أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)22%

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام) مؤلف:
المحقق: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 173

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67119 / تحميل: 8425
الحجم الحجم الحجم
أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

أعلام الهداية فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

( واقعة عرضية )، وتصوروا ما هي الأحداث الأخرى التي خُبّأت خلف هذه الحادثة؟ وما ثورتي وصرختي إلاّ لهذا السبب.

لا تتصوّروا أنّ ( حمايتكم للمظلومين من أمثالي ) توجد الفرقة بين صفوف الأمّة الإسلامية، بل على العكس، فإنّ سكوتكم يثير الغرابة والدهشة، فلو ادّعيتم الضعف والعجز فقد كذبتم، ففيكم العدد والعدة منذ البداية، وهي الآن أكثر، إضافةً إلى ذلك فلماذا تلقون بآيات القرآن الصريحة التي تنص على( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) (١) خلف ظهوركم؟ وتخافونهم بدل أن تخافوا الله؟

٥ - الخلود إلى الدَّعة

بعدها تغوص هذه المعلّمة القديرة في أعماقهم؛ لتستخرج سبب سكوتهم الأصلي، فتشير إلى أنّ المسألة هي أن استولى عليكم حب الدَّعة وطلب الراحة، واستسلمت أجسادكم للاستراحة، فرغم أنّكم شاهدتم بأعينكم تنحية وتبعيد مَن هو أحق وأليق بالخلافة من غيره عنها، إلاّ أنّكم التزمتم جانب الصمت.

نعم، تستمر عجلة الثورة إلى الوقت الذي يحتفظ الأشخاص بالروح الثورية، ولم يخضعوا لميولهم الدنيوية، وإلاّ ركعوا أمام المصاعب والمشاكل، غير مبالين بما يمرّ بهم من حوادث مُرّة، وبالتالي يخبت نور الثورة.

____________________

١. سورة التوبة، آية ١٣.

١٤١

٦ - النكوص عن النصرة

تمتلك هذه السيدة الشجاعة بصيرةً نافذةً في أدق الأمور، فهي تُميط اللثام عن حقائق هامة، فتخاطب طائفة الأنصار في هذا المقطع مشيرةً إلى هذا المعنى: غايتي هي إتمام الحجة عليكم لا غير، فليس لي فيكم أمل يُرتجى، فبعد أن التزمتم الصمت في مسألة ( الخلافة )، كان من الطبيعي أن ترفعوا نفس الشعار في مسألة ( فدك )، لكن التاريخ الإسلامي سيسجّل حديثي لهذا اليوم، وستحكم الأجيال القادمة فيما بيننا، هذا بالإضافة إلى أنّني أردت أن أزيل عن قلبي عُقد الهم، وأزيح غيض صدري؛ حتى يعلم الجميع ما عانيت من الألم.

٧ - البِشارة بالعذاب

تشير بطلة الإسلام في هذا المقطع إلى نتيجة أفعالهم، فتقول منبّهةً إيّاهم: أتظنون أنّ ثمن هذا لسكوت، وطلب الراحة ذاك، وهذا الموقف المتفرّج، وهذه اللامبالاة، سيكون رخيصاً بل ستقطفون ثمارها المُرّة في هذه الدنيا على أيدي حكومات جائرة - مثل بني أمية و بني العباس - والتي سوف لن ترحم أعقابكم، ولن تتورع عن هتك القرآن والإسلام.

٨ - امتداد إنذار النبي ( صلّى الله عليه وآله )

تقول سيدة النساء فاطمة ( عليها السلام ) نفس ما كان يقوله الأنبياء للمجرمين، حيث تنذرهم:

١٤٢

( إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) (١) .

أنتم تنتظرون أن يقع بآل بيت النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ظلماً أكبر، ونحن ننتظر فيكم عقاب الله المؤلم والمُهلك.

____________________

١. سورة هود، آية ١٢١-١٢٢.

١٤٣

١٤٤

الخطبة الثانية لسيدة الإسلام فاطمة الزهراء ( عليها السلام )

١٤٥

١٤٦

الخطبة المؤلمة في نساء المدينة

ألقت سيدة النساء ( عليها السلام ) هذه الخطبة وهي على فراش المرض، ذلك المرض الذي لم تُشفَ منه أبداً، ومنه عرجت روحها الطاهرة.

كانت خطبتها الأُولى في مسجد الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، وهي في حالة صحيّة جيدة(١) ، وبحضور جمع من رجال المهاجرين والأنصار، وكانت هذه الخطبة في مقابل نساء المهاجرين والأنصار في داخل بيتها، وعلى فراش المرض.

رغم أنّ المخاطَب قد اختلف، والزمان والمكان قد تغيّرا، والحال قد تردّى، إلاّ أنّ لحن الخطبتين ينمّ وبوضوح عن روحية عالية مملوءة بالعلم والمعرفة، مفعمةٍ بالإيمان وحب الله، يفيض من جنبَيها ألمٌ وحزن، وقد تميّزت كلا الخطبتين بلحن بليغ وساحق وأخّاذ وقاطع وشجاع، لكن لحن الخطبة الثانية التي هي موضوع بحثنا حالياً، كانت أشد تنكيلاً بالظالمين، وأكثر حرقةً وألماً وغماً.

لقد كانت هذه الخطبة التي صدرت من قلب بنت الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) المتألم بمثابة رسالة الهموم والأحزان.

____________________

١. كما ورد شرحه في الخطبة الأُولى، فإنّ ستاراً قد أُسدل ليحجب النساء، ثمّ إنّها كانت تتوسّط جمع النساء اللاتي رافقنها.

١٤٧

الهم الذي نغّص روحها، ونخر عظامها، وأشعل نيران الحرقة في كيانها، ولذلك نرى أنّ خطبتها اتخذت طابعاً ملتهباً دموياً؛ لأنّها نبعت من قلب محترق، فاض بدم الأسى والحسرة.

من عجائب هذه الخطبة، هي أنّ هذه السيدة الجليلة ( عليها السلام ) قد لاقت الكثير من الظلم العنيف، في الفترة الواقعة ما بين وفاة أبيها ( صلّى الله عليه وآله )، واستشهادها ( عليها السلام )، ذلك الظلم الذي كان سبب مرضها العصيب، ورغم أنّ سؤال نساء المدينة عند عيادتها كان يدور حول حالتها الصحية، وعادةً يشكو المريض بعضاً من آلامه إن لم يكن حديثه كله مختصاً بحالته الصحية، رغم ذلك فإنّها لم تورد في حديثها أي كلمة عن حالها ومرضها، بل كان حديثها مُنصبّاً على مسألة غصب الخلافة وظلامة علي ( عليه السلام )، والأخطار التي ستمر بالأمّة الإسلامية نتيجة هذا الانحراف.

عجباً لها، فلم تذكر في حديثها شيئاً عن مرضها، فكل ما قالته كان عن ألم زوجها علي ( عليه السلام )، وعن مشاكل العالم الإسلامي.

نعم... لقد كانت روح الزهراء ( عليها السلام ) أرفع من أن تتكلم عن نفسها وآلامها - رغم أنّها كانت كبيرةً - بل وأجلّ من أن يوصف علو شأنها، فتكلمت فقط عن إمامها وزوجها المحبوب علي ( عليه السلام ) وآلامه.

لم تكن قَلِقةً على نفسها، بل كانت قلقةً على الأمّة الإسلامية ومصيرها المشؤوم والمؤلم.

يفكّر المرء عادةً في آخر لحظات حياته بنفسه ومشاكله وآلامه، لكنّ المدهش أنّ فاطمة ( عليها السلام ) لم تورد على لسانها في هذه الخطبة الطويلة شيئاً من ذلك، ولا حتى بجملة واحدة.

وهذا أكبر دليل على عظمة فاطمة ( عليها السلام )، ومقام تضحيتها وإيثارها.

١٤٨

وفي هذا عِبرة لكل الأحرار الهادفين، ولكل المضحّين والفدائيين في تاريخ البشرية.

بلى فقد كانت دائماً - وإلى آخر لحظة من حياتها الشريفة المملوءة بالآلام والهموم - شمعةً تحترق؛ لتنير لمَن حولها، وتنجّي الضالين منهم، وتدافع عن الحق والعدالة.

تحدّثت في خطبة فدك ( الخطبة الأُولى لسيدة النساء ) عن كلٍّ من التوحيد، النشوء، المعاد، فلسفة الأحكام، والأحداث التي رافقت بعثة النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وبركات وجوده، ومسألة غصب الخلافة، ومصير المسلمين، وإن هي تحدثت عن ( فدك ) فذلك؛ لدورها المؤثّر في كونها دعامةً ماليةً لمسألة الخلافة، وكذا سائر مسائل الإسلام السياسية؛ وهذا ما دعا الأعداء إلى تضييق الخناق على آل بيت النبي ( صلّى الله عليه وآله )، وتحطيم قدراتهم بانتزاع ( فدك ) من أيديهم، فأرادت استرجاعها منهم.

لكنَّ سيدة النساء ( عليها السلام ) ركّزت في خطبتها الثانية ( خطبة نساء المهاجرين والأنصار ) حديثها على محور الخلافة والإمامة فقط، وبالرغم من معاناتها للكثير من الظلم والجور، ورغم أنّ الفرصة كانت سانحةً للمطالبة بحقها المغصوب، إلاّ أنّها لم تطالب بأي شيء، بل ولم تنطق بأية شكوى، فكل ما قالته كان عن عليٍّ ( عليه السلام )، وعن الخلافة وعن مصالح المسلمين.

يُعدُّ ( التسليم المطلق ) من المقامات العالية، التي يتحلّى بها أولياء الله، وهذا يعني أن يُسلك إلى الله طريق الحق والعدل، الذي ينسى المرء فيه نفسه، فلا يرى غير الله.

لا يأتمر إلاّ بأمره.

١٤٩

لا يرجو إلاّ رضاه.

لا يفكر إلاّ بما يريده.

فالمرحلة الأُولى هي الإسلام، ثمّ الإيمان، وبعد ذلك الرضا، ومن ثَمَّ يأتي دور التسليم المطلق، ولهذا المعنى يشير الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الحكيم:

( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (١) .

ويقول أيضاً:

( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٢) .

ثمّ يقول:

( إنَّما نُطْعِمُكُم لِوَجْهِ اللّه لا نُرِيدُ مِنْكُم جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) (٣) .

إنّ مقام الإيمان والرضا والتسليم - الذي تتحلّى به هذه السيدة - جعلها تتناسى وتتجاهل آلامها وهمومها المرهقة، وتتحدث عن رضا الله، وعن رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) وعن وليّه، وعن مستقبل الإسلام والمسلمين.

ويسرّنا بعد هذه المقدمة القصيرة عن الخطبة وفحواها، أن نتّجه صوب نصها، فنجعلها في خمسة أقسام، لكنّه ينبغي أن نتعرّف أَوّلاً على وثائق وأسناد هذه الخطبة.

____________________

١. سورة الحجرات، آية ١٤.

٢. سورة النساء، آية ٦٥.

٣. سورة الدهر، آية ٩.

١٥٠

مناقشة أسناد خطبة سيدة النساء ( عليها السلام )

وردت هذه الخطبة في مختلف مصادر العامة والخاصة، سنذكر منها المصادر السبع التالية:

١- كتاب ( الاحتجاج ) للمرحوم ( الشيخ الطبرسي )(١) .

٢- كتاب ( كشف الغمة ) المشهور للكتاب ( علي بن عيسى الأربلي ) نقلاً عن كتاب ( الصحيفة )(٢) .

٣- ( بحار الأنوار ) للمرحوم ( العلاّمة المجلسي ) ينقل هذه الخطبة وبأسناد متعددة(٣) .

٤- كتاب ( معاني الأخبار ) للمرحوم ( الشيخ الصّدوق ) يورد هذه الخطبة مع ذكر سندها في آخرها، نقلاً عن عبد الله بن حسن عن أُمّه فاطمة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام )(٤) .

٥- وذُكرت في نفس المصدر بسندها عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام )(٥) .

٦- كتاب ( الأمالي ) للمرحوم ( الشيخ الطّوسي ).

٧- كتاب ( شرح نهج البلاغة ) للعالم السُنّي المعروف ( ابن أبي الحديد )(٦) .

____________________

١. الاحتجاج.

٢. كشف الغمة، ج٢، ص١١٨.

٣. بحار الأنوار، ج٤٣، ص١٥٨.

٤. عن أحمد بن الحسن القطّان، عن عبد الرحمن محمد الحسيني، عن أبي الطيّب محمد بن الحسين بن حميد، عن أبي عبد الله محمّد بن زكريا، عن محمّد بن الرحمن المهلّبي، عن عبد الله بن محمّد بن سليمان، عن أبيه عن عبد الله بن الحسن.

٥. علي بن محمّد المعروف بابن المغيرة القزويني، عن جعفر بن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن علي الهاشمي، عن عيسى بن عبد الله بن محمّد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن جدّه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).

٦. أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن محمّد بن زكريا عن محمّد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن محمّد بن سليمان، عن أبيه عن عبد الله بن الحسن، عن أُمّه فاطمة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام ).

١٥١

على أي حال وكما ذكرنا سابقاً، فقد وردت هذه الخطبة بأسناد متعددة مع ملاحظة اختلاف في نصوصها، وقد اخترنا أقربها للصحة وأكملها، وهو المنقول في ( الاحتجاج ) عن ( سويد بن غفلة )، ( نقل ذلك أيضاً العلاّمة الكبير المجلسي في المجلّد ٤٣ من بحار الأنوار ص ١٦١ )(١) .

وعليه، فإنّ الخطبة المذكورة هي من الخطب التي وردت من مصادر متعددة وبأسناد معتبرة؛ لذا فهي تتمتع بأهمية خاصة.

ولكي نتعرّف على الحقائق التي تضمنتها هذه الخطبة، نتجه صوب متن الخطبة وتفسيرها.

____________________

١. ( سويد بن غفلة ) أو ( عفلة ) على حد قول ( العلاّمة الحلّي ) في ( الخلاصة )، وهو من أولياء أمير المؤمنين علي ( عليه السلام )، واعتبره ( العلاّمة الميرداماد ) ( نقلاً عن المرحوم للمامقاني ) من أولياء وخواص أمير المؤمنين ( عليه السلام )، كما قال ( الذّبي ) في ( المختصر ) عنه بأنّه رجل ثقة، عابد، زاهد، وصاحب مقام رفيع.

١٥٢

القسم الأَوّل

لمّا اعتلت فاطمة ( عليها السلام ) علة الموت، اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار، يعدنها، فقلنَ لها:

كيف أصبحتِ من علَّتك يا بنة رسول الله؟!

فحمدتْ الله وصَلّت على أبيها ( عليها السلام ) ثمّ قالت:

( أَصحبتُ واللهِ عائفةً لدنياكنَّ، قاليةً لرجالكنَّ، لَفظتُهم بعد أن عجمتهم، وشَنأتهم بعد أن سَبَرتهم.

فقِبحاً لفلول الحدِّ، واللعب بعد الجدّ، وقرع الصفاة، وصدع القناة، وخَطَل الآراء، وزَلَل الأهواء، و ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) (١)

لا جرم لقد قلَّدتهم رِبقتها، وحملتهم أوقتها، وشننت عليهم عارها.

فجدعاً وعقراً وبُعداً للقوم الظالمين ) .

نظرة عامة:

يعترض الإنسان في طول حياته أياماً وساعات حسّاسةً تكون بمثابة امتحان له، وبالطبع فإنّ الامتحان الإلهي يُربّي في المرء روحه، ويزيد

____________________

١. سورة المائدة، آية٨٠.

١٥٣

فيه المقاومة والشهامة، كما يتم من خلاله كشف قابلياته وتفتّح استعدادته، وأيضاً معرفة المرء حقيقة باطنه.

علماً أنّ المرء قد يشتبه أحياناً في معرفة نفسه، لا كما هو الحال في الامتحان البشري الذي يُقام؛ لكشف عدد من المجاهيل، والتعرّف على بواطن الأفراد من خلال التجربة والتحليل.

وهذه المسألة قد وضحت في هذا القسم من خطبة سيدة الإسلام ( عليها السلام ).

تُظهر الزهراء ( عليها السلام ) نفرتها وانزعاجها الشديدين ممّن ينتهز الفرصة؛ ليسترزق منها مؤنة يومه، أي من المهاجرين والأنصار؛ لأنّهم سكتوا - ليس سكوتهم فحسب - بل على موافقتهم للانحرافات التي حدثت بعد وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله )، فأنذرتهم بأن يحذروا هذا الامتحان الإلهي العظيم.

تذكّرهم بجهادهم الرائع في عصر الرسول ( صلّى الله عليه وآله )، ومن ثمَّ تشبّههم بالسيوف المثلومة، التي فقدت قدرتها في صدِّ الأعداء ودحرهم، وبالرماح التي تهشّمت فأصبحت غير مفيدة لأي شيء.

توبّخ ابنة النبي الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) بشدة أولئك الذين سخروا من مبادئ الإسلام، وجعلوها عرضةً لأهوائهم، ومن ثمَّ وجهت لومها وتحقيرها إلى مَن وَهنَ عزمهم، وفقدوا قدراتهم في اتخاذ قرار ضد الانحرافات التي حدثت.

في نهاية هذا القسم تقوم بإنذارهم، بأنّ مسؤولية غصب الخلافة ستُثقل كاهلهم إلى الأبد، وستبقى جباههم موسومة بوصمة العار التي جاءت نتيجةً لسكوتهم، كما أنّ التاريخ الإسلامي سيسجّل هذه الحادثة المؤلمة بمنتهى الأسف.

نعم، فالكثير منهم لم يخرجوا من الامتحان منتصرين، ولم تكن

١٥٤

وجوههم مستبشرة، وكم كان حسناً لو تبيّنت ( حقائق الأمور ) للعيان، حتى تسودَّ وجوه ( الغشاشين )، وكم كان لطيفاً لو أُقيمت مناقل النار؛ ليفضح ( مدلوك الذهب، وسوار الفضة ) باطنه، ويتبيّن للناس حقيقته؛ ليُميزوه عن الذهب الخالص.

١٥٥

القسم الثاني

( وَيحهُم، أنّى زعزعوها عن رواسي الرسالةِ، وقواعد النبوةِ والدلالةِ، ومهبط الروح الأمين، والطبِّين بأمور الدنيا والدين.

( أَلاَّ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (١)

وما الذي نَقموا من أبي الحسن ( عليه السلام )؟

نَقموا منه واللهِ، نكيرَ سيفهِ، وقلةَ مبالاته بحتفهِ، وشدةَ وطأتهِ، ونَكال وقعتهِ، وتنمُّرَه في ذات الله.

وتاللهِ، لو مالوا عن المحجّة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة، لَردَّهم إليها، وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سَجَحاً، لا يُكْلم خشاشه، ولا يكلّ سائره، ولا يملّ راكبه.

ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً، تطفح ضفَّتاه، ولا يَترنّق جانباه، ولأصدرهم بِطاناً، ونصح لهم سراً وإعلاناً.

ولم يكن يتحلّى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غيرَ ري الناهل وشِبعة الكافل، وَلَبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب ).

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنَ السَّماءِ

____________________

١. سورة الزمر، آية ١٥.

١٥٦

وَالأرضِ وَلكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١) .

( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ) (٢) .

التفسير:

المعايير والقيم الإلهية

تحكم المجتمع الإلهي السليم معايير، وقيم إلهيّة في جميع مجالات الحياة، سيما في إشغال المناصب، فلا سبيل للأجنحة ومنتهزي الفرص، والدسائس السياسية، والعصبية القبلية والقومية، وكذا ما يعقده تجّار السوق السياسي من اتفاقات خلف الكواليس في ارتقاء المناصب والتصدّي لمسؤوليتها.

تخاطب سيدة النساء ( عليها السلام ) في هذا القسم نساء المدينة مستفهمةً: لماذا؟ وبأيّ مسوّغ غيّر رجالكنَّ محور الخلافة عن المسير الذي طالما بيّنه الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) في أحاديثه الصريحة الواضحة؟ وما هو نقص أبي الحسن علي بن أبي طالب ( عليه السلام )؟ وهل يفتقد شيئاً من الكمالات اللازمة، روحيةً كانت أم جسديةً؟

بلى، إنّ عيبه هو سيفه الغالب الذي خطف النوم من عيون أعدائه، قدرته اللامتناهية في ميادين القتال، استخفافه بالموت في سوح الوغى، جعلت منه حصناً منيعاً عجز أعداء الإسلام في اختراقه.

فالعذر التافه الذي أُوخذ عليه هو أنّ توجهه لله فقط، فرضاه من رضا الله، كما أنّ غضبه وسخطه لوجه الله فقط.

____________________

١. سورة الأعراف، آية٩٦.

٢. سورة الزمر، آية٥١.

١٥٧

الحقيقة أنّ كلام سيدة النساء ( عليها السلام ) كان بمثابة تذكيرٌ لهم، بأنّ قيم ومفاهيم المحيط الإسلامي قد تغيّرت وتبدلت بعد وفاة النبي الكريم ( صلّى الله عليه وآله )، وبسبب انحراف المزاج السليم لأرواح هذه المجموعة من المهاجرين والأنصار، صار طعم القيم الإسلامية الحقيقية في أعماقهم مرّاً كالحنظل بعد أن كان لذيذاً كالعسل، كما اعتُبرت الشروط التي تشكّل أهم مواصفات القائد الربّاني القاطع الصارم عيباً ونقصاً له.

بعدها تستمر في حديثها منبّهةً إيّاهم، أنّ تنحية عليٍّ ( عليه السلام ) عن الخلافة إنّما هو كفران لنعمة كبيرة، وموهبة إلهية عظيمة، علماً أنّه أعلمُ الناس بآيات القرآن وبحلال الله وحرامه.

فهو أعرف من غيره بالحق والباطل والقادر على الفصل بينهما، ولو آلت إليه زمام الأمور لم يكن ليسمح لورثة الشرك - آل أبي سفيان، وهم أعدى أعداء الإسلام، وأشد المخالفين للقرآن الكريم - أن يطمعوا في الحكومة الإسلامية بهذه السرعة، ويحوّلوها إلى جهاز حكوميٍّ مستبد، وهو أسوأ وأظلم من حكومة كسرى وقيصر والفراعنة.

فإذا كانت أمورهم مودعةً في يد عليٍّ ( عليه السلام ) المقتدرة، لأجلسهم مركب الحق المنيع، ولهداهم بأمان وهدوء ومداراة إلى نبع ماء الحياة، ومن ثمَّ لرواهم من ذلك النبع المتدفّق ماءً عذباً زلالاً، يمنح شاربيه حياةً أزليّة.

إنّ من شروط القائد الربّاني هو حب الخير والعطف على الأمّة، فهل وجدوا أحداً أكثر عطفاً وشفقةً من عليٍّ ( عليه السلام )؟ الشخص الذي كرّس جهده في إشباع الجياع وإرواء العطاشى، يتألم لآلامهم وهمومهم، كما أنّ غمهم يعصر قلبه.

الشرط الآخر في مسألة الخلافة والإمامة، هو الزهد وعدم الاغترار بالدنيا وجاهها ومالها، فإن تعلّق قلب قائد الأمّة بالدنيا صار من السهل

١٥٨

النفوذ إليه من هذا الطريق، ومن ثمَّ تضليله وحرفه عن جادّة الحق.

فهل يوجد في كل الأمّة الإسلامية أزهد بالدنيا من علي ( عليه السلام )؟ الشخص الذي لم يكتنز ذهباً أبداً، ولم يُشيّد لنفسه قصراً، ثيابه بسيطة كثياب غلامه.

وغذاؤه بمستوى غذاء أفقر الناس.

إذا كانت معايير الخلافة هي القدرة الروحية والبدنية، الإخلاص في النية، والزهد والعصمة والتقوى، والعطف على الأمّة، فمَن هو أفضل من أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) الذي يتحلّى بهذه المواصفات؟

وإذا كان النبي ( صلّى الله عليه وآله ) قد نصّب علياً ( عليه السلام ) خليفةً له، مشيراً إلى هذا المعنى مرّات ومرّات عبر عبارات مختلفة الصّيغ، معتبراً إيّاه أليق من الجميع لهذا المقام فهذا لا يقتصر عليه نابل، الله سبحانه وتعالى اعتبره أليق الناس بهذا المنصب.

تقوم سيدة النساء ( عليها السلام ) في نهاية هذا القسم بإنذارهم وتحذيرهم، بأن لا يظّنوا أنّ ثمن هذا الكسل والتقصير، وتقاعسهم في حماية الشخص الأنسب للخلافة سيكون رخيصاً، بل عليهم أن ينتظروا ما سيُخلّفه ذلك التقصير، وذلك التقاعس، ويتذوّقوا نتيجته المرّة، عليهم أن لا يتصوّروا أنّهم يستطيعون النجاة والفرار من قبضة العذاب الإلهي في هذه الدنيا، كلا، أبداً.

بلى، سيحصدون في نهاية الأمر ما زرعوا، وسيُبتلَون بحكومات عنيدة وجبّارة، وفاسدة ومفسدة وظالمة، تفتقد الرحمة، كحكومات بني أميّة وبني العباس، في ذلك اليوم الذي سوف لن يجدوا فيه سبيلاً للفرار، وهم يشعرون بمواجهتهم لعذاب الآخرة.

١٥٩

القسم الثالث

( أَلا هلمَّ فاستمع، وما عشتَ أراك الدهرُ عجباً، وإن تعجب فعجبٌ قولُهم:

ليتَ شعري؟ إلى أي سنادٍ استندوا؟ وعلى أي عمادٍ اعتمدوا؟ وبأيّة عروةٍ تمسّكوا؟ وعلى أية ذريّة أقدموا واحتنكوا؟!

( لَبِئْسَ المَوْلى ولَبِئْسَ العشير ) (١) .

( وبِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) (٢) .

استبدلوا والله الذُّنابى بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) (٣)

وَيحهم، ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٤)

التفسير:

ترجيح ( المرجوح ) على ( الراجح )

لا يستطيع أيُّ امرئ أن يقبل ترجيح ( المرجوح ) على ( الراجح ) إلاّ مَن يُنكر ( الاستقلال العقلي ). أو بتعبير أوضح فأنّ أي إنسان لا يتردد

____________________

١. سورة الحج، آية ١٣.

٢. سورة الكهف، آية ٥٠.

٣. سورة البقرة، آية ١٢.

٤. سورة يونس، آية ٣٥.

١٦٠

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأمم السابقة ممّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية ، إلّا أنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) . سنشير في نهاية هذا البحث إلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين :( فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ) .

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق ، بل أكثر من ذلك اتّهم موسى( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) .

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين ، فالبعض قالوا : إنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أخرى ، تقول بأنّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر ، ومثل هذا الاستخدام وارد وله نظائر في اللغة العربية ، حيث يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل ، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و (ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر من المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثّر فيه الساحر ، كما يستفاد من الآية (39) من سورة الذاريات التي نسبت السحر إليه ، والجنون أيضا ،( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) .

على أي حال ، فإنّ التعبير القرآني يكشف عن الأسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضدّ الفساد والظلم ، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثروا من هذا الطريق في قلوب الناس

١٦١

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسىعليه‌السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له ، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق ، إذ قال له :( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ) .

لذا فإنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنّك تتنكر للحقائق ، برغم علمك بأنّها من الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعند ما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره ، لذا :( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) .

(مثبور) من (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية ، فإنّه سلك طريقا يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار ، وذاك قوله تعالى:( فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ) .

«يستفز» من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم :( وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) . فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف» من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص ، ولا من أي قبيلة هم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود من الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسىعليه‌السلام منها ما يلي :

1 ـ تحوّل العصا إلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين ، كما في الآية

١٦٢

(20) من سورة طه :( فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) .

2 ـ اليد البيضاء لموسىعليه‌السلام والتي تشع نورا :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (1) .

3 ـ الطوفان :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) (2) .

4 ـ الجراد الذي أباد زراعتهم وأشجارهم( وَالْجَرادَ ) (3) .

5 ـ والقمل الذي هو نوع من الأمراض والآفات التي تصيب النبات : و( الْقُمَّلَ ) (4) .

6 ـ (الضفادع) التي جاءت من النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم:( وَالضَّفادِعَ ) (5) .

7 ـ الدم ، أو الابتلاء العام بالرعاف ، أو تبدّل نهر النيل إلى لون الدم ، بحيث أصبح ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة :( وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ) (6) .

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إسرائيل العبور منه :( وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ) (7) .

9 ـ نزول ال (منّ) و (السلوى) من السماء ، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) من سورة البقرة( وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) (8) .

10 ـ انفجار العيون من الأحجار :( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (9) .

11 ـ انفصال جزء من الجبل ليظلّلهم :( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ

__________________

(1) طه ، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و (6) ـ الأعراف ، 133.

(7) البقرة ، 50.

(8) البقرة ، 57.

(9) البقرة ، 60.

١٦٣

ظُلَّةٌ ) (1) .

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) (2) .

13 ـ عودة الحياة إلى المقتول والذي أصبح قتله سببا للاختلاف بين بني إسرائيل:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) (3) .

14 ـ الاستفادة من ظل الغمام في الاحتماء من حرارة الصحراء بشكل إعجازي :( وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ) (4) .

ولكن الكلام هنا هو : ما هو المقصود من (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر من خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه ، وليست تلك المتعلقة ببني إسرائيل من قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون من الصخور وأمثال ذلك.

لذا يمكن القول أنّ الآية (133) من سورة الأعراف تتعرض إلى خمسة مواضيع من الآيات التسع وهي : (الطوفان ، القمّل ، الجراد ، الضفادع ، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع ، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) من سورة النمل بعد ذكر هاتين المعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعا ، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع ،

__________________

(1) الأعراف ، 171.

(2) الأعراف ، 130.

(3) البقرة ، 73.

(4) البقرة ، 57.

١٦٤

لأنّ الهدف من الآيات أن تكون دافعا لهدايتهم وسببا لقبولهم بنبوة موسىعليه‌السلام ، لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عند التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاء فيها ذكر العديد من هذه الآيات يظهر أنّ الآيتين الأخريتين هما : (الجفاف) و (نقص الثمرات) حيث أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد ، والقمل ...) قوله تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ الجفاف لا يمكن فصله عن نقص الثمرات وبذا تعتبر الآيتان آية واحدة ، إلّا أنّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قلنا في تفسير الآية (130) من سورة الأعراف ـ لا يؤثّر تأثيرا كبيرا في الأشجار ، أمّا عند ما يكون جفافا طويلا فإنّه سيؤدي إلى إبادة الأشجار ، لذا فإنّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائما إلى نقص الثمرات.

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنّ الآيات التسع التي وردت الإشارة إليها في الآيات التي نبحثها هي:العصا، اليد البيضاء ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، الجفاف ، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يؤمنوا ، لذلك انتقمنا منهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1) .

هناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية ، ولاختلافها فيما بينها لا يمكن الاعتماد عليها في إصدار الحكم.

__________________

(1) الأعراف ، 136.

١٦٥

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أمر بسؤال بني إسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى ، وكيف أنّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسىعليه‌السلام بمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنّ لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم والعقل بحيث أنّه لا يحتاج إلى السؤال ، لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ سؤال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكن لنفسه ، بل للمشركين ، لذلك فما المانع من أن يكون شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عند ما لم يوافق على اقتراحاتهم ، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصّب والعناد ، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد ب (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله أمر بني إسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض ، فهل الغرض من الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنّ فرعون أراد أن يخرجهم من تلك الأرض.

وبنفس المعنى أشارت آيات أخرى إلى أنّ بني إسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إشارة إلى الأرض المقدّسة فلسطين ، لأنّ بني إسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإنّنا لا نستبعد أيّا من الاحتمالين ، لأنّ بني إسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه ، وامتلكوا أرض فلسطين أيضا.

١٦٦

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهرا إنّ الإجابة بالإيجاب ، حيث أنّ جملة( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) قرينة على هذا الموضوع ، ومؤيّدة لهذا الرأي. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ (وعد الآخرة) إشارة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذه السورة ، من أنّ الله تبارك وتعالى قد توعّد بني إسرائيل بالنصر والهزيمة مرّتين ، وقد سمى الأولى بـ «وعد الأولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة» ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى :( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) (فدقق في ذلك).

* * *

١٦٧

الآيات

( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) )

التّفسير

عشاق الحق

مرّة أخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) ، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) .

ثمّ تقول :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

١٦٨

لقد ذكر المفسّرون آراء مختلفة في الفرق بين الجملة الأولى :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) والجملة الثّانية :( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) منها :

1 ـ المراد من الجملة الأولى : إنّنا قدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق ، لذا فإنّ التعبير الأوّل يشير إلى التقدير ، بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق(1) .

2 ـ الجملة الأولى تشير إلى أنّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق ، أمّا التعبير الثّاني فانّه يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضا(2) .

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنّ الجملة الأولى تقول : إنّنا نزّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول : إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتدخل في الحق ولم يتصرف به ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح من هذه التّفاسير ، وهو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما ، ولكنّه لا يستطيع إتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه ، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ، فإنّه يبدأ بداية صحيحة ، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماء صافيا من أحد العيون ، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعه من التلوث ، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث. إلّا أنّ الشخص القادر والمحيط بالأمور ، يحافظ على بقاء الماء صافيا وبعيدا عن عوامل التلوث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق ، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ، أو المرحلة التي كان

__________________

(1) يراجع تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3955.

(2) في ظلال القرآن ، أننا تفسير الآية.

١٦٩

الرّسول فيها هو المتلقي ، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم ، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولماذا كان نزوله تدريجيا؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) فيقول الله في جواب هؤلاء:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ) (1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عمليا بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:( وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) .

إنّ القرآن كتاب السماء إلى الأرض ، وهو أساس الإسلام ودليل لجميع البشر ، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين ، لذلك فإنّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دفعة واحدة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاب عليها من خلال النقاط الآتية :

أوّلا : بالرغم من أنّ القرآن هو كتاب ، إلّا أنّه ليس ككتب الإنسان المؤلّفة حيث يجلس المؤلّف ويفكّر ويكتب موضوعا ، ثمّ ينظّم فصول الكتاب وأبوابه لينتهي من تحرير الكتاب ، بل القرآن له ارتباط دقيق بعصره ، أي ارتباط ب (23) سنة ، هي عصر نبوة نبي الإسلام بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

__________________

(1) مجيء كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يفسّره المفسّرين بأنّه مفعول لفعل مقدّر تقديره (فرقناه) ، وبذلك تصبح الجملة هكذا : (وفرقناه قرآنا).

١٧٠

لذا كيف يمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامنا لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد ، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إنّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإسلامية ، وآيات تختص بالمنافقين ، وأخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهل يمكن أن يكتب مجموع كل ذلك منذ اليوم الأوّل؟

ثانيا : ليس القرآن كتابا ذا طابع تعليمي وحسب ، بل ينبغي لكل آية فيه أن تنفّذ بعد نزولها ، فإذا كان القرآن قد نزل مرّة واحدة ، فينبغي أن يتمّ العمل به مرّة واحدة أيضا ، ونعلم بأنّ هذا محال ، لأنّ إصلاح مجتمع مليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد ، إذ لا يمكن إرسال الطفل الأمي دفعة واحدة من الصف الأوّل إلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوما ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتمثله عمليا.

ثالثا : بدون شك ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإمكانيات أكبر عند ما يقوم بتطبيق القرآن جزءا جزءا ، بدلا من تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنّه مرسل من الخالق وذو عقل واستعداد كبيرين ليس لهما مثيل ، إلّا أنّه برغم ذلك فإنّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعا : النّزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مصدر الوحي ، إلّا أنّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الارتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

آخر الآية (32) من سورة الفرقان تقول :( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

١٧١

تَرْتِيلاً ) وهي إشارة إلى السبب الثّالث ، بينما الآية التي نبحثها تشير إلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنّ مجموع هذه العوامل تكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول :( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) .

* * *

ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الالتفات إلى الملاحظات الآتية :

أوّلا : يعتقد المفسّرون أنّ جملة( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجه متعدّدة ، إذ قال بعضهم : إن المعنى هو : سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإعجاز القرآن ونسبته إلى الخالق.

بينما قال البعض : إنّ التقدير يكون : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإنّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مكمّلة لها ، وهي كناية عن أنّ عدم الإيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة ، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أخرى : يكون المعنى : إذا لم تؤمنوا به فإنّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون به.

ثانيا : إنّ المقصود من( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن ، وشاهدوا العلائم التي قرءوها في التوراة والإنجيل ، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين ، وأصبحوا من علماء الإسلام.

وفي آيات أخرى من القرآن تمت الإشارة إلى هذا الموضوع ، كما في قوله

١٧٢

تعالى في الآية (113) من سورة آل عمران :( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) .

ثالثا : «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم ، واستخدام هذه الكلمة بدلا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة ، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عند ما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالقعزوجل ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار(1) .

رابعا : (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض ، إلّا أن تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنّ الإنسان عند سجوده يضع أوّلا جبهته على الأرض ، ولكن الشخص المدهوش عند ما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا ، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيدا لمعنى (يخرون)(2) .

الاية التي بعدها توضح قولهم عند ما يسجدون :( وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (3) . هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإيمان بنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم ، وعلى سجدة الحب التي

__________________

(1) يقول الراغب في (المفردات) : «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علّو. وقوله تعالى :( خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد:( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) .

(2) تفسير المعاني ، ج 15 ، ص 175.

(3) (إنّ) في قوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا ) غير شرطية ، بل هي تأكيدية ، وهي مخففة من الثقيلة.

١٧٣