أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)22%

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام) مؤلف:
المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 173

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67096 / تحميل: 8423
الحجم الحجم الحجم
أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

( الحجُّ ) ذلك التجمع الإسلامي العظيم الذي تثبت فيه أُسس الإسلام، وتُعزّز فيه قدرات المسلمين في شتى المجالات الفكرية والعلمية والعسكرية والسياسية.

( العدالة الاجتماعية ) تغسل الأحقاد من القلوب، وتزيل الاضطرابات، وتقر التنظيم، وعن طريق قبول قيادة الهداة المعصومين يمنح الله المسلمين نظاماً اجتماعياً سالماً منتهجاً خط التوحيد، ويبعد عنهم النفاق والتفرقة.

كذلك في مسائل الجهاد والصبر والاستقامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يتعلق بمسائل القصاص، والالتزام بالتعهدات، ومحاربة مَن يبخس الميزان، وطهارة الحجور من الفجور، وترك شرب الخمر، فقد أشارت سيدتنا إلى كل ذلك مبيّنةً آثار وعلاج كلٍّ منها.

٤ - تعود سيدة الإسلام ( عليها السلام ) مرةً أخرى إلى مسألة مسؤولية المسلمين تجاه القرآن المجيد والإسلام، وتدعوهم إلى التقوى، مذكّرةً إيّاهم بعواقب الأمور، حيث تصرُّ عليهم بمراقبة أعمالهم؛ حتى يودّعوا دار الفناء وهم مسلمون!.

كونوا على حَذر، واعملوا ما يجعلكم تموتوا مسلمين، نوّروا أرواحكم وقلوبكم بنور العلم والمعرفة؛ لأنّ العلماء فقط يشعرون بالمسؤولية، ويخافون الله سائرين على خطّ التقوى.

١٢١

المحور الرابع

إعلان موقفها من النظام الحاكم

النص:

ثمّ قالت:( أيّها الناس، اعلموا أنِّي فاطمة، وأَبي محمّد ( صلّى الله عليه وآله )، أقولُ عوداً وبدءً ولا أقول غلطاً، ولا أفعلُ ما أفعلُ شططاً.

( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيْه ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَليْكُم بالمُؤْمِنينَ رَءُوفٌ رَحيمٌ ) (١) .

فإن تُعزّوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نساءِكم، وأخا ابن عمِّي دون رجالِكم، ولنِعم المعزّى إليه ( صلّى الله عليه وآله ).

فبلّغَ بالرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مَدرجة المشركينَ، ضارباً ثَبَجهم، آخذاً بأكظامهم، داعياً إلى سبيل ربِّه بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، يكسر الأصنامَ وينكت الهامَ، حتى انهزم الجمعُ وولّوا الدُبرَ، حتى تفرّى الليلُ عن صبحهِ، وأسفر الحقُّ عن مَحضهِ، ونطقَ زعيمُ الدين، وخرست شقاشقُ الشياطين، وطاح وشيظُ النفاق، وانحلّت عُقدُ الكفرِ والشقاق، وفُهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخِماص.

____________________

١. سورة البراءة، آية ١٢٩.

١٢٢

وكنتم على شفا حفرةٍ من النارِ، مُذقة الشارب، ونُهزة الطامعِ، وقُبسة العجلانِ، وموطئ الأقدامِ، تشربون الطرْقَ، وتقتاتون الورقَ، أذلةً خاسئين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم .

فأنقذكم اللهُ تبارك وتعالى بمحمدٍ ( صلّى الله عليه وآله ) بعد اللُتيّا والتي، بعد أن مُنيَ ببُهَم الرجالِ، وذؤبان العربِ، ومَرَدة أهلِ الكتابِ، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللهُ، أو نَجَم قَرنُ للشيطان، أو فغرت فاغرةٌ من المشركينَ قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صِماخها بأخمصه، ويُخمد لهبَها بسيفهِ، مكدوداً في ذاتِ اللهِ، مجتهداً في أمرِ اللّهِ، قريباً من رسولِ اللّهِ، مشمّراً ناصحاً، مُجدّاً كادحاً، وأنتم في رفاهيةِ من العيشِ، وادعونَ فاكهونَ آمنونَ، تتربّصون بنا الدوائر، وتتوكّفون الأخبارَ، وتنكصون عند النزالِ، وتفرّون عند القتال ).

التفسير:

تضمن هذا القسم أيضاً حقائق كبيرة:

١ - بضعة النبي

تقوم بكشف هويتها للحاضرين قبل كلِّ شيء، وتُفرغ ما بأيديهم من حجج وأعذار؛ حتى لا يدّعي أحد، بأنّي لم أعرف بنت النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وإلاّ سارعت لنصرتها.

تركّز بشكل خاص على نسبتها للنبي ( صلّى الله عليه وآله )، وتتكلم عن ارتباطها بعلي ( عليه السلام )، ثمّ تؤكّد على أنّ ما أنطق به هو عين الحقيقة، لا أتحدث جزافاً، ولا ينطق لساني بغير حساب ولو بكلمة، فاستمعوا جيداً لِما أقول، وعوا مسؤوليتكم العظيمة تجاه هذه الحادثة.

١٢٣

٢ - الألم العميق

بعدها تذكّر بعلاقة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بهم وكيف كان يتألم لآلامهم، وأنّه كان شريكاً لهم في غمومهم، مستندةً على الصفات الخمسة التي وصف القرآن المجيد نبيه بها في إحدى آياته الشريفة:

( لَقد جاءَكُم رَسولٌ مِن أنفسِكُمْ عزيزٌ عليهِ ما عِنتُّمْ حَريصٌ عليْكُم بالمؤمنينَ رءوفٌ رحيمٌ ) (١) .

تلك الصفات التي شاهدها، وعرفها الأصحاب في رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ).

٣ - الجهود الشاقّة للنبي ( صلّى الله عليه وآله )

ثمّ تذكّر بالمعاناة الجسيمة التي مرت بالرسول ( صلّى الله عليه وآله )، وكيف أنّه قام منفرداً بإبلاغ رسالة ربّه العظيمة، دون أن يجد الانحراف سبيلاً إلى نفسه، مرّغ أنوف المتعنّتين بالتراب، وحطّم أدمغة المتكبرين، وكان سلاحه المنطق والدليل والموعظة والحكمة لمَن طلب الحق واستقصى عنه، إلى أن كسر شوكة المشركين، ودمّر معابد الأصنام، وتفرَّق أعداء الله، فانزالت الظلمات وشعَّ النور، وفرّت الخفافيش، وتمكن جمع من الناس أن يردّدوا نغمة التوحيد ( لا إله إلاّ الله ) علناً في ديار الكفر.

٤ - الماضي المشين

تقوم فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بتذكيرهم بذلك اليوم الذي كانوا فيه مجموعةً

____________________

١. سورة البراءة، آية ١٢٩.

١٢٤

مؤمنةً صغيرةً، تتصارع في وسط طوفان صعب وموحش، فمن ناحية تداعب وسوسات مراحل الشرك وعبادة الأصنام مخيلاتكم أحياناً، وتجرّكم إلى شفا جرف نار جهنم، ومن ناحية أخرى فإنّ أعداءكم الأقوياء الظالمين، قد أحاطوكم من كلِّ جانب، يتربّصون بكم الدوائر؛ ليسحقوكم بأيديهم وأرجلهم بطرفة عين، وكنتم تحت حصار رهيب، ليس لكم إلا الماء الآسِن والغذاء الرديء، تخافون مصيركم المجهول.

لكن، شاء الله أن يكسر أسنان هؤلاء الذئاب المصّاصين للدماء، ويضرب رؤوس هذه الأفاعي بالحجر، ويسلّط هذه الفئة القليلة المستضعفة عليها، وهو على ما يشاء قدير فعّال لِما يريد.

لم يمضِ وقت حتى خمدت نيران الفتن، وسكنت الأعاصير، وفرّت العفاريت، واختفى اللصوص وقطّاع الطرق - الذين كانوا يستفيدون من ظلمات ليالي الجاهلية - بعد أن أشرق العالم بنور شمس الإسلام.

نعم، ذكّرت فاطمة ( عليها السلام ) الحاضرين بتلك اللحظات الحسّاسة، التي أثقلت كاهل المؤمنين، وجعلت يومهم كقَرن من الزمان؛ حتى لا يتناسوا نِعَمَ الله الجزيلة، ولا ينكروا المواهب الإلهية، ويسعون في استمرارية وديمومة هذا الخط الإلهي والرسالي العظيم، ولا يستسلموا لِما يروّجه ويحيكه الأعداء.

٥ - خدمات علي ( عليه السلام )

تذكّر ابنة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في وسط حديثها بما قدّمه أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) من خدمات لهذه الأمّة، وكيف أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) كان يرسله لمواجهة الحوادث الخطرة والتصدي لها، وهو يقوم لها مؤثراً بنفسه، مضحّياً

١٢٥

وفدائياً، فينقضُّ على الفتن فيخمدها ويعود منتصراً، أهوى برؤوس المتكبرين إلى الأرض بسيفه، ومرّغ هامات الطواغيت بالتراب، وكان ناصراً ومساعداً للرسول ( صلّى الله عليه وآله )، وحامياً ومدافعاً في كلِّ مكان.

نعم، فمثل هذا الفرد العظيم يستطيع أن يُديم خطَّ هذه الثورة الكبيرة، ويمنع عنه الانحراف.

١٢٦

المحور الخامس

الردّة بعد النبي ( صلّى الله عليه وآله )

النص:

( فلمّا اختارَ اللهُ لنبيهِ ( صلّى الله عليه وآله ) دارَ أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حَسيكَةُ النفاق، وسَمَل جلبابُ الدينِ، ونطقَ كاظمُ الغاوين، ونبغَ خاملُ الأقلّينَ، وهَدرَ فنيقُ المبطلينَ، فخَطَر في عرصاتِكم، وأطلعَ الشيطانُ رأسَه من مَغرزهِ، هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوتهِ مستجيبينَ، وللغِرة فيه ملاحظينَ، ثمّ استنهضكم فوجدَكم خِفافاً، وأَحمشَكم فألفاكم غِضاباً، فوَسمتم غيرَ إبلِكم، وأوردتم غيرَ شربِكم، هذا والعهدُ قريبٌ، والكَلمُ رحيبٌ، والجرحُ لمّا يَندمل، والرسولُ لمّا يُقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة، ( أَلا في الفِتْنَةِ سَقَطوا وإنَّ جَهَنَّمَ لُحيطَةٌ بالْكافِرينَ ) (١) فهيهات منكم، وكيف بكم؟ وأنَّى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم، أمورُه ظاهرةٌ، وأحكامُه زاهرةٌ، وأَعلامُه باهرةٌ، وزواجرُه لائحةٌ، وأوامرُه واضحةٌ، قد خلّفتموه وراء ظهوركم، أَرغبةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمونَ؟ ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) .

( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ) (٢).

____________________

١. سورة التوبة، آية ٤٩.

٢. سورة آل عمران، آية ٨٥.

١٢٧

التفسير:

١ - التآمر والانحراف

تشير سيدة الإسلام ( عليها السلام ) في هذا القسم من خطبتها إلى بقايا أحزاب الجاهلية والمنافقين، الذين ضُيِّقَ الخناق عليهم في زمن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، فأخفوا رؤوسهم في جحورها، واختبأوا في أوكارهم.

وفجأةً خرجت حشرات الأرض هذه من جحورها بعد وفاة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله )، وظهرت الخفافيش التي توارت عن الأنظار؛ بسبب هيبة وجود النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وأصبحت تعبث في الميدان، وبدأت التحركات المشكوكة، وعادت خطوط الانحراف تظهر من جديد، ودخل المتلاعبون بالسياسة ساحة المعركة.

٢ - تلبية البعض لدعوة الشيطان

من هنا تبدأ حسرة بنت النبي ( صلّى الله عليه وآله ) العميقة؛ بسبب تلبية جمع غفير لدعوة الشيطان، سائرين خلف أصوات البوم المشؤومة، فأصبحوا آلةً بيد حزب الشيطان والمنافقين الذين عُميت قلوبهم، ورغم أنّ كفن الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لم يزل مبتلاًّ، ولم يزل صوت أذان مؤذّنه يدوّي في المسجد، وصرخة تكبيره ترن في القلوب، حتى ظهرت حركات الردّة، باستثناء البسطاء ومريضي القلوب؛ لأنّ مجموعةً قد اتخذت من التقية حجةً لسكوتهم؛ خوفاً من أنّ الكلام يوقع الفرقة والاختلاف بين الجمع، وصاروا متفرجين لهذا المشهد، أو موافقين لأحداثه، حتى لا يبرز اختلاف، في حين أنّ موقفهم هذا، هو السبب في ذلك الانشقاق والانحراف الكبيرينِ!.

١٢٨

٣ - الاعتصام بالقرآن

ثمّ يصرخ المنادي الإلهي المتمثّل بفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بهم منبّهةً:

أين أنتم؟ وإلى أين تولّون؟ أيّها الضالون، فإنّها تذكّرهم بحديث أبيها ( صلّى الله عليه وآله ):( إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فمَن جعله أَمامه قاده إلى الجنة، ومَن تركه ساقه إلى النار ) .

تصيح بهم بأن لا تتركوا القرآن، فأوامره ونواهيه واضحة، وإرشاداته في مسألة الخلافة بعد النبي ( صلّى الله عليه وآله ) بائنة، كما أشار إلى ما سيحصل بعد فاته، خلاصة القول، إنّه لم يُبقِ شيئاً إلاّ وأظهر خفاياه.

٤ - إنذار أصحاب النبي ( صلّى الله عليه وآله )

سيدة الإسلام ( عليها السلام ) صرخة الزمان المدوّية، تحذّرهم قائلةً: إن تركتم تراث النبي ( صلّى الله عليه وآله ) العظيم ( القرآن ) وتمسكتم بغيره، وقدّمتم أفكاركم العاجزة على تعاليم الإسلام، وجعلتم أنفسكم حُكّاماً على القرآن، بذريعة المصلحة وخوف الفتنة، لا محتكمين لأوامره، عندها سيصيبكم الضرر الأكبر والخسران المبين.

سوف لن تخمد نار الفتنة فيكم، وستُبلَون بما تخافونه، وستختفي روح الإسلام من بينكم، فلن يبقى سوى القشر دون اللب، والمظهر دون المحتوى.

١٢٩

المحور السادس

قصة غصب فدك وحجج الغاصبين وتفنيدها

النص:

( ثمّ لمْ تلبثوا إلاّ ريثَ ( إلى ريث ) أن تسكن نفرتُها، وَيَسلس قيادُها، ثمّ أخذتم تُورُونَ وَقْدَتَها، وتهيّجون جمرتَها، وتستجيبون لهتافِ الشيطان الغوي، وإطفاءِ أنوارِ الدينِ الجلي، وإخماد سُننِ النبي الصفي.

تُسرّون حَسواً في ارتغاءٍ، وتمشون لأهله وَوُلده في الخَمَر والضّراء، ونصبرُ منكم على مِثلِ حزِّ المُدى، ووخزِ السِّنان في الحشا.

وأنتم الآن أتزعمونَ أن لا إرث لنا؟

( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ؟(١)

أَفلا تعلمونَ؟ بلى تجلّى لكم كالشمس الضاحية أنّي ابنته.

أيّها المسلمون، أَأُغلبُ على إرثي؟ يا بنَ أبي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئتَ شيئاً فريّاً.

أفعلى عَمدٍ تركتم كتابَ الله، ونبذتموه وراءَ ظهورِكم؟ إذ يقول:

____________________

١. سورة المائدة، آية ٥.

١٣٠

( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (١).

وقال فيما اقتصّ من خبرِ يحيى بن زكريا إذ قال:

( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٢)

وقال:

( وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) (٣)

وقال:

( يُوصِيكُمُ اللهُ في أَوْلادِكُم لِلذّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ ) (٤)

وقال:

( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (٥)

وزعمتم أن لا حظوةَ لي ولا إرث من أبي؟ ولا رحِم بيننا؟ أَفخصّكم اللهُ بآيةٍ أخرج منها أبي؟ أَم هل تقولون إنّ أهلَ ملّتينِ لا يتوارثان؟ أَوَ لستُ أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلمُ بخصوصِ القرانِ وعمومهِ من أبي وابن عمي؟

فدونَكَها مخطومةً مرحولةً، تلقاك يوم حشرك، فنِعمَ الحَكم الله، والزعيم محمد ( صلّى الله عليه وآله )، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون،

( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (٦) .

____________________

١. سورة النّمل، آية ١٦.

٢. سورة مريم، آية ٥ - ٦.

٣. سورة الأنفال، آية ٧٥.

٤. سورة النساء، آية ١١.

٥. سورة البقرة، آية ١٨٠.

٦. سورة الأنعام، آية ٦٧.

١٣١

( مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) ) (١) .

التفسير:

١ - إحياء المذهب الجاهلي

بلغ حديث فاطمة ( عليها السلام ) أَوجه في هذا القسم، مُدلاًّ على ألم وهيجان شديدينِ، فحرقة قلبها متأتية من ظهور أحكام الجاهلية مرةً أخرى؛ حيث إنّ الأنثى لم تكن لتورّث في زمن الجاهلية، أمّا الإسلام فقد أبطل ذلك بعد مجيئه مقراً بحصة وسهم جميع الأقارب في إرث المسلم، استناداً إلى ذلك، فإنّ الموضوع لم يكن مقتصراً على مسألة ( فدك ) فحسب، بل إنّ المهم في الدرجة الأُولى، هو خطر إحياء سُنن الجاهلية، ومحو سُنن الإسلام؛ لذا قامت في هذا القسم بتوجيه اللوم الشديد لهم، مكثّفةً حملاتها عليهم.

الأعجب من كل ذلك، هو تعجيلهم في إنجاز هذا العمل بشكل أدرك معه الجميع أنّ مسألة ( غصب فدك ) لم تكن مسألةً عادية، فقد سعوا إلى هذا الغصب قبل أن يُحكموا قبضتهم على الخلافة، وبتعبير آخر فإنّهم فكّروا بذلك قبل أن تغيب شمس ذلك اليوم، وهذه نقطة مهمة في فهم عمق هذه المؤامرة الكبيرة.

٢ - أدلة الخصم

أشارت بضعة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في هذه الخطبة البارعة، والحاكمة العالمة،

____________________

١. سورة هود، آية ٣٩.

١٣٢

بصورة ضمنيّة إلى دلائلهم في ذلك الغصب، حيث ادّعوا أنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) قال: ( نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ).

بعدها قامت بالرد على تلك الحجج بأجوبة منطقية وقاطعة، مستدلةً بشواهد من عموم القرآن وخصوصه، فتثبت ومن خلال عدد من آيات الكتاب زيف هذا الحديث الموضوع، الذي يجب ضربه بعرض الحائط.

٣ - فاطمة ( عليها السلام ) تقطع جميع الأعذار

لقد استخدمت هذه العالمة الكبيرة حربة الاستدلال في هجومها على خصمها، بشكل لم تُبقِ له سبيلاً للفرار.

تقول ( عليها السلام ) إذا كان عذركم هو الحديث الموضوع ( نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ).

فإنّ الرد عليه هو ما نصّت به آيات القرآن التي ذكرتها لكم، وإذا كان عذركم منعنا إرثنا، فاعلموا أنّ جميع الأبناء يرثون آباءهم وأمهاتهم في الإسلام، باستثناء مَن لم يكن على دين ومذهب أبيه، بمعنى أنّ الأبناء الكَفَرة(١) لا يرثون من أب وأمٍّ مسلمينِ، فهل تعتقدون باختلاف ديني ومذهبي عن دين ومذهب والدي؟!!.

وإذا كانت رواسب الجاهلية وأحكامها التي تنص على عدم توريث البنات قد علُقت في أذهانكم، فإنّ هذه الخرافات قد تعطّلت، ولا سبيل للعودة إلى ليالي الظلمة بعد بزوغ الفجر.

____________________

١. الكافر، كلُّ مَن دانَ بغير الإسلام.

١٣٣

٤ - هل أنتم أعلم بالقرآن أم أهل بيت الوحي ( عليهم السلام )؟

تُغلق فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) هذا الطريق عليهم أيضاً، حيث يقولون نحن نفهم من القرآن كذا وكذا، فتخاطبهم بالقول: أي مكان من القرآن؟ وبأي تفسير؟ ومَن هو أجدر وأليق لهذا الأمر من ابن عمي علي ( عليه السلام )، الذي تربّى في أحضان الوحي، وهو من كُتّابه، كما أنّه سمع القرآن وتفسيره من شفتي الرسول ( صلّى الله عليه وآله )؟.

الحقيقة هي أنّ القرآن قد نزل في بيتنا و ( أهل البيت أدرى بما في البيت ).

خلاصة القول، تشير إلى قضية وراثة سليمان لأبيه داود، وإرث يحيى ( عليه السلام ) من أبيه زكريا ( عليه السلام )، الذين كانوا جميعاً من الأنبياء الكبار، وتقول ( عليها السلام ) - على خلاف هذه الرواية الموضوعة - يصرّح القران بأنّ كلاًّ من الأبناء قد ورث أباه، ونعلم جيداً أنّ كل رواية تخالف القرآن يسقط اعتبارها.

وتستدل أيضاً بعموم القرآن، حيث تنص الآية الشريفة ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلْذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ ) (١)، وكذلك( وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) ،(٢) فتستفهم قائلةً: هل يمكن لخبر الواحد المخالف لعموم القرآن وخصوصه، أن يكون ذا قيمة وأهمية ولو بمقدار سَمِّ الخِياط في محكمة العدل الإسلامي؟.

بعدها تعدّد جميع الطرق التي تمنع وتحجب الإرث، ومن ثَمَّ تقوم بتفنيدها.

____________________

١. سورة النساء، آية ١١.

٢. سورة الأنفال، آية ٧٥.

١٣٤

٥ - التريث والتربّص

لكي لا يتصور الحاضرون أنّ تمسّكها بفدك نابعٌ من كونه متصفاً بصفة مادية دنيوية، لا بصفة إلهية، فقد أضافت هذه السيدة المجاهدة قائلةً: ( الآن وبعد أن آل الحل إلى ما آل فخذوها طُرّةً، وافعلوا ما بدا لكم، لكن اعلموا أنّكم ستقفون في محكمة عظيمة تختلف عن سائر المحاكم الدنيوية، فالله ( سبحانه وتعالى ) هو الحاكم فيها، والرسول ( صلّى الله عليه وآله )هو المدعي عليكم في تلك المحكمة، وموعدها يوم القيامة ( يوم البروز ) يوم تتضح كل خافية ).

فإن أعددتم جواباً لذلك اليوم فتوكّلوا على الله، وإلاّ فاستعدوا للجزاء الإلهي.

حينها ستندمون حتماً على ما فعلتم، ولكن سوف لن ينفعكم هذا الندم أبداً؛ لأنّ ملف الأعمال قد أُغلق، ولا سبيل للرجوع إلى الماضي.

١٣٥

المحور السابع

طلب نصرة الأنصار

النص:

ثمّ رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت:

( يا معشرَ الفتيةِ ( النقيبة )، وأعضادَ الملّةِ، وحَضَنةَ الإسلامِ، ما هذه الغَميزة في حقي، والسِّنَة عن ظلامتي؟.

أَما كان رسولُ اللهِ ( صلّى الله عليه وآله ) أبي يقول: ( المرءُ يُحفظ في وُلده ).

سَرعان ما أحدثتم، وَعَجلان ذا إهالة، ولكم طاقةٌ بما أُحاول، وقوةٌ على ما أطلبُ وأزاولُ.

أتقولونَ ماتَ محمّد ( صلّى الله عليه وآله )؟ فخطبٌ جليلٌ استوسع وهنُه، واستنهر فتقُه، وانفتق رتقُه.

وأَظلمت الأرضُ لغيبتهِ، وكُسفت النجومُ لمصيبتهِ، وأَكدَت الآمال، وخشعت الجبالُ، وأضيع الحريم، وأُزيلت الحُرمة عند مماتهِ.

فتلك واللهِ النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلةٌ، ولا بائقةٌ عاجلةٌ، أعلن بها كتاب الله - جلَّ ثناؤه - في أفنيتكم، وفي مُمساكم ومُصبَحِكم، هتافاً وصراخاً وتلاوةً وألحاناً، ولقبله ما حلّ بأنبياء الله

١٣٦

ورسله حكمٌ فصلٌ، وقضاءٌ حتمٌ.

( وَمَا مُحمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (١) .

إيهاً بني قيلة! أَأُهضمُ تراث أبي، وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدىً ومجمع؟ تلبسكم الدعوة وتشملكم الخَبرة، وأنتم ذو العددِ والعدةِ، والأداةِ والقوةِ، وعندكم السلاح والجُنة، توافيكم الدعوةُ فلا تجيبونَ، وتأتيكم الصرخةُ فلا تغيثون ( تعينون )، وأنتم موصوفون بالكفاحِ، معروفون بالخيرِ والصلاحِ، والنُخبة التي انتُخبت، والخِيَرة التي اختيرت.

قاتلتم العربَ، وتحملتم الكدَ والتعبَ، وناطحتم الأُممَ، وكافحتم البُهَم، لا نبرح أو تبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، ودرَّ حَلبُ الأيامِ، وخضعت نُعرةُ الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيرانُ الكفرِ، وهدأت دعوةُ الهرجِ، واستوثق ( واستوسق ) نظامُ الدينِ، فأنّى جُرتم بعد البيان؟ وأسررتم بعد الإعلان؟ ونكصتم بعد الإقدام؟ وأشركتم بعد الإيمان؟

( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٢) .

أَلا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخَفضِ، وأبعدتم مَن هو أحق بالبسط والقبض،

____________________

١. سورة آل عمران، آية ١٤٤.

٢. سورة التوبة، آية ١٣.

١٣٧

قد خلوتم بالدَّعة، ونجوتم من الضيقِ بالسعة، فمَجَجتم ما وعيتم، ودَسعتم الذي تسوَّغتم.

فـ( إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (١) .

أَلا وقد قلتُ ما قلتُ على معرفة مني بالخَذلَة التي خامَرتكم، والغَدْرَة التي استشعرتها قلوبُكم، ولكنّها فَيضَة النفس، ونَفثَة الغيض ( الغيظ )، وخَوَر القناة، وبَثّة الصدر، وتَقدِمَة الحجّة.

فدونكُمُوها فاحتَقبوها دَبِرة الظهر، نقيبةَ ( نَقِبة ) الخُفّ، باقيةَ العار، موسومةً بغضب الله وشَنار الأبدِ، موصولةً بنار الله الموقدة، التي تطّلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون.

( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ ) (٢)

وأنا ابنةُ نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا ( إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) ) (٣)

التفسير:

١ - دور الأنصار الفاعل في تحقيق أهداف الإسلام

تُشيد سيدة الإسلام ( عليها السلام ) في هذا القسم من حديثها بطائفة الأنصار، مُوصفةً إيّاهم بالمجموعة المختارة، وساعد الإسلام القوي، وحامي الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المخلص، كما أظهرت لهم الشكر والثناء؛ بسبب ما بذلوه في خدمة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) منذ دخوله المدينة، وما تحمَّلوه من عناء ومصاعب

____________________

١. سورة إبراهيم، آية ٨.

٢. سورة الشعراء، آية ٢٢٧.

٣. سورة هُود، آية ١٢١-١٢٢.

١٣٨

قبل ذلك في سبيل الإسلام.

نعم، كان للأنصار دورٌ مؤثّرٌ في تقدّم الإسلام في الحرب والسلم وفي جميع مراحله، وبالرغم من ذلك فقد كانوا أقلّ توقعاً وطمعاً من المهاجرين، وربَما طوى تاريخ الإسلام مسيراً أفضل فيما لو صُيِّرت لهم الأمور، ممّا لا شك ولا ريب أنّ في المهاجرين أشخاصاً مخلصين، لم يتوانوا أبداً في إيثارهم وتضحياتهم، لكن تغلغل المتلاعبين بالسياسة في أوساطهم قد قلب الوضع كلياً.

٢ - هجوم فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) على الأنصار

لكن سخط سيدة الإسلام ( عليها السلام ) عليهم، هو لماذا التزمت هذه السواعد القوية وأصحاب الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) القدماء الصمت في مقابل الظلم؟ الذي حلّ بآل بيته، فقد أقروا بسكوتهم صحة تلك المظالم، ولم يراعوا ذمة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في أهل بيته، والأهم من ذلك مؤازرتهم للغاصبين، وموقفهم الشائن المساعد من تغيير محور الخلافة بعد اشتباك قصير راموا فيه تحقيق مصالحهم، حيث قبضوا ثمناً لذلك السكوت، وذلك ذنبٌ لا يغتفر!

٣ - موت النبي ( صلّى الله عليه وآله ) لا يعني موت الإسلام

بيّن القرآن المجيد من ناحية، والرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) من ناحية أخرى، حقيقةً مهمةً، أَلا وهي أنّ الإسلام لا يعتمد على شخص معيّن، فهو دين أزلي مستمرٌّ إلى يوم القيامة، ولا ينتهي بوفاة النبي الكريم ( صلّى الله عليه وآله )؛ لأنّه كان ثورةً قائمةً على أساس ديني، دينٌ إلهي سماوي، الدين الذي يُؤمّن

١٣٩

احتياجات الناس على مر العصور، فلابدّ لهذا الدين أن يبقى ويدوم.

ولكن رغم كل ذلك، فإنّ قسماً من الناس ممّن ينقصه بُعد النظر وتهمّه المظاهر، يتصور أنّ الضربة المُوجعة والمصيبة المؤلمة، التي ألمَّت بالعالم الإسلامي بعد وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله )، والفراغ الذي نتج عن فقد المحيط الإسلامي لهذا القائد العظيم، قد أودى بحياة الإسلام، وانطوت أيامه وأحداثه، ممّا حدا بهم ذلك إلى غلق شفاههم في مقابل تلك النعرات الجاهلية.

تصرخ فاطمة ( عليها السلام ) مذكّرةً إيّاهم بآيات القرآن، التي تتحدث عن أزلية وبقاء الإسلام، تُنبّه الغافلين وتوقظهم من غفلتهم، وتُعرّف المسلمين مسؤولياتهم الثقيلة في تلك المرحلة الحسّاسة.

٤ - الصمت في مقابل تعطيل الأحكام الإسلامية

توبّخُ في مقطع آخر من حديثها ( عليها السلام ) الأنصار بشدّة، بأنّ سكوتكم على أحداث ( فدك )، الأحداث التي تُعد حلقةً من سلسلة انحرافات متواصلة، وشرارةً من شعلة متوهّجة، وقطرةً من تيار جارف، سيؤدي ذلك في النهاية إلى إحياء الطيف المنافي للإسلام.

يُظهر الناس حيرتهم متسائلين: إذا كان صحيحاً ما يقال من أنّ قانون الإسلام هو الحق، فلِمَ لا يسري حكمه على أقرب أقرباء النبي ( صلّى الله عليه وآله )؟ فعندما يسحقوا مثل هذا الحكم الصريح، وأنتم تقرّون ذلك بسكوتكم، صار من السهل عليهم أن يسحقوا سائر الأحكام الإسلامية.

يجب أن تنظروا لهذه المسألة على أنّها ( عمليةٌ مدبّرة )، لا بعنوان أنّه

١٤٠

( واقعة عرضية )، وتصوروا ما هي الأحداث الأخرى التي خُبّأت خلف هذه الحادثة؟ وما ثورتي وصرختي إلاّ لهذا السبب.

لا تتصوّروا أنّ ( حمايتكم للمظلومين من أمثالي ) توجد الفرقة بين صفوف الأمّة الإسلامية، بل على العكس، فإنّ سكوتكم يثير الغرابة والدهشة، فلو ادّعيتم الضعف والعجز فقد كذبتم، ففيكم العدد والعدة منذ البداية، وهي الآن أكثر، إضافةً إلى ذلك فلماذا تلقون بآيات القرآن الصريحة التي تنص على( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) (1) خلف ظهوركم؟ وتخافونهم بدل أن تخافوا الله؟

5 - الخلود إلى الدَّعة

بعدها تغوص هذه المعلّمة القديرة في أعماقهم؛ لتستخرج سبب سكوتهم الأصلي، فتشير إلى أنّ المسألة هي أن استولى عليكم حب الدَّعة وطلب الراحة، واستسلمت أجسادكم للاستراحة، فرغم أنّكم شاهدتم بأعينكم تنحية وتبعيد مَن هو أحق وأليق بالخلافة من غيره عنها، إلاّ أنّكم التزمتم جانب الصمت.

نعم، تستمر عجلة الثورة إلى الوقت الذي يحتفظ الأشخاص بالروح الثورية، ولم يخضعوا لميولهم الدنيوية، وإلاّ ركعوا أمام المصاعب والمشاكل، غير مبالين بما يمرّ بهم من حوادث مُرّة، وبالتالي يخبت نور الثورة.

____________________

1. سورة التوبة، آية 13.

١٤١

6 - النكوص عن النصرة

تمتلك هذه السيدة الشجاعة بصيرةً نافذةً في أدق الأمور، فهي تُميط اللثام عن حقائق هامة، فتخاطب طائفة الأنصار في هذا المقطع مشيرةً إلى هذا المعنى: غايتي هي إتمام الحجة عليكم لا غير، فليس لي فيكم أمل يُرتجى، فبعد أن التزمتم الصمت في مسألة ( الخلافة )، كان من الطبيعي أن ترفعوا نفس الشعار في مسألة ( فدك )، لكن التاريخ الإسلامي سيسجّل حديثي لهذا اليوم، وستحكم الأجيال القادمة فيما بيننا، هذا بالإضافة إلى أنّني أردت أن أزيل عن قلبي عُقد الهم، وأزيح غيض صدري؛ حتى يعلم الجميع ما عانيت من الألم.

7 - البِشارة بالعذاب

تشير بطلة الإسلام في هذا المقطع إلى نتيجة أفعالهم، فتقول منبّهةً إيّاهم: أتظنون أنّ ثمن هذا لسكوت، وطلب الراحة ذاك، وهذا الموقف المتفرّج، وهذه اللامبالاة، سيكون رخيصاً بل ستقطفون ثمارها المُرّة في هذه الدنيا على أيدي حكومات جائرة - مثل بني أمية و بني العباس - والتي سوف لن ترحم أعقابكم، ولن تتورع عن هتك القرآن والإسلام.

8 - امتداد إنذار النبي ( صلّى الله عليه وآله )

تقول سيدة النساء فاطمة ( عليها السلام ) نفس ما كان يقوله الأنبياء للمجرمين، حيث تنذرهم:

١٤٢

( إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) (1) .

أنتم تنتظرون أن يقع بآل بيت النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ظلماً أكبر، ونحن ننتظر فيكم عقاب الله المؤلم والمُهلك.

____________________

1. سورة هود، آية 121-122.

١٤٣

١٤٤

الخطبة الثانية لسيدة الإسلام فاطمة الزهراء ( عليها السلام )

١٤٥

١٤٦

الخطبة المؤلمة في نساء المدينة

ألقت سيدة النساء ( عليها السلام ) هذه الخطبة وهي على فراش المرض، ذلك المرض الذي لم تُشفَ منه أبداً، ومنه عرجت روحها الطاهرة.

كانت خطبتها الأُولى في مسجد الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، وهي في حالة صحيّة جيدة(1) ، وبحضور جمع من رجال المهاجرين والأنصار، وكانت هذه الخطبة في مقابل نساء المهاجرين والأنصار في داخل بيتها، وعلى فراش المرض.

رغم أنّ المخاطَب قد اختلف، والزمان والمكان قد تغيّرا، والحال قد تردّى، إلاّ أنّ لحن الخطبتين ينمّ وبوضوح عن روحية عالية مملوءة بالعلم والمعرفة، مفعمةٍ بالإيمان وحب الله، يفيض من جنبَيها ألمٌ وحزن، وقد تميّزت كلا الخطبتين بلحن بليغ وساحق وأخّاذ وقاطع وشجاع، لكن لحن الخطبة الثانية التي هي موضوع بحثنا حالياً، كانت أشد تنكيلاً بالظالمين، وأكثر حرقةً وألماً وغماً.

لقد كانت هذه الخطبة التي صدرت من قلب بنت الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المتألم بمثابة رسالة الهموم والأحزان.

____________________

1. كما ورد شرحه في الخطبة الأُولى، فإنّ ستاراً قد أُسدل ليحجب النساء، ثمّ إنّها كانت تتوسّط جمع النساء اللاتي رافقنها.

١٤٧

الهم الذي نغّص روحها، ونخر عظامها، وأشعل نيران الحرقة في كيانها، ولذلك نرى أنّ خطبتها اتخذت طابعاً ملتهباً دموياً؛ لأنّها نبعت من قلب محترق، فاض بدم الأسى والحسرة.

من عجائب هذه الخطبة، هي أنّ هذه السيدة الجليلة ( عليها السلام ) قد لاقت الكثير من الظلم العنيف، في الفترة الواقعة ما بين وفاة أبيها ( صلّى الله عليه وآله )، واستشهادها ( عليها السلام )، ذلك الظلم الذي كان سبب مرضها العصيب، ورغم أنّ سؤال نساء المدينة عند عيادتها كان يدور حول حالتها الصحية، وعادةً يشكو المريض بعضاً من آلامه إن لم يكن حديثه كله مختصاً بحالته الصحية، رغم ذلك فإنّها لم تورد في حديثها أي كلمة عن حالها ومرضها، بل كان حديثها مُنصبّاً على مسألة غصب الخلافة وظلامة علي ( عليه السلام )، والأخطار التي ستمر بالأمّة الإسلامية نتيجة هذا الانحراف.

عجباً لها، فلم تذكر في حديثها شيئاً عن مرضها، فكل ما قالته كان عن ألم زوجها علي ( عليه السلام )، وعن مشاكل العالم الإسلامي.

نعم... لقد كانت روح الزهراء ( عليها السلام ) أرفع من أن تتكلم عن نفسها وآلامها - رغم أنّها كانت كبيرةً - بل وأجلّ من أن يوصف علو شأنها، فتكلمت فقط عن إمامها وزوجها المحبوب علي ( عليه السلام ) وآلامه.

لم تكن قَلِقةً على نفسها، بل كانت قلقةً على الأمّة الإسلامية ومصيرها المشؤوم والمؤلم.

يفكّر المرء عادةً في آخر لحظات حياته بنفسه ومشاكله وآلامه، لكنّ المدهش أنّ فاطمة ( عليها السلام ) لم تورد على لسانها في هذه الخطبة الطويلة شيئاً من ذلك، ولا حتى بجملة واحدة.

وهذا أكبر دليل على عظمة فاطمة ( عليها السلام )، ومقام تضحيتها وإيثارها.

١٤٨

وفي هذا عِبرة لكل الأحرار الهادفين، ولكل المضحّين والفدائيين في تاريخ البشرية.

بلى فقد كانت دائماً - وإلى آخر لحظة من حياتها الشريفة المملوءة بالآلام والهموم - شمعةً تحترق؛ لتنير لمَن حولها، وتنجّي الضالين منهم، وتدافع عن الحق والعدالة.

تحدّثت في خطبة فدك ( الخطبة الأُولى لسيدة النساء ) عن كلٍّ من التوحيد، النشوء، المعاد، فلسفة الأحكام، والأحداث التي رافقت بعثة النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وبركات وجوده، ومسألة غصب الخلافة، ومصير المسلمين، وإن هي تحدثت عن ( فدك ) فذلك؛ لدورها المؤثّر في كونها دعامةً ماليةً لمسألة الخلافة، وكذا سائر مسائل الإسلام السياسية؛ وهذا ما دعا الأعداء إلى تضييق الخناق على آل بيت النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وتحطيم قدراتهم بانتزاع ( فدك ) من أيديهم، فأرادت استرجاعها منهم.

لكنَّ سيدة النساء ( عليها السلام ) ركّزت في خطبتها الثانية ( خطبة نساء المهاجرين والأنصار ) حديثها على محور الخلافة والإمامة فقط، وبالرغم من معاناتها للكثير من الظلم والجور، ورغم أنّ الفرصة كانت سانحةً للمطالبة بحقها المغصوب، إلاّ أنّها لم تطالب بأي شيء، بل ولم تنطق بأية شكوى، فكل ما قالته كان عن عليٍّ ( عليه السلام )، وعن الخلافة وعن مصالح المسلمين.

يُعدُّ ( التسليم المطلق ) من المقامات العالية، التي يتحلّى بها أولياء الله، وهذا يعني أن يُسلك إلى الله طريق الحق والعدل، الذي ينسى المرء فيه نفسه، فلا يرى غير الله.

لا يأتمر إلاّ بأمره.

١٤٩

لا يرجو إلاّ رضاه.

لا يفكر إلاّ بما يريده.

فالمرحلة الأُولى هي الإسلام، ثمّ الإيمان، وبعد ذلك الرضا، ومن ثَمَّ يأتي دور التسليم المطلق، ولهذا المعنى يشير الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الحكيم:

( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (1) .

ويقول أيضاً:

( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (2) .

ثمّ يقول:

( إنَّما نُطْعِمُكُم لِوَجْهِ اللّه لا نُرِيدُ مِنْكُم جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) (3) .

إنّ مقام الإيمان والرضا والتسليم - الذي تتحلّى به هذه السيدة - جعلها تتناسى وتتجاهل آلامها وهمومها المرهقة، وتتحدث عن رضا الله، وعن رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) وعن وليّه، وعن مستقبل الإسلام والمسلمين.

ويسرّنا بعد هذه المقدمة القصيرة عن الخطبة وفحواها، أن نتّجه صوب نصها، فنجعلها في خمسة أقسام، لكنّه ينبغي أن نتعرّف أَوّلاً على وثائق وأسناد هذه الخطبة.

____________________

1. سورة الحجرات، آية 14.

2. سورة النساء، آية 65.

3. سورة الدهر، آية 9.

١٥٠

مناقشة أسناد خطبة سيدة النساء ( عليها السلام )

وردت هذه الخطبة في مختلف مصادر العامة والخاصة، سنذكر منها المصادر السبع التالية:

1- كتاب ( الاحتجاج ) للمرحوم ( الشيخ الطبرسي )(1) .

2- كتاب ( كشف الغمة ) المشهور للكتاب ( علي بن عيسى الأربلي ) نقلاً عن كتاب ( الصحيفة )(2) .

3- ( بحار الأنوار ) للمرحوم ( العلاّمة المجلسي ) ينقل هذه الخطبة وبأسناد متعددة(3) .

4- كتاب ( معاني الأخبار ) للمرحوم ( الشيخ الصّدوق ) يورد هذه الخطبة مع ذكر سندها في آخرها، نقلاً عن عبد الله بن حسن عن أُمّه فاطمة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام )(4) .

5- وذُكرت في نفس المصدر بسندها عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام )(5) .

6- كتاب ( الأمالي ) للمرحوم ( الشيخ الطّوسي ).

7- كتاب ( شرح نهج البلاغة ) للعالم السُنّي المعروف ( ابن أبي الحديد )(6) .

____________________

1. الاحتجاج.

2. كشف الغمة، ج2، ص118.

3. بحار الأنوار، ج43، ص158.

4. عن أحمد بن الحسن القطّان، عن عبد الرحمن محمد الحسيني، عن أبي الطيّب محمد بن الحسين بن حميد، عن أبي عبد الله محمّد بن زكريا، عن محمّد بن الرحمن المهلّبي، عن عبد الله بن محمّد بن سليمان، عن أبيه عن عبد الله بن الحسن.

5. علي بن محمّد المعروف بابن المغيرة القزويني، عن جعفر بن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن علي الهاشمي، عن عيسى بن عبد الله بن محمّد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن جدّه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).

6. أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن محمّد بن زكريا عن محمّد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن محمّد بن سليمان، عن أبيه عن عبد الله بن الحسن، عن أُمّه فاطمة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام ).

١٥١

على أي حال وكما ذكرنا سابقاً، فقد وردت هذه الخطبة بأسناد متعددة مع ملاحظة اختلاف في نصوصها، وقد اخترنا أقربها للصحة وأكملها، وهو المنقول في ( الاحتجاج ) عن ( سويد بن غفلة )، ( نقل ذلك أيضاً العلاّمة الكبير المجلسي في المجلّد 43 من بحار الأنوار ص 161 )(1) .

وعليه، فإنّ الخطبة المذكورة هي من الخطب التي وردت من مصادر متعددة وبأسناد معتبرة؛ لذا فهي تتمتع بأهمية خاصة.

ولكي نتعرّف على الحقائق التي تضمنتها هذه الخطبة، نتجه صوب متن الخطبة وتفسيرها.

____________________

1. ( سويد بن غفلة ) أو ( عفلة ) على حد قول ( العلاّمة الحلّي ) في ( الخلاصة )، وهو من أولياء أمير المؤمنين علي ( عليه السلام )، واعتبره ( العلاّمة الميرداماد ) ( نقلاً عن المرحوم للمامقاني ) من أولياء وخواص أمير المؤمنين ( عليه السلام )، كما قال ( الذّبي ) في ( المختصر ) عنه بأنّه رجل ثقة، عابد، زاهد، وصاحب مقام رفيع.

١٥٢

القسم الأَوّل

لمّا اعتلت فاطمة ( عليها السلام ) علة الموت، اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار، يعدنها، فقلنَ لها:

كيف أصبحتِ من علَّتك يا بنة رسول الله؟!

فحمدتْ الله وصَلّت على أبيها ( عليها السلام ) ثمّ قالت:

( أَصحبتُ واللهِ عائفةً لدنياكنَّ، قاليةً لرجالكنَّ، لَفظتُهم بعد أن عجمتهم، وشَنأتهم بعد أن سَبَرتهم.

فقِبحاً لفلول الحدِّ، واللعب بعد الجدّ، وقرع الصفاة، وصدع القناة، وخَطَل الآراء، وزَلَل الأهواء، و ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) (1)

لا جرم لقد قلَّدتهم رِبقتها، وحملتهم أوقتها، وشننت عليهم عارها.

فجدعاً وعقراً وبُعداً للقوم الظالمين ) .

نظرة عامة:

يعترض الإنسان في طول حياته أياماً وساعات حسّاسةً تكون بمثابة امتحان له، وبالطبع فإنّ الامتحان الإلهي يُربّي في المرء روحه، ويزيد

____________________

1. سورة المائدة، آية80.

١٥٣

فيه المقاومة والشهامة، كما يتم من خلاله كشف قابلياته وتفتّح استعدادته، وأيضاً معرفة المرء حقيقة باطنه.

علماً أنّ المرء قد يشتبه أحياناً في معرفة نفسه، لا كما هو الحال في الامتحان البشري الذي يُقام؛ لكشف عدد من المجاهيل، والتعرّف على بواطن الأفراد من خلال التجربة والتحليل.

وهذه المسألة قد وضحت في هذا القسم من خطبة سيدة الإسلام ( عليها السلام ).

تُظهر الزهراء ( عليها السلام ) نفرتها وانزعاجها الشديدين ممّن ينتهز الفرصة؛ ليسترزق منها مؤنة يومه، أي من المهاجرين والأنصار؛ لأنّهم سكتوا - ليس سكوتهم فحسب - بل على موافقتهم للانحرافات التي حدثت بعد وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله )، فأنذرتهم بأن يحذروا هذا الامتحان الإلهي العظيم.

تذكّرهم بجهادهم الرائع في عصر الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، ومن ثمَّ تشبّههم بالسيوف المثلومة، التي فقدت قدرتها في صدِّ الأعداء ودحرهم، وبالرماح التي تهشّمت فأصبحت غير مفيدة لأي شيء.

توبّخ ابنة النبي الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) بشدة أولئك الذين سخروا من مبادئ الإسلام، وجعلوها عرضةً لأهوائهم، ومن ثمَّ وجهت لومها وتحقيرها إلى مَن وَهنَ عزمهم، وفقدوا قدراتهم في اتخاذ قرار ضد الانحرافات التي حدثت.

في نهاية هذا القسم تقوم بإنذارهم، بأنّ مسؤولية غصب الخلافة ستُثقل كاهلهم إلى الأبد، وستبقى جباههم موسومة بوصمة العار التي جاءت نتيجةً لسكوتهم، كما أنّ التاريخ الإسلامي سيسجّل هذه الحادثة المؤلمة بمنتهى الأسف.

نعم، فالكثير منهم لم يخرجوا من الامتحان منتصرين، ولم تكن

١٥٤

وجوههم مستبشرة، وكم كان حسناً لو تبيّنت ( حقائق الأمور ) للعيان، حتى تسودَّ وجوه ( الغشاشين )، وكم كان لطيفاً لو أُقيمت مناقل النار؛ ليفضح ( مدلوك الذهب، وسوار الفضة ) باطنه، ويتبيّن للناس حقيقته؛ ليُميزوه عن الذهب الخالص.

١٥٥

القسم الثاني

( وَيحهُم، أنّى زعزعوها عن رواسي الرسالةِ، وقواعد النبوةِ والدلالةِ، ومهبط الروح الأمين، والطبِّين بأمور الدنيا والدين.

( أَلاَّ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (1)

وما الذي نَقموا من أبي الحسن ( عليه السلام )؟

نَقموا منه واللهِ، نكيرَ سيفهِ، وقلةَ مبالاته بحتفهِ، وشدةَ وطأتهِ، ونَكال وقعتهِ، وتنمُّرَه في ذات الله.

وتاللهِ، لو مالوا عن المحجّة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة، لَردَّهم إليها، وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سَجَحاً، لا يُكْلم خشاشه، ولا يكلّ سائره، ولا يملّ راكبه.

ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً، تطفح ضفَّتاه، ولا يَترنّق جانباه، ولأصدرهم بِطاناً، ونصح لهم سراً وإعلاناً.

ولم يكن يتحلّى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غيرَ ري الناهل وشِبعة الكافل، وَلَبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب ).

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنَ السَّماءِ

____________________

1. سورة الزمر، آية 15.

١٥٦

وَالأرضِ وَلكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (1) .

( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ) (2) .

التفسير:

المعايير والقيم الإلهية

تحكم المجتمع الإلهي السليم معايير، وقيم إلهيّة في جميع مجالات الحياة، سيما في إشغال المناصب، فلا سبيل للأجنحة ومنتهزي الفرص، والدسائس السياسية، والعصبية القبلية والقومية، وكذا ما يعقده تجّار السوق السياسي من اتفاقات خلف الكواليس في ارتقاء المناصب والتصدّي لمسؤوليتها.

تخاطب سيدة النساء ( عليها السلام ) في هذا القسم نساء المدينة مستفهمةً: لماذا؟ وبأيّ مسوّغ غيّر رجالكنَّ محور الخلافة عن المسير الذي طالما بيّنه الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) في أحاديثه الصريحة الواضحة؟ وما هو نقص أبي الحسن علي بن أبي طالب ( عليه السلام )؟ وهل يفتقد شيئاً من الكمالات اللازمة، روحيةً كانت أم جسديةً؟

بلى، إنّ عيبه هو سيفه الغالب الذي خطف النوم من عيون أعدائه، قدرته اللامتناهية في ميادين القتال، استخفافه بالموت في سوح الوغى، جعلت منه حصناً منيعاً عجز أعداء الإسلام في اختراقه.

فالعذر التافه الذي أُوخذ عليه هو أنّ توجهه لله فقط، فرضاه من رضا الله، كما أنّ غضبه وسخطه لوجه الله فقط.

____________________

1. سورة الأعراف، آية96.

2. سورة الزمر، آية51.

١٥٧

الحقيقة أنّ كلام سيدة النساء ( عليها السلام ) كان بمثابة تذكيرٌ لهم، بأنّ قيم ومفاهيم المحيط الإسلامي قد تغيّرت وتبدلت بعد وفاة النبي الكريم ( صلّى الله عليه وآله )، وبسبب انحراف المزاج السليم لأرواح هذه المجموعة من المهاجرين والأنصار، صار طعم القيم الإسلامية الحقيقية في أعماقهم مرّاً كالحنظل بعد أن كان لذيذاً كالعسل، كما اعتُبرت الشروط التي تشكّل أهم مواصفات القائد الربّاني القاطع الصارم عيباً ونقصاً له.

بعدها تستمر في حديثها منبّهةً إيّاهم، أنّ تنحية عليٍّ ( عليه السلام ) عن الخلافة إنّما هو كفران لنعمة كبيرة، وموهبة إلهية عظيمة، علماً أنّه أعلمُ الناس بآيات القرآن وبحلال الله وحرامه.

فهو أعرف من غيره بالحق والباطل والقادر على الفصل بينهما، ولو آلت إليه زمام الأمور لم يكن ليسمح لورثة الشرك - آل أبي سفيان، وهم أعدى أعداء الإسلام، وأشد المخالفين للقرآن الكريم - أن يطمعوا في الحكومة الإسلامية بهذه السرعة، ويحوّلوها إلى جهاز حكوميٍّ مستبد، وهو أسوأ وأظلم من حكومة كسرى وقيصر والفراعنة.

فإذا كانت أمورهم مودعةً في يد عليٍّ ( عليه السلام ) المقتدرة، لأجلسهم مركب الحق المنيع، ولهداهم بأمان وهدوء ومداراة إلى نبع ماء الحياة، ومن ثمَّ لرواهم من ذلك النبع المتدفّق ماءً عذباً زلالاً، يمنح شاربيه حياةً أزليّة.

إنّ من شروط القائد الربّاني هو حب الخير والعطف على الأمّة، فهل وجدوا أحداً أكثر عطفاً وشفقةً من عليٍّ ( عليه السلام )؟ الشخص الذي كرّس جهده في إشباع الجياع وإرواء العطاشى، يتألم لآلامهم وهمومهم، كما أنّ غمهم يعصر قلبه.

الشرط الآخر في مسألة الخلافة والإمامة، هو الزهد وعدم الاغترار بالدنيا وجاهها ومالها، فإن تعلّق قلب قائد الأمّة بالدنيا صار من السهل

١٥٨

النفوذ إليه من هذا الطريق، ومن ثمَّ تضليله وحرفه عن جادّة الحق.

فهل يوجد في كل الأمّة الإسلامية أزهد بالدنيا من علي ( عليه السلام )؟ الشخص الذي لم يكتنز ذهباً أبداً، ولم يُشيّد لنفسه قصراً، ثيابه بسيطة كثياب غلامه.

وغذاؤه بمستوى غذاء أفقر الناس.

إذا كانت معايير الخلافة هي القدرة الروحية والبدنية، الإخلاص في النية، والزهد والعصمة والتقوى، والعطف على الأمّة، فمَن هو أفضل من أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) الذي يتحلّى بهذه المواصفات؟

وإذا كان النبي ( صلّى الله عليه وآله ) قد نصّب علياً ( عليه السلام ) خليفةً له، مشيراً إلى هذا المعنى مرّات ومرّات عبر عبارات مختلفة الصّيغ، معتبراً إيّاه أليق من الجميع لهذا المقام فهذا لا يقتصر عليه نابل، الله سبحانه وتعالى اعتبره أليق الناس بهذا المنصب.

تقوم سيدة النساء ( عليها السلام ) في نهاية هذا القسم بإنذارهم وتحذيرهم، بأن لا يظّنوا أنّ ثمن هذا الكسل والتقصير، وتقاعسهم في حماية الشخص الأنسب للخلافة سيكون رخيصاً، بل عليهم أن ينتظروا ما سيُخلّفه ذلك التقصير، وذلك التقاعس، ويتذوّقوا نتيجته المرّة، عليهم أن لا يتصوّروا أنّهم يستطيعون النجاة والفرار من قبضة العذاب الإلهي في هذه الدنيا، كلا، أبداً.

بلى، سيحصدون في نهاية الأمر ما زرعوا، وسيُبتلَون بحكومات عنيدة وجبّارة، وفاسدة ومفسدة وظالمة، تفتقد الرحمة، كحكومات بني أميّة وبني العباس، في ذلك اليوم الذي سوف لن يجدوا فيه سبيلاً للفرار، وهم يشعرون بمواجهتهم لعذاب الآخرة.

١٥٩

القسم الثالث

( أَلا هلمَّ فاستمع، وما عشتَ أراك الدهرُ عجباً، وإن تعجب فعجبٌ قولُهم:

ليتَ شعري؟ إلى أي سنادٍ استندوا؟ وعلى أي عمادٍ اعتمدوا؟ وبأيّة عروةٍ تمسّكوا؟ وعلى أية ذريّة أقدموا واحتنكوا؟!

( لَبِئْسَ المَوْلى ولَبِئْسَ العشير ) (1) .

( وبِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) (2) .

استبدلوا والله الذُّنابى بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) (3)

وَيحهم، ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (4)

التفسير:

ترجيح ( المرجوح ) على ( الراجح )

لا يستطيع أيُّ امرئ أن يقبل ترجيح ( المرجوح ) على ( الراجح ) إلاّ مَن يُنكر ( الاستقلال العقلي ). أو بتعبير أوضح فأنّ أي إنسان لا يتردد

____________________

1. سورة الحج، آية 13.

2. سورة الكهف، آية 50.

3. سورة البقرة، آية 12.

4. سورة يونس، آية 35.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173