

ذلك القائد الذي يضمن لتابعيه النجاة؛ حيث دعاهم إلى جنة أزلية.

فهو قائد النجاة الذي بيَّن بمنطقه الفصيح أدلة التوحيد، وثبّت مبادئ العقيدة ببراهينه النيّرة، وأفصحَ عن البرامج العملية، التي يحتاجها المرء في طريق تكامل الإنسانية، فشخّص ( المباح ) من ( المحظور )، ( الجيد ) من ( الرديء )، و ( الحق ) من ( الباطل ).

٣ - أبدعت في تبيان فلسفة الأحكام من خلال عبارات قصيرة، فبدأت بالإيمان حتى الوفاء بالنذر، ومن التوحيد حتى ترك البَخس في الميزان، فوصفت كلاً منها بجملة ومقولة، فما أحلى تعبيرها( فجعلَ اللهُ الإيمانَ تطهيراً لكم من الشركِ ).

يتضح من هذا التعبير، أنَّ حقيقة معرفة الله وتوحيده مكنونة في فطرة الإنسان؛ لهذا جاء الإسلام ليطهّره من الملوّثات العرضية، التي تنتج عن طريق الشرك، كما تُغسل الثياب البيض بعد اتساخها؛ ليظهر لونها الأصلي.

شرّع الله ( الصلاة )؛ ليوطّن بها روح التواضع في الناس، ويسحب المتكبرين من منصة الغرور، عن طريق الركوع والسجود، والدعاء في حضرة الخالق.

( الزكاة ) تكون سبباً في تحرير روح الإنسان من أسر الدنيا، وتعلّقه بزخرفها وأموالها، وتنمية ثروات الأمّة، من خلال تعزيز البنية المالية للمحرومين.

( الصيام ) يجعل الإنسان مسيطراً على هوى نفسه، ويثبّت فيه روح الإخلاص، ويضفي على أغصان وجوده براعم وزهور التقوى.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173